مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأول الآخر، الباطن الظاهر، الذي هو بكل شيء عليم، الأول فليس قبله شيء، الآخر فليس بعده شيء، الظاهر فليس فوقه شيء، الباطن فليس دونه شيء، الأزلي القديم الذي لم يزل موجودًا بصفات الكمال، ولا يزال دائمًا مستمرًا باقيًا سرمديًا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال. يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وعدد الرمال. وهو العلي الكبير المتعال، العلي العظيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
ورفع السماوات بغير عمد، وزينها بالكواكب الزاهرات، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا وسوَّى فوقهن سريرًا، شرجعًا عاليًا منيفًا متسعًا مقبيًا مستديرًا - وهو العرش العظيم - له قوائم عظام، تحمله الملائكة الكرام، وتحفُّه الكروبيون عليهم الصلاة والسلام، ولهم زجل بالتقديس والتعظيم.
وكذا أرجاء السماوات مشحونة بالملائكة، ويفد منهم في كل يوم سبعون ألفًا إلى البيت المعمور بالسماء الرابعة لا يعودون إليه، آخر ما عليهم في تهليل وتحميد وتكبير وصلاة وتسليم.
ووضع الأرض للأنام على تيار الماء. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام قبل خلق السماء، وأثبت فيها من كل زوجين اثنين، دلالة للألباء من جميع ما يحتاج العباد إليه في شتائهم وصيفهم، ولكل ما يحتاجون إليه ويملكونه من حيوان بهيم.
وبدأ خلق الإنسان من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، في قرار مكين. فجعله سميعًا بصيرًا، بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، وشرفه بالعلم والتعليم، خلق بيده الكريمة آدم أبا البشر، وصور جنته ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجه حواء أم البشر فأنس بها وحدته، وأسكنهما جنته، وأسبغ عليهما نعمته، ثم أهبطهما إلى الأرض لما سبق في ذلك من حكمة الحكيم. وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء، وقسَّمهم بقدرة العظيم ملوكًا ورعاة، وفقراء وأغنياء، وأحرارًا وعبيدًا، وحرائر وإماء.
وأسكنهم أرجاء الأرض، طولها والعرض، وجعلهم خلائف فيها يخلف البعض منهم البعض، إلى يوم الحساب والعرض على العليم الحكيم. وسخر لهم الأنهار من سائر الأقطار، تشق الأقاليم إلى الأمصار، ما بين صغار وكبار، على مقدار الحاجات والأوطار، وأنبع لهم العيون والآبار. وأرسل عليهم السحائب بالأمطار، فأنبت لهم سائر صنوف الزرع والثمار. وآتاهم من كل ما سألوه بلسان حالهم وقالهم { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34] فسبحان الكريم العظيم الحليم.
وكان من أعظم نعمه عليهم. وإحسانه إليهم، بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل وأنطقهم، أن أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم: مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه، وتفصيل كل شيء في المبدأ والمعاد إلى يوم القيامة.
فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم. ففاز بالنعيم المقيم، وزحزح عن مقام المكذبين في الجحيم ذات الزقوم والحميم، والعذاب الأليم.
أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، يملأ أرجاء السماوات والأرضين، دائمًا أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى يوم الدين، في كل ساعة وآن، ووقت وحين، كما ينبغي لجلاله العظيم، وسلطانه القديم ووجهه الكريم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد له ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا نظير ولا وزير له ولا مشير له، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المصطفى من خلاصة العرب العرباء من الصميم، خاتم الأنبياء، وصاحب الحوض الأكبر الرواء، صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة، وحامل اللواء الذي يبعثه الله المقام المحمود الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى الخليل إبراهيم ﷺ وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم وشرف وكرم أزكى صلاة وتسليم، وأعلى تشريف وتكريم.
ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام، السادة النجباء الأعلام، خلاصة العالم بعد الأنبياء. ما اختلط الظلام بالضياء، وأعلن الداعي بالنداء وما نسخ النهار ظلام الليل البهيم.
أما بعد فهذا الكتاب أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسره الله تعالى بحوله وقوته من ذكر مبدأ المخلوقات: من خلق العرش والكرسي والسماوات، والأرضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين، وكيفية خلق آدم عليه السلام، وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه. فنذكر سيرته كما ينبغي فتشفي الصدور والغليل، وتزيح الداء عن العليل.
ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا، ونذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة. ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم، وما يقع فيه من الأمور الهائلة. ثم صفة النار، ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان، وغير ذلك وما يتعلق به، وما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المعقولة عند العلماء وورثة الأنبياء، الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبيٍّنه. وبالله المستعان وعليه التكلان. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم العلي العظيم.
فقد قال الله تعالى في كتابه { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } [طه: 99] .
وقد قصَّ الله على نبيه ﷺ خبر ما مضى من خلق المخلوقات، وذكر الأممم الماضين، وكيف فعل بأوليائه، وماذا أحل بأعدائه. وبين ذلك رسول الله ﷺ لأمته بيانًا شافيًا، سنورد عند كل فصل ما وصل إلينا عنه، صلوات الله وسلامه عليه. من ذلك تلو الآيات الواردات في ذلك فأخبرنا بما نحتاج إليه من ذلك، وترك ما لا فائدة فيه مما قد يتزاحم على علمه ويتراجم في فهمه طوائف من علماء أهل الكتاب مما لا فائدة فيه لكثير من الناس إليه. وقد يستوعب نقله طائفة من علمائنا ولسنا نحذو حذوهم ولا ننحو نحوهم ولا نذكر منها إلا القليل على سبيل الاختصار ونبين ما فيه حق مما وافق ما عندنا وما خالفه فوقع فيه الإنكار.
فأما الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في (صحيحه) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
« بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار »، فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا. فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار. وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا. وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال.
فإذا كان الله، سبحانه وله الحمد، قد أغنانا برسولنا محمد، ﷺ، عن سائر الشرائع، وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير.
فالمحتاج إليه قد بيَّنه لنا رسولنا، وشرحه وأوضحه. عرفه من عرفه، وجهله من جهله. كما قال علي بن أبي طالب:
كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
وقال أبو ذر، رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله ﷺ وما طائر يطير بجناحيه إلا أذكرنا منه علمًا.
وقال البخاري في كتاب بدء الخلق: وروي عن عيسى بن موسى غنجار عن رقية عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر بن الخطاب يقول:
قام فينا رسول الله ﷺ مقامًا فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم. وأهل النار منازلهم. حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
قال أبو مسعود الدمشقي في أطرافه: هكذا قال البخاري، وإنما رواه عيسى غنجار عن أبي حمزة عن رقية.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في (مسنده): حدثنا أبو عاصم حدثنا عزرة بن ثابت، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري: حدثنا أبو زيد الأنصاري، قال:
« صلَّى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى الظهر. ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس فحدثنا بما كان، وما هو كائن فأعلَمُنا أحفظنا »
انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن من (صحيحه) عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وحجاج بن الشاعر، جميعًا عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن عزرة عن علباء عن أبي زيد عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ بنحوه.===========فصل:ما سوى الله مخلوق
قال الله تعالى في كتابه العزيز: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر: 62] فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له، مربوب مدبر، مكون بعد أن لم يكن محدث بعد عدمه.
فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جامد وناطق الجميع خلقه، وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد: 4] .
وقد أجمع العلماء قاطبة لا يشك في ذلك مسلم أن الله خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن الكريم. فاختلفوا في هذه الأيام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدون؟ على قولين كما بيَّنا ذلك في التفسير، وسنتعرض لإيراده في موضعه. واختلفوا هل كان قبل خلق السماوات والأرض شيء مخلوق قبلهما؟ فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه: لم يكن قبلهما شيء وأنهما خلقتا من العدم المحض.
وقال آخرون: بل كان قبل السماوات والأرض مخلوقات أخر لقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7] .
وفي حديث عمران بن حصين كما سيأتي: « كان الله ولم يكن قبله شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض »
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي، أنه قال:
يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟
قال: « كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء ».
رواه عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به. ولفظه: « أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ وباقيه سواء ».
وأخرجه الترمذي: عن أحمد بن منيع، وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون، وقال الترمذي حسن.
واختلف هؤلاء في أيها خلق أولًا ؟
فقال قائلون: خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما. قال ابن جرير: وبعد القلم السحاب الرقيق.
واحتجوا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
« إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » لفظ أحمد.
وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره: أن العرش مخلوق قبل ذلك.
وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في (صحيحه)، حيث قال: حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرج، حدثنا ابن وهب، أخبرني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعرشه على الماء ».
قالوا: فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير.
وقد دلَّ هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير. كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخاري: عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن لرسول الله ﷺ:
جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر.
فقال: « كان الله ولم يكن شيء قبله -وفي رواية معه وفي رواية غيره - وكان عرشه على الماء. وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض ».
وفي لفظ: « ثم خلق السموات والأرض ».
فسألوه عن ابتداء خلق السموات والأرض. ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فأجابهم عما سألوا فقط. ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش. رواه السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا:
إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء.
وحكى ابن جرير، عن محمد بن إسحاق، أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميَّز بينهما فجعل الظلمة ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا.
قال ابن جرير: وقد قيل: إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة، ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.============فصل: فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي
قال الله تعالى: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [غافر: 15] . وقال تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون: 116] .
وقال الله تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [النمل: 26] .
وقال: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [البروج: 14 -15] .
وقال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }. [طه: 5] .
وقال: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الرعد: 2] . في غير ما آية من القرآن.
وقال تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7] .
وقال تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة: 17] .
وقال تعالى: { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزمر: 75] .
وفي الدعاء المروي في الصحيح في دعاء الكرب: « لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثني سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن عباس بن عبد المطلب، قال: كنا جلوسا مع رسول الله ﷺ، بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال رسول الله ﷺ: « أتدرون ما هذا؟ »
قال: قلنا السحاب.
قال: « والمزن ».
قال: قلنا: والمزن.
قال: « والعنان ».
قال: فسكتنا.
فقال: « هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ »
قال قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « بينهما مسيرة خمسمائة سنة. ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة. وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة.
وفوق السماء السابعة بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء ».
هذا لفظ الإمام أحمد، ورواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، من حديث سماك بإسناده نحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك، ووقفه.
ولفظ أبي داود: « وهل تدرون بُعد ما بين السماء والأرض؟ ».
قالوا: لا ندري.
قال: « بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثة وسبعون سنة » والباقي نحوه.
وقال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، وأحمد بن سعيد الرباطي، قالوا: حدثنا وهب بن جرير.
قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه، قال حدثنا أبي، قال سمعت محمد بن إسحاق، يحدث عن يعقوب بن عقبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك.
قال رسول الله ﷺ: « ويحك أتدري ما تقول؟
وسبح رسول الله ﷺ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك.
ويحك أتدري ما الله؟! إن عرشه على سمواته لهكذا.
وقال: بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الزحل بالراكب ».
قال ابن بشار في حديثه: « إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته... » وساق الحديث
وقال عبد الأعلى: وابن المثنى، وابن بشار، عن يعقوب بن عقبة، وجبير بن محمد بن جبير، عن أبيه، عن جده.
قال أبو داود: والحديث بإسناد أحمد بن سعيد، وهو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ورواه جماعة منهم عن ابن إسحاق، كما قال أحمد أيضا.
وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار في نسخة واحدة فيما بلغني، تفرد بإخراجها أبو داود.
وقد صنف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي جزءا في الرد على هذا الحديث سماه: ببيان الوهم والتخليط، الواقع في حديث الأطيط..
واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن بشار، راويه، وذكر كلام الناس فيه، ولكن قد روي هذا اللفظ من طريق أخرى عن غير محمد بن إسحاق.
فرواه عبد بن حميد، وابن جرير، في (تفسيريهما)، وابن أبي عاصم، والطبراني، في كتابي (السنة) لهما، والبزار في (مسنده)، والحافظ الضياء المقدسي في (مختاراته)، من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:
أتت امرأة إلى رسول الله ﷺ، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة.
قال: (فعظَّم الربَّ تبارك وتعالى).
وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطًا، كأطيط الزحل الجديد من ثقله ».
عبد الله بن خليفة هذا: ليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه موقوفًا، ومرسلا، ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة، والله أعلم.
وثبت في (صحيح البخاري): عن رسول الله ﷺ، أنه قال:
« إذا سألتم الله الجنة، فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن ».
يروى (وفوقَه) بالفتح على الظرفية، وبالضم، قال: شيخنا الحافظ المزي، وهو أحسن، أي وأعلاها عرش الرحمن.
وقد جاء في بعض الآثار: أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش، وهو تسبيحه وتعظيمه وما ذاك إلا لقربهم منه.
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ، قال: « لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ».
وذكر الحافظ ابن الحافظ: محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في كتاب (صفة العرش) عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بُعد ما بين قطريه، مسيرة خمسين ألف سنة.
وذكرنا عند قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] أنه بعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة.
وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، ولذا سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس، والأثير.
وهذا ليس بجيد، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضًا فإنه فوق الجنة، والجنة فوق السموات، وفيها مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك.
وأيضًا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى: { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23] وليس هو فلكًا، ولا تفهم منه العرب ذلك. والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات.
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر: 7]
وقد تقدم في حديث الأوعال أنهم ثمانية، وفوق ظهورهن العرش، وقال تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة: 17] .
وقال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن محمد، هو أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عقبة، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أن رسول الله ﷺ صدَّق أمية يعني ابن أبي الصلت في بيتين من شعره فقال:
رجل وثور تحت رجل يمينه * و النسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله ﷺ: « صدق ».
فقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد
فقال رسول الله ﷺ: « صدق ».
فإنه حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات. وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فيعارضه حديث الأوعال. اللهم إلا أن يقال إن إثبات هؤلاء الأربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم. والله أعلم.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله:
مجِّدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا * س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعًا لا يناله بصر العيـ * ـن ترى حوله الملائك صورا
صور: جمع، أصور: وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع: هو العالي المنيف.
والسرير: هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام * ملائكة الإله مسومينا
ذكره ابن عبد البر، وغير واحد من الأئمة.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن النبي ﷺ قال:
« أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ».
ورواه ابن أبي عاصم، ولفظه محقق الطير مسيرة سبعمائة عام.============الكرسي
عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا في قوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } [البقرة: 255] أي علمه.
والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه الحاكم في (مستدركه). وقال إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه من طريق سفيان الثوري، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل.
وقد رواه شجاع بن مخلد الفلاس في (تفسيره): عن أبي عاصم النبيل، عن الثوري، فجعله مرفوعًا.
والصواب: أنه موقوف على ابن عباس.
وحكاه ابن جرير: عن أبي موسى الأشعري، والضحاك بن مزاحم، وإسماعيل ابن عبد الرحمن السدي الكبير، ومسلم البطين.
وقال السدي عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش.
وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم: من طريق الضحاك، عن ابن عباس أنه قال: لو أن السموات السبع، والأرضين السبع، بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله ﷺ:
« ما السموات السبع في الكرسي إلا كدارهم سبعة ألقيت في ترس ».
قال: وقال أبو ذر سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض ».
أول الحديث مرسل. وعن أبي ذر منقطع.
وقد روى عنه من طريق أخرى موصولًا.
فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في (تفسيره): أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني، أنبأنا عبد الله ابن وهيب المغربي، أنبأنا محمد بن أبي سري العسقلاني، أنبأنا محمد بن عبد الله التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله ﷺ عن الكرسي، فقال رسول الله ﷺ:
« والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ».
وقال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله عز وجل: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7] . على أي شيء كان الماء؟
قال: على متن الريح، قال: والسموات والأرضون وكل ما فيهن من شيء تحيط بها البحار ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل فيما قيل الكرسي.
وروى عن وهب ابن منبه نحوه.
وفسر وهب الهيكل فقال: شيء من أطراف السموات، يحدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط.
وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أن الكرسي عبارة عن الفلك الثامن الذي يسمونه فلك الكواكب الثوابت. وفيما زعموه نظر، لأنه قد ثبت أنه أعظم من السموات السبع بشيء كثير، ورد الحديث المتقدم بأن نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة، وهذا ليس نسبة فلك إلى فلك.
فإن قال قائلهم: فنحن نعترف بذلك، ونسميه مع ذلك فلكًا فنقول: الكرسي ليس في اللغة عبارة عن الفلك وإنما هو كما، قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه. ومثل هذا لا يكون فلكًا.
وزعم أن الكواكب الثوابت مرصعة فيه لا دليل لهم عليه. هذا مع اختلافهم في ذلك أيضًا كما هو مقرر في كتبهم، والله أعلم.===============اللوح المحفوظ
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا زياد بن عبد الله، عن ليث، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه عن ابن عباس أن نبي الله ﷺ قال:
« إن الله خلق لوحًا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، لله فيه في كل يوم ستون وثلثمائة لحظة، يخلق، ويرزق، ويميت، ويحيي، ويعز، ويذل، ويفعل ما يشاء ».
وقال إسحاق بن بشر: أخبرني مقاتل وابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله. فمن آمن بالله وصدق بوعده، واتبع رسله، أدخله الجنة.
قال: واللوح المحفوظ لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب. وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك.
وقال أنس بن مالك، وغيره من السلف: اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل.
وقال مقاتل: هو عن يمين العرش.=============ما ورد في خلق السموات والأرض وما بينهما
قال الله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1] .
وقال تعالى: { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7] في غير ما آية من القرآن.
وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الأيام lلى قولين:
فالجمهور: على أنها كأيامنا هذه.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وكعب الأحبار: إن كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهن ابن جرير، وابن أبي حاتم.
واختار هذا القول الإمام أحمد ابن حنبل في كتابه الذي رد فيه على الجهمية، وابن جرير وطائفة من المتأخرين، والله أعلم، وسيأتي ما يدل على هذا القول.
وروى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، وغيره أن أسماء الأيام الستة (أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت).
وحكى ابن جرير: في أول الأيام ثلاثة أقوال، فروى عن محمد بن إسحاق أنه قال:
يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد.
ويقول أهل الإنجيل: ابتدأ الله الخلق يوم الاثنين.
ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله ﷺ: ابتدأ الله الخلق يوم السبت.
وهذا القول الذي حكاه ابن إسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من الفقهاء من الشافعية، وغيرهم.
وسيأتي فيه حديث أبي هريرة « خلق الله التربة يوم السبت » والقول بأنه الأحد رواه ابن جرير، عن السدي، عن أبي مالك. وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن جماعة من الصحابة.
ورواه أيضًا عن عبد الله بن سلام، واختاره ابن جرير وهو نص التوراة.
ومال إليه طائفة آخرون من الفقهاء. وهو أشبه بلفظ الأحد ولهذا، كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع، وهو اليوم الذي أضل الله عنه أهل الكتاب قبلنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29]
وقال تعالى { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9 - 12] .
فهذا يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء لأنها كالأساس للبناء، كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [غافر: 64] .
قال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } إلى أن قال: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [النبأ: 6- 13] .
وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 30] أي: فصلنًا ما بين السماء والأرض حتى هبت الرياح، ونزلت الأمطار وجرت العيون والأنهار، وانتعش الحيوان.
ثم قال: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء: 32] .
أي عما خلق فيها من الكواكب الثوابت، والسيارات والنجوم الزاهرات والأجرام النيرات، وما في ذلك من الدلالات على حكمة خالق الأرض والسموات كما قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 105 - 106] .
فأما قوله تعالى: { ءأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 27-33] .
فقد تمسك بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الأرض. فخالفوا صريح الآيتين المتقدمتين، ولم يفهموا هذه الآية الكريمة فإن مقتضى هذه الآية أن دحى الأرض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء.
وقد كان ذلك مقدرًا فيها بالقوة كما قال تعالى: { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10] .
أي هيأ أماكن الزرع، ومواضع العيون والأنهار، ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي، دحى الأرض فأخرج منها ما كان مودعًا فيها فخرجت العيون وجرت الأنهار، ونبت الزرع والثمار، ولهذا فُسر الدحى بإخراج الماء والمرعى منها، وإرساء الجبال فقال: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات:30-31] .
وقوله: { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات: 32] .
أي قررها في أماكنها التي وضعها فيها، وثبتها، وأكدها، وأطدها، وقوله: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذرايات: 47- 49] .
بأيدٍ: أي بقوة.
وأنا لموسعون: وذلك أن كل ما علا اتسع فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها.
ولهذا كان الكرسي أعلى من السموات. وهو أوسع منهن كلهن. والعرش أعظم من ذلك كله بكثير.
وقوله بعد هذا: { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي: بسطناها وجعلناها مهدًا أي قارة ساكنة غير مضطربة، ولا مائدة بكم. ولهذا قال: { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع. وإنما يقتضي الإخبار المطلق في اللغة، والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا عمر بن جعفر بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش، حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز، أنه حدثه عن عمران بن حصين قال:
دخلت على النبي ﷺ وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم، فقال: « اقبلوا البشرى يا بني تميم ».
قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين.
ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال: « اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم ».
قالوا: قد قبلنا يا رسول الله.
قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: « كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض » فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي تقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها. هكذا رواه هاهنا.
وقد رواه في كتاب المغازي، وكتاب التوحيد، وفي بعض ألفاظه: « ثم خلق السموات والأرض » وهو لفظ النسائي أيضًا.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا حجاج، حدثني ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال:
« خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاث، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل ».
وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، والنسائي عن هارون، ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور عن ابن جريج، به مثله سواء.
وقد رواه النسائي في التفسير: عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن محمد بن الصباح، عن أبي عبيدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ أخذ بيدي فقال:
« يا أبا هريرة إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت ».
وذكر تمامه بنحوه فقد اختلف فيه على ابن جريج.
وقد تكلم في هذا الحديث على ابن المديني، والبخاري، والبيهقي، وغيرهم من الحفاظ.
قال البخاري في (التاريخ): وقال بعضهم عن كعب، وهو أصح يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة، وتلقاه من كعب الأحبار، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي ﷺ، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب، عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
وأكد رفعه بقوله: « أخذ رسول الله ﷺ بيدي ».
ثم في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض، وما فيها في سبعة أيام.
وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين من دخان، وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من ربذة الأرض بالقدرة العظيمة البالغة.
كما قال إسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ } [البقرة: 29] .
قال: إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها، فجعل سبع أرضين في يومين الأحد، والاثنين، وخلق الأرض على حوت وهو النون الذي قال الله تعالى: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [القلم: 1] .
والحوت في الماء، والماء على صفات، والصفات على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح. وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت.
وخلق الله يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب، وفتق السماء، وكانت رتقًا فجعلها سبع سموات في يومين الخميس والجمعة.
وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، وأوحى في كل سماء أمرها.
ثم قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والبحار، وجبال البرد، وما لا يعلمه غيره. ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة، وحفظًا يحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب، استوى على العرش.
هذا الإسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة، وكان كثير منها متلقي من الإسرائيليات. فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفًا له، وتعجبًا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا.
ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل، لكن كثيرًا ما يقع مما يرويه غلط كبير، وخطأ كثير.
وقد روى البخاري في (صحيحه): عن معاوية أنه كان يقول في كعب الأحبار: وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، أي: فيما ينقله لا أنه يتعمد ذلك، والله أعلم.
ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الأئمة المتقدمين عنهم. ثم نتبع ذلك من الأحاديث بما يشهد له بالصحة، أو يكذبه، ويبقى الباقي مما لا يصدق، ولا يكذب، وبه المستعان وعليه التكلان.
قال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي زناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
« لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي ».
وكذا رواه مسلم والنسائي، عن قتيبة به. ثم قال البخاري.==============
ما جاء في سبع أرضين
قوله جل وعلا: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12] .
ثم قال: حدثنا علي بن عبدالله، أخبرنا ابن علية، عن علي بن المبارك، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، وكانت بينه وبين ناس خصومة في أرض، فدخل على عائشة فذكر لها ذلك. فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن رسول الله ﷺ قال: « من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين ».
ورواه أيضًا في كتاب المظالم، ومسلم، من طرق عن يحيى بن كثير به. ورواه أحمد من حديث محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة به، ورواه أيضًا عن يونس، عن إبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة بمثله ثم قال البخاري: حدثنا بشر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه قال: قال النبي ﷺ: « من أخذ شيئًا من الأرض بغير حقه، خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ».
ورواه في المظالم أيضًا عن مسلم بن إبراهيم، عن عبد الله هو ابن المبارك، عن موسى بن عقبة به، وهو من أفراده.
وذكر البخاري هاهنا حديث محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال قال رسول الله ﷺ:
« الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثني عشر شهرًا » الحديث.
ومراده والله أعلم تقرير قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي في العدد.
كما أن عدة الشهور الآن اثني عشر مطابقة لعدة الشهور عند الله في كتابه الأول، فهذه مطابقة في الزمن، كما أن تلك مطابقة في المكان.
ثم قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام عن أبيه، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أنه خاصمته أروى في حق، زعمت أنه انتقصه لها إلى مروان فقال سعيد رضي الله عنه: أنا أنتقص من حقها شيئًا؟ أشهد لسمعت رسول الله ﷺ: « يقول من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين » ورواه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، وأبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عبد الله بن لهيعة، حدثنا عبد الله ابن أبي جعفر، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود، قال: قلت يا رسول الله أي الظلم أعظم؟ قال:
« ذراع من الأرض ينتقصه المرء المسلم من حق أخيه، فليس حصاة من الأرض يأخذها أحد إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها » تفرد به أحمد. وهذا إسناد لا بأس به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين ».
تفرد به من هذا الوجه وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، حدثني أبي، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:
« من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين ».
تفرد به أيضًا، وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد أيضًا: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:
« من أخذ من الأرض شبرًا بغير حقه طوقه من سبع أرضين » تفرد به أيضًا.
وقد رواه الطبراني من حديث معاوية بن قرة، عن ابن عباس مرفوعًا مثله.
فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين، والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الأخرى، والتي تحتها في وسطها عند أهل الهيئة، حتى ينتهي الأمر إلى السابعة وهي صماء لا جوف لها، وفي وسطها المركز، وهي نقطة مقدرة متوهمة. وهو محط الأثقال، إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع.
واختلفوا هل هن متراكمات بلا تفاصل أو بين كل واحدة والتي تليها خلاء، على قولين. وهذا الخلاف جار في الأفلاك أيضًا.
والظاهر أن بين كل واحدة والتي تليها خلاء على قولين، وهذا الخلاف جار في الأفلاك أيضًا. والظاهر أن بين كل واحدة منهن وبين الأخرى مسافة، لظاهر قوله تعالى:
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } الآية [الطلاق: 12] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله ﷺ إذ مرت سحابة فقال:
« أتدرون ما هذه؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « العنان، وزوايا الأرض، تسوقه إلى من لا يشكرونه من عباده، ولا يدعونه. أتدرون ما هذه فوقكم؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « الرفيع موج مكفوف، وسقف محفوظ. أتدرون كم بينكم وبينها؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « مسيرة خمسمائة سنة »
ثم قال: « أتدرون ما الذي فوقها؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « مسيرة خمسمائة عام حتى عدَّ سبع سموات ».
ثم قال: « أتدرون ما فوق ذلك؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « العرش. أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة؟ » قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « مسيرة خمسمائة عام »
ثم قال: « أتدرون ما هذه تحتكم؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « أرض، أتدرون ما تحتها؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « أرض أخرى، أتدرون كم بينهما؟ ».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « مسيرة سبعمائة عام حتى عدَّ سبع أرضين ».
ثم قال: « وأيم الله لو دليتم أحدكم إلى الأرض السفلى السابعة لهبط ».
ثم قرأ { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3] .
ورواه الترمذي: عن عبد بن حميد، وغير واحد، عن يونس بن محمد المؤدب، عن شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، قال: حدث الحسن عن أبي هريرة، وذكره. إلا أنه ذكر أن بُعد ما بين كل أرضين خمسمائة عام وذكر في آخره كلمة ذكرناها عند تفسير هذه الآية من سورة الحديد.
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
قال: ويروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد أنهم قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة.
ورواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في (تفسيره): من حديث أبي جعفر الرازي عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة فذكر مثل لفظ الترمذي سواء بدون زيادة في آخره.
ورواه ابن جرير في (تفسيره): عن بشر، عن يزيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مرسلًا، وقد يكون هذا أشبه، والله أعلم.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار، والبيهقي: من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ، ولكن لا يصح إسناده، والله أعلم.
وقد تقدم عند صفة العرش من حديث الأوعال، ما يخالف هذا في ارتفاع العرش عن السماء السابعة وما يشهد له. وفيه وبعد ما بين كل سماءين خمسمائة عام، وكثفها أي سمكها خمسمائة عام.
وأما ما ذهب إليه بعض المتكلمين على حديث « طوقه من سبع أرضين » أنها سبعة أقاليم.
فهو قول يخالف ظاهر الآية، والحديث الصحيح، وصريح كثير من ألفاظه مما يعتمد من الحديث الذي أوردناه من طريق الحسن عن أبي هريرة. ثم إنه حمل الحديث والآية على خلاف ظاهرهما بلا مستند ولا دليل والله أعلم.
وهكذا ما يذكره كثير من أهل الكتاب، وتلقاه عنهم طائفة من علمائنا، من أن هذه الأرض من تراب، والتي تحتها من حديد، والأخرى من حجارة من كبريت، والأخرى من كذا، فكل هذا إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله.
وهكذا الأثر المروي عن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الخلق مثل ما في هذه حتى آدم كآدمكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، فهذا ذكره ابن جرير مختصرًا، واستقصاه البيهقي في (الأسماء والصفات)، وهو محمول إن صح نقله عنه، على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ قال:
« لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟
قال: نعم الحديد.
قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟
قال: نعم النار.
قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟
قال: نعم الريح.
قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟
قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله » تفرد به أحمد.
وقد ذكر أصحاب الهيئة إعداد جبال الأرض في سائر بقاعها شرقًا وغربًا، وذكروا طولها وبعد امتدادها وارتفاعها، وأوسعوا القول في ذلك بما يطول شرحه هنا.
وقد قال الله تعالى: { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] .
قال ابن عباس، وغير واحد: الجدد: الطرائق.
وقال عكرمة وغيره: الغرابيب: الجبال الطوال السود.
وهذا هو الشاهد من الجبال في سائر الأرض تختلف باختلاف بقاعها وألوانها.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الجودي على التعيين، وهو جبل عظيم شرقي جزيرة ابن عمر إلى جانب دجلة. عند الموصل امتداده من الجنوب إلى الشمال مسيرة ثلاثة أيام، وارتفاعه مسيرة نصف يوم، وهو أخضر، لأن فيه شجرًا من البلوط، وإلى جانبه قرية يقال لها قرية الثمانين، لسكنى الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام في موضعها فيما ذكره غير واحد من المفسرين، والله أعلم.==========فصل في البحار والأنهار
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمࣰا طَرِيࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٤ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَـٰرࣰا وَسُبُلࣰا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٥ وَعَلَـٰمَـٰتࣲۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورࣱ رَّحِيمࣱ ١٨﴾ [النحل:14–18]
وقال تعالى: ﴿وَمَا يَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤئِغࣱ شَرَابُهُۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱۖ وَمِن كُلࣲّ تَأۡكُلُونَ لَحۡمࣰا طَرِيࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٢﴾ [فاطر:12]
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخࣰا وَحِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا ٥٣﴾ [الفرقان:53]
وقال تعالى: ﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ١٩ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا يَبۡغِيَانِ ٢٠﴾ [الرحمن:19–20]
فالمراد بالبحرين: البحر الملح المر، وهو الأجاج، والبحر العذب هو هذه الأنهار السارحة بين أقطار الأمصار، لمصالح العباد، قاله ابن جريج، وغير واحد من الأئمة.
وقال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ ٣٢ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَءَايَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورٍ ٣٣ أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرࣲ ٣٤﴾ [الشورى:32–34]
وقال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَءَايَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ ٣١ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجࣱ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَـٰتِنَاۤ إِلَّا كُلُّ خَتَّارࣲ كَفُورࣲ ٣٢﴾ [لقمان:31–32]
وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَءَايَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ يَعۡقِلُونَ ١٦٤﴾ [البقرة:164]
فامتنَّ تعالى على عباده بما خلق لهم من البحار والأنهار، فالبحر المحيط بسائر أرجاء الأرض، وما ينبت منه في جوانبها، الجميع مالح الطعم مر، وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء، إذ لو كان حلوا لأنتن الجو، وفسد الهواء، بسبب ما يموت فيه من الحيوانات، فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم.
ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة. ولهذا لما سئل رسول الله ﷺ عن البحر قال: « هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ».
وأما الأنهار: فماؤها حلو، عذب، فرات سائغ شرابها، لمن أراد ذلك. وجعلها جارية، سارحة ينبعها تعالى في أرض، ويسوقها إلى أخرى، رزقًا للعباد. ومنها: كبار، ومنها: صغار، بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار، والأنهار الكبار، وأصول منابعها، وإلى أين ينتهي سيرها، بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة.وقوله تعالى: ﴿وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ ٦﴾ [الطور:6] فيه قولان:
أحدهما: أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور في حديث الأوعال. وأنه فوق السموات السبع، بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وهو الذي ينزل منه المطر قبل البعث، فتحيا منه الأجساد من قبورها. وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس.
والثاني: أن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الأرض، وهو قول الجمهور.
واختلفوا في معنى البحر المسجور: فقيل المملوء، وقيل: يصير يوم القيامة نارا تؤجج، فيحيط بأهل الموقف، كما ذكرناه في التفسير، عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن مجاهد، وغيرهم.
وقيل: المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى، فيغمر الأرض ومن عليها، فيغرقوا.
رواه الوالبي عن ابن عباس، وهو قول السدي وغيره، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا العوام، حدثني شيخ كان مرابطًا بالساحل، قال: لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال: حدثنا عمر بن الخطاب، عن رسول الله ﷺ قال:
« ليس من ليلة، إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله عز وجل أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل ».
ورواه إسحاق بن راهويه، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لمحرس، لم يخرج أحد من المحرس غيري، فأتيت الميناء، فصعدت، فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف، يحاذي برءوس الجبال، فعل ذلك مرارًا، وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال:
حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال:
« ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات، يستأذن الله أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل ».
في إسناده رجل مبهم، والله أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم، وسخره لهم، يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الأقاليم النائية، بالتجارات وغيرها، وهداهم فيه بما خلقه في السماء والأرض، من النجوم والجبال التي جعلها لهم علامات يهتدون بها في سيرهم، وبما خلق لهم فيه من اللآلىء، والجواهر النفيسة، العزيزة الحسنة الثمينة، التي لا توجد إلا فيه، وبما خلق فيه من الدواب الغريبة، وأحلها لهم حتى ميتتها.
كما قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ﴾ [المائدة:96]
وقال النبي ﷺ: « هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ».
وفي الحديث الآخر:
« أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال ».
رواه أحمد، وابن ماجه، وفي إسناده نظر.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): وجدت في كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه قال:
« كلم الله هذا البحر الغربي، وكلم البحر الشرقي، فقال للغربي: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فكيف أنت صانع بهم؟.
قال أغرقهم.
قال: بأسك في نواحيك، وحرمه الحلية والصيد.
وكلم هذا البحر الشرقي، فقال: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فما أنت صانع بهم؟.
قال: أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها، فأثابه الحلية والصيد. ثم قال لا تعلم أحدًا ».
ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وهو منكر الحديث.
قال: وقد رواه سهيل، عن عبد الرحمن بن أبي عياش، عن عبد الله بن عمرو موقوفًا.
قلت: الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه، فإنه قد كان وجد يوم اليرموك زاملتين مملوءتين كتبًا من علوم أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات، منها: المعروف، والمشهور، والمنكور، والمردود.
فأما المعروف: فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو القاسم المدني قاضيها.
قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء، وقد سمعته منه، ثم مزقت حديثه، كان كذابًا، وأحاديثه مناكير.
وكذا ضعَّفه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني، والبخاري، وأبو داود، والنسائي.
وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، وأفظعها حديث البحر.
قال علماء التفسير: المتكلمون على العروض، والأطوال، والبحار، والأنهار، والجبال، والمساحات، وما في الأرض من المدن، والخراب والعمارات، والأقاليم السبعة الحقيقية، في اصطلاحهم، والأقاليم المتعددة العرفية، وما في البلدان والأقاليم من الخواص، والنباتات، وما يوجد في كل قطر من صنوف المعادن والتجارات.
قالوا: الأرض مغمورة بالماء العظيم، إلا مقدار الربع منها، وهو: تسعون درجة، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء عن هذا القدر منها، لتعيش الحيوانات عليها، وتنبت الزرع، والثمار منها، كما قال تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ١٠ فِيهَا فَـٰكِهَةࣱ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ١١ وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّيۡحَانُ ١٢ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٣﴾ [الرحمن:10–13].
قالوا: المعمور من هذا البادي منها قريب الثلثين منه، أو أكثر قليلًا، وهو خمس وتسعون درجة.
قالوا: فالبحر المحيط الغربي، ويقال له: أوقيانوس، وهو الذي يتاخم بلاد المغرب، وفيه الجزائر الخالدات، وبينها وبين ساحله عشر درج، مسافة شهر تقريبًا.
وهو بحر لا يمكن سلوكه، ولا ركوبه، لكثرة موجه، واختلاف ما فيه من الرياح والأمواج، وليس فيه صيد، ولا يستخرج منه شيء، ولا يسافر فيه لمتجر، ولا لغيره، وهو آخذ في ناحية الجنوب، حتى يسامت الجبال القمر.
ويقال جبال القمر، التي منها أصل منبع نيل مصر، ويتجاوز خط الإستواء، ثم يمتد شرقًا، ويصير جنوبي الأرض.
وفيه هناك جزائر الزابج، وعلى سواحله خراب كثير. ثم يمتد شرقًا وشمالًا، حتى يتصل بحر الصين والهند. ثم يمتد شرقًا حتى يسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة. وهناك بلاد الصين.
ثم ينعطف في شرق الصين، إلى جهة الشمال، حتى يجاوز بلاد الصين، ويسامت سد يأجوج، ومأجوج.
ثم ينعطف، ويستدير على أراضي غير معلومة الأحوال.
ثم يمتد مغربًا في شمال الأرض، ويسامت بلاد الروس، ويتجاوزها، ويعطف مغربًا وجنوبًا، ويستدير على الأرض، ويعود إلى جهة الغرب، وينبثق من الغربي، إلى متن الأرض الزقاق، الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب.
ثم يأخذ في بلاد الروم، حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر، فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن في بحر الهند ألف جزيرة، وسبعمائة جزيرة، فيها مدن، وعمارات، سوى الجزائر العاطلة، ويقال لها: البحر الأخضر. فشرقيه بحر الصين، وغربيه بحر اليمن، وشماله بحر الهند، وجنوبيه غير معلوم.
وذكروا أن بين بحر الهند، وبحر الصين، جبالًا فاصلة بينهما، وفيها فجاج يسلك المراكب بينها، يسيرها لهم الذي خلقها، كما جعل مثلها في البر أيضًا، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ﴿وَجَعَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجࣰا سُبُلࣰا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ ٣١﴾ [الأنبياء:31].
وقد ذكر بطليموس أحد ملوك الهند، في كتابه المسمى (بالمجسطي) الذي عُرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم، أن البحار المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي، والجنوبي والشمالي، كثيرة جدًا.
فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له. فمن ذلك بحر القلزم. والقلزم: قرية على ساحله، قريب من أيلة.
وبحر فارس، وبحر الخزرة، وبحر ورنك، وبحر الروم، وبحر بنطش، وبحر الأزرق، مدينة على ساحله. وهو بحر القرم أيضًا، ويتضايق حتى يصب في بحر الروم، عند جنوبي القسطنطينية، وهو خليج القسطنطينية.
ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم، وتبطيء إذا جاءت من الإسكندرية إلى القرم، لاستقبالها جريان الماء.
وهذا من العجائب في الدنيا، فإن كل ماء جار، فهو حلو إلا هذا، وكل بحر راكد، فهو ملح أجاج، إلا ما يذكر عن بحر الخزر، وهو بحر جرجان، وبحر طبرستان، أن فيه قطعة كبيرة ماء حلوًا فراتًا، على ما أخبر به المسافرون عنه.
قال أهل الهيئة: وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو. وقيل: إنه مثلث كالقلع، وليس هو متصلًا بشيء من البحر المحيط، بل منفرد وحده، وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة، وقيل أكثر من ذلك، والله أعلم.
ومن ذلك: البحر الذي يخرج منه المد والجزر، عند البصرة، وفي بلاد المغرب، نظيره أيضًا يتزايد الماء من أول الشهر، ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشر منه، وهو المد.
ثم يشرع في النقص، وهو الجزر، إلى آخر الشهر.
وقد ذكروا تحديد هذه البحار، ومبتداها، ومنتهاها، وذكروا ما في الأرض من البحيرات المجتمعة من الأنهار، وغيرها من السيول، وهي البطائح.
وذكروا ما في الأرض من الأنهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها وانتهاءها، ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه، وإنما نتكلم على ما يتعلق بالأنهار الوارد ذكرها في الحديث.
وقد قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ رِزۡقࣰا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِیَ فِی ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَاۤئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَظَلُومࣱ كَفَّارࣱ ٣٤﴾ [إبراهيم:32–34].
ففي (الصحيحين): من طريق قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن رسول الله ﷺ، لما ذكر سدرة المنتهى، قال:
« فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان، ونهران ظاهران. فأما الباطنان: ففي الجنة، وأما الظاهران: فالنيل، والفرات ».
وفي لفظ في البخاري: وعنصرهما أي مادتهما، أو شكلهما، وعلى صفتهما، ونعتهما، وليس في الدنيا مما في الجنة، إلا سماوية.
وفي (صحيح مسلم): من حديث عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، ويزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال رسول الله ﷺ:
« فجرت أربعة أنهار من الجنة: الفرات، والنيل، وسيحان، وجيحان ». وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكأن المراد، والله أعلم من هذا: أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها، كما قال في الحديث الآخر، الذي رواه الترمذي، وصححه من طريق سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: « العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم ».
أي تشبه ثمر الجنة، لا أنها مجتناة من الجنة، فإن الحس يشهد بخلاف ذلك، فتعين أن المراد غيره.
وكذا قوله ﷺ: « الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء ».
وكذا قوله: « إذا اشتد الحمى، فأبردوها بالماء، فإن شدة الحر من فيح جهنم ».
وهكذا هذه الأنهار، أصل منبعها مشاهد من الأرض.
أما النيل: وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته، ولطافته، وبعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه؛ فمبتداه من الجبال القمر، أي البيض. ومنهم من يقول: جبال القمر بالإضافة إلى الكواكب، وهي: في غربي الأرض، وراء خط الإستواء، إلى الجانب الجنوبي.
ويقال: إنها حمر ينبع من بينها عيون، ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة، ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر، ثم يخرج منها أنهار ستة، ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد هو: النيل، فيمر على بلاد السودان الحبشة، ثم على النوبة، ومدينتها العظمى دمقلة، ثم على أسوان، ثم يفدُ على ديار مصر.
وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها، واجترف من ترابها، وهي محتاجة إليهما معًا، لأن مطرها قليل، لا يكفي زروعها، وأشجارها.
وتربتها رمال، لا تنبت شيئًا، حتى يجيء النيل بزيادته وطينه، فينبت فيه ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأراضي، بدخولها في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَاۤءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعࣰا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَـٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا يُبۡصِرُونَ ٢٧﴾ [السجدة:27].
ثم يجاوز النيل مصر قليلًا، فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه، يقال لها: شطنوف، فيمر الغربي على رشيد، ويصب في البحر المالح.
وأما الشرقي: فتفترق أيضًا عند جوجر فرقتين، تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر. والشرقية منهما تمر على أشمون طناح، فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط، يقال لها بحيرة تنيس، وبحيرة دمياط.
وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه. ولهذا كان ألطف المياه.
قال ابن سينا: له خصوصيات دون مياه سائر الأرض.
فمنها: أنه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها: أنه يجري على صخور ورمال، ليس فيه خز، ولا طحلب، ولا أوحال.
ومنها: أنه لا يخضر فيه حجر، ولا حصاة، وما ذاك إلا لصحة مزاجه، وحلاوته، ولطافته.
ومنها: أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار، ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها.
وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع، اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولًا عظيمًا، وجواري حسانًا، وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على ذلك، لا يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين، وهذيانات الأفاكين.
وقد قال عبدالله بن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه قال: لما فتح عمرو بن عاص مصر، أتى أهلها إليه، حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم القبطية، فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة، لا يجري إلا بها.
فقال لهم: وما ذاك؟
قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة، خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي، والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو:
إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤنة، والنيل لا يجري لا قليلًا، ولا كثيرًا.
وفي رواية: فأقاموا بؤنة، وأبيب، ومسرى، وهو لا يجري، حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة، داخل كتابي هذا، فألقها في النيل.
فلما قدِمَ كتابه، أخذ عمرو البطاقة، ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد:
فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل، فأصبح يوم السبت. وقد أجرى الله النيل، ستة عشر ذراعًا، في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنة، عن أهل مصر إلى اليوم.
وأما الفرات: فأصلها من شمالي أررن الروم، فتمر إلى قرب ملطيه، ثم تمر على شميشاط، ثم على البيرة قبليها، ثم تشرق إلى بالس، وقلعة جعبر، ثم الرقة، ثم إلى الرحبة شماليها، ثم إلى عانة، ثم إلى هيت، ثم إلى الكوفة، ثم تخرج إلى فضاء العراق، ويصب في بطائح كبار، أي بحيرات وترد إليها، ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سيحان: ويقال له سيحون أيضًا، فأوله من بلاد الروم، ويجري من الشمال، والغرب، إلى الجنوب، والشرق، وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر، وهو ببلاد الأرض التي تعرف اليوم ببلاد سيس، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية في أيدي المسلمين.
فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية، وملكوا الشام وأعمالها، عجزوا عن صونها عن الأعداء، فتغلب تقفور الأرمني على هذه البلاد، أعني بلاد سيس، في حدود الثلاثمائة، وإلى يومنا هذا. والله المسؤول عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند أذنه فيصيران نهرًا واحدًا. ثم يصبان في بحر الروم بين أياس، وطرسوس.
وأما جيحان: ويقال له جيحون أيضًا، وتسميه العامة جاهان. وأصله في بلاد الروم، ويسير في بلاد سيس، من الشمال إلى الجنوب، وهو يقارب الفرات في القدر، ثم يجتمع هو وسيحان عند أذنة، فيصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبان في البحر عند اياس، وطرسوس، والله أعلم.===============فصل:ذكر ما خلق في الأرض من الجبال،والأشجار والثمار والسهول
قال الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 2-4] .
وقال تعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [النمل: 60-61] .
وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 10-12] .
فذكر تعالى: ما خلق في الأرض، من الجبال، والأشجار، والثمار، والسهول، والأوعار، وما خلق من صنوف المخلوقات، من الجمادات، والحيوانات في البراري، والقفار، والبر، والبحار، ما يدل على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه، وما سهل لكل دابة من الرزق الذي هي محتاجة إليه، في ليلها ونهارها، وصيفها وشتائها، وصباحها ومسائها.
كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6] .
وقد روى الحافظ أبو يعلى، عن محمد بن المثنى، عن عبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى بن كيسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« خلق الله ألف أمة، منها ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلك تتابعت مثل النظام، إذا قطع سلكه ».
عبيد بن واقد أبو عباد البصري، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وشيخه أضعف منه.
قال الفلاس والبخاري: منكر الحديث.
وقال أبو زرعة: لا ينبغي أن يحدث عنه.
وضعفه ابن حبان، والدارقطني، وأنكر عليه ابن عدي هذا الحديث بعينه وغيره، والله أعلم.
وقال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَ
ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات
قد قدمنا أن خلق الأرض قبل خلق السماء، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29] .
وقال تعالى: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12] .
وقال تعالى: { ءأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 27-30] ، فإن الدحى غير الخلق، وهو بعد خلق السماء.
وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [الملك: 1-5] .
وقال تعالى: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [النبأ: 12-13] .
وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [نوح: 15-16] .
وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12] .
وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [الفرقان: 61-62] .
وقال تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات: 6-10] .
وقال تعالى: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [الحجر: 16-18] .
وقال تعالى: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون } [الذاريات: 47] .
وقال تعالى: { وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء 32-33] .
وقال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 37-40] .
وقال تعالى: { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأنعام: 96-97] .
وقال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54] .
والآيات في هذا كثيرة جدًا، وقد تكلمنا على كل منها في التفسير.
والمقصود: أنه تعالى يخبر عن خلق السموات وعظمة اتساعها، وارتفاعها، وأنها في غاية الحسن والبهاء، والكمال والسناء.
كما قال تعالى: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } [الذاريات: 7] ، أي الخلق الحسن..