اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 6. جامع البيان للطبري

 

مجلد 6. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

وقال آخرون : هي أنفال السرايا.
* ذكر من قال ذلك :
15638 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا علي بن صالح بن حي قال ، بلغني في قوله : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : السرايا.
* * *
وقال آخرون : " الأنفال " ، ما شذَّ من المشركين إلى المسلمين ، من عَبْد أو دابة ، وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
15639 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، دابَّة أو عبدٌ أو متاعٌ ، ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.
15640 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد أو أمة أو متاع أوثَقَل ، (1) فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.
15641 - . . . . قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري : أن ابن عباس سئل عن : " الأنفال " ، فقال : السَّلَب والفرس.
15642 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ويقال " الأنفال " ، ما أخذ مما سقط من المتاع بعد ما تُقَسَّم الغنائم ، فهي نفلٌ لله ولرسوله.
15643 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن محمد بن شهاب : أن رجلا قال لابن عباس : ما " الأنفال " ؟ قال : الفرَس والدِّرع والرمحُ. (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أو نفل " ، والصواب ما أثبت . و " الثقل " ( بفتحتين ) ، متاع المسافر وحشمه.
(2) الأثر : 15643 - " عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم النوفلي " ، ثقة ، كان قاضيًا على مكة . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 5 : 357 ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 152 ، وهذا الخبر ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ص 304 رقم : 757 مطولا .

(13/363)


15644 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، قال ابن جريج ، قال عطاء : " الأنفال : ، الفرس الشاذّ والدرع والثوب.
15645 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن عباس قال : كان ينفِّل الرجل سَلَب الرجل وفرسه. (1)
15646 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا سأل ابن عباس عن " الأنفال " ، فقال ابن عباس : الفرس من النَّفَل ، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل : " الأنفال " ، التي قال الله في كتابه ، ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يُحْرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ، مَثَلُ صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ (2)
15647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال ، قال ابن عباس : كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال : " لا آمرك ولا أنهاك " . ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرًا آمرًا ، محللا محرمًا قال القاسم : فسلِّط على ابن عباس رجل يسأله عن : " الأنفال " ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مَثَل هذا ، مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه ؟ فقال الرجل : أمّا أنت فقد انتقم الله لعمر منك.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فرس الرجل وسلبه " ، ولكن في المخطوطة فوق " فرس " و " سلبه " حرف " م " ، دلالة على التقديم والتأخير ، ففعلت ذلك .
(2) الأثر : 15646 - رواه مالك في الموطأ ص : 455 ، بلفظه هذا .
" صبيغ " ، هو " صبيغ بن عسل بن سهل الحنظلي " ، ترجم له ابن حجر في الإصابة ، في القسم الثالث ، وكان صبيغ وفد على عمر المدينة ، وجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فضربه عمر حتى دمي رأسه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي ! ونفاه عمر إلى البصرة ، وكتب إليهم أن لا يجالسوه ، فلم يزل صبيغ وضيعًا في قومه ، بعد أن كان سيدًا فيهم .

(13/364)


15647 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال ، من دابة أو [عبد] ، (1) فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم .
* * *
وقال آخرون : " النفل " ، الخمس الذي جعله الله لأهل الخُمُس.
* ذكر من قال ذلك :
15648 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : هو الخمس. قال المهاجرون : لِمَ يُرْفع عنا هذا الخمس ، (2) لم يُخْرج منا ؟ فقال الله : هو لله والرسول.
15649 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : " يسألونك عن الأنفال " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى : " الأنفال " ، قولُ من قال : هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم ، إما من سَهْمه على حقوقهم من القسمة ، (3) وإما مما وصل إليه بالنفل ، أو ببعض أسبابه ، ترغيبًا
__________
(1) ما بين القوسين ، في المطبوعة وحدها ، مكانه في المخطوطة بياض .
(2) في المخطوطة : " لم يرفع هنا " ، والصواب ما في المطبوعة .
(3) في المطبوعة : " إما من سلبه على حقوقهم " ، وفي المخطوطة : " إما سلمه على حقوقهم " ، وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت ، والذي في المطبوعة لا معنى له .

(13/365)


له ، وتحريضًا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين ، أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك ، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس ، لأن ذلك أمره إلى الإمام ، إذا لم يكن ما وصلوا إليه بغلبة وقهر ، (1) يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام ، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقَهر.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأن " النفل " في كلام العرب ، إنما هو الزيادة على الشيء ، يقال منه : " نفَّلتك كذا " ، و " أنفلتك " ، إذا زدتك.
و " الأنفال " ، جمع " نَفَل " ، ومنه قول لبيد بن ربيعة :
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وَعَجَلْ (2)
فإذ كان معناه ما ذكرنا ، فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة إن كان ذلك لبلاء أبلاه ، أو لغناء كان منه عن المسلمين بتنفيل الوالي ذلك إيّاه ، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل ، فهو منفل ما زيد من ذلك ، لأن الزيادة نَفَلٌ ، [والنَّفَل] ، وإن كان مستوجِبَهُ في بعض الأحوال لحق ، ليس هو من الغنيمة التي تقع فيها القسمة. (3) وكذلك كل ما رُضِخ لمن لا سهم له في الغنيمة ، فهو " نفل " ، (4) لأنه وإن كان مغلوبًا عليه ، فليس مما وقعت عليه القسمة.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " لغلبة " ، وصواب قراءتها " بغلبة " .
(2) ديوانه 2 : 11 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 240 ، اللسان ( نفل ) ، وغيرها كثير ، فاتحة قصيدة له طويلة .
(3) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا : " لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحق ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة " ، غير ما كان في المخطوطة كل التغيير ، والجملة في المخطوطة كما أثبتها ، إلا أن صدرها كان هكذا : " لأن الزيادة أفضل وإن كان مستوجبة " غير منقوطة ، سيئة الكتابة ، وظاهر أن صوابها ما أثبت ، مع زيادة ما زدت بين القوسين .
(4) " رضخ له من المال " ، أعطاه عطية مقاربة ، أي قليلة .

(13/366)


فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين " الغنيمة " و " النفل " ، أن " الغنيمة " هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر ، نفَّل منه منفِّل أو لم ينفل ، و " النفل " : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغَنَاء عن الجيش على غير قسمة. (1)
* * *
وإذْ كان ذلك معنى " النفل " ، فتأويل الكلام : يسألك أصحابك ، يا محمد ، عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر ، لمن هو ؟ قل لهم يا محمد : هو لله ولرسوله دونكم ، يجعله حيث شاء.
* * *
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في غنائم بدر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نفَّل أقوامًا على بلاء ، فأبلى أقوام ، وتخلف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب ، فأنزل الله هذه الآية على رسوله ، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماضٍ جائزٌ.
* ذكر من قال ذلك :
15650 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر بن سليمان قال ، سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى مكان كذا وكذا ، فله كذا وكذا ، أو فعل كذا وكذا ، فله كذا وكذا " ، فتسارع إليه الشبان ، وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا! فأنزل الله عليه الآية " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " . (2)
__________
(1) في المطبوعة : " هو ما أعطيه الرجل " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 15650 - خبر ابن عباس هذا ، يرويه أبو جعفر من أربعة طرق ، من رقم 15650 - 15653 ، إلا آخرها فهو غير مرفوع إلى ابن عباس . وهو خبر صحيح الإسناد .
فمن هذه الطريق الأول " معتمر بن سليمان عن داود ، ... " ، رواه الحاكم في المستدرك 2 : 326 ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى 6 : 315 ، وفيهما زيادة بعد " لا تذهبوا به دوننا " : " فقد كنا ردءًا لكم " .
وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 6 ، والسيوطي في الدر المنثور 3 : 159 .

(13/367)


15651 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صنع كذا وكذا ، فله كذا وكذا " ، قال : فتسارع في ذلك شبان الرجال ، وبقيت الشيوخ تحت الرايات. فلما كان الغنائم ، (1) جاءوا يطلبون الذي جعُل لهم ، فقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا رِدْءًا لكم ، (2) وكنا تحت الرايات ، ولو انكشفتم انكشفتم إلينا! (3) فتنازعوا ، فأنزل الله : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " . (4)
15652 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل " . قال : فتقدم الفتيان ، ولزم المشيخةُ الراياتِ ، فلم يبرحوا. فلما فُتح عليهم ، قالت المشيخة : كنا ردءًا لكم ، فلو انهزمتم انحزتم إلينا ، (5) لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا! فأنزل الله : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال
__________
(1) في المطبوعة : " فلما كانت الغنائم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) " الردء " ، العون ، ينصر المرء ويشد ظهره ، وهو له قوة وعماد .
(3) " انكشف القوم " ، انهزموا . وقوله : " انكشفتم إلينا " ، أي رجعتم بعد الهزيمة إلينا ، وكان في المطبوعة : " لفئتم إلينا " ، بمعنى رجعتم ، ولكني أثبت ما في المخطوطة .
(4) الأثر : 15651 - هذه هي الطريق الثانية لخبر ابن عباس السالف .
" عبد الأعلى " هو " عبد الأعلى بن عبد الأعلى القرشي السلمي " ، ثقة ، أخرج له الجماعة . مضى برقم : 4751 ، 8282 .
(5) " انحاز إليه " ، انضم إليه .

(13/368)


لله والرسول " . قال : فكان ذلك خيرًا لهم ، وكذلك أيضًا أطيعوني فإني أعلم. (1)
15653 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الآية : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، قال : لما كان يوم بدر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من صنع كذا فله من النفل كذا " ! فخرج شبان من الرجال ، فجعلوا يصنعونه ، فلما كان عند القسمة ، قال الشيوخ : نحن أصحاب الرايات ، وقد كنا رِدْءًا لكم! فأنزل الله في ذلك : " قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " . (2)
15654 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعقوب الزهري قال ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول مولى هذيل ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن عبادة بن الصامت قال ، أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر : " يسألونك عن الأنفال " إلى قوله : " إن كنتم مؤمنين " ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، عن بَوَاء. (3)
__________
(1) الأثر : 15652 - " إسحاق بن شاهين الواسطي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا آخرها رقم : 11504.
" خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان " ، مضى مرارًا آخرها رقم : 11504. وهذا الخبر بهذا الإسناد رواه أبو داود في سننه 3 : 102 رقم : 2737 مع خلاف يسير في لفظه. وآخره هناك : " فكذلك أيضًا فأطيعوني ، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم " . ورواه البيهقي في السنن 6 : 291 ، 292.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 131 ، 132 وقال : " هذا حديث صحيح ، فقد احتج البخاري بعكرمة ، وقد احتج مسلم بداود بن أبي هند ، ولم يخرجاه " ، وقال الذهبي : " صحيح ، قلت هو على شرط البخاري " ، والزيادة فيها كما في سنن أبي داود.
خرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 6. وزاد نسبته إلى النسائي ، وابن مردويه (واللفظ هناك له) ، وابن حبان.
(2) الأثر : 15653 - انظر التعليق على الآثار السالفة .
(3) الأثر : 15654 - خبر عبادة بن الصامت ، مروي هنا من طريقين ، هذه أولاهما. إسحاق " ، هو " إسحاق بن الحجاج الطاحوني " ، مضى برقم : 230 ، 1614 ، 10314. و " يعقوب الزهري " ، هو " يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري " ، مختلف فيه ، وهو ثقة إن شاء الله ، مضى برقم : 2867 ، 8012. كان في المطبوعة هنا " الزبيري " ، وهو في المخطوطة غير منقوط ، وأقرب قراءته ما أثبت ، وهو الصواب بلا ريب ، فإن يعقوب بن محمد الزهري ، هو الذي يروي عن المغيرة.
و " المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي " ، مختلف فيه ، ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه ابن معين ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 321 ، ابن أبي حاتم 4 / 1 / 225 ، لم يذكرا فيه جرحًا.
وأبوه : " عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، ابن أبي حاتم 2 / 2 / 224. روى عنه ابن إسحاق في سيرته في مواضع. انظر 1 : 367.
و " سليمان بن موسى الأموي " الأشدق ، أبو هشام ، ثقة ، مضى برقم : 11382.
و " مكحول ، مولى هذيل " ، هو " مكحول الشامي ، أبو عبد الله " ، الفقيه التابعي ، وكان من سبى كابل ، وكانت في لسانه لكنة ، جاء في حديثه : " ما فعلت في تلك الهاجة " ، يريد " الحاجة " ، قلب الحاء هاء. مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7 / 2 / 160 ، والكبير 4 / 2 / 21 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 /407.
و " أبو سلام " ، هو الأسود الحبشي الأعرج ، واسمه " ممطور " ، في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 57 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 431.
و " أبو أمامة الباهلي " واسمه : " صدي بن عجلان " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى عن رسول الله ، وعن جماعة من الصحابة ، .
وهذا الخبر ، رواه مكحول مرة من طريق أبي سلام عن أبي أمامة ، ورواه في الذي يليه عن أبي أمامة بلا واسطة. فمن هذه الطريق الأولى رواه أحمد في المسند 5 : 323 ، 324 ، مطولا ، وبغير هذا اللفظ من طريق معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان ابن موسى ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، لا ذكر فيها لمكحول.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 292 ، من طريق عبد الرحمن بن الحارث ، عن سليمان الأشدق ، عن مكحول ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، مطولا ، كرواية أحمد.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 135 ، بمثله.
وقوله " عن بَوَاء " ، كان في المطبوعة " عن بسواء " ، هنا ، وفي الخبر التالي ، وهو خطأ محض ، وسيأتي تفسيره في سياق الخبر التالي.

(13/369)


15655 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد قال ، حدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا ، عن سليمان بن موسى الأشدق ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن " الأنفال " ، فقال : فينا معشرَ أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النَّفَل ، وساءت فيه أخلاقنا ،

(13/370)


فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بَوَاء يقول : على السواء فكان في ذلك تقوى الله ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وصلاحُ ذاتِ البين . (1)
* * *
وقال آخرون : بل إنما أنزلت هذه الآية ، (2) لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئًا قبل قسمتها ، فلم يعطه إياه ، إذ كان شِرْكًا بين الجيش ، فجعل الله جميعَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . (3)
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 15655 - " سليمان بن موسى الأشدق " ، مر في التعليق السالف. وكان في المطبوعة " الأسدي " ، لم يحسن قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة.
وهذا الخبر من رواية " محمد بن إسحاق " ، مذكور في سيرة ابن هشام 2 : 295 ، 296 ، بإسناده هذا ، ثم في 2 : 322 ، بغير إسناد.
ورواه الطبري بإسناده هذا في التاريخ 2 : 285 ، 286.
ورواه أحمد في مسنده /5 : 322 من طريقين عن محمد بن إسحاق.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 136 ، بالإحالة على لفظه الذي قبله.
ثم رواه الحاكم في المستدرك 2 : 326 ، من طريق وهب بن جرير بن حازم ، عن محمد ابن اسحاق ، يقول حدثني الحارث بن عبد الرحمن ، عن مكحول ، عن أبي أمامة ، وقال : " صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، وقال الذهبي : على شرط مسلم. ولا أدري كيف هذا ، فإن الثابت في سيرة ابن إسحاق ، من رواية ابن هشام أنه من روايته عن " عبد الرحمن بن الحارث " ، لا عن " الحارث بن عبد الرحمن " وهو خطأ. هذا فضلا عن أنه مروى بغير هذا اللفظ في سيرة ابن هشام ، وفي سائر من رواه عن ابن إسحاق ، إلا يونس بن بكير.
فإن البيهقي في السنن الكبرى 6 : 292 رواه من طريق يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن " عبد الرحمن بن الحارث " ، بنحو لفظ الحاكم في المستدرك ثم قال : " ورواه جرير بن حازم ، عن محمد بن إسحاق ، مع تقصير في إسناده " . و " جرير بن حازم " الذي روى الحاكم الخبر من طريقه ، ثقة ثبت حافظ ، روى له الجماعة. ولكن قال ابن حبان وغيره : " كان يخطئ ، لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه " ، فكأن هذا مما أوجب الحكم عليه بأنه يقصر أحيانًا ويخطيء ، والصواب المحض ، هو ما أجمعت عليه الرواية عن ابن إسحاق " عبد الرحمن بن الحارث " .وذكره بلفظه هنا ، الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 26 ، هو والخبر الذي قبله ، من الطريق المطولة ، ثم قال : " ورجال الطريقين ثقات " ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 6 : 5 ، والسيوطي في الدر المنثور 3 : 159.
(2) في المطبوعة ، حذف " بل " من صدر الكلام .
(3) في المطبوعة : " لرسول الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/371)


15656 - حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت : يا رسول الله ، هذا السيف قد شَفَى الله به من المشركين! فسألته إياه ، فقال : ليس هذا لي ولا لك! قال : فلما وليت ، قلت : أخاف أن يعطيه من لم يُبْلِ بلائي! فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي ، قال فقلت : أخاف أن يكون نزل في شيء! قال : إن السيف قد صارَ لي! قال : فأعطانيه ، ونزلت : " يسئلونك عن الأنفال " . (1)
15657 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك قال : لما كان يوم بدر جئت بسيف. قال : فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفي صَدري من المشركين أو نحو هذا فهبْ لي هذا السيف! فقال لي : هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت : عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول ، فقلت : حدث فِيَّ حدثٌ ! فلما انتهيت قال : يا سعد إنك ، سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي ، فهو لك! ونزلت : " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " . (2)
__________
(1) الأثر : 15656 - خبر " سعد بن مالك " ، وهو " سعد بن أبي وقاص " ، رواه أبو جعفر من سبع طرق ، بألفاظ مختلفة ، إلا رقم : 15659 ، فهو منقطع الإسناد . وهي من رقم 15656 - 15659 ثم من 15662 - 15664 .
رواه من طريق عاصم ، عن مصعب بن سعد برقم 15656 ، 15657 .
ومن طريق سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد برقم 15658 ، 15662 ، 15663 .
ومن طريق محمد بن عبيد الله ، أبي عون الثقفي ، عن مصعب بن سعد رقم : 15659 ، منقطعًا . ومن طريق مجاهد ، عن سعد ابن أبي وقاص : 15664 .
وهذا تفسير إسناد الخبر الأول : " إسماعيل بن موسى السدي الفزاري شيخ الطبري " ، مضى برقم : 849 ، 9682 .
و " أبو الأحوص " ، هو " سلام بن سليم الحنفي " ، الثقة الحافظ ، مضى مرارًا كثيرة .
و " عاصم " ، هو " عاصم بن أبي النجود " ، مضى مرارًا .
و " مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 8941 ، 11450 .
وهو إسناد صحيح ، ولم أجده في موضع آخر من طريق أبي الأحوص عن مصعب .
(2) الأثر : 15657 - إسناد صحيح . ورواه من هذه الطريق أحمد في المسند رقم : 1538 ، بنحوه ، مطولا .
ورواه أبو داود في سننه 3 : 103 رقم 2740 ، بنحوه مطولا .
رواه الحاكم في المستدرك 2 : 132 ، بنحوه مطولا ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
ورواه البيهقي في السنن 6 : 291 ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 4 ، وقال : " رواه أبو داود " والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن أبي بكر بن عياش ، وقال الترمذي : حسن صحيح " .

(13/372)


15658 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : أصبت سيفًا يوم بدر فأعجبني ، فقلت : يا رسول الله ، هبه لي! فأنزل الله : " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " . (1)
15659 - حدثنا ابن المثنى وابن وكيع قال ابن المثنى : حدثني أبو معاوية وقال ابن وكيع : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله ، عن سعد بن أبي وقاص قال : فلما كان يوم بدر ، (2) قتل أخي عُمَيْر ، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وكان يسمى " ذا الكتيفة " ، (3) فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب فاطرحه في القبض! (4) فطرحته ورجعتُ ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي ، وأخذ سَلَبي! قال : فما جاوزت إلا قريبًا ، حتى نزلت عليه " سورة الأنفال " ، فقال : اذهب فخذ سيفك! ولفظ الحديث لابن المثنى. (5)
__________
(1) الأثر : 15658 - هو مختصر الحديث رقم : 15662 ، وهو إسناد صحيح ، وسأخرجه هناك .
(2) في المطبوعة : " لما كان " ، حذف الفاء ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) " ذو الكتيفة " على وزن " عظيمة " ، و " الكتيفة " : حديدة عريضة طويلة ، وربما كانت كأنها صحيفة ، وربما سموا السيف " كتيفًا " .
(4) " القبض " ( بفتحتين ) قال أبو عبيد القاسم بن سلام : " القبض ، الذي تجمع عنده الغنائم " . وقال غيره : بمعنى المقبوض ، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم .
(5) الأثر : 15659 - " أبو معاوية " ، هو الضرير ، " محمد بن خازم التميمي السعدي " ثقة ، من شيوخ أحمد ، روى له الجماعة .
وكان في المطبوعة هنا : " قال ابن المثنى حدثني معاوية " ، حذف " أبو " ، كأنه ظن أن ابن المثنى قال : " معاوية " ، وأن ابن وكيع قال " أبو معاوية " ، وأن هذا هو وجه الاختلاف ! والصواب أن الاختلاف في أن ابن المثنى قال : " حدثني " ، وأن ابن وكيع قال : " حدثنا " . فهذا مبلغ الإساءة في التصرف !! .
و " الشيباني " ، هو " أبو إسحاق الشيباني " : " سليمان بن أبي سليمان " الثقة الحجة ، مضى مرارًا كثيرة
و " محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي " ، " أبو عون الثقفي " ، تابعي ثقة ولكنه لم يدرك سعد ابن أبي وقاص ، وروايته عن سعد مرسلة . ( انظر شرح الإسناد في مسند أحمد ) . مضى برقم : 7595 ، 13965 .
وهذا الخبر ضعيف الإسناد ، لانقطاعه .
رواه أحمد في مسنده برقم : 1556 ،
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال : 303 ، بمثله . وقال في خلال الخبر " ... قتلت سعيد بن العاص وقال غيره : العاص بن سعيد . قال أبو عبيد : هذا عندنا هو المحفوظ " . ثم قال تعقيبًا عليه " قال أبو عبيد : وقال أهل العلم بالمغازي : قاتل العاص ، علي بن أبي طالب " . والذي قاله أبو عبيد هو الصواب .
فالذي جاء في الخبر هنا " سعيد بن العاص " وهم ، فإن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية الأموي ، متأخر ، قبض رسول الله عليه وله تسع سنين ، وهو لم يشرك قط وقتل أبوه " العاص بن سعيد " يوم بدر كافرًا ، أما جده " سعيد بن العاص بن أمية " ، فمات قبل بدر مشركًا . ويكون الصواب كما قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة " عمير بن أبي وقاص " : " العاص بن سعيد بن العاص " ، ويكون الاختلاف إذن في الذي قتله : أهو علي بن أبي طالب ، أم سعد بن أبي وقاص ؟ وإن كنت لم أجد هذا الاختلاف . وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق . وانظر التعليق على رقم : 15664 .
هذا ، وقد رأيت بعد في الروض الأنف 2 : 76 ، هذا الخبر عن أبي عبيد وفيه " العاصي ابن سعيد بن العاصي " في صلب الخبر ، ورأيت ذكر هذا الاختلاف في الروض الأنف 2 : 102 ، 103 .

(13/373)


15660 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة جميعًا ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن قيس بن ساعدة قال : سمعت أبا أسَيْد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان السيف يدعى " المرْزُبان " ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردُّوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يُسْأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إياه. (1)
__________
(1) الأثر : 15660 - " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى برقم : 4808 .
وأما قوله : " بعض بني ساعدة " ، فقد جعلها في المطبوعة " قيس بن ساعدة " لا أدري لم غير ما في المخطوطة .
وأما " أبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري " ، من بني ساعدة بن كعب بن الخزرج ، فهو الصحابي المشهور ، فجعله في المطبوعة : " أبا أسيد بن مالك بن ربيعة " ، زاد " بن " بلا مراجعة .
وأما " سيف بني عائذ " فجعلها " سيف بن عائذ " ، كما في الخبر التالي ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة . والصواب من سيرة ابن هشام ، وفيها : " سيف بني عائذ المخزوميين " .
و " عائذ " في المخطوطة غير منقوطة ، وفي المطبوعة : " عائد " بالدال المهملة . والصواب ما في سيرة ابن هشام .وفي بني مخزوم : " بنو عائذ بن عمران بن مخزوم " ( بالذال المعجمة ) رهط آل المسيب ، وفي بني مخزوم أيضًا : " بنو عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم " ( بالباء والدال المهملة ) ، وهم رهط آل السائب . انظر الروض الأنف 2 : 76 ، ونسب قريش 333 ثم : 343 ، ولم أجد ما أرجح به أحدهما على الآخر .
وهذا الخبر رواه ابن إسحاق في سيرته ، ابن هشام 2 : 296 ، بلفظه ، وانظر التعليق على الخبر التالي .

(13/374)


- 15661 - حدثني يحيى بن جعفر قال ، حدثنا أحمد بن أبي بكر ، عن يحيى بن عمران ، عن جده عثمان بن الأرقم وعن عمه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : ردُّوا ما كان من الأنفال! فوضع أبو أسيد الساعديّ سيف ابن عائذ " المرزبان " ، فعرفه الأرقم فقال : هبه لي ، يا رسول الله! قال : فأعطاه إياه. (1)
__________
(1) الأثر : 15661 - هذا مختصر الأثر السالف من طريق أخرى .
و " يحيى بن جعفر " ، هو " يحيى بن أبي طالب " ، و " يحيى بن جعفر بن الزبير قال " ، شيخ الطبري . محدث مشهور ثقة . مضى برقم : 284 .
و " أحمد بن أبي بكر " هو " أحمد بن القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري " ، كنيته " أبو مصعب الزهري " ، ثقة ، روى له الجماعة . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 6 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 43 .
و " يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم المخزومي " ، روى عن أبيه ، وعمه " عبد الله ابن عثمان " . روى عنه عطاف بن خالد ، وأبو مصعب الزهري " أحمد بن أبي بكر " ، وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في تعجيل المنفعة : 446 ، والكبير 4 \ 2 \ 297 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 177 ، 178 ، وقال ابن أبي حاتم : " سألت أبي عنه فقال : شيخ مدني مجهول "
وأما قوله : " وعن عمه ، عن جده " ، فكان في المطبوعة والمخطوطة " عن عمه ، عن جده " بغير واو العطف ، وهو لا يستقيم ، بل هو خطأ محض . بل الصواب أن " يحيى بن عمران " ، رواه عن جده مباشرة ، ورواه مرة أخرى عن عمه " عبد الله بن عثمان " ، عن جده أيضًا .
و " عبد الله بن عثمان بن الأرقم " في المطبوعة ابن الأرقم مكررة " المخزومي " ، مترجم في تعجيل المنفعة : 228 ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 113 ، لم يذكروا فيه جرحًا .
وهذا الخبر ، مختصر الذي قبله ، ولم أجده في مكان آخر .

(13/375)


15662 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : أصبت سيفا قال : فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، نفلنيه! فقال : ضعه! ثم قام فقال : يا رسول الله ، نفلنيه! قال : ضعه! قال : ثم قام فقال : يا رسول ، الله نفلنيه! أجعل كمن لا غَنَاء له ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ضعه من حيث أخذته! فنزلت هذه الآية : يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول . (1)
15663 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد قال : أخذت سيفًا من المغنم فقلت : يا رسول الله ، هب لي هذا! فنزلت : " يسئلونك عن الأنفال " . (2)
15664 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد في قوله : " يسئلونك عن الأنفال " ، قال : قال سعد : كنت أخذت سيفَ سعيد بن العاص بن أمية ، فأتيت رسول الله
__________
(1) الأثر : 15662 - طريق أخرى لخبر سعد بن أبي وقاص ، كما بينه في رقم : 15656.
وهو خبر صحيح الإسناد ، من طريق سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد .
وبهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم : 1567 ، 1614 في خبر طويل ، مضى بعضه في شأن تحريم الخمر برقم : 12518 ، من تفسير الطبري . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص : 28 رقم : 208 . ورواه مسلم في صحيحه 12 : 53 ، 54 ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 291 ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 5 . ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 150 ، من طريق زهير بن معاوية عن سماك بن حرب ، بغير هذا اللفظ .
(2) الأثر : 15663 - مختصر الذي قبله .

(13/376)


صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أعطني هذا السيف يا رسول الله! فسكت ، فنزلت : " يسئلونك عن الأنفال " ، إلى قوله : " إن كنتم مؤمنين " ، قال : فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . (1)
* * *
وقال آخرون : بل نزلت : لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر ، فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله دونهم ، ليس لهم فيه شيء. وقالوا : معنى " عن " في هذا الموضع " من " ، (2) وإنما معنى الكلام : يسألونك من الأنفال. وقالوا : قد كان ابن مسعود يقرؤه : " يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ " على هذا التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 15664 - " إسرائيل " ، هو " إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي " مضى مرارًا كثيرة .
و " إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي " ، ثقة ، متكلم فيه ، مضى برقم : 1291 في نحو هذا الإسناد .
و " مجاهد " هو " مجاهد بن جبر المكي المخزومي " ، الإمام الثقة ، روى عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة .
فهذا خبر صحيح الإسناد من إسرائيل ، إلى مجاهد .
أما " الحارث " ، فهو " الحارث بن أبي أسامة " ، وهو ثقة ، مضى برقم : 10295 ، وغيره .
وأما " عبد العزيز " ، فهو " عبد العزيز بن أبان الأموي " ، من ولد " سعيد بن العاص ابن أمية " ، وهو كذاب خبيث يضع الأحاديث . مضى برقم : 10295 ، وغيره ، راجع فهارس الرجال .
فمن هذا ضعف إسناده ، حتى أجد له رواية عن غير الكذاب ، كما قاله أهل الجرح والتعديل . هذا ، وقد جاء في هذا الخبر ذكر " سعيد بن العاص بن أمية " ، مبينًا ، وكنت قلت في التعليق على رقم : 15659 أن " سعيد بن العاص بن أمية " مات مشركًا قبل يوم بدر ، فلذلك لم يصح عندنا قوله في ذلك الخبر " قتلت سعيد بن العاص " . أما في هذا الخبر ، فإنه مستقيم ، لأنه قال : " أخذت سيف سعيد بن العاص " ، فسيفه بلا ريب كان مشهورًا معروفًا عند سعد بن أبي وقاص ، وكان عند ولده المقتول ببدر " العاص بن سعيد بن العاص " ، وظاهر أنه كان معه يقاتل به يوم بدر فقتل وهو معه ، فأخذه سعد بن أبي وقاص . ومع ذلك يظل أمر الاختلاف في قتل " العاص ابن سعيد بن العاص " قائمًا كما هو ، أقتله على بن أبي طالب ، كما قال أصحاب السير والمغازي ، أم قتله سعد بن أبي وقاص ، كما دل عليه الخبر الصحيح عنه . راجع التعليق على رقم : 15659 . وانظر الروض الأنف 2 : 102 ، 103 وذكر هذا الاختلاف .
(2) انظر " عن " بمعنى " من " فيما سلف 1 : 446 ، تعليق : 6 .

(13/377)


15665 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرأونها : " يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ " .
15666 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : هي في قراءة ابن مسعود " يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ " .
* * *
* ذكر من قال ذلك :
15667 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، قال : " الأنفال " ، المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ، ليس لأحد منها شيء ، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سِلْكًا فهو غُلول. (1) فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها ، قال الله : يسألونك عن الأنفال ، قل : الأنفال لي جعلتها لرسولي ، ليس لكم فيها شيء " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ، ثم أنزل الله : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ) [سورة الأنفال : 41]. ثم قسم ذلك الخُمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن سمي في الآية. (2)
15668 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا. قال : واختلفوا ، فكانوا أثلاثًا. قال : فنزلت : " يسألونك
__________
(1) في المخطوطة : " في حبسه منه " ، والصواب ما في المطبوعة ، وهو مطابق لما في البيهقي . و " الغلول " ، هي الخيانة في المغنم ، والسرقة من الغنيمة .
(2) الأثر : 15667 - هذا الإسناد ، سلف بيانه برقم : 1833 ، 8472 ، وأنه إسناد منقطع ، لأن " على بن طلحة " لم يسمع من ابن عباس التفسير .
وهذا الخبر ، رواه البيهقي من هذه الطريق نفسها ، في السنن الكبرى 6 : 293 ، مطولا .

(13/378)


عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، وملَّكه الله رَسوله ، يقسمه كما أراه الله. (1)
15669 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر ، فنزلت : " يسألونك عن الأنفال " . (2)
15670 - . . . . قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن جويبر ، عن الضحاك : " يسئلونك عن الأنفال " ، قال : يسألونك أن تنفِّلهم.
15671 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة في قوله : " يسألونك عن الأنفال " ، قال : يسألونك الأنفال.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى أخبرَ في هذه الآية عن قوم سألوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يُعطيهموها ، فأخبرهم الله أنها لله ، وأنه جعلها لرسوله.
وإذا كان ذلك معناه ، جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله
__________
(1) في المطبوعة : " فقسمه " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 15669 - " عباد بن العوام الواسطي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد . مضى برقم : 5433 .
و " الحجاج " هو " الحجاج بن أرطاة النخعي " ، مضى برقم : 3299 ، 3960 ، 4246 ، 9631 ، 10138 ، وهو ثقة ، إلا أنه كان يدلس عن " عمرو بن شعيب " ، و قال محمد بن نصر : " الغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ " ، واشترطوا في حديثه التصريح بالسماع ، وهذا مما لم يصرح فيه السماع .
فهذا خبر ضعيف ، لهذه العلة .
و " عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص " ، أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال أبو زرعة : " إنما سمع أحاديث يسيرة ، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها " ، وهو ثقة في نفسه ، وأحاديثه " عن أبيه عن جده " ، محتملة ، ولكنهم لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا .

(13/379)


السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش.
* * *
واختلفوا فيها : أمنسوخة هي أم غير منسوخة ؟
فقال بعضهم : هي منسوخة. وقالوا : نسخها قوله : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) الآية [سورة الأنفال : 41] ، .
* ذكر من قال ذلك :
15672 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا كانت الأنفال لله وللرسول ، فنسختها : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ )
15673 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يسئلونك عن الأنفال " ، قال : أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفًا ، فاختصم فيه وناسٌ معه ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، فقال الله : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، الآية ، فكانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فنسخها الله بالخُمس.
15674 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني سليم مولى أم محمد ، عن مجاهد في قوله : " يسئلونك عن الأنفال " ، قال : نسختها : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ). (1)
__________
(1) الأثر : 15674 - " سليم مولى أم محمد " ، لم أجده ، والذي يروي عن مجاهد ، ويروي عنه ابن جربج ، فهو " سليم ، أبو عبيد الله مولى أم علي " ، مضى برقم : 4305 ، وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 2 \ 127 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 213 ، وهو من كبار أصحاب مجاهد ، ذكره ابن حبان في الثقات .

(13/380)


15675 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة أو : عكرمة وعامر قالا نسخت الأنفال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ).
* * *
وقال آخرون : هي محكمة ، وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك : " قل الأنفال لله " ، وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول ، يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه.
* ذكر من قال ذلك :
15676 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يسألونك عن الأنفال " ، فقرأ حتى بلغ : " إن كنتم مؤمنين " ، فسلَّموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا ، ويضعانها حيث أرادا ، فقالوا : نعم! ثم جاء بعد الأربعين : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) الآية [سورة الأنفال : 41] ، ولكم أربعة أخماس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر : " وهذا الخمس مردود على فقرائكم " ، يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس ما أحبَّا ، ويضعانه حيث أحبَّا ، ثم أخبرنا الله بالذي يجب من ذلك. ثم قرأ الآية : ( وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) [سورة الحشر : 7] .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، يُنفِّل من شاء ، فنفّل القاتل السَّلَب ، وجعل للجيش في البَدْأة الربع ، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. (1) ونفَّل
__________
(1) " البدأة " ، ابتداء سفر الغزو ، " الرجعة " القفول منه . وكان إذا نهضت سرية من جملة العسكر المقبل على العدو ، فأوقعت بطانته من العدو ، فما غنموا كان لهم الربع ، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباع ما غنموا . وإذا فعلت ذلك عند عود العسكر ، كان لهم من جميع ما غنموا الثلث ، لأن الكرة الثانية أشق عليهم ، والخطر فيها أعظم . وذلك لقوة الظهر عند دخولهم ، وضعفه عند خروجهم . وهم في الأول أنشط وأشهي للسير والإمعان في بلاد العدو ، وهم عند القفول أضعف وأفتر وأشهي للرجوع إلى أوطانهم ، فزادهم لذلك .

(13/381)


قومًا بعد سُهْمَانهم بعيرًا بعيرًا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، ينفِّل على ما يرى مما فيه صلاحُ المسلمين ، وعلى من بعده من الأئمة أن يستَنّوا بسُنته في ذلك.
وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ ، لاحتمالها ما ذكرتُ من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادثُ حكمٍ بخلافه ، ينفيه من كل معانيه ، أو يأتي خبرٌ يوجب الحجةَ أن أحدهما ناسخٌ الآخرَ. (1)
* * *
وقد ذكر عن سعيد بن المسيب : أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تأويلا منه لقول الله تعالى : " قل الأنفال لله والرسول " .
15677 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو قال : أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء ، فقال : إنكم أرسلتم إلي تسألوني عن الأنفال ، فلا نَفَل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
وقد بينا أن للأئمة أن يتأسَّوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله ، فينفِّلوا على نحو ما كان ينفل ، إذا كان التنفيل صلاحًا للمسلمين.
* * *
__________
(1) انظر مقالة أبي جعفر في " النسخ " فيما سلف في فهارس الموضوعات ، وفهارس النحو والعربية وغيرهما .

(13/382)


القول في تأويل قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فخافوا الله أيها القوم ، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه ، وأصلحوا الحال بينكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله : " وأصلحوا ذات بينكم " .
فقال بعضهم : هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر ، وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اختلفوا في الغنيمة : أن يردَّ ما أصابوا منها بعضُهم على بعض. (1)
* ذكر من قال ذلك :
15678 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، قال : كان نبي الله ينفِّل الرجل من المؤمنين سَلَب الرجل من الكفار إذا قتله ، ثم أنزل الله : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، أمرهم أن يردَّ بعضهم على بعض.
15679 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفّل الرجل على قدر جِدّه وغَنَائه على ما رأى ، حتى إذا كان يوم بدر ، وملأ الناسُ أيديهم غنائم ، قال أهل الضعف من الناس : ذهب أهل القوة بالغنائم! فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : " قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، ليردَّ أهل القوة على أهل الضعف.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن يردوا " بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب .

(13/383)


وقال آخرون : هذا تحريج من الله على القوم ، ونهيٌ لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره.
* ذكر من قال ذلك :
15680 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا خالد بن يزيد وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قالا حدثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قول الله : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، قال : حَرَّج عليهم.
15681 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، قال هذا تحريجٌ من الله على المؤمنين ، أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم قال عباد ، قال سفيان : هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر.
15682 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ، أي لا تَسْتَبُّوا.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث " البين " .
فقال بعض نحويي البصرة : أضاف " ذات " إلى " البين " وجعله " ذاتًا " ، لأن بعضَ الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضًا يذكر نحو " الدار " و " الحائط " ، أنث " الدار " وذكر " الحائط " .
* * *
وقال بعضهم : إنما أراد بقوله : " ذات بينكم " ، الحال التي للبين ، فقال : وكذلك " ذات العشاء " ، يريد الساعة التي فيها العشاء ، قال : ولم يضعوا مذكرًا لمؤنث ، ولا مؤنثًا لمذكر ، إلا لمعنى.
* * *
قال أبو جعفر : هذا القول أولى القولين بالصواب ، للعلة التي ذكرتها له.
* * *

(13/384)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

وأما قوله : " وأطيعوا الله ورسوله " ، فإن معناه : وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال ، إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم ، فقد بين لكم وجوهه وسبله " إن كنتم مؤمنين " ، يقول : إن كنتم مصدقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم ، كما : -
15683 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ، فسلموا لله ولرسوله ، يحكمان فيها بما شاءا ، ويضعانها حيث أرادا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ، ويترك اتباعَ ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه ، والانقياد لحكمه ، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه ، وانقاد لأمره ، وخضع لذكره ، خوفًا منه ، وفَرَقًا من عقابه ، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها ، (1) وأيقن أنها من عند الله ، فازداد بتصديقه بذلك ، إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك ، تصديقًا. وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إيَّاهم إيمانًا (2) " وعلى ربهم يتوكلون " ، يقول : وبالله يوقنون ، في أن قضاءه فيهم ماضٍ ، فلا يرجون غيره ، ولا يرهبون سواه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص : 252 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " زيادة الإيمان " فيما سلف 7 : 405 .
(3) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 12 : 563 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/385)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15684 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : المنافقون ، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلّون إذا غابوا ، ولا يؤدُّون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، فأدوا فرائضه " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا " ، يقول : تصديقًا " وعلى ربهم يتوكلون " ، يقول : لا يرجون غيره.
15685 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : فَرِقت.
15686 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السدي : " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : إذا ذكر الله عند الشيء وجِلَ قلبه.
15687 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، يقول : إذا ذكر الله وَجِل قلبه.
15688 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وجلت قلوبهم " ، قال : فرقت.
15689 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن

(13/386)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وجلت قلوبهم " ، فرقت.
15690 - . . . . قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان قال : سمعت السدي يقول في قوله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو قال : يهمّ بمعصية أحسبه قال : فينزع عنه.
15691 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي الدرداء في قوله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : الوجل في القلب كإحراق السَّعَفة ، (1) أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى! قال : إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله ، فإن الدعاء يذهب بذلك.
15692 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ، قال : فرقًا من الله تبارك وتعالى ، ووَجلا من الله ، وخوفًا من الله تبارك وتعالى.
* * *
وأما قوله : " زادتهم إيمانًا " ، فقد ذكرت قول ابن عباس فيه. (2)
* * *
وقال غيره فيه ، ما : -
15693 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا " ، قال : خشية.
15694 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون " ، قال : هذا نعت أهل الإيمان ، فأثبت نَعْتهم ، ووصفهم فأثبت صِفَتهم.
* * *
__________
(1) " السعفة " ( بفتحتين ) ورق جريد النخل إذا يبس .
(2) يعني رقم : 15684 .

(13/387)


الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها ، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه ، من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقةٍ على من تجب عليهم نفقته ، فيؤدُّون حقوقهم " أولئك " ، يقول : هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال (1) " هم المؤمنون " ، لا الذين يقولون بألسنتهم : " قد آمنا " وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقًا ، لا يقيمون صلاة ولا يؤدُّون زكاة.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : " الذين يقيمون الصلاة " ، يقول : الصلوات الخمس " ومما رزقناهم ينفقون " ، يقول : زكاة أموالهم (2) " أولئك هم المؤمنون حقًّا " ، يقول : برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) : إلى قوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) [سورة النساء : 150 - 151] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا ، وجعل الكافر كافرًا حقًّا ، وهو قوله : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) [سورة التغابن : 2] .
__________
(1) انظر تفسير : " إقامة الصلاة " ، و " الرزق " ، و " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة ( قوم ) ، ( رزق ) ، ( نفق ) .
(2) انظر تفسير " حقا " فيما سلف من فهارس اللغة ( حقق ) .

(13/388)


أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

15696 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أولئك هم المؤمنون حقًّا " ، قال : استحقُّوا الإيمان بحق ، فأحقه الله لهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لهم درجات " ، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم " درجات " ، وهي مراتب رفيعة. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه " الدرجات " التي ذكر الله أنها لهم عنده ، ما هي ؟
فقال بعضهم : هي أعمال رفيعة ، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم.
* ذكر من قال ذلك :
15697 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد : " لهم درجات عند ربهم " ، قال : أعمال رفيعة. (2)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك مراتب في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
15698 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 12 : 289 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 15697 - " أبو يحيى القتات " ، ضعيف ، مضى برقم : 12139 .

(13/389)


سفيان ، عن هشام عن جبلة ، عن عطية ، عن ابن محيريز : " لهم درجات عند ربهم " ، قال : الدرجات سبعون درجة ، كل درجة حُضْر الفرس الجواد المضمَّر سبعين سنة. (1)
* * *
وقوله : " ومغفرة " ، يقول : وعفو عن ذنوبهم ، وتغطية عليها (2) " ورزق كريم " ، قيل : الجنة وهو عندي : ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش. (3)
15699 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، عن هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : " ومغفرة " ، قال : لذنوبهم " ورزق كريم " ، قال : الجنة.
* * *
__________
(1) الأثر : 15698 - " سفيان " هو ، الثوري .
و " هشام " هو : " هشام بن حسان القردوسي " ، مضى برقم : 2827 ، 7287 ، 9837 ، 10258.
و " جبلة " هو " جبلة بن سحيم التيمي " ، مضى برقم : 3003 ، 10258 ، زكان في المطبوعة والمخطوطة : " هشام بن جبلة " ، وهو خطأ صرف .
وأما " عطية " ، فلا أعرف من يكون ، وأنا في شك منه .
و " ابن محيريز " ، هو : " عبد الله بن محيريز الجمحي " ، مضى برقم : 8720 ، 10258 .
وهذا الخبر ، روى مثله في تفسير غير هذه الآية ، فيما سلف برقم : 10258 قال : " حدثنا علي بن الحسين الأزدي ، قال حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن جبلة ابن سحيم ، عن ابن محيريز " ، ليس فيه " ابن عطية " هذا الذي هنا .
و " الحضر " ( بضم فسكون ) ، ارتفاع الفرس في عدوه .
و " المضمر " ، هو الذي أعد للسباق والركض .
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) .
(3) انظر تفسير " كريم " فيما سلف 8 : 259 .

(13/390)


كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)

القول في تأويل قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه " الكاف " التي في قوله : " كما أخرجك " ، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق.
فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا : معنى ذلك : يقول الله : وأصلحوا ذات بينكم ، فإن ذلك خير لكم ، كما أخرج الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ ، فكان خيرًا له. (1)
* ذكر من قال ذلك :
15700 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين . كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " ، الآية ، أي : إن هذا خيرٌ لكم ، كما كان إخراجك من بيتك بالحق خيرًا لك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كما أخرجك ربك ، يا محمد ، من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم يكرهون القتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم.
* ذكر من قال ذلك :
15701 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة ، والمخطوطة : " كان خيرًا له " ، بغير فاء ، والصواب ما أثبت ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة .

(13/391)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " ، قال : كذلك يجادلونك في الحق.
15702 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " ، كذلك يجادلونك في الحقِّ ، القتالِ.
15703 - . . . . قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " ، قال : كذلك أخرجك ربك. (1)
15704 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أنزل الله في خروجه يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، ومجادلتهم إياه فقال : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون " ، لطلب المشركين ، " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " .
* * *
واختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي الكوفيين : ذلك أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضي لأمره في الغنائم ، على كره من أصحابه ، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون. (2)
* * *
وقال آخرون منهم : معنى ذلك : يسألونك عن الأنفال مجادلةً ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : " أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له " .
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، ولعل الصواب : " قال : كذلك يجادلونك " ، وهو ما تدل عليه الآثار السالفة عن مجاهد .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 403

(13/392)


وقال بعض نحويي البصرة ، يجوز أن يكون هذا " الكاف " في(كما أخرجك) ، على قوله : (أولئك هم المؤمنون حقًّا) ، (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق). وقال : " الكاف " بمعنى " على " . (1)
* * *
وقال آخرون منهم (2) هي بمعنى القسم. قال : ومعنى الكلام : والذي أخرجك ربّك. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد ، وقال : معناه : كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين لأن كلا الأمرين قد كان ، أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا ، وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض ، فتشبيه بعض ذلك ببعض ، مع قرب أحدهما من الآخر ، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه.
* * *
وقال مجاهد في " الحق " الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما تبينوه : هو القتال.
15705 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يجادلونك في الحق) ، قال : القتال.
15706 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " وقيل : الكاف ... " ، كأنه قول آخر ، والصواب ما في المخطوطة . ولعل قائل هذا هو الأخفش ، لأنه الذي قال : " الكاف بمعنى : على " ، وزعم أن من كلام العرب إذا قيل لأحدهم : " كيف أصبحت " ، أن يقول : " كخير " ، والمعنى : على خير .
وانظر تفسير " كما " فيما سلف 3 : 209 ، في قوله تعالى : " كما أرسلنا فيكم رسولا " [ سورة البقرة : 151 ] .
(2) في المطبوعة : " وقال آخرون " ، جمعًا ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وقائل ذلك هو أبو عبيدة معمر بن المثنى .
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 240 ، 241 .

(13/393)


15707 - حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وأما قوله : (من بيتك) ، فإن بعضهم قال : معناه : من المدينة.
* ذكر من قال ذلك :
15708 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي بزة : (كما أخرجك ربك من بيتك) ، المدينة ، إلى بدر.
15709 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) ، قال : من المدينة إلى بدر.
* * *
وأما قوله : (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون) ، فإن كراهتهم كانت ، كما : -
15710 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس ، قالوا : لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم ، ندب إليهم المسلمين ، (1) وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، (2) فاخرجوا إليها ، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس ، فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. (3)
15711 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون) ، لطلب المشركين.
* * *
__________
(1) " ندب الناس إلى حرب أو معونة ، فانتدبوا " ، أي : دعاهم فاستجابوا وأسرعوا إليه .
(2) " العير " ، ( بكسر العين ) : القافلة ، وكل ما امتاروا عليه من أبل وحمير وبغال . وهي قافلة تجارة قريش إلى الشام .
(3) الأثر : 15710 - سيرة ابن هشام 2 : 257 ، 258.

(13/394)


ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : (يجادلونك في الحق بعد ما تبين).
فقال بعضهم : عُني بذلك : أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين.
* ذكر من قال ذلك :
15712 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم ، وقال له سعد بن عبادة ما قال ، وذلك يوم بدر ، أمرَ الناس ، فتعبَّوْا للقتال ، (1) وأمرهم بالشوكة ، وكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) .
15713 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم ذكر القومَ يعني أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم ، وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة ، فقال : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) ، إلى قوله : (لكارهون) ، أي كراهيةً للقاء القوم ، وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم. (2)
* * *
وقال آخرون : عُني بذلك المشركون.
* ذكر من قال ذلك :
15714 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في
__________
(1) " عبى الجيش " و " عبأة " بالهمز ، واحد . و " تعبوا للقتال " و " تعبأوا " ، تهيأوا له .
(2) الأثر : 15713 - سيرة ابن هشام 2 : 322 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15655 .

(13/395)


قوله : (يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق (1) " كأنما يساقون إلى الموت " ، حين يدعون إلى الإسلام(وهم ينظرون) ، قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.
15715 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعقوب بن محمد قال ، حدثني عبد العزيز بن محمد ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر : (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العِير. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق ، من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو ، وكان جدالهم نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا : " لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير " . ومما يدلّ على صحته قولُه (3) ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ) ، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله ، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين ، وأن جدالهم كان في القتال ، كما قال مجاهد ، كراهيةً منهم له وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد ، لأن الذي قبل قوله : (يجادلونك في الحق) ، خبرٌ عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه
__________
(1) في المطبوعة : " جادلوك " ، وأثبت الصواب الجيد من المخطوطة .
(2) الأثر : 15715 - " يعقوب بن محمد الزهري " ، مضى قريبًا برقم 15654 ، وهو يروي عن ابن أخي الزهري مباشرة ، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة .
و " عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي " ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 10676 .
و " ابن أخي الزهري " ، هو " محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري " ، ثقة ، متكلم فيه ، روى له الجماعة . يروي عن عمه " ابن شهاب الزهري " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " على صحة قوله " ، والصواب ما أثبت .

(13/396)


خبرٌ عنهم ، فأن يكون خبرًا عنهم ، أولى منه بأن يكون خبرًا عمن لم يجرِ له ذكرٌ.
* * *
وأما قوله : (بعد ما تبين) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله.
* ذكر من قال ذلك :
15816 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.
* * *
وقال آخرون : معناه : يجادلونك في القتال بعدما أمرت به.
* ذكر من قال ذلك :
15717 - رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس. (1)
* * *
وأما قوله : (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، فإن معناه : كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال ، " يساقون إلى الموت " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15718 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، أي كراهةً للقاء القوم ، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 15717 - هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة ، لم يذكر نصًا ، وكأن صواب العبارة : " رواه الكلبي ... " .
(2) الأثر : 15718 - سيرة بن هشام 2 : 322 ، وهو جزء من الخبر السالف رقم : 15713 .

(13/397)


وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واذكروا ، أيها القوم(إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، يعني إحدى الفرقتين ، (1) فرقة أبي سفيان بن حرب والعير ، وفرقة المشركين الذين نَفَروا من مكة لمنع عيرهم.
* * *
وقوله : (أنها لكم) ، يقول : إن ما معهم غنيمة لكم(وتودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم) ، يقول : وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة يقول : ليس لها حدٌّ ، (2) ولا فيها قتال أن تكون لكم. يقول : تودُّون أن تكون لكم العيرُ التي ليس فيها قتال لكم ، دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم ، الذين في لقائهم القتالُ والحربُ.
* * *
وأصل " الشوكة " من " الشوك " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15719 - حدثنا علي بن نصر ، وعبد الوارث بن عبد الصمد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أن أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكبان قريش مقبلين من الشأم ، (3) فسلكوا طريق الساحل. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ندب أصحابه ، وحدّثهم بما معهم من الأموال ، وبقلة عددهم. فخرجوا
__________
(1) انظر تفسير " الطائفة " فيما سلف 12 : 560 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) " الحد " ( بفتح الحاء ) هو : الحدة ( بكسر الحاء ) ، والبأس الشديد ، والنكاية .
(3) " الركبان " و " الركب " ، أصحاب الإبل في السفر ، وهو اسم جمع لا واحد له .

(13/398)


لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه ، لا يرونها إلا غنيمة لهم ، لا يظنون أن يكون كبيرُ قتالٍ إذا رأوهم. وهي التي أنزل الله فيها (1) (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) . (2)
15720 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، (3) عن عبد الله بن عباس ، كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم ، ندب المسلمين إليهم وقال : هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعض ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. وكان أبو سفيان يستيقن حين دنا من الحجاز ويتحسس الأخبار ، (4) ويسأل من لقي من الركبان ، تخوفًا على
__________
(1) في المطبوعة : " وهي ما أنزل الله " ، وفي المخطوطة : " وهي أنزل الله " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري .
(2) الأثر : 15719 - " علي بن نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضي " ، الثقة الحافظ ، شيخ الطبري ، روى عنه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، والبخاري ، في غير الجامع الصحيح . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 207 .
و " عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري " ، شيخ الطبري . ثقة ، مضى برقم : 2340 .
وأبوه : " عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، ثقة ، مضى برقم : 3832 ، 9656 .
وهذا الخبر رواه أبو جعفر ، بإسناده هذا في التاريخ 2 : 267 ، مطولا مفصلا ، وهو كتاب من عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان . وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان كتاب طويل رواه الطبري مفرقًا في التاريخ ، وسأخرجه مجموعًا في تعليقي على الأثر 16083 .
(3) القائل " من علمائنا ... " إلى آخر السياق ، هو محمد بن إسحاق .
(4) في المطبوعة ، وفي تاريخ الطبري ، وفي سيرة ابن هشام : " وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس " ، ليس فيها " يستقين " ، وليس فيها واو العطف في " يتحسس " ، ولكن المخطوطة واضحة ، فأثبتها .
وكان في المطبوعة : " يتجسس " بالجيم ، وإنما هي بالحاء المهملة ، و " تحسس الخبر " ، تسمعه بنفسه وتبحثه وتطلبه .

(13/399)


أموال الناس ، (1) حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : " أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعِيرك " ! (2) فحذر عند ذلك ، واستأجر ضمضم بن عمرو الغِفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة. (3) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديًا يقال له " ذَفِرَان " ، فخرج منه ، (4) حتى إذا كان ببعضه ، نزل ، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ ، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر رضوان الله عليه ، فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه ، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض إلى حيث أمرك الله ، فنحن معك ، والله ، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [سورة المائدة : 24] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق ، لئن سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد يعني : مدينة الحبشة (5) لجالدنا معك مَن دونه حتى تبلغه! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ثم دعا له بخيرٍ ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا عليّ أيها الناس! وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عَدَدَ الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة قالوا : " يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا ، (6) نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا " ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نُصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، (7) وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم قال : فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل! قال : فقد آمنا بك وصدَّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضته لخُضناه معك ، (8) ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا ، (9) إنا لصُبُرٌ عند الحرب ، صُدُقٌ عند اللقاء ، (10) لعلّ الله أن يريك منا ما تَقرُّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله! فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، (11) والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غدًا " . (12)
15721 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أن أبا سفيان أقبل في عير من الشأم فيها تجارة قريش ، وهي اللَّطيمة ، (13) فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أقبلت ، فاستنفر الناس ، فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلا. فبعث عينًا له من جُهَينة ، حليفًا للأنصار ، يدعى " ابن أريقط " ، (14) فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم ، فبعث رجلا من بني غِفار يدعى ضمضم بن عمرو ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشعر بخروج قريش ، فأخبره الله بخروجهم ، فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا : " إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا " ! فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العِير ، فقال له أبو بكر رحمة الله عليه : إنّي قد سلكت هذا الطريق ، فأنا أعلم به ، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد فشاورهم ، فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة ، تكلم سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول الله ، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك ، وتعود فتشاورهم ، فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك ، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار! أنت رسول الله ، وعليك أنزل الكتاب ، وقد أمرك الله بالقتال ، ووعدك النصر ، والله لا يخلف الميعاد ، امض لما أمرت به ، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار! ثم قام المقداد بن الأسود الكندي فقال : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
__________
(1) في المطبوعة : " تخوفًا من الناس " ، وفي سيرة ابن هشام : " تخوفًا على أمر الناس " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري .
(2) " استنفر الناس " ، استنجدهم واستنصرهم ، وحثهم على الخروج للقتال .
(3) عند هذا الموضع انتهي ما في سيرة ابن هشام 2 : 257 ، 258 ، وسيصله بالآتي في السيرة بعد 2 : 266 ، وعنده انتهي الخبر في تاريخ الطبري 2 : 270 ، وسيصله بالآتي في التاريخ أيضًا 2 : 273 .
وانظر التخريج في آخر هذا الخبر .
(4) في السيرة وحدها " فجزع فيه " ، وهي أحق بهذا الموضع ، ولكني أثبت ما في لمطبوعة والمخطوطة والتاريخ . و " جزع الوادي " ، قطعه عرضًا .
(5) " برك الغماد " ، " برك " ( بفتح الباء وكسرها ) ، و " الغماد " ، ( بكسر الغين وضمها " . قال الهمداني : " برك الغماد " ، في أقاصي اليمن ( معجم ما استعجم : 244 ) .
(6) " الذمام " و " الذمة " ، العهد والكفالة والحرمة .
(7) في المطبوعة " خاف أن لا تكون الأنصار " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام ، وتاريخ الطبري . و " يتخوف " ساقطة من المخطوطة .
و " دهمه " ( بفتح الهاء وكسرها ) : إذا فاجأه على غير استعداد .
(8) " استعرض البحر ، أو الخطر " : أقبل عليه لا يبالي خطره . وهذا تفسير للكلمة ، استخرجته ، لا تجده في المعاجم .
(9) في المطبوعة : " أن يلقانا عدونا غدًا " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهذا هو الموافق لما في سيرة ابن هشام ، وتاريخ الطبري .
(10) " صدق " ( بضمتين ) جمع " صدوق " ، مجازه : أن يصدق في قتاله أو عمله ، أي يجد فيه جدًا ، كالصدق في القول الذي لا يخالطه كذب ، أي ضعف .
(11) قوله في آخر الجملة الآتية " غدًا " ، ليست في سيرة ابن هشام ولا في التاريخ ، ولكنها ثابتة في المخطوطة .
(12) الأثر : 15720 - هذا الخبر ، روى صدر منه فيما سلف : 15710 . وهو في سيرة ابن هشام مفرق 2 : 257 ، 258 ، ثم 2 : 266 ، 267 .
وفي تاريخ الطبري 2 : 270 ثم 2 : 273 ، ثم تمامه أيضًا في : 273 .
(13) " اللطيمة " ، هو الطيب ، و " لطيمة المسك " ، وعاؤه ثم سموا العير التي تحمل الطيب والعسجد ، ونفيس بز التجار : " اللطيمة " .
(14) في المطبوعة : " ابن الأريقط " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/400)


فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [سورة المائدة : 24] ، ولكنا نقول : أقدم فقاتل ، إنا معك مقاتلون! ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وقال : إن ربي وعدني القوم ، وقد خرجوا ، فسيروا إليهم! فساروا.
15722 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال : الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم ، والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال ، وأحبوا أن يلقوا العير ، وأراد الله ما أراد.
15723 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، قال : أقبلت عير أهل مكة يريد : من الشأم (1) فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة ، فسارعوا السير إليها ، لا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين ، فكانوا أن يلقوا العير أحبَّ إليهم ، وأيسر شوكة ، وأحضر مغنمًا. فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكةٍ في القوم.
15724 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال : أرادوا العير. قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول ، فأغار
__________
(1) في المخطوطة : " يريد الشأم " ، وما في المطبوعة هو الصواب .

(13/403)


كُرْز بن جابر الفهري يريد سَرْح المدينة حتى بلغ الصفراء ، (1) فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فركب في أثره ، فسبقه كرز بن جابر. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقام سنَتَه. ثم إن أبا سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش ، حتى إذا كان قريبًا من بدر ، نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، فنفر النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين ، وهم يومئذ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا منهم سبعون ومئتان من الأنصار ، وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم ، (2) فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة ، فنفرت قريش وغضبت.
15725 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال : كان جبريل عليه السلام قد نزل فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها ، ووعده إما العيرَ ، وإما قريشًا وذلك كان ببدر ، وأخذوا السُّقاة وسألوهم ، فأخبروهم ، فذلك قوله : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، هم أهل مكة.
__________
(1) " السرح " ، المال يسام في المرعى ، من الأنعام والماشية ترعى . و " الصفراء " قرية فويق ينبع ، كثيرة المزارع والنخل ، وهي من المدينة على ست مراحل ، وكان يسكنها جهينة والأنصار ونهد .
(2) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ، ولم أجد مكانًا ولا شيئا يقال له " البطم " ، وأكاد أقطع أنه تحريف محض ، وأن صوابه ( بِإضَمٍ ) . و " إضم " واد بجبال تهامة ، وهو الوادي الذي فيه المدينة . يسمى عند المدينة " قناة " ، ومن أعلى منها عند السد يسمى " الشظاة " ، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى " إضما " . وقال ابن السكيت : " إضم " ، واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر ، وأعلى إضم " القناة " التي تمر دوين المدينة . و " إضم " من بلاد جهينة .
والمعروف في السير أن أبا سفيان في تلك الأيام ، نزل على ماء كان عليه مجدى بن عمير الجهني ، فلما أحس بخبر المسلمين ، ضرب وجه عيره ، فساحل بها ، وترك بدرًا بيسار . فهو إذن قد نزل بأرض جهينة ، و " إضم " من أرضهم ، وهو يفرغ إلى البحر ، فكأن هذا هو الطريق الذي سلكه . ولم أجد الخبر في مكان حتى أحقق ذلك تحقيقًا شافيًا .

(13/404)


15726 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، إلى آخر الآية ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهم يريدون يعترضون عِيرًا لقريش. قال : وخرج الشيطان في صورة سُرَاقة بن جعشم ، حتى أتى أهل مكة فاستغواهم ، وقال : إنّ محمدًا وأصحابه قد عرضوا لعيركم! وقال : لا غالبَ لكم اليوم من الناس من مثلكم ، وإنّي جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله! فخرجوا ونادوا أن لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه! وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالروحاء عينًا للقوم ، فأخبره بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد وعدكم العير أو القوم! فكانت العير أحبّ إلى القوم من القوم ، كان القتال في الشوكة ، والعير ليس فيها قتال ، وذلك قول الله عز وجل : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال : " الشوكة " ، القتال ، و " غير الشوكة " ، العير.
15727 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن ابن أبي حبيب ، عن أبي عمران ، عن أبي أيوب قال : أنزل الله جل وعز : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) ، فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا ، طابت أنفسنا : و " الطائفتان " ، عِير أبي سفيان ، أو قريش. (1)
__________
(1) الأثر : 15727 - " يعقوب بن محمد الزهري " ، سلف قريبًا رقم : 15715 .
و " عبد الله بن وهب المصري " ، الثقة ، مضى برقم 6613 ، 10330 .
و " ابن لهيعة " ، مضى الكلام في توثيقه مرارًا .
و " ابن أبي حبيب " ، هو " يزيد بن أبي حبيب المصري " ، ثقة مضى مرارًا كثيرة .
و " أبو عمران " هو : " أسلم أبو عمران " ، " أسلم بن يزيد التجيبي " ، روى عن أبي أيوب ، تابعي ثقة ، وكان وجيهًا بمصر . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 25 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 307 . وسيأتي في هذا الخبر بإسناد آخر ، في الذي يليه .
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 73 ، 74 مطولا ، وقال : " رواه الطبراني ، وإسناده حسن " .

(13/405)


15728 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران الأنصاري ، أحسبه قال : قال أبو أيوب : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قالوا : " الشوكة " القوم و " غير الشوكة " العير ، فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين ، إما العير وإما القوم ، طابت أنفسنا. (1)
15729 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني يعقوب بن محمد قال ، حدثني غير واحد في قوله : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، إن " الشوكة " ، قريش.
15730 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، هي عير أبي سفيان ، ودّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم ، وأن القتال صُرِف عنهم.
15731 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، أي الغنيمة دون الحرب. (2)
* * *
وأما قوله : (أنها لكم) ، ففتحت على تكرير " يعد " ، وذلك أن قوله : (يعدكم الله) ، قد عمل في " إحدى الطائفتين " .
فتأويل الكلام : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم ، كما قال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) . [سورة محمد : 18]. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 15728 - " أسلم ، أبو عمران الأنصاري " ، هو الذي سلف في الإسناد السابق ، وسلف تخريجه .
(2) الأثر : 15731 - سيرة ابن هشام 2 : 322 ، وهو تابع الأثريين السالفين ، رقم : 15713 ، 15718 .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 404 ، وزاد " فأن ، في موضع نصب كما نصب الساعة " .

(13/406)


قال : (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، فأنث " ذات " ، لأنه مراد بها الطائفة. (1) ومعنى الكلام : وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم ، دون الطائفة ذات الشوكة.
القول في تأويل قوله : { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) }
* * *
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويريد الله أن يحق الإسلام ويعليه (2)
" بكلماته " ، يقول : بأمره إياكم ، أيها المؤمنون ، بقتال الكفار ، وأنتم تريدون الغنيمة ، والمال (3) وقوله : (ويقطع دابر الكافرين) ، يقول : يريد أن يَجُبَّ أصل الجاحدين توحيدَ الله.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى " دابر " ، وأنه المتأخر ، وأن معنى : " قطعه " ، الإتيان على الجميع منهم. (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15731 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قول الله : (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) ، أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم ، هذا خيرٌ لكم من العير.
__________
(1) انظر ما قاله آنفًا في " ذات بينكم " ص : 384 .
(2) انظر تفسير " حق " فيما سلف من فهارس اللغة ( حقق ) .
(3) انظر تفسير " كلمات الله " فيما سلف 11 : 335 ، وفهارس اللغة ( كلم ) .
(4) انظر تفسير " قطع الدابر " 11 : 363 ، 364 \ 12 : 523 ، 524 .

(13/407)


لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

15732 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) ، أي : الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين ، كيما يحق الحق ، كيما يُعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام ، ويعزّ الإسلام ، وذلك هو " تحقيق الحق " (ويبطل الباطل) ، يقول ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر ، ولو كره ذلك الذين أجرموا فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار. (2)
15733 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ، هم المشركون.
* * *
وقيل : إن " الحق " في هذا الموضع ، الله عز وجل.
* * *
__________
(1) الأثر : 15731 - سيرة ابن هشام 2 : 322 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15730.
(2) انظر تفسير " المجرم " فيما سلف ص : 70 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(13/408)


إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)

القول في تأويل قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ويبطل الباطل " ، حين تستغيثون ربكم ف " إذْ " من صلة " يبطل " .
* * *

(13/408)


ومعنى قوله : (تستغيثون ربكم) ، تستجيرون به من عدوكم ، وتدعونه للنصر عليهم " فاستجاب لكم " فأجاب دعاءكم ، (1) بأني ممدكم بألف من الملائكة يُرْدِف بعضهم بعضًا ، ويتلو بعضهم بعضًا. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . * ذكر الأخبار بذلك :
15734 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة بن عمار قال ، حدثني سماك الحنفي قال ، سمعت ابن عباس يقول : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ، ونظرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعِدّتهم ، ونظر إلى أصحابه نَيِّفا على ثلاثمئة ، فاستقبل القبلة ، فجعل يدعو يقول : " اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض! " ، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضع رداءه عليه ، ثم التزمه من ورائه ، (3) ثم قال : كفاك يا نبي الله ، بأبي وأمي ، مناشدتَك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك! فأنزل الله : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) . (4)
__________
(1) انظر تفسير " استجاب " فيما سلف ص : 321 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإمداد " فيما سلف 1 : 307 ، 308 \ 7 : 181 .
(3) " التزمه " ، احتضنه أو اعتنقه .
(4) الأثر : 15734 - " عكرمة بن عمار اليمامي العجلي " ، ثقة ، مضى برقم : 849 ، 2185 ، 8224 ، 13832 .
و " سماك الحنفي " ، هو " سماك بن الوليد الحنفي " ، " أبو زميل " ، ثقة . مضى برقم : 13832 .
وهذا الخبر ، رواه مسلم في صحيحه 12 : 84 - 87 ، مطولا من طريق هناد بن السري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة .
رواه أحمد في مسنده رقم : 208 ، 221 ، من طريق أبي نوح قراد ، عن عكرمة ابن عمار . مطولا .
وروى بعضه أبو داود في سننه 3 : 82 .
ورواه الترمذي في كتاب التفسير ، مختصرًا ، من طريق محمد بن بشار ، عن عمر بن يونس اليمامي ، عن عكرمة ، وقال " هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه من حديث عمر ، إلا من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل " .
ورواه أبو جعفر الطبري في تاريخه ، من الطريق نفسها 2 : 280 .

(13/409)


15735 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : لما اصطفَّ القوم ، قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : يا رب ، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا!
15736 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ربنا أنزلت علي الكتاب ، وأمرتني بالقتال ، ووعدتني بالنصر ، ولا تخلف الميعاد! فأتاه جبريلُ عليه السلام ، فأنزل الله : ( أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ، (1)
[سورة ال عمران : 124 - 125] .
15737 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع قال : كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول : اللهم انصر هذه العصابة ، فإنك إن لم تفعل لن تعبد في الأرض! قال : فقال أبو بكر : بعضَ مناشدتك مُنْجِزَك ما وعدك. (2)
__________
(1) الأثر : 15736 - هذا الخبر لم يذكره أبو جعفر في تفسير آية سورة آل عمران 7 : 173 - 190 .
(2) الأثر : 15737 - " أبو إسحاق " ، هو الهمداني السبيعي ، وكان في المطبوعة " ابن إسحاق " غير ما في المخطوطة ، فأساء .
و " زيد بن يثيع الهمداني " ، ويقال : " ... أثيع " و " أثيل " . آخره لام . روى عن أبي بكر الصديق ، وعلي ، وحذيفة ، وأبي ذر ، وعنه أبو إسحاق السبيعي فقط . ذكره ابن حبان في الثقات ، مترجم في التهذيب ، وابن سعد : 155 ، والكبير 2 \ 1 \ 373 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 573 في " زيد بن نفيع الهمداني " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه ، ولكن العجب أنه كان هناك في المطبوعة والمخطوطة ، " زيد بن نفيع " أيضًا .
و " يثيع " بالياء والثاء ، مصغرًا ، هكذا ضبط . وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق : 249 : " يثيع " " يفعل " من " ثاع ، يثيع " ، إذا اتسع وانبسط .

(13/410)


15738 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره ، فأنزل الله عليه الملائكة.
15739 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (إذ تستغيثون ربكم) ، قال : دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
15740 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إذ تستغيثون ربكم) ، أي : بدعائكم ، حين نظروا إلى كثرة عدوهم وقلة عددهم " فاستجاب لكم " ، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه. (1)
15741 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو ، (2) فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله ، بعض نِشْدَتك ، فوالله ليفيَنَّ الله لك بما وعدك!
* * *
وأما قوله : (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، فقد بينا معناه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 15740 - سيرة ابن هشام 2 : 322 ، 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15731 ، وليس في سيرة ابن هشام " معه " ، في آخر الخبر .
(2) " النشدة " ( بكسر فسكون ) مصدر : " نشدتك الله " ، أي سألتك به واستحلفتك .
(3) انظر ما سلف ص : 409 .

(13/411)


15742 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، يقول : المزيد ، كما تقول : " ائت الرجل فزده كذا وكذا " .
15743 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن عنترة [عن أبيه] ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (مردفين) ، قال : متتابعين. (1)
15744 - . . . . قال ، حدثني أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، [عن أبيه] ، عن ابن عباس ، مثله. (2)
15745 - حدثني سليمان بن عبد الجبار قال ، حدثنا محمد بن الصلت قال ، حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، قال : وراء كل ملك ملك. (3)
15746 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (مردفين) ، قال : متتابعين. (4)
15747 - . . . . قال ، حدثنا هانئ بن سعيد ، عن حجاج بن أرطأة ،
__________
(1) الأثر : 15743 - " أحمد بن بشير الكوفي " ، مضى برقم 7819 ، 11084 .
و " هارون بن عنترة بن عبد الرحمن " ، مضى مرارًا كثيرة آخرها : 11084 .
وأبوه " عنترة بن عبد الرحمن " ، مضى أيضًا ، انظر رقم 11084 .
(2) الأثر : 15744 . زيادة " عن أبيه " بين قوسين ، هو ما أرجح أنه الصواب ، وأن إسقاطها من الناسخ . انظر الإسناد السالف .
(3) الأثر : 15745 - " سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 5994 ، 9745 .
و " محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي " ، مضى برقم : 3002 ، 5994 ، 9745 .
و " أبو كدينة " ، " يحيى بن المهلب البجلي " ، مضى برقم : 4193 ، 5994 ، 9745 .
و " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي " ، مضى برقم : 9745 ، 10683 .
وأبوه " أبو ظبيان " ، هو : " حصين بن جندب الجنبي " ، مضى برقم : 9745 ، 10683 .
(4) الأثر : 15746 - انظر رجال الأثر السالف .

(13/412)


عن قابوس قال : سمعت أبا ظبيان يقول : (مردفين) ، قال : الملائكة ، بعضهم على إثر بعض. (1)
15748 - . . . . قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : (مردفين) ، قال : بعضهم على إثر بعض.
15749 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
15750 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (مردفين) ، قال : ممدِّين قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : (مردفين) ، " الإرداف " ، الإمداد بهم.
15751 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (بألف من الملائكة مردفين) ، أي متتابعين.
15752 - حدثنا [محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور] قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (بألف من الملائكة مردفين) ، يتبع بعضهم بعضًا. (2)
__________
(1) الأثر : 15747 - " هانئ بن سعيد النخعي " ، شيخ ابن وكيع ، سلف برقم : 13159 ، 13965 ، 14836 .
(2) الأثر : 15752 - صدر هذا الإسناد خطأ لا شك فيه . وهو كما وضعته بين القوسين ، جاء في المطبوعة . أما المخطوطة ، فهو فيها هكذا : " حدثنا محمد بن عبد الله قال ، حدثنا محمد ابن ثور قال ، حدثنا بن عبد الأعلى قال حدثنا أحمد بن المفضل ... " ، وهو خلط لا ريب ، وهما إسنادان .
فالإسناد الأول ، هو : " حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد ثور ، عن معمر ... " ، وهو إسناد دائر في التفسير .
والإسناد الثاني ، وهو هذا كما يجب أن يكون :
" حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ... " ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 15738 .
وظاهر أنه قد سقط تمام إسناد " محمد بن عبد الأعلى " .

(13/413)


15753 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (مردفين) ، قال : " المردفين " ، بعضهم على إثر بعض ، يتبع بعضهم بعضًا.
15754 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (بألف من الملائكة مردفين) ، يقول : متتابعين ، يوم بدر.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة : " مُرْدَفِينَ " ، بنصب الدال.
* * *
وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين والبصريين : (مُرْدِفِينَ) .
* * *
وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك ، ويقول فيما ذكر عنه : هو من " أردف بعضهم بعضًا " .
* * *
وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب وقال : إنما " الإرداف " ، أن يحمل الرجل صاحبه خلفه. قال : ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر.
* * *
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرئ بفتح الدال أو بكسرها.
فقال بعض البصريين والكوفيين : معنى ذلك إذا قرئ بالكسر : أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضًا ، على لغة من قال : " أردفته " . وقالوا : العرب تقول : " أردفته " . و " رَدِفته " ، بمعنى " تبعته " و " أتبعته " ، واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر : (1)
__________
(1) هو : حزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ، من قدماء الشعراء في الجاهلية . و " حزيمة " بالحاء المهملة المفتوحة ، وكسر الزاي ، هكذا ضبطه في تاج العروس ، وقال : " وحزيمة بن نهد " في قضاعة . وهو في كتب كثيرة " خزيمة بن نهد " ، أو " خزيمة بن مالك بن نهد " ( اللسان : ردف ) . وقد قرأت في جمهرة الأنساب لابن حزم : 418 ، أن " نهد بن زيد " ، ولد " خزيمة " و " حزيمة " ، فهذا يقتضي التوقف والنظر في ضبطه ، وأيهما كان صاحب القصة والشعر . وإن كان الأرجح هو الأول .

(13/414)


إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا (1)
قالوا : فقال الشاعر : " أردفت " ، وإنما أراد " ردفت " ، جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تجئ بعد الثريا.
وقالوا معناه إذا قرئ(مردَفين) ، أنه مفعول بهم ، كأن معناه : بألف من الملائكة يُرْدِف الله بعضهم بعضًا. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك ، إذا كسرت الدال : أردفت الملائكة بعضها بعضًا وإذا قرئ بفتحها : أردف الله المسلمين بهم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) ، بكسر الدال ، لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم ، أن معناه : يتبع بعضهم بعضًا ، ومتتابعين ففي إجماعهم على ذلك من التأويل ، الدليلُ الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال ، بمعنى : أردف بعض الملائكة بعضًا ، ومسموع من العرب : " جئت مُرْدِفًا لفلان " ، أي : جئت بعده.
وأما قول من قال : معنى ذلك إذا قرئ " مردَفين " بفتح الدال : أن الله أردفَ المسلمين بهم فقولٌ لا معنى له ، إذ الذكر الذي في " مردفين " من الملائكة دون المؤمنين. وإنما معنى الكلام : أن يمدكم بألف من الملائكة يُرْدَف بعضهم ببعض. ثم حذف ذكر الفاعل ، وأخرج الخبر غير مسمَّى فاعلُه ، فقيل : (مردَفين) ، بمعنى : مردَفٌ بعض الملائكة ببعض.
ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله ، وجب أن يكون في " المردفين " ذكر المسلمين ، لا ذكر الملائكة. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن.
__________
(1) الأغاني 13 : 78 ، معجم ما استعجم : 19 ، سمط اللآلئ : 100 ، شرح ديوان أبي ذؤيب : 145 . المعارف لا بن قتيبة : 302 ، الأزمنة والأمكنة 2 : 130 ، جمهرة الأمثال : 31 ، الأمثال للميداني 1 : 65 ، اللسان ( ردف ) ، ( قرظ ) .
وسبب هذا الشعر : أن حزيمة بن نهد كان مشئومًا فاسدًا متعرضًا للنساء ، فعلق فاطمة بنت يذكر ابن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار ، ( وهو أحد القارظين المضروب بهما المثل ) ، فاجتمع قومه وقومها في مربع ، فلما انقضى الربيع ، ارتحلت إلى منازلها فقيل له : يا حزيمة : لقد ارتحلت فاطمة ! قال : أما إذا كانت حية ففيها أطمع ! ثم قال في ذلك : إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
ظَنَنْتُ بِهَا ، وَظَنُّ المرء حُوبٌ ... وَإنْ أَوْفَى ، وَإِنْ سَكَنَ الحَجُونا
وَحَالَتْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هُمُومِي ... هُمُومٌ تُخْرِيُج الشَّجَنَ الدَّفينَا
أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فَحَلَّتْ ... جَنُوبَ الْحَزْنِ ، يا شَحَطًا مُبِينَا !
فبلغ ذلك ربيعة ، فرصدوه ، حتى أخذوه فضربوه . فمكث زمانًا ، ثم أن حزيمة قال ليذكر ابن عنزة : أحب أن تخرج حتى نأتي بقرظ . فمرا بقليب فاستقيا ، فسقطت الدلو ، فنزل يذكر ليخرجها . فلما صار إلى البئر ، منعه حزيمة الرشاء ، وقال : زوجني فاطمة ! فقال : على هذه الحال ، اقتسارًا ! أخرجني أفعل ! قال : لا أخرجك ! فتركه حتى مات فيها . فلما رجع وليس هو معه ، سأله عنه أهله ، فقال : فارقني ، فلست أدري أين سلك ! فاتهمته ربيعة ، وكان بينهم وبين قومه قضاعة في ذلك شر ، ولم يتحقق أمر فيؤخذ به ، حتى قال حزيمة : فَتَاةٌ كَأَنَّ رُضَابَ العَبِيرِ ... بِفِيهَا ، يُعَلُّ بِهِ الزَّنْجَبِيلُ
قَتَلْتُ أَبَاهَا عَلَى حُبِّهَا ، ... فَتَبْخَلُ إنْ بَخِلَتْ أوْ تُنِيلُ
عندئذ ، ثارت الحرب بين قضاعة وربيعة .
قال أبو بكر بن السراج في معنى بيت الشاهد : " إن الجوزاء تردف الثريا في اشتداد الحر ، فتتكبد السماء في آخر الليل ، وعند ذلك تنقطع المياه وتجف ، فيتفرق الناس في طلب المياه ، فتغيب عنه محبوبته ، فلا يدري أين مضت ، ولا أين نزلت " . وانظر أيضًا شرحه في الأزمنة والأمكنة 2 : 130 ، 131 .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 404 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 241 .

(13/415)


وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى ، وهي ما : -
15755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، قال عبد الله بن يزيد : " مُرَدِّفِينَ " و " مُرِدِّفِينَ " و " مُرُدِّفِينَ " ، مثقَّل (1) على معنى : " مُرْتَدِفين " .
15756 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال ، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير ، عن علي رضي الله عنه قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا فيها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم ، أيها المؤمنون ، مددًا لكم " إلا بشرى " لكم ، أي : بشارة
__________
(1) ضبطها القرطبي في تفسيره 7 : 371 .
(2) الطبري : 15756 - " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري " ، الأعرج ، يعرف " بابن أبي ثابت " ، كان صاحب نسب وشعر ، ولم يكن صاحب حديث ، وكان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم . قال البخاري " منكر الحديث ، لا يكتب حديثه " ، وقال ابن أبي حاتم : " منكر الحديث جدًا " . مضى برقم : 8012 .
و " الزمعي " ، هو " موسى بن يعقوب الزمعي القرشي " ، ثقة ، متكلم فيه مضى برقم : 9923 ، زكان في المطبوعة هناك " الربعي " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وهذا صوابه ، وهو الذي يروى عن أبي الحويرث .
و " أبو الحويرث " هو : " عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري الزرقي " ، ثقة ، متكلم فيه حتى قالوا : " لا يحتج بحديثه ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/284 ، و " محمد بن جبير بن مطعم " ، ثقة تابعي مضى برقم : 9269. وهو إسناد ضعيف جداً .

(13/417)


لكم ، تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم (1) " ولتطمئن به قلوبكم " ، يقول : ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم ، وتوقن بنصرة الله لكم (2) " وما النصر إلا من عند الله " ، يقول : وما تنصرون على عدوكم ، أيها المؤمنون ، إلا أن ينصركم الله عليهم ، لا بشدة بأسكم وقواكم ، بل بنصر الله لكم ، لأن ذلك بيده وإليه ، ينصر من يشاء من خلقه " إن الله عزيز حكيم " يقول : إن الله الذي ينصركم ، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه " عزيز " ، لا يقهره شيء ، ولا يغلبه غالب ، بل يقهر كل شيء ويغلبه ، لأنه خلقه " حكيم " ، يقول : حكيم في تدبيره ونصره من نصر ، وخذلانه من خذل من خلقه ، لا يدخل تدبيره وهن ولا خَلل. (3)
* * *
وروي عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في ذلك ، ما : -
15757 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج قال ، أخبرني ابن كثير : انه سمع مجاهدًا يقول : ما مدّ النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر الله غيرُ ألف من الملائكة مردفين ، وذكر " الثلاثة " و " الخمسة " بشرى ، ما مدُّوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عز وجل في " الأنفال " ، وأما " الثلاثة " و " الخمسة " ، فكانت بشرَى.
* * *
وقد أتينا على ذلك في " سورة آل عمران " ، بما فيه الكفاية. (4)
__________
(1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف ص : 303 ، تعليق : 2 ، المراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 5 : 492 \ 9 : 165 \ 11 : 224 .
(3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) ، ( حكم ) .
(4) انظر ما سلف 7 : 173 - 192 .

(13/418)


إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)

القول في تأويل قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ولتطمئن به قلوبكم " ، " إذ يغشيكم النعاس " ، ويعني بقوله : (يغشيكم النعاس) ، يلقي عليكم النعاس (1) (أمنة) يقول : أمانًا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل.
* * *
15758 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله قال : النعاس في القتال ، أمنةٌ من الله عز وجل ، وفي الصلاة من الشيطان. (2)
15759 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري في قوله : " يغشاكم النعاس أمنة منه " ، (3) عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله ، فذكر مثله.
15760 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " يغشى " فيما سلف 1 : 265 ، 266 \ 12 : 436 : 483 .
وتفسير " النعاس " فيما سلف 7 : 316 .
(2) الأثر : 15758 - انظر هذا الخبر بإسناد آخر فيما سلف رقم : 8083 .
(3) قوله : " يغشاكم النعاس " قراءة أخرى في الآية ، و سأثبتها كما جاءت في المخطوطة بعد.

(13/419)


و " الأمنة " مصدر من قول القائل : " أمنت من كذا أمَنَة ، وأمانًا ، وأمْنًا " وكل ذلك بمعنى واحد. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15761 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أمنة منه) ، أمانًا من الله عز وجل.
15762 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أمنة) ، قال : أمنًا من الله.
15763 - حدثني يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قوله : (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) ، قال : أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد. فقرأ : ( ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ) [سورة ال عمران : 154] .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " ،
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : " يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ " بضم الياء وتخفيف الشين ، ونصب " النعاس " ، من : " أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم " .
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفيين : (يُغَشِّيكُمُ) ، بضم الياء وتشديد الشين ، من : " غشّاهم الله النعاس فهو يغشِّيهم " .
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : " يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ " ، بفتح الياء ورفع " النعاس " ، بمعنى : " غشيهم النعاس فهو يغشاهم " .
__________
(1) انظر تفسير " أمنة " فيما سلف 7 : 315 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/420)


واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في " آل عمران " : ( يَغْشَى طَائِفَةً ) [سورة ال عمران : 154] .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب : (إِذْ يُغَشِّيكُمْ) ، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القراء على قراءة قوله : (وينزل عليكم من السماء ماء) ، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك(يغشيكم) ، إذ كان قوله : (وينزل) ، عطفًا على " يغشي " ، ليكون الكلام متسقًا على نحو واحد.
* * *
وأما قوله عز وجل : (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) ، فإن ذلك مطرٌ أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم ، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مُجْنبِين على غير ماء. فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا ، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم ، وتقويته أسبابهم ، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثثاء ، (1) فلبَّدها المطر ، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه ، أسبابَ التمكن من عدوهم والظفر بهم.
* * *
وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [أصحاب] رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " على رملة هشاء " ، ولا أصل لذلك في اللغة ، كلام لا يقال . وهو في المخطوطة سيء الكتابة قليلا ، صواب قراءته ما أثبت . و " الرملة الميثاء " ، اللينة السهلة . قد تسوخ فيها الرجل قليلاً .
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، والأخبار الآتية تدل عل صحة ذلك . وكان في المخطوطة أمام هذا السطر حرف ( ط ) دلالة على الخطأ والشك .

(13/421)


* ذكر الأخبار الواردة بذلك :
15764 - حدثنا هارون بن إسحاق قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طَشّ من المطر (1) يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر ، (2) وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض! " فلما أن طلع الفجر ، نادى : " الصلاة عبادَ الله! " ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال. (3)
15765 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : (ماء ليطهركم به) ، قال : طش يوم بدر.
15766 - حدثني الحسن بن يزيد قال ، حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه. (4)
__________
(1) " الطش " ، المطر القليل ، وهو فوق " الرذاذ " .
(2) في المطبوعة : " تحت الشجر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب جيد .
و " الحجف " ( بفتحتين ) جمع " جحفة " . وهي الترس ، يكون من الجلود ليس فيه خشب ولا عقب ، وهو مثل " الدرقة " .
(3) الأثر : 15764 - " هارون بن إسحاق الهمداني " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 3001 ، 10873 .
و " مصعب بن المقدام الخثمي " ، ثقة مضى برقم : 1291 ، 3001 ، 10873 ، وغيرها .
و " إسرائيل " هو " إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي " ثقة حافظ ، مضى مرارًا كثيرة .
و " حارثة " هو " حارثة بن مضرب العبدي " ، من ثقات التابعين ، مضى برقم : 2057 ، 8597 .
وهو خبر صحيح الإسناد ، خرجه السيوطي مختصرًا بغير هذا اللفظ ، ونسبة إلى ابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه . الدر المنثور 3 : 171 .
(4) الأثر : 15766 - " الحسن بن يزيد " ، لم أجد في شيوخ أبي جعفر ، وفيمن روى عن حفص بن غياث ، من يقال له " الحسن بن يزيد " ، وأرجح أنه :
" الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي " ، شيخ أبي جعفر ، نسبه إلى جده ، وقد مضى برقم : 9373 ، 12581 .

(13/422)


15767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب ، قالا طش يوم بدر.
15768 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية : (ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان) ، قالا طشٌّ كان يوم بدر ، فثبَّت الله به الأقدام.
15769 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ يغشاكم النعاس أمنة منه " الآية ، ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، (1) فلبَّده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوْا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان.
15770 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال ، نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني : حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دَعْصَة ، (2) فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلُّون مُجْنِبين! فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت
__________
(1) " الأعفر " ، الرمل الأحمر .
(2) " رملة دعصة " ، هكذا جاء في التفسير ، في المخطوطة والمطبوعة ، وفي ابن كثير ، وضبطته بفتح الدال ، لأني رجوت أن يكون صفة ، كقولهم : " الدعصاء " ، وهي أرض سهلة فيها رملة تحمي عليها الشمس ، فتكون رمضاؤها أشد من غيرها ، قال : وَالمُسْتَجِيرُ بِعَمْرٍو عِنْدَ كُرْبَتِهِ ... كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الدَّعْصَاءِ بِالنَّارِ
ولكن كتب اللغة لم تذكر " دعصة " ، هذه . وفي بعض الأخبار الأخرى " رملة دهسة " . و " الدهس " ، و " الدهاس " ، أرض سهلة لينة يثقل فيها المشي .

(13/423)


الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدوابّ ، فساروا إلى القوم ، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنِّبةً ، وميكائيل في خمسمائة مجنبةً. (1)
15771 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إذ يغشاكم النعاس أمنة منه " إلى قوله : (ويثبت به الأقدام) ، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين مُحْدِثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الرِّكاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورًا ، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رَملة ، فبعث الله عليها المطر ، فضربها حتى اشتدَّت ، وثبتت عليها الأقدام.
15772 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تِلْقاء البحر ، فانطلقوا. قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله. فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يُجْنِب فلا يقدر على الماء ، فصلي جُنُبًا ، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم ، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبًا على غير وضوء! ، قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا ، واشتدّت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، (2) فاشتدت لهم من المطر ، واشتدُّوا عليها.
__________
(1) " المجنبة " ( بتشديد النون مكسورة ) ، هي الكتيبة التي تأخذ إحدى ناحيتي الجيش ، " المجنبة اليمنى " ، و " المجنبة اليسرى " و هي : " الميمنة " و " الميسرة " .
(2) " البطحاء " ، تراب لين جرته السيول ، وهو " الأبطح " ، يكون في مسيل الوادي .

(13/424)


15773 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيًّا ، وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء ، وتصلون مُجْنبين محدثين! قال : فأنزل الله عز وجل ماء من السماء ، فسال كل وادٍ ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان.
15774 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (ماء ليطهركم به) ، قال : المطر ، أنزله عليهم قبل النعاس(رجز الشيطان) ، قال : وسوسته. قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، (1) وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم.
15775 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ماء ليطهركم به) ، أنزله عليهم قبل النعاس ، طبَّق بالمطر الغبار ، ولبّد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام.
15776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ماء ليطهركم به) ، قال : القطر(ويذهب عنكم رجز الشيطان) ، وساوسه. أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، (2) وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم.
15777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " واصـ به " غير منقوطة ، كأنها " وأثبتت به " ، بالبناء للمجهول ، والذي في المطبوعة جيد ، وقريب أن يكون قد حرفه الناسخ .
(2) في المخطوطة : " تطفي بالمطر الغبار ، وبدت به الأرض " ، وهو محرف ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب .

(13/425)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " رجز الشيطان " ، وسوسته.
15778 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) ، قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر(وليذهب عنكم رجز الشيطان) ، الذي ألقى في قلوبكم : ليس لكم بهؤلاء طاقة!(وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) .
15779 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه) ، إلى قوله : (ويثبت به الأقدام) ، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزَن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله ، وأن محمدًا نبي الله ، وقد غلبتم على الماء ، وأنتم تصلون محدثين مجنبين! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد ، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم ، (1) وسقوا دوابهم ، واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام. وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب ، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجَهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت ، وثبتت فيها الأقدام.
15780 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ يغشاكم النعاس أمنة منه " ، أي : أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، " وينزل عليكم من السماء ماء " ، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة ، (2) فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخلَّي سبيل المؤمنين إليه(ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) ، ليذهب عنهم شك
__________
(1) في المخطوطة : " وبلوا أسقيتهم " . كأنها تقرأ " وبلوا " ، والذي في المطبوعة جيد ، قد مضى مثله في الأخبار .
(2) في المطبوعة : " ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم ... " ، وفي المخطوطة : ونزلت عليكم من السماء المطر الذي أصابهم ... " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام وهو الجيد .

(13/426)


الشيطان ، بتخويفه إياهم عدوهم ، واستجلاد الأرض لهم ، (1) حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوهم. (2)
15781 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة ، وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : " إذ يغشيكم النعاسَ أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " ، حتى تشتدون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض.
15782 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب وقال مرة : قرأ(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهِّركم به) ، (3) فقال سعيد : إنما هي : " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ " . قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشًا يوم بدر.
* * *
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : (ويثبت به الأقدام) ، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوهم. (4)
__________
(1) " استجلاد الأرض " : من " الجلد " ( بفتحتين ) ، وهي الأرض الصلبة ، يعني أنها صارت أرضًا صلبة غليظة ، بعد أن كانت رملة ميثاء لينة .
و " استجلدت الأرض " ، مما لم تذكره معاجم اللغة ، وهو عريق فصيح .
(2) الأثر : 15780 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15740 . وكان في المطبوعة : " الذي سبق " ، غير ما كان في المخطوطة ، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام ، وهو الصواب .
(3) في المطبوعة كتب " ليطهركم بها " ، غير ما في المخطوطة ، ولا أدري من أين جاء بها ، ولم أجد قراءة كهذه القراءة ، بل المعروف أن قراءة عامة القرأة " ليطهركم به " بتشديد الهاء مكسورة ، من " طهر " مضعفًا ، وأن سعيد بن المسيب ، قد انفرد بقراءة " ليطهركم " ، كما ضبطتها ، بضم الياء ، وسكون الطاء وكسر الهاء . من " أطهر " ، وهي قراءة شاذة . انظر شواذ القراءات لابن خالويه : 49 ، وتفسير أبي حيان 4 : 468
(4) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 242 .

(13/427)


وذلك قولٌ خِلافٌ لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحَسْبُ قولٍ خطًأ أن يكون خلافًا لقول من ذكرنا ، وقد بينا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابِّهم. (1)
* * *
وأما قوله : (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) ، أنصركم (2) (فثبتوا الذين آمنوا) ، يقول : قوُّوا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. (3)
* * *
وقد قيل : إن تثبيت الملائكة المؤمنين ، كان حضورهم حربهم معهم.
* * *
وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم.
* * *
وقيل : كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن! (4) فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك ، فتقوى أنفسهم. قالوا : وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
* * *
وأما ابن إسحاق ، فإنه قال بما : -
15783 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فثبتوا الذين آمنوا) ، أي : فآزروا الذين آمنوا. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تثبيت الأقدام " فيما سلف 5 : 354 \ 7 : 272 ، 273 . * * *
هذا ، وقد أغفل أبو جعفر هنا إفراد تفسير " يذهب عنكم رجز الشيطان " و " وليربط على قلوبكم "
وانظر تفسير " الرجز " فيما سلف : ص : 179 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 3 : 214 \ 5 : 353 .
(3) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5 : 354 \ 7 \ 272 ، 273 ، ومادة ( ثبت ) في فهارس اللغة .
(4) " الانكشاف " ، الانهزام .
(5) الأثر : 15783 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15780 .

(13/428)


إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)

القول في تأويل قوله : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي ، أيها المؤمنون ، منكم ، وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم (1) " فاضربوا فوق الأعناق " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (فوق الأعناق).
فقال بعضهم : معناه : فاضربوا الأعناق.
* ذكر من قال ذلك :
15784 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال : اضربوا الأعناق.
15785 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله ، إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق.
15786 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (فاضربوا فوق الأعناق) ، يقول : اضربوا الرقاب.
* * *
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول : " رأيت نفس فلان " ، بمعنى : رأيته. قالوا : فكذلك قوله : (فاضربوا فوق الأعناق) ، إنما معناه : فاضربوا الأعناق.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فاضربوا الرؤوس.
__________
(1) انظر تفسير " إلقاء الرعب " فيما سلف 7 : 279 .

(13/429)


* ذكر من قال ذلك :
15787 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة : (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال : الرؤوس.
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي " فوق الأعناق " ، الرؤوس. قالوا : وغير جائز أن تقول : " فوق الأعناق " ، فيكون معناه : " الأعناق " . قالوا : ولو جاز ذلك ، جاز أن يقال (1) " تحت الأعناق " ، فيكون معناه : " الأعناق " . قالوا : وذلك خلاف المعقول من الخطاب ، وقلبٌ لمعاني الكلام. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فاضربوا على الأعناق ، وقالوا : " على " و " فوق " معناهما متقاربان ، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (3)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : أن الله أمر المؤمنين ، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف : أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله : (فوق الأعناق) ، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس ، ومحتمل أن يكون مرادًا له : من فوق جلدة الأعناق ، (4) فيكون معناه : على الأعناق. وإذا احتمل ذلك ، صح قول من قال ، معناه : الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل ، لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة تدلّ على خصوصه ، فالواجب أن يقال : إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم ، أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ولو جاز ذلك كان أن يقال " ، وهو فاسد ، صوابه ما أثبت .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وقلب معاني الكلام " ، صواب السياق ما أثبت .
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 242 .
(4) في المطبوعة حذف " من " ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة .

(13/430)


وأما قوله : (واضربوا منهم كل بنان) ، فإن معناه : واضربوا ، أيها المؤمنون ، من عدوكم كل طَرَف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم.
* * *
و " البنان " : جمع " بنانة " ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين ، ومن ذلك قول الشاعر : (1)
أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حاذِرَا (2)
__________
(1) هو العباس بن مرداس السلمي .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 242 ، اللسان ( بنن ) ، ولم أجده في مكان آخر .
وقال أبو عبيدة بعد البيت : " يعني أبا ضب ، رجلاً من هذيل ، قتل هريم بن مرداس وهو نائم ، وكان جاورهم بالربيع " .
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني 13 : 66 ( ساسى ) ، عن أبي عبيدة أن هريم بن مرداس كان مجاورًا في خزاعة ، في جوار رجل منهم يقال له عامر ، فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد . فالذي قاله أبو عبيدة هنا مضطرب ، وهو زيادة بين قوسين في النسخة المطبوعة ، فأخشى أن لا تكون من قول أبي عبيدة .
و أما " أبو ضب " الرجل من هذيل ، فهو شاعر معروف من بني لحيان ، من هذيل ، له شعر في بقية أشعار الهذليين وأخبار ، انظر رقم : 13 ، 14 من الشعر . وجاء أيضًا في البقية من شعر هذيل 43 ، ما نصه : " وقال عباس بن مرداس ، وأخواله بنو لحيان " : لا تَأْمَنَنْ بالعَادِ والخِلْفِ بَعْدَهَا ... جِوَارَ أُناسٍ يَبِتَنُونَ الحَصَائِرَاِ
ذكر " جوارًا " كان في بني لحيان ، فأجابه رجل من بني لحيان ، يذكر عقوقه أخواله ، ويتهدده بالقتل . جَزَى الله عَبَّاسًا عَلَى نَأْي دَارِهِ ... عُقُوقًا كَحَرِّ النَّارِ يأتِي المَعَاشِرَا
فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ يُقال : ابْنُ أخْتِهِ ! ... لَفَقَّرْتُهُ ، إنِّي أُصِيبُ المَفاقِرَا
فِدًي لأَبِي ضَبٍّ تِلادِي ، فإنَّنَا ... تَكَلْنَا عَلَيْهِ دَاخِلا ومُجَاهِرَا
وَمَطْعَنَهُ بالسَّيْفِ أحْشَاءَ مالِكٍ ... بِما كانَ مَنَّي أوْرَدُوهُ الجَرَائِرَا
فقد ذكر في هذا الشعر " أبا ضب " ، ومقتله " مالكا " . لم أقف بعد على " مالك " هذا ، ولكني أظن أن شعر عباس هذا ، يدخل في خبر مقتل " مالك " الذي قتله " أبو ضب " ، لا في خبر مقتل أخيه " هريم بن مرداس " ، فذاك خبر معروف رجاله .
وقوله " حاذرا " ، أي : مستعدًا حذرًا متيقظًا .
وقال شمر : " الحاذر " ، المؤدي الشاك السلاح ، وفي شعر العباس بن مرداس ما يشعر بذلك : وَإنِّي حاذِرٌ أَنْمِى سِلاحِي ... إلى أَوْصالِ ذَيَّالٍ مَنِيع
وكان في المطبوعة : " قطعت منه بنانة " ، فأفسد الشعر إفسادًا ، إذ غير الصواب المحض الذي في المخطوطة ، متابًعًا خطأ الرواية المحرفة في لسان العرب .

(13/431)


يعني ب " البنانة " واحدة " البنان " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15788 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : (واضربوا منهم كل بنان) ، قال : كل مفصِل.
15789 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : (واضربوا منهم كل بنان) ، قال : المفاصل.
15790 - . . . . قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (واضربوا منهم كل بنان) ، قال : كل مفصل.
15791 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة : (واضربوا منهم كل بنان) ، قال : الأطراف. ويقال : كل مفصل.
15792 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني : بالبنان ، الأطراف.
15793 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (واضربوا منهم كل بنان) ، قال : الأطراف.
15794 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني : الأطراف.

(13/432)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (ذلك بأنهم) ، هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم ، جزاءٌ لهم بشقاقهم الله ورسوله ، وعقاب لهم عليه.
* * *
ومعنى قوله : (شاقوا الله ورسوله) ، فارقوا أمرَ الله ورسوله وعصوهما ، وأطاعوا أمرَ الشيطان. (1)
* * *
ومعنى قوله : (ومن يشاقق الله ورسوله) ، ومن يخالف أمرَ الله وأمر رسوله ففارق طاعتهما (2) (فإن الله شديد العقاب) ، له. وشدة عقابه له : في الدنيا ، إحلالُه به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم ، وفي الآخرة ، الخلودُ في نار جهنم وحذف " له " من الكلام ، لدلالة الكلام عليها.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هذا العقابُ الذي عجلته لكم ، أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله ، في الدنيا ، من الضرب فوق الأعناق منكم ، وضرب
__________
(1) انظر تفسير " الشقاق " فيما سلف 3 : 115 ، 116 ، 336 \ 8 : 319 \ 9 : 204.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وفارق " ، والسياق يقتضي ما أثبت .

(13/433)


كل بنان ، بأيدي أوليائي المؤمنين ، فذوقوه عاجلا واعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذابَ النار. (1)
* * *
ولفتح " أن " من قوله : (وأن للكافرين) ، من الإعراب وجهان :
أحدهما الرفع ، والآخر : النصبُ.
فأما الرفع ، فبمعنى : ذلكم فذوقوه ، ذلكم وأن للكافرين عذاب النار بنية تكرير " ذلكم " ، كأنه قيل : ذلكم الأمر ، وهذا.
وأما النصب : فمن وجهين : أحدهما : ذلكم فذوقوه ، واعلموا ، أو : وأيقنوا أن للكافرين فيكون نصبه بنية فعل مضمر ، قال الشاعر :
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
بمعنى : وحاملا رمحًا.
والآخر : بمعنى : ذلكم فذوقوه ، وبأن للكافرين عذاب النار ثم حذفت " الباء " ، فنصبت. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 12 : 420 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) مضى البيت مرارًا وتخريجه ، انظر آخرها ما سلف 11 : 577 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 405 ، 406 .

(13/434)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله(إذا لقيتم الذين كفروا) في القتال(زحفًا) ، يقول : متزاحفًا بعضكم إلى بعض و " التزاحف " ، التداني والتقارب (1) " فلا تولوهم الأدبار " ، يقول : فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ، ولكن اثبتوا لهم ، فإن الله معكم عليهم (2) " ومن يولهم يومئذ دبره " ، يقول : ومن يولهم منكم ظهره (إلا متحرفًا لقتال) ، يقول : إلا مستطردًا لقتال عدوه ، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه (أو متحيزًا إلى فئة) أو : إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة ، يقول : صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم ، (3) ويرجعون به معهم إليهم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15795 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : (إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، قال : " المتحرف " ، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال ، و " المتحيز " ، الفارّ إلى
__________
(1) هذا الشرح لقوله : " التزاحف " ، لا تجده في معاجم اللغة ، فيقيد .
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولى ) .
وتفسير " الدبر " فيما سلف 7 : 109 ، 110 \ 10 : 170 .
(3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف 9 : 7 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " يرجعون به معهم إليهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/435)


النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. قال الضحاك : وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أن لا يفروا. وإنما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام و أصحابه فئتَهم. (1)
15796 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، أما " المتحرف " ، يقول : إلا مستطردًا ، يريد العودة(أو متحيزًا إلى فئة) ، قال : " المتحيز " ، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة ، ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم) ، هل هو خاص في أهل بدر ، أم هو في المؤمنين جميعًا ؟
فقال قوم : هو لأهل بدر خاصة ، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه ، فأما اليومَ فلهم الانهزام.
* ذكر من قال ذلك :
15797 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبي نضرة في قول الله عز وجل : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : ذاك يوم بدر ، ولم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي (2) قال أبو موسى : يعني : إلى المشركين.
__________
(1) في المطبوعة : حذف " و أصحابه " ، تحكمًا .
(2) وقف على قوله : " إلى " ، كأنه يشير بيده إلى الفئة الأخرى ، والتي فسرها أبو موسى ، وهو ابن المثنى ، بقوله : يعني : إلى المشركين .

(13/436)


15798 - حدثنا إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد ، عن داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قوله عز وجل : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال : ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم.
15799 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن مفضل قال ، حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : نزلت في يوم بدر : (ومن يولهم يومئذ دبره) .
15800 - حدثني ابن المثنى ، وعلي بن مسلم الطوسي قال ابن المثنى : حدثني عبد الصمد وقال علي : حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن داود ، يعني ابن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : يوم بدر قال أبو موسى : حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث : عن داود ، عن الشعبي ، عن أبي سعيد.
15801 - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : إنما كان ذلك يوم بدر ، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك ، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. (1)
15802 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبي نضرة : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : هذه نزلت في أهل بدر.
15803 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال :
__________
(1) الآثار : 15797 - 15801 - " داود " هو " ابن أبي هند " مضى مرارًا .
و " أبو نضرة " هو " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي " ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 14664 .
و " أبو سعيد " ، هو أبو سعيد الخدري ، صاحب رسول الله .
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 327 ، من طريق شعبة ، عن داود بن أبي هند ، بمثله ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .

(13/437)


كتبت إلى نافع أسأله عن قوله : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، أكان ذلك اليوم ، أم هو بعد ؟ قال : وكتب إليّ : " إنما كان ذلك يوم بدر " .
15804 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا زيد ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : إنما كان الفرار يوم بدر ، ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم ، فليس فرارً.
15805 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : كانت هذه يوم بدر خاصة ، ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
15806 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : كانت هذه يوم بدر خاصة.
15807 - . . . . قال ، حدثنا روح بن عبادة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : نزلت في أهل بدر.
15808 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : ذلكم يوم بدر.
15809 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : ذلك يوم بدر. فأما اليوم ، فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال : فلا بأس به.
15810 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن عون قال : كتبت إلى نافع : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : إنما هذا يوم بدر.
15811 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة قال ، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى

(13/438)


فئة فقد باء بغضب من الله) ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : ( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ) [سورة ال عمران : 155] . ثم كان حنين ، بعد ذلك بسبع سنين فقال : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) [سورة التوبة : 25] : ( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) [سورة التوبة : 27] .
15812 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن محمد ، أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال : لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! (1)
15813 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن جرير بن حازم قال ، حدثني قيس بن سعد قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال : هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال : ( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) ، [سورة الأنفال : 66]. قال : وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال : ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. (2)
15814 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
__________
(1) الأثر : 15812 - " أبو عبيدة بن مسعود الثقفي " ، صحابي وهو صاحب يوم الجسر المعروف بجسر أبي عبيد . وكان عمر ولى الخلافة ، عزل خالد بن الوليد عن العراق والأعنة ، وولى أبا عبيد بن مسعود الثقفي سنة 13 . ولما وجه يزدجر جموعه إلى جيش أبي عبيد ، عبر أبو عبيد الجسر في المضيق ، فاقتتلوا قتالا شديدًا ، وأنكى أبو عبيد في الفرس : وضرب أبو عبيد مشفر الفيل ، فبرك عليه الفيل فقتله . واستشهد من المسلمين يومئذ ألف وثمانمائة ، ويقال أربعة آلاف ، ما بين قتيل وغريق . انظر الاستيعاب : 671 ، وتاريخ الطبري 4 : 67 - 70 . وانظر الأثر رقم : 15814 ، 15815 . وفي كثير من الكتب " أبو عبيدة " في هذا الخبر ، وهو خطأ .
وكان في المطبوعة هنا : " لو تحيز إلى لكنت له فئة " ، غير ما في المخطوطة بلا أمانة ولا معرفة .
(2) الأثر : 15813 - " قيس بن سعد المكي " ، ثقة ، مضى برقم : 2943 ، 9413 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " قيس بن سعيد " ، وهو خطأ .

(13/439)


سليمان التيمي ، عن أبي عثمان قال : لما قتل أبو عبيد ، جاء الخبر إلى عمر فقال : يا أيها الناس ، أنا فئتكم. (1)
15815 - . . . . قال : ابن المبارك ، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قال عمر رضي الله عنه : أنا فئة كل مسلم.
* * *
وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا.
* ذكر من قال ذلك :
15816 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الشرك بالله ، والفرار من الزحف ، لأن الله عز وجل يقول : (ومن يولهم يومئذ دبره... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر ، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين ، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو ، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال ، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام ، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما ، فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا
__________
(1) الأثر : 15814 - " أبو عثمان " ، مجهول ، روى عن أنس بن مالك ، ومعقل بن يسار . روى عنه " سليمان التيمي " ، قال ابن المديني : " لم يرو عنه غيره ، وهو مجهول " مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 408 .

(13/440)


وغيره : (1) أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ ، وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) .
* * *
وأما قوله : (فقد باء بغضب من الله) ، يقول : فقد رجع بغضب من الله (2) (ومأواه جهنم) ، يقول : ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم (3) " وبئس المصير " ، يقول : وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في " النسخ " ، في فهارس الموضوعات ، وفي فهارس اللغة والنحو وغيرها .
(2) انظر تفسير " باء " فيما سلف 10 : 216 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " مأوى " فيما سلف 10 : 481 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 9 : 205 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .

(13/441)


فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

القول في تأويل قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين ، أيها المؤمنون ، أنتم ، ولكن الله قتلهم.
* * *
وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين ، إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم ، وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها.

(13/441)


وكذلك قوله لنبيه عليه السلام : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فأضاف الرميَّ إلى نبي الله ، ثم نفاه عنه ، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي ، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرميَّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين ، والمسبِّب الرمية لرسوله.
فيقال للمنكرين ما ذكرنا (1) قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه ، بعد وصفه نبيَّه به ، وإضافته إليه ، وذلك فعلٌ واحد ، (2) كان من الله تسبيبه وتسديده ، (3) ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذفُ والإرسال ، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى ؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15817 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (فلم تقتلوهم) ، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا : " قتلت " ، وهذا : " قتلت " (وما رميت إذ رميت) ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار.
15818 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
15819 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " للمسلمين ما ذكرنا " ، وهو خطأ صرف ، وظاهر أن كاتب النسخة التي نقل عنها ناسخ المخطوطة ، قد وصل " راء " المنكرين بالياء والنون ، ولم يضع شرطة الكاف كعادتهم ، فقرأها خطأ ، ونقلها خطأ .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ذلك " بغير واو ، والكلام لا يستقيم بغيرها .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " بتسبيبه " وهو خطأ من الناسخ ، صوابه ما أثبت بغير باء في أوله ، كما يدل عليه السياق .

(13/442)


قتادة : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال : رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر.
15820 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما وقع منها شيء إلا في عين رجل.
15821 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة قال : لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال : هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه ، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها ، تحادُّك وتكذب رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني! " . فلما أقبلوا استقبلهم ، فحثا في وجوههم ، فهزمهم الله عز وجل. (1)
15822 - حدثنا أحمد بن منصور قال ، حدثنا يعقوب بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. (2)
__________
(1) الأثر : 15821 - " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، ثقة ، مضى : 3832 ، 9656 ، 13518 ، 15719 .
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 2 : 268 في أثناء خبر طويل ، قد مضى بعضه برقم : 15719 ، وهو من كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان ، رواه أبو جعفر مفرقًا في التاريخ ، سأخرجه مجموعًا في تخريج الأثر رقم : 16083 .
وكان في المطبوعة هنا : " قد جاءت بخيلائها وفخرها " ، وهو تصرف قبيح . وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في التاريخ .
و " الجلبة " ، هو اختلاط الناس إذ تجمعوا ، وصاح بعضهم ببعض يذمره ويستحثه ، كالذي يكون في اجتماع الجيوش .
(2) الأثر : 15822 - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي " ، شيخ الطبري ، ثقة . مضى برقم : 10260 ، 10521 .
و " يعقوب بن محمد الزهري " ، مختلف فيه ، وهو صدوق ، لكن لا يبالي عمن حدث . مضى برقم : 2867 ، 8012 ، 15654 ، 15714 .
و " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الزهري " ، الأعرج ، يعرف بابن أبي ثابت . ضعيف ، كان صاحب نسب ، لم يكن من أصحاب الحديث . مضى برقم : 8012 ، 15756 .
و " موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهيب بن زمعة الأسدي القرشي " ، ثقة ، متكلم فيه ، وقال أحمد : " لا يعجبني حديثه " ، وقال أبو داود : " له مشايخ مجهولون " . مضى برقم : 9923 ، 15756 .
و " يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي القرشي " ، روى عنه ابن أخيه " موسى بن يعقوب " . مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 346 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 276 ، ولم يذكرا فيه جرحًا .
و " أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي " ، كان من علماء قريش . ثقة . مترجم في التهذيب ، والكني البخاري : 13 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 341 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد ، لضعف " عبد العزيز بن عمران الزهري " ، وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 32 ، وقال : " غريب من هذا الوجه " ، فقصر في بيان إسناده .
بيد أن الهيثمي ذكره في مجمع الزائد 6 : 84 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وإسناده حسن " ، فلعله إسناد غير هذا ، فإنه قد ضعف عبد العزيز بن عمران في هذا الباب مرارًا كثيرة .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 174 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه .

(13/443)


15823 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : " شاهت الوجوه! " ، فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، الآية ، إلى : (إن الله سميع عليم) .
15824 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وما رميت إذ رميت) ، الآية ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار ، فهزموا عند الحجر الثالث.

(13/444)


15825 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي : " أعطني حصًا من الأرض " ، فناوله حصى عليه تراب ، فرمى به وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم رَدِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، (1) فذكر رميةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15826 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : " شاهت الوجوه! " ، وانهزموا ، فذلك قول الله عز وجل : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15827 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال : يا رب ، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولُّوا مدبرين.
15728 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، أي : لم يكن ذلك برميتك ، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك ، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. (2)
* * *
__________
(1) " ردفه " ( بفتح فكسر ) : اتبعه ودهمه .
(2) الأثر : 15828 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15783 . وكان في المطبوعة والمخطوطة ، أغفل ذكر " وما رميت إذ رميت " ، وأتى ببقية الآية . وكان في المخطوطة " حين هزمهم " ، بغير ذكر لفظ الجلالة ، فغيرها في المطبوعة فقال : " فهزمتهم " . وأثبت ما في سيرة ابن هشام .

(13/445)


وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال ، وهو ما : -
15829 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري : (وما رميت إذ رميت) ، قال : جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : " آلله محيي هذا ، يا محمد ، وهو رميم ؟ " ، وهو يفتُّ العظم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يحييه الله ، ثم يميتك ، ثم يدخلك النار! قال : فلما كان يوما أحد قال : والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله.

(13/446)


(1)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون في هذا الموضع من التفسير نقص ، فإني وجدت ابن كثير ( 4 : 32 ) قد ذكر في تفسير هذه الآية ما نسبه إلى ابن جرير ، وهذا نصه بترتيبه وتعليقه :
وههنا قولان آخران غريبان جدًّا :
أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعَا بقوس ، فأتِىَ بقوسٍ طويلة ، وقال : جيئوني بقوس غيرها . فجاؤوه بقوسٍ كَبْداء ، فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى " .
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدرٍ لا مَحالة ، وهذا مما لا يخفي على أئمة العلم ، والله أعلم .
والثاني : روى ابن جرير أيضًا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب والزهري أنهما قالا : أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أُبَيَّ بن خلفٍ بالحربة في لأْمَته ، فخدشه في تَرْقُوَته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا . حتى كانت وفاتُه بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليمَ ، موصولا بعذابِ البرزخ ، المتصل بعذاب الآخرة .
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضًا جدًّا ، ولعلهما أرادَا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة ، كما تقدم ، والله أعلم " .
قلت : والخبر الأول منهما ، رواه الواحدي في أسباب النزول : 174 من طريق " صفوان بن عمرو ، عن عبد العزيز بن جبير " ، وقوله : " عبد العزيز " ، خطأ ، صوابه ما في تفسير ابن كثير .
ثم إن السيوطي في الدر المنثور 3 : 175 ، خرج هذين الخبرين منسوبين إلى ابن جرير أيضًا ، وزاد نسبته الأول منهما إلى ابن أبي حاتم . وذكر الثاني وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
ثم زاد السيوطي في الدر المنثور ، وهذان الخبران أنقلهما أيضًا بنصهما منه :
الأول : " أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيّب قال : لما كان يوم أُحُد ، أخذ أبيُّ بن خلفٍ يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعترض رجالٌ من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : استأخروا ! استأخرُوا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف ، وكسر ضِلْعًا من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا ، فاحتملوه حين وَلَّوا قافلين ، فطفقوا يقولون : لا بأس ! فقال أبيّ حين قالوا ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ! ألم يقلْ : إنِّي أقتلك إن شاء الله ؟ فانطلق به أصحابه يَنْعَشونه حتى مات ببعض الطريق ، فدفنوه .
قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله تعالى : " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى الآية " .
الثاني : " وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن الزهري في قوله : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى . قال : حيث رمَى أبيَّ بنَ خلف يوم أُحُدٍ بحربته ، فهذا كله ، يوشك أن يرجح سقوط شيء من أخبار أبي جعفر في هذا الموضع . إلا أن تكون هذه الأخبار ستأتي فيما بعد في غير هذا الموضع . أما فيما سلف ، فإن خبر " أبي بن خلف " قد مضى في حديث السدى رقم : 7943 ( ج 7 : 255 )
والخبر الأول رواه الحاكم في المستدرك 2 : 327 ، من طريق محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .

(13/447)


وأما قوله : (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، فإنّ معناه : وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم ، (1) ويغنّمهم ما معهم ، ويكتبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2)
* * *
وذلك " البلاء الحسن " ، رمي الله هؤلاء المشركين ، ويعني ب " البلاء الحسن " ، النعمة الحسنة الجميلة ، وهي ما وصفت وما في معناه. (3)
15830 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال في قوله : (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم ، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، وليشكروا بذلك نعمته. (4)
* * *
وقوله : (إن الله سميع عليم) ، يعني : إن الله سميع ، أيها المؤمنون ، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ومناشدته ربه ، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم ، فقيل له : إنْ يَكُ إلا جّحْش! قال : أليسَ قال : أنا أقتلك ؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا! "
__________
(1) في المطبوعة : " ولينعم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ويثبت لهم أجور أعمالهم " ، وهو لا معنى له ، ولم يحسن قراءة المخطوطة ، لخطأ في نقطها .
(3) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ص : 85 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(4) الأثر : 15830 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15828 . وفي السيرة سقط من السياق قوله : " مع كثرة عددهم " ، فيصحح هناك .

(13/448)


ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)

ولقِيلكم وقيل جميع خلقه " عليم " ، بذلك كله ، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده ، وغير ذلك من الأشياء ، محيط به ، فاتقوه وأطيعوا أمرَه وأمر رسوله. (1)
القول في تأويل قوله : { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (ذلكم) ، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا ، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم ، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم فعلنا الذي فعلنا(وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، يقول : واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف (2) " كيد الكافرين " ، يعنى : مكرهم ، (3) حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق ، أو يُهْلَكوا. (4)
* * *
وفى فتح " أن " من الوجوه ما في قوله : ( ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ) ، [سورة الأنفال : 14] ، وقد بينته هنالك. (5)
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : (موهن) .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين : " مُوَهِّنُ " بالتشديد ، من : " وهَّنت الشيء " ، ضعَّفته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
(2) انظر تفسير " الوهن " فيما سلف 7 : 234 ، 269 \ 9 : 170 .
(3) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص : 322 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) في المخطوطة : " ويهلكوا " ، وصواب السياق ما أثبت .
(5) انظر ما سلف ص : 434 .

(13/449)


إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : (مُوهِنُ) ، من أوهنته فأنا موهنه " ، بمعنى : أضعفته.
* * *
قال أبو جعفر : والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، عقدًا بعد عَقْدٍ ، وشيئًا بعد شيء ، وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني : إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم ، وأظلم الفئتين ، وتستنصروه عليه ، فقد جاءكم حكم الله ، ونصرُه المظلوم على الظالم ، والمحق على المبطل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15831 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
__________
(1) انظر تفسير " الاستفتاح " و " الفتح " فيما سلف 2 : 254 \ 10 : 405 ، 406 \ 12 : 563 .

(13/450)


15832 - . . . . قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
15833 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني بذلك المشركين : إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
15834 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن ابن عباس قوله : (إن تستفتحوا) ، قال : إن تستقضوا القضاء وإنه كان يقول : (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا) ، قلت : للمشركين ؟ قال : لا نعلمه إلا ذلك (1)
15835 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : كفار قريش في قولهم : " ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه " ! ففُتح بينهم يوم بدر.
15836 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
15837 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : استفتح أبو جهل فقال : اللهم يعني محمدًا ونفسه " أيُّنا كان أفجرَ لك ، اللهم وأقطعَ للرحم ، فأحِنْه اليوم " ! (2) قال الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : استفتح
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة ، " لا نعلم " ، والجيد ما أثبت .
(2) يقال : " أحانه الله " ، أهلكه . و " الحين " ( بفتح فسكون ) : الهلاك ، أو هو أجل الهلاك على التحقيق .

(13/451)


أبو جهل بن هشام فقال : " اللهم أيُّنا كان أفجر لك وأقطعَ للرحم ، فأحنه اليوم! " يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه. قال الله عز وجل : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، فضربه ابنا عفراء : عوف ومعوِّذ ، وأجهزَ عليه ابن مسعود.
15839 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثنى عقيل ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي ، حليف بني زهرة ، أن المستفتح يومئذ أبو جهل ، وأنه قال حين التقى القوم : " أينا أقطعُ للرحم ، وآتانا بما لا يُعرف ، فأحِنْه الغداة " ! فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك : (إن إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1)
15840 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية ، يقول : قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر.
__________
(1) الأثر : 15839 - " عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي " ، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ورأسه زمن الفتح ، ودعا له . وقال أبو حاتم : " رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير " ، وقال البخاري في التاريخ : " عبد الله بن ثعلية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرسل ، إلا أن يكون عن أبيه ، وهو أشبه " . مترجم في الإصابة ، والتهذيب ، وأسد الغابة ، والاستيعاب : 341 ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 19 .
وهذا الخبر سيأتي من طريق ابن إسحاق ، عن الزهري ، برقم : 15846 ، 15848 ، ومن طريق صالح بن كيسان ، عن الزهري ، رقم : 15847 .
ورواه أحمد في مسنده 5 : 431 ، 4 من طريق يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، وص : 431 ، 432 ، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 328 من طريق يزيد بن هارون ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وهذا الإسناد الثاني الذي ذكره الحاكم ، لم أجده في المسند ، و " إبراهيم بن سعد " يروي عن " صالح بن كيسان " ، وعن " الزهري " ، عن " ابن إسحاق " .

(13/452)


15841 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، أخذوا بأستار الكعبة واستنصروا الله وقالوا : " اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين " ! فقال الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يقول : نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
15842 - حدثنا عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى قوله : (وأن الله مع المؤمنين) ، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم ، وإن أهلَ العير ، أبا سفيان وأصحابه ، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم ، فقال أبو جهل : " أينا كان خيرًا عندك فانصره " ! وهو قوله : (إن تستفتحوا) ، يقول : تستنصروا.
15843 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال : إن تستفتحوا العذاب ، فعُذِّبوا يوم بدر. قال : وكان استفتاحهم بمكة ، قالوا : ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، [سورة الأنفال : 32]. قال : فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد : (وإن تعودوا نعد ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) .
15844 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية قال : قال أبو جهل يوم بدر : " اللهم انصر أهدى الفئتين ، وخير الفئتين وأفضل " فنزلت : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15845 - . . . . قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري : أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال : " اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه ، فأحِنْه اليوم " ! فأنزل الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15846 - . . . . قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ،

(13/453)


عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير : أن أبا جهل ، قال يوم بدر : اللهمّ أقطعنا لرحمه ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة! " . وكان ذلك استفتاحًا منه ، فنزلت : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1)
15847 - . . . . قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال : كان المستفتح يوم بدر أبا جهل ، قال : " اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة! " ، فأنزل الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . (2)
15848 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، حليف بني زهرة قال : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل : " اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة! " ، فكان هو المستفتح على نفسه (3) قال ابن إسحاق : فقال الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، لقول أبي جهل : " اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه للغداة! " قال : " الاستفتاح " ، الإنصاف في الدعاء. (4)
15849 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان وغيره : قال أبو جهل يوم بدر : " اللهم انصر أحب الدينين إليك ، دينَنا العتيق ، أم دينهم الحديث " ! فأنزل الله : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، إلى قوله : (وأن الله مع المؤمنين) .
* * *
__________
(1) الأثر : 15846 - انظر تخريج الأثر رقم : 15839 ، والخبرين التاليين .
(2) الأثر : 15847 - انظر تخريج الآثار السالفة ، والذي سيليه .
(3) قول : " على نفسه " ، ليست في سيرة ابن هشام 2 : 280 . وانظر تخريج الخبر ، بعد .
(4) الأثر : 15848 - هما خبران ، أولهما إلى قوله : " المستفتح على نفسه " ، رواه ابن هشام في سيرته 2 : 280 ، وسائر الخبر ، رواه في سيرته 2 : 324 ، وهو تابع الأثر : 15830 .
وانظر تخريج الأثر رقم : 15839 .

(13/454)


وأما قوله : (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، فإنه يقول : " وإن تنتهوا " ، يا معشر قريش ، وجماعة الكفار ، عن الكفر بالله ورسوله ، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به " فهو خير لكم " ، في دنياكم وآخرتكم (1) (وإن تعودوا نعد) ، يقول : وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال اتباعه المؤمنين " نعد " ، أي : بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر.
* * *
وقوله : (ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت) ، يقول : وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم ، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم (2) " فئتكم شيئًا ولو كثرت " ، يعني : جندهم وجماعتهم من المشركين ، (3) كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا(وأن الله مع المؤمنين) ، يقول جل ذكره : وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم ، ينصرهم عليهم ، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15850 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، قال : يقول لقريش " وإن تعودوا نعد " ، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر(ولئن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي : وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين ، أنصرهم على من خالفهم. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 20 : 566 ، تعليق : 1 والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 7 : 133 .
(3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص : 435 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص : 428 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(5) الأثر : 15850 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15848 ، في القسم الثاني منه .
وكان في المطبوعة و " إن الله مع المؤمنين ينصرهم " ، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها " أنصرهم " ، وأثبت نص ما في سيرة ابن هشام ، والذي في المخطوطة بعضه سهو من الناسخ وعجلة .

(13/455)


وقد قيل : إن معنى قوله : (وإن تعودوا نعد) ، وإن تعودوا للاستفتاح ، نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول لا معنى له ، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته ، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه ، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك : " إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم ، وإن تعودوا نعد " ، لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، [سورة الحج : 39] ، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا.
* ذكر من قال ذلك :
15851 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن تعودوا نعد) ، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم (ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين) ، محمد وأصحابه.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (وإن الله مع المؤمنين).
ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى : ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله لمع المؤمنين (1) فعطف ب " أن " على موضع " ولو كثرت " ، كأنه قال : لكثرتها ، ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع " أن " حينئذ نصبًا على هذا القول. (2)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت ، على : (وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، (وأن الله مع المؤمنين) ، عطفًا بالأخرى على الأولى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " مع المؤمنين " بغير لام ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا في شك منه .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 407 .

(13/456)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين : " وَإِنَّ اللهَ " ، بكسر الألف على الابتداء ، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله : " وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من كسر " إن " للابتداء ، لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله : (وأن الله مع المؤمنين) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله(أطيعوا الله ورسوله) ، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه(ولا تولوا عنه) ، يقول : ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين أمره ونهيه (2) " وأنتم تسمعون " أمرَه إياكم ونهيه ، وأنتم به مؤمنون ، كما : -
15852 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا وأنتم تسمعون) ، أي : لا تخالفوا أمره ، وأنتم تسمعون لقوله ، وتزعمون أنكم منه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " عما يقضي قوله " ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فارس اللغة ( ولي ) .
(3) الأثر : 15852 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15850.
وكان في المطبوعة هنا " وتزعمون أنكم مؤمنون " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام .

(13/457)


وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)

القول في تأويل قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا ، أيها المؤمنون ، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا : " قد سمعنا " ، بآذاننا " وهم لا يسمعون " ، يقول : وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به ، لإعراضهم عنه ، وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله ، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بأذانهم ، (1) بمنزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله ، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم ، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم ، ويقولون : " قد سمعنا " ، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. (2)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما : -
15853 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، أي : كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة ، ويُسِرُّون المعصية. (3)
15854 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " فجعلهم الله لما لم ينتفعوا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " وهم لاستعمالها والاتعاظ بها " ، والصواب ما في المطبوعة ، وإنما هو إسقاط من الناسخ في كتابته . وكان في المطبوعة : " كمن لم يسمعها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) الأثر : 15853 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15852.

(13/458)


إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (وهم لا يسمعون) ، قال : عاصون.
15855 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وللذي قال ابن إسحاق وجه ، ولكن قوله : (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، في سياق قَصَص المشركين ، ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم ، وهو قوله : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) ، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم ، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله ، (1) الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه ، (2) فيعتبروا به ويتعظوا به ، وينكُصون عنه إن نطقوا به ، (3) الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ، فيستعملوا بهما أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " دابة " فيما سلف 3 : 275 \ 11 : 344 .
(2) انظر تفسير " الصمم " 1 : 328 - 331 \ 3 : 315 \ 10 : 478 \ 11 : 350 .
(3) انظر تفسير " البكم " فيما سلف 1 : 328 - 331 \3 : 315 \ 11 : 350 .

(13/459)


15856 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن شر الدواب عند الله) ، قال : " الدواب " ، الخلق.
15857 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، عن عكرمة قال : وكانوا يقولون : " إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد ، لا نسمعه منه ، ولا نجيبه به بتصديق! " فقتلوا جميعًا بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء.
15858 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الصم البكم الذين لا يعقلون " ، قال : الذين لا يتّبعون الحق.
15859 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم ، ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ : ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [سورة الحج : 46] .
* * *
واختلف فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عُني بها نفرٌ من المشركين.
* ذكر من قال ذلك :
15860 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، قال ابن عباس : " الصم البكم الذين لا يعقلون " ، نفرٌ من بني عبد الدار ، لا يتبعون الحق.
15861 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الصم البكم الذين لا ينقلون) ، قال : لا يتبعون الحق قال ، قال ابن عباس : هم نَفرٌ من بني عبد الدار.
15861 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن

(13/460)


ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
وقال آخرون : عُني بها المنافقون.
* ذكر من قال ذلك :
15862 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، [أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم ، بُكمٌ عن الخير ، صم عن الحق ، لا يعقلون] ، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال بقول ابن عباس : وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش ، لأنها في سياق الخبر عنهم.
* * *
__________
(1) الأثر : 15862 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15853 . والذي بين القوسين سقط من ناسخ المخطوطة بلا شك ، لأن إسقاطه يجعل الخبر غير مطابق للترجمة ، لأنه عندئذ لا ذكر فيه للمنافقين . هذا فضلا عن أن أبا جعفر ينقل تفسير ابن إسحاق في سيرته بنصه في كل ما مضى ، فلا معنى لاختصاره هنا اختصارًا مخلا ، فثبت أن ذلك من الناسخ فزدته من السيرة .
أما الجملة التي أثبتها الناسخ ، وهي الخارجة عن القوسين . فكانت في المخطوطة : " ... من النعمة والساعة " ، الأولى خطأ ، وصوابها ما أثبت .
فجاء الناشر ، ولم يفهم معنى الكلام ، فجعله هكذا : " ... من النعمة والسعة " ، فصار خلطًا لا خير فيه ، ولا معنى له . ورددته إلى الصواب والحمد لله .
و " التباعة " ، ( بكسر التاء ) ، مثل " التبعة " ( بفتح التاء وكسر الباء ) : ما فيه إثم يتبع به صاحبه . يقال : " ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة " ، أي : مطالبة يطلب بإثمها .

(13/461)


وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

القول في تأويل قوله : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفي معناها.
فقال بعضهم : عني بها المشركون. وقال : معناه : أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، لم يؤمنوا به ، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون.
* ذكر من قال ذلك :
15863 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنى حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو اسمعهم) ، لقالوا : ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ) ، [سورة يونس : 15] ، ولقالوا : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) [سورة الأعراف : 203] ، ولو جاءهم بقرآن غيره(لتولوا وهم معرضون).
15864 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) ، قال : لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ، ما انتفعوا بذلك ، ولتولوا وهم معرضون.
15865 - وحدثني به مرة أخرى فقال : " لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم " ، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به.
* * *
وقال آخرون : بل عني بها المنافقون. قالوا : ومعناه ما : -
15866 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم) ، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم ، (1) ولكن
__________
(1) في المطبوعة : " الذي قالوه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، مطابقًا لما في السيرة .

(13/462)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

القلوب خالفت ذلك منهم ، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون ، (1) ما وفَوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد ، لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا ، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره ، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه ، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم ، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا ، لتولوا عن الله وعن رسوله ، (4) وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه ، (5) معاندون للحق بعد العلم به. (6)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (إذا دعاكم لما يحييكم).
فقال بعضهم : معناه : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.
__________
(1) كانت هذه الجملة الآتية في المخطوطة والمطبوعة هكذا : " فأوفوا لكم بشر مما خرجوا عليه " ، وهو لا معنى له . وصوابها ما أثبت من سيرة ابن هشام .
(2) الأثر : 15866 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15862 .
(3) انظر ص : 461 .
(4) انظر تفسير " التولي " فيما سلف 12 : 571 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(5) في المطبوعة : " ... دلهم على حقيقة " ، وفي المخطوطة : " ... دلهم على حجته " ، وهذا صواب قراءتها .
(6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص : 332 تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/463)


* ذكر من قال ذلك :
15867 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط عن السدي : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال : أمّا " ما يحييكم " ، (1) فهو الإسلام ، أحياهم بعد موتهم ، بعد كفرهم.
* * *
وقال آخرون : للحق.
* ذكر من قال ذلك :
15868 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد في قول الله : (لما يحييكم) ، قال : الحق.
15869 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
15870 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال : الحق.
15871 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال : للحق.
* * *
وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى ما في القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
15872 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أما يحييكم " ، بإسقاط " ما " والجيد إثباتها .

(13/464)


قوله : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال : هو هذا القرآن ، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. (1)
* * *
وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو.
* ذكر من قال ذلك :
15873 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، أي : للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل ، وقوّاكم بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : معناه : استجيبوا لله وللرسول بالطاعة ، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه ، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد ، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن ، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا ، فبقاء الذكر الجميل ، (3) وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة ، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. (4)
* * *
وأما قول من قال : معناه الإسلام ، فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، فلا وجه لأن يقال للمؤمن : استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الحياة والعفة " ، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة " الثاء " ، ثم زاد ناشرها أيضًا فأسقط من الكلام " والنجاة " ، وهذا من أسوأ العبث وأقبحه .
(2) الأثر : 15873 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15866.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فيقال الذكر الجميل " ، وهو لا معنى له . صوابه ما أثبت .
(4) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف ص : 409 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(5) في المطبوعة : " إذا دعاك " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/465)


وبَعْدُ ، ففيما : -
15874 - حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ وهو يصلي ، فدعاه : أيْ أُبَيّّ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة ، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك ، أي رسول الله! قال : وعليك ، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني ؟ قال : يا رسول الله ، كنت أصلي! قال : أفلم تجد فيما أوحي إليّ : " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " ؟ قال : بلى ، يا رسول الله! لا أعود. (1)
__________
(1) الأثر : : 15874 - سيأتي من طريق أخرى في الذي يليه .
" أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 12861 .
و " يزيد بن زريع العيشي " ، ثقة حافظ مضى مرارًا . برقم : 1769 ، 2533 ، 5429 ، 5438 ، غيرها .
و " روح بن القاسم التميمي الطبري " ، ثقة ، مضى برقم 6613 .
و " العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 221 ، 14210 .
وأبوه : " عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة " ، تابعي ثقة . مضى برقم : 14210 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 2 : 412 ، 413 ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء بن عبد الرحمن . عن أبيه ، بنحوه ، مطولا .
ورواه الترمذي في " فضائل القرآن ، باب ما جاء في فضل الفاتحة " ، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن العلاء ، بنحوه مطولا ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح " . وفي الباب عن أنس بن مالك " .
وخرجه ابن كثير في تفسيره 1 : 22 ، 23 .
ثم انظر حديث البخاري ( الفتح 8 : 119 ، 231 ) ، وهو حديث أبي سعيد بن المعلى ، بنحو هذه القصة عن أبي بن كعب . وقد فصل الحافظ ابن حجر هناك الكلام فيه ، وخرج حديث أبي بن كعب . وانظر أيضًا الموطأ : 83 ، خبر مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز ، أخبره : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ... " بغير هذا السياق ، وما قاله فيه الحافظ ابن حجر ، وابن كثير في تفسيره ، حيث أشرنا إلى موضعه .

(13/466)


15875 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي ، فصرخ به [فلم يجبه ، ثم جاء] ، (1) فقال : يا أبيّ ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ أليس الله يقول : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ؟ قال أبيّ : لا جَرَم يا رسول الله ، لا تدعوني إلا أجبتُ وإن كنت أصلي! (2)
* * *
ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية ، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم ، لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : يحول بين الكافر والإيمان ، وبين المؤمن والكفر.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) هذا الذي بين القوسين ، ليس في المخطوطة ، زاده ناشر المطبوعة ، لا أدري من أين ؟ وفي الخبر سقط لا شك فيه ، ولكني لم أجد الخبر بنصه هذا .
(2) الأثر : 15875 - إسناد آخر للخبر السالف . وقد خرجته هناك .
" خالد بن مخلد القطواني " ، ثقة من شيوخ البخاري ، وأخرج له مسلم " مضى مرارًا ، برقم : 2206 ، 4577 ، 8166 ، 8397 ، وغيرها .
و " محمد بن جعفر بن أبي كثير الزرقي " ، ثقة معروف ، مضى برقم : 2206 ، 8397 .

(13/467)


15876 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : بين الكافر أن يؤمن ، وبين المؤمن أن يكفر. (1)
15877 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد قالا حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه.
15878 - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
15879 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان.
15880 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله.
15881 - . . . . قال ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان.
15882 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي رواد ، عن الضحاك في قوله : (يحول بين المرء
__________
(1) الأثر : 15876 - " عبد الله بن عبد الله الرازي " ، " أبو جعفر الرازي " ، قاضي الري ، ثقة ، لا بأس . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 92 .
وهو غير " أبي جعفر الرازي التميمي " ، " عيسى بن ماهان " .

(13/468)


وقلبه) ، قال : يحول بين الكافر وطاعته ، وبين المؤمن ومعصيته.
15883 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبى روق ، عن الضحاك بن مزاحم ، بنحوه.
15884 - . . . . قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : يحول بين المرء وبين أن يكفر ، (1) وبين الكافر وبين أن يؤمن.
15885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد ، عن الضحاك بن مزاحم : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين الكافر وبين طاعة الله ، وبين المؤمن ومعصية الله.
15886 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا بن أبي رواد ، عن الضحاك ، نحوه.
15887 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر نحوه.
15888 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن منهال قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين المؤمن ومعصيته.
15889 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
15890 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " يحول بين المرء " ، ولو ظننت أنها : " يحول بين المؤمن " ، لكان في الذي سلف ما يرجحه .

(13/469)


15891 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان.
15892 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي رواد ، عن الضحاك : (يحول بين المرء وقلبه) ، يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، وبين المؤمن وبين معصيته.
15893 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين المؤمن والمعاصي ، وبين الكافر والإيمان.
15894 - . . . . قال ، حدثنا عبيدة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بينه وبين المعاصي.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يحول بين المرء وعقله ، فلا يدري ما يَعمل.
* ذكر من قال ذلك :
15895 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال ، حدثنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين المرء وعقله.
15896 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يحول بين المرء وقلبه) ، حتى تركه لا يعقل.
15897 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
15898 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال :

(13/470)


هو كقوله " حال " ، حتى تركه لا يعقل. (1)
15899 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن حميد ، عن مجاهد : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : إذا حال بينك وبين قلبك ، كيف تعمل.
15900 - قال : حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين قلب الكافر ، وأن يعمل خيرًا.
* * *
وقال آخرون : معناه : يحول بين المرء وقلبه ، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه.
* ذكر من قال ذلك :
15901 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، قال : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه قريب من قلبه ، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره.
* ذكر من قال ذلك :
15902 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : (يحول بين المرء وقلبه) ، قال : هي كقوله : ( أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ، [سورة ق : 16] .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال : إن ذلك
__________
(1) في المطبوعة : " قال : هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل " ، غير ما في المخطوطة كل التغيير ، لأنه لم يفهمه ، وهذا من أسوأ التصرف وأقبحه وأبعده من الأمانة . وإنما أراد أن " يحول " مضارعًا ، بمعنى " حال " ماضيًا ، ولذلك قال " حتى تركه لا يعقل " . فانظر أي فساد أدخله الناشر بلا ورع ! .

(13/471)


خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر ، أو أن يَعِي به شيئًا ، أو أن يفهم ، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن " الحول بين الشيء والشيء " ، إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، (1) لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ.
وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك قول من قال : " يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان " ، وقول من قال : " يحول بينه وبين عقله " ، وقول من قال : " يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه " ، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه ، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ.
غير أنه ينبغي أن يقال : إن الله عم بقوله : (ولعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه ، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء ، والكلام محتمل كل هذه المعاني ، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
* * *
وأما قوله : (وأنه إليه تحشرون) ، فإن معناه : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أيضًا ، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه : أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم ، وهو أملك بها منكم ، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة ، (2) فيوفّيكم جزاء أعمالكم ، المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته ، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه ، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم ، فيوجب ذلك سَخَطَه ، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المرء " فيما سلف 2 : 446 \ 9 : 430 .
(2) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص 23 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/472)


وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : " اتقوا " ، أيها المؤمنون " فتنة " ، يقول : اختبارًا من الله يختبركم ، وبلاء يبتليكم (1) " لا تصيبن " ، هذه الفتنة التي حذرتكموها (2) " الذين ظلموا " ، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله ، إما إجْرام أصابوها ، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية ، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. (3)
* * *
وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين عُنوا بها.
* ذكر من قال ذلك :
15903 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن إبراهيم قال ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الحسن في قوله : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال : نزلت في علي ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، رحمة الله عليهم.
15904 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال قتادة : قال الزبير بن العوام : لقد نزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. (4)
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 151 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف 2 : 96 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الخصوص " فيما سلف 2 : 471 \ 6 : 517 .
(4) في المطبوعة : " ثم خصتنا في إصابتنا خاصة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو فيها غير منقوط ، وظننت أن صواب نقطها ما أثبت . يعني : أنهم بقوا بعد الذين مضوا ، فإذا هي في إصابتهم خاصة .

(13/473)


15905 - حدثني المثنى قال ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة قال ، حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن : أن الزبير بن العوام قال : نزلت هذه الآية : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، وما نظننا أهلها ، ونحن عُنِينا بها. (1)
15906 - . . . . قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن الصلت بن دينار ، عن ابن صبهان قال : سمعت الزبير بن العوام يقول : قرأت هذه الآية زمانًا ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها : (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب). (2)
15907 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصه) ، قال : هذه نزلت في أهل بدر خاصة ، وأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا.
15908 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن السدي : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) ، قال : أصحاب الجمل.
15909 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمَّهم الله بالعذاب.
__________
(1) الأثر : 15905 - " زيد بن عوف القطعي " ، " أبو ربيعة " . ولقبه " فهد " ، متكلم فيه ، ضعيف ، مضى برقم : 5623 ، 14215 ، 14218 .
(2) الأثر : 15906 - " الصلت بن دينار الأزدي " " أبو شعيب " ، " المجنون " . متروك لا يحتج بحديثه . مترجم في التهذيب . والكبير 2 / 2 / 305 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 437 . وميزان الاعتدال 1 : 468 .
وابن صهبان " هو " عقبة بن صهبان الحداني الأزدي " تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 113/ 312 ، ولم أجدهم ذكروا له رواية عن الزبير بن العوام ، ولكنه روى عن عثمان ، وعياض بن حمار ، وعبد الله بن مغفل ، وأبي بكرة الثقفي وعائشة .

(13/474)


15910 - . . . . قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال : هى أيضًا لكم.
15911 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال : " الفتنة " ، الضلالة.
15912 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : قال عبد الله : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، إن الله يقول : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) [سورة الأنفال : 28] ، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1)
15913 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : قال الزبير : لقد خُوِّفنا بها يعني قوله : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) .
* * *
واختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة : (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، قوله : " لا تصيبن " ، ليس بجواب ، ولكنه نهي بعد أمر ، ولو كان جوابًا ما دخلت " النون " .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة قوله : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء ، (2) وإن كان نهيًا. قال : ومثله قوله :
__________
(1) الأثر : 15912 - انظر الأثر التالي رقم : 15934 ، ونصه : " فمن استعاذ منكم ، فليستعذ ... " ، وكأنه الصواب .
(2) في المطبوعة : " ومنكم ظرف من الجزاء " ، فجاء الناشر بكلام غث لا معنى له وفي المخطوطة : " ومنه طرف " ، وصواب قراءته ما أثبت ، مطابقًا لما في معاني القرآن للفراء .

(13/475)


( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ) ، [سورة النمل : 18] ، أمرهم ثم نهاهم ، وفيه تأويل الجزاء. (1)
وكأن معنى الكلام عنده : اتقوا فتنة ، إن لم تتقوها أصابتكم.
* * *
وأما قوله : (واعلموا أن الله شديد العقاب) ، فإنه تحذير من الله ، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله : (واتقوا فتنة) ، يقول : اعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه ، وخالف أمره ، فأثم به. (2)
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 407 .
(2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( شدد ) ، ( عقب ) .

(13/476)


وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

القول في تأويل قوله : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) }
قال أبو جعفر : وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومناصحة. يقول : أطيعوا الله ورسوله ، أيها المؤمنون ، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم ، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة ، فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه ، ويعجِّل لكم منه ما تحبون ، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم ، (1) وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم ، (2) تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا
__________
(1) انظر تفسير " القليل " فيما سلف 1 : 329 \ 8 : 439 ، 577 \ 9 : 331 .
(2) انظر تفسير " المستضعف " فيما سلف 12 : 542 \ 13 : 76 ، 131 .

(13/476)


جميعكم (1) (فآواكم) ، يقول : فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم (2) (وأيدكم بنصره) ، يقول : وقواكم بنصره عليهم حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر (3) (ورزقكم من الطيبات) ، يقول : وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبًا (4) (لعلكم تشكرون) ، يقول : لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم. (5)
* * *
واختلف أهل التأويل في " الناس " الذين عنوا بقوله : (أن يتخطفكم الناس).
فقال بعضهم : كفار قريش.
* ذكر من قال ذلك.
15914 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال : يعني بمكة ، مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة.
15915 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي أو قتادة أو كلاهما (6) (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) أنها نزلت في يوم بدر ، كانوا يومئذ يخافون أن يتخطفهم الناس ، فآواهم الله وأيدهم بنصره.
__________
(1) انظر تفسير " الخطف " فيما سلف 1 : 357 .
(2) وانظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص : 441 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 2 : 319 ، 320 \ 5 : 379 \ 6 : 242 \ 11 : 213 ، 214 .
(4) انظر تفسير " الرزق " فيما سلف من فهارس اللغة ( رزق ) .
و " الطيبات " فيما سلف منها ( طيب ) .
(5) في المطبوعة : " لكي تشكروا " ، وفي المخطوطة : " لكي تشكرون " ، ورجحت ما أثبت .
(6) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " أو كلاهما " ، وهو جائز .

(13/477)


15916 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
* * *
وقال آخرون : بل عُني به غيرُ قريش.
* ذكر من قال ذلك.
15917 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرني أبي قال ، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل : (تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال : فارس.
15918 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول ، وقرأ : (واذكروا إن أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، و " الناس " إذ ذاك ، فارس والروم.
15919 - . . . . قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) ، قال : كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلا وأشقاهُ عيشًا ، وأجوعَه بطونًا ، (1) وأعراه جلودًا ، وأبينَه ضلالا [مكعومين ، على رأس حجر ، بين الأسدين فارس والروم ، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه]. (2) من عاش منهم عاش شقيًّا ، ومن مات منهم رُدِّي في النار ، يوكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرَّ منهم منزلا (3) حتى جاء الله بالإسلام ،
__________
(1) في المطبوعة : " بطونًا " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) هذه الجملة بين القوسين لا بد منها ، فإن الترجمة أن فارس والروم هما المعنيان بهذا. وقد أثبتها من رواية الطبري قبل ، كما سيأتي في التخريج . وإغفال ذكرها في الخبر ، يوقع في اللبس والغموض .
(3) قوله : " أشر منهم منزلا " لم ترد في الخبر الماضي ، وكان مكانها : " والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا أصغر حظًا ، وأدق فيها شأنًا ، منهم " .

(13/478)


فمكن به في البلاد ، ووسَّع به في الرزق ، وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعمٌ يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : " عُني بذلك مشركو قريش " ، لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم ، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم ، وأشدَّهم عليهم يومئذ ، مع كثرة عددهم ، وقلة عدد المسلمين.
* * *
وأما قوله : (فآواكم) ، فإنه يعني : آواكم المدينة ،
وكذلك قوله : (وأيدكم بنصره) ، بالأنصار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15920 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (فآواكم) ، قال : إلى الأنصار بالمدينة(وأيدكم بنصره) ، وهؤلاء أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، أيدهم بنصره يوم بدر.
15921 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : (فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات) ، يعني بالمدينة.
__________
(1) الأثر : 15919 - مضى هذا الخبر بإسناده مطولا فيما سلف رقم : 7591 ، ومنه اجتلبت الزيادة والتصحيح .

(13/479)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله(لا تخونوا الله) ، وخيانتهم الله ورسوله ، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ ، وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن ، يدلُّون المشركين على عورتهم ، ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية ، وفي السبب الذي نزلت فيه.
فقال بعضهم : نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين.
* ذكر من قال ذلك.
15922 - حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال ، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال ، حدثني جابر بن عبد الله : أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا! " قال : فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : " إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذركم " ! فأنزل الله عز وحل : (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم). (2)
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 9 : 190 .
(2) الأثر : 15922 - " القاسم بن بشر بن معروف " ، شيخ الطبري ، مضى برقم 10509 ، 10531 .
و " شبابة بن سوار الفزاري " ، ثقة ، مضى مرارًا : 37 ، 6701 ، 10051 ، وغيرها .
و " محمد المحرم " ، هو : " محمد بن عمر المحرم " ، وقد ترجم صاحب لسان الميزان لثلاثة : " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير المكي " ( ج 5 : 216 ) ، و " محمد بن عمر المحرم " ج ( 5 : 320 ، ) و " محمد المحرم " ( ج 5 : 439 ) ، وقال هم واحد ، وأن " محمد بن عمر " صوابه : " محمد ابن عمير " منسوبًا إلى جده . و " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، مضى برقم : 7484 .
وترجم البخاري في الكبير 1 \ 1 \ 142 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي " ، عن عطاء ، وليس بذاك الثقة . ولم يذكر أنه " محمد المحرم " .
ثم ترجم أيضًا في الكبير 1 \ 1 \ 248 " محمد المحرم " ، عن عطاء والحسن ، منكر الحديث . فكأنهما عنده رجلان .
وترجم ابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 300 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، وضعفه ، ولم يذكر أنه " محمد المحرم " .
ثم ترجم " محمد بن عمر المحرم " ، روى عن عطاء ، روى عنه شبابة ، وقال : " ضعيف الحديث ، واهي الحديث " ، ولم يذكر أنه الذي قبله .
وترجم الذهبي في ميزان الاعتدال 3 : 77 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، ويقال له : " محمد المحرم " .
ثم ترجم في الميزان 3 : 113 " محمد بن عمر المحرم " عن عطاء ، وعنه شبابة ، وضعفه ، ولم يذكر أنه الذي قبله .
وترجم عبد الغني بن سعيد في والمؤتلف والمختلف : 117 ، " محمد بن عبيد بن عمير المحرم " ، عن : " عطاء بن أبي رباح " .
والظاهر أن الذي قاله الحافظ في لسان الميزان ، من أن هؤلاء جميعًا واحد ، هو الصواب إن شاء الله ، من أنهم جميعًا رجل واحد .
وكان في المطبوعة : " محمد بن المحرم " ، غير ما كان في المخطوطة بزيادة " بن " بينهما .
وهذا خبر ضعيف جدًا ، لضعف " محمد المحرم " ، وهو متروك الحديث . وقد ذكر الخبر ابن كثير في تفسيره 4 : 43 ، 44 ، ثم قال : " هذا الحديث غريب جدًا ، وفي سنده وسياقه نظر " .

(13/480)


وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة ، في الذي كان من أمره وأمر بنى قريظة. (1)
* ذكر من قال ذلك.
15923 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، قال : نزلت في أبي لبابة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إلى حلقه : إنه الذَّبح قال الزهري : فقال ، أبو لبابة : لا والله ، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " في أبي لبابة ، الذي كان من أمره " ، والسياق يقتضي زيادة " في " كما أثبتها .

(13/481)


أو يتوب الله عليَّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه ، ثم تاب الله عليه. فقيل له : يا أبا لبابة ، قد تِيبَ عليك! قال : والله لا أحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلّني. فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو لبابة : إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب ، وأن أنخلع من مالي! قال : " يجزيك الثلث أن تصدَّق به. (1)
15924 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول : نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " في أبي لبابة. (2)
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه.
* ذكر من قال ذلك.
15925 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي (3) قال ، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " الآية.
* * *
__________
(1) الأثر : 15923 - خبر أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، حين فعل ذلك يوم بنى قريظة ، وعرف أنه خان الله ورسوله ، في سيرة ابن هشام 3 : 247 ، 248 ، وفي غيره . ثم إنه لما عرف ذلك ارتبط في سارية المسجد ، وقال : " لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت " .
ورواه الواحدي في أسباب النزول : 175 ، وروى بعضه مالك في الموطأ : 481 .
(2) الأثر : 15924 - " عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري " . تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب .
(3) الأثر : 15925 - " يونس بن الحارث الطائفي الثقفي " ، ضعيف ، إلا أنه لا يتهم بالكذب ، وقال ابن معين : " كنا نضعفه ضعفًا شديدًا " . وقال أحمد : " أحاديثه مضطربة " .
مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 409 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 237 ، وضعفه .
و " محمد بن عبيد الله بن سعيد " ، " أبو عون الثقفي " ثقة ، مضى برقم : 7595 ، 13965 ، 15659 .
وكان في المطبوعة : " محمد بن عبد الله بن عون الثقفي " ، ومثله في المخطوطة . إلا أنه قد يقرأ " محمد بن عبيد الله " ، والصواب ما أثبت ، لأن يونس بن الحارث الطائفي ، يروي عن أبي عون الثقفي ، و " أبو عون " اسم جده " سعيد " لا " عون " .
و " أبو عون الثقفي " ، لا أظنه روى عن المغيرة بن شعبة ، فالمغيرة مات سنة خمسين ، ويقال قبلها . والمذكور في ترجمته أنه يروي عن " عفان بن المغيرة بن شعبة " ، فهذا إسناد منقطع على الأرجح عندي .
وقوله : " نزلت في قتل عثمان " ، يعني أن حكمها يشمل فعل عثمان رضي الله عنه ، فإنه قتل خيانة لله ولرسوله ، وخيانة للأمانة ، إذ نقض القتلة بيعة له في أعناقهم ، رحم الله عثمان وغفر له .

(13/482)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله ، وخيانة أمانته وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة وجائز أن تكون نزلت في غيره ، ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته.
فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15926 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون.
15927 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط. عن السدي : " لا تخونوا الله والرسول " الآية ، قال : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله : " وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " .
فقال بعضهم : لا تخونوا الله والرسول ، فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها.

(13/483)


* ذكر من قال ذلك.
15928 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
15929 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " ، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل قوله : " وتخونوا أماناتكم " ، في موضع نصب على الصرف (2)
كما قال الشاعر : (3)
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (4)
ويروى : " وتأتي مثله " . (5)
* * *
وقال آخرون : معناه : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
* ذكر من قال ذلك.
15930 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ،
__________
(1) الأثر : 15929 - سيرة ابن هشام 2 : 325 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15873.
(2) في المطبوعة : " على الظرف " ، وفي المخطوطة : " على الطرف " ، والصواب ما أثبت . وانظر معنى " الصرف " فيما سلف من فهارس المصطلحات .
وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 408 .
(3) هو المتوكل الليثي ، وينسب لغيره .
(4) سلف البيت ، وتخريجه 1 : 569 \ 3 : 552 .
(5) يعني على غير النصب .

(13/484)


عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، يقول : " لا تخونوا " : يعني لا تنقصُوها.
* * *
قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويلُ : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم.
واختلف أهل التأويل في معنى : الأمانة ، التي ذكرها الله في قوله : " وتخونوا أماناتكم " .
فقال بعضهم : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله.
* ذكر من قال ذلك.
15931 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " وتخونوا أماناتكم " ، و " الأمانة " : الأعمال التي أمِن الله عليها العباد يعني : الفريضة. يقول : " لا تخونوا " ، يعني : لا تنقصوها.
15932 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله " ، يقول : بترك فرائضه " والرسول " ، يقول : بترك سننه ، وارتكاب معصيته قال : وقال مرة أخرى : " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، والأمانة : الأعمال ، ثم ذكر نحو حديث المثنى.
* * *
وقال آخرون : معنى " الأمانات " ، ههنا ، الدِّين.
* ذكر من قال ذلك.
15933 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وتخونوا أماناتكم " دينكم " وأنتم تعلمون " ، قال : قد فعل ذلك

(13/485)


وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

المنافقون ، وهم يعلمون أنهم كفار ، يظهرون الإيمان. وقرأ : وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [سورة النساء : 142]. قال : هؤلاء المنافقون ، أمنهم الله ورسوله على دينه ، فخانوا ، أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا ، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم ، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه ، لا تنقصوهما " وتخونوا أماناتكم " ، وتنقصوا أديانكم ، وواجب أعمالكم ، ولازمَها لكم " وأنتم تعلمون " ، أنها لازمة عليكم ، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله ، وأولادكم التي وهبها الله لكم ، اختبارٌ وبلاء ، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم ، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها ، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. (1) " وأن الله عنده أجر عظيم " ، يقول : واعلموا أن الله عنده خيرٌ وثواب عظيم ، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم ، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا . وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها ، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم. (2)
15934 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا المسعودي ،
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 486 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة ( أجر ) .

(13/486)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

عن القاسم ، عن عبد الرحمن ، عن ابن مسعود ، في قوله : " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ، قال : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1)
15935 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ، قال : " فتنة " ، الاختبار ، اختبارُهم. وقرأ : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [سورة الأنبياء : 35] .
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، إن تتقوا الله بطاعته وأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة أماناتكم يجعل لكم فرقانًا " ، يقول : يجعل لكم فصلا وفرْقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين ، بنصره إياكم عليهم ، وإعطائكم الظفر بهم (2) " ويكفر عنكم سيئاتكم " ، يقول : ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه (3) " ويغفر لكم " ، يقول : ويغطيها فيسترها عليكم ، فلا يؤاخذكم بها (4) " والله ذو الفضل العظيم " ، يقول : والله الذي يفعل ذلك بكم ، له
__________
(1) الأثر : 15934 - انظر الأثر السالف رقم : 15912 ، والتعليق عليه .
(2) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف 1 : 98 ، 99 \ 3 : 448 \ 6 : 162 ، 163 .
(3) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف من فهارس اللغة ( كفر ) .
وتفسير " السيئات " فيما سلف من فهارس ( سوأ ) .
(4) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) .

(13/487)


الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله. وإنّ فعله جزاءٌ منه لعبده على طاعته إياه ، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها ، حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعدَه عليها. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله : " يجعل لكم فرقانا " .
فقال بعضهم : مخرجًا.
* * *
وقال بعضهم : نجاة.
* * *
وقال بعضهم : فصلا.
* * *
وكل ذلك متقارب المعنى ، وإن اختلف العبارات عنها ، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
ذكر من قال : معناه : المخرج.
15936 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا " قال : مخرجًا.
15937 - ......... قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا " ، قال : مخرجًا.
15938 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد : " فرقانا " ، مخرجًا.
15939 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " فرقانا " ، قال : مخرجًا في الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر تفسير " الفضل " ، فيما سلف فهارس اللغة ( فصل ) .
(2) يعني ما سلف 1 : 98 ، 99 .

(13/488)


15940 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
15941 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هانئ بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فرقانًا " ، قال : " الفرقان " المخرج.
15942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " فرقانا " ، يقول : مخرجًا.
15943 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : " فرقانا " ، مخرجًا.
15944 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال ، حدثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
15945 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فرقانا " ، قال : مخرجًا.
15946 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، سمعت عبيدا يقول ، سمعت الضحاك يقول : " فرقانًا " ، مخرجًا.
15947 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
15948 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد ، عن زهير ، عن جابر ، عن عكرمة ، قال : " الفرقان " ، المخرج.
* * *
* ذكر من قال : معناه النجاة.
15949 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا " ، قال : نجاة.
15950 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ،

(13/489)


عن رجل ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : " يجعل لكم فرقانًا " ، قال عكرمة : المخرج وقال مجاهد : النجاة.
15951 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يجعل لكم فرقانًا " ، قال : نجاة.
15952 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " يجعل لكم فرقانًا " ، يقول : يجعل لكم نجاة.
15953 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يجعل لكم فرقانًا " ، أي : نجاة.
* * *
* ذكر من قال فصلا.
15954 - ...................................... " يا أيها الذين آمنوا إذ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا " ، قال : فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل ، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان. (1)
15955 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا " ، أي : فصلا بين الحق والباطل ، ليظهر به حقكم ، ويخفي به باطل من خالفكم. (2)
__________
(1) الأثر : 15954 - إسناد هذا الخبر ساقط في المخطوطة ، جعل مكانه بياضًا نحوًا من سطر ونصف ، فجاء ناشر المطبوعة ووصل الكلام دون أن يشير إلى ذلك البياض . وظاهر أنه خبر قائم برأسه ، كما وضعته .
(2) الأثر : 15955 - سيرة ابن هشام 2 : 325 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15929 . وكان في المطبوعة : " يظهر " بغير لام ، وهي في المخطوطة تقرأ هكذا وهكذا ، وأثبت نص ما في السيرة ، باللام في أولها .

(13/490)


وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

و " الفرقان " في كلام العرب ، مصدرٌ من قولهم : " فرقت بين الشيء والشيء أفرُق بينهما فَرْقًا وفُرْقانًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مذكِّرَه نعمه عليه : واذكر ، يا محمد ، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ليثبتوك " .
فقال بعضهم : معناه ليقيِّدوك.
* ذكر من قال ذلك :
15956 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ، يعني : ليوثقوك.
15957 - ............ قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليثبتوك " ، ليوثِقوك.
15958 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ، الآية ، يقول : ليشدُّوك
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 98 ، 99 \ 3 : 448 \ 6 : 162 ، 163 .
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12 : 95 ، 97 ، 579 \ 13 : 33

(13/491)


وَثاقًا. وأرادوا بذلك نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة.
15959 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومقسم قالا قالوا : " أوثقوه بالوثاق " .
15960 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ليثبتوك " ، قال : الإثبات ، هو الحبس والوَثَاق.
* * *
وقال آخرون : بل معناه الحبس.
* ذكر من قال ذلك.
15961 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، سألت عطاء عن قوله : " ليثبتوك " ، قال : يسجنوك وقالها عبد الله بن كثير.
15962 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : قالوا : " اسجنوه " .
* * *
وقال آخرون : بل معناه : ليسحروك.
* ذكر من قال ذلك.
15963 - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال ، حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن المطلب بن أبي وَداعة : أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك ؟ قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : ربي! قال : نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا " ! فنزلت : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " ، الآية. (1)
__________
(1) الأثر : 15963 - " محمد بن إسماعيل البصري " ، المعروف ب " الوساوسي " شيخ الطبري ، لم أجد النص على أنه " الوساوسي " ، والذي يروى عنه أبو جعفر في تاريخه ، في مواضع " محمد بن إسماعيل الضراري " ، وهو " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي " ، صدوق . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 190 ، وذكر في التهذيب أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ، روى عنه ، ولم يذكر أنه يعرف بالوساوسي .
وترجم ابن أبي حاتم لأخيه : " أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي " ، 1 \ 1 \ 41 ، فوجدت في لباب الأنساب 2 : 273 : " الوساوسي ، عرف بها " أحمد بن إسماعيل الوساوسي البصري " ، فدل هذا على ترجيح أن يكون " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار " يقال له " الوساوسي " أيضًا .
و " عبد المجيد بن أبي رواد " ، هو " عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي " ، روى عن ابن جريح وغيره . وثقه أحمد وابن معين . وغيرهما . وضعفه أبو حاتم وابن سعد . ومنهم من قال هو ثبت في حديثه عن ابن جريج ، ومنهم من قال : روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 64 .
" وعبيد بن عمير بن قتادة الليثي " ثقة ، مضى برقم : 9180 ، 9181 ، 9189 ، 15621 .
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عبيد بن عمير بن المطلب بن أبي وداعة " ، وهو خطأ لا شك فيه .
و " المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي " ، له صحبة - مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 7 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 385 ، ولم يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه .
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 4 : 46 ، 47 ، وقال : " وذكر أبي طالب في هذا ، غريب جدًا ، بل منكر لأن هذه الآية مدنية . ثم إن هذه القصة ، واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كانت ليلة الهجرة سواء . وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين ، لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه " .
فلو صح ما قاله ابن كثير ، كان هذا الخبر من الأخبار التي دعتهم إلى أن يقولوا في " عبد المجيد ابن أبي رواد " أنه روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها . ومع ذلك فإن حجاجًا قد روى عنه مثل رواية عبد المجيد . انظر التعليق على الأثر التالي ، فإني اذهب مذهبًا غير مذهب ابن كثير في الخبر . وانظر أيضًا رقم : 15976 ، فإن ابن جريج سيقول : إن هذه الآية مكية ، لا مدنية .

(13/492)


15964 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه ، قال له أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : نعم! قال : فأخبره ، قال : من أخبرك ؟ قال : ربي! قال : نعم الرب ربك ، استوص به خيرًا! قال : " أنا أستوصي به ، أو هو يستوصي بي ؟ (1)
__________
(1) الأثر : 15964 - انظر التعليق على الأثر السالف . سلف ما قاله ابن كثير في نقد هذا الخبر . والذي دفعه أن يقول ما قال ، من انه كان ليلة الهجرة ، ما رواه ابن جرير في الأثر الذي يليه ، والذي ترجم له بقوله : " وكأن معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه ، كما حدثني ... " وساق خبر ائتمارهم به ليلة الهجرة .
ولكن جائز أن يكون الخبران الأولان ، في شأن آخر ، وليلة أخرى ، بل أكاد أقطع أن الخبر الذي رواه ابن جريج ، لا علاقة له بأمر الهجرة ، وأن ابن كثير تابع للطبري فيما ظنه ظنًا وذلك أن ابن إسحاق وغيره ، رووا أن أشراف قريش اجتمعوا يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله ، وزعموا أنهم صبروا منه على أمر عظيم . فبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفًا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول . فعرف الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم . فلما مر بهم الثانية ، غمزوه بمثلها ، ثم مر الثالثة ، ففعلوا فعلتهم ، فوقف ثم قال : " أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذبح " . فاستكانوا ورفأوه بأحسن القول رهبة ورغبة . فلما كان الغد ، اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض : " ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه ، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه " . فبينا هم كذلك ، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : " أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ " ، لما كان من عيب آلهتهم ، فيقول : " نعم ، أنا الذي أقول ذلك " ، فأخذ بعضهم بمجمع ردائه ، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " ! ( سيرة ابن هشام 1 : 309 ، 310 ) ، وانظر الخبر التالي رقم : 15974 ، والتعليق عليه .
وكان هذا قبل الهجرة بزمان طويل ، في حياة أبي طالب . فكأن هذا الخبر ، هو الذي قال عبيد بن عمير في روايته عن المطلب بن أبي وداعة أنه ائتمار قومه به . فإذا صح ذلك ، لم يكن لما قال ابن كثير وجه ، ولصح هذا الخبر لصحة إسناده .

(13/493)


وكأنّ معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه ، كما : -
15965 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال وحدثني الكلبي ، عن زاذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس : أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، (1) فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. (2) قالوا : أجل ، ادخل! فدخل معهم ، فقال : انظروا إلى شأن هذا الرجل ، (3) والله
__________
(1) في المخطوطة : " في صورة جليل " ، وفوق " جليل " حرف ( ط ) دليلا على الخطأ ، والصواب ما في المطبوعة ، مطابقًا لما في سيرة ابن هشام .
(2) " لن يعدمكم " ، أي : لا يعدوكم ويخطئكم مني رأي ونصح .
(3) في المطبوعة : " في شأن " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/494)


ليوشكن أن يُواثبكم في أموركم بأمره. (1) قال : فقال قائل : احبسوه في وَثاق ، ثم تربصوا به ريبَ المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم! قال : فصرخ عدوُّ الله الشيخ النجدي فقال : والله ، ما هذا لكم برأي ! (2) والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم! قالوا : فانظروا في غير هذا. قال : فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع ، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم ، وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله ، وطلاقة لسانه ، وأخذَ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ، ثم استعرَض العرب ، لتجتمعن عليكم ، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم! قالوا : صدق والله! فانظروا رأيًا غير هذا ! قال : فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ، ما أرى غيره! قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلامًا وَسيطا شابًّا نَهْدًا ، (3) ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها ، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، (4) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي ، القولُ ما قال الفتى ، لا أرى غيره! قال : فتفرقوا على ذلك وهم مُجْمعون له ، قال : فأتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة ، وأذِن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة " الأنفال " ، يذكره نعمه عليه ، وبلاءه عنده : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ، وأنزل في قولهم : " تربصوا به ريبَ المنون " حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء " : أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، [ سورة الطور : 30]. وكان يسمى ذلك اليوم : " يوم الزحمة " للذي اجتمعوا عليه من الرأي. (5)
15966 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى (6) قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومقسم ، في قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبع فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم : بل اقتلوه. وقال بعضهم : بل اخرجوه. فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه ، فردَّ الله مكرهم.
15967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عيد الرزاق قال ، أخبرني أبي ، عن عكرمة قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ، أمر عليَّ بن أبي طالب ، فنام في مضجعه ، فبات المشركون يحرسونه ، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هم بعليّ ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال :
__________
(1) في المطبوعة : " أن يواتيكم في أموركم " ، وهو لا معنى له ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهي غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " رأي " بغير باء ، والصواب من المخطوطة .
(3) " الوسيط " : حسيبًا في قومه ، من أكرمهم حسبًا ونسبًا ومجدًا . وكان في المطبوعة " وسطا ً " ، والصواب ما في المخطوطة . و " غلام نهد " : كريم ، ينهض إلى معالي الأمور. واصل " النهد " : المرتفع .
(4) " العقل " ، الدية .
(5) الأثر : 15965 - سيرة ابن هشام 2 : 124 - 128 ، وإسناد هناك " قال ابن إسحاق ، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج ، وغيره ممن لا أتهم ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " ، ثم ساق الخبر بغير هذا اللفظ .
ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية " سورة الطور " ، آية مكية ، نزلت قبل الهجرة بزمان ، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر ، يوهم أنها نزلت ليلة الهجرة ، أو بعد الهجرة ، وهذا لا يكاد يصح .
(6) سقط من المطبوعة : " محمد " وكتب " بن عبد الأعلى " ، وهي ثابتة في المخطوطة .

(13/495)


لا أدري! قال : فركبوا الصعب والذَّلول في طلبه. (1)
15968 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر قال ، أخبرني عثمان الجزريّ : أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره ، عن ابن عباس في قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ، قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم : بل اقتلوه. وقال بعضهم : بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات على رحمه الله على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، (2) وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم . فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليًّا رحمة الله عليه ، ردّ الله مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري! فاقتصُّوا أثره ، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار ، رأوا على بابه نسج العنكبوت ، قالوا : لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه! فمكث فيه ثلاثا. (3)
__________
(1) " الصعب " من الإبل ، هو الذي لم يركب قط ، لأنه لا ينقاد لراكبه ، ونقيضه " الذلول " ، وهو السهل المنقاد . مثل لركوب كل مركب في طلب ما يريده المرء ، سهل المركب أو صعب .
(2) في المخطوطة ، سقط من الناسخ " الليلة " ، وزادتها المطبوعة .
(3) الأثر : 15968 - " عثمان الجزري " ، يقال له : " عثمان المشاهد " . روى عن مقسم ، روى عنه معمر ، والنعمان بن راشد . قال أبو حاتم : " لا أعلم روى عنه غير معمر ، والنعمان " . وسئل عنه أحمد فقال : " روى أحاديث مناكير ، زعموا أنه ذهب كتابه " . مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 174 .
وكان في المطبوعة : " عثمان الجريري " ، والمخطوطة ، كما أثبتها ، غير أنه غير منقوط .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم : 3251 ، وقال أخي : " في إسناده نظر ، من أجل عثمان الجزري ، كالإسناد 2562 " ، وقد استظهر هناك أن " عثمان الجزري " هو " عثمان بن ساج " ، ولكن ما قاله ابن أبي حاتم ، يرجح أن " عثمان الجزري " ، غير " عثمان بن ساج " .
وقد وجدت بعد في مجمع الزوائد 7 : 27 ، هذا الخبر ، بنحوه ثم قال : " رواه أحمد والطبراني ، وفيه " عثمان بن عمرو الجزري " ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح " .
ولا أزال أشك في أن " عثمان الجزري " ، غير " عثمان بن عمرو بن ساج "

(13/497)


15969 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ، قال : اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت الأنصار ، وفَرِقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه. (1) فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد ، فدخل معهم في دار الندوة ، فلما أنكروه قالوا : من أنت ؟ فوالله ما كل قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا! قال : أنا رجل من أهل نجد ، أسمع من حديثكم وأشير عليكم! فاستحيَوْا ، فخلَّوا عنه. فقال بعضهم : خذوا محمدًا إذا اضطجع على فراشه ، (2) فاجعلوه في بيت نتربص به ريبَ المنون و " الريب " ، هو الموت ، و " المنون " ، هو الدهر قال إبليس : بئسما قلت! تجعلونه في بيت ، فيأتي أصحابه فيخرجونه ، فيكون بينكم قتال! قالوا : صدق الشيخ! قال : أخرجوه من قريتكم! قال إبليس : بئسما قلت! تخرجونه من قريتكم ، وقد أفسد سفهاءكم ، فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم ، فيأتيكم بالخيل والرجال! قالوا : صدق الشيخ! قال أبو جهل وكان أولاهم بطاعة إبليس : بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش ، فنخرج منهم رجلا فنعطيهم السلاح ، فيشدُّون على محمد جميعًا فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشًا ، فليس لهم إلا الدية! قال إبليس : صدق ، وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا! فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنام على الفراش ، وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل ، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار ، ونام علي بن أبي طالب على الفراش ، فذلك حين يقول الله : " ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " و " الإثبات " ، : هو الحبس والوثاق وهو قوله : وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
__________
(1) " فرقوا " ، خافوا وفزعوا .
(2) في المطبوعة : " إذا اصطبح على فراشه " ، لا أدري من أين جاء بها ! .

(13/498)


مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [ سورة الإسراء : 76] ، يقول : يهلكهم.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لقيه عمر فقال له : ما فعل القوم ؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، وكذلك كان يُصنع بالأمم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخِّروا بالقتال " .
15970 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليثبتوك أو يقتلوك " ، قال : كفار قريش ، أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة.
15971 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
15972 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا هانئ بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال : فعلوا ذلك بمحمد.
15973 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك " ، الآية ، هو النبي صلى الله عليه وسلم ، مكروا به وهو بمكة.
15974 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ، إلى آخر الآية ، قال : اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم : لا يقتله رجل إلا قُتل به! قالوا : خذوه فاسجنوه ، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا : فلا يدعكم أهل بيته! قالوا : أخرجوه. قالوا : إذًا يستغوي الناس عليكم. (1)
__________
(1) " يستغوي الناس " ، أي : يدعوهم إلى التجمع . يقال : " تغاووا عليه حتى قتلوه " ، إذا تجمعوا وتعاونوا في الشر . والأجود عندي : " يستعوى " ( بالعين المهملة ) . يقال : " استعوى فلان جماعة " ، إذا نعق بهم على الفتنة . ويقال : " تعاوى بنو فلان على فلان " و " تغاووا " ( بالغين المعجمة ) ، إذا تجمعوا عليه . و " استعوى القوم " ، استغاث بهم . وأصله من " العواء " ، عواء الكلب ، فتجاوبه كلاب الحي .

(13/499)


قال : وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد ، واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستلم ، أن يجتمعوا عليه فيغمُّوه ويقتلوه ، (1) فإنه لا يدري أهله من قتله ، فيرضون بالعقل ، فنقتله ونستريح ونعقِله! فلما أن جاء يطوف بالبيت ، اجتمعوا عليه فغمُّوه ، فأتى أبو بكر فقيل له ذاك ، فأتى فلم يجد مدخلا. فلما أن لم يجد مدخلا قال : أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، [سورة غافر : 28]. قال : ثم فرَّجها الله عنه. فلما أن حطّ الليل ، (2) أتاه جبريل عليه السلام فقال ، من أصحابك ؟ فقال : فلان وفلان وفلان. فقال : لا نحن أعلم بهم منك ، (3) يا محمد ، هو ناموس ليل! (4) قال : وأخِذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام ، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدِّم أحدهم إلى جبريل ، فكحَله ثم أرسله ، فقال : ما صورته يا جبريل ؟ قال : كُفِيتَه يا نبي الله!
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فيعموه " بالعين المهملة ، ولها وجه ضعيف عندي ، وصوابها بالغين المعجمة . يقال : " غم الشيء يغمه " ، إذا علاه وغطاه وستره حتى لا فرجة فيه ، ومنه قول النمر بن تولب ، يصف اجتماع المقاتلة العرب في الحرب : زَبَنَتْكَ أَرْكَانُ العَدُوِّ فأَصْبَحتْ ... أَجَأ وَحَيَّة مِنْ قَرَارِ ديارها
وَكأَنَّهَا دَقَرَى ، تَخَايَلَ نَبْتُها ... أُنُفٌ يَغُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا
ومنه قيل للغمة " غمة " ، وقيل : " سحاب أغم " ، لا فرجة فيه . وانظر بعد ذلك صفة اجتماعهم عليه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ، وأن أبا بكر لم يجد مدخلا ، وقوله أيضًا : " ثم فرجها الله عنه " . فكل هذا يدل على صواب قراءتها كما أثبتها . وهذه الصفحة من المخطوطة ، يكاد أكثرها يكون غير منقوط .
(2) في المطبوعة : " فلما أن كان الليل " ، غير ما في المخطوطة ، وكان فيها " فلما أن حبط " وصواب قراءتها إن شاء الله ما أثبت. و " حط الليل " ، نزل وأطبق.
(3) في المخطوطة : " فقال : فلان وفلان وفلان ، فقال لا . فقال جبريل عليه السلام : نحن أعلم بهم منك ... " ، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء ، والذي في المطبوعة اجتهاد من الناشر ، تركه على حاله .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " هو ناموس ليل " ، والسياق يقتضي ما أثبت .
و " الناموس " دويبة أغبر ، كهنة الذرة ، تلكع الناس وتلسعهم . وقولهم : " هم ناموس ليل " ، يعني حقارتهم وقلة شأنهم .

(13/500)


ثم قدِّم آخر ، فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرة ثم أرسله ، فقال : ما صورته يا جبريل ؟ فقال : كُفِيته يا نبي الله! ثم أتي بآخر فنقر في ركبته ، فقال : ما صورته يا جبريل ؟ قال : كفيته! ثم أتي بآخر فسقاه مَذْقة ، (1) فقال : ما صورته يا جبريل ؟ قال : كفيته يا نبي الله! وأتي بالخامس ، (2) فلما غدا من بيته ، مرّ بنبّال فتعلق مِشْقَص بردائه ، (3) فالتوى ، فقطع الأكحل من رجله. (4) وأما الذي كحلت عيناه ، فأصبح وقد عمي. وأما الذي سقي مَذْقةً ، فأصبح وقد استسقى بطنه. وأما الذي نقر فوق رأسه ، فأخذته النقبة و " النقبة " ، قرحة عظيمة (5)
أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته ، فأصبح وقد أقعد. فذلك قول الله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " .
15975 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ، أي : فمكرت لهم بكيدي المتين ، حتى خلّصك منهم. (6)
__________
(1) " المذقة " ، الطائفة من اللبن الممزوج بالماء .
(2) لم يذكر ما فعل جبريل عليه السلام بالخامس ، وإن كان ذكر ما آل إليه أمره ، فأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء .
(3) في المطبوعة " مر " حذف الفاء ، وهو صواب ، فأثبتها من المخطوطة . و " المشقص " ، نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض .
(4) " الأكحل " ، عرق الحياة ، ويقال له : " نهر البدن " ، وهو عرق في اليد ووسط الذراع ، وفي كل عضو منه شعبة ، لها اسم على حدة ، إذا قطع لم يرقأ الدم .
(5) في المطبوعة : " النقدة " ، في الموضعين . وأما المخطوطة ، فالأولى ، يوشك أن يكتبها " النقبة " إلا أنه يزيد في رأس الباء ، ثم كتب بعد " النقدة " ولم أجد في القروح ما يقال له : " نقدة " .
و " النقبة " ( بضم فسكون ) أول بدء الجرب ، ترى الرقعة مثل الكف بجنب البعير أو وركه أو بمشفرة ، ثم تتمشى فيه تشريه كله ، أي تملؤه كله . فلعل هذه هي المرادة هنا .
(6) الأثر : 15975 - سيرة ابن هشام 1 : 325 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15955 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " فمكرت لهم " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام ، وهي أجود .

(13/501)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)

15976 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : " وإذ يمكر بك الذين كفروا " ، قال : هذه مكية قال : ابن جريج ، قال مجاهد : هذه مكية. (1)
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : واذكر ، يا محمد ، نعمتي عندك ، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك ، بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك ، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم ، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين ، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم ، ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم ، فإن ربّك خيرُ الماكرين بمن كفر به ، وعبد غيره ، وخالف أمره ونهيه.
* * *
وقد بينا معنى " المكر " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه (3) ، قالوا جهلا منهم ، وعنادًا للحق ، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم " لو نشاء لقلنا مثل هذا " ،
__________
(1) الأثر : 15976 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 15964 . كأنه يعني أن هذه الآية ، معنى بها أمر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة . والقطع بأن هذه الآية أو اللواتي تليها آيات نزلت بمكة ، أمر صعب ، لا يكاد المرء يطمئن إلى صوابه ، والاعتراض على ذلك له وجوه كثيرة لا محل لذكرها هنا .
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12 : 95 ، 97 ، 579 \ 13 : 33 ، 491 .
(3) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص : 385 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/502)


الذي تُلِي علينا " إن هذا إلا أساطير الأولين " ، يعني : أنهم يقولون : ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين.
و " الأساطير " جمع " أسطر " ، وهو جمع الجمع ، لأن واحد " الأسطر " " سطر " ، ثم يجمع " السطر " ، " أسطر " و " سطور " ، ثم يجمع " الأسطر " " أساطير " و " أساطر " . (1)
وقد كان بعضُ أهل العربية يقول : واحد " الأساطير " ، " أسطورة " .
* * *
وإنما عنى المشركون بقولهم : " إن هذا إلا أساطير الآولين " ، إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا ، يا محمد ، إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم ، وأنه لم يوحِه الله إليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
15977 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " ، قال : كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس ، فيمرّ بالعِباد وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. (2) فجاء مكة ، فوجد محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد ، فقال النضر : " قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا! " ، للذي سَمِع من العباد. فنزلت : " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد
__________
(1) انظر تفسير " الأساطير " فيما سلف 11 : 308 - 310 .
(2) " العباد " ، قوم من قبائل شتى من بطون العرب ، اجتمعوا على النصرانية قبل الإسلام ، فأنفوا أن يسموا بالعبيد ، فقالوا : " نحن العباد " ، ونزلوا بالحيرة . فنسب إلى " العباد " ، ومنهم عدى بن يزيد العبادي الشاعر .

(13/503)


سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " ، قال : فقص ربُّنا ما كانوا قالوا بمكة ، وقص قولهم : إذ قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " ، الآية.
15978 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان النضر بن الحارث بن علقمة ، أخو بني عبد الدار ، يختلف إلى الحيرة ، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة ، سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ، فقال : " قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين " ، يقول : أساجيع أهل الحيرة. (1)
15979 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قتل النبيُّ من يوم بدر صبرًا : عقبةَ بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله ، قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ، فقال المقداد : أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! " فقال المقداد : هذا الذي أردت! وفيه نزلت هذه الآية : " وإذا تتلى عليهم آياتنا " ، الآية.
15980 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرًا : المطعم بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط. قال : فلما أمر بقتل النضر ، قال المقداد بن الأسود : أسيري ، يا رسول الله! قال : إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول! قال : فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغْن المقداد من فضلك! وكان المقداد أسر النضر. (2)
__________
(1) " الأساجيع " جمع " أسجوعة " ، ما سجع به الكاهن وغيره . وانظر ما سلف رقم : 13157 .
(2) الأثر : 15980 - هكذا جاء في رواية هذا الخبر " المطعم بن عدي " ، مكان " طعيمة بن عدى " ، وكأنه ليس خطأ من الناسخ ، لأن ابن كثير في تفسيره 4 : 51 ، قال : " وهكذا رواه هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير أنه قال : المطعم بن عدي ، بدل طعيمة . وهو غلط ، لأن المطعم بن عدي لم يكن حيًا يوم بدر ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : لو كان المطعم بن عدي حيًا ، ثم سألني في هؤلاء النتنى ، لوهبتهم له ! يعني الأسارى ، لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف " . وانظر التعليق على رقم : 15981 .

(13/504)


وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واذكر ، يا محمد ، أيضًا ما حلّ بمن قال : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ، إذ مكرت بهم ، فأتيتهم بعذاب أليم (1) وكان ذلك العذاب ، قتلُهم بالسيف يوم بدر.
* * *
وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث.
* ذكر من قال ذلك.
15981 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، قال : نزلت في النضر بن الحارث. (2)
15982 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " مكرت لهم " ، وليست بشيء .
(2) الأثر : 15981 - " أبو بشر " ، هو " جعفر بن إياس " ، " جعفر بن أبي وحشية " ، مضى مرارًا كثيرة . وكان في تعليق ابن كثير ، الذي نقلته في التعليق على الخبر السالف " جعفر بن أبي دحية " ، وهو خطأ محض .

(13/505)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " إن كان هذا هو الحق من عندك " ، قال : قول النضر بن الحارث (1) أو : ابن الحارث بن كَلَدة.
15983 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " ، قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، من بني عبد الدار.
15984 - ......قال ، أخبرنا إسحاق قال ، أخبرنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن كان هذا هو الحق من عندك " ، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة.
15985 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء قال : قال رجل من بني عبد الدار ، يقال له النضر بن كلدة : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ، فقال الله : (( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )) [سورة ص : 16] ، وقال : (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )) [سورة الأنعام : 94] ، وقال : (( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ )) [سورة المعارج : 1 - 2]. قال عطاء : لقد نزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب الله.
15986 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : فقال يعني النضر بن الحارث : اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو
__________
(1) الأثر : 15982 - في المطبوعة : " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة " .
والصواب ما في المخطوطة ، لأن الاختلاف في نسبة هكذا : " النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار " أو : " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار " انظر سيرة ابن هشام 2 : 320 ، 321 . وقد غير ما في المخطوطة بلا حرج ولا ورع .

(13/506)


ائتنا بعذاب أليم! قال الله : (( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ )) .
15987 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية ، قال : (( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ )) .
15988 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " ، الآية قال : قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها ، (1) فعاد الله بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. (2)
15989 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " ، أي : ما جاء به محمد " فأمطر علينا حجارة من السماء " ، كما أمطرتها على قوم لوط " أو ائتنا بعذاب أليم " ، أي : ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول " هو " في الكلام.
فقال بعض البصريين : نصب " الحق " ، لأن " هو " والله أعلم ، حُوِّلت
__________
(1) في المطبوعة : " سفهة هذه الأمة " ، غير ما في المخطوطة ، طرح الصواب المحض يقال : " سفيه " ، والجمع " سفهاء " " وسفاه " ( بكسر السين ) و " سفه " ، بضم السين وتشديد الفاء المفتوحة . والذي في كتب اللغة أن " سفاه " و " سفه " ، و " سفائه " جمع " سفيهة " . وسيأتي في المخطوطة بعد قليل " سفهه " ، وكأنها جائزة أيضًا .
(2) هكذا في المخطوطة أيضًا " سفهة " ، فتركتها على حالها . انظر التعليق السالف . وكأنه إتباع لقوله " جهلة " ، وهذا من خصائص العربية .
(3) الأثر : 15989 - سيرة ابن هشام 2 : 325 ، وهو تبع الأثر السالف رقم : 15975 .
وكان في المطبوعة : " ثم ذكر غيرة قريش " ، وهو لا معنى له ، صوابه من المخطوطة وابن هشام . يعني : اغترارهم بأمرهم ، وغفلتهم عن الحق .

(13/507)


زائدة في الكلام صلةَ توكيدٍ ، كزيادة " ما " ، ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغني عن خبر ، وليس هو بصفة ، ل " هذا " ، لأنك لو قلت : " رأيت هذا هو " ، لم يكن كلامًا. ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ، ولكنها تكون من صفة المضمرة ، نحو قوله : (( وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ )) [سورة الزخرف : 76] و(( خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا )) [سورة المزمل : 20].
لأنك تقول : " وجدته هو وإياي " ، فتكون " هو " صفة. (1)
وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة ، ولكنها تكون زائدة ، كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم ، فيرفع ما بعدها ، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم ، يقولون في قوله : " إن كان هذا هو الحق من عندك " ، " ولكن كانوا هم الظالمون " ، (2) و " تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا " (3) كما تقول : " كانوا آباؤهم الظالمون " ، جعلوا هذا المضمر نحو " هو " و " هما " و " أنت " زائدًا في هذا المكان ، ولم تجعل مواضع الصفة ، لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله ، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر.
* * *
وكان بعض الكوفيين يقول : لم تدخل " هو " التي هى عماد في الكلام ، (4) إلا لمعنى صحيح. وقال : كأنه قال : " زيد قائم " ، فقلت أنت : " بل عمرو هو القائم " ف " هو " لمعهود الاسم ، و " الألف واللام " لمعهود الفعل ، (5) [ " والألف واللام " ] التي هي صلة في الكلام ، (6) مخالفة لمعنى " هو " ، لأن دخولها وخروجها واحد
__________
(1) " الصفة " ، هو " ضمير الفصل " ، وانظر التعليق التالي رقم : 4 .
(2) في المطبوعة : " هم الظالمين " ، خالف المخطوطة وأساء .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " هو خيرًا " ، ولا شاهد فيه ، وصوابه ما أثبت .
(4) " العماد " ، اصطلاح الكوفيين ، والبصريون يقولون : " ضمير الفصل " ، ويقال له أيضًا : " دعامة " و " صفة " . انظر ما سلف 2 : 312 ، تعليق 2 ، ثم ص 313 ، 374 \ ثم 7 : 429 ، تعليق : 2 .
(5) " الفعل " ، يعني الخبر .
(6) ما بين القوسين ، مكانه بياض في المخطوطة ، ولكن ناشر المطبوعة ضم الكلام بعضه إلى بعض . وأثبت ما بين القوسين استظهارًا ، وكأنه الصواب إن شاء الله . وقوله : " صلة " ، أي : زيادة ، انظر تفسير ذلك فيما سلف 1 : 190 ، 405 ، 406 ، 548 \ 4 : 282 \ 5 : 460 ، 462 \ 7 : 340 ، 341 .

(13/508)


وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

في الكلام. وليست كذلك " هو " . وأما التي تدخل صلة في الكلام ، فتوكيدٌ شبيه بقولهم : " وجدته نفسَه " ، تقول ذلك ، وليست بصفة " كالظريف " و " العاقل " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
__________
(1) انظر مبحث ضمير " العماد " في معاني القرآن للفراء 1 : 50 - 52 ، 104 ، 248 ، 249 ، 409 ، 410 .
وما سلف من التفسير 2 : 312 ، 313 \ 7 : 429 ، 430 ، وغيرها في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما .

(13/509)


وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)

القول في تأويل قوله : { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، أي : وأنت مقيم بين أظهرهم. قال : وأنزلت هذه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال : ثم خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، فاستغفر من بها من المسلمين ، فأنزل بعد خروجه عليه ، حين استغفر أولئك بها : " وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون " . قال : ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم ، فعذّب الكفار.
* ذكر من قال ذلك.
15990 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأنزل الله عليه :

(13/509)


" وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، قال : فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأنزل الله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " . قال : فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون يعني بمكة فلما خرجوا أنزل الله عليه : " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياء " . قال : فأذن الله له في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم.
15991 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يعني : من بها من المسلمين " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، يعني مكة ، وفيهم الكفار. (1)
15992 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قول الله : " وما كان الله ليعذبهم " ، يعني : أهل مكة " وما كان الله معذبهم " ، وفيهم المؤمنون ، يستغفرون ، يُغفر لمن فيهم من المسلمين.
15993 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي ، وأبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : بقية من بقي من المسلمين منهم. فلما خرجوا قال : " وما لهم ألا يعذبهم الله " . (2)
15994 - ....... قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، قال : أهل مكة.
__________
(1) في المطبوعة : " وفيها الكفار " ، أما المخطوطة فتقرأ : " بغير مكة ، وفيهم الكفار " ، ولعل ما في المطبوعة أولى بالإثبات .
(2) الأثر : 15993 - " إسحاق بن إسماعيل الرازي " هو : " حبويه ، أبو يزيد " سلف مرارًا ، آخرها رقم : 15311 .

(13/510)


15995 - ......وأخبرنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : المؤمنون من أهل مكة " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " ، قال : المشركون من أهل مكة.
15996 - ......قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " قال : المؤمنون يستغفرون بين ظهرانَيْهم.
15997 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يقول : الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة ، حتى أخرجك والذين آمنوا معك.
15998 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال : ابن عباس : لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه ، ويلحقه بحيث أُمِر " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين فقال : " وما لهم ألا يعذبهم الله " .
15999 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، قال : يعني أهل مكة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم ، يا محمد ، حتى أخرجك من بينهم " وما كان الله معذبهم " ، وهؤلاء المشركون ، يقولون : " يا رب غفرانك! " ، وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا : وقوله : " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك.
16000 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا عكرمة ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس : إن المشركين كانوا يطوفون

(13/511)


بالبيت يقولون : " لبيك ، لبَّيك ، لا شريك لك " ، (1) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : " قَدْ قَدْ! " (2) فيقولون : " إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك " ، (3) ويقولون : " غفرانك ، غفرانك! " ، فأنزل الله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " . فقال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبيّ الله ، والاستغفار. قال : فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " ، قال : فهذا عذاب الآخرة. قال : وذاك عذاب الدنيا. (4)
16001 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان ، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا " الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : " غفرانك اللهم! " ، فأنزل الله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " إلى قوله : " لا يعلمون " .
16002 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كانوا يقولون يعني المشركين : والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ، ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من قولهم ، ورسولُ لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، كما أمطرتها على قوم لوط. وقال حين نَعى
__________
(1) في المطبوعة : " لبيك ، لا شريك لك لبيك " ، غير ما في المخطوطة .
(2) " قد ، قد " ، أي حسبكم ، لا تزيدوا . يقال : " قدك " ، أي حسبك ، يراد بها الردع والزجر .
(3) في المطبوعة ، زاد زيادة بلا طائل ، كتب : " فيقولون : لا شريك لك ، إلا شريك هو لك " .
(4) الأثر : 16000 - " أبو زميل " هو : " سماك بن الوليد الحنفي اليمامي " ، مضى برقم : 13832 ، 15734 .

(13/512)


عليهم سوء أعمالهم : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، أي : لقولهم : [ " إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا " " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، وإن كنت بين أظهرهم] ، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون (1) " وهم يصدون عن المسجد الحرام " ، أي : من آمن بالله وعبده ، أي : أنت ومن تبعك. (2)
16003 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار..................... قال ، حدثنا أبو بردة ، عن أبي موسى قال : إنه كان قبلُ أمانان ، قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " قال : أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. (3)
16004 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يونس
__________
(1) كانت هذه الجملة هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " أي بقولهم ، وإن كانوا يستغفرون كما قال وهم يصدون ... " ، أسقط من الكلام ما لا بد منه وحرف . فأثبت الصواب بين الأقواس ، وفي سائر العبارة ، من سيرة ابن هشام .
(2) الأثر : 16003 - سيرة بن هشام 2 : 325 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15989 .
(3) الأثر : 16004 - " الحسن بن الصباح البزار " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 4442 ، 9857 .
وهذا الإسناد قد سقط منه رواة كثيرون ، وكان في المخطوطة " بردة " فجعلها الناشر " أبو بردة " ، وأصاب وهو لا يدري .
وهذا الخبر روى مثله مرفوعًا الترمذي في سننه في تفسير هذه السورة ، وهذا إسناده : " حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال ، قال رسول الله صلى لله عليه وسلم : أنزل الله علي أمانين لأمتي : " وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة .
ثم قال الترمذي : " هذا حديث غريب ، وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في الحديث " .
أما خبر الطبري ، فلا شك أنه خبر موقوف على أبي موسى الأشعري .
وكان في المطبوعة : " إنه كان فيكم أمانان " ، غير ما في المخطوطة ، وصواب قراءته ما أثبت .

(13/513)


بن أبي إسحاق ، عن عامر أبي الخطاب الثوري قال : سمعت أبا العلاء يقول : كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنَتَان : فذهبت إحداهما وبقيت الأخرى : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، يا محمد ، وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي : لو استغفروا. (2) قالوا : ولم يكونوا يستغفرون ، فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون : " ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " .
* ذكر من قال ذلك.
16005 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : إن القوم لم يكونوا يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول : هما أمانان أنزلهما الله : فأما أحدهما فمضى ، نبيُّ الله. وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم ، الاستغفارُ والتوبةُ.
16006 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال الله لرسوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يقول : ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون ، ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين ، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون ؟ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام ؟
16007 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال يقول : لو استغفروا لم أعذبهم.
__________
(1) الأثر : 16005 - " عامر ، أبي الخطاب الثوري " ، لم أجد له ذكر ، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أن لو استغفروا " ، وكأن الصواب ما أثبت .

(13/514)


وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان الله ليعذبهم وهم يُسلمون. قالوا : و " استغفارهم " ، كان في هذا الموضع ، إسلامَهم.
* ذكر من قال ذلك.
16008 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال ، حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، في قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : سألوا العذاب ، فقال : لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم ، ولم يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام.
16009 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " وأنت فيهم " ، قال : بين أظهرهم وقوله : " وهم يستغفرون " ، قال : يُسلمون.
16010 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، بين أظهرهم " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : وهم يسلمون (1) " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون " ، قريش ، " عن المسجد الحرام " . (2)
16011 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا محمد بن عبيد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، قال : بين أظهرهم " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : دخولهم في الإسلام.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام.
__________
(1) في المخطوطة : " وهم مسلمون " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) ( 2) كان في المطبوعة : سياق الآية بلا فصل ، وهو قوله : " قريش " ، التي أثبتها من المخطوطة . وكان في المخطوطة : " وهم مسلمون يعذبهم الله " ، بياض بين الكلامين وفي الهامش حرف ( ط ) دلالة على الخطأ .

(13/515)


* ذكر من قال ذلك.
16012 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، يقول : ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يقول : ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان ، وهو الاستغفار. ثم قال : " ومالهم ألا يعذبهم الله " ، فعذبهم يوم بدر بالسيف.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون.
* ذكر من قال ذلك.
16013 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يعني : يصلُّون ، يعني بهذا أهل مكة.
16014 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد في قول الله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : يصلون.
16015 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، يعني : أهل مكة. يقول : لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، يعني : يؤمنون ويصلون.
16016 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، قال : وهم يصلون.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون.

(13/516)


قالوا : ثم نسخ ذلك بقوله : " ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " .
* ذكر من قال ذلك.
16017 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في " الأنفال " : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، فنسختها الآية التي تليها : " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، إلى قوله : " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، فقوتلوا بمكة ، وأصابهم فيها الجوع والحَصْر.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : تأويله : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، يا محمد ، وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأنّي لا أهلك قرية وفيها نبيها وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك ، بل هم مصرُّون عليه ، فهم للعذاب مستحقون كما يقال : " ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ " ، يراد بذلك : لا أحسن إليك ، إذا أسأت إليّ ، ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك ، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك ثم قيل : " ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " ، بمعنى : وما شأنهم ، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به ، (1) وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام ؟
وإنما قلنا : " هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب " ، لأن القوم أعني مشركي مكة كانوا استعجلوا العذاب ، فقالوا : " اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " فقال الله لنبيه : " ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم ، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا ،
__________
(1) انظر تفسير " مالك " فيما سلف 5 : 301 ، 302 \ 9 : 7 .

(13/517)


وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم ، وهم يصدون عن المسجد الحرام ؟ " . فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل ، (1) وأعلمهم حال نزوله بهم ، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذابَ في الآخرة ، وهم مستعجلوه في العاجل ، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون. بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر ، الدليلُ الواضحُ على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول من وجَّه قوله : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، إلى أنه عُنى به المؤمنين ، وهو في سياق الخبر عنهم ، وعما الله فاعل بهم. ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضَّى ، وعلى ذلك [كُنِي] به عنهم ، (2) وأن لا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ.
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال : ذلك منسوخ بقوله : " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " ، الآية ، لأن قوله جل ثناؤه : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " خبرٌ ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم " ، وفي المخطوطة كما أثبته إلا أنه كتب مكان " حائق " " حاق " ، وهو سهو .
(2) في المطبوعة : " وعلى أن ذلك به عنوا ، ولا خلاف في تأويله " ، وفي المخطوطة ، كما أثبته ، إلا أنه سقط منه [ كني ] كما أثبته بين القوسين . وإن كنت أظن في الكلام سقطًا .
هذا وقد ذكر أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 154 ، هذا الرأي ، ثم قال : " جعل الضميرين مختلفين ، وهو قول حسن ، وإن كان محمد بن جرير قد أنكره ، لأنه زعم أنه لم يتقدم للمؤمنين ذكر ، فيكنى عنهم . وهذا غلط ، لأنه قد تقدم ذكر المؤمنين في غير موضع من السورة .
فإن قيل : لم يتقدم ذكرهم في هذا الموضع .
فالجواب : أن في المعنى دليلا على ذكرهم في هذا الموضع . وذلك أن من قال من الكفار : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، إنما قال ذلك مستهزئًا ومتعنتًا . ولو قصد الحق لقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ولكنه كفر وأنكر أن يكون الله يبعث رسولا بوحي من الله ، أي : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأهلك الجماعة من الكفار والمسلمين . فهذا معنى ذكر المسلمين ، فيكون المعنى : كيف يهلك الله المسلمين ؟ فهذا المعنى : " ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المؤمنين " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، يعني الكافرين " .

(13/518)


واختلف أهل العربية في وجه دخول " أن " في قوله : " وما لهم ألا يعذبهم الله " .
فقال بعض نحويي البصرة : هي زائدة ههنا ، وقد عملت كما عملت " لا " وهي زائدة ، وجاء في الشعر : (1)
لَوْ لَمْ تَكنْ غَطَفَانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَيَّ ، لامَ ذَوُو أحْسَابِهَا عُمَرَا (2)
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال : لم تدخل " أن " إلا لمعنى صحيح ، لأن معنى : " وما لهم " ، ما يمنعهم من أن يعذبوا. قال : فدخلت " أن " لهذا المعنى ، وأخرج ب " لا " ، ليعلم أنه بمعنى الجحد ، لأن المنع جحد. قال : و " لا " في البيت صحيح معناها ، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. (3)
وقال : ألا ترى إلى قولك : " ما زيد ليس قائما " ، فقد أوجبت القيام ؟ قال : وكذلك " لا " في هذا البيت. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، ولم يكونوا أولياء الله " إن أولياؤه " ، (5) يقول : ما
__________
(1) هو الفرزدق .
(2) سلف البيت وتخريجه 5 : 302 ، 303 ، وروايته هناك : " إذن للام ذود أحسابها " ، وقد فسرته هناك ، وزعمت أن " الذنوب " بفتح الذال بمعنى : الحظ والنصيب عن الشرف والحسب والمروءة .
أمَّا رواية البيت كما جاءت هنا ، وفي الديوان ، توجب أن تكون " الذنوب " جمع " ذنب " .فهذا فرق ما بين الروايتين والمعنيين .
(3) يعني بقوله : " خبرًا " ، أي : إثباتًا .
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 163 - 166 ، وما سلف من التفسير 5 : 300 - 305 .
(5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .

(13/519)


أولياء الله " إلا المتقون " ، يعني : الذين يتقون الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه. (1)
" ولكن أكثرهم لا يعلمون " يقول : ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون ، بل يحسبون أنهم أولياء الله .
* * *
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16018 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " ، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
16019 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " إن أولياؤه إلا المتقون " ، مَن كانوا ، وحيث كانوا.
16020 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16021 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " ، الذين يحرمون حرمته ، (2) ويقيمون الصلاة عنده ، أي : أنت يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن بك يقول : " ولكن أكثرهم لا يعلمون " . (3)
* * *
__________
(1) وتفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة ( وقى ) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة مكان : " يحرمون حرمنه " ، " يخرجون منه " ، وهذا من عجائب التحريف من طريق الاختصار !! ، والصواب من سيرة ابن هشام .
(3) الأثر : 16021 - سيرة ابن هشام 2 : 325 ، 326 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16003 .

(13/520)


وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله ، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه ، ولم يكونوا لله أولياء ، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن المسجد الحرام ، وهم لا يصلون في المسجد الحرام " وما كان صلاتهم عند البيت " ، يعني : بيت الله العتيق " إلا مُكاء " ، وهو الصفير.
يقال منه : " مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً " وقد قيل : إن " المكو " : أن يجمع الرجل يديه ، ثم يدخلهما في فيه ، ثم يصيح. ويقال منه : " مَكت است الدابة مُكاء " ، إذا نفخت بالريح. ويقال : " إنه لا يمكو إلا استٌ مكشوفة " ، ولذلك قيل للاست " المَكْوة " ، سميت بذلك ، (1) ومن ذلك قول عنترة :
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلا تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ (2)
وقول الطِّرِمَّاح :
__________
(1) وتمام سياقه أن يقول : " سميت بذلك لصفيرها " .
(2) من معلقته المشهورة الغالية . سيرة بن هشام 2 : 326 ، والمعاني الكبير : 981 ، واللسان ( مكا ) وبعد البيت . سَبَقَتْ يَدَايَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... وَرَشَاشِ نَافِذَةٍ كَلَونِ العَنْدَمِ
" الحليل " ، الزوج ، و " الغانية " : البارعة الحسن والجمال ، استغنت بجمالها عن التجمل . " مجدلا " ، صريعًا على الجدالة ، وهي الأرض . و " الفريصة " ، لحمة عند نغض الكتف ، في وسط الجنب ، عند منبض القلب ، وهما فريصتان ، وهي التي ترعد عند الفزع ، فيقال للفزع : " أرعدت فرائصه " ، وإصابة الفريصة مقتل . و " الأعلم " ، الجمل المشقوق الشفة العليا. خرج إليه هذا القتيل ، مدلا بقوته وشبابه ، يحفزه أن ينال إعجاب صاحبته الغانية الجميلة به إذا قتل عنترة ، فلم يكد حتى عاجله بالطعنة التي وصف ما وصف من اتساعها كشدق البعير الأعلم .

(13/521)


فَنَحَا لأُِولاَها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ تَمْكُو جَوَانِبُهَا مِنَ الإنْهَارِ (1)
بمعنى : تصوِّت.
وأما " التصدية " ، فإنها التصفيق ، يقال منه : " صدَّى يصدِّي تصديةً " ، و " صفَّق " ، و " صفّح " ، بمعنى واحد.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16022 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبى ، عن موسى بن قيس ، عن حجر بن عنبس : " إلا مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " ، التصفير و " التصدية " ، التصفيق. (2)
16023 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، " المكاء " ، التصفير و " التصدية " ، التصفيق.
16024 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) ديوانه 149 ، والمعاني الكبير : 983 ، وهو بيت من قصيدة مدح بها خالد بن عبد الله القسري ، ولكن هذا البيت ، مفرد وحده لا صلة له بما قبله ، وهي قصيدة ناقصة بلا شك . وشرحه ابن قتيبة فقال : " نحا " انحرف ، و " المحفظ " ، المغضب . و " تمكو " ، تصفر ، وذلك عند سيلانها . و " الإنهار " ، سعة الطعنة ، ومنه قول قيس بن الخطيم ، يصف طعنة : طَعَنْتُ ابنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ ثَائِرٍ ... لَهَا نَفَذٌ لَوْلا الشُّعَاعُ أَضَاءَهَا ... مَلَكْتُ بها كَفِّى فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
(2) الأثر : 16022 - " موسى بن قيس الحضرمي " ، " عصفور الجنة " ، مضى برقم : 16022 .
و " حجر بن عنبس الحضرمي " ، " أبو العنبس " ، ويقال : " أبو السكن " ، قال ابن معين : " شيخ كوفي ثقة مشهور " ، تابعي ، وكان شرب الدم في الجاهلية ، شهد مع علي الجمل وصفين مترجم في التهذيب ، والكبير 12 \ 68 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 266 .

(13/522)


قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، يقول : كانت صلاة المشركين عند البيت " مكاء " يعني الصفير و " تصدية " ، يقول : التصفيق.
16025 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا فضيل ، عن عطية : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : التصفيق والصفير.
16026 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن قرة بن خالد ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : " المكاء " ، التصفيق ، و " التصدية " ، الصفير. قال : وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب.
16027 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا وكيع ، عن قرة بن خالد ، عن عطية ، عن ابن عمر : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " و " التصدية " ، الصفير والتصفيق.
16028 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، سمعت محمد بن الحسين يحدث ، عن قرة بن خالد ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر قال : " المكاء " ، الصفير ، و " التصدية " : التصفيق.
16029 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن عطية ، عن ابن عمر في قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال ، " المكاء " الصفير ، و " التصدية " ، التصفيق وقال قرة : وحكى لنا عطية فعل ابن عمر ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه.
16030 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " قال بكر : فجمع لي جعفر كفيه ، ثم نفخ فيهما صفيرًا ، كما قال له أبو سلمة.

(13/523)


16031 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " المكاء " ، الصفير ، و " التصدية " ، التصفيق.
16032 - ... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سلمة بن سابور ، عن عطية ، عن ابن عمر : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : تصفير وتصفيق. (1)
16033 - ... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر ، مثله.
16034 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حبويه أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون ، فأنزل الله : (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ )) [سورة الأعراف : 32] ، فأمروا بالثياب.
16035 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد قال : كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به ، يصفرون به ويصفقون ، فنزلت : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " .
16036 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " إلا مكاء " ، قال : كانوا ينفخون في أيديهم ، و " التصدية " ، التصفيق.
__________
(1) الأثر : 16032 - " سلمة بن سابور " ، روى عن عطية العوفي ، وعبد الوارث مولى . روى عنه أبو نعيم ، والفضل بن موسى ، وغيرهما . ضعفه ابن معين ، وثقه ابن حبان وقال : " كان يحيى القطان يتكلم فيه ، ومن المحال أن يلحق بسلمة ما جنت يدا عطية " . أما البخاري فاقتصر على قوله : " كان يحيى يتكلم في عطية " ، كأنه لا يريد استضعافه . مترجم في لسان الميزان 3 : 68 ، والكبير 2 \ 2 \ 84 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 163 ، وضعفه ، وميزان الاعتدال 1 : 406 ، واقتصر فقال : " جرحوه " .

(13/524)


16037 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إلا مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " ، إدخال أصابعهم في أفواههم ، و " التصدية " التصفيق ، يخلِطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه.
16038 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلا أنه لم يقل : " صلاته " .
16039 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : " المكاء " ، إدخال أصابعهم في أفواههم ، و " التصدية " ، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار ، كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاتَه.
16040 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : من بين الأصابع قال أحمد : سقط عليَّ حرف ، وما أراه إلا الخَذْف (1) والنفخ والصفير منها ، وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. (2)
16041 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، أخبرنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " ، كانوا يشبِّكون بين أصابعهم ويصفرون بها ، فذلك " المكاء " . قال : وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس.
16042 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب
__________
(1) " الخذف " رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الخذف " وقال : " إنه يفقأ عينًا ، ولا ينكي العدو ، ولا يحرز صيدًا " .
(2) " أبو قبيس " ، اسم الجبل المشرف على بطن مكة .

(13/525)


قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في قوله : " مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " النفخ وأشار بكفه قِبَل فيه و " التصدية " ، التصفيق.
16043 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " المكاء " ، الصفير ، و " التصدية " ، التصفيق.
16044 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
16045 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : كنا نُحَدَّث أن " المكاء " ، التصفيق بالأيدي ، و " التصدية " ، صياح كانوا يعارضون به القرآن.
16046 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " ، التصفير ، و " التصدية " ، التصفيق.
16047 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، و " المكاء " ، الصفير ، على نحو طير أبيض يقال له " المكَّاء " ، يكون بأرض الحجاز ، (1) و " التصدية " ، التصفيق.
16048 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : " المكاء " ، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال : وقال في " المكاء " ، أيضًا : صفير في أيديهم ولعب.
* * *
__________
(1) " المكاء " ( بضم الميم وتشديد الكاف ) ، وجمعه " مكاكي " طائر نحو القنبرة ، إلا أن في جناحيه بلقًا . سمى بذلك ، لأنه يجمع يديه ، ثم يصفر فيهما صفيرًا حسنًا .

(13/526)


وقد قيل في " التصدية " : إنها " الصد عن بيت الله الحرام " . وذلك قول لا وجه له ، لأن " التصدية " ، مصدر من قول القائل : " صدّيت تصدية " . وأما " الصدّ " فلا يقال منه : " صدَّيت " ، إنما يقال منه " صدَدْت " ، فإن شدَّدت منها الدال على معنى تكرير الفعل قيل : " صدَّدْتَ تصديدًا " . (1) إلا أن يكون صاحب هذا القول وجَّه " التصدية " إلى أنه من " صَدَّدت " ، ثم قلبت إحدى داليه ياء ، كما يقال : " تظنَّيْتُ " من " ظننت " ، وكما قال الراجز : (2)
تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ (3)
يعني : تقضُّض البازي ، فقلب إحدى ضاديه ياء ، فيكون ذلك وجهًا يوجَّه إليه.
* ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل " التصدية " .
16049 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، صدهم عن بيت الله الحرام.
16050 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، أخبرنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : " وتصدية " قال : " التصدية " ، صدّهم الناس عن البيت الحرام.
16051 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وتصدية " ، قال : التصديد ، عن سبيل الله ، (4) وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " صددت تصدية " ، وهو خطأ ظاهر ، صوابه ما أثبت .
(2) هو العجاج .
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2 : 157 ، وسيأتي في التفسير 30 : 135 ( بولاق ) .
(4) في المطبوعة : " التصدية " ، وفي المخطوطة توشك أن تقرأ هكذا وهكذا ، ورأيت الأرجح أن تكون " التصديد " ، فأثبتها .

(13/527)


16052 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " ، قال : ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يُدْرَأ بها عنهم " إلا مكاء وتصدية " ، وذلك ما لا يرضى الله ولا يحبّ ، ولا ما افترض عليهم ، ولا ما أمرهم به. (1)
* * *
وأما قوله : " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، فإنه يعني العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " الآية ، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب " ذوقوا " ، أي اطعموا ، وليس بذوق بفم ، ولكنه ذوق بالحسِّ ، ووجود طعم ألمه بالقلوب. (2) يقول لهم : فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم ، ورسالةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16053 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، أي : ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل. (3)
16054 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، قال : هؤلاء أهل بدر ، يوم عذبهم الله.
16055 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، يعني أهل بدر ، عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر.
* * *
__________
(1) الأثر : 16052 - سيرة ابن هشام 2 : 326 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16021
(2) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص 434 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) الأثر : 16053 - سيرة ابن هشام 2 : 326 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 1605.

(13/528)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ، (1) فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله ، (2) فسينفقون أموالهم في ذلك ، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم " حسرة " ، يقول : تصير ندامة عليهم ، (3) لأن أموالهم تذهب ، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله ، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله ، لأن الله مُعْلي كلمته ، وجاعل كلمة الكفر السفلى ، ثم يغلبهم المؤمنون ، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم ، فيعذبون فيها ، (4) فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحيّ ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع ، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. (5) وأما الهالك ، فقتل وسُلب ، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها ، نعوذ بالله من غضبه.
وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذُكر ، أبا سفيان.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف من فهارس اللغة ( نفق ) .
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 12 : 559 تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف 3 : 295 \ 7 : 335 \ 11 : 325 .
(4) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص : 472 تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(5) في المطبوعة : " محزونًا مسلوبًا " ، والسياق يتقضى ما أثبت .
" محروب " ، مسلوب المال .

(13/529)


16056 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " الآية ، " والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " ، قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب. استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة ، (1) فقاتل بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك :
وَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَابِيشُ ، مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ (2)
ثَلاثَةُ آلافٍ ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلاثُ مِئِينَ إن كَثُرْنَ ، فَأرْبَعُ (3)
16057 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، قال : نزلت في أبي سفيان ، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، سوى من استجاش من العرب. (4)
__________
(1) " الأحابيش " ، هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وعضل ، والديش ، من بني الهون بن خزيمة ، والمطلق ، والحيا ، من خزاعة . وسميت " الأحابش " ، لاجتماعها وانضمامها محالفة قريش ، في قتال بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة . ( انظر المحبر : 246 ، 267 ) و ( نسب قريش : 9 ) .
(2) سيرة ابن هشام 3 : 141 ، طبقات فحول الشعراء : 183 ، نسب قريش : 9 وغيرها.
ويعني بقوله : " فجئنا إلى موج " ، جيش الكفار يوم أحد ، يموج موجه . وكان عدة المشركين بأحد ثلاثة آلاف . و " الحاسر " ، الذي لا درع له ، ولا بيضة على رأسه . و " المقنع " ، الدارع الذي ليس لبس سلاحه ، ووضع البيضة على رأسه .
(3) " نصية " ، أي : خيار أشراف ، أهل جلد وقتال . يقال : " انتصى الشيء " ، اختار ناصيته ، أي أكرم ما فيه . وكان في المطبوعة : " ونحن نظنه " ، وهو خطأ صرف ، وهي في المخطوطة ، كما كتبتها غير منقوطة .
وهكذا جاء الرواية في المخطوطة : " إن كثرن فأربع " ، كأنه يعني أنهم كانوا ثلاثمئة ، فإن كثروا فأربعمئة . وهو لا يصح ، لأن عدة المسلمين يوم أحد كانت سبعمئة . فصواب الرواية ما أنشده ابن إسحاق وابن سلام .
" إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ "
(4) " استجاش " ، طلب منه الجيش وجمعه على عدوه .

(13/530)


16058 - ......قال ، أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري ، عن الحكم بن عتيبة : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، قال : نزلت في أبي سفيان. أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا. (1)
16059 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، الآية ، قال : لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس ودعاهم إلى القتال ، (2) حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل. وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع.
16060 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال الله فيما كان المشركون ، ومنهم أبو سفيان ، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم " فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة " ، يقول : ندامة يوم القيامة وويلٌ (3) " ثم يغلبون " .
16061 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ينفقون أموالهم ليصدوا
__________
(1) الأثر : 16058 - " خطاب بن عثمان العصفري " ، لم أجد له ترجمة في غير ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286 ، وقال : " خطاب العصفري " روى عن الشعبي ، روى عنه وكيع ، ومحمد بن ربيعة ، وأبو نعيم . سمعت أبي يقول ذلك .
وسألته عنه فقال : " شيخ " . ولم يذكر أن اسم أبيه " عثمان " .
(2) في المطبوعة : " أنشد الناس " ، وهو لا معنى له . وفي المخطوطة : " أنسب " ، غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت . و " التأشيب " ، التحريش بين القوم ، و " التأشيب " ، التجميع ، يقال : " تأشب به أصحابه " ، أي : اجتمعوا إليه وطافوا به . أراد أنه جمعهم وحرضهم على القتال .
(3) في المطبوعة : " وويلا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب أيضًا .

(13/531)


عن سبيل الله " ، الآية حتى قوله : " أولئك هم الخاسرون " ، قال : في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
16062 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16063 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، (1) [وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد ، قالوا : أو من قاله منهم : لما أصيب] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب ، (2) ورجع فَلُّهم إلى مكة ، (3) ورجع أبو سفيان بعِيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، (4) وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدًا قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم ، (5) فأعينونا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " الحصين بن عبد الرحمن وعمرو بن سعد بن معاذ " ، وهو خطأ ، فقد مضى مرارًا مثله . وصوابه من سيرة ابن هشام .
(2) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ، وإنما فعلت ذلك ، لأن المطبوعة خالفت المخطوطة لخطأ فيها ، فكتب في لمطبوعة : " قالوا : أما أصابت المسلمين يوم بدر ... " ، وكان في المخطوطة : " قالوا : لما أصيبت قريش ، أو من قاله منهم ، يوم بدر " ، وهو غير مستقيم ، فرجح قوله : " أو من قال منهم " ، أن الناسخ قد عجل في نقل بقية الإسناد ، وخلط الكلام فاضطرب . فلذلك أثبته بنصه من السيرة .
(3) " الفل " ( بفتح الفاء ) : المنهزمون ، الراجعون من جيش قد هزم .
(4) في المطبوعة : " عبد الله بن ربيعة " ، خطأ محض .
(5) " وتر القوم " ، أدرك فيهم مكروهًا بقتل أو غيره . و " الموتور " الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه .

(13/532)


بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال : ففيهم ، كما ذكر عن ابن عباس ، (1) أنزل الله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " إلى قوله : " والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " . (2)
16064 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ، إلى قوله : " يحشرون " ، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان ، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة ، فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (3) ففعلوا. (4)
16065 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن عطاء بن دينار في قول الله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " ، الآية ، نزلت في أبي سفيان بن حرب. (5)
* * *
وقال بعضهم : عني بذلك المشركون من أهل بدر.
* ذكر من قال ذلك :
16066 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " الآية ، قال : هم أهل بدر.
* * *
__________
(1) الذي في سيرة ابن هشام : " قال ابن إسحاق ، ففيهم ، كما ذكر لي بعض أهل العلم " ، ولم يسند الكلام إلى ابن عباس .
(2) الأثر : 16063 - سيرة ابن هشام 3 : 64 .
(3) في المطبوعة : " أن يعينوهم " ، وفي سيرة ابن هشام : " يقووهم بها " ، بزيادة .
(4) الأثر : 16064 سيرة ابن هشام 2 : 327 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16053 .
(5) الأثر : 16065 - " سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري " ، مضى مرارًا آخرها رقم : 13178 . وكان في المخطوطة : " سعيد بن أيوب " ، وصححه ناشر المطبوعة .
و " عطاء بن دينار الهذلي المصري " ، مضى أيضًا برقم : 160 ، 13178 ، بمثل هذا الإسناد .

(13/533)


لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا ، وهو أن يقال : إن الله أخبرَ عن الذين كفروا به من مشركي قريش ، أنهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله. لم يخبرنا بأيّ أولئك عَنى ، غير أنه عم بالخبر " الذين كفروا " . وجائز أن يكون عَنَى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر وجائز أن يكون عنى الفريقين. وإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش.
* * *
القول في تأويل قوله : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم ، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله ، إلى جهنم ، ليفرق بينهم وهم أهل الخبث ، كما قال وسماهم " الخبيث " وبين المؤمنين بالله وبرسوله ، وهم " الطيبون " ، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته ، وأنزل أهل الكفر نارَه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16067 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ،
__________
(1) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف ص : 165 ، تعليق : 3 ، 4 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة ( طيب ) .

(13/534)


عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ليميز الله الخبيث من الطيب " فميَّز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
16068 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم ذكر المشركين ، وما يصنع بهم يوم القيامة ، فقال : " ليميز الله الخبيث من الطيب " ، يقول : يميز المؤمن من الكاف ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض .
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله : " فيجعل الخبيث بعضه على بعض " ، فيحمل الكفار بعضهم فوق بعض " فيركمه جميعا " ، يقول : فيجعلهم ركامًا ، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا ، كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب : (( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)) [سورة النور : 43] ، أي مجتمعًا كثيفًا ، وكما : -
16069 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " فيركمه جميعًا " ، قال : فيجمعه جميعًا بعضه على بعض.
* * *
وقوله : " فيجعله في جهنم " يقول : فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله : " ليميز الله الخبيث " ، ثم قال : " أولئك هم الخاسرون " ، فجمع ، ولم يقل : " ذلك هو الخاسر " ، فردَّه إلى أول الخبر.
ويعني ب " أولئك " ، الذين كفروا ، وتأويله : هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " هم الخاسرون " ، ويعني بقوله : " الخاسرون " الذين غُبنت صفقتهم ، وخسرت تجارتهم. (1) وذلك أنهم شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة ، وتعجَّلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به ، الخزيَ والذلَّ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 12 : 579 ، تعليق : 2 ، المراجع هناك .

(13/535)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)

القول في تأويل قوله : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل " ، يا محمد ، " للذين كفروا " ، من مشركي قومك " إن ينتهوا " ، عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله ، وقتالك وقتال المؤمنين ، فينيبوا إلى الإيمان (1) يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم (2) " وإن يعودوا " ، يقول : وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر ، ومن غيرهم من القرون الخالية ، (3) إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم ، من إحلال عاجل النِّقَم بهم ، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك ، مثل الذي أحللت بهم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16070 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فقد مضت سنة الأولين " ، في قريش يوم بدر ، وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16071 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف : 455 ، تعليق : 1 والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " سلف " فيما سلف 6 : 14 \ 8 : 138 ، 150 \ 11 : 48 .
(3) انظر تفسير " سنة " فيما سلف 7 : 228 \ 8 : 209 .
(4) في المطبوعة : " اللذين أحلت بهم " ، وفي المخطوطة سيئة الكتابة ، صوابها ما أثبت .

(13/536)


وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

16072 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16073 - حدثني ابن وكيع قال ، (1) حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فقد مضت سنة الأولين " ، قال : في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16074 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال في قوله : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا " لحربك " فقد مضت سنة الأولين " ، أي : من قُتل منهم يوم بدر. (2)
16075 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن يعودوا " ، لقتالك " فقد مضت سنة الأولين " ، من أهل بدر.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : وإن يعد هؤلاء لحربك ، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر ، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم ، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو " الفتنة " (3) " ويكون الدين
__________
(1) في المطبوعة : " حدثنا المثنى قال ، حدثنا ابن وكيع ... " ، وهو خطأ ظاهر ، وصوابه من المخطوطة.
(2) الأثر : 16074 - سيرة ابن هشام 2 : 327 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16064 .
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف : 486 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/537)


كله لله " ، يقول : حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصةً دون غيره. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16076 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يعني : حتى لا يكون شرك.
16077 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " الفتنة " ، الشرك.
16078 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يقول : قاتلوهم حتى لا يكون شرك " ويكون الدين كله لله " ، حتى يقال : " لا إله إلا الله " ، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وإليها دَعا.
16079 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون شرك.
16080 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون بلاء.
__________
(1) وتفسير " الدين " فيما سلف 1 : 155 ، 156 \ 6 : 273 - 275 ، وغيرها في فهارس اللغة ( دين ) .

(13/538)


16081 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ، أي : لا يفتن مؤمن عن دينه ، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك ، ويُخلع ما دونه من الأنداد. (1)
16082 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون كفر " ويكون الدين كله لله " ، لا يكون مع دينكم كفر.
16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء ، فكتب إليه عروة : " سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد ، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فنعم النبيُّ ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا ، وعرّفنا وجهه في الجنة ، وأحيانَا على ملته ، وأماتنا عليها ، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه ، لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه ، (2) وكادوا
__________
(1) الأثر : 16081 - هذا نص ابن هشام في سيرته ، من روايته عن ابن إسحاق ، فأنا أكاد أقطع أن هذا الخبر ملفق من خبرين :
أولهما هذا الإسناد الأول ، سقط نص خبره .
والآخر إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحاق ، وهو هذا ، حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : .. " ، ثم هذا السياق الذي هنا ، وهو نص ما في ابن هشام .
انظر سيرة ابن هشام 2 : 327 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 12074 .
(2) في المطبوعة : " لم ينفروا منه " غير ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في التاريخ .

(13/539)


يسمعون له ، (1) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش ، لهم أموال ، أنكر ذلك ناسٌ ، واشتدّوا عليه ، (2) وكرهوا ما قال ، وأغروا به من أطاعهم ، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه ، (3) إلا من حفظه الله منهم ، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنةً شديدة الزلزال (4) ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له " النجاشي " ، لا يُظلم أحد بأرضه ، (5) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [صلاح] ، (6) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش ، يَتْجَرون فيها ، ومساكن لتِجَارهم (7) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا ، (8) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة ، وخاف عليهم الفتن. (9) ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. (10) ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. (11) فلما رأوا ذلك ، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (12) وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة ، مخافتَها ، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم ، ودخل في الإسلام من دخل منهم ، تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (13) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة ، وكادوا يأمنون بها ، (14) وجعلوا يزدادون ، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير ، وفشا بالمدينة الإسلام ، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش ذلك ، تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم ، (15) فأخذوهم ، وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة ، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، وأذن لهم في الخروج إليها وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا ، (16) رؤوس الذين أسلموا ، فوافوه بالحج ، فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا ، (17) وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا ، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله فيها : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " . (18)
16084 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة بن الزبير : أنه كتب إلى الوليد : " أما بعد ، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وعندي ،
__________
(1) في المطبوعة : " وكانوا يسمعون " ، غير ما في المخطوطة ، وهو مطابق للتاريخ .
(2) في المطبوعة : " أنكر ذلك عليه ناس " ، زاد " عليه " ، وفي التاريخ : " أنكروا ذلك عليه " ، ليس فيه " ناس " .
(3) في المطبوعة : " فانعطف عنه " ، غير ما في المخطوطة عبثًا ، وهو مطابق لما في التاريخ و " انصفق عنه الناس " ، رجعوا وانصرفوا . و " انصفقوا عليه " : أطبقوا واجتمعوا ، أصله من " الصفقة " ، وهو الاجتماع على الشيء . وإنما غير المعنى استعمال الحرف ، في الأول " عنه " ، وفي الأخرى " عليه " . وهذا من محاسن العربية .
(4) في المخطوطة : " شدودة الزلزال " ، وهو سهو من الناسخ .
(5) في المخطوطة : " لا يظلم بأرضه " ، وصححها لناشر وتصحيحه مطابق لما في التاريخ .
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري .
(7) قوله : " ومساكن لتجارهم " ، ليست في التاريخ ، وفي المطبوعة : " لتجارتهم " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، وابن كثير .
(8) في المطبوعة : " رتاعًا من الرزق " ، خالف المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، وهي مطابقة لما في التاريخ . و " الرفاغ " مصدر " رفغ " ( بفتح فضم ) ، وهو قياس العربية ، والذي في المعاجم " رفاغة " . يقال : " إنه لفي رفاغة من العيش " ، و " رفاغية " ( على وزن : ثمانية ) : سعة من العيش وطيب وخصب . و " عيش رافغ " .
(9) في المطبوعة والمخطوطة : " وخافوا عليهم الفتن " ، والجيد ما أثبته من التاريخ .
(10) في التاريخ : " فمكث بذلك سنوات " ، وهي أجود .
(11) إلى هذا الموضع ، انتهي ما رواه أبو جعفر في تاريخه 2 : 220 ، 221 ، إلا أنه لم يذكر في ختام الجملة " ومنعتهم " .
وقوله : " ومنعتهم " ( بفتحات ) ، جمع " مانع " ، مثل " كافر " و " كفرة " ، وهم الذين يمنعون من يرديهم بسوء .
وانظر تخريج الخبر في آخر هذا الأثر .
(12) " الاسترخاء " ، السعة والسهولة . " استرخوا عنهم " ، أرخوا عنهم شدة العذاب والفتنة .
(13) في المطبوعة : " تحدث بهذا الاسترخاء عنهم " ، وفي المخطوطة هكذا : " تحددوا استرخائهم عنهم " ، وأثبت الصواب من تفسير ابن كثير .
(14) من أول قوله : " فلما رأوا ذلك استرخوا ... " ، إلى هذا الموضع ، لم يذكره أبو جعفر في تاريخه ، ثم يروي ما بعده ، كما سأبينه بعد في التعليق .
(15) في المطبوعة والمخطوطة : " توامرت على أن يفتنوهم " ، وأثبت ما في التاريخ . أما ابن كثير في تفسيره فنقل : " توامروا على أن يفتنوهم " . وفي المطبوعة وحدها : " ويشدوا عليهم " ، وأثبت ما في التاريخ وابن كثير .
و " تذامر القوم " ، حرض بعضهم بعضًا وحثه على قتال أو غيره . و " ذمر حزبه تذميرًا " ، شجعه وحثه ، مع لوم و استبطاء .
(16) في المطبوعة : " سبعون نفسًا " ، وفي المخطوطة ؛ " سبعين نفسًا " ، غير منقوطة ، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري ، وتفسير ابن كثير .
(17) في المطبوعة والمخطوطة : " وأعطوه على أنا منك .. " ، سقط من الكلام " عهودهم " ، أثبتها من التاريخ ، وفي تفسير ابن كثير " وأعطوه عهودهم ومواثيقهم " .
(18) الأثر : 16083 - " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، وقد سلف شرح هذا الإسناد : 15719 ، 15821 ، وغيرهما إسناد صحيح .
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره ، وفي تاريخه ، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم : 15719 ، 15821 أما في تاريخه ، فقد رواه مفرقًا في مواضع ، هذه هي 2 : 220 ، 221 ، 240 ، 241 ، 245 ، 267 - 269 \ ثم 3 : 117 ، 125 ، 132 ، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا ، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الخبر نفسه ، مفرق في موضعين من التاريخ 2 : 220 ، 221 كما أشرت إليه في ص : 443 تعليق : 1 \ ثم 2 : 240 ، 241.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4 : 61 ، 62 .
ثم انظر التعليق على الأثر التالي .

(13/540)


بحمد الله ، من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني عنه ، وسأخبرك إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم ذكر نحوه. (1)
16085 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن مجاهد : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " يَسَاف " و " نائلة " ، صنمان كانا يعبدان. (2)
* * *
وأما قوله : " فإن انتهوا " ، فإن معناه : فإن انتهوا عن الفتنة ، وهي الشرك بالله ، وصارُوا إلى الدين الحق معكم (3) " فإن الله بما يعملون بصير " ، يقول : فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام ، (4) لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم ، (5) والأشياء كلها متجلية له ، لا تغيب عنه ، ولا
__________
(1) الأثر : 16084 - " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان " ، مضى برقم : 1695 ، 9225 ، وقال أخي السيد أحمد أنه ثقة ، تكلم فيه بعض الأئمة . ثم قال : وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه ، بل قال في السنن 3 : 59 : " هو ثقة حافظ " .
وممن ضعف " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ابن معين قال : " ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث ، ليس بشيء " . وقال أحمد : " مضطرب الحديث " ، وقال ابن المديني " كان عند أصحابنا ضعيفًا " ، وقال ابن المديني : " ما حدث به بالمدينة فهو صحيح ، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون " . وقال ابن سعد : " كان كثير الحديث ، وكان يضعف لروايته عن أبيه " .
وأبوه " عبد الله بن ذكوان " ، أبو الزناد ، ثقة ، روى له الجماعة.
وقد روى " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ، أن الذي كتب إليه عروة ، هو " الوليد بن عبد الملك ابن مروان " ، والإسناد السالف أصح واوثق ، أنه كتب إلى " عبد الملك بن مروان " ، فأنا أخشى أن يكون هذا الخبر مما اضطربت فيه رواية " ابن أبي الزناد " ، عن أبيه .
(2) " إساف " ( بكسر اللف وفتحها ) و " يساف " ( بكسر الياء وفتحها ) ، واحد . وقد مضى ذلك في الخبر : 10433 ، والتعليق عليه 9 : 208 ، تعليق : 1 .
وكان في المخطوطة هنا : " ساف ونافلة " ، وهو خطأ محض .
(3) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف ص : 536 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة ( بصر ) .
(5) في المطبوعة : " يبصركم " ، والصواب من المخطوطة .

(13/543)


وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)

يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
* * *
وقد قال بعضهم : معنى ذلك ، فإن انتهوا عن القتال.
* * *
قال أبو جعفر : والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب ، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال ، فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا.
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه ، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله ، وترك قتالكم على كفرهم ، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم ، فقاتلوهم ، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم (1) " نعم المولى " ، هو لكم ، يقول : نعم المعين لكم ولأوليائه (2) " ونعم النصير " ، وهو الناصر. (3)
* * *
16086 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وإن تولوا " ، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم ، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف ( 9 : 141 ) تعليق : ... ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(3) انظر تفسير " النصير " فيما سلف 10 : 481 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .

(13/544)


ونصركم عليهم يوم بدر ، في كثرة عددهم وقلة عددكم " نعم المولى ونعم النصير " . (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 18086 - سيرة ابن هشام 2 : 327 ، مع اختلاف يسير في سياقه ، وهو تابع الأثريين السالفين : 16074 ، 16081 ، وانظر التعليق على هذا الأثر الأخير ، وما استظهرته هناك .

(13/545)


وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)

القول في تأويل قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ }
قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ غنائمهم إذا غنموها.
يقول تعالى ذكره : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ما غنمتم من غنيمة.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى " الغنيمة " و " الفيء " .
فقال بعضهم : فيهما معنيان ، كل واحد منهما غير صاحبه.
* ذكر من قال ذلك :
16087 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح قال : سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، وهذه الآية : (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ )) [سورة الحشر : 7] ، قال قلت : ما " الفيء " ، وما " الغنيمة " ؟ قال : إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم ، وأخذوهم عنوةً ، فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو " غنيمة " ، وأما الأرض فهو في سوادنا هذا " فيء " . (1)
* * *
وقال آخرون : " الغنيمة " ، ما أخذ عنوة ، و " الفيء " ، ما كان عن صلح.
* ذكر من قال ذلك :
16088 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان الثوري قال :
__________
(1) في المطبوعة : " فهي في سوادنا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مستقيم .

(13/545)


" الغنيمة " ، ما أصاب المسلمون عنوة بقتال ، فيه الخمس ، وأربعة أخماسه لمن شهدها. و " الفيء " ، ما صولحوا عليه بغير قتال ، وليس فيه خمس ، هو لمن سمَّى الله.
* * *
وقال آخرون : " الغنيمة " و " الفيء " ، بمعنى واحد. وقالوا : هذه الآية التي في " الأنفال " ، ناسخة قوله : (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ )) الآية ، [سورة الحشر : 7].
* ذكر من قال ذلك :
16089 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ، قال : كان الفيء في هؤلاء ، ثم نسخ ذلك في " سورة الأنفال " ، فقال : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " ، فنسخت هذه ما كان قبلها في " سورة الأنفال " ، (1) وجعل الخمس لمن كان له الفيء في " سورة الحشر " ، وسائر ذلك لمن قاتل عليه. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى " الغنيمة " ، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله مالَه أهلَ دينه ، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. (3)
* * *
فأما " الفيء " ، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك ، وهو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ما كان قبلها في سورة الحشر " ، وسيأتي على الصواب كما أثبته في تفسير " سورة الحشر " 28 : 25 ( بولاق ) ، ويعني بذلك أنها نسخت قوله في أول سورة الأنفال : " يسألونك عن الأنفال " .
(2) الأثر : 16089 - سيأتي هذا الخبر مطولا في تفسير " سورة الحشر " 28 : 25 ، 26 ( بولاق ) .
(3) انظر تفسير " الغنيمة " فيما سلف في تفسير " النفل " ص : 361 - 385 .

(13/546)


ما ردّه عليهم منها بصلح ، من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم " فيئًا " ، لأن " الفيء " ، إنما هو مصدر من قول القائل : " فاء الشيء يفيء فيئًا " ، إذا رجع و " أفاءه الله " ، إذا ردّه. (1)
غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في " سورة الحشر " ، (2) إنما هو ما وصفت صفته من الفيء ، دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب ، لعلل قد بينتها في كتاب : (كتاب لطيف القول ، في أحكام شرائع الدين) ، وسنبينه أيضًا في تفسير " سورة الحشر " ، إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. (3)
* * *
وأما قول من قال : الآية التي في " سورة الأنفال " ، ناسخةٌ الآيةَ التي في " سورة الحشر " ، فلا معنى له ، إذ كان لا معنى في إحدى الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى " النسخ " ، وهو نفي حكم قد ثبت بحكمٍ خلافه ، في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
وأما قوله : " من شيء " ، فإنه مرادٌ به : كل ما وقع عليه اسم " شيء " ، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين ، مما وقع فيه القَسْم ، حتى الخيط والمِخْيط ، (5) كما : -
16090 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " فاء " فيما سلف 4 : 465 ، 466 .
(2) في المطبوعة : " ... الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر " ، غير ما في المخطوطة ، فأفسد الكلام إفسادًا تامًا .
(3) انظر ما سيأتي 28 : 24 - 27 ( بولاق ) .
(4) انظر مقالته في " النسخ " في فهارس النحو والعربية وغيرهما ، وفي مواضع فيها مراجع ذلك كله في كتابه هذا .
(5) " المخيط " ، الإبرة ، وهو ما خيط به .

(13/547)


سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء " ، قال : المخيط من " الشيء " .
16091 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد بمثله.
16092 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم الفضل قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم قوله : " فأن لله خمسه " ، مفتاحُ كلامٍ ، (1) ولله الدنيا والآخرة وما فيهما ، وإنما معنى الكلام : فإن للرسول خمسه.
* ذكر من قال ذلك :
16093 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن عن قول الله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " ، قال : هذا مفتاح كلامٍ ، لله الدنيا والآخرة.
16094 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن بن محمد عن قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، قال : هذا مفتاح كلامٍ ، لله الدنيا والآخرة. (2)
__________
(1) يعني أنه افتتاح بذكر الله تعالى ذكره ، وانظر ما سلف 6 : 272 ، تعليق : 5 .
(2) الأثران : 16093 ، 16094 - " الحسن بن محمد " ، هو " الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب " ، وهو " الحسن بن محمد بن الحنيفة " ، وهو الذي يروي عنه " قيس بن مسلم " ، لا يعني " الحسن البصري " .
وهذا الخبر رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال : 14 ، 326 ، 330 ، رقم : 39 ، 836 ، 846 وسيأتي مطولا برقم : 16121 .

(13/548)


16095 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا ، خمَّس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " . قال : وقوله : " فأن لله خمسه " ، مفتاح كلام ، لله ما في السموات وما في الأرض ، فجعل الله سهم الله وسهم الرسول واحدًا. (1)
16096 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " فأن لله خمسه " ، قال : لله كل شيء.
16097 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، قال : لله كل شيء ، وخُمس لله ورسوله ، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم.
16098 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس ، فأربعة أخماس لمن قاتل
__________
(1) الأثر : 16095 - " أحمد بن يونس " ، هو " أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي " ، مضى برقم : 2144 ، 2362 ، 5080 .
و " أبو شهاب " ، هو " عبد ربه بن نافع الكناني " ، الحناط ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 42 .
و " ورقاء " ، هو " ورقاء بن عمرو اليشكري " ، مضى برقم : 6534 .
و " نهشل " ، هو " نهشل بن سعيد بن وردان النيسابوري " ، ليس بثقة ، وقال أبو حاتم : " ليس بقوي ، متروك الحديث ، ضعيف الحديث " ، وقال ابن حبان : " يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم ، لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب " .
وقال البخاري : " أحاديثه مناكير ، قال إسحاق بن إبراهيم : ككان نهشل كذابًا " . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 115 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 496 ، وميزان الاعتدال 3 : 243 .
وانظر الخبر رقم : 16120 .
وكان في المطبوعة : " فجعل سهم الله " ، غير ما في المخطوطة وحذف ، فأثبت ما في المخطوطة .

(13/549)


عليها ، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس ، فخمس لله والرسول.
16099 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا أبان ، عن الحسن قال : أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله ، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه.
16100 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " ، قال : خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضع فيه ما شاء. (1)
16101 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، قال : كل شيء لله ، الخمس للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن لبيت الله خمسه وللرسول.
* ذكر من قال ذلك :
16102 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يؤتَى بالغنيمة ، فيقسمها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة ، وهو سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم
__________
(1) في المطبوعة : " ويصنع فيه " ، وأثبت ما في المخطوطة . وقد قرأت في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ، في خبر آخر : " يحمل منه ويعطي ، ويضعه حيث شاء ، ويصنع به ما شاء " ص 14 ، 326 ، رقم : 40 ، 837 .

(13/550)


للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل.
16103 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، إلى آخر الآية ، قال : فكان يُجَاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم ، فيجعل أربعة بين الناس ، ويأخذ سهمًا ، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم ، فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة ، فهو الذي سُمِّي لله ، ويقول : " لا تجعلوا لله نصيبًا ، فإن لله الدنيا والآخرة ، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم : سهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل. (1)
* * *
وقال آخرون : ما سُمِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فإنما هو مرادٌ به قرابته ، وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
* ذكر من قال ذلك :
16104 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس ، فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل. (2)
* * *
__________
(1) الأثران : 16102 ، 16013 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ، من طريق حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، بمثل لفظ الأول . كتاب الأموال : 14 ، 325 ، رقم 400 ، 835 .
(2) الأثر : 16104 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، بهذا الإسناد نفسه ، وبلفظه ، في كتاب الأموال ص : 13 ، 325 ، رقم : 37 ، 834 ، وفي آخره تفسير " ابن السبيل " ، قال : " وهو الضعيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين " .
وانظر ما سيأتي رقم : 16124 ، 16129 .

(13/551)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : قوله : " فأن لله خمسه " ، " افتتاح كلام " ، وذلك لإجماع الحجة على أنّ الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم ، ولو كان لله فيه سهم ، كما قال أبو العالية ، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسومًا على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها ، فأما على أكثر من ذلك ، فما لا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية. وفي إجماع من ذكرت ، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما اخترنا.
* * *
فأما من قال : " سهم الرسول لذوي القربى " ، فقد أوجب للرسول سهمًا ، وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته ، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم ، وقد : -
16105 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " ، الآية ، قال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسًا ، فكان خمس لله ولرسوله ، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله ، لرسوله ولذوي القربى واليتامى وللمساكين وابن السبيل (1) فكان هذا الخمس خمسة أخماس : خمس لله ورسوله ، وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين. وخمس لابن السبيل.
__________
(1) في المخطوطة خطأ ، أسقط " لرسوله " الثانية ، والكلام يقتضيها كما في المطبوعة ، وعلى هامش المخطوطة حرف " أ " عليها ثلاث نقط ، دلالة على موضع السقط .

(13/552)


16106 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : هو خُمْس الخمس. (1)
16107 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، وجرير عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله.
16108 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله.
16109 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فأن لله خمسه " ، قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله والرسول ، خمسه يضعه حيث رأى ، وخمسه لذوي القربى ، وخمسه لليتامى ، وخمسة للمساكين ، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وأما قوله : " ولذي القربى " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم.
فقال بعضهم : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.
* ذكر من قال ذلك :
16110 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس.
16111 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهلُ
__________
(1) الأثر : 16106 - " موسى بن أبي عائشة المخزومي " ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 11408 .
و " يحيى بن الجزار العرفي " ، ثقة ، مضى برقم : 5425 .
وكان في المخطوطة : " يحيى الجزار " ، والصواب ما في المطبوعة ، ولكنه يأتي في الذي يليه في المخطوطة على الصواب .
ورواه أبو عبيد في الأموال ص : 13 ، رقم : 34 ، 35 ، وص : 324 ، رقم : 831 ، 832.

(13/553)


بيته لا يأكلون الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس.
16112 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد السلام ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء ، فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة.
16113 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا إسماعيل بن أبان قال ، حدثنا الصباح بن يحيى المزني ، عن السدي ، عن أبي الديلم قال ، قال علي بن الحسين ، رحمة الله عليه ، لرجل من أهل الشأم : أما قرأت في " الأنفال " : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " الآية ؟ قال : نعم! قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم! (1)
16114 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة.
16115 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن نَجْدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه كتابًا : " نزعم أنا نحن هم ، فأبى ذلك علينا قومنا " . (2)
__________
(1) الأثر : 16113 - " إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي " ، ثقة ، صدوق في الرواية ، قال البزار : " إنما كان عيبه شدة تشيعه ، لا أنه غير عليه في السماع " ، وإما " إسماعيل بن أبان الغنوي " ، فهو كذاب ، ومضى إسماعيل الوراق برقم : 14550 .
وأمَّا " صباح بن يحيى المزني " ، فهو شيعي أيضُا ، متروك ، بل متهم ، هكذا قال الحافظ ابن حجر والذهبي . وذكره البخاري ، فقال : " فيه نظر " ، وقال أبو حاتم : " شيخ " . مترجم في لسان الميزان 3 : 160 ، والكبير 2 \ 2 \ 315 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 442 ، وميزان الاعتدال 1 : 462 .
وأمَّا " أبو الديلم " ، فلم أعرف من يكون ، وهكذا أثبته من المخطوطة ، وهو في لمطبوعة : " عن ابن الديلمي " ، يعني " عبد الله بن فيروز الديلمي " ، التابعي الثقة ، ولا أظن أنه يروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .
وهذا إسناد هالك كما ترى .
(2) الأثر : 16115 - " نجدة ابن عويمر الحروري " ، من رؤوس الخوارج .
وكتاب ابن عباس إلى نجدة ، رواه أبو عبيدة في كتاب الأموال من طرق ص : 332 - 335 ، رقم : 850 - 852 ، وانظر ما سيأتي رقم : 16117 .

(13/554)


16116 - ...قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فأن لله خمسه " ، قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول ، خمسه يضعه حيث رأى ، وخمسٌ لذوي القربى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وقال آخرون : بل هم قريش كلها.
* ذكر من قال ذلك :
16117 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري قال : كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى قال : فكتب إليه ابن عباس : " قد كنا نقول : إنّا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قربى " . (1)
* * *
وقال آخرون : سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده.
* ذكر من قال ذلك :
16118 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا ، (2) فلما توفي جُعل لوليّ الأمر من بعده.
* * *
وقال آخرون : بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصةً.
__________
(1) الأثر : 11617 - انظر التعليق السالف ، من طريق أبي معشر ، رواه أبو عبيد رقم : 850 ، مطولا ، بنحوه .
(2) " الطعمة " ( بضم الطاء ) : الرزق والمأكلة ، يعني به الفيء .

(13/555)


وممن قال ذلك الشافعي ، وكانت علته في ذلك ما :
16119 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم قال : لما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب ، مشيت أنا وعثمان بن عفان رحمة الله عليه ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخوتك بنو هاشم ، لا ننكر فضلهم ، لمكانك الذي جعلك الله به منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب ، أعطيتهم وتركتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قولُ من قال : " سهم ذي القربى ، كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب " ، لأنّ حليف القوم منهم ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال بعضهم : يُصرفان في معونة الإسلام وأهله.
* ذكر من قال ذلك :
16120 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : جُعل
__________
(1) الأثر : 16119 - رواه الشافعي في الأم من طرق ، منها طريق محمد بن إسحاق ، انظر الأم : 4 : 71 ، ورواه أبو داود في سننه 3 : 201 ، رقم : 2980 ، وأبو عبيد القاسم ابن سلام في الأموال : 331 ، رقم : 842 .

(13/556)


سهم الله وسهم الرسول واحدًا ، ولذي القربى ، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح. وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ، لا يُعْطَى غيرَهم. (1)
16121 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن عن قول الله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " ، قال : هذا مفتاح كلامٍ ، لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
16122 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن بن محمد ، فذكر نحوه. (2)
16123 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكُرَاع والسلاح. (3) فقلت لإبراهيم : ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه ؟ قال : كان عليٌّ أشدَّهم فيه.
16124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين " الآية ، قال ابن عباس : فكانت
__________
(1) الأثر : 16120 - هذا مطول الأثر السالف ومختصره رقم : 16095 ، وقد شرحت إسناده هناك .
(2) الأثران : 16121 ، 16122 - " الحسن بن محمد بن الحنفية " ، وقد سلف شرح إسناد هذا الخبر ، كما سلف مختصرًا برقم : 16093 ، 16094 .
(3) " الكراع " ( بضم الكاف ) . اسم يجمع الخيل والسلاح .

(13/557)


الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : أربعة بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : لله وللرسول ولذي القربى يعني : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين ، فجعل يحمل به في سبيل الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقا. (1)
16125 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال : كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تُوُفي ، حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله ، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2)
* * *
وقال آخرون : سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى ولي أمر المسلمين.
* ذكر من قال ذلك :
16126 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن عمران بن ظبيان ، عن حُكَيم بن سعد ، عن علي رضي الله عنه قال : يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. (3)
__________
(1) الأثر : 16124 - مضى قبل صدره برقم : 16104 ، ومضى تخريجه هناك ، وانظر أيضًا من تمامه رقم : 16129 .
(2) الأثر : 16125 - انظر ما سلف رقم : 16118 ، وما سيأتي 16127 .
(3) الأثر : 16126 - " عمران بن ظبيان الحنفي " ، فيه نظر ، كان يميل إلى التشيع ، وضعفه العقيلي ، وابن عدي ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 300 ، مضى برقم : 12100.
و " حكيم بن سعد الحنفي " ، " أبو تحيى " ، محله الصدق . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 1 \ 87 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286 .
و " حكيم " ، بضم الحاء ، مصغرًا . و " تحيي " بكسر التاء .

(13/558)


16127 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال : كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا ، فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. (1)
* * *
وقال آخرون : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم : على اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون : الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
16128 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الغفار قال ، حدثنا المنهال بن عمرو قال : سألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي : إن الله يقول : " واليتامى والمساكين وابن السبيل " ، فقالا يتامانَا ومساكيننا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم ، على ما روي عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله أوجبَ الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه ، إلى غير أهل السهمان الأخَر.
* * *
__________
(1) الأثر : 16127 - مضى بلفظه ، برقم : 16118 ، وانظر ما سلف : 16125 .

(13/559)


وأما " اليتامى " ، فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. (1)
و " المساكين " ، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. (2)
و " ابن السبيل " ، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به ، (3) كما : -
16129 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الخمس الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون ، أنما غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته ، وصدِّقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر ، (5) فأبان فَلَج المؤمنين وظهورَهم على عدوهم ، وذلك " يوم التقى الجمعان " ، جمعُ المؤمنين وجمعُ المشركين ، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين ، وعلى غير ذلك مما يشاء " قدير " ، لا يمتنع عليه شيء أراده. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف 7 : 541 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف 10 : 544 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف 8 : 346 ، 347 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وقوله : " انقطع به " بالبناء للمجهول ، وهو إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت ، أو عطبت راحلته ، أو فنى زاده .
(4) الأثر : 16129 - انظر ما سلف رقم : 16104 ، 16124 ، والتعليق عليهما .
(5) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ص : 487 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة ( قدر ) .

(13/560)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16130 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يوم الفرقان " ، يعني : ب " الفرقان " ، يوم بدر ، فرَق الله فيه بين الحق والباطل.
16131 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله. (1)
16132 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وإسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : " يوم الفرقان " ، يوم فرق الله بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك.
16132م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن مقسم : " يوم الفرقان " ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل.
16133 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم في قوله : " يوم الفرقان " ، قال : يوم
__________
(1) الأثر : 16131 - انظر هذا الخبر بنصه فيما سلف رقم : 125 .

(13/561)


بدر ، فرق الله بين الحق والباطل. (1)
16134 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " يوم بدر ، و " بدر " ، بين المدينة ومكة.
16135 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عبد الله بن حبيب قال : قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كانت ليلة " الفرقان يوم التقى الجمعان " ، لسبع عشرة من شهر رمضان. (2)
16136 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " يوم التقى الجمعان " ، قال ابن جريج ، قال ابن كثير : يوم بدر.
16137 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " ، أي : يوم فرقت بين الحق والباطل بقدرتي ، (3) يوم التقى الجمعان منكم ومنهم. (4)
__________
(1) ( 1 ) الأثر : 16133 " عثمان الجزري " ، مضى برقم : 15968 ، وأنه غير " عثمان ابن عمرو بن ساج " . وأحاديثه مناكير .
(2) الأثر : 16135 - " يحيى بن يعقوب بن مدرك الأنصاري " ، أبو طالب القاص ، مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 312 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 198 ، ولسان الميزان 6 : 282 ، وميزان الاعتدال 3 : 306 ، قال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال أبو حاتم : " محله الصدق ، لم يرو شيئا منكرًا ، وهو ثقة في الحديث ، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء " ، قال ابن أبي حاتم : " فسمعت أبي يقول : يحول من هناك " .
و " أبو عون " ، " محمد بن عبيد الله الثقفي " ، مضى مرارًا آخرها رقم : 15925 ، وكان في المطبوعة : " عن ابن عون ، عن محمد بن عبد الله الثقفي " ، فأفسد الإسناد كل الإفساد ، وكان في المخطوطة : " عن ابن عون ، محمد بن عبيد الله الثقفي " ، وهو خطأ هين ، صوابه ما أثبت .
(3) في المطبوعة : " أي : يوم فرق بين الحق والباطل ببدر ، أي : يوم التقى الجمعان " ، لعب بما في المخطوطة لعبًا ، فأساء وجانب الأمانة . ولم يكن في المخطوطة من خطأ إلا أنه كتب " فرق " مكان " فرقت " . والذي أثبته نص المخطوطة ، وسيرة ابن هشام .
(4) الأثر : 16137 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16086 .

(13/562)


إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

16138 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان " ، وذاكم يوم بدر ، يوم فرق الله بين الحق والباطل.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيقنوا ، أيها المؤمنون ، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم ، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر ، إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله " إذ أنتم " ، حينئذ ، " بالعدوة الدنيا " ، يقول : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة (1) " وهم بالعدوة القصوى " ، يقول : وعدوكم من المشركين نزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة " والركب أسفل منكم " ، يقول : والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16139 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا " ، قال : شفير الوادي الأدنى ، وهم بشفير الوادي الأقصى " والركب أسفل منكم " ، قال : أبو سفيان وأصحابه ، أسفلَ منهم.
__________
(1) " شفير الوادي " : ناحية من أعلاه ، وهو حده وحرفه .

(13/563)


16140 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى " ، وهما شفير الوادي. كان نبيُّ الله بأعلى الوادي ، والمشركون أسفلَه " والركب أسفل منكم " ، يعني : أبا سفيان ، [انحدر بالعير على حوزته] ، (1) حتى قدم بها مكة.
16141 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى " ، من الوادي إلى مكة " والركب أسفل منكم " ، أي : عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها ، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. (2)
16142 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " والركب أسفل منكم " ، قال : أبو سفيان وأصحابه ، مقبلون من الشأم تجارًا ، لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه ، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. (3) فاقتتلوا ، (4) فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم.
16143 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
16144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
__________
(1) هكذا كتب هذه الجملة بين القوسين ناشر المطبوعة ، ولا أدري ما هو . والذي في المخطوطة : " انخدم بالعير على حورمة " هكذا ، ولم أستطع أن أجد لقراءتها وجهًا اطمئن غليه ، ولم أجد الخبر في مكان آخر .
(2) الأثر : 16141 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16137.
(3) ( 3 ) في المطبوعة : " حتى التقيا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) " فاقتتلوا " ، مكررة في المخطوطة مرتين ، وأنا في ريب من هذه الجملة كلها .

(13/564)


16145 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر منازل القوم والعير فقال : " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى " ، والركب : هو أبو سفيان (1) " أسفل منكم " ، على شاطئ البحر.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إذ أنتم بالعدوة " .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين : ( بِالعُدْوَةِ ) ، بضم العين.
* * *
وقرأه بعض المكيين والبصريين : ( بِالعِدْوَةِ) ، بكسر العين.
* * *
قال أبو جعفر : وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ ، يُنْشَد بيت الراعي :
وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا كَمَا نَظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ (2)
بكسر العين من " العدوة " ، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر :
وَفَارِس لَوْ تَحُلُّ الخَيْلُ عِدْوَتَهُ وَلَّوْا سِرَاعًا ، وَمَا هَمُّوا بِإقْبَالِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا }
قال أبو جعفر : يعنى تعالى ذكره : ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه ، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين ، عن ميعاد منكم ومنهم ، " لاختلفتم في الميعاد " ، لكثرة عدد عدوكم ، وقلة عددكم ، ولكن الله جمعكم
__________
(1) في المطبوعة : " أبو سفيان وعيره " ، زاد ما ليس في المخطوطة .
(2) لم أجد البيت في مكان آخر ، وللراعي أبيات كثيرة مفرقة على هذا الوزن ، كأنه منها .
(3) من قصيدته في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي ، والبيت في منتهى الطلب ، وليس في ديوانه ، يقول قبله : أمْ مَلِعَادِيَةٍ تردِي مُلَمْلَمَةٍ ... كأنَّهَا عَارِضٌ في هَضْبِ أوْعالِ
لَهَا لَمَّا رأوك عَلَى نَهْدٍ مَرَاكِلُهُ ... يَسْعَى بِبزِّ كَمِيٍّ غَيْرِ مِعْزَالِ
وَفَارِسٍ لا يَحُلُّ القَوْمُ عُدْوَتَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه أجود من روايته " لو تحل " ، فالنفي هنا حق الكلام .

(13/565)


على غير ميعاد بينكم وبينهم (1) " ليقضي الله أمرًا كان مفعولا " ، وذلك القضاء من الله ، (2) كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله ، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر ، كما : -
16146 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " ، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، ما لقيتموهم " ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا " ، أي : ليقضي الله ما أراد بقدرته ، من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير مَلأ منكم ، (3) ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. (4)
16147 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : ، أخبرني يونس بن شهاب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن عبد الله بن كعب قال : سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيَر قريش ،
__________
(1) انظر تفسير " الميعاد " فيما سلف 6 : 222
(2) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف 11 : 267 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " عن غير بلاء " ، وفي سيرة ابن هشام ، في أصل المطبوعة مثله ، وهو كلام فاسد جدًا . وفي مخطوطة الطبري ، ومخطوطات ابن هشام ومطبوعة أوربا ، : " عن غير ملأ " ، كما أثبتها .
يقال : " ما كان هذا الأمر عن ملأ منا " ، أي : عن تشاور واجتماع . وفي حديث عمر حين طعن : " أكان هذا عن ملأ منكم ؟ " ، أي : عن مشاورة من أشرافكم وجماعتكم .
ثم غير ناشر المطبوعة الكلمة التي بعدها ، كتب " فعل " ، مكان " ففعل " . وكل هذا عبث وذهاب ورع .
(4) الأثر : 16146 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16141.

(13/566)


حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. (1)
16148 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقت السُّقَاة. قال : ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 16147 - " " عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري " ، ثقة ، روى عن أبيه . وروى عنه الزهري . كان أعلم قومه وأوعاهم . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 249 .
و " عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري " ، ثقة ، كان قائد أبيه حين عمى ، روى عن أبيه . روى . روى عنه ابنه عبد الرحمن ، وروى عنه الزهري . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 142 .
وكان في المخطوطة : " إنما يخرج رسول الله " ، وهو جيد عربي . ولكنه في المراجع " إنما خرج " ، فأثبته كما في المطبوعة .
وهذا الخبر جزء من خبر كعب بن مالك ، الطويل في امر غزوة تبوك ، وما كان من تخلفه حتى تاب الله عليه .
ورواه أحمد في مسنده 3 : 456 ، 457 ، 459 \ 6 : 387 .
ورواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 86 ) .
ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق 17 : 87 .
(2) الأثر : 16148 - " ابن عون " ، هو " عبد الله بن عون المزني " ، مضى مرارًا .
و " عمير بن إسحاق القرشي " ، لم يرو عنه غير ابن عون ، متكلم فيه . مضى برقم : 7776 .
وكان في المطبوعة : " عمر بن إسحاق " ، لم يحسن قراءة المخطوطة .
وقوله : " نهد الناس بعضهم لبعض " ، نهضوا إلى القتال . يقال : " نهد القوم إلى عدوهم ، ولعدوهم " ، أي : صمدوا له وشرعوا في قتاله . و " نهدوا يسألونه " ، أي : شرعوا ونهضوا .
وكأن ناشر المطبوعة لم يفهمها أو لم يحسن قراءتها ، فكتب مكان " نهد " : " نظر الناس ... " ، وهذا من طول عبثه بهذا النص الجليل ، حتى ألف العبث واستمر عليه واستمرأه .

(13/567)


القول في تأويل قوله : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولكن الله جمعهم هنالك ، ليقضي أمرًا كان مفعولا " ليهلك من هلك عن بينة " .
* * *
وهذه اللام في قوله : " ليهلك " مكررة على " اللام " في قوله : " ليقضي " ، كأنه قال : ولكن ليهلك من هلك عن بينة ، جَمَعكم.
* * *
ويعني بقوله : " ليهلك من هلك عن بينة " ، ليموت من مات من خلقه ، (1) عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره ، وعبرة قد عاينها ورآها (2) " ويحيا من حي عن بينة " ، يقول : وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها ، جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
* * *
وقال ابن إسحاق في ذلك بما : -
16149 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليهلك من هلك عن بينة " ، [ أي ليكفر من كفر بعد الحجة] ، (3) لما رأى من الآية والعبرة ، (4) ويؤمن من آمن على مثل ذلك. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هلك " فيما سلف ص : 149 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بينة " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(3) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، أضفتها من سيرة ابن هشام .
(4) في المطبوعة : " من الآيات والعبر " ، وفي المخطوطة : " من الآيات والعبرة " ، وأثبت الصواب من سيرة ابن هشام .
(5) الأثر : 16149 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16146 .

(13/568)


إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)

وأما قوله : " وإن الله لسميع عليم " ، فإن معناه : " وإن الله " ، أيها المؤمنون ، " لسميع " ، لقولكم وقول غيركم ، حين يُري الله نبيه في منامه ويريكم ، عدوكم في أعينكم قليلا وهم كثير ، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلا " عليم " ، بما تضمره نفوسكم ، وتنطوي عليه قلوبكم ، حينئذ وفي كل حال. (1)
يقول جل ثناؤه لهم ولعباده : فاتقوا ربكم ، (2) أيها الناس ، في منطقكم : أن تنطقوا بغير حق ، وفي قلوبكم : أن تعتقدوا فيها غيرَ الرُّشد ، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإن الله ، يا محمد ، سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك الله عدوك وعدوهم " في منامك قليلا " ، يقول : يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك ، حتى قويت قلوبهم ، واجترأوا على حرب عدوهم ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا ، لفشل أصحابك ، فجبنوا وخاموا ، (3) ولم يقدروا على حرب القوم ، (4) ولتنازعوا في ذلك ، (5) ولكن الله
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " واتقوا " بالواو ، و " والفاء " ، هنا حق الكلام .
(3) في المطبوعة : " فجبنوا وخافوا " ، غير ما في المخطوطة . يقال : " خام في القتال " ، إذا جبن ، فنكل ونكص وتراجع .
(4) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7 : 168 ، 289 .
(5) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف 7 : 289 \ 8 : 504 .

(13/569)


سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا ، إنه عليم بما تُجنُّه الصدور ، (1) لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب. (2)
* * *
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ، أي : في عينك التي تنام بها فصيّر " المنام " ، هو العين ، كأنه أراد : إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16150 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ، قال : أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتًا لهم.
16151 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
16152 - ....وقال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16153 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ، الآية ، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم ، شجعهم بها على عدوهم ، وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من
__________
(1) في المطبوعة : " بما تخفيه الصدور " ، غير ما في المخطوطة بلا طائل ، وهما بمعنى .
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7 : 155 ، 325 \ 10 : 94 .
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 247 .

(13/570)


ضعفهم ، (1) لعلمه بما فيهم. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ولكن الله سلم " .
فقال بعضهم : معناه : ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم ، حتى أظهرهم على عدوهم.
* ذكر من قال ذلك :
16154 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولكن الله سلم " ، يقول : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولكن الله سلم أمره فيهم.
* ذكر من قال ذلك :
16155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة : " ولكن الله سلم " ، قال : سلم أمره فيهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس ، وهو أن الله سلم القومَ بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل
__________
(1) في المطبوعة : و " كفاهم بها ما تخوف ... " ، وفي المخطوطة : " وكعها عنهم ما تخوف " ، وصل الكلام ، وأثبت نص ابن هشام . وضبطه الخشني بالبناء للمجهول .
وفي السيرة ، بعد تمام الكلام ، : " قال ابن هشام : ( تخوف ) ، مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق ، ولم أذكرها " . فجاء أبو ذر الخشني في تعليقه على السيرة فقال : " يقال الكلمة : ( تخوف ) ، بفتح التاء والخاء والواو ، وقيل : كانت ( تخوفت ) وأصلح ذلك ابن هشام ، لشناعة اللفظ في حق الله عز وجل " .
وهذا لا يقال ، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها ، فأبدل منها غيرها ، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان .
(2) الأثر : 16153 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16149.

(13/571)


وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

والتنازع ، حتى قويت قلوبهم ، واجترأوا على حرب عدوهم. وذلك أن قوله : " ولكن الله سلم " عَقِيب قوله : " ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر " ، فالذي هو أولى بالخبر عنه ، أنه سلمهم منه جل ثناؤه ، ما كان مخوفًا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " وإن الله لسميع عليم " إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم ، ويقلل المؤمنين في أعينهم ، ليتركوا الاستعداد لهم ، فتهون على المؤمنين شوكتهم ، كما : -
16156 - حدثني ابن بزيع البغدادي قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مئة قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم هم ؟ قال : ألفًا. (1)
16157 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بنحوه.
__________
(1) الأثر : 16156 - " ابن بزيع البغدادي " ، هو " محمد بن عبد الله بن بزيع البغدادي " ، من شيوخ مسلم ، مضى برقم : 2451 ، 3130 ، 10239 .
وكان في المطبوعة : " كنا ألفًا " ، زاد " كنا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .

(13/572)


16158 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا " ، قال ابن مسعود : قللوا في أعيننا ، حتى قلت لرجل : أتُرَاهم يكونون مئة ؟
16159 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال ناس من المشركين : إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال : يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح ، ولكن خذوهم أخذًا ، فاربطوهم بالحبال! يقوله من القدرة في نفسه.
* * *
وقوله : " ليقضي الله أمرًا كان مفعولا " ، يقول جل ثناؤه : قلّلتكم أيها المؤمنون ، في أعين المشركين ، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا ، وإظهاركم ، أيها المؤمنون ، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه ، كما : -
16160 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " ، أي : ليؤلف بينهم على الحرب ، للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. (1)
* * *
" وإلى الله ترجع الأمور " ، يقول جل ثناؤه : مصير الأمور كلها إليه في الآخرة ، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته.
* * *
__________
(1) الأثر : 16160 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16153 .

(13/573)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) }
قال أبو جعفر : وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به ، السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به ، والأفعالَ التي يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم. ثم يقول لهم جل ثناؤه : " يا أيها الذين آمنوا " ، صدقوا الله ورسوله إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال ، (1) فاثبتوا لقتالهم ، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين ، إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم " واذكروا الله كثيرًا " ، يقول : وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم ، وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره " لعلكم تفلحون " ، يقول : كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم ، ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم ، (2) كما : -
16161 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " ، افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون ، عند الضِّراب بالسيوف.
16162 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة " ، يقاتلونكم في سبيل الله " فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا " ، اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم " لعلكم تفلحون " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص : 455 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص : 169 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
(3) الأثر : 16162 - سيرة ابن هشام 2 : 329 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 1616 .

(13/574)


وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

القول في تأويل قوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : أطيعوا ، أيها المؤمنون ، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، ولا تخالفوهما في شيء " ولا تنازعوا فتفشلوا " ، يقول : ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم (1) " فتفشلوا " ، يقول : فتضعفوا وتجبنوا ، (2) " وتذهب ريحكم " .
* * *
وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به (3) " الريح مقبلةٌ عليه " ، يعني بذلك : ما يحبه ، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص :
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْلُ لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ (4)
__________
(1) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف ص : 569 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الفشل " ص : 569 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " مقبلا عليه ما يحبه " ، زاد " عليه " ، وليست في المخطوطة .
(4) ديوانه : 49 ، من أبيات قبله ، يقول : دَعَا مَعَاشِرَ فَاسْتَكَّتْ مَسَامِعُهُمْ ... يَا لَهْفَ نَفْسِي لَوْ تَدْعُو بَني أَسَدٍ
لا يَدَّعُونَ إذَا خَامَ الكُمَاةُ ولا ... إذَا السُّيُوفُ بِأَيْدِي القَوْمِ كالْوَقْدِ
لَوْ هُمْ حُمَاتُكَ بالمحْمَى حَمَوْكَ وَلَمْ ... تُتْرَكْ لِيَوْمٍ أقَامَ النَّاسَ في كَبَدِ
كَمَا حَمَيْنَاكَ . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .. . . . .
والبيت الثاني من هذه الأبيات جاء في مخطوطة الديوان : " لا يدَّعوا إذا حام الكماة ولا إذا .. " ، فصححه الناشر المستشرق " تدعوا إذن حامي الكماة لا كسلا " ، فجاء بالغثاثة كلها في شطر واحد . فيصحح كما أثبته . ويعني بقوله : " لا يدعون إذا خام الكماة " ، أي : لا يتنادون بترك الفرار ، و " خام " نكص ، كما قال الآخر : تَنَادَوْا : يَا آلَ عَمْروٍ لا تَفِرُّوا! ... فَقُلْنَا : لا فِرَارَ ولا صُدُودَا
و " النعف " ، ما انحدر من حزونة الجبل . و " شطب " جبل في ديار بني أسد .

(13/575)


يعني : من البأس والكثرة. (1)
* * *
وإنما يراد به في هذا الموضع : وتذهب قوتكم وبأسكم ، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل.
* * *
" واصبروا " ، يقول : اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوكم ، ولا تنهزموا عنه وتتركوه " إن الله مع الصابرين " ، يقول : اصبروا فإني معكم. (2)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16163 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " وتذهب ريحكم " ، قال : نصركم. قال : وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، (3) حين نازعوه يوم أحد.
16164 - حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وتذهب ريحكم " ، فذكر نحوه.
16165 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه إلا أنه قال : ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أحد.
16166 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " ، قال :
__________
(1) في المخطوطة : " من الناس " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص : 455 ، تعليق : 4 ، المراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " أصحاب رسول الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/576)


حَدُّكم وجِدُّكم. (1)
16167 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وتذهب ريحكم " ، قال : ريح الحرب.
16168 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وتذهب ريحكم " ، قال : " الريح " ، النصر ، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو ، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَام.
16169 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولا تنازعوا فتفشلوا " ، أي : لا تختلفوا فيتفرق أمركم " وتذهب ريحكم " ، فيذهب حَدُّكم (2) " واصبروا إن الله مع الصابرين " ، أي : إني معكم إذا فعلتم ذلك. (3)
16170 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " ولا تنازعوا فتفشلوا " ، قال : الفشل ، الضعف عن جهاد عدوه والانكسار لهم ، فذلك " الفشل " .
__________
(1) في المطبوعة : " حربكم وجدكم " ، وهي في المخطوطة توشك أن تقرأ كما قرأها ، ولكن الكتابة تدل على أنه أراد " حدكم " ، و " الحد " بأس الرجل ونفاذه في نجدته . يقال : " فلان ذو حد " ، أي بأس ونجدة . ولو قرئت : " وحدتكم " ، كان صوابًا ، " الحد " ، و " الحدة " ( بكسر الحاء ) ، واحد . وانظر التعليق التالي .
(2) في المطبوعة : " جدكم " ، بالجيم ، والصواب ما في سيرة ابن هشام ، وفيها " حدتكم " ، وفي مخطوطاتها " حدكم " ، وهما بمعنى ، كما أسلفت في التعليق قبله .
(3) الأثر : 16169 - سيرة ابن هشام 2 : 329 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16162.

(13/577)


وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) }
قال أبو جعفر : وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله ، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة ، وطلب ما عنده ، لا رئاء الناس ، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، (1) وقيل لهم : " انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها! " ، فأبوا وقالوا : " نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر ، وتعزف علينا القِيان ، وتتحدث بنا العرب فيها " ، (2) فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا ، كما -
16171 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا أبان قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه : إنا قد أجزنا القوم ، وأن ارجعوا. (3) فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجُحفة ، فقالوا : " والله لا نرجع حتى ننزل بدرًا ، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ ، ويرانا من غَشِينا من أهل الحجاز ، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا " . وهم الذين قال الله : " الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس " ، والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ففتح الله على رسوله ، وأخزى أئمة الكفر ،
__________
(1) في المخطوطة : " بقرب العير " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) في المطبوعة : " وتتحدث بنا العرب لمكاننا فيها " ، زاد ما ليس في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " فارجعوا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في التاريخ.

(13/578)


وشفى صدور المؤمنين منهم. (1)
16172 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق في حديث ذكره قال ، حدثني محمد بن مسلم ، وعاصم بن عمر ، (2) وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، عن ابن عباس قال : لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عِيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا! فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرًا وكان " بدر " موسمًا من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثًا ، وننحر الجُزُر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمور ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدًا ، فامضوا. (3)
16173 - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس " ، أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا : " لا نرجع حتى نأتي بدرًا ، وننحر الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا " ، أي : لا يكونن أمركم رياءً ولا سمعة ، ولا التماس ما عند الناسَ ، وأخلصوا لله النية والحِسْبة في نصر دينكم ، وموازرة نبيكم ، أي : لا تعملوا إلا لله ، ولا تطلبوا غيره. (4)
16174 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ،
__________
(1) الأثر : 16171 - هذا من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان ، الذي خرجته آنفًا من تاريخ الطبري مجموعًا برقم : 16083 . وهذا القسم في تاريخ الطبري 2 : 269 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " عاصم بن عمرو " ، وهو خطأ ، إنما هو " عاصم بن عمر بن قتادة ) ، سلف مرارًا ، وانظر سيرة ابن هشام 2 : 257 .
(3) الأثر : 16172 - سيرة ابن هشام 2 : 270 ، وتاريخ الطبري 2 : 276 ، من أثر طويل .
(4) الأثر : 16173 - سيرة ابن هشام 2 : 329 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16169 . وفي لفظه اختلاف يسير .

(13/579)


حدثنا إسرائيل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس " ، قال : أصحاب بدر.
16175 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " بطرًا ورئاء الناس " ، قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
16176 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله قال ابن جريج ، وقال عبد الله بن كثير : هم مشركو قريش ، وذلك خروجهم إلى بدر.
16177 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس " ، يعني : المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
16178 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس " ، قال : هم قريش وأبو جهل وأصحابه ، الذين خرجوا يوم بدر.
16179 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " ، قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر ، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد قيل لهم يومئذ : " ارجعوا ، فقد انطلقت عيركم ، وقد ظفرتم " . قالوا : " لا والله ، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! " . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : " اللهم إنّ قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك " !
16180 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ،

(13/580)


حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر المشركين وما يُطعِمُون على المياه فقال : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله " .
16181 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " الذين خرجوا من ديارهم بطرًا " ، قال : هم المشركون ، خرجوا إلى بدر أشرًا وبطرًا.
16182 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : ولا تكونوا ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، في العمل بالرياء والسمعة ، وترك إخلاص العمل لله ، واحتساب الأجر فيه ، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم (1) " ويصدون عن سبيل الله " ، يقول : ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام ، بقتالهم إياهم ، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله (2) " والله بما يعملون " ، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله ، وغير ذلك من أفعالهم " محيط " ، يقول : عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه منه شيء ، وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية ، لا يعزب عنه منها شيء ، فهو لهم بها معاقب ، وعليها معذِّب. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الرئاء " فيما سلف 5 : 521 ، 522 8 : 356 / 9 : 331.
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص : 529 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(3) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 9 : 252 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(13/581)


وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم ، وكان تزيينه ذلك لهم ، (1) كما : -
16183 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين ، معه رايته ، في صورة رجل من بني مُدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، (2) فقال الشيطان للمشركين : ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ). فلما اصطف الناس ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار ؟ قال : ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، وذلك حين رأى الملائكة.
__________
(1) انظر تفسير " زين " فيما سلف 12 : 136 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة ، حذف قوله : " والشيطان " ، وساق الكلام سياقًا واحدًا .

(13/7)


16184 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا ، أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ الشاعر ، ثم المدلجي ، فجاء على فرس ، فقال للمشركين : (لا غالب لكم اليوم من الناس) ! فقالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا جاركم سراقة ، وهؤلاء كنانة قد أتوكم!
16185 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر يعني من الحرب فكاد ذلك أن يثنيهم ، (1) فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك] بن جعشم المدلجيّ ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال : " أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم بشيء] تكرهونه " ! فخرجوا سراعا. (2)
16186 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق في قوله : (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) ، فذكر استدراج إبليس إياهم ، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم ، (3) حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم ، (4) يقول الله : (فلما تراءت الفئتان) ، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم (نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، وصدق عدوّ الله ، إنه رأى ما لا يرون وقال : (إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، فأوردهم ثم أسلمهم.
__________
(1) في المطبوعة : " أن يثبطهم " ، غير ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في السيرة .
(2) الأثر : 16185 - سيرة ابن هشام 2 : 263 ، والزيادة بين الأقواس منها .
(3) في المطبوعة ، حذف " لهم " ، وهي ثابتة في المخطوطة وسيرة ابن هشام .
(4) في المطبوعة : " من الحرب " ، غير ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام . والناشر كما تعلم وترى ، كثير العبث بكلام أهل العلم .

(13/8)


قال : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص : " الحارث بن هشام " أو : " عمير بن وهب الجمحي " ، فذُكر أحدهما ، فقال : أينَ ، أيْ سُرَاقَ! " ، (1) ومثَل عدوُّ الله فذهب. (2)
16187 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، إلى قوله : (شديد العقاب) ، قال : ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة ، فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة ، وقال : (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) ، وكذب والله عدو الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، (3) حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مُسْلَم ، (4) وتبرأ منهم عند ذلك.
16188 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية ، قال : لما كان يوم بدر ، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين : أنّ أحدًا لن يغلبكم ، وإني جار لكم! فلما التقوا ، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة ، نكص على عقبيه قال : رجع مدبرًا وقال : (إني أرى ما لا ترون) ، الآية.
16189 - حدثنا أحمد بن الفرج قال ، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز
__________
(1) هذه الجملة والتي تليها غيرها الناشر كل التغير ، فكتب : " فقال : أين سراقة ! أسلمنا عدو الله وذهب " . والذي في المخطوطة مطابق لما في سيرة ابن هشام " . وقوله : " مثل " ، أي : انتصب ونهض .
(2) الأثر : 16186 - سيرة ابن هشام 2 : 318 ، 319 ، وأخر صدر الخبر فجعله في آخره . وهذا الخبر لم يروه ابن هشام في سياق تفسير هذه الآيات في سيرته 2 : 329 ، تابعًا للأثر السالف رقم : 16173 ، بل ذكر الآية ثم قال : " وقد مضى تفسير هذه الآية " .
(3) في المطبوعة : " واستعاذ به " ، غير ما في المخطوطة بسوء أمانته ورأيه . و " استقاد له " ، انقاد له وأطاعه .
(4) " مسلم " ( بضم فسكون ففتح ) مصدر ميمي ، بمعنى " الإسلام " .

(13/9)


بن الماجشون قال ، حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما رؤي إبليس يومًا هو فيه أصغرُ ، ولا أحقرُ ، ولا أدحرُ ، ولا أغيظُ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟ قال : " أما إنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة. (1)
16190 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن الحسن في قوله : (إني أرى ما لا ترون) قال : رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ ، (2) يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اللجام ، ما رَكبَ.
16191 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هاشم بن القاسم قال ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال قال : قال الحسن ، وتلا هذه الآية : (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية ، قال : سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده ، وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين
__________
(1) الأثر : 16189 - رواه مالك في الموطأ : 422 ، بنحو هذا اللفظ ، وانظر التقصي لابن عبد البر : 12 ، 13 .
" أحمد بن الفرج بن سليمان الحمصي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 6899 ، 15377 . و " عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون التيمي " ، فقيه المدينة ومفتيها في زمانه ، وهو فقيه ابن فقيه ، وهو ضعيف الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 358 .
و " إبراهيم بن أبي عبلة الرملي " ، مضى برقم : 11014 .
و " طلحة بن عبيد الله بن كريز بن جابر الكعبي " ، كان قليل الحديث ، مضى برقم : 15585 .
هذا خبر مرسل .
وقوله : " يزع الملائكة " ، أي : يرتبهم ويسويهم ، ويصفهم للحرب ، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار ، و " الوازع " ، هو المقدم على الجيش ، الموكل بالصفوف وتدبير أمرهم ، وترتيبهم في قتال العدو . من قولهم : " وزعه " ، أي : كفه وحبسه عن فعل أو غيره .
(2) " الاعتجار " ، هو لف العمامة على استدارة الرأس ، من غير إدارة تحت الحنك . وإدارتها تحت الحنك هو " التلحي " ( بتشديد الحاء ) .

(13/10)


آبائكم ، (1) ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا نكص على عقبيه يقول : رجع مدبرًا وقال : (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني الملائكة.
16192 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب قال : لما أجمعت قريش على السير قالوا : إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم : أنا جار لكم من بني بكر ، ولا غالب لكم اليوم من الناس.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم ، أيها المؤمنون ، لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم ، وقال لهم : لا غالب لكم اليوم من بني آدم ، فاطمئنوا وأبشروا (وإني جار لكم) ، من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم ، (2) أجيركم وأمنعكم منهم ، فلا تخافوهم ، واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه (3) (فلما تراءت الفئتان) ، يقول : فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين ، ونظر بعضهم إلى بعض(نكص على عقبيه) ، يقول : رجع القهقري على قفاه هاربًا. (4)
* * *
يقال منه : " نكص ينكُص وينكِص نكوصًا " ، ومنه قول زهير :
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُون ، إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا (5)
__________
(1) في المطبوعة : " لن يغلبكم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فيغيركم " ، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها بعد إصلاح فسادها .
(3) في المطبوعة : " جدكم " بالجيم ، وانظر ما سلف ج 13 ص : 577 ، تعليق : 1 .
(4) انظر تفسير " العقب " فيما سلف 3 : 163 \ 11 : 450 .
(5) ديوانه : 159 ، من قصيدته في هرم بن سنان ، وهي من جياد شعره . و " حبيك البيض " ، طرائق حديده . و " البيض " جمع " بيضة " ، هي الخوذة من سلاح المحارب ، على شكل بيضة النعام ، يلبسها الفارس على رأسه لتقيه ضرب السيوف والرماح . و " استلحم الرجل " ( بالبناء للمجهول ) : إذا نشب في ملحمة القتال ، فلم يجد مخلصًا . وقوله : " وحموا " ، من قولهم : " حمى من الشيء حمية ومحمية " ، إذا فارت نفسه وغلت ، وأنف أن يقبل ما يراد به من ضيم ، ومنه : " أنف حمى " .

(13/11)


إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

وقال للمشركين : (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددًا للمؤمنين ، والمشركون لا يرونهم (1) إني أخاف عقاب الله ، وكذب عدوُّ الله(والله شديد العقاب) . (2)
القول في تأويل قوله : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال (وإذ يقول المنافقون) ، وكرّ بقوله : (إذ يقول المنافقون) ، على قوله : (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) (والذين في قلوبهم مرض) ، يعني : شك في الإسلام ، لم يصحَّ يقينهم ، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم (3) (غر هؤلاء دينهم) ، يقول : غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم ، دينُهم (4) وذلك الإسلام.
* * *
وذُكر أن الذين قالوا هذا القول ، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش ، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.
__________
(1) انظر تفسير " بريء " فيما سلف من فهارس اللغة ( برأ ) .
(2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( عقب ) .
(3) انظر تفسير " مرض " فيما سلف 1 : 278 - 281 \ 10 : 404 .
(4) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف 12 : 475 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(13/12)


* ذكر من قال ذلك :
16193 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال : كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : (غر هؤلاء دينهم).
16194 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، مثله. (1)
16195 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم) ، قال : فئة من قريش : أبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، (2) وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب ، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : (غرّ هؤلاء دينهم) ، حتى قدموا على ما قدموا عليه ، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ، فشرَّد بهم من خلفهم. (3)
16196 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) الأثر : 16194 - " إسحاق بن شاهين الواسطي " ، شيخ الطبري مضى برقم : 7211 ، 9788 . وكان في المخطوطة " أبو إسحاق بن شاهين " ، وهو خطأ ، صوابه ما في المطبوعة . وكنيته " أبو بشر " .
(2) مكان " أبو قيس بن " ، بياض في المخطوطة ، وفوق البياض حرف ( ط ) دلالة على الخطأ ، وبعدها " الوليد بن المغيرة " ، فكتب ناشر المطبوعة : " قيس بن الوليد بن المغيرة " ، وأخطأ ، إنما هو " أبو قيس بن الوليد " ، وهو الذي شهد بدرًا ، وقتله حمزة بن عبد المطلب . فأثبته . والظاهر أن البياض لا يراد به إلا هذا الذي أثبته ، لا زيادة عليه .
(3) في المطبوعة ، حذف " فشرد بهم من خلفهم " ، وهي ثابتة في المخطوطة .

(13/13)


معمر ، عن الحسن : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا " منافقين " قال معمر : وقال بعضهم : قوم كانوا أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : (غر هؤلاء دينهم).
16197 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) إلى قوله : (فإن الله عزيز حكيم) ، قال : رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت لأمر الله. (1) وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : " والله لا يُعبد الله بعد اليوم! " ، قسوة وعُتُوًّا.
16198 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج في قوله : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال : ناس كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر ، وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا.
16199 - ... قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلَّل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : (غر هؤلاء دينهم) ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : (ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم).
* * *
وأما قوله : (ومن يتوكل على الله) ، فإن معناه : ومن يسلم أمره إلى الله ،
__________
(1) في المطبوعة : " تشددت " ، وفي المخطوطة : " تسردت " ، وكأن صواب قراءتها ما أثبت ، " تشرد في الأرض " هرب ونفر ، وكأنه يعني هجرتهم إلى الله ورسوله . هكذا اجتهدت ، والله أعلم .

(13/14)


وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)

ويثق به ، ويرض بقضائه ، فإن الله حافظه وناصره (1) لأنه " عزيز " ، لا يغلبه شيء ، ولا يقهره أحد ، فجارُه منيع ، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ. (2)
وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم ، أن يفوِّضوا أمرهم إليه ، ويسلموا لقضائه ، كيما يكفيهم أعداءهم ، ولا يستذلهم من ناوأهم ، لأنه " عزيز " غير مغلوب ، فجاره غير مقهور " حكيم " ، يقول : هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم ، لا يدخل تدبيره خلل. (3)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولو تعاين ، يا محمد ، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار ، فتنزعها من أجسادهم ، تضرب الوجوه منهم والأستاه ، ويقولون لهم : ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 13 : 385 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " . . . عليه يكفه " ، غير ما في المخطوطة ، وهو محض الصواب .
(3) انظر تفسير " عزيز " ، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) ، ( حكم ) .
(4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 13 : 35 ، تعليق 5 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الأدبار " فيما سلف 13 : 435 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الذوق " فيما سلف 13 : 528 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الحريق " فيما سلف 7 : 446 ، 447 .

(13/15)


16200 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال : يوم بدر.
16201 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد : (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال : وأستاههم ، ولكن الله كريم يَكْنِي. (1)
16202 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله : (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال : وأستاههم ، ولكنه كريم يَكْنِي. (2)
16203 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، أخبرنا شعبة ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في قوله : (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال : إن الله كنى ، ولو شاء لقال : " أستاههم " ، وإنما عنى ب " أدبارهم " ، أستاههم.
16204 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أستاههم ، يوم بدر قال ابن جريج ، قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ، ضربوا وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا ، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
16205 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا عباد بن راشد ، عن الحسن قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني رأيت بظهر
__________
(1) الأثر : 16201 - " يحيى بن سليم الطائفي " ، ثقة ، مضى برقم : 4894 ، 9788 ، وكان في المطبوعة : " يحيى بن أسلم " ، وهو خطأ محض ، والمخطوطة مضطربة الكتابة . و " إسماعيل بن كثير الحجازي " ، ثقة ، مضى برقم : 8929 .
(2) في المطبوعة : " ولكن الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(13/16)


ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)

أبي جهل مثل الشراك! (1) قال : ما ذاك ؟ قال : ضربُ الملائكة.
16206 - حدثنا محمد قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه ، (2) فنَدرَ رأسُه ؟ (3) فقال : سبقك إليه الملك.
16207 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : حدثني حرملة : أنه سمع عمر مولى غفرة يقول : إذا سمعت الله يقول : (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، فإنما يريد : أستاههم. (4)
* * *
قال أبو جعفر : وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره ، وهو قوله : " ويقولون " ، (ذوقوا عذاب الحريق) ، حذفت " يقولون " ، كما حذفت من قوله : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) [سورة السجدة : 21] ، بمعنى : يقولون : ربنا أبصرنا. (5)
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر ، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم : " ذوقوا عذاب
__________
(1) " الشراك " ، سير النعل الذي يكون على ظهرها .
(2) انظر ما أسلفت في تفسير " ذهب يفعل " ، فيما سلف 11 : 128 ، تعليق : 1 ، ثم 11 : 250 ، 251 ، وص 250 تعليق : 1 .
(3) " ندر الشيء " سقط . يقال : " ضرب يده بالسيف فأندرها " ، أي قطعها فسقطت .
(4) الأثر : 16207 - " حرملة بن عمران التجيبي " ، ثقة ، مضى برقم : 6890 ، 13240 . و " عمر ، مولى غفرة " ، هو " عمر بن عبد الله المدني " ، أبو حفص ، ليس به بأس ، كان صاحب مرسلات ورقائق . مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 119 .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 413 .

(13/17)


كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)

الله الذي يحرقكم " ، هذا العذاب لكم (بما قدمت أيديكم) ، أي : بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار ، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم ، (1) فذوقوا اليوم العذابَ ، وفي معادكم عذابَ الحريق; وذلك لكم بأن الله(ليس بظلام للعبيد) ، لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه ، ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه ، لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه.
وفي فتح " أن " من قوله : (وأن الله) ، وجهان من الإعراب :
أحدهما : النصبُ ، وهو للعطف على " ما " التي في قوله : (بما قدمت) ، بمعنى : (ذلك بما قدمت أيديكم) ، وبأن الله ليس بظلام للعبيد ، في قول بعضهم ، والخفض ، في قول بعضٍ.
والآخر : الرفع ، على(ذلك بما قدمت) ، وذلك أن الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر ، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم ، (3) ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك.
__________
(1) انظر تفسير " قدمت أيديكم " فيما سلف 2 : 368 \ 7 : 447 \ 8 : 514 \ 10 : 497 .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 413 .
(3) انظر تفسير " آل " فيما سلف 2 : 37 \ 6 : 326 .

(13/18)


وقد بينا فيما مضى أن " الدأب " ، هو الشأن والعادة ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
16208 - حدثني الحارث قال ، حدثني عبد العزيز قال ، حدثنا شيبان ، عن جابر ، عن عامر ومجاهد وعطاء : (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون ، كسُنَنِ آل فرعون.
* * *
وقوله : (فأخذهم الله بذننوبهم) ، يقول : فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله ، ومعصيتهم ربهم ، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم (إن الله قوي) ، لا يغلبه غالب ، ولا يرد قضاءه رادٌّ ، يُنْفِذ أمره ، ويُمضي قضاءه في خلقه شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُججه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف 6 : 223 - 225 .

(13/19)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم ، (1) وفعلنا ذلك بهم ، بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم ، بإخراجهم إياه من بينهم ، وتكذيبهم له ، وحربهم إياه ، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم ، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأخذ " فيما سلف من فهارس اللغة ( أخذ ) .

(14/19)


كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16209 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، يقول : " نعمة الله " ، محمد صلى الله عليه وسلم ، أنعم به على قريش ، وكفروا ، فنقله إلى الأنصار.
* * *
وقوله : (وأن الله سميع عليم) ، يقول : لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه ، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ (عليم) ، بما تضمره صدورهم ، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون ، إن خيرًا فخيرًا ، وإن شرًّا فشرًّا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : غير هؤلاء المشركون بالله ، المقتولون ببدر ، نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم ، بابتعاثه محمدًا منهم وبين أظهرهم ، داعيًا لهم إلى الهدى ، بتكذيبهم إياه ، وحربهم له (كدأب آل فرعون) ، كسنة آل فرعون وعادتهم وفعلهم بموسى نبي الله ، (2) في تكذيبهم إياه ، وقصدهم لحربه ، (3) وعادة
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
(2) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف ص : 19 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " آل " فيما سلف ص : 18 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " وتصديهم لحربه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .

(14/20)


إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)

من قبلهم من الأمم المكذبة رسلَها وصنيعهم (فأهلكناهم بذنوبهم) ، بعضًا بالرجفة ، وبعضًا بالخسف ، وبعضا بالريح (وأغرقنا آل فرعون) ، في اليم (وكل كانوا ظالمين) ، يقول : كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن لهم فعله ، من تكذيبهم رسلَ الله والجحود لآياته ، فكذلك أهلكنا هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر ، إذ غيروا نعمة الله عندهم ، بالقتل بالسيف ، وأذللنا بعضهم بالإسار والسِّبَاء.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن شر ما دبّ على الأرض عند الله ، (1) الذين كفروا بربهم ، فجحدوا وحدانيته ، وعبدوا غيره (فهم لا يؤمنون) ، يقول : فهم لا يصدِّقون رسلَ الله ، ولا يقرُّون بوحيه وتنزيله.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) ، (الذين عاهدت منهم) ، يا محمد ، يقول : أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك ، (2) ولا يظاهروا عليك محاربًا لك ، كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد
__________
(1) انظر تفسير " الداية " فيما سلف 3 : 274 ، 275 \ 11 : 344 \ 13 : 459 .
(2) انظر تفسير " العهد " فيما سلف 13 : 72 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/21)


فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

وعقد (ثم ينقضون) ، عهودهم ومواثيقهم كلما عاهدوك وواثقوك ، (1) حاربوك وظاهروا عليك ، (2) وهم لا يتقون الله ، ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم وتهلكهم ، كالذي : -
16210 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) ، قال : قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق أعداءه.
16211 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة ، فتأسرهم ، (3) (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول : فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم ، ممن بينك وبينه عهد وعقد.
* * *
و " التشريد " ، التطريد والتبديد والتفريق.
* * *
وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه
__________
(1) في المطبوعة : " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك " ، وفي المخطوطة : " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(2) انظر تفسير " النقض " فيما سلف 9 : 363 \ 10 : 125 .
(3) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3 : 564 \ 7 : 110 .

(14/22)


وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن وراءهم ، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد ، حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16212 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يعني : نكّل بهم من بعدهم.
16213 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول : نكل بهم من وراءهم.
16214 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول : عظْ بهم من سواهم من الناس.
16215 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول : نكل بهم من خلفهم ، مَنْ بعدهم من العدوّ ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك.
16216 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : (فشرد بهم من خلفهم) ، قال : أنذر بهم من خلفهم.
16217 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،

(14/23)


عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : نكل بهم من خلفهم ، مَنْ بعدهم قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : نكل بهم مَنْ وراءهم.
16218 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) ، أي : نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (1)
16219 - حُدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول : نكل بهم من بعدهم.
16220 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال : أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ : ( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) (2) [الأنفال : 60]
* * *
وأما قوله : (لعلهم يذكرون) ، فإن معناه : كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم ، (3) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
* * *
__________
(1) الأثر : 16218 - سيرة ابن هشام 2 : 329 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16173 ، ثم هو في الحقيقة تابع الأثر السالف رقم : 16186 ، سيرة ابن هشام 2 : 318 ، 319 .
(2) الأثر : 16220 - انظر الأثر التالي رقم : 16242 ، والتعليق عليه .
(3) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ) .

(14/24)


وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

القول في تأويل قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وإما تخافن) ، يا محمد ، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد ، أن ينكث عهد. وينقض عقده ، ويغدر بك وذلك هو " الخيانة " والغدر (1) (فانبذ إليهم على سواء) ، يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم ، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم ، (2) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر (إن الله لا يحب الخائنين) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه ، قبل إعلامه إياه أنه له حرب ، وأنه قد فاسخه العقد.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة ، و " الخوف " ظنٌّ لا يقين ؟ (3)
قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت ، وإنما معناه : إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك ، (4) وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. (5) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 13 : 480 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " النبذ " فيما سلف 2 : 401 ، 402 \ 7 : 459 . وفي المطبوعة : " آثار الغدر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، و " الأمار " و " الأمارة " ، العلامة ، ويقال : " أمار " جمع " أمارة " .
(3) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 11 : 373 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " آثار الخيانة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر التعليق السالف رقم : 2 .
(5) في المخطوطة : " وأد " ، وبعدها بياض ، صوابه ما في المطبوعة .

(14/25)


المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم ، (1) بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة ، ولن يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . (2) فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك ، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين ، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحقٌّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ، ويؤذنهم بالحرب.
* * *
ومعنى قوله : (على سواء) ، أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (3)
* * *
وقيل : نزلت الآية في قريظة.
* ذكر من قال ذلك :
16221 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فانبذ إليهم على سواء) ، قال : قريظة.
* * *
وقد كان بعضهم يقول : " السواء " ، في هذا الموضع ، المَهَل. (4)
* ذكر من قال ذلك :
16222 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : إنه مما تبين لنا أن قوله : (فانبذ إليهم على سواء) ، أنه : على مهل كما حدثنا بكير ، عن مقاتل بن حيان في قول الله : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ
__________
(1) في المطبوعة : " ومحاربتهم معه " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " ولم يقاتلوا " ، وما في المطبوعة شبيه بالصواب .
(3) انظر تفسير " السواء " فيما سلف 10 : 488 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " وقد قال بعضهم " ، غير الجملة كلها بلا شيء .

(14/26)


مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ، [التوبة : 1 - 2]
* * *
وأما أهل العلم بكلام العرب ، فإنهم في معناه مختلفون.
فكان بعضهم يقول : معناه : فانبذ إليهم على عدل يعني : حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة ، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز : (1)
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوكَ إلَى السَّوَاءِ (2)
يعني : إلى العدل.
* * *
وكان آخرون يقولون : معناه : الوسَط ، من قول حسان :
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ ورَهْطِهِ بَعْدَ الُمغيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ (3)
بمعنى : في وسط اللَّحْد.
* * *
وكذلك هذه المعاني متقاربة ، لأن " العدل " ، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه ، وكذلك " الوسط " عدل ، واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة ، (4) عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه : " المهل " ، فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) كان في المطبوعة : " الغدر للأعداء " . وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة و " الغدر " ( بضمتين ) ، جمع " غدور " ، مثل " صبور " ، وهو الغادر المستمرئ للغدر .
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى 2 : 496 ، تعليق 2 .
(4) في المطبوعة : " واستواء الفريقين " ، وفي المخطوطة " واستواء على الفريقين " . وصواب قراءتها ما أثبت ، وهو حق المعنى .

(14/27)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)

القول في تأويل قوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من " إنهم " ، وبالتاء في " تحسبن " بمعنى : ولا تحسبن ، يا محمد ، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل : إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم ، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم ، بأنفسهم فيفوتوه بها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، بالياء في " يحسبن " ، وكسر الألف من(إِنَّهُمْ) .
* * *
وهي قراءة غير حميدة ، لمعنيين ، (1) أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها والآخر : بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن " يحسب " يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره ، كقوله : " عبد الله يحسب أخاك قائمًا " و " يقوم " و " قام " . فقارئ هذه القراءة أصحب " يحسب " خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده ، ظنّي : (2) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه ، واستعمل في قراءته ذلك كذلك ، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك ، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله : " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) هذه القراءة التي ردها أبو جعفر ، هي قراءتنا اليوم .
(2) في المطبوعة : " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن " ، فأتى بعجب لا معنى له . وقول الطبري : " ظني " ، يقول كما نقول اليوم : " فيما أظن " .

(14/28)


أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ " ، وهذا فصيح صحيح ، إذا أدخلت " أنهم " في الكلام ، لأن " يحسبن " عاملة في " أنهم " ، وإذا لم يكن في الكلام " أنهم " كانت خالية من اسم تعمل فيه.
وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب ، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم :
أحدهما : أن يكون أريد به : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، أو : أنهم سبقوا ثم حذف " أن " و " أنهم " ، كما قال جل ثناؤه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ) ، [الروم : 24]. بمعنى : أن يريكم ، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة :
أَظُنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُتَيْبَةُ ذَاهِبًا بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ (1)
__________
(1) ديوانه 473 ، من قصيدة ذكر فيها " المهاجر بن عبد الله الكلابي " والي اليمامة ، وكان للمهاجر عريف من السعاة بالبادية يقال له : " رومي " ، فاختلف ذو الرمة ، وعتيبة بن طرثوث في بئر عادية ، فخاصم ذو الرمة إلى رومي ، فقضى رومي لابن طرثوث قبل فصل الخصومة ، وكتب له بذلك سجلا ، فقال ذو الرمة من قصيدته تلك ، برواية ديوانه : أقُولُ لِنَفْسِي ، لا أُعَاتِبُ غَيْرَهَا ... وَذُو اللُّبِّ مَهْمَا كَانَ ، لِلنَّفْسِ قائِلُهْ
لَعَلَّ ابْنَ طُرْثُوثٍ عَتَيْبَةُ ذَاهِبٌ ... بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ
بِقَاعٍ ، مَنَعْنَاهُ ثَمَانينَ حِجَّةً ... وَبِضْعًا ، لَنَا أَحْرَاجُه وَمَسَايِلُهْ
ثم ذكر المهاجر بالذكر الجميل ، ثم قال : يَعِزُّ ، ابْنَ عَبْدِ اللهِ ، مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌ ... وَلا يَنْصُرُ الرَّحْمَنُ مَنْ أنْتَ خَاذِلُهْ
إذَا خَافَ قَلْبِي جَوْرَ سَاعٍ وَظُلْمَهُ ... ذَكَرْتُكَ أُخْرَى فَاطْمَأَنَّتْ بَلابِلُهْ
تَرَى اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ سَرِيرَةٌ ... لِعَبْدٍ ، ولا أَسْبَابُ أَمْرٍ يُحَاوِلهْ
لَقَدْ خَطَّ رُومِيٌّ ، وَلا زَعَمَاتِهِ ، ... لِعُتْبَةَ خَطًّا لَمْ تُطَبَّقْ مَفَاصِلُهْ
بِغَيْرِ كتابٍ وَاضِحٍ مِنْ مُهَاجِرٍ ... وَلا مُقْعَدٍ مِنِّي بخَصْمٍ أُجَادِلهْ
هذه قصة حية . وكان في المطبوعة : " عيينة " ، والصواب من الديوان ، ومما يدل عليه الشعر السالف إذ سماه " عتبة " ، ثم صغره . و " العادية " ، البئر القديمة ، كأنها من زمن " عاد " . و " التكذاب " ، مصدر مثل " الكذب " . و " الجعائل " ، الرشي ، تجعل للعامل المرتشي .

(14/29)


بمعنى : أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله ؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء ، يوجه " سبقوا " إلى " سابقين " على هذا المعنى. (1)
والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ " يحسب " ، كأنه قال : ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا ثم حذف " أنهم " وأضمر. (2)
وقد وجه بعضهم معنى قوله : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) ، [سورة آل عمران : 175] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه ، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله : " يخوف " ، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الشأم : " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالتاء من " تحسبن " ( سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، بفتح الألف من " أنهم " ، بمعنى : ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون.
* * *
قال أبو جعفر : ولا وجه لهذه القراءة يُعقل ، إلا أن يكون أراد القارئ بـ " لا " التي في " يعجزون " ، " لا " التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة ، (4) فيكون معنى الكلام حينئذ : ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل ، (5) بغير حجة يجب التسليم لها ، وله في الصحة مخرج.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ :
__________
(1) انظر هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 414 - 416 .
(2) كان في المطبوعة : " ثم حذف الهمز وأضمر " ، وهو كلام لا تفلته الخساسة . وصواب قراءة المخطوطة : " أنهم " كما أثبتها ، وهو واضح جدًا .
(3) انظر ما سلف 7 : 417 ، تفسير هذه الآية .
(4) " الصلة " ، الزيادة ، كما سلف مرارًا ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف .
(5) " التطويل " ، الزيادة أيضًا . انظر ما سلف 1 : 118 ، 224 ، 405 ، 406 ، 440 ، 441 ، وهو هناك " التطول " .

(14/30)


وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

(لا تَحْسَبَنَّ) ، بالتاء( الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ ) ، بكسر الألف من " إنهم " ، ( لا يُعْجِزُونَ) ، بمعنى : ولا تحسبن أنت ، يا محمد ، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها ، سبقونا بأنفسهم ففاتونا ، إنهم لا يعجزوننا أي : يفوتوننا بأنفسهم ، ولا يقدرون على الهرب منا ، (1) كما : -
16223 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) ، يقول : لا يفوتون.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وأعدوا) ، لهؤلاء الذين كفروا بربهم ، الذين بينكم وبينهم عهد ، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم ، أيها المؤمنون بالله ورسوله (ما استطعتم من قوة) ، يقول : ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم ، (2) من السلاح والخيل(ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، يقول : تخيفون بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16224 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل من جهينة ، يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إنَّ الرمي هو القوة ، ألا إنّ الرمي هو القوة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " أعجز " فيما سلف 12 : 128 .
(2) انظر تفسير " الاستطاعة " ، فيما سلف 4 : 315 \ 9 : 284 .
(3) الأثر : 16224 - " ابن إدريس " ، وهو " عبد الله بن إدريس الأودي " الإمام ، مضى مرارًا . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أبو إدريس " وهو خطأ صرف .
و " أسامة بن زيد الليثي " ، ثقة ، مضى برقم : 2867 ، 3354 .
و " صالح بن كيسان المدني " ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 1020 ، 5321 .
وسيأتي هذا الخبر من طرق أخرى رقم : 16226 - 16228 ، وسأذكرها عند كل واحد منها ، وانظر تخريج الخبر التالي .

(14/31)


16225 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا سعيد بن شرحبيل قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، وعبد الكريم بن الحارث ، عن أبي علي الهمداني : أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول : قال الله : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : قال الله : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ثلاثا. (1)
__________
(1) الأثر : 16225 - " سعيد بن شرحبيل الكندي " ، روى عنه البخاري ، وروى له النسائي وابن ماجه بالواسطة . ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 1 \ 442 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 33 .
و " ابن لهيعة " ، مضى مرارًا ، ومضى الكلام في أمر توثيقه .
و " يزيد بن أبي حبيب الأزدي المصري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها : 11871 .
و " عبد الكريم بن الحارث بن يزيد الحضرمي المصري " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 60 .
و " أبو علي الهمداني " ، هو " ثمامة بن شفي الهمداني " المصري ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 177 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 466 .
وهذا إسناد فيه ضعف لمن ضعف ابن لهيعة ، والطبري نفسه سيقول في ص : 37 ، تعليق : 2 ، أنه سند فيه وهاء " .
بيد أن هذا الخبر روي من طرق صحيحة جدا :
رواه مسلم في صحيحه 13 : 64 ، من طريق هارون بن معروف ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثمامة بن شفي ، بمثله .
ورواه أبو داود في سننه 3 : 20 ، رقم : 2514 ، من طريق سعيد بن منصور ، عن ابن وهب ، بمثله .
ورواه ابن ماجه في سننه : 940 رقم : 2813 ، من طريق يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب بمثله .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 328 ، من طريق سعيد بن ابي أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . ولك يخرجه البخاري ، لأن صالح بن كيسان أوقفه " ووافقه الذهبي .

(14/32)


16226 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محبوب ، وجعفر بن عون ، ووكيع ، وأبو أسامة ، وأبو نعيم ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، فقال : " ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة ، الرمي " ثلاث مرات. (1)
16227 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ، فذكر نحوه. (2)
16228 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (3)
16229 - حدثنا أحمد بن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه ، محمد بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، " ألا إن القوة الرمي. (4)
__________
(1) الأثر : 16226 - " محبوب " ، هو " محبوب بن محرز القواريري " ، وثقه ابن حبان ، وضعفه الدارقطني . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 388 .
و " جعفر بن عون المخزومي " ، ثقة ، أخرج له الجماعة ، مضى برقم : 9506 .
وهذا الخبر رواه الترمذي من طريق وكيع عن أسامة بن زيد ، ثم قال : " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن عقبة بن عامر ، وحديث وكيع أصح ، وصالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر ، وأدرك ابن عمر " . وانظر الخبر رقم : 16228 .
(2) الأثر : 16227 - هو مكرر الأثر السالف ، وانظر تخريجه ، رواه من هذه الطريق ، الترمذي في سننه ، كما سلف.
(3) الأثر : 16228 - هذا هو الحديث الذي أشار إليه الترمذي ، وقال فيه : " صالح بن كيسان ، لم يدرك عقبة بن عامر " . انظر ما سلف : 16226 .
(4) الأثر : 16229 - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، ضعيف بمرة ، لا تحل الرواية عنه . سلف مرارًا ، آخرها رقم : 11811 ، 14045 ، روى عن أخويه " عبد الله " و " محمد " وأخوه " محمد بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، لم أجد له ترجمة ، وهو مذكور في ترجمة أخيه " موسى " ، وترجمة أخيه " عبد الله " ، وأنه روى عنه . وكان أكبر من أخيه موسى بثمانين سنة . وأخوه " عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، روى عن جماعة من الصحابة ، وثقه بعضهم ، وضعفه آخرون ، وقال أحمد : " موسى بن عبيدة وأخوه ، لا يشتغل بهما " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 101 .

(14/33)


16230 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شعبة بن دينار ، عن عكرمة في قوله : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، قال : الحصون (ومن رباط الخيل) ، قال : الإناث. (1)
16231 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن رجاء بن أبي سلمة قال : لقي رجل مجاهدًا بمكة ، ومع مجاهد جُوَالَق ، ، (2) قال : فقال مجاهد : هذا من القوة! ومجاهد يتجهز للغزو.
16232 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، من سلاح.
* * *
وأما قوله : (ترهبون به عدو الله وعدوكم)
فقال ابن وكيع :
16233 - حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، قال : تخزون به عدو الله وعدوكم.
16234 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله.
16235 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (ترهبون به عدو الله
__________
(1) الأثر : 16230 - " شعبة بن دينار الكوفي " ، روى عن مكرمة ، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 2 \ 245 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 368 .
(2) " الجوالق " ( بضم الجيم ، وفتح اللام أو كسرها ) ، وعاء من الأوعية ، هو الذي نسميه اليوم في مصر محرفا " الشوال " .

(14/34)


وعدوكم) ، قال : تخزون به عدو الله وعدوكم. وكذا كان يقرؤها : (تُخْزُونَ). (1)
16237 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، وخصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (ترهبون به) ، تخزون به. (2)
16238 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
* * *
يقال منه : " أرهبت العدو ، ورهَّبته ، فأنا أرهبه وأرهِّبه ، إرهابًا وترهيبًا ، وهو الرَّهَب والرُّهْب " ، ومنه قول طفيل الغنوي :
وَيْلُ أُمِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ بَنِي كِلابٍ غَدَاة الرُّعْبِ والرَّهَبِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هؤلاء " الآخرين " ، من هم ، وما هم ؟
فقال بعضهم : هم بنو قريظة.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وكذا كان يقرؤها : ترهبون " ، والصواب الذي لا شك فيه هنا ، هو " تخزون " ، كما أثبتها ، وقد ذكر قراءة ابن عباس هذه ، ابن خالويه في القراءات الشاذة : 50 ( وفي المطبوعة خطأ ، كتب : يجرون به عدو الله ، والصواب ما أثبت ) ، وقال أبو حيان في تفسيره 4 : 512 : " وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : " تخزون به " ، مكان : ترهبون به وذكرها الطبري على وجه التفسير لا على وجه القراءة ، وهو الذي ينبغي ، لأنه مخالف لسواد المصحف " .
قلت : وقد رأيت بعد أن الطبري ذكرها أيضًا على جهة القراءة ، ولا يستقيم نصه إلا بما أثبت .
(2) سقط من الترقيم : 16236 ، سهوًا .
(3) ديوانه : 56 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 249 يمدح بها بني جعفر بن كلاب ، من أبيات ثلاثة ، مفردة .

(14/35)


16239 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرين من دونهم) ، يعني : من بني قريظة.
16240 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرين من دونهم) ، قال : قريظة.
* * *
وقال آخرون : من فارس.
* ذكر من قال ذلك :
16241 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، هؤلاء أهل فارس.
* * *
وقال آخرون : هم كل عدو للمسلمين ، غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا : وهم المنافقون.
* ذكر من قال ذلك :
16242 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال : أخفهم بهم ، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). (1)
16243 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، قال : هؤلاء المنافقون ، لا تعلمونهم لأنهم معكم ، يقولون : لا إله إلا الله ، ويغزون معكم.
* * *
__________
(1) الأثر : 16242 - هذا مكرر الأثر السالف رقم 16220 ، ولا أدري فيم جاء به هنا مفردًا ، وأما الأثر الذي عناه ، فهو الذي يليه ، والظاهر أنه خطأ من الطبري نفسه في النقل . ولفظ هذا الخبر ، يخالف لفظ الخبر السالف قليلا .

(14/36)


وقال آخرون : هم قوم من الجنّ.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين ، من السلاح والرمي وغير ذلك ، ورباط الخيل ولا وجه لأن يقال : عني بـ " القوة " ، معنى دون معنى من معاني " القوة " ، وقد عمَّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله : " ألا إن القوة الرمي " ؟ (1)
قيل له : إن الخبر ، وإن كان قد جاء بذلك ، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة ، دون سائر معاني القوة عليهم ، فإن الرمي أحد معاني القوة ، لأنه إنما قيل في الخبر : " ألا إن القوة الرمي " ، ولم يقل : " دون غيرها " ، ومن " القوة " أيضًا السيف والرمح والحربة ، وكل ما كان معونة على قتال المشركين ، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2)
* * *
وأما قوله : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، فإن قول من قال : عنى به الجن ، أقربُ وأشبهُ بالصواب ، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله : (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، الأمرَ بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم ، ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم ، لعلمهم بأنهم مشركون ، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال : وهم يعلمونهم لهم
__________
(1) انظر الآثار السالفة رقم : 16224 - 16229 .
(2) هذه مرة أخرى تختلف فيها كتابة المخطوطة ، فههنا : " وهاء " ، كما أثبتها ، وكان في المطبوعة : " وهي " ، وانظر ما كتبته ما سلف 9 : 531 ، تعليق : 2 .
ثم انظر ما قلته في تخريج الخبر السالف رقم : 16225 ، وما ذكرته من الطريق الصحيحة في رواية هذا الخبر .

(14/37)


أعداءً : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، ولكن معنى ذلك إن شاء الله : ترهبون بارتباطكم ، أيها المؤمنون ، الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم ، لكفرهم بالله ورسوله ، وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني آدم ، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ، الله يعلمهم دونكم ، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل : إن صهيل الخيل يرهب الجن ، وأن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس. (1)
* * *
فإن قال قائل : فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون ، فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون ؟
قيل : فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم ، وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرُّون من الكفر ، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو ، فأما من لم يرهبه ذلك ، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون. وقيل : " لا تعلمونهم " ، فاكتفي لـ " العلم " ، بمنصوب واحد في هذا الموضع ، لأنه أريد : لا تعرفونهم ، كما قال الشاعر : (2)
__________
(1) ذكر ابن كثير في تفسيره خبرين ، أحدهما رواه ابن أبي حاتم ، عن زيد بن عبد الله بن عريب ، عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هم الجن ، في هذه الآية ثم قال رواه الطبراني ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يخبل بيت فيه عتيق الخيل " ، ( انظر الإصابة : ترجمة عريب ) ، ثم قال ابن كثير : " هذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه " . وانظر القرطبي 8 : 38 .
وهذا الذي قاله الطبري ، رده العلماء من قوله ، وحق لهم . وقد رجح ابن كثير وأبو حبان ( 4 : 513 ) ، أن المعنى بذلك هم المنافقون ، وهو القول الذي رده أبو جعفر فيما يلي ، ورد أبي جعفر رد محكم .
فإن كان لنا أن نختار ، فإني أختار أن يكون عني بذلك ، من خفي على المؤمنين أمره من أهل الشرك ، كنصارى الشأم وغيرهم ، ممن لم ينظر المؤمنون عدواتهم بعد ، وهي آتية سوف يرونها عيانًا بعد قليل . وفي الكلام فضل بحث ليس هذا مكانه ، والآية عامة لا أدري كيف يخصصها أبو جعفر ، بخبر لا حجة فيه .
(2) هو النمر بن تولب العكلي .

(14/38)


فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلانا (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما أنفقتم ، أيها المؤمنون ، من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من النفقات ، (2) في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا ، ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده ، حتى يوفِّيكموها يوم القيامة (3) (وأنتم لا تظلمون) ، يقول : يفعل ذلك بكم ربكم ، فلا يضيع أجوركم عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الاقتضاب : 303 ، المفصل الزمخشري : 88 . وكان النمر بن تولب ، نازع رجلا يقال له " وهب " ، من قومه ، في بئر تدعى " الدحول " ( بالحاء المهملة ) ، في أرض عكل ، نميرة الماء ، يقول فيها من هذه الأبيات : ولكنَّ الدَّحُولَ إذَا أتَاهَا ... عِجَافُ المَالِ تتْرُكُهُ سِمَانَا
وكان النمر سقاه منها ، فلم يشكر له ، وخان الأمانة ونازعه فيها فقال : يُريدُ خِيَانَتِي وَهْبٌ ، وأَرْجُو ... مِنَ اللهِ البراءَةَ وَالأمَانَا
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا ... وَيَعْلَمُ أَنْ سَيَلقَاهُ كِلانَا
وَإنَّ بَنِي رَبِيعَةَ بَعْدَ وَهْبٍ ... كَرَاعِي البَيْتِ يَحْفَظُهُ فخانَا
وكان البيت في المطبوعة والمخطوطة : فإن اللهَ يعلمني ... وأَنا سوف يلقاهُ كلانا
(2) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة ( نفق ) .
(3) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 12 : 224 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/39)


وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

16244 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ، أي لا يضيع لكم عند الله أجرُه في الآخرة ، وعاجل خَلَفه في الدنيا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا ، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ ، إما بالدخول في الإسلام ، وإما بإعطاء الجزية ، وإما بموادعة ، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (2) (فاجنح لها) ، يقول : فمل إليها ، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.
* * *
يقال منه : " جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا " ، وهي لتميم وقيس ، فيما ذكر عنها ، تقول : " يجنُح " ، بضم النون ، وآخرون : يقولون : " يَجْنِح " بكسر النون ، وذلك إذا مال ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إذَا مَا التَقَى الجمْعانِ أَوَّلُ غَالِبِ (3)
جوانح : موائل.
* * *
__________
(1) الأثر : 16244 - سيرة ابن هشام 2 : 329 ، 330 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16218 .
(2) انظر تفسير " السلم " فيما سلف 4 : 251 - 255 .
(3) ديوانه : 43 ، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج ، حين هرب إلى الشأم ، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة ، وقبله ، ذكر فيها غارة جيشه ، والنسور التي تتبع الجيش : إذَا مَا غَزَوْا بِالجَيْشِ ، حَلَّقَ فَوْقَهُمْ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
يُصَاحبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهم ... مِنَ الضَّارِيَاتِ بالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ
تَرَاهُنَّ خَلْفَ القومِ خُزْرًا عُيُونهَا ... جُلُوسَ الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ
جَوانِحَ قَدْ أيْقَنَّ . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من جيد الشعر وخالصه .

(14/40)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16245 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وإن جنحوا للسلم) قال : للصلح ، ونسخها قوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة : 5]
16246 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وإن جنحوا للسلم) ، إلى الصلح(فاجنح لها) ، قال : وكانت هذه قبل " براءة " ، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد في " براءة " فقال : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، وقال : (قاتلوا المشركين كافة) ، [سورة التوبة : 36] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمره بقتالهم حتى يقولوا " لا إله إلا الله " ويسلموا ، وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها ، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به ، فإن " براءة " جاءت بنسخ ذلك ، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا : " لا إله إلا الله " .
16247 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، نسختها الآية التي في " براءة " قوله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، إلى قوله : ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [سورة التوبة : 29]

(14/41)


16248 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، يقول : وإن أرادوا الصلح فأرده.
16249 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، أي : إن دعوك إلى السلم إلى الإسلام فصالحهم عليه. (1)
16250 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، قال : فصالحهم. قال : وهذا قد نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله ، من أن هذه الآية منسوخة ، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك ، فغير كائنٍ ناسخا. (2)
وقول الله في براءة : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله.(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، لأن قوله : (وإن جنحوا للسلم) ، إنما عني به بنو قريظة ، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب ، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى
__________
(1) الأثر : 16249 - سيرة ابن هشام 2 : 330 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16244 ، وفي السيرة : " إلى السلم على الإسلام " .
(2) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف 11 : 209 ، وما بعده وما قبله في فهارس الكتاب ، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها .

(14/42)


الآيتين نفي حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه.
16251 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وإن جنحوا للسلم) ، قال : قريظة.
* * *
وأما قوله : (وتوكل على الله) ، يقول : فوِّض إلى الله ، يا محمد ، أمرك ، واستكفِه ، واثقًا به أنه يكفيك (1) كالذي : -
16252 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وتوكل على الله) ، إن الله كافيك. (2)
* * *
وقوله : (إنه هو السميع العليم) ، يعني بذلك : إن الله الذي تتوكل عليه ، " سميع " ، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه ، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (3) " العليم " ، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه ، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه ، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 15 تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 16252 - سيرة ابن هشام 2 : 330 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16249 .
(3) في المطبوعة : " ويشرط كل فريق . . . " ، وفي المخطوطة : " ويشترط . . . " ، والصواب بينهما ما أثبت .
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .

(14/43)


وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)

القول في تأويل قوله : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإن يرد ، يا محمد ، هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة ، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم ، خداعَك والمكرَ بك (1) (فإن حسبك الله) ، يقول : فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك ، (2) لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان ، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى (هو الذي أيدك بنصره) ، يقول : الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه (3) (وبالمؤمنين) ، يعني بالأنصار.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16253 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، قال : قريظة.
16254 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) ، هو من وراء ذلك. (4)
16255 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (هو الذي أيدك بنصره) ، قال : بالأنصار.
__________
(1) انظر تفسير " الخداع " فيما سلف 1 : 273 - 277 ، 302 \ 9 : 329 .
(2) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف 11 : 137 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 13 : 377 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) الأثر : 16254 - سيرة ابن هشام ، 2 : 331 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16252 .

(14/44)


وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

القول في تأويل قوله : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) }
قال أبو جعفر : يريد جل ثناؤه بقوله : (وألف بين قلوبهم) ، وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج ، بعد التفرق والتشتت ، على دينه الحق ، فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا ، وإخوانًا بعد أن كانوا أعداء.
وقوله : (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو أنفقت ، يا محمد ، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض ، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيْلك ، (1) ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت واجتمعت ، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول جل ثناؤه : والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه ، فثق به وامض لأمره ، وتوكل عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16256 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وألف بين قلوبهم) ، قال : هؤلاء الأنصار ، ألف بين قلوبهم من بعد حرب ، فيما كان بينهم. (2)
__________
(1) " الحيل " ( بفتح فسكون ) ، القوة ، مثل " الحول " ، يقال : " إنه لشديد الحيل " ، وفي الحديث : " اللهم ذا الحيل الشديد " . وهو لا يزال يستعمل كذلك في عامية مصر .
(2) ما بين " من بعد حرب " و " فيما كان بينهم " ، بياض في المخطوطة ، فيه معقوفة بالحمرة ، لا أدري أهو بياض تركه لسقط ، أم هو سهو من الناسخ ملأه بالحمرة .

(14/45)


16257 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن بشير بن ثابت ، رجل من الأنصار : أنه قال في هذه الآية : (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ، يعني : الأنصار (1)
16258 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وألف بين قلوبهم) ، على الهدى الذي بعثك به إليهم (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) ، بدينه الذي جمعهم عليه يعني الأوس والخزرج. (2)
16259 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن إبراهيم الخوزيّ ، عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد : بمصافحةٍ يغفر لهما ؟ (3) فقال مجاهد : أما سمعته يقول : (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني. (4)
16260 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثني الوليد ، عن أبي عمرو قال ، حدثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد ، ولقيته وأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابَّان في الله ، (5) فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتّت
__________
(1) الأثر : 16257 - " بشير بن ثابت الأنصاري " ، مولى النعمان " بن بشير " ، ذكره ابن حبان في الثقات . روى عنه شعبة . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 97 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 372 .
(2) الأثر : 16258 - سيرة ابن هشام 2 : 331 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16254 .
(3) في المخطوطة : " يغفر الله له " والذي في المطبوعة أجود .
(4) الأثر : 16259 - " إبراهيم الخوزي " ، هو : " إبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي " ، مولى عمر بن عبد العزيز ، ضعيف ، مضى برقم : 7484 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " إبراهيم الجزري " ، وهو خطأ محض .
و " الوليد بن أبي مغيث " ، نسب إلى جده ، ولم أجده منسوبًا إليه في غير هذا المكان ، وإنما هو : " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث " ، مولى بني عبد الدار ، ثقة . روى عن يوسف بن ماهك ، ومحمد بن الحنفية . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 146 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 9 .
(5) " تراءى الرجلان " ، رأى أحدهما الآخر .

(14/46)


خطاياهما كما يتحاتُّ ورق الشجر. (1) قال عبدة : فقلت له : إنّ هذا ليسير! قال : لا تقل ذلك ، فإن الله يقول : (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)! قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني. (2)
16261 - حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا فضيل بن غزوان قال ، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت (3) أتعرفني ؟ فقال فضيل : نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك حدثني أبو الأحوص ، عن عبد الله ، قال : نزلت هذه الآية في المتحابين في الله : (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم). (4)
16262 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن عون ،
__________
(1) " تحات ورق الشجر " ، تساقط من غصنه إذا ذبل ، ثم انتثر .
(2) الأثر : 16260 - " عبد الكريم بن أبي عمير " ، شيخ الطبري ، سلف برقم : 7578 ، 11368 ، 12867 .
و " الوليد " ، هو " الوليد بن مسلم " ، سلف مرارًا .
و " أبو عمرو " ، هو الأوزاعي الإمام .
و " عبدة بن أبي لبابة الأسدي " ، مضى برقم : 5859 .
وانظر الخبر الآتي رقم : 16263 .
(3) في المستدرك : " لقيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره " .
(4) الأثر : 16261 - " أبو إسحاق " هو : السبيعي .
و " أبو الأحوص " ، هو " عوف بن مالك بن نضلة " ، تابعي ثقة ، مضى مرارًا .
و " عبد الله " ، هو " عبد الله بن مسعود " .
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 329 ، من طريق يعلي بن عبيد ، عن فضيل ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 27 ، 28 ، من طريق أخرى ، وقال : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح ، غير جنادة بن مسلم ، وهو ثقة " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 199 ، وزاد نسبته إلى ابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .
وسيأتي من طريق أخرى رقم : 16264 .

(14/47)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

عن عمير بن إسحاق قال : كنا نُحدَّث أن أوّل ما يرفع من الناس أو قال : عن الناس الألفة. (1)
16263 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن الأوزاعي قال ، حدثني عبدة بن أبى لبابة ، عن مجاهد ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم ، عن الوليد. (2)
16264 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، وابن نمير ، وحفص بن غياث ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص قال : سمعت عبد الله يقول : (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، الآية ، قال : هم المتحابون في الله. (3)
* * *
وقوله : (إنه عزيز حكيم) ، يقول : إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما ، وجعلهم لك أنصارًا (عزيز) ، لا يقهره شيء ، ولا يردّ قضاءه رادٌّ ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول : فعليه فتوكل ، وبه فثق(حكيم) ، في تدبير خلقه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (يا أيها النبي حسبك الله) ، وحسب من اتبعك من المؤمنين ، الله. يقول لهم جل ثناؤه : ناهضوا
__________
(1) الأثر : 16262 - " عمير بن إسحاق " ، مضى قريبًا برقم : 16148 .
(2) الأثر : 16263 - انظر ما سلف رقم : 16260 ، والتعليق عليه .
(3) الأثر : 16264 - طريق أخرى للأثر السالف رقم : 16261 .
(4) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) ، ( حكم ) .

(14/48)


عدوكم ، فإن الله كافيكم أمرهم ، ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، فإن الله مؤيدكم بنصره. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16265 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان ، عن شوذب أبي معاذ ، عن الشعبي في قوله : (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال : حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، الله. (2)
16266 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا سفيان ، عن شوذب ، عن الشعبي في قوله : (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال : حسبك الله ، وحسب من معك.
16267 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن شوذب ، عن عامر ، بنحوه إلا أنه قال : حسبك الله ، وحسب من شهد معك.
16268 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال : يا أيها النبي حسبك الله ، وحسب من اتبعك من المؤمنين ، إنّ حسبك أنت وهم ، الله.
* * *
فـ " منْ " قوله : (ومن اتبعك من المؤمنين) ، على هذا التأويل الذي
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص : 44 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 16265 - " شوذب ، أبو معاذ " ، ويقال : " أبو عثمان " ، مولى البراء بن عازب . قال سفيان ، عن شوذب : " كنت تياسًا ، فنهاني البراء بن عازب عن عسب الفحل " روى عنه سفيان الثوري ، وشعبة . مترجم في الكبير 2 \ 2 \ 261 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 377 ، وكان في المطبوعة : " شوذب بن معاذ " وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة.
وسيأتي في الإسنادين التاليين .

(14/49)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

ذكرناه عن الشعبي ، نصب ، عطفا على معنى " الكاف " في قوله : (حسبك الله) لا على لفظه ، لأنها في محل خفض في الظاهر ، وفي محل نصب في المعنى ، لأن معنى الكلام : يكفيك الله ، ويكفي من اتبعك من المؤمنين.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية في " من " ، أنها في موضع رفع على العطف على اسم " الله " ، كأنه قال : حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو من المؤمنين ، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله : (حرض المؤمنين على القتال) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق ، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين (2) (إن يكن منكم عشرون) رجلا(صابرون) ، عند لقاء العدو ، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 417 .
(2) انظر تفسير " التحريض " فيما سلف 8 : 579 .

(14/50)


لعدوهم (يغلبوا مئتين) ، من عدوهم ويقهروهم (وإن يكن منكم مئة) ، عند ذلك(يغلبوا) ، منهم(ألفا) (بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول : من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ، ولا لطلب أجر ولا احتساب ، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا ، وطلب موعود الله في الميعاد ، ما وعد المجاهدين في سبيله ، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء ، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم. (1) ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين ، إذ علم ضعفهم فقال لهم : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، يعني : أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوهم ضعفًا (فإن يكن منكم مئة صابرة) ، عند لقائهم للثبات لهم (يغلبوا مئتين) منهم (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) منهم (بإذن الله) يعني : بتخلية الله إياهم لغلبتهم ، ومعونته إياهم (2) (والله مع الصابرين) ، لعدوهم وعدو الله ، احتسابًا في صبره ، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه ، بالعون منه له ، والنصر عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16269 - حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن عطاء في قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال : كان الواحد لعشرة ، ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. (3)
16270 - حدثنا سعيد بن يحيى قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ابن جريج ،
__________
(1) انظر تفسير " فقه " فيما سلف 13 : 278 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 11 : 215 ، تعليق : 2 . والمراجع هناك .
(3) الأثر : 16269 - " محمد بن محبب بن إسحاق القرشي " ، ثقة ، مضى برقم : 6320 .

(14/51)


عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : جعل على المسلمين على الرجل عشر من الكفار ، فقال : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فخفف ذلك عنهم ، فجعل على الرجل رجلان. قال ابن عباس : فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم.
16271 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال : قال محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ، ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ، ومئة ألفا ، فخفف الله عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، قال : وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم أن يقاتلوا ، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. (1)
16272 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال : كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنزل الله : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فنسخ الأمر الأول وقال مرة أخرى في قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار ، فشق ذلك على المؤمنين ، ورحمهم الله ، فقال : (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ،
__________
(1) الأثر : 16271 - سيرة ابن هشام 2 : 331 ، وهو تابع الأثر التالي رقم : 16285 ، قدم الطبري وأخر في هذا الموضع ، فاختلف ترتيب نقله من تفسير ابن إسحاق في سيرته .

(14/52)


فأمر الله الرجلَ من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار.
16273 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، إلى قوله : (بأنهم قوم لا يفقهون) ، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشِّبهم يعني : يغريهم (1) بذلك ، ليوطنوا أنفسهم على الغزو ، وأن الله ناصرهم على العدو ، ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا أوجبه ، ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه ، ثم خفف عنهم فقال : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، فجعل على كل رجلٍ رجلين بعد ذلك ، تخفيفا ، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم ، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا ، ولو كان عليهم واجبًا كفّروا إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [نكل] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. (2) فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ ! فإني قد سمعت رجالا يقولون : إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان ، وحتى يكون على كل رجلين أربعة ، ثم بحساب ذلك ، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك ، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان ، وعلى كل رجلين أربعة ، وقد قال الله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [سورة البقرة : 207] ، وقال الله : ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) [سورة النساء : 84] ، فهو التحريض الذي أنزل الله
__________
(1) " التأشيب " التحريش بين القوم بالشر ، ومثله " التأشيب " بمعنى الإغراء بالعدو ، انظر كما سلف في التعليق على رقم : 16059 ، ج 13 : 531 ، تعليق رقم : 2 ، وكتب اللغة مقصرة في بيان معنى هذا الحرف من العربية .
(2) في المطبوعة : " ولو كان عليهم واجبًا الغزو إذا بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار " ، جاء بكلام لا معنى له . وكان في المخطوطة : " ولو كان عليهم واجبًا كفروا إذا كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار " ، وصواب الجملة ما أثبت ، ولكن الناسخ أسقط ، والله أعلم ، [ نكل ] التي وضعها بين القوسين . و " نكل عن عدوه " ، نكص .

(14/53)


عليهم في " الأنفال " ، فلا تعجزنَّ ، قاتلْ ، قد سقطت بين ظَهْرَيْ أناس كما شاء الله أن يكونوا. (1)
16274 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحصين ، عن زيد ، عن عكرمة والحسن قالا قال في " سورة الأنفال " (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، ثم نسخ فقال : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، إلى قوله : (والله مع الصابرين).
16275 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة ، في قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، قال : واحد من المسلمين وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين.
16276 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، إلى قوله : (وإن يكن منكم مئة) ، قال : هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار ، (2) فضجوا من ذلك ، فجعل على الرجل قتال رجلين ، تخفيفا من الله.
16277 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، وأبي معبد عن ابن عباس قال : إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة ، والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل ، فلما كثر
__________
(1) في المطبوعة : " فلا يعجزك قائل قد سقطت " ، وهو بلا معنى ، صوابه ما في المخطوطة كما أثبته ، وهو فيها غير منقوط ، وهذا صواب قراءة . وقوله : " فلا تعجزن " ، يعني لا تقعد عن القتال عجزًا ، ولكن قاتل ، فإنك قد وقعت بين عدد من العدو ، كما شاء الله أن يكون عددهم ، قلوا أو كثروا .
(2) في المطبوعة في الموضعين حذف " قتال " ، لأنها في المخطوطة : " فقال " ، وصواب قراءتها ما أثبت .

(14/54)


المسلمون ، خفف الله عنهم. فأمر الرجل أن يصبر لرجلين ، والعشرة للعشرين ، والمئة للمئتين.
16278 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا ، فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا ، ثم خفف الله عنهم وقال : (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، فيقول : لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
16279 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، جعل الله على كل رجل رجلين ، بعد ما كان على كل رجل عشرة وهذا الحديث عن ابن عباس.
16280 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخرِّيت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : كان فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين. قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا) ، فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله التخفيف ، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين ، قوله : (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فخفف الله عنهم ، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك. (1)
16281 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، يقول : يقاتلوا مئتين ، فكانوا أضعف من ذلك ، فنسخها الله عنهم. فخفف
__________
(1) في المطبوعة : " ونقصوا من الصبر " ، زاد " واوًا " ، وغير " النصر " ، فأفسد الكلام . غفر الله له .

(14/55)


فقال : (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة ، ثم جعل الرجل لاثنين.
16282 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا ، فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف الله عنهم فقال : (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) ، فيقول : لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
16283 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان هذا واجبًا أن لا يفر واحد من عشرة.
16284 - وبه قال : أخبرنا الثوري ، عن الليث ، عن عطاء ، مثل ذلك.
* * *
وأما قوله : (بأنهم قوم لا يفقهون) ، فقد بينّا تأويله. (1)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما : -
16285 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (بأنهم قوم لا يفقهون) ، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ فيه ، ولا معرفة بخير ولا شر. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الآية أعني قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، وإن كان مخرجها مخرج الخبر ، فإن معناها الأمر. يدلّ على
__________
(1) انظر ما سلف ص : 51 .
(2) الأثر : 16285 - سيرة ابن هشام 2 : 331 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16257 ، وقد أخره أبو جعفر عن موضعه إلى هذا الموضع ، وقدم عليه الخبر رقم : 16271 ، وهو تال له في تفسير السورة في سيرة ابن هشام .
كان في المطبوعة . " ولا معرفة لخير " ، وأثبت ما في المخطوطة والسيرة .

(14/56)


ذلك قوله : (الآن خفف الله عنكم) ، فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف ، وكان ندبًا ، لم يكن للتخفيف وجه ، لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوتَ للعشرة من العدو. وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدِّمًا ، لم يكن للترخيص وجه ، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن حكم قوله : (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، ناسخ لحكم قوله : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا). وقد بينا في كتابنا " البيان عن أصول الأحكام " ، (1) أن كل خبرٍ من الله وعد فيه عباده على عملٍ ثوابًا وجزاء ، وعلى تركه عقابًا وعذابًا ، وإن لم يكن خارجًا ظاهرُه مخرج الأمر ، ففي معنى الأمر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (وعلم أن فيكم ضعفًا).
فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا) ، بضم " الضاد " في جميع القرآن ، وتنوين " الضعف " على المصدر من : " ضَعُف الرجل ضُعْفًا " .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) ، بفتح " الضاد " ، على المصدر أيضًا من " ضَعُف " .
* * *
وقرأه بعض المدنيين : (ضُعَفَاء) ، على تقدير " فعلاء " ، جمع " ضعيف " على " ضعفاء " ، كما يجمع " الشريك " ، " شركاء " ، و " الرحيم " ، " رحماء " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه : ( وَعَلِمَ
__________
(1) في المطبوعة : " كتاب لطيف البيان " ، وأثبت ما في المخطوطة ، والكتاب هو هو .

(14/57)


مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) ، و(ضُعْفًا) ، بفتح الضاد أو ضمها ، لأنهما القراءتان المعروفتان ، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الصوابَ.
* * *
فأما قراءة من قرأ ذلك : " ضعفاء " ، فإنها عن قراءة القرأة شاذة ، وإن كان لها في الصحة مخرج ، فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ.
* * *
و " الأسر " في كلام العرب : الحبس ، يقال منه : " مأسورٌ " ، يراد به : محبوس. ومسموع منهم : " أبَاله الله أسْرًا " . (1)
* * *
وإنما قال الله جل ثناؤه [ذلك] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم ، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأسير " فيما سلف 2 : 311 ، 312 .
وأما قوله : " أباله الله أسرا " ، فإن " الأسر " " بضم الألف وسكون السين " ، وهو احتباس البول ، يقال : " أخذه الأسر " . وهذه الجملة كانت في المخطوطة : " أبي الله أسرًا " ، وفي لسان العرب ، كما في المطبوعة " أناله بالنون " ، وفي أساس البلاغة : " وفي أدعيتهم : أبي لك الله أسرا " .
والذي في المخطوطة وأساس البلاغة يرجح صواب ما قرأته بالباء .

(14/58)


وقوله : (حتى يثخن في الأرض) ، يقول : حتى يبالغ في قتل المشركين فيها ، ويقهرهم غلبة وقسرًا.
* * *
يقال منه : " أثخن فلان في هذا الأمر " ، إذا بالغ فيه. وحكي : " أثخنته معرفةً " ، بمعنى : قتلته معرفةً.
* * *
(تريدون) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تريدون) ، أيها المؤمنون ، (عرض الدنيا) ، بأسركم المشركين وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. (1) يقول : تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها (والله يريد الآخرة) ، يقول : والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته ، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم : فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا ، (2) لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها (والله عزيز) ، يقول : إن أنتم أردتم الآخرة ، لم يغلبكم عدوّ لكم ، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب وأنه(حكيم) (3) في تدبيره أمرَ خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16286 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم ، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى : ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ، [سورة محمد : 4] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن
__________
(1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف 9 : 71 \ 13 : 211 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " واطلبوا " ، والسياق للفاء لا للواو .
(3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) ، ( حكم ) .

(14/59)


شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادَوْهم.
16287 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا) ، الآية ، قال : أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداءَ ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. (1) ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين.
16288 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد قال : " الإثخان " ، القتل. (2)
16289 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير في قوله : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، قال : إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتلَ.
16290 - ... قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، الآية ، نزلت الرخصة بعدُ ، إن شئت فمنّ ، وإن شئت ففاد.
16291 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، يعني : الذين أسروا ببدر.
16292 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، من عدوه (حتى يثخن في الأرض) ، أي :
__________
(1) في المطبوعة حذف " أربعة آلاف " ، الثانية ، كأنها لم تعجبه ، غفر الله له ! ! .
(2) الأثر : 16288 - " حبيب بن أبي عمرة " ، القصاب ، أو : اللحام ، " أبو عبد الله الحماني " ، ثقة قليل الحديث سلف برقم : 10224 .

(14/60)


يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض (تريدون عرض الدنيا) ، أي : المتاع والفداء بأخذ الرجال (والله يريد الآخرة) ، بقتلهم ، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه ، الذي به تدرك الآخرة. (1)
16293 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية قال ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستأنهم ، (2) لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر : يا رسول الله ، كذبوك وأخرجوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا. قال : فقال له العباس : قُطِعتْ رَحِمُك! قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل. فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس : يأخذ بقول عُمر. وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوبَ رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [سورة إبراهيم : 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ) ، الآية [سورة المائدة : 118].
__________
(1) الأثر : 16292 - سيرة ابن هشام 2 : 332 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16271 . وفي لفظ سيرة ابن هشام بعض الاختلاف ، وأشك في قوله هناك : " أي : قتلهم لظهور الدين الذي يريد إظهاره ، والذي تدرك به الآخرة " .
(2) كان في المطبوعة : " واستأن بهم " ، وهو نص الخبر في مسند أحمد وغيره ، من " الأناة " . يقال : " استأنى بالشيء " ، ترفق به ، وأخره وانتظر به ، وتربص به . ونقل صاحب أساس البلاغة : " واستأنيت فلانًا " : لم أعجله ، وأنشد لابن مقبل : وَقَوْمٌ بأَيدِيهِمْ رِمَاحُ رُدَينَةٍ ... شَوَارِعَ تَسْتأني دَمًا أو تسَلَّفُ
قال : " تنظره أو تتعجله " .
ورواية " واستأنهم " هذه هي الثابتة في تاريخ أبي جعفر ، في رواية هذا الخبر .

(14/61)


ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) [سورة نوح : 26] ، ومثلك كمثل موسى قال : (1) ( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ) [سورة يونس : 88]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة ، (2) فلا ينفلتّنَ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتُني في يوم أخوفَ أن تقع عليَّ الحجارة من السماء ، مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء. قال : فأنزل الله : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى آخر الثلاث الآيات. (3)
16294 - حدثنا ابن بشار قال ، [حدثنا عمر بن يونس اليمامي] قال ، حدثنا عكرمة بن عمار قال ، حدثنا أبو زميل قال ، حدثني عبد الله بن عباس قال : لما أسروا الأسارى ، يعني يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين أبو بكر وعمر وعلي ؟ قال : ما ترون في الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ فقال : لا والذي لا إله إلا هو ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، يا نبي الله ، ولكن أرى أن تمكننا منهم ، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. (4) قال عمر : فلما كان من الغد ، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء ، ولقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى قوله : (حلالا طيبا) ، وأحلّ الله الغنيمة لهم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ومثلك يا بن أبي رواحة كمثل موسى " ، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة ، وهو اجتراء قبيح بلا علم ، فإن الحديث ليس فيه هذه الزيادة ، والقول فيه موجه إلى عمر ، ولم يذكر فيه عن ابن رواحة مثل ، كما في جميع المراجع ، بل في بعضها : " وإن مثلك يا عمر كمثل موسى " . فهذه زيادة لا تحل لأحد .
وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل لعبد الله بن رواحة ، والله أعلم ، لما في مشورته من النكال الشديد ، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار سبحانه وتعالى ، وأعاذنا من عذاب جهنم بفضله ورحمته ومنه على كل عاص من عباده .
(2) " العالة " : الفقراء ذوي الفاقة ، جمع " عائل " . و " عال الرجل " ، احتاج وافتقر.
(3) الأثر : 16293 - إسناده منقطع ، لأن " أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود " ، لم يسمع من أبيه.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من هذه الطريق نفسها رقم : 3632 - 3634 ،
ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 21 ، 22 ، من طريق جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ، وقال الذهبي : " صحيح ، سمعه جرير بن عبد الحميد " .
ورواه الطبري في تاريخه 2 : 259 ، بلفظه وإسناده .
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 86 ، 87 ، وفصل الكلام فيه ، وقال : " رواه أحمد . . . ورواه الطبراني ، وفيه أبو عبيدة ، ولم يسمع من أبيه ، ولكن رجاله ثقات " .
ورواه الواحدي في أسباب النزول : 178 .
وأما قوله : " إلا سهيل بن بيضاء " ، فهو خطأ من بعض الرواة ، وإنما هو " سهل بن بيضاء " أخو " سهيل " لأبيه وأمه ، قال ابن سعد : " أسلم بمكة وكتم إسلامه ، فأخرجته قريش معها في نفير بدر ، فشهد بدرًا مع المشركين ، فأسر يومئذ . فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة ، فخلى عنه . والذي روى القصة في سهيل بن بيضاء قد أخطأ ، سهيل بن بيضاء أسلم قبل عبد الله بن مسعود ، ولم يستخف بإسلامه ، وهاجر إلى المدينة ، وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا ، لا شك فيه . فخلط من روى ذلك الحديث ما بينه وبين أخيه ، لأن سهيلا أشهر من أخيه سهل ، والقصة في سهل " ، ابن سعد 4 \ 1 \ 156 .
(4) هذا الخبر عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه ، كما سترى في التخريج .
(5) الأثر : 16294 - " أبو زميل " ، هو " سماك بن الوليد الحنفي " ، سلف أخيرًا برقم : 15734 ، 1600 ، وسائر رجال الإسناد قد مضوا جميعًا .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا ابن بشار قال حدثنا عكرمة بن عمار " ، وهو إسناد مختل ، والظاهر أن الناسخ كتب " ابن بشار " في آخر الصفحة ، كما هو في مخطوطتنا ، ثم لما انتقل إلى أول الصفحة التالية كتب : " حدثنا عكرمة بن عمار " ، فأسقط من الإسناد ما أثبته بين القوسين ، واستظهرته من رواية صدر هذا الخبر نفسه في الترمذي ، في كتاب التفسير ، حيث رواه مختصرًا ، قال : " حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عمر بن يونس اليمامي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا أبو زميل ، حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب " .
وقد مضى مختصرًا كما في الترمذي ، برقم : 15734 ، وقد بينت تخريج الخبر هناك .
وهذا الخبر مطولا رواه أحمد في مسنده رقم : 208 ، 221 ، من طريق أبي نوح قراد ، عن عكرمة بن عمار .
ورواه مسلم في صحيحه مطولا 12 : 84 - 87 ، من طريق هناد بن السري ، عن ابن المبارك ، عن عكرمة ، ثم من طريق زهير بن حرب ، عن عمر بن يونس الحنفي ( اليمامي ) ، عن عكرمة .
ورواه أبو جعفر في التاريخ 2 : 294 ، مطولا ، من طريق أحمد بن منصور ، عن عاصم بن علي ، عن عكرمة .
ورواه الواحدي في أسباب النزول : 179 .
وهو حديث صحيح ، لا يعرف إلا من طريق عكرمة بن عمار ، كما سلف .
وخرجه ابن كثير في تفسير 45 : 18 ، 19 .

(14/62)


لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)

القول في تأويل قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء : (لولا كتاب من الله سبق) ، يقول : لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة ، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، (1) وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسولا الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله لنالكم من الله ، بأخذكم الغنيمة والفداء ، عذاب عظيم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( كتب ).
(2) انظر تفسير " المس " فيما سلف 13 : 333 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/64)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16295 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : (لولا كتاب من الله سبق) الآية ، قال : إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ ، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال : فعاب الله ذلك عليهم ، ثم أحله الله.
16296 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف ، عن الحسن في قول الله : (لولا كتاب من الله سبق) الآية ، وذلك يوم بدر ، وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به ، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب : " المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته " ، ولم يكن أحله لأمة قبلهم ، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك ، قال الله : (لولا كتاب من الله سبق) ، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16297 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (لولا كتاب من الله سبق) الآية ، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم ، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان ، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته ، فكانوا لا يأكلون منه ، ولا يغلُّون منه ، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا ، فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال ، فذلك قوله يوم بدر ، في أخذ الفداء من الأسارى : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16298 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عروة ، عن

(14/65)


الحسن : (لولا كتاب من الله سبق) قال : إن الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ ، وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تُحَلّ الغنيمة.
16299 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، قال الأعمش في قوله : (لولا كتاب من الله سبق) ، قال : سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.
16300 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن بشير بن ميمون قال : سمعت سعيدًا يحدث ، عن أبي هريرة ، قال : قرأ هذه الآية : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، قال : يعني : لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم ، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (1)
16301 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، وأبو معاوية بنحوه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم ، كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها ، حتى كان يوم بدر ، فوقع الناس في الغنائم ، فأنزل الله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، حتى بلغ ، (حلالا طيبًا).
16302 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه قال : فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (2)
__________
(1) الأثر : 16300 - " بشير بن ميمون الخراساني الواسطي " ، أبو صيفي ، ضعيف ، منكر الحديث ، متهم بالوضع . وقال أبو حاتم : " ضعيف الحديث ، وعامة روايته مناكير " . وأجمعوا على طرح حديثه ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 105 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 379 ، وميزان الاعتدال 1 : 153 ، 154 .
و " سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري " .
(2) الأثران : 16301 ، 16302 - حديث صحيح الإسناد ، إلا ما كان من أمر " جابر بن نوح الحماني " ، ليس حديثه بشيء ، ضعيف ، قال يحيى بن معين : " جابر بن نوح ، إمام مسجد بني حمان ، ولم يكن بثقة ، كان ضعيفًا " . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 210 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 500 ، وميزان الاعتدال 1 : 176 ، وأبو كريب رواه عن جابر ، وعن أبي معاوية ، فحديث أبي معاوية هو الصحيح .
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن الأعمش ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه البيهقي في السنن 6 : 290 من طريق محاضر ، عن الأعمش ، ومن طريق أبي معاوية ، عن الأعمش .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 203 ، وزاد نسبته إلى النسائي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه .

(14/66)


16303 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به على عدوكم ، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون أو تقتلوهم! فقالوا : بل نأخذ الفدية منهم ، وقُتل منهم سبعون ، قال عبيدة ، وطلبوا الخيرتين كلتيهما. (1)
16304 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن عبيدة قال : كان فداء أسارى بدر مئة أوقية ، و " الأوقية " أربعون درهمًا ، ومن الدنانير ستة دنانير. (2)
16305 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : أنه قال في أسارى بدر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا : بلى ، (3) نأخذ الفداء فنستمتع به ، ويستشهد منا بعِدَّتهم.
__________
(1) " الخيرة " ( بكسر الخاء وسكون الياء ، أو فتح الياء ) ، هو ما يختار ويصطفى من الخير .
(2) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم : 16058 .
(3) انظر مجيء " بلى " في غير جحد ، فيما سلف في الأثر رقم : 781 ج 1 : 554 \ ثم 2 : 280 ، 510 \ 10 : 98 ، تعليق : 4 \ ثم 10 : 253 ، تعليق : 3 \ ثم 12 : 174 ، تعليق : 3 .

(14/67)


16306 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود قال : أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى ، فأنزل الله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذت عذاب عظيم). (1)
16307 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (لولا كتاب من الله سبق) ، قال : كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته ، وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة ، يأكلون في بطونهم.
16308 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، قال : كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم ، فقال : (لولا كتاب من الله سبق) ، بأنه أحل لكم الغنائم (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر ، أن لا يعذبهم ، لمسهم عذاب عظيم.
* ذكر من قال ذلك :
16309 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : (لولا كتاب من الله سبق) ، قال : لأهل بدر ، من السعادة.
16310 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن
__________
(1) الأثر : 16306 - " همام بن يحيى بن دينار الأزدي " ، ثقة ، مضى برقم : 10190 ، 11725 .
وهذا خبر صحيح إسناده .

(14/68)


أبي نجيح ، عن مجاهد : (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر مَشْهدَهم.
16311 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (لولا كتاب من الله سبق) ، قال : سبق من الله خيرٌ لأهل بدر.
16312 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، كان سبق لهم من الله خير ، وأحلّ لهم الغنائم.
16313 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن : (لولا كتاب من الله سبق) ، قال : (سبق) ، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر.
16314 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر ، ومشهدَهم إياه.
16315 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال : سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم ، سبق أنه لا يعذب المؤمنين ، لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : (لولا كتاب من الله سبق) ، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
* ذكر من قال ذلك :
16316 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن

(14/69)


ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر ومشهدَهم إياه ، قال : كتاب سبق لقوله : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) [سورة التوبة : 115] ، سبق ذلك ، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة (لمسكم فيما أخذتم) ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : (فيما أخذتم) ، مما أسرتم. ثم قال بعد : (فكلوا مما غنمتم).
16317 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم ، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (1)
16318 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد قال ، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نُصِرت بالرعب ، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأعطيت جوامع الكلم ، وأحلّت لي المغانم ، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي قال محمد (2) فقال : (ما كان لنبي) ، أي : قبلك (أن يكون له أسرى) إلى قوله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) ، أي : من الأسارى والمغانم (عذاب عظيم) ، أي : لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي ، ولم أكن نهيتكم ، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله : (لولا كتاب من الله سبق) ، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون
__________
(1) الأثر : 16317 - سيرة ابن هشام 2 : 331 ، وهو سابق الأثر السالف رقم : 16292 في ترتيب السيرة .
(2) قوله : " محمد " ، يعني محمد بن إسحاق ، لا " محمد بن علي " .
(3) الأثر : 16318 - سيرة ابن هشام 2 : 332 ، وصدره تابع الأثر السالف رقم : 16317 ، وسابق للأثر رقم : 16292 ، ثم روى صدرًا من الأثر رقم : 16292 ، وأتبعه بما يليه في السيرة .

(14/70)


فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

معنى ، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت ، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة ، وذلك : ما عملوا من عمل بجهالة ، و إحلال الغنيمة ، والمغفرة لأهل بدر ، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى ، وقد عم الله الخبر بكل ذلك ، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
16319 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم ، إلا عمر بن الخطاب ، جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه ، وقال : يا رسول الله ، ما لنا وللغنائم ، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله : لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم.
16320 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : لما نزلت : (لولا كتاب من الله سبق) ، الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ ، لقوله : يا نبي الله ، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر : (فكلوا) ، أيها المؤمنون (مما غنمتم) ، من أموال المشركين (حلالا) ، بإحلاله لكم (طيبا واتقوا الله) ، يقول : وخافوا الله أن تعودوا ، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه
__________
(1) الأثر : 16320 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام ، فيما أقدر .

(14/71)


من قبل أن يُعْهَد فيه إليكم ، كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة ، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم (إن الله غفور رحيم). (1)
* * *
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم ، وتأويل الكلام : (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) ، (إن الله غفور رحيم) ، (واتقوا الله).
* * *
ويعني بقوله : (إن الله غفور) ، لذنوب أهل الإيمان من عباده (رحيم) ، بهم ، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/72)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي ، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ : (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) ، يقول : إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، من الفداء (ويغفر لكم) ، يقول : ويصفح لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله (والله غفور) ، لذنوب عباده إذا تابوا (رحيم) ، بهم ، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/72)


وذكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول : فيّ نزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك :
16321 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : قال العباس : فيّ نزلت : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى ، فأبدلني الله بها عشرين عبدًا ، كلهم تاجر ، مالي في يديه. (1)
* * *
وقد : -
16322 - حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال محمد ، حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال : كان العباس بن عبد المطلب يقول : فيّ والله نزلت ، حين ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع. (2)
16323 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا ، وقد توضأ لصلاة الظهر ،
__________
(1) الأثر : 16321 - في المطبوعة : " أبي إسحاق " ، والصواب من المخطوطة ، وانظر التعليق التالي .
(2) الأثر : 16322 - هذا الخبر والذي قبله ، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 8 ، مطولا ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار ، ورجال الأوسط رجال الصحيح ، غير ابن إسحاق ، وقد صرح بالسماع " .
وظاهر أنه يعني إسنادًا غير هذين الإسنادين ، فإن الأول لم يصرح فيه السماع ، والثاني فيه " الكلبي " .
وذكره الواحدي في أسباب النزول ، عن الكلبي ، مطولا : 180 ، 181 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " جابر بن عبد الله بن رباب " ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت .

(14/73)


فما أعطى يومئذ شاكيًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرّقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي ، فأخذ. قال : وكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا ، وأرجو المغفرة.
16324 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية ، وكان العباس أسر يوم بدر ، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب ، فقال العباس حين نزلت هذه الآية : لقد أعطاني الله خَصلتين ، ما أحب أن لي بهما الدنيا : أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية ، فآتاني أربعين عبدًا ، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله.
16325 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) إلى قوله : (والله غفور رحيم) ، يعني بذلك : من أسر يوم بدر. يقول : إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي ، آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم ، وغفرت لكم.
16326 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) ، عباس وأصحابه ، قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد إنك لرسول الله ، لننصحن لك على قومنا. فنزل : (إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، إيمانًا وتصديقًا ، يخلف لكم خيرًا مما أصيب منكم (ويغفر لكم) ، الشرك الذي كنتم عليه. قال : فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) فقد أعطاني خيرًا مما أخذ مني مئة ضعف ، وقال : (ويغفر لكم) ، وأرجو أن يكون قد غُفِر لي.

(14/74)


وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

16327 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية ، يعني العباسَ وأصحابه ، أسروا يوم بدر. يقول الله : إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي ، أعطيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم. وكان العباس بن عبد المطلب يقول : لقد أعطانا الله خصلتين ، ما شيء هو أفضل منهما : عشرين عبدًا. وأما الثانية : فنحن في موعود الصادق ننتظر المغفرة من الله سبحانه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم (خيانتك) ، أي الغدر بك والمكرَ والخداع ، بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم (1) (فقد خانوا الله من قبل) ، يقول : فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر ، وأمكن منهم ببدر المؤمنين (2) (والله عليم) ، بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16328 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف ص : 25 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " أمكن " فيما سلف 11 : 263 \ 12 : 315 .
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .

(14/75)


ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : (وإن يريدوا خيانتك) ، يعني : العباس وأصحابه في قولهم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا " ، يقول : إن كان قولهم خيانة (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول : قد كفروا وقاتلوك ، فأمكنك الله منهم.
16329 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وإن يريدوا خيانتك) الآية ، قال : ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عمد فنافق ، فلحق بالمشركين بمكة ، ثم قال : " ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك رجل من الأنصار ، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح ، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ومِقْيَس بن صُبابة ، (1) وابن خطل ، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح ، وكان رضيعه أو : أخاه من الرضاعة فقال : يا رسول الله ، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم . فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه ، فأطاف به ، (2) وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه ، فقال : أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! (3) فقال : يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك ، فلولا أوْمضت إليّ! (4) فقال : إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. (5)
16330 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ،
__________
(1) في المطبوعة : " بن ضبابة " ، وهو خطأ محض .
(2) يقال : " طاف بالقوم ، وأطاف بهم " ، إذا استدار ، وجاء من نواحيهم وهو يحوم حولهم .
(3) " تلوم في الأمر " و " تلوم به " ، انتظر وتلبث وتأنى ، وتعدية مثل هذا الفعل من صريح العربية .
(4) " أومض إليه " ، أشار إشارة خفية ، من " إيماض البرق " ، إذا لمع لمعًا خفيًا ، ثم يخفى .
(5) الأثر : 16329 - انظر مسند أحمد 3 : 151 ، حديث أنس ، بغير هذا اللفظ .

(14/76)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول : قد كفروا بالله ونقضوا عهده ، فأمكن منهم ببدر.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله " وهاجروا " ، يعني : هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم ، يعني : تركوهم وخرجوا عنهم ، وهجرهم قومهم وعشيرتهم (1) (وجاهدوا في سبيل الله) ، يقول : بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء الله من الكفار (2) (في سبيل الله) ، يقول : في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه (3) (والذين آووا ونصروا) ، يقول : والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه ، يعني : أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه ، وهو المثوى والمسكن ، يقول : أسكنوهم ، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم (4) (ونصروا) ، يقول : ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين (أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يقول : هاتان الفرقتان ، يعني المهاجرين والأنصار ، بعضهم أنصار بعض ، وأعوان على من سواهم من
__________
(1) انظر تفسير " المهاجرة " فيما سلف 4 : 317 ، 318 \ 7 : 490 \ 9 : 100 ، 122 .
(2) انظر تفسير " المجاهدة " فيما سلف 4 : 318 \ 10 : 292 ، 423 .
(3) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(4) انظر تفسير " آوى " ، و " المأوى " فيما سلف 13 : 477 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/77)


المشركين ، وأيديهم واحدة على من كفر بالله ، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. (1)
* * *
وقد قيل : إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض ، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة ، دون القرابة والأرحام ، وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ، [سورة الأنفال : 75 \ وسورة الأحزاب : 6].
* ذكر من قال ذلك :
16331 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يعني : في الميراث ، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، قال الله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) ، يقول : ما لكم من ميراثهم من شيء ، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) [سورة الأنفال : 75 \ وسورة الأحزاب : 6] ، في الميراث ، فنسخت التي قلبها ، وصار الميراث لذوي الأرحام.
16332 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول : لا هجرة بعد الفتح ، إنما هو الشهادة بعد ذلك (والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، إلى قوله : (حتى يهاجروا). وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل : منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة ، خرج إلى
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .

(14/78)


قوم مؤمنين في ديارهم وعَقارهم وأموالهم و(آووا ونصروا) ، (1) وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة ، وشهروا السيوف على من كذّب وجحد ، فهذان مؤمنان ، جعل الله بعضهم أولياء بعض ، فكانوا يتوارثون بينهم ، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاري بالولاية في الدين. وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرَّأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم ، وهي الولاية التي قال الله : (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا). وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا ، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فلا نصر لهم عليهم ، إلا على العدوِّ الذين لا ميثاق لهم. ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحقْ كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا. فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا مفروضًا بقوله : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة الأنفال : 75] ، وبقوله : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) [سورة التوبة : 71] .
16333 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الثلاث الآيات خواتيم الأنفال ، فيهن ذكر ما كان والىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك آخرها : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
16334 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قوله : (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) ، إلى قوله : (بما تعملون بصير) ، قال : بلغنا أنها كانت في الميراث ، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا ، والمؤمنون الذين لم يهاجروا. قال : ثم نزل بعد : ( وَأُولُو
__________
(1) في المطبوعة : " وفي قوله : آووا ونصروا " . زاد ما ليس في المطبوعة .

(14/79)


الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ، فتوارثوا ولم يهاجروا قال ابن جريج ، قال مجاهد : خواتيم " الأنفال " الثلاث الآيات ، فيهن ذكر ما كان واليَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث ، ثم نسخ ذلك آخرها : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ).
16335 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، إلى قوله : (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال : لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا ، فنسخ ذلك بعد ذلك ، فألحق الله (1) ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ) ، [سورة الأحزاب : 6] ، أي : من أهل الشرك ، فأجيزت الوصية ، (2) ولا ميراث لهم ، وصارت المواريث بالملل ، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين ، ولا يرث أهل ملتين.
16336 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن قالا(إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى قوله : (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر ، فنسخها فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
16337 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ،
__________
(1) في المطبوعة : " قول الله " ، مكان " فألحق الله " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب .
(2) في المخطوطة : " حرت الوصية " ، هكذا غير منقوط ، وكأن الصواب ما في المطبوعة .
ولو قرئت : " خيرت الوصية " ( بالبناء للمجهول ) ، لكان وجها .

(14/80)


حدثنا أسباط ، عن السدي : (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعهم أولياء بعض) ، في الميراث (والذين آمنوا ولم يهاجروا) ، وهؤلاء الأعراب (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، في الميراث (وإن استنصروكم في الدين) يقول : بأنهم مسلمون (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، في الميراث (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) ، ثم نسختها الفرائض والمواريث ، " وأولوا الأرحام " . الذين توارثوا على الهجرة (بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فتوارث الأعرابُ والمهاجرون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : (والذين آمنوا). الذين صدقوا بالله ورسوله (ولم يهاجروا). قومهم الكفار ، ولم يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام (ما لكم) ، أيها المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب (2) (من ولايتهم) ، يعني : من نصرتهم وميراثهم.
* * *
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة : " فأولئك منكم ، والذين توارثوا على الهجرة في كتاب الله ، ثم نسختها الفرائض والمواريث ، فتوارث الأعراب والمهاجرون " قدم وأخر فيما كان في المخطوطة ، وهو : " فأولئك منكم ، ثم نسختها الفرائض والمواريث " الذي توارثوا على الهجرة في كتاب الله ، فتوارث الأعراب والمهاجرون . واستظهرت الصواب .
(2) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص 77 ، تعليق : ، والمراجع هناك .

(14/81)


وقد ذكرت قول بعض من قال : " معنى الولاية ، ههنا الميراث " ، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعدُ.
* * *
(من شيء حتى يهاجروا) ، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار الإسلام (وإن استنصروكم في الدين) ، يقول : إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا (في الدين) ، يعني : بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين ، " فعليكم " ، أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، (النصر) (إلا) أن يستنصروكم (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ، يعني : عهد قد وثَّق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه (1) (والله بما تعملون بصير) ، يقول : والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا ، أيها المهاجرون والأنصار ، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين ، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم (بصير) ، يراه ويبصره ، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء. (2)
16338 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل يسلم ولا يهاجر ، لا يرث أخاه ، فنسخ ذلك قوله : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ) [سورة الأحزاب : 6].
16339 - حدثنا محمد قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال :
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 13 ، 315 ، تعليق : والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة ( بصر ) .

(14/82)


تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت حرب. (1)
16340 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وإن استنصروكم في الدين) ، يعني : إن استنصركم الأعراب المسلمون ، أيها المهاجرون والأنصار ، على عدوهم ، فعليكم أن تنصروهم ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
16341 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل : مؤمن مهاجر ، والأنصار ، وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وسلم نصره ، وإن تركه فهو إذْنُه ، (2) وإن استنصر النبي صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره ، فذلك قوله : (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) والرابعة : التابعون بإحسان.
16342 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إن الذين آمنوا وهاجروا) ، إلى آخر السورة ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل (3) مؤمن مهاجر. ومسلم أعرابي ، والذين آووا ونصروا ، والتابعون بإحسان.
* * *
__________
(1) يعني بذلك : أن يبعد منزله عن منزل المشرك " حتى لا يرى ناره " نهى منه صلى الله عليه وسلم عن جوار لمشرك .
(2) في المطبوعة : " فهو إذن له " ثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " قال رسول الله " وذلك أن كاتب المخطوطة وصل لام " قال " بألف " إن " ، ووصل ألف " إن " بنونها .

(14/83)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)

القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (والذين كفروا) ، بالله ورسوله (بعضهم أولياء بعض) ، يقول : بعضهم أعوان بعض وأنصاره ، وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله. (1)
* * *
وقد ذكرنا قول من قال : " عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين " ، (2) وسنذكر بقية من حضرنا ذكره.
16343 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال ، قال رجل : نورّث أرحامنا من المشركين! فنزلت : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، الآية.
16344 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، نزلت في مواريث مشركي أهل العهد.
16345 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، إلى قوله : (وفساد كبير) ، قال : كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي ليس بمهاجر ، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال : وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي )
(2) في المطبوعة : " عنى بيان أن بعضهم " ، وهو سياق فاسد . وفي المخطوطة : " عنى بيان بعضهم " ، غير منقوط ، مضطرب أيضا فاسد . والصواب ما أثبت .

(14/84)


قليلا حتى كان يوم الفتح ، فلما كان يوم الفتح ، وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " ، وقرأ : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ).
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن الكفار بعضهم أنصار بعض وإنه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. (1)
* ذكر من قال ذلك :
16346 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قال : كان ينزل الرجل بين المسلمين والمشركين ، فيقول : إن ظهر هؤلاء كنت معهم ، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك ، وأنزل الله في ذلك ، فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك ، (2) إلا صاحب جزية مُقِرّ بالخراج.
16347 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حض الله المؤمنين على التواصل ، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون سواهم ، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. (3)
* * *
وأما قوله : (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : إلا تفعلوا ، أيها المؤمنون ، ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة ، والأنصار بالإيمان ، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار (تكن فتنة) ، يقول : يحدث بلاء في الأرض
__________
(1) في المطبوعة : " ولم " بزيادة الواو .
(2) قوله : " لا تراءى نار مسلم ومشرك " ، أسند الترائي إلى النار ، كناية عن الجوار ، وانظر التعليق السالف ص : 83 ، رقم : 1 .
(3) الأثر : 16347 - سيرة ابن هشام 2 : 332 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16318 .

(14/85)


بسبب ذلك (1) (وفساد كبير) ، يعني : ومعاصٍ لله. (2)
* ذكر من قال ذلك :
16348 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا تفعلوا هذا ، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). قال : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة ، ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة. (3)
16349 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، يعني في الميراث (إلا تفعلوه) ، يقول : إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ،
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا تَناصروا ، أيها المؤمنون ، في الدين ، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
* ذكر من قال ذلك :
16350 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم ، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض ، ثم قال : (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون الكافر ، وإن كان ذا رحم به (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، أي : شبهة في الحق والباطل ، وظهور الفساد في الأرض ، بتولّي
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 13 : 537 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 13 : 36 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) في المخطوطة : " ولا يجعلونهم مقيم " ، والصواب ما في المطبوعة .

(14/86)


المؤمن الكافرَ دون المؤمن. (1) ثم رد المواريث إلى الأرحام. (2)
16351 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، قال : إلا تعاونوا وتناصروا في الدين (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل قوله : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قول من قال : معناه : أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين ، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ في دار الحرب وترك الهجرة ، لأن المعروف في كلام العرب من معنى " الوليّ " ، أنه النصير والمعين ، أو : ابن العم والنسيب. (3) فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه ، إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد ، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر ، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله : (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، تأويلُ من قال : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين ، تكن فتنة في الأرض إذْ كان مبتدأ الآية من قوله : (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله). بالحث على الموالاة على الدين والتناصر جاء ، فكذلك (4) الواجب أن يكون خاتمتها به.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة بعد قوله " فساد كبير " ما نصه : " إن يتول المؤمن الكافر دون المؤمن ، ثم رد المواريث إلى الأرحام " ، ومثلها في المخطوطة إلا أنه كتب " إن يتولى " . وهو كلام مضطرب ، سببه أن " المؤمن " ذكر في الكلام مرات ، فأسقط ما بين " المؤمن " في قوله " إلا يوال المؤمن المؤمن " ، إلى قوله بعد : " بتولي المؤمن الكافر " ، فاضطراب الكلام ، وسقته على الصواب من سيرة ابن هشام .
(2) الأثر : 16350 - سيرة ابن هشام 2 : 332 ، 333 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16347 ، وفيه جزء منه .
(3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(4) في المطبوعة والمخطوطة " وكذلك " بالواو ، والفاء حق السياق .

(14/87)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)

القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ، ونصروا دين الله ، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا ، لا من آمن ولم يهاجر دارَ الشرك ، وأقام بين أظهر أهل الشرك ، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم (1) (لهم مغفرة) ، يقول : لهم ستر من الله على ذنوبهم ، بعفوه لهم عنها (2) (ورزق كريم) ، يقول : لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيٌّ كريم ، (3) لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا ، (4) ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك (5)
* * *
وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا : أن معنى قول الله : (بعضهم أولياء بعض) في هذه الآية ، وقوله : (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، إنما هو النصرة والمعونة ، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده ، دون من لم يهاجر بقوله : (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
__________
(1) انظر تفسير " هاجر " و " جاهد " ، و " آوى " فيما سلف قريبا ص 77 ، تعليق : 1 - 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة " غفر " .
(3) انظر تفسير " رزق كريم " فيما سلف وكان في المطبوعة هنا " طعم ومشرب " ، والصواب من المخطوطة .
(4) " النجو " ، ما يخرج من البطن .
(5) روى مسلم وأبو داود من حديث جابر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ . قِيلَ : فَمَا بَالُ الطَّعَامِ ؟ قال : جُشاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك ، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمُونَ النَّفَس "
( صحيح مسلم 17 : 173 ) .

(14/88)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، الآية ، ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك ، الدلالةُ على حكم ميراثهم ، لم يكن عَقِيبَ ذلك إلا الحثّ على إمضاء الميراث على ما أمر. (1) وفي صحة ذلك كذلك ، الدليلُ الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء ، ولا منسوخ.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " والذين آمنوا " ، بالله ورسوله ، من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا ، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر (وهاجروا) ، دارَ الكفر إلى دار الإسلام (وجاهدوا معكم) ، أيها المؤمنون (فأولئك منكم) ، في الولاية ، يجب عليكم لهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة ، مثل الذي يجب لكم عليهم ، ولبعضكم على بعض ، (2) كما : -
16352 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم ، إلى الأرحام التي بينهم ، (3) فقال : (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، أي : بالميراث (4) (إن الله بكل شيء عليم). (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلا الحث على مضى " ، وفي المخطوطة : " على أمضى " ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(2) انظر تفسير " هاجر " ، و " جاهد " فيما سلف ص : 88 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ثم المواريث إلى الأرحام التي بينهم " ، أسقط من الكلام تمام الكلام الذي أثبته من سيرة ابن هشام ، وسبب ذلك كما فعل في رقم : 16350 ، هو ذكر " الأرحام " مرتين ، فاختلط عليه بصره فنقل ما نقل .
(4) في المطبوعة : " أي : في الميراث " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة والسيرة .
(5) الأثر : 16352 - سيرة ابن هشام 2 : 333 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16350 .

(14/89)


القول في تأويل قوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والمتناسبون بالأرحام (بعضهم أولى ببعض) ، في الميراث ، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبًا وحظًّا ، من الحليف والولي (في كتاب الله) ، يقول : في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء (1) (إن الله بكل شيء عليم) ، يقول : إن الله عالم بما يصلح عباده ، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب ، دون الحلف بالعقد ، وبغير ذلك من الأمور كلها ، لا يخفى عليه شيء منها. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16353 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا أبي ، قال ، حدثنا قتادة أنه قال : كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ ، حتى أنزل الله : (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
16354 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا ابن عون ، عن عيسى بن الحارث : أن أخاه شريح بن الحارث كانت له سُرِّيَّة ، فولدت منه جارية ، فلما شبت الجارية زُوِّجت ، فولدت غلامًا ، ثم ماتت السرِّية ، واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها ، فجعل شريح بن الحارث يقول : ليس له ميراث في كتاب الله! قال : فقضى شريح بالميراث للغلام. قال : (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير ، فأخبره بقضاء شريح وقوله ، فكتب ابن
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف ص : 64 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .

(14/90)


الزبير إلى شريح : " إن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا " ، وقلت : (وأولوا الأرحام بعضهم أؤلى ببعض في كتاب الله) ، وإنه ليس كذلك ، إنما نزلت هذه الآية : أنّ الرجل كان يعاقد الرجل يقول : " ترثني وأرثك " ، فنزلت : (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . فجاء بالكتاب إلى شريح ، فقال شريح : أعتقها حيتان بطنها! (1) وأبى أن يرجع عن قضائه. (2)
16355 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال ، حدثني عيسى بن الحارث قال : كانت لشريح بن الحارث سُرِّية ، فذكر نحوه إلا إنه قال في حديثه : كان الرجل يعاقد الرجل يقول : " ترثني وأرثك " ، فلما نزلت تُرِك ذلك. (3)
آخر تفسير " سورة الأنفال "
والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) في المطبوعة : " جنين " ، غير ما في المخطوطة . وفي أخبار القضاة لوكيع " جنان بطنها " ، والذي هنا ، وفي أخبار القضاة ، مشكل ، فأثبته حتى أعرف صوابه ، أو يعرفه غيري .
(2) الأثر : 16354 ، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2 : 320 ، 321 ، من طريق عمرو بن بشر ، عن حسن بن عيسى ، عن عبد الله ، عن ابن عون ، بنحوه .
(3) الأثر : 16354 ، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2 : 320 ، 321 ، من طريق عمرو بن بشر ، عن حسن بن عيسى ، عن عبد الله ، عن ابن عون ، بنحوه .

(14/91)


بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

(القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة)
* * *
القول في تأويل قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (براءة من الله ورسوله) ، هذه براءة من الله ورسوله.
فـ " براءة " ، مرفوعة بمحذوف ، وهو " هذه " ، كما قوله : ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) ، [سورة النور : 1] ، مرفوعة بمحذوف هو " هذه " . ولو قال قائل : " براءة " مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : (إلى الذين عاهدتم) ، وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها ، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله : (من الله ورسوله) ، كالمعرفة ، وصار معنى الكلام : البراءة من الله ورسوله ، إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) كان مذهبًا غير مدفوعة صحته ، وإن كان القول الأول أعجبَ إليّ ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكلِّ معاين نكرةً كان أو معرفةً ذلك المعاين ، " هذا " و " هذه " ، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسنَ : " حسن والله " ، والقبيحَ : " قبيح والله " ، يريدون : هذا حسن والله ، وهذا قبيح والله ، فلذلك اخترت القول الأول.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " براءة " مكان " البراءة " ، والسياق يقتضي ما أثبت إن شاء الله .

(14/93)


وقال : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم) ، والمعنى : إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، لأن العهود بين المسلمين والمشركين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره ، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه ، وأن عقودَ النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم ، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين ، ولعقوده عليهم مسلِّمين ، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم ، فلذلك قال : (إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن بَرِئَ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين ، فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر.
فقال بعضهم : هم صنفان من المشركين : أحدهما كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ من أربعة أشهر ، وأمْهِل بالسياحة أربعة أشهر والآخر منهما : كانت مدة عهده بغير أجل محدود ، فقُصِر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين ، يقتل حيثما أدرك ويؤسَرُ ، إلا أن يتوب.
* ذكر من قال ذلك :
16356 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله عنه أميرًا على الحاجّ من سنة تسع ، ليقيم للناس حجهم ، والناسُ من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين ، ونزلت " سورة براءة " في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم : أن لا يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه ، وأن لا يُخَاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدًا عامًّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين

(14/96)


ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائصَ إلى أجل مسمًّى ، (1) فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ، منهم من سُمِّي لنا ، ومنهم من لم يُسَمَّ لنا ، فقال : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، أي : لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إلى قوله : (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي : بعد هذه الحجة. (2)
* * *
وقال آخرون : بل كان إمهالُ الله عز وجل بسياحة أربعة أشهر ، مَنْ كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد ، فإنما كان أجله خمسين ليلة ، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرم كله. قالوا : وإنما كان ذلك كذلك ، لأن أجَل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم ، كما قال الله : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، الآية [سورة التوبة : 5]. قالوا : والنداء ببراءة ، كان يوم الحج الأكبر ، وذلك يوم النحر في قول قوم ، وفي قول آخرين يوم عرفة ، وذلك خمسون يوما. قالوا : وأما تأجيل الأشهر الأربعة ، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت " براءة " . قالوا : ونزلت في أول شوّال ، فكان انقضاء مدة أجلهم ، انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول : ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدًا أعني الذي له العهد ، والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر ، والذي لا عهد له انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرم.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) " خصائص " يعني لأنها لهم خاصة دون غيرهم .
(2) الأثر : 16356 - سيرة ابن هشام 4 : 188 .

(14/97)


16357 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال : حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر ، يسيحون فيها حيثما شاؤوا ، وحدّ أجل من ليس له عهد ، انسلاخَ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم ، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
16358 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت(براءة من الله) ، إلى : (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول : براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت " براءة " ، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل " براءة " ، أربعة أشهر ، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل " براءة " ، انسلاخ الأشهر الحرم ، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم ، وهي خمسون ليلة : عشرون من ذي الحجة ، وثلاثون من المحرم (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) إلى قوله : (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت " براءة " وانسلخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل " براءة " ، أربعة أشهر من يوم أذّن ببراءة ، إلى عشر من أول ربيع الآخر ، فذلك أربعة أشهر.
16359 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين). قبل أن تنزل " براءة " ، عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم ، فنزلت : براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين ، فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم ، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون

(14/98)


حيث شاؤوا من الأرض آمنين. وأجَّل من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخَ الأشهر الحرم ، من يوم أذِّن ببراءة ، وأذن بها يوم النحر ، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرم ثلاثين ، فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر ، أن يضع فيهم السيف أيضًا ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر ، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، أربعة أشهر : من يوم النحر ، إلى عشر يخلُون من شهر ربيع الآخر.
16360 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (براءة من الله ورسوله) ، إلى قوله : (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) ، قال : ذكر لنا أن عليًّا نادى بالأذان ، وأُمِّر على الحاجّ أبو بكر رحمة الله عليهما. وكان العامَ الذي حج فيه المسلمون والمشركون ، ولم يحج المشركون بعد ذلك العام قوله : (الذين عاهدتم من المشركين) ، إلى قوله : (إلى مدتهم) ، قال : هم مشركو قريش ، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، وأمر الله نبيه أن يوفِّي بعهدهم إلى مدتهم ، ومن لا عهد له انسلاخَ المحرّم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، ولا يقبل منهم إلا ذلك.
* * *
وقال آخرون : كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر وانقضاء ذلك لجميعهم ، وقتًا واحدًا. قالوا : وكان ابتداؤه يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر.
* ذكر من قال ذلك :
16361 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ،

(14/99)


قال : لما نزلت هذه الآية. برئ من عهد كل مشرك ، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد ، وأجرى لكلّ مدتهم (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، لمن دخل عهده فيها ، من عشر ذي الحجة والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشر من ربيع الآخر.
16362 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر قال ، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الموسم سنة تسع ، وبعث عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، بثلاثين أو أربعين آية من " براءة " ، فقرأها على الناس ، يؤجِّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم " براءة " يوم عرفة ، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرًا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجنّ بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان.
16363 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من ربيع الآخر. كان ذلك عهدَهم الذي بينهم.
16364 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (براءة من الله ورسوله) ، إلى أهل العهد : خزاعة ، ومُدْلج ، ومن كان له عهد منهم أو غيرهم. (1) أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجَّ ، ثم قال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عُرَاةً ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما فطافا بالناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون
__________
(1) في المخطوطة : " ومن كان له أو غيرهم " ، والذي في المطبوعة : " ومن كان له عهد من غيرهم " ، وصححتها كما ترى .

(14/100)


من شهر ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا.
16365 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، قال : أهل العهد : مدلج ، والعرب الذين عاهدهم ، ومن كان له عهد. قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحج ، ثم قال : إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما ، فطافا بالناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالموسم كله ، وآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ ، ولم يَسِحْ أحد. وقال : حين رجع من الطائف ، مضى من فوره ذلك ، فغزا تبوك ، بعد إذ جاء إلى المدينة.
* * *
وقال آخرون ممن قال : " ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدًا " . كان ابتداؤه يوم نزلت " براءة " ، وانقضاء الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرم.
* ذكر من قال ذلك :
16366 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال : نزلت في شوال ، فهذه الأربعة الأشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.
* * *
وقال آخرون : إنما كان تأجيلُ الله الأشهرَ الأربعة المشركين في السياحة ، لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقل من أربعة أشهر. أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر ، فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُتمّ له عهده إلى مدته.

(14/101)


* ذكر من قال ذلك :
16367 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الكلبي : إنما كان الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتم له الأربعة. ومن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر ، فهو الذي أمر أن يتم له عهده ، وقال : ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ) ، [سورة التوبة : 4].
* * *
قال أبو جعفر رحمه الله : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : الأجلُ الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين ، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله : (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : ( إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، [سورة التوبة : 4]
فإن ظنّ ظانٌّ أن قول الله تعالى ذكره : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [سورة التوبة : 5] ، يدلُّ على خلاف ما قلنا في ذلك ، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم ، (1) قتْلَ كل مشرك ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا ، (2) وفسادِ ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر
__________
(1) في المطبوعة : " ينبئ عن أن . . . " ، وقد سلف مرارا أن استعمل أبو جعفر " على " مع " ينبئ " ، فأثبتها كما في المخطوطة ، وهي جائزة لتضمنها معنى " يدل " .
(2) في المطبوعة : " تنبئ عن صحة " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/102)


الحرم كان يبيح قتل كل مشرك ، كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لم يكن له منه عهد ، وذلك قوله : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، [سورة التوبة : 7] ، فهؤلاء مشركون ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم ، وترك مظاهرة عدوهم عليهم.
وبعدُ ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه حين بعث عليًّا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم ، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم : " ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته " ، أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل ، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودًا ، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورًا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.
16368 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال ، حدثني محرّر بن أبي هريرة ، عن أبي هريرة قال : كنت مع علي رحمة الله عليه ، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي. فكان إذا صَحِل صوته ناديتُ ، (1) قلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطُفْ بالكعبة عُريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ
__________
(1) " صحل صوته " ، هو البحح . وله معنى آخر شبيه به في حديث أم معبد ، في صفة رسول الله ، بأبي هو وأمي ، صلى الله عليه وسلم قالت : " وفي صوته صحل " ، ( بفتحتين ) ، وهو مثل البحة في الصوت . فلا يكون حادا رفيعا .

(14/103)


فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. (1)
16369 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا قيس بن الربيع قال ، حدثنا الشيباني ، عن الشعبي قال : أخبرنا المحرّر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع علي رضي الله عنه ، فذكر نحوه إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى أجله. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وقد حدث بهذا الحديث شعبة ، فخالف قيسًا في الأجل.
16370 - فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى قالا حدثنا عثمان بن عمر قال ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، عن المحرّر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة ، فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي. فقلت : بأي شيء كنت تنادي ؟ قال : أمرنا أن ننادي : أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ومن كان بينه وبين رسول
__________
(1) الأثر : 16368 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد ، وسيأتي تخريجه فيما بعد . " قيس " ، هو : " قيس بن الربيع الأسدي " ، لينه أحمد وغيره ، وقد سلف مرارا آخرها رقم : 12802 . و " مغيرة " هو : " مغيرة بن مقسم الضبي " ، ثقة ، روى له الجماعة. سلف مرارا ، آخرها رقم : 11340 . و " محرر بن أبي هريرة " ، تابعي ثقة ، قليل الحديث ، سلف برقم : 2863 . وهذا خبر ضعيف إسناده ، لضعف " قيس بن الربيع " .
(2) الأثر : 16369 - هذا الإسناد الثاني من حديث المحرر بن أبي هريرة . " عفان " ، هو : " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار " ، روى له الجماعة ، كان يروي عن قيس بن الربيع ، ويقع فيه . مضت ترجمته برقم : 5392 . و " الشيباني " هو " أبو إسحاق الشيباني " ، " سليمان بن أبي سليمان " ، الإمام ، مضى مرارا ، من آخرها رقم : 12489 . وعلة إسناده ضعف " قيس بن الربيع " . ولكن رواه الحاكم في المستدرك 2 : 331 من طريق شعبة ، عن سليمان الشيباني ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي . انظر التعليق التالي .

(14/104)


الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يطُفْ بالبيت عريان ، ولا يحج بعد العام مشرك. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأخشى أن يكون هذا الخبر وهمًا من ناقله في الأجل ، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه ، مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته.
16371 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، عن علي رحمة الله عليه قال : أمرت بأربع : أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطف رجل بالبيت عريانًا ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة ، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده. (2)
__________
(1) الأثر : 16370 - هذا هو الإسناد الثالث : " عثمان بن عمر بن فارس العبدي " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارا . منها رقم : 5458 ، وغيره . وهذا الخبر من طريق شعبة ، عن المغيرة ، رواه أحمد في مسنده رقم : 7964 ، ورواه النسائي في سننه 5 : 234 . ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 331 من طريق أخرى ، عن النضر بن شميل ، عن شعبة ، عن سليمان الشيباني وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي . انظر التعليق السالف . واستوفى الكلام فيه ابن كثير في تفسيره 4 : 111 ، وفي التاريخ 5 : 38 ، وقال في التاريخ : " وهذا إسناد جيد ، ولكن فيه نكارة من جهة قول الراوي : إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر . وقد ذهب إلى هذا ذاهبون ، ولكن الصحيح : أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ ، ولو زاد على أربعة أشهر . ومن ليس له أمد بالكلية ، فله تأجيل أربعة أشهر . بقى قسم ثالث ، وهو : من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل ، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول ، فيكون أجله إلى مدته وإن قل . ويحتمل أن يقال إنه يؤجل إلى أربعة أشهر ، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية " . وانظر شرح الخبر في مسند أحمد .
(2) الأثر : 16371 - " الحارث الأعور " ، هو " الحارث بن عبد الله الهمداني " ، ضعيف جدا ، سلف مرارا ، انظر رقم : 174 . فإسناده ضعيف . وسيأتي بإسناد آخر رقم : 16374 .

(14/105)


16372 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع قال : نزلت " براءة " ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، ثم أرسل عليًّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر قال : هل نزل فيَّ شيء ؟ قال : لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة ، (1) فقام فيهم بأربع : أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطف بالكعبة عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهدٌ فعهده إلى مدته. (2)
16373 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن علي قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : " براءة " بأربع : أن لا يطف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. (3)
16374 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن معمر ،
__________
(1) قوله : " فانطلق " ، يعني عليا رحمه الله .
(2) الأثران : 16372 ، 16373 - حديث زيد بن يثيع ، سيرويه من ثلاث طرق ، هذا ، والذي يليه ، ثم رقم : 16379 . و " زيد بن يثيع " ، أو " أثيع " بالتصغير فيهما ، تابعي ثقة قليل الحديث ، مضى برقم : 15737 . وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم : 594 ، من طريق سفيان ، عن أبي إسحاق السبيعي ، وإسناده صحيح . ورواه الترمذي في كتاب الحج ، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا ، وقال : " وفي الباب عن أبي هريرة ، قال أبو عيسى : حديث على حسن " . ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم : 16368 - 16370 . ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال : " هذا حديث حسن صحيح " . وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم : 4 ، نحو هذا الحديث مطولا ، من حديث زيد بن يثيع ، عن أبي بكر .
(3) الأثران : 16372 ، 16373 - حديث زيد بن يثيع ، سيرويه من ثلاث طرق ، هذا ، والذي يليه ، ثم رقم : 16379 . و " زيد بن يثيع " ، أو " أثيع " بالتصغير فيهما ، تابعي ثقة قليل الحديث ، مضى برقم : 15737 . وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم : 594 ، من طريق سفيان ، عن أبي إسحاق السبيعي ، وإسناده صحيح . ورواه الترمذي في كتاب الحج ، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا ، وقال : " وفي الباب عن أبي هريرة ، قال أبو عيسى : حديث على حسن " . ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم : 16368 - 16370 . ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال : " هذا حديث حسن صحيح " . وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم : 4 ، نحو هذا الحديث مطولا ، من حديث زيد بن يثيع ، عن أبي بكر .

(14/106)


عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رحمة الله عليه ، قال : بعثت إلى أهل مكة بأربع ، ثم ذكر الحديث. (1)
16375 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال ، حدثنا حسين بن محمد قال ، حدثنا سليمان بن قرم ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة ، ثم أتبعه عليًّا ، فأخذها منه ، فقال أبو بكر : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : " لا أنت صاحبي في الغار وعلى الحوض ، ولا يؤدِّي عني إلا أنا أو عليّ! وكان الذي بعث به عليًّا أربعا : لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مُدَّته. (2)
16376 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رحمة الله عليه ، فنادى : ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته ، والله بريء من المشركين ورسوله.
16377 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين
__________
(1) الأثر : 16374 - انظر التعليق على الأثر رقم : 16371 .
(2) الأثر : 16375 - " حسين بن محمد المروزي " ، روى له الجماعة ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 15338. و " سليمان بن قرم بن معاذ التيمي " ، ثقة ، غمزوه بالغلو في التشيع. مضى برقم : 9163. و " الحكم " هو " الحكم بن عتيبة " ، مضى مرارا . وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير ، من طريق أخرى ، من طريق عباد بن العوام ، عن سفيان بن الحسين ، عن الحكم بن عتيبة ، بنحوه ، وقال : " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، من حديث ابن عباس " .

(14/107)


بن علي قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رحمة الله عليه ليقيم الحج للناس; قيل له : يا رسول الله ، لو بعثت إلى أبي بكر! فقال : لا يؤدِّي عني إلا رجل من أهل بيتي! ثم دعا علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ، فقال : اخرج بهذه القصة من صدر " براءة " ، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. فخرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال : أميرٌ أو مأمور ؟ قال : مأمور ، ثم مضيا رحمة الله عليهما ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس ، لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا من " براءة " ، فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى. (1)
16378 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما نزلت هذه الآيات إلى رأس أربعين آية ، بعث بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمَّره على الحج. فلما سار فبلغ
__________
(1) الأثر : 16377 - سيرة ابن هشام 4 : 190 ، 191 . " حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري " ، ثقة ، تكلموا فيه ، حتى قال ابن سعد : " كان قليل الحديث ، ولا يحتجون بحديثه " ، مضى برقم : 11741 .

(14/108)


الشجرة من ذي الحليفة ، أتبعه بعليّ فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا ولكن لا يبلِّغ عني غيري ، أو رجل مني ، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار ، وأنك صاحبي على الحوض ؟ قال : بلى ، يا رسول الله! فسار أبو بكر على الحاجّ ، وعلي يؤذن ببراءة ، فقام يوم الأضحى فقال : لا يقربنَّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته ، وإن هذه أيام أكل وشرب ، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب! فرجع المشركون ، فلام بعضهم بعضًا وقالوا : ما تصنعون ، وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا.
16379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن علي قال : أمرت بأربع : أن لا يقربَ البيتَ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده قال معمر : وقاله قتادة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا ، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة ، فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنَقْضِه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفَى له بعهده إلى مدته ، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك دلّ ظاهرُ التنزيل ، وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الأشهر الأربعة ، فإنها كانت أجلَ من ذكرنا. وكان ابتداؤها يوم
__________
(1) الأثر : 16379 - انظر التعليق على الأثرين رقم : 16372 ، 16373 .

(14/109)


الحج الأكبر ، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر ، فذلك أربعة أشهر متتابعة ، جُعِل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم ، فيها ، السياحةُ في الأرض ، يذهبون حيث شاؤوا ، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحدٌ بحرب ولا قتل ولا سلب.
* * *
فإن قال قائل : فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت ، فما وجه قوله : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [سورة التوبة : 5]. وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرّم ، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر ، وإنما بين يوم الحجّ الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يومًا أكثرُه ، فأين الخمسون يومًا من الأشهر الأربعة ؟
قيل : إن انسلاخَ الأشهر الحرم ، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر الأربعة لمن له عهد ، إما إلى أجل غير محدود ، وإما إلى أجل محدود قد نقضه ، فصار بنقضه إياه بمعنى من خِيف خيانته ، فاستحقّ النبذ إليه على سواء ، غير أنه جُعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر. ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة ، ويصفهم بأنهم أهل عهد : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرم أجلا بأنهم أهل شرك لا أهل عهد فقال : (وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) الآية (إلا الذين عاهدتم من المشركين) الآية ؟ ثم قال : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، وبإتمام عهد الذين لهم عهد. إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين ، وإدخال النقص فيه عليهم.
فإن قال قائل : وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحج الأكبر ،

(14/110)


دون أن يكون كان من شوال على ما قاله قائلو ذلك ؟
قيل له : إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول " براءة " ، وذلك غير جائز أن يكون صحيحًا ، لأن المجعول له أجلُ السياحة إلى وقت محدود. إذا لم يعلم ما جُعل له ، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه ، فكمن لم يجعل له ذلك ، لأنه إذا لم يعلم ما له في الأجل الذي جُعل له وما عليه بعد انقضائه ، فهو كهيئته قبل الذي جُعل له من الأجل. ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جُعل لهم من ذلك ، إلا حين نودي فيهم بالموسم. و إذا كان ذلك كذلك. صحَّ أن ابتداءه ما قلنا ، وانقضاءه كان ما وصفنا.
وأما قوله : (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، فإنه يعني : فسيروا فيها مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
* * *
يقال منه : " ساح فلان في الأرض يسيح ، سياحة. وسُيُوحًا. وسَيَحانًا.
* * *
وأما قوله : (واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ قبل نزول هذه الآية : اعلموا ، أيها المشركون ، أنكم إن سحتم في الأرض ، واخترتم ذلك مع كفركم بالله. على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله (غير معجزي الله) ، يقول : غير مُفِيتيه بأنفسكم ، لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ، ففي قبضته وسلطانه ، لا يمنعكم منه وزيرٌ ، ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقلٌ ولا موئل. (1) إلا الإيمان به وبرسوله. والتوبة من معصيته. يقول : فبادروا عقوبته بتوبة ، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف 12 : 128 / 13 : 31 .

(14/111)


وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

وأما قوله : (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول : واعلموا أن الله مُذلُّ الكافرين ، ومُورثهم العارَ في الدنيا ، والنارَ في الآخرة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإعلامٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر.
* * *
وقد بينا معنى " الأذان " ، فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده. (2)
* * *
وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما : -
16380 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : زعم سليمان بن موسى الشاميّ أن قوله : (وأذان من الله ورسوله) ، قال : " الأذان " ، القصص ، فاتحة " براءة " حتى تختم : ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ، [سورة التوبة : 28] فذلك ثمان وعشرون آية. (3)
16381 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وأذان من الله ورسوله) ، قال : إعلام من الله ورسوله.
* * *
ورفع قوله : (وأذان من الله) ، عطفًا على قوله : (براءة من الله) ، كأنه قال : هذه براءة من الله ورسوله ، وأذانٌ من الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 10 : 318 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأذان " فيما سلف . . . تعليق : . . . والمراجع هناك .
(3) الأثر : 16380 - " سليمان بن موسى الأموي الدمشقي " ، الأشدق ، فقيه أهل الشأم في زمانه . مضى برقم : 15654 ، 15655 .

(14/112)


وأما قوله : (يوم الحج الأكبر) ، فإنه فيه اختلافًا بين أهل العلم.
فقال بعضهم : هو يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك :
16382 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال ، أخبرنا حيوة بن شريح قال ، أخبرنا أبو صخر : أنه سمع أبا معاوية البجليّ من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن " يوم الحج الأكبر " فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحج ، وبعثني معه بأربعين آية من براءة ، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت إليّ ، فقال : قم ، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من " براءة " ، ثم صدرنا ، (1) حتى أتينا مِنًى ، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة ، ثم حلقت رأسي ، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة ، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم. (2) فمن ثَمَّ إخال حسبتم أنه يوم النحر ، ألا وهو يوم عرفة. (3)
__________
(1) " صدر عن الماء والبلاد " ، رجع . و " الصدر " ، ( بفتحتين ) ليلة رجوع الناس من عرفة إلى منى . و " صدار البيت " ( بضم الصاد وتشديد الدال ) : الحجاج الراجعون من حجهم .
(2) " الفساطيط " جمع " فسطاط " ، مثل السرادق ، وهو أصغر منه ، يتخذه المسافرون .
(3) الأثر : 16382 - سبق شرح هذا الإسناد برقم : 5386 . " أبو زرعة " ، " وهب الله بن راشد المصري " ، مضى مرارا ، آخرها برقم : 11510 ، ومراجعه هناك . وكان في المطبوعة هنا : " أبو زرعة وهبة الله بن راشد قالا " ، جعله رجلين ! ومثله في المخطوطة مثله ، إلا أنه كتب " قال " بالإفراد ، قدم الكنية على الاسم . والصواب ما أثبت . و " حيوة بن شريح " ، مضى مرارا ، آخرها : 11510 . و " أبو صخر " ، هو " حميد بن زياد الخراط " ، قال أحمد : " ليس به بأس " ، أخرج له مسلم . مضى برقم 4325 ، وغيرها كثير . و " أبو معاوية البجلي " ، هو " عمار بن معاوية الدهني " ، كما صرح به الطبري في رقم : 4325 ، وهو ثقة . مضى في مواضع . و " أبو الصهباء البكري " ، سلف بيانه برقم : 5386 . وهو إسناد صحيح .

(14/113)


16383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق قال : سألت أبا جُحَيفة عن " يوم الحج الأكبر " فقال : يوم عرفة. فقلت : أمن عندك ، أو من أصحاب محمد ؟ قال : كلُّ ذلك. (1)
16384 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : الحج الأكبر ، يوم عرفة.
16385 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عمر بن الوليد الشنّيّ ، عن شهاب بن عبّاد العَصَريّ ، عن أبيه قال : قال عمر رحمه الله : يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة فذكرته لسعيد بن المسيب فقال : أخبرك عن ابن عمر : أن عمر قال : الحج الأكبر يومُ عرفة.
16386 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عمر بن الوليد الشني قال ، حدثنا شهاب بن عباد العصري ، عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه يقول : هذا يوم عرفة ، يوم الحج الأكبر فلا يصومَنَّه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة ، فسألت عن أفضل أهلها ، فقالوا : سعيد بن المسيب ، فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا : سعيد بن المسيب ، فأخبرني عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مئة ضعف ، (2) عمر ، أو : ابن عمر ، كان ينهى عن صومه ويقول : هو يوم الحج الأكبر. (3)
__________
(1) الأثر : 16383 - " أبو جحيفة السوائي " ، هو " وهب بن عبد الله " ويقال له " وهب الخير " ، مات رسول الله قبل أن يبلغ الحلم . ثقة ، روى له الجماعة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/162 ، وابن أبي حاتم 4/2/22 .
(2) في المخطوطة : " أفضل مني أضعافا " ، وفي المخطوطة " أفضل مني ضعف " ، والصواب من تفسير ابن كثير 4 : 113 .
(3) الأثران : 16385 ، 16386 - " عمر بن الوليد الشني " ، " أبو سلمة العبدي " ، ثقة ، مضى برقم 435 ، 11185 . " شهاب بن عباد العصري العبدي " ، روى عن أبيه ، وهو غير " شهاب بن عباد العبدي " ، شيخ البخاري ومسلم . ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 235 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 361 ، ولم يذكر فيه جرحا . وذكر في التهذيب في ترجمته : " قال الدار قطني : صدوق زائغ " ، وظني أنه أخطأ ، ذاك " شهاب بن عباد " آخر ، ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1 : 451 . وأبوه " عباد العصري " ، روى عن عمر ، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 88 .

(14/114)


16387 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الصمد بن حبيب ، عن معقل بن داود قال : سمعت ابن الزبير يقول : يوم عرفة هذا ، يوم الحج الأكبر ، فلا يصمه أحد. (1)
16388 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا غالب بن عبيد الله قال : سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم عرفة ، فأفِضْ منها قبل طلوع الفجر. (2)
16389 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال : " أما بعد " " وكان لا يخطب إلا قال : أما بعد " فإن هذا يوم الحج الأكبر " . (3)
16390 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد قال : يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة.
__________
(1) الأثر : 16387 - " عبد الصمد بن حبيب الأزدي العوذي " ، ضعفه البخاري وأحمد . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 51 . و " معقل بن داود " ، لم أجد له ترجمة ، وفي ترجمة " عبد الصمد بن حبيب " أنه روى عن " معقل القسملي " ، ولكني لم أجد لهذا " القسملي " ، " الأزدي " ، ذكرا في شيء من مراجعي .
(2) الأثر : 16388 - " غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري " ، منكر الحديث ، مضى برقم : 12214 .
(3) الأثر : 16389 - " محمد بن بكر العثماني البرساني " ، ثقة ، مضى مرارا . و " محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف " ، تابعي ثقة ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، مضى برقم : 10520 .

(14/115)


16391 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن سلمة بن بُخْت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة. (1)
16392 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني طاوس ، عن أبيه قال : قلنا : ما الحج الأكبر ؟ قال : يوم عرفة.
16393 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا ابن جريج ، عن محمد بن قيس بن مخرمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال : هذا يوم الحج الأكبر.
* * *
وقال آخرون : هو يوم النحر.
* ذكر من قال ذلك :
16394 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16395 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن سلام ، عن الأجلح ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث قال : سمعت عليًّا يقول : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16396 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث قال : سألت عليًّا عن الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر.
16397 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا سليمان
__________
(1) الأثر : 16391 - " إسحاق بن سليمان الرازي " ، سلف مرارا . و " سلمة بن بخت " مدني ، مولى قريش ، قال أحمد : " لا بأس به " ، ووثقه ابن معين . مترجم في الكبير 2 / 2 / 83 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 156 . وكان في المطبوعة : " سلمة بن محب " ، وهو خطأ محض ، وهي في المخطوطة ، غير منقوطة .

(14/116)


الشيباني قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الحج الأكبر ، قال : فقال : يوم النحر. (1)
16398 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عيّاش العامري ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر. (2)
16399 - ...... قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16400 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك قال : دخلت أنا وأبو سلمة على عبد الله بن أبي أوفى ، قال : فسألته عن يوم الحج الأكبر ، فقال : يوم النحر ، يوم يُهَرَاقُ فيه الدم.
16401 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق ، عن سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16402 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني قال : سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر قال : هو يوم النحر.
16403 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال : أخبرنا الشيباني ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16404 - ...... قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير قال ، سَمعت عبد الله بن أبي أوفى ، وسُئل عن قوله : (يوم الحج الأكبر) ، قال : هو اليوم الذي يُرَاق فيه الدم ، ويُحلق فيه الشعر.
__________
(1) الأثر : 16396 - " الحارث " ، في هذا الإسناد وما قبله ، هو " الحارث الأعور " وقد مضى بيان ضعفه مرارا .
(2) الأثر : 16398 - " عياش العامري " ، هو " عياش بن عمرو العامري " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 48 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 6 . و " عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي " ، صحابي شهد بيعة الرضوان . مضى برقم : 7758 .

(14/117)


16405 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال : سمعت يحيى بن الجزار يحدّث ، عن علي : أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة ، فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته ، فسأله عن الحج الأكبر ، فقال : هو يومك هذا ، خَلِّ سبيلها. (1)
16406 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، حدثنا إسحاق ، عن مالك بن مغول ، وشُتَير ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16407 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : سئل عن يوم الحج الأكبر قال : هو يوم النحر.
16408 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن علي : أنه لقيه رجل يوم النحر فأخذ بلجامه ، فسأله عن يوم الحج الأكبر ، قال : هو هذا اليوم. (2)
16409 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن عبد الملك بن عمير ، وعياش العامري ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : هو اليوم الذي تُهَراق فيه الدماء. (3)
16410 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ابن أبي أوفى قال : الحج الأكبر ، يوم تُهَرَاق فيه الدماء ، ويحلق فيه الشعر ، ويَحِلّ فيه الحرام.
16411 - حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال ، حدثنا يحيى بن
__________
(1) الأثر : 16405 - " يحيى بن الجزار " ، ثقة ، كان ، كان يغلو في التشيع ، لم يسمع من علي إلا ثلاثة أحاديث ، هذا أحدها ، والحديث الآخر ، مضى برقم : 5425 ، 16106 . وانظر الأثر التالي رقم : 16408 .
(2) الأثر : 16408 - هو مكرر الأثر . رقم : 16405 ، مختصرا .
(3) الأثر : 16409 - انظر التعليق على رقم : 16398 .

(14/118)


عيسى ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى علي بعير فقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر.
16412 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير وقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر.
16413 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة ، فذكر نحوه. (1)
16414 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16415 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16416 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي جحيفة قال : الحج الأكبر ، يوم النحر. (2)
16417 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في " يوم الحج الأكبر " ، قال علي : هو يوم النحر. وقال الذي من آل شيبة :
__________
(1) الآثار : 16411 - 16413 " عبد الله بن سنان الأسدي " ، " أبو سنان " ، روى عن علي ، وابن مسعود ، وضرار بن الأزور ، والمغيرة بن شعبة . روى عنه الأعمش ، وأبو حصين . وهو ثقة له أحاديث . توفي أيام الحجاج ، قبل يوم الجماجم . مترجم في ابن سعد 6 : 123 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 68 ، وتعجيل المنفعة ص : 224 . وكان في المطبوعة : " عبد الله بن يسار " ، في المواضع كلها ، خطأ محض ، وهو في المخطوطة " سنان " غير منقوط كله .
(2) الأثر : 16416 - " أبو جحيفة " ، " وهب بن عبد الله " ، سلف برقم : 16383 .

(14/119)


هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه ، فقال : هو يوم النحر ، ألا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحج ، فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج ؟
16418 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يونس ، عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج الأكبر ، يوم النحر. قال فقلت له : إن عبد الله بن شيبة ، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس اختلفا في ذلك ، فقال محمد بن علي : هو يوم النحر. وقال عبد الله : هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير : أرأيت لو أن رجلا فاته يوم عرفة ، أكان يفوته الحج ؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحج!
16419 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16420 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال ، حدثني رجل ، عن أبيه ، عن قيس بن عبادة قال : ذو الحجة العاشر النحرُ ، وهو يوم الحج الأكبر.
16421 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن شداد قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر. والحج الأصغر ، العمرة.
16422 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16423 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن مسلم الحجبي قال : سألت نافع بن جبير بن مطعم عن يوم الحج الأكبر ، قال : يوم النحر.
16424 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : كان يقال : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16425 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : يوم الحج الأكبر ، يوم يُهَراق فيه الدم ، ويحلّ فيه الحرام.

(14/120)


16426 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم أنه قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ، الذي يحلّ فيه كل حرام.
16427 - ...... قال حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن علي ، قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16428 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون قال : سألت محمدًا عن يوم الحجّ الأكبر فقال : كان يومًا وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوَبر.
16429 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمر بن ذر قال : سألت مجاهدًا عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر.
16430 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن مجاهد : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16431 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ثور ، عن مجاهد : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16432 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : يوم الحجّ الأكبر ، يوم النحر وقال عكرمة : يوم الحج الأكبر : يوم النحر ، يوم تهراق فيه الدماء ، ويحلّ فيه الحرام قال وقال مجاهد : يوم يجمع فيه الحج كله ، وهو يوم الحج الأكبر.
16433 - ...... قال حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن محمد بن علي : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16434 - ...... قال ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
16435 - ...... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا حماد بن سلمة ،

(14/121)


عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
16436 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق قال ، قال علي : الحج الأكبر ، يوم النحر قال : وقال الزهري : يوم النحر ، يوم الحج الأكبر.
16437 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني يونس ، وعمرو ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع ، في رَهْط يؤذِّنون في الناس يوم النحر : ألا لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان قال الزهري : فكان حميد يقول : يوم النحر ، يوم الحح الأكبر. (1)
16438 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الشعبي ، عن أبي إسحاق قال : سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر ، والحج الأصغر ، فقال : الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأصغر العمرة.
16439 - ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق قال ، سألت عبد الله بن شداد ، فذكر نحوه.
16440 - ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : يوم الحج الأكبر ، يوم يوضع فيه الشعر ، ويُهَراق فيه الدم ، ويحلّ فيه الحرام. (2)
__________
(1) الأثر : 16437 - " يونس " ، هو " يونس بن يزيد الأيلي " ثقة ، سلف مرارا . و " عمرو " ، هو " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري " ، ثقة مضى مرارا . و " حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري " ، الثقة ، مضى مرارا . وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 3 : 387 / 8 : 238 - 241 ) من طرق ، واستوفى الكلام عليه الحافظ بن حجر هناك . وبمثله في السنن لأبي داود 2 : 264 ، رقم : 1946 .
(2) الأثر : 16440 - انظر ما سلف رقم : 16399 .

(14/122)


16441 - ...... قال ، حدثنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن علي قال : الحج الأكبر ، يوم النحر.
16442 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن عياش العامري ، عن عبد الله بن أبي أوفى : أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال : سبحان الله ، هو يوم تهراق فيه الدماء ، ويحل فيه الحرام ، ويوضع فيه الشعر ، وهو يوم النحر. (1)
16443 - ...... قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن عبد الله بن سنان ، قال : خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له فقال : هذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر. (2)
16444 - ...... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال ، يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16445 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ، يحلّ فيه الحرام.
16446 - حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم ، قعد على بعير له ، (3) وأخذ إنسان بخطامه أو : زمامه فقال : أي يوم هذا ؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسمِّيه غير اسمه فقال : أليس يوم الحج ؟. (4)
__________
(1) الأثر : 16442 - انظر ما سلف رقم : 16398 .
(2) الأثر : 16443 - انظر ما سلف رقم : 16411 - 16413 . ، وكان في المطبوعة هنا أيضا : " عبد الله بن يسار " ، والصواب " ابن سنان " ، كما في المخطوطة أيضا .
(3) زاد في المطبوعة هنا فكتب : " قعد على بعير له النبي " .
(4) الأثر : 16446 - رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 3 : 459 ) من طريق أبي عامر العقدي ، عن قرة بن خالد ، عن محمد بن سيرين ، مطولا وفيه : " أليس يوم النحر " .

(14/123)


16447 - حدثنا سهل بن محمد السجستاني قال ، حدثنا أبو جابر الحرمي قال ، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : هذا يوم الحج الأكبر. (1)
__________
(1) الأثر : 16447 - " سهل بن محمد بن عثمان السجستاني " ، هو " أبو حاتم " ، النحوي ، المقرئ ، البصري المشهور . ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 204 . وكان في المطبوعة والمخطوطة ، وتفسير ابن كثير " سهل بن محمد الحساني " . وكان الصواب هو ما أثبته لما سترى بعد . و " أبو جابر الحرمي " ، هو " محمد بن عبد الملك الأزدي البصري " نزيل مكة ، مشهور بكنيته . روى عنه " أبو حاتم السجستاني " ، فمن أجل ذلك صححت الاسم السالف " سهل بن محمد السجستاني " . ونسبته " الحرمي " ، كانت في المخطوطة " الحربي " ، تشبه أن تكون " باءا " أو " تاء " أو " ثاء " ، أو " ميما " ، فرجحت أنها " ميم " لأنه نزيل مكة ، نسبة إلى " الحرم " . وكانت في المطبوعة : " الحرثي " ، وفي تفسير ابن كثير " الحربي " ولم يوجد شيء من ذلك في ترجمته . و " أبو جابر " ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : " أدركته ، مات قبلنا بيسير ، وليس بقوي " . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 165 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 5 ، وميزان الاعتدال 3 : 95 . و " هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي " ، ثقة صالح الحديث . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 199 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 67 . وهذا الخبر ، خرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 114 ، وقال : " هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه " من حديث أبي جابر - واسمه : محمد بن عبد الملك - به . ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز . ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز ، عن نافع ، به " . وفاته أن البخاري أخرجه في صحيحه تعليقا ( الفتح 3 : 459 ) ، مطولا ، وأخرجه أبو داود في سننه 2 : 264 رقم : 1945 ، من طريق مؤمل بن الفضل ، عن الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز " ، بمثله مطولا . وأخرجه ابن ماجه في سننه : 1016 رقم 3058 ، من طريق هشام بن عمار ، عن صدقة بن خالد ، عن هشام بن الغاز ، بمثله مطولا. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 139 . وقال الحافظ ابن حجر ( الفتح 3 : 459 ، 460 ) : " وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلي ، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي ، كلاهما عن هشام بن عمار وعن جعفر الفريابي ، عن دحيم ، عن الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز ، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود " . أما الحاكم ، فقد أخرجه في المستدرك 2 : 331 من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز ، ثم قال : " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة . وأكثر هذا المتن مخرج في الصحيحين إلا قوله : إن يوم الحج الأكبر ، يوم النحر سنة . فإن الأقاويل فيه عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم ، على خلاف بينهم فيه ، فمنهم من قال : يوم عرفة ، ومنهم من قال : يوم النحر " ، ووافقه الذهبي على صحته .

(14/124)


16448 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مرة الهمداني ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة ، (1) فقال : أتدرون أيَّ يوم يومكم ؟ قالوا : يوم النحر! قال : صدقتم ، يوم الحج الأكبر. (2)
16449 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني عمرو بن مرة قال ، حدثنا مرة قال ، حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
16450 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن ...... قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا بأربع كلمات حين حج أبو بكر بالناس ، فنادى ببراءة : إنه يوم الحج الأكبر ، ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ألا ولا يطوف بالبيت عريان ، ألا ولا يحج بعد العام مشرك ، ألا ومن كان بينه وبين محمد عهدٌ فأجله إلى مدته ، والله بريء
__________
(1) " المخضرمة " ، المقطوع طرف أذنها ، وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم ، فلما جاء الإسلام ، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية ، فكانت خضرمة أهل الإسلام بائنة من خضرمة أهل الجاهلية .
(2) الأثر : 16448 - " رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ربما كان : " عبد الله بن مسعود " ، فقد روى الخبر مطولا ابن ماجه في السنن : 1016 ، رقم : 3057 ، من طريق إسماعيل بن توبة ، عن زافر بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن مسعود " . وسيأتي برقم : 16454 ، من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن رجل من أصحاب رسول الله " ، كمثل ما في رواية ابن ماجه ، ليس فيه " مرة الطيب " .

(14/125)


من المشركين ورسوله. (1)
16451 - حدثني يعقوب قال ، حدثني هشيم ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر.
16452 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (يوم الحج الأكبر) ، قال : يوم النحر ، يوم يحلّ فيه المحرم ، وينحر فيه البُدْن. وكان ابن عمر يقول : هو يوم النحر. وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس يقول : هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدًا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد : والحج يفوت بفوت يوم النحر ، ولا يفوت بفوت يوم عرفة ، إن فاته اليوم لم يفته الليل ، يقف ما بينه وبين طلوع الفجر.
16453 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : يوم الأضحى ، يوم الحج الأكبر.
16454 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال ، حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتي هذه ، حسبته قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مُخَضرَمة فقال : أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ الأكبر ووقته. قال : وذلك أيام الحج كلها ، لا يوم بعينه.
__________
(1) الأثر : 16450 - " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي " ، مضى مرارا . و " أبوه " : " أبو خالد الأحمسي البجلي " ، مترجم في التهذيب ، روى عن أبي هريرة ، وجابر بن سمرة . ذكره ابن حبان في الثقات . وقد حذفت المطبوعة ما أثبت ، وهو " عن . . . " ، وبعدها بياض ، سقط من المخطوطة اسم الصحابي الذي روى عنه أبو خالد هذا الخبر . ولم أجد الخبر في مكان آخر .
(2) الأثر : 16454 - انظر التعليق على رقم : 16448 .

(14/126)


* ذكر من قال ذلك :
16455 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ ، أيامه كلها.
16456 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : الحج الأكبر ، أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومَجَنَّة ، حين نودي فيهم : أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ، وأن لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدته.
16457 - حدثني الحارث قال ، حدثنا أبو عبيد قال ، كان سفيان يقول : " يوم الحج " ، و " يوم الجمل " ، و " يوم صفين " ، أي : أيامه كلها.
16458 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : (يوم الحج الأكبر) ، قال : حين الحجّ ، أي : أيامه كلها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة ، قولُ من قال : " يوم الحج الأكبر ، يوم النحر " ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين ، وتلا عليهم " براءة " ، يوم النحر. هذا ، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر : أتدرون أيّ يوم هذا ؟ هذا يوم الحج الأكبر.
وبعدُ ، فإن " اليوم " إنما يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه ، كقول الناس : " يوم عرفة " ، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة و " يوم الأضحى " ، وذلك يوم

(14/127)


يضحون فيه " ويوم الفطر " ، وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك " يوم الحج " ، يوم يحجون فيه ، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر ، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوفُ بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر ، (1) وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة ، فإنه وإن كان الوقوف بعرفة ، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر ، والحج كله يوم النحر.
* * *
وأما ما قال مجاهد : من أن " يوم الحج " ، إنما هو أيامه كلها ، فإن ذلك وإن كان جائزًا في كلام العرب ، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه ، بل أغلبُ على معنى " اليوم " عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد. وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتابُ بلسانه.
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم : " يوم الحج الأكبر " .
فقال بعضهم : سمي بذلك ، لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حجّ المسلمين والمشركين.
* ذكر من قال ذلك :
16459 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن قال : إنما سمي " الحج الأكبر " ، من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها ، واجتمع فيها المسلمون والمشركون ، فلذلك سمي " الحج الأكبر " ، ووافق أيضًا عيدَ اليهود والنصارى.
16460 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب المحض .

(14/128)


حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : يوم الحج الأكبر ، كانت حجة الوداع ، اجتمع فيه حج المسلمين والنصارى واليهود ، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
16461 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن قال : قوله : (يوم الحج الأكبر) ، قال : إنما سمي " الحج الأكبر " ، لأنه يوم حج فيه أبو بكر ، ونُبذت فيه العهود.
* * *
وقال آخرون : " الحج الأكبر " ، القِرآنُ ، و " الحج الأصغر " ، الإفراد.
* ذكر من قال ذلك :
16462 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا أبو بكر النهشلي ، عن حماد ، عن مجاهد قال : كان يقول : " الحج الأكبر " و " الحج الأصغر " ، فالحج الأكبر ، القِرآن و " الحج الأصغر " ، إفراد الحج.
* * *
وقال آخرون : " الحج الأكبر " ، الحج و " الحج الأصغر " ، العمرة.
* ذكر من قال ذلك :
16463 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : " الحج الأكبر " ، الحج ، و " الحج الأصغر " ، العمرة.
16464 - ...... قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن داود ، عن عامر قال : قلت له : هذا الحج الأكبر ، فما " الحج الأصغر " ، قال : العمرة.
16465 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : كان يقال : " الحج الأصغر " ، العمرة في رمضان.
16466 - ...... قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كان يقال : " الحج الأصغر " ، العمرة.

(14/129)


16467 - ...... قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي أسماء ، عن عبد الله بن شداد قال : " يوم الحج الأكبر " ، يوم النحر ، و " الحج الأصغر " ، العمرة.
16468 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : أن أهل الجاهلية كانوا يسمون " الحج الأصغر " ، العمرة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، قول من قال : " الحج الأكبر ، الحج " ، لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها ، فقيل له : " الأكبر " ، لذلك. وأما " الأصغر " فالعمرة ، لأن عملها أقل من عمل الحج ، فلذلك قيل لها : " الأصغر " ، لنقصان عملها عن عمله.
* * *
وأما قوله : (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، فإن معناه : أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله ، بعد هذه الحجة.
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحج الأكبر : أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان ، كما : -
16469 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي : بعد الحجة. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 16469 - سيرة ابن هشام 4 : 188 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16356 .

(14/130)


القول في تأويل قوله : { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (فإن تبتم) ، من كفركم ، أيها المشركون ، ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد (1) فالرجوع إلى ذلك(خير لكم) ، من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة (وإن توليتم) ، يقول : وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) ، يقول : فأيقنوا أنكم لا تُفِيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد ، على إقامتكم على الكفر ، (2) كما فعل بمن قبلكم من أهل الشرك من إنزال نقمه به ، (3) وإحلاله العذاب عاجلا بساحته (وبشر الذين كفروا) ، يقول : واعلم ، يا محمد ، الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم (4) (بعذاب) ، موجع يحلُّ بهم. (5)
16470 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : (فإن تبتم) ، قال : آمنتم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) .
(2) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص 111 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " كما فعل بذويكم من أهل الشرك " ، وفي المخطوطة : " كما فعل برونكم " ، ولا أدري ما هو ، فآثرت أن أجعلها " بمن قبلكم " لتستقيم الضمائر بعد ذلك .
(4) انظر تفسير " بشر " فيما سلف 13 : 418 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .

(14/131)


إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

القول في تأويل قوله : { إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، ، إلا من عَهْدِ الذين عاهدتم من المشركين ، أيها المؤمنون (1) (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، من عهدكم الذي عاهدتموهم (ولم يظاهروا عليكم أحدًا) ، من عدوكم ، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم ، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال (2) (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول : فَفُوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، (3) ولا تنصبوا لهم حربًا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم (إن الله يحب المتقين) ، يقول : إن الله يحب من اتقاه بطاعته ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (4)
16471 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول : إلى أجلهم.
16472 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ، : أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، الآية. (5)
__________
(1) انظر تفسير " المعاهدة " فيما سلف ص : 21 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المظاهرة " فيما سلف 2 : 304 .
(3) انظر تفسير " الإتمام " فيما سلف 13 : 87 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة ( وقى ) .
(5) الأثر : 16472 - سيرة ابن هشام 2 : 188 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16469 .

(14/132)


فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

16473 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا) ، الآية ، قال : هم مشركو قريش ، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم ، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
16474 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : مدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل " براءة " أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الآخر ، وذلك أربعة أشهر. فإن نقضَ المشركون عهدهم ، وظاهروا عدوًّا فلا عهد لهم. وإن وفوْا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يظاهروا عليه عدوًّا ، فقد أمر أن يؤدِّي إليهم عهدهم ويفي به.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، فإذا انقضى ومضى وخرج.
* * *

(14/133)


يقال منه : سلخنا شهر كذا نسلَخه سَلْخًا وسُلُوخًا ، بمعنى : خرجنا منه. ومنه قولهم : " شاة مسلوخة " ، بمعنى : المنزوعة من جلدها ، المخرجة منه. (1)
* * *
ويعني بـ " الأشهر الحرم " ، ذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم. (2)
وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده ، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجَّلوا الأشهرَ الحرم كلَّها وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى ولكنه لما كان متصلا بالشهرين الآخرين قبله الحرامين ، وكان هو لهما ثالثًا ، وهي كلها متصل بعضها ببعض ، قيل : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم " ، ومعنى الكلام : فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم ، أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداءَ على رسول الله وعلى أصحابه ، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم.
* * *
(فاقتلوا المشركين) ، يقول : فاقتلوهم (حيث وجدتموهم) ، يقول : حيث لقيتموهم من الأرض ، في الحرم ، وغير الحرم في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم (وخذوهم) يقول : وأسروهم (واحصروهم) ، يقول : وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول : واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم " كل مرصد " ، يعني : كل طريق ومرقَب.
* * *
وهو " مفعل " ، من قول القائل : " رصدت فلانًا أرصُده رَصْدًا " ، بمعنى : رقبته.
* * *
(فإن تابوا) ، يقول : فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد
__________
(1) انظر تفسير " الانسلاخ " فيما سلف 13 : 260 .
(2) انظر تفسير " الأشهر الحرم " فيما سلف 3 : 575 - 579 / 9 : 456 ، 466 / 11 : 91 ، 94 .

(14/134)


صلى الله عليه وسلم ، (1) إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (وأقاموا الصلاة) ، يقول : وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها (2) (فخلوا سبيلهم) ، يقول : فدعوهم يتصرفون في أمصاركم ، ويدخلون البيت الحرام (إن الله غفور رحيم) ، لمن تاب من عباده فأناب إلى طاعته ، بعد الذي كان عليه من معصيته ، ساتر على ذنبه ، رحيم به ، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته ، بعد التوبة. (3)
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجِّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16475 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أنس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك له شيئًا ، فارقها والله عنه راضٍ قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هَرْج الأحاديث ، (4) واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله ، قال الله : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ، قال : توبتهم ، خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة ( تاب ) .
(2) انظر تفسير " إقامة الصلاة " ، و " إيتاء الزكاة " فيما سلف منم فهارس اللغة ( قوم ) ، ( أتى ) .
(3) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم).
(4) " هرج الأحاديث " ، الإكثار فيها ، واختلاف المختلفين ، واختلاط أصواتهم .

(14/135)


وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ، [سورة التوبة : 11]. (1)
16476 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول : خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله ، فإنما الناس ثلاثة : رَهْط مسلم عليه الزكاة ، ومشرك عليه الجزية ، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشُور ماله.
16477 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، وهي الأربعة التي عددت لك يعني : عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيعًا الأول ، وعشرًا من شهر ربيع الآخر.
* * *
وقال قائلو هذه المقالة : قيل لهذه : " الأشهر الحرم " ، لأن الله عز وجل حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين ، والعَرْضَ لهم إلا بسبيلِ خيرٍ. (2)
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 16475 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 11125 .
و " عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي " ، روى له الجماعة ، سلف مرارا ، آخرها : 13177 . وسائر رجال السند ، ثقات ، مضوا جميعا ، إلا أبا جعفر الرازي ، فقد تكلموا فيه ، وهو ثقة إن شاء الله
وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه : 27 ، رقم : 70 ، من طريقتين : من طريق نصر بن علي الجهضمي ، عن أبي أحمد ، عن أبي جعفر الرازي ، ثم من طريق أبي حاتم ، عن عبيد الله بن موسى العبسي ، عن أبي جعفر ، بمثله .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 331 ، 332 عن طريق إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي جعفر الرازي ، ولم يقل فيه : " قال أنس : وهو دين الله . . . ، بل ساقه مدرجا في الحديث ، ثم قال : " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، وافقه الذهبي ، إلا أنه استدرك عليه فقال : " صدر الخبر مرفوع ، وسائره مدرج فيما أرى " ، وصدق الذهبي .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " والعرض لهم " ، وهو بمعنى " التعرض " .

(14/136)


16478 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن إبراهيم بن أبي بكر : أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، أنها الأربعة التي قال الله : (فسيحوا في الأرض) ، قال : هي " الحُرم " ، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها. (1)
16479 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال : ضُرِب لهم أجلُ أربعة أشهر ، وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، لا تتركوهم يضربون في البلاد ، ولا يخرجوا لتجارة ، (2) ضَيِّقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو (3) (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ، .
16480 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، يعني : الأربعة التي ضربَ الله لهم أجلا لأهل العهد العامّ من المشركين (فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، الآية. (4)
* * *
__________
(1) الأثر : 16478 - " إبراهيم بن أبي بكر الأخنسي " ، ثقة ، مضى برقم : 10758 .
(2) في المطبوعة : " ولا يخرجون للتجارة " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المخطوطة : " بعد ما أمر بالعفو " ، وفي المطبوعة : " بعدها أمر بالعفو " ، وصواب السياق يقتضي ما أثبت ، وزيادة " ثم " .
(4) الأثر : 16480 - سيرة ابن هشام 3 : 189 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16472 ، قوله : " لأهل العهد العام من المشركين " ، من كلام أبي جعفر ، استظهارا مما سلف قبله في السيرة ، وفي رقم : 16356 .

(14/137)


وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

القول في تأويل قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن استأمنك ، يا محمد ، من المشركين ، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، أحدٌ ليسمع كلام الله منك وهو القرآن الذي أنزله الله عليه (فأجره) ، يقول : فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه (ثم أبلغه مأمنه) ، يقول : ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبَي أن يسلم ، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن " إلى مأمنه " ، يقول : إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك ، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين (1) (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) ، يقول : تفعل ذلك بهم ، من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن ، وردِّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم ، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة ، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا ، وما عليهم من الوِزْر والإثم بتركهم الإيمان بالله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16481 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإن أحد من المشركين استجارك) ، أي : من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم ، (فأجره). (2)
__________
(1) انظر تفسير " الأمن " فيما سلف 13 : 420 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 16481 - سيرة ابن هشام 4 : 189 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16480 .

(14/138)


16482 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (فأجره حتى يسمع كلام الله) ، أما " كلام الله " ، فالقرآن.
16483 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، قال : إنسان يأتيك فيسمع ما تقول ، ويسمع ما أنزل عليك ، فهو آمنٌ حتى يأتيك فيسمع كلام الله ، وحتى يبلغ مأمنه ، حيث جاءه. (1)
16484 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
16485 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : خرج رسوله الله صلى الله عليه وسلم غازيًا ، فلقي العدوَّ ، وأخرج المسلمون رجلا من المشركين وأشرعوا فيه الأسنّة ، فقال الرجل : ارفعوا عني سلاحكم ، وأسمعوني كلام الله ! فقالوا : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وتخلع الأنداد ، وتتبرأ من اللات والعزى! فقال : فإنّي أشهدكم أني قد فعلت.
16486 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ثم أبلغه مأمنه) ، قال : إن لم يوافقه ما تتلو عليه وتحدثه ، (2) فأبلغه. قال : وليس هذا بمنسوخ.
* * *
واختلفت في حكم هذه الآية ، وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ ؟
فقال بعضهم : هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول من قال ذلك.
* * *
وقال آخرون : هو منسوخ.
__________
(1) في المطبوعة : " حيث جاء " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ما تقول عليه وتحدثه " ، وفي المخطوطة فوق " تقول " حرف ( ط ) دلالة على الخطأ ، والصواب ما أثبت .

(14/139)


* ذكر من قال ذلك :
16487 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، نسختها : ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ، . [سورة محمد : 4]
16488 - ...... قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، مثله.
* * *
وقال آخرون : بل نسخ قوله : (فاقتلوا المشركين) ، قوله : ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ).
* ذكر من قال ذلك :
16489 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ) ، [سورة محمد : 4 ] نسخها قوله : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ،
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، قولُ من قال : " ليس ذلك بمنسوخ " . وقد دللنا على أن معنى " النسخ " ، هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. (1) ولم تصحّ حجةٌ بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال ، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ، ولا على وجه المنّ عليهم. فإذ كان ذلك كذلك ، وكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم ، (2) وذلك من يوم بدر كان معلومًا أن معنى الآية : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء ، واحصروهم. وإذا كان ذلك معناه ، صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله أبو جعفر في " النسخ " مرارا في فهارس الكتاب .
(2) في المطبوعة : " فكان الفداء " ، وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

(14/140)


كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

القول في تأويل قوله : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أنّى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله ، وبأيِّ معنى ، يكون للمشركين بربهم عهدٌ وذمة عند الله وعند رسوله ، يوفّى لهم به ، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد ؟ (1) وإنما معناه : لا عهد لهم ، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم ، إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم ، فإن الله جل ثناؤه أمرَ المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم ، والاستقامة لهم عليه ، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام).
فقال بعضهم : هم قوم من جذيمة بن الدُّئِل.
* ذكر من قال ذلك :
16490 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، هم بنو جذيمة بن الدُّئِل. (2)
__________
(1) انظر تفسير " العهد " و " المعاهدة " فيما سلف ص : 132 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء هنا " بنو جذيمة بن الدئل " ، وفي رقم : 16491 : " جذيمة بكر كنانة " . ولا أعلم في " الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة " ، " جذيمة " فإن " جذيمة كنانة " إنما هم : " بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة " ، أبناء عمومة " الدئل " ، و " بكر بن عبد مناة " .
وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة ، هم أهل الغميصاء ، الذين أوقع بهم خالد بن الوليد بعد الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليتلافى خطأ خالد بن الوليد ، فودي لهم الدماء وما أصيب من الأموال ، حتى إنه إنه ليدي لهم ميلغة الكلب .
( انظر سيرة ابن هشام 4 : 70 - 73 ) .

(14/141)


16491 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن عباد بن جعفر قوله : (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ، قال : هم جذيمة بكر كنانة. (1)
16492 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (كيف يكون للمشركين) ، الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام ، (2) بأن لا تخيفوهم ولا يخيفوكم في الحرمة ولا في الشهر الحرام (3) (عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية ، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريش ، وبنو الدُّئِل من بكر. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته (فما استقاموا لكم) ، الآية. (4)
* * *
وقال آخرون : هم قريش.
__________
(1) الأثر : 16491 - راجع التعليق السالف . وكان في المطبوعة : " بكر ، من كنانة " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " كانوا وأنتم " ، واثبتت ما في سيرة ابن هشام .
(3) في المطبوعة : " بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم " ، غير ما في المخطوطة ، لأنه لم يحسن قراءتها . والصواب ما في المخطوطة ، مطابقا لما في السيرة .
وقوله : " في الحرمة " ، يعني في مكة البلد الحرام ، وسائر مناسك الحج ، وهي بضم الحاء وسكون الراء . وهي من " الحرمة " ، وهو ما لا يحل انتهاكه . وقد قصرت كتب اللغة في إثبات لفظ " الحرمة " بهذا المعنى الذي فسرته ، وهو كثير في أخبارهم بالمعنى الذي ذكرت ، فأثبته هناك . ومن أجل هذا ظن الناشر أنه حين كتب " من الحرم " ، أن " الحرمة " لا تأتي بمعنى " الحرم " .
(4) الأثر : 16492 - سيرة ابن هشام 4 : 189 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16481 .

(14/142)


* ذكر من قال ذلك :
16493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس قوله : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، هم قريش.
16494 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يعني : أهل مكة.
16495 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يقول : هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة ، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلمَ الجزيةَ.(فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، يعني : أهل العهد من المشركين.
16496 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال : هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم ، وغدروا بهم فلم يستقيموا ، كما قال الله. فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر ، يختارون من أمرهم : إما أن يسلموا ، وإما أن يلحقوا بأيِّ بلاد شاؤوا. قال : فأسلموا قبل الأربعة الأشهر ، وقبل قَتْلٍ. (1)
16497 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال : هو يوم الحديبية ، (2) قال : فلم يستقيموا ، نقضوا عهدهم ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وقبل وقبل " ، ولا معنى له ، ولكنه في المخطوطة غير منقوط والصواب إن شاء الله ما أثبت .
(2) كان في المطبوعة : " هم قوم جذيمة " ، وهذا كلام فاسد كل الفساد . وفي المخطوطة :
" هم يوم الحديبية " ، وصواب قراءته ما أثبت . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية ، تواثبت بنو بكر بن عبد مناة فقالت : " نحن في عقد قريش وعهدهم " ، وتواثبت خزاعة فقالت : " نحن في عقد محمد وعهده " ( سيرة ابن هشام 3 : 332 ) . ثم كان بعد ذلك بمدة أن تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وهم حلف رسول الله ، فكان ذلك أحد الأسباب الموجبة المسير إلى مكة وفتحها . وهذا ما دل عليه سائر الخبر .

(14/143)


أي أعانوا بني بكرٍ حِلْفِ قريش ، على خزاعة حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال آخرون : هم قوم من خزاعة.
* ذكر من قال ذلك :
16498 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، قال : أهل العهد من خزاعة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي ، قولُ من قال : هم بعضُ بني بكر من كنانة ، ممن كان أقام على عهده ، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش ، حين نقضوه بمعونتهم حلفاءَهم من بني الدُّئِل ، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
* * *
وإنما قلتُ : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام ، ما استقاموا على عهدهم. وقد بينَّا أن هذه الآيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافرٌ يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده ، لأنّ من كان منهم من ساكني مكة ، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الآيات.
* * *
__________
(1) هو " حلفه " ، أي : حليفة ، وهو الذي بينه وبينه عهد .

(14/144)


كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

وأما قوله : (إن الله يحب المتقين) ، فإن معناه : إن الله يحب من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه ، والوفاء بعهده لمن عاهده ، واجتناب معاصيه ، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.
* * *
القول في تأويل قوله : { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم ، أيها المؤمنون ، عهد وذمة ، وهم (إن يظهروا عليكم) ، يغلبوكم (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة).
* * *
واكتفى بـ " كيف " دليلا على معنى الكلام ، لتقدم ما يراد من المعني بها قبلها. وكذلك تفعل العرب ، إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه ، استجازوا حذف الفعل ، كما قال الشاعر : (1)
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ فِي الْقُرَى... فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ (2)
فحذف الفعل بعد " كيف " ، لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام : فكيف يكون الموت في القرى ، وهذي هضبة وكثيب ، لا ينجو فيهما منه أحد.
* * *
__________
(1) هو كعب بن سعد الغنوي .
(2) الأصمعيات : 99 ، طبقات فحول الشعراء : 176 ، أمالي القالي : 151 ، جمهرة أشعار العرب : 135 ، ومعاني القرآن للفراء : 1 : 424 وغيرها كثير . وهي من أشهر المرائي وأنبلها . وكان لكعب بن سعد أخ يقال له " أبو المغوار " ، فأخذ المدينة وباء ، فنصحوه بأن يفر بأخيه من الأرض الوبيئة ، لينجو من طوارق الموت ، فلما خرج به إلى البادية هلك أخوه ، فتفجع عليه تفجع العربي النبيل .

(14/145)


واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة).
فقال بعضهم ، معناه : لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدًا.
* ذكر من قال ذلك :
16499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، [سورة التوبة : 10] ، قال : الله.
16500 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز في قوله : ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ) ، قال : مثل قوله : " جبرائيل " ، " ميكائيل " ، " إسرافيل " ، كأنه يقول : يضيف " جَبْر " و " ميكا " و " إسراف " ، إلى " إيل " ، (1) يقول : عبد الله (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول : لا يرقبون الله.
16501 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثني محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا ولا ذمة) ، لا يرقبون الله ولا غيره.
* * *
وقال آخرون : " الإلّ " ، القرابة.
* ذكر من قال ذلك :
16502 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ) ، يقول : قرابةً ولا عهدًا. وقوله : (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال : " الإل " ، يعني : القرابة ، و " الذمة " ، العهد.
16503 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) في المخطوطة : " كأنه يقول : يضاف جبر " ، وفي المخطوطة : " كأنه يقول جبر يضف جبر . . . " . وفي المخطوطة أيضا " سراف " بغير ألف .

(14/146)


قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، " الإلّ " ، القرابة ، و " الذمة " ، العهد ، يعني أهل العهد من المشركين ، يقول : ذمتهم.
16504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية وعبدة ، عن جويبر ، عن الضحاك ، " الإل " ، القرابة. (1)
16505 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا محمد بن عبد الله ، عن سلمة بن كهيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ) ، قال : " الإلّ " ، القرابة ، و " الذمة " ، العهد.
16506 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت ، الضحاك يقول في قوله : ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ) ، " الإل " ، القرابة ، و " الذمة " ، الميثاق.
16507 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (كيف وإن يظهروا عليكم) ، المشركون (لا يرقبوا فيكم) ، عهدًا ولا قرابة ولا ميثاقًا.
* * *
وقال آخرون : معناه : الحلف.
* ذكر من قال ذلك :
16508 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال : " الإل " ، الحلف ، و " الذمة " ، العهد.
* * *
وقال آخرون : " الإلّ " ، هو العهد ، ولكنه كرِّر لما اختلف اللفظان ، وإن كان معناهما واحدًا.
__________
(1) الأثر : 16504 - في المطبوعة : " عن حوشب ، عن الضحاك " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب وهذا إسناد مضى مثله مرارا .

(14/147)


* ذكر من قال ذلك :
16509 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا) ، قال : عهدًا.
16510 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال : لا يرقبوا فيكم عهدًا ولا ذمة. قال : إحداهما من صاحبتها كهيئة " غفور " ، " رحيم " ، قال : فالكلمة واحدة ، وهي تفترق. قال : والعهد هو " الذمة " .
16511 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن مجاهد(ولا ذمة) ، قال : العهد.
16512 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد : (ولا ذمة) ، قال : " الذمة " ، العهد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيَّه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد : أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم " إلا " .
و " الإلّ " : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد ، والعقد ، والحلف ، والقرابة ، وهو أيضا بمعنى " الله " . فإذْ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خصّ من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يُعَمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة ، فيقال : لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ ، ولا قرابةً ، ولا عهدًا ، ولا ميثاقًا.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى " القرابة " قول ابن مقبل :
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا... قَطَعُوا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ (1)
__________
(1) من أبيات مفرقة ، لم أجدها مجموعة في مكان ، وهذا بيت لم أجده أيضا في مكان آخر .
و " خلوف " جمع " خلف " ( بفتح فسكون ) ، وهو بقية السوء والأشرار تخلف من سبقها. وفي المخطوطة : " أخلفوا " بالألف ، والصواب ما في المطبوعة . و " الأعراق " جمع " عرق " وعرق كل شيء : أصله الذي منه ثبت . ويقال منه : " تداركه أعراق خير ، وأعراق شر " .

(14/148)


بمعنى : قطعوا القرابة ، وقول حسان بن ثابت :
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ (1)
وأما معناه إذا كان بمعنى " العهد " ، فقول القائل : (2)
وَجَدْنَاهُمُ كَاذِبًا إلُّهُمْ... وَذُو الإلِّ وَالْعَهْدِ لا يَكْذِبُ
* * *
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين : أن " الإلّ " ، و " العهد " ، و " الميثاق " ، و " اليمين " واحد وأن " الذمة " في هذا الموضع ، التذمم ممن لا عهد له ، والجمع : " ذِمَم " . (3)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول : عنى بهذه الآية أهل العهد العام.
16513 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (كيف وإن يظهروا عليكم) ، أي : المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد
__________
(1) ديوانه : 407 ، واللسان ( ألل ) ، من أبيات هجا بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخوه من الرضاعة ، وكان ممن يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أبو سفيان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، ويهجوه ، ويؤذي المسلمين ، فانبرى له حسان فأخذ منه كل ما أخذ . ثم أسلم في فتح مكة ، وشهد حنينا ، وثبت فيمن ثبت مع نبي الله ، وظل آخذا بلجام بغلة رسول الله يكفها ورسول الله يركضها إلى الكفار. ثم ظل أبو سفيان بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله حياء منه .
ولكن كان من هجاء حسان له ، بعد البيت : فَإنَّكَ إِن تَمُتَّ إلى قُرَيْشٍ ... كَذَاتِ البَوِّ جائِلَةَ المَرَامِ
وَأَنْتَ مُنَوَّطٌ بِهِمُ هَجِينٌ ... كما نِيطَ السَّرَائِحُ بالخِدَامِ
فَلا تَفْخَر بِقَوْمٍ لَسْتَ مِنْهُمْ ... ولا تَكُ كاللِّئَامِ بَنِي هِشامِ
" السقب " ، ولد الناقة ساعة يولد . و " الرأل " ، ولد النعام . يقول : ما قرابتك في قريش ، إلا كقرابة الفصيل ، من ولد النعام ! .
(2) لم أعرف قائله .
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 253 .

(14/149)


اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)

العام (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة). (1)
* * *
فأما قوله : (يرضونكم بأفواههم) ، فإنه يقول : يعطونكم بألسنتهم من القول ، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء (2) (وتأبى قلوبهم) ، أي : تأبَى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم ، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين ، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله ، وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه (وأكثرهم فاسقون) ، يقول : وأكثرهم مخالفون عهدَكم ، ناقضون له ، كافرون بربهم ، خارجون عن طاعته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله ، أيها المؤمنون ، بقتلهم حيث وجدتموهم ، بتركهم اتباعَ ما احتج الله به عليهم من حججه ، يسيرًا من العوض قليلا من عرض الدنيا. (4)
* * *
وذلك أنهم ، فيما ذُكر عنهم ، كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول
__________
(1) الأثر : 16513 - سيرة ابن هشام 4 : 189 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16492 .
(2) انظر تفسير " بدت البغضاء من أفواههم " 7 : 145 - 147 / و " يقولون بأفواههم " 7 : 378 / و " قالوا آمنا بأفواههم " ، 10 : 301 - 308 .
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسق ) .
(4) انظر تفسير " اشترى " فيما سلف 10 : 344 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
و تفسير " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة " ( أيي) .
وتفسير " الثمن القليل " فيما سلف 10 : 344 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/150)


لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

الله صلى الله عليه وسلم بأكلةٍ أطعمهموها أبو سفيان بن حرب.
16514 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا) ، قال : أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه ، وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
16515 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وأما قوله : (فصدوا عن سبيله) ، فإن معناه : فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام ، وحاولوا ردَّ المسلمين عن دينهم (1) (إنهم ساء ما كانوا يعلمون) ، يقول جل ثناؤه : إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم ، ساء عملهم الذي كانوا يعملون ، من اشترائهم الكفرَ بالإيمان ، والضلالة بالهدى ، وصدهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله ، أو من أراد أن يؤمن. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم ، أيها المؤمنون ، بقتلهم حيث وجدتموهم ، في قتل مؤمن لو قدورا عليه (إلا ولا ذمة) ، يقول : فلا تبقوا عليهم ، أيها المؤمنون ، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم (3) (وأولئك هم المعتدون) ، يقول : المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 13 : 581 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " في سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(2) انظر تفسير " ساء " فيما سلف 13 : 275 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الإل " و " الذمة " فيما سلف قريبا ص : 145 - 149 .
(4) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف 13 : 182 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/151)


فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)

القول في تأويل قوله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم ، أيها المؤمنون ، بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله ، إلى الإيمان به وبرسوله ، وأنابوا إلى طاعته (وأقاموا الصلاة) ، المكتوبة ، فأدّوها بحدودها (وآتوا الزكاة) ، المفروضة أهلَها (1) (فإخوانكم في الدين) ، يقول : فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به ، وهو الإسلام (ونفصل الآيات) ، يقول : ونبين حجج الله وأدلته على خلقه (2) (لقوم يعلمون) ، ما بُيِّن لهم ، فنشرحها لهم مفصلة ، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16516 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، يقول : إن تركوا اللات والعزّى ، وشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون).
16517 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ،
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " و " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " في فهارس اللغة ( توب ) ، ( قوم ) ، ( أتى ) .
(2) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف 13 : 252 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيى ) .

(14/152)


وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

عن رجل ، عن ابن عباس : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ، قال : حرَّمت هذه الآية دماءَ أهل القِبْلة.
16518 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. وقرأ : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال : رحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه.
16519 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له.
* * *
وقيل : (فإخوانكم) ، فرفع بضمير : " فهم إخوانكم " ، إذ كان قد جرى ذكرهم قبل ، كما قال : ( فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ، [سورة الأحزاب : 5] ، فهم إخوانكم في الدين. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش ، عهودَهم من بعد ما عاقدوكم أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم (2) (وطعنوا في دينكم) ، يقول : وقدَحوا في دينكم الإسلام ،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 425 .
(2) انظر تفسير " نكث " فيما سلف 13 : 73 .

(14/153)


فثلبوه وعابوه (1) (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يقول : فقاتلوا رؤساء الكفر بالله (2) (إنهم لا أيمان لهم) ، يقول : إن رؤساء الكفر لا عهد لهم (3) (لعلهم ينتهون) ، لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم. (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، على اختلاف بينهم في المعنيِّين بأئمة الكفر.
فقال بعضهم : هم أبو جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة يقول : لم يأت أهلها بعدُ.
* ذكر من قال : هم من سمَّيتُ :
16520 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى : (لعلهم ينتهون) ، يعني أهل العهد من المشركين ، سماهم " أئمة الكفر " ، وهم كذلك. يقول الله لنبيه : وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، فقاتلهم ، أئمةُ الكفر لا أيمان لهم (5) (لعلهم ينتهون).
16521 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى : (ينتهون) ، فكان من أئمة الكفر : أبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو سفيان ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين همُّوا بإخراجه.
16522 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ،
__________
(1) في المطبوعة : " فثلموه " ، والصواب من المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الإمام " فيما سلف 3 : 18 .
(3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف 8 : 272 ، 273 ، 281 .
(4) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 13 : 543 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(5) أثبتت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض ، وصححها في المطبوعة هكذا ، كما ظن : " فقاتل أئمة الكفر لأنهم لا أيمان له " فزاد وغير ! ! .

(14/154)


عن قتادة : (أئمة الكفر) ، أبو سفيان ، وأبو جهل ، وأمية بن خلف ، وسهيل بن عمرو ، وعتبة بن ربيعة.
16523 - حدثنا ابن وكيع وابن بشار قال ، ابن وكيع ، حدثنا غندر وقال ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد : (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال : أبو سفيان منهم.
16524 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن نكثوا أيمانهم) ، إلى : (ينتهون) ، هؤلاء قريش. يقول : إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام ، وطعنوا فيه ، فقاتلهم. (1)
16525 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يعني رؤوسَ المشركين ، أهلَ مكة.
16526 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (فقاتلوا أئمة الكفر) ، أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين نكثوا عهد الله ، وهمُّوا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوَّله أهل الشبهات والبدع والفِرَى على الله وعلى كتابه. (2)
* * *
* ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه :
16527 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة : (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال : ما قوتل أهلُ هذه الآية بعدُ. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فقاتلوهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) " الفرى " ( بكسر ففتح ) جمع " فرية " ، وهي الكذب . ويعني بذلك الخوارج ، فهم يستدلون بهذه الآية على قتال من خالفهم من أهل القبلة ، ويستحلون بها دماءهم وأموالهم .
(3) الأثر : 16527 - " زيد بن وهب الهمداني الجهني " ، تابعي مخضرم ، سمع عمر ، وعبد الله ، وحذيفة ، وأبا الدرداء . روى له الجماعة . مضى برقم : 4222 .
وهذا الخبر رواه البخاري مطولا ( الفتح 8 : 243 ) ، بغير هذا اللفظ ، من طريق محمد بن المثني ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن زيد بن وهب قال ، كنا عند حذيفة . . . "
وانظر الآثر التالي ، والذي بعده .

(14/155)


16528 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا حبيب بن حسان ، عن زيد بن وهب قال : كنت عند حذيفة ، فقرأ هذه الآية : (فقاتلوا أئمة الكفر) ، فقال : ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (1)
16529 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب قال : قرأ حذيفة : (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (2)
16530 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر : (إنهم لا أيمان لهم) ، لا عهد لهم. (3)
16531 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (وإن نكثوا أيمانهم) ، قال : عهدهم.
16532 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن نكثوا أيمانهم) ، عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام.
16533 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن عمار بن ياسر ، في قوله : (لا أيمان لهم) ، قال : لا عهد لهم. (4)
__________
(1) الأثر 16528 - مكرر الأثر السالف ، وانظر تخريجه هناك . و " حبيب بن حسان " ، هو " حبيب بن أبي الأشرس " ، وهو " حبيب بن أبي هلال " ، منكر الحديث ، متروك قال ابن حبان : " منكر الحديث جدا ، وكان قد عشق نصرانية ، فقيل إنه تنصر وتزوج بها . فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح " . وقال يحيى بن معين : " كانت له جاريتان نصرانيتان ، فكان يذهب معهما إلى البيعة " .
مترجم في الكبير 1 / 2 / 311 ، وميزان الاعتدال 1 : 209 ، 211 ، ولسان الميزان 2 : 167 ، 170 .
(2) الأثر : 16529 - مكرر الأثرين السالفين .
(3) الأثر : 16530 - " صلة ابن زفر العبسي " تابعي ثقة . روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 322 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446 .
وانظر رقم : 16533 ، مرفوعا إلى عمار بن ياسر . ورقم : 16534 مرفوعا إلى حذيفة .
(4) الأثر : 16533 - مكرر الأثر رقم 16530 ، مرفوعا إلى عمار بن ياسر .
و " صلة " ، هو " صلة بن زفر العبسي " كما سلف .

(14/156)


16534 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة في قوله : (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال : لا عهد لهم. (1)
* * *
وأما " النكث " فإن أصله النقض ، يقال منه : " نكث فلان قُوَى حبله " ، إذا نقضها. (2)
* * *
و " الأيمان " : جمع " اليمين " . (3)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (إنهم لا أيمان لهم).
فقرأه قرأة الحجاز والعراق وغيرهم : ( إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ، بفتح الألف من " أيمان " بمعنى : لا عهود لهم ، على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : (إِنَّهُمْ لا إِيمَانَ لَهُمْ) ، بكسر الألف ، بمعنى : لا إسلام لهم.
* * *
وقد يتوجَّه لقراءته كذلك وجهٌ غير هذا. وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك : أنهم لا أمان لهم أي : لا تؤمنوهم ، ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم كأنه أراد المصدر من قول القائل : " آمنته فأنا أومنه إيمانًا " . (4)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ، الذي لا أستجيز القراءة بغيره ، قراءة من قرأ بفتح " الألف " دون كسرها ، لإجماع الحجة من القرأة على
__________
(1) الأثر : 16534 - مكرر الأثرين السالفين مرفوعا إلى حذيفة .
(2) انظر تفسير " النكث " فيما سلف ص : 153 ، وتعليق : 2 والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف ص : 154 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 425 .

(14/157)


أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

القراءة به ، ورفض خلافه ، ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله : لا عهد لهم و " الأيمان " التي هي بمعنى العهد ، لا تكون إلا بفتح " الألف " ، لأنها جمع " يمين " كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله ، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين : (ألا تقاتلون) ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم ، وطعنوا في دينكم ، وظاهروا عليكم أعداءكم ، (1) (وهموا بإخراج الرسول) ، من بين أظهرهم فاخرجوه (2) (وهم بدءوكم أول مرة) ، بالقتال ، يعني فعلهم ذلك يوم بدر ، وقيل : قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة (أتخشونهم) ، يقول : أتخافونهم على أنفسكم فتتركوا قتالهم خوفًا على أنفسكم منهم (3) (فالله أحق أن تخشوه) ، يقول : فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم ، وتحذروا سخطه عليكم ، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله (إن كنتم مؤمنين) ، يقول : إن كنتم مقرِّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النكث " ، ص : 157 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الهم " فيما سلف 9 : 199 / 10 : 100 .
(3) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 10 ، 344 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/158)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16535 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) ، من بعد عهدهم (وهموا بإخراج الرسول) ، يقول : هموا بإخراجه فأخرجوه (وهم بدأوكم أول مرة) ، بالقتال.
16536 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وهم بدأوكم أول مرة) ، قال : قتال قريش حلفاءَ محمد صلى الله عليه وسلم.
16537 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
16538 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16539 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص ، (1) ومن كان من أهل العهد العامّ ، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدُوَ فيها عادٍ منهم ، فيقتل بعدائه ، (2) ثم قال : (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) ، إلى قوله : (والله خبير بما تعملون). (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " الخاص " وأثبتها من ابن هشام .
(2) في المطبوعة : " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد ثم قال " ، وهو كلام لا معنى له البتة وفي المخطوطة : " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقتل بعدائه ، فقال " ، وقد دخلها تحريف شديد ، فقوله : " يعودوا " ، هو تحريف : " يعدو " و " على دينهم " ، صوابها " عاد منهم " ، فأساء كتابتها ، والصواب من سيرة ابن هشام .
(3) الأثر : 16539 - سيرة ابن هشام 4 : 191 ، وهو تابع الأثر السالف قديما رقم : 16377 .

(14/159)


قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)

القول في تأويل قوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قاتلوا ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم ، وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم (يعذبهم الله بأيديكم) ، يقول : يقتلهم الله بأيديكم (ويخزهم) ، يقول : ويذلهم بالأسر والقهر (1) (وينصركم عليهم) ، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، يقول : ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله ، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم ، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء ، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه.
* * *
وقيل : إن الله عنى بقوله : (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، : صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
16540 - حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية : (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال : خزاعة.
16541 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي : (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال : خزاعة ، يشف صدورهم من بني بكر.
__________
(1) انظر تفسير " الإخزاء " فيما سلف ص : 112 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/160)


وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

16542 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله.
16543 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
16544 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال : حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
16545 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) }
قال أبو جعفر : يقول الله تعالى ذكره : ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة ، (1) على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين ، وغمَّها وكربَها بما فيها من الوجد عليهم ، بمعونتهم بكرًا عليهم ، (2) كما : -
16546 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي : (ويذهب غيظ قلوبهم) ، حين قتلهم بنو بكر ، وأعانتهم قريش.
__________
(1) انظر تفسير " الإذهاب " فيما سلف 12 : 126 تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7 : 215 .

(14/161)


16547 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله إلا أنه قال : وأعانتهم عليهم قريش. (1)
* * *
وأما قوله : (ويتوب الله على من يشاء) ، فإنه خبر مبتدأ ، ولذلك رفع ، وجُزِم الأحرفُ الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة ، كأنه قال : قاتلوهم ، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم ، وينصركم عليهم ثم ابتدأ فقال : (ويتوب الله على من يشاء) ، لأن القتال غير موجب لهم التوبةَ من الله ، وهو موجبٌ لهم العذابَ من الله ، والخزيَ ، وشفاءَ صدور المؤمنين ، وذهابَ غيظ قلوبهم ، فجزم ذلك شرطًا وجزاءً على القتال ، ولم يكن موجبًا القتالُ التوبةَ ، فابتُدِئ الخبرُ به ورُفع. (2)
* * *
ومعنى الكلام : ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين ، فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه (والله عليم) ، بسرائر عباده ، ومَنْ هو للتوبة أهلٌ فيتوب عليه ، ومَنْ منهم غير أهل لها فيخذله (حكيم) ، في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيقه من وفَّقه لذلك (3) ومن حال إيمان إلى كفر ، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده ، (4) وغير ذلك من أمرهم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأعانهم " ، وفي المخطوطة : " وأعلسهم ، وصواب قراءتها ما أثبت . "
(2) في المطبوعة : " فابتدأ الحكم به " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " بتوفيق " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) السياق : " في تصريف عباده من حال كفر . . . ومن حال إيمان " .
(5) انظر تفسير " تاب " ، و " عليم " ، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) ، ( علم ) ، ( حكم ) .

(14/162)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

القول في تأويل قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين ، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله : (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ، الآية ، حاضًّا على جهادهم : (أم حسبتم) ، أيها المؤمنون (1) أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها ، وبغير اختبار يختبركم به ، فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه (ولما يعلم الله الذين جاهدوا) ، يقول : أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله ، من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين (2) (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله) ، يقول : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين (وليجة).
* * *
هو الشيء يدخل في آخر غيره ، يقالُ منه : " ولج فلان في كذا يلجِه ، فهو وليجة " . (3)
* * *
وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء ، يفشون إليهم أسرارهم (والله خبير بما تعملون) ، يقول : والله ذو خبرة بما تعملون ، (4) من اتخاذكم من دون الله
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف 12 : 388 ، تعليق 3 : والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 77 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) في المخطوطة : " ولج في فلان كذا " ، والذي في المطبوعة أجود .
(4) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة ( خبر ) .

(14/163)


ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً ، بعد ما قد نهاكم عنه ، لا يخفى ذلك عليه ، ولا غيره من أعمالكم ، والله مجازيكم على ذلك ، إن خيرًا فخيرًا ، وإن شرًّا فشرًّا.
* * *
وبنحو الذي قلت في معنى " الوليجة " ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16548 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (ولا المؤمنين وليجة) ، يتولّجها من الولاية للمشركين.
16549 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : (وليجة) ، قال : دَخَلا.
16550 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (أم حسبتم أن تتركوا) ، إلى قوله : (وليجة) ، قال : أبي أن يدعهم دون التمحيص. وقرأ : ( " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " ، وقرأ : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) ، [سورة آل عمران : 142] ، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) ، الآيات كلها ، (1) [سورة البقرة 214] أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحِّصهم ويختبرهم. وقرأ : ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) ، لا يختبرون( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) ، [سورة العنكبوت : 1 - 3] ، أبى الله إلا أن يمَحِّص.
16551 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (وليجة) ، قال : هو الكفر والنفاق أو قال أحدَهما.
* * *
__________
(1) صدر هذه الآية ، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة ، كان بدؤها " ولم يأتكم . . . " .

(14/164)


مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)

وقيل : (أم حسبتم) ، ولم يقل : " أحسبتم " ، لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ، فأدخلت فيه " أم " ليفرَّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. وقد بينت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول : إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها ، لا للكفر به ، فمن كان بالله كافرًا ، فليس من شأنه أن يعمُرَ مساجد الله.
* * *
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فإنها كما : -
16552 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، يقول : ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما(شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، فإن النصراني يسأل : ما أنت ؟ فيقول : نصراني واليهودي ، فيقول : يهودي والصابئ ، فيقول : صابئ والمشرك يقول إذا سألته : ما دينك ؟ فيقول : مشرك ! لم يكن ليقوله أحدٌ إلا العرب.
16553 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو العنقزي ، عن أسباط ، عن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " أم " 2 : 492 - 494 / 3 : 97 / 4 : 287 ، 288 ، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1 : 426 .

(14/165)


السدي : (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، قال : يقول : ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.
16554 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، قال : النصراني يقال له : ما أنت ؟ فيقول : نصراني واليهودي يقال له : ما أنت ؟ فيقول : يهودي والصابئ يقال له : ما أنت ؟ فيقول : صابئ.
* * *
وقوله : (أولئك حبطت أعمالهم) ، يقول : بطلت وذهبت أجورها ، لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان (1) (وفي النار هم خالدون) ، يقول : ماكثون فيها أبدًا ، لا أحياءً ولا أمواتًا. (2)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( مساجد الله ) ، على الجماع. (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : (مَسْجِدَ اللهِ) ، على التوحيد ، بمعنى المسجد الحرام.
* * *
قال أبو جعفر : وهم جميعًا مجمعون على قراءة قوله : (4) ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) ، على الجماع ، لأنه إذا قرئ كذلك ، احتمل معنى الواحد والجماع ، لأن العرب
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 113 : 116 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(3) في المطبوعة : " على الجمع " ، وأثبت ما في المخطوطة ، في هذا الموضوع ما يليه جميعا .
(4) يعني أبو جعفر أن جميع القرأة مجمعون على قراءة الآية التالية : " إنما يعمر مساجد الله " ، على الجماع ، بلا خلاف بينهم في ذلك ولذلك زدت تمام الآية ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " مساجد الله " ، دون : " إنما يعمر " .

(14/166)


إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

قد تذهب بالواحد إلى الجماع ، وبالجماع إلى الواحد ، كقولهم : " عليه ثوب أخلاق " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (إنما يعمر مساجد الله) ، المصدِّق بوحدانية الله ، المخلص له العبادة (واليوم الآخر) ، يقول : الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة (2) (وأقام الصلاة) ، المكتوبة ، بحدودها وأدَّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له (3) (ولم يخش إلا الله) ، يقول : ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه ، سوى الله (4) (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، يقول : فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم ، أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب. (5)
16555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، يقول : من وحَّد الله ، وآمن باليوم الآخر. يقول : أقرّ بما أنزل
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 426 ، 427 .
(2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة ( آخر ) .
(3) انظر تفسير " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة ( قوم ) ، ( أتى ) .
(4) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف ص : 158 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " عسى " فيما سلف 13 : 45 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .

(14/167)


أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

الله (وأقام الصلاة) ، يعني الصلوات الخمس (ولم يخش إلا الله) ، يقول : ثم لم يعبد إلا الله قال : (فعسى أولئك) ، يقول : إن أولئك هم المفلحون ، كقوله لنبيه : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) ، [سورة الإسراء : 79] : يقول : إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا ، وهي الشفاعة ، وكل " عسى " ، في القرآن فهي واجبة.
16556 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم ذكر قول قريش : إنَّا أهلُ الحرم ، وسُقاة الحاج ، وعُمَّار هذا البيت ، ولا أحد أفضل منا! فقال : (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، أي : إن عمارتكم ليست على ذلك ، (إنما يعمر مساجد الله) ، أي : من عمرها بحقها (من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) فأولئك عمارها (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، و " عسى " من الله حق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) }
قال أبو جعفر : وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت ، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله ، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 16556 - سيرة ابن هشام 4 : 192 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16539 .
(2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/168)


وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16557 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ! وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال : ففعل ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله : (والله لا يهدي القوم الظالمين). (1)
16558 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) الأثر : 16557 - " أحمد بن عبد الرحمن بن بكار القرشي ، الدمشقي " ، " أبو الوليد " ، شيخ الطبري ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 11416 .
و " الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي " ، سلف مرارا ، آخرها رقم : 9071 روى له الجماعة .
و " معاوية بن سلام بن أبي سلام ممطور الحبشي " ، " أبو سلام الدمشقي " ، روى له الجماعة ، روى عن جده أبي سلام. مترجم في التهذيب ، والكبير 4 /1 / 335 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 383 .
و " أبو سلام الأسود " واسمه " ممطور " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 15654 ، 15655 .
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه ( 13 : 25 ، 26 ) ، من طريق أبي توبة ، عن معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام ، أنه سمع أبا سلام قال : حدثني النعمان بن بشير ، ثم رواه من طريق يحيى بن حسان ، عن معاوية ، عن زيد ، بمثله .
وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 131 ، ونسبه لأبي داود ، ولم استطع أن عليه في السنن .
وزاد السيوطي في الدر المنثور 3 : 218 نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه .
وسيأتي بإسناد آخر رقم : 16560 ، من طريق أخرى مرسلة .

(14/169)


معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني ! (1) قال الله : (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله : (الظالمين) ، يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك.
16559 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله : (الظالمين) ، وذلك أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون ، (2) من أجل أنهم أهله وعُمَّاره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : ( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) [سورة المؤمنون : 66 ، 67] ، يعني أنهم يستكبرون بالحرم. وقال : (به سامرًا) ، لأنهم كانوا يسمرون ، ويهجرون القرآن والنبيَّ صلى الله عليه وسلم. فخيَّر الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم ، على عمران المشركين البيتَ وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به ، أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال الله : ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله " ظالمين " ، بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئًا.
16560 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير ، عن النعمان بن بشير ، أن رجلا قال : ما أبالي أن لا
__________
(1) " العاني " ، الأسير .
(2) في المطبوعة : " يستكبرون به " ، بزيادة " به " ، وليست في المخطوطة ، وفيها " يستكثرون " وهو خطأ .

(14/170)


أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج ! وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أعمر المسجد الحرامَ ! وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم! فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه! فنزلت : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، إلى قوله : (لا يستوون عند الله) ، (1)
16561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن قال : نزلت في علي ، وعباس ، وعثمان ، وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرًا.
16562 - ... قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : نزلت في علي ، والعباس ، تكلما في ذلك.
16563 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرت عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة ، أنا صاحب البيت ، معي مفتاحه ، لو أشاء بِتُّ فيه ! وقال عباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بِتُّ في المسجد ! وقال علي : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ! فأنزل الله : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، الآية كلها.
16564 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن قال : لما نزلت(أجعلتم سقاية الحاج) ، قال العباس :
__________
(1) الأثر 16560 - " يحيى بن أبي كثير الطافي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، روى عن زيد بن سلام بن أبي سلام ، وأرسل عن أبي سلام الحبشي وغيره وهذا من مرسله عن النعمان بن بشير ، أو عن أبي سلام . وقد مضى برقم : 9189 ، 11505 - 11507 .

(14/171)


ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا " .
16565 - حدثني محمد بن الحسن قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) ، قال : افتخر علي ، وعباس ، وشيبة بن عثمان ، فقال للعباس : أنا أفضلكم ، أنا أسقي حُجَّاج بيت الله ! وقال شيبة : أنا أعمُر مسجد الله ! وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجاهد معه في سبيل الله ! فأنزل الله : (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى : (نعيم مقيم).
16566 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية ، أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسرُوا يوم بدر يعيِّرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنَّا نَعمُر المسجدَ الحرام ، ونفُكُّ العاني ، ونحجب البيتَ ، ونسقي الحاج ! فأنزل الله : (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية.
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : أجعلتم ، أيها القوم ، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله (لا يستوون) هؤلاء ، وأولئك ، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما ، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملا (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول : والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا.
* * *
ووضع الاسم موضع المصدر في قوله : (كمن آمن بالله) ، إذ كان معلومًا

(14/172)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

معناه ، كما قال الشاعر : (1)
لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي (2)
فجعل خبر " الفتيان " ، " أن " ، وهو كما يقال : " إنما السخاء حاتم ، والشعر زهير " .
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }
قال أبو جعفر : وهذا قضاءٌ من الله بَيْن فِرَق المفتخرين الذين افتخرَ أحدهم بالسقاية ، والآخرُ بالسِّدانة ، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره : (الذين أمنوا) بالله ، وصدقوا بتوحيده من المشركين (وهاجروا) دورَ قومهم (3) (وجاهدوا) المشركين في دين الله (4) (بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) ، وأرفع منزلة عنده ، (5) من سُقَاة الحاج وعُمَّار المسجد الحرام ، وهم بالله مشركون (وأولئك) ، يقول : وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم ، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا (هم الفائزون) ، بالجنة ، الناجون من النار. (6)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 427 ، شرح شواهد المغني : 325 . و " الندي " ، السخي .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 427 .
(4) انظر تفسير " هاجر " فيما سلف ص : 81 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " جاهد " فيما سلف ص : 163 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(6) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف : 13 : 389 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/173)


يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)

القول في تأويل قوله : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله (1) (ربُّهم برحمة منه) ، لهم ، أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم ، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه ، وأدائهم ما كلَّفهم (2) (وجنات) ، يقول : وبساتين (3) (لهم فيها نعيم مقيم) ، لا يزول ولا يبيد ، ثابت دائمٌ أبدًا لهم. (4)
16567 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله سبحانه : أُعطيكم أفضل من هذا ، فيقولون : ربَّنا ، أيُّ شيء أفضل من هذا ؟ قال : رِضْواني. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 11 : 286 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص : 131 تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الرضوان " فيما سلف 11 : 245 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " النعيم " فيما سلف 10 : 461 ، 462 .
وتفسير " مقيم " فيما سلف 10 : 293 .
(5) الأثر : 16567 - مضى هذا الخبر بإسناده ولفظه ، وسلف تصحيحه برقم : 651 ( ج 6 : 262 ) . وكان في المطبوعة : " أبو أحمد الموسوي " ، خطأ محض ، لم يحسن قراءة المخطوطة .

(14/174)


خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

القول في تأويل قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره (خالدين فيها) ، ماكثين فيها ، يعنى في الجنات (1) (أبدا) ، لا نهاية لذلك ولا حدَّ (2) (إن الله عنده أجر عظيم) ، يقول : إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتَهم جل ثناؤه النعتَ الذي ذكر في هذه الآية (أجر) ، ثواب على طاعتهم لربّهم ، وأدائهم ما كلفهم من الأعمال (3) (عظيم) ، وذلك النعيم الذي وعدَهم أن يعطيهم في الآخرة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم ، وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله ، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام (5) (إن استحبُّوا الكفر على الإيمان) ، يقول : إن اختاروا الكفر بالله ، على التصديق به والإقرار
__________
(1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(2) انظر تفسير " أبدًا " فيما سلف 11 : 244 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة ( أجر ) .
(4) انظر تفسير " عظيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( عظم ) .
(5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .

(14/175)


بتوحيده (ومن يتولهم منكم) ، يقول : ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين ، ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام (1) (فأولئك هم الظالمون) ، يقول : فالذين يفعلون ذلك منكم ، هم الذين خالفوا أمرَ الله ، فوضعوا الولاية في غير موضعها ، وعصوا الله في أمره. (2)
* * *
وقيل : إن ذلك نزل نهيًا من الله المؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
16568 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، قال : أمروا بالهجرة ، فقال العباس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاج! وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا صاحب الكعبة ، فلا نهاجر ! فأنزلت : (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) ، إلى قوله : (يأتي الله بأمره) ، بالفتح ، في أمره إياهم بالهجرة. هذا كله قبل فتح مكة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ) .

(14/176)


قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

القول في تأويل قوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) }
قال أبو جعفر : يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) يا محمد ، للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام ، المقيمين بدار الشرك : إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وكانت(أموال اقترفتموها) ، يقول : اكتسبتموها (1) (وتجارة تخشون كسادها) ، بفراقكم بلدَكم (ومساكن ترضونها) ، فسكنتموها (أحب إليكم) ، من الهجرة إلى الله ورسوله ، من دار الشرك ومن جهاد في سبيله ، يعني : في نصرة دين الله الذي ارتضاه (2) (فتربصوا) ، يقول : فتنظّروا (3) (حتى يأتي الله بأمره) ، حتى يأتي الله بفتح مكة (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول : والله لا يوفّق للخير الخارِجين عن طاعته وفي معصيته. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الاقتراف " فيما سلف 12 : 76 : 173 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف من : 173 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(3) انظر تفسير " التربص " فيما سلف 9 ؛ 323 : تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
وتفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسق )

(14/177)


لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

16569 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (حتى يأتي الله بأمره) ، بالفتح.
16570 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ، فتح مكة.
16571 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها) ، يقول : تخشون أن تكسد فتبيعوها (ومساكن ترضونها) ، قال : هي القصور والمنازل.
16572 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وأموال اقترفتموها) ، يقول : أصبتموها.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (لقد نصركم الله) ، أيها المؤمنون في أماكن حرب توطِّنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة (ويوم حنين) ، يقول : وفي يوم حنين أيضًا قد نصركم.
* * *
و(حنين) وادٍ ، فيما ذكر ، بين مكة والطائف. وأجرِيَ ، لأنه مذكر اسم لمذكر. وقد يترك إجراؤه ، ويراد به أن يجعل اسمًا للبلدة التي هو بها ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأَبْطَالِ (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 429 .
(2) هو حسان بن ثابت .
(3) ديوانه : 334 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 429 ، واللسان ( حنن ) ، وسيأتي في التفسير 16 : 111 ( بولاق ) ، وهو بيت مفرد .
وقوله : " تواكل الأبطال " ، من قولهم : " تواكل القوم " ، إذا اتكل بعضهم على بعض ، ولم يعفه في مأزق الحرب . وفي الحديث أنه نهى عن المواكلة ، وهو : أن يكل كل امرئ صاحبه إلى نفسه ، فلا يعينه فيما ينويه ، وهو مفض إلى الضعف والتقاطع وفساد الأمور ، أعاذنا الله من كل ذلك .

(14/178)


16573 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : " حُنَين " ، واد إلى جنب ذي المجاز. (1)
* * *
(إذ أعجبتكم كثرتكم) ، وكانوا ذلك اليوم ، فيما ذكر لنا ، اثنى عشر ألفًا.
* * *
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم : لن نغلب من قِلَّة.
* * *
وقيل : قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهو قول الله : (إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا) ، يقول : فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا (2) (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) ، يقول : وضاقت الأرض بسعتها عليكم.
* * *
و " الباء " ههنا في معنى " في " ، ومعناه : وضاقت عليكم الأرض في رحبها ، وبرحبها. (3)
* * *
يقال منه : " مكان رحيب " ، أي واسع. وإنما سميت الرِّحاب " رحابًا " لسَعَتَها.
* * *
(ثم وليتم مدبرين) ، عن عدوكم منهزمين " مدبرين " ، يقول : وليتموهم ، الأدبار ، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده ، وأنه ليس
__________
(1) الأثر : 16572 - هو جزء من كتاب عروة ، إلى عبد الملك بن مروان ، الذي خرجته فيما سلف رقم : 16083 ، ورواه الطبري في تاريخه ، في أثناء خبر طويل 2 : 125 .
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف : 13 : 445 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 430 .

(14/179)


بكثرة العدد وشدة البطش ، وأنه ينصر القليلَ على الكثير إذا شاء ، ويخلِّي الكثيرَ والقليلَ ، فَيهْزِم الكثيرُ. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16574 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين) ، حتى بلغ : (وذلك جزاء الكافرين) ، قال : " حنين " ، ماء بين مكة والطائف ، قاتل عليها نبيُّ الله هوازن وثقيفَ ، وعلى هوازن : مالك بن عوف أخو بني نصر ، وعلى ثقيف : عبد يا ليل بن عمرو الثقفيّ. قال : وذُكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفًا : عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الطُّلقَاء ، وذكر لنا أنَّ رجلا قال يومئذٍ : " لن نغلب اليوم بكَثْرة " ! قال : وذكر لنا أن الطُّلقَاء انجفَلوا يومئذ بالناس ، (2) وجلَوْا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذكر لنا أن نبيَّ الله قال : " أي رب ، آتني ما وعدتني " ! قال : والعباسُ آخذ بلجام بغلةِ رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ناد يا معشر الأنصار ، ويا معشر المهاجرين! " ، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فخِذًا ، ثم قال : " نادِ بأصحاب سورة البقرة ! " . (3) قال : فجاء الناس عُنُقًا واحدًا. (4) فالتفت نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا عصابة من الأنصار ، فقال : هل معكم غيركم ؟ فقالوا : يا نبي الله ، والله لو عمدت إلى بَرْك الغِمادِ من ذي يَمَنٍ
__________
(1) في المطبوعة : " ويخلي القليل فيهزم الكثير " ؛ حذف بسوء رأيه فأفسد الكلام . وإنما أراد أن الله يخلي بين الكثير والقليل فلا ينصر القليل ، فيهزم الكثير القليل ، على ما جرت به العادة من غلبة الكثير على القليل .
(2) " انجفل القوم عن رئيسهم " ، ذعروا ، فانقلعوا من حوله ، ففروا مسرعين .
(3) في المطبوعة : " ثم نادى بأصحاب سورة البقرة " ، غير ما في المخطوطة عبثا .
(4) قوله : " عنقا واحدا " ، أي : جملة واحدة . ويقال : " جاء القوم عنقا عنقا " ، أي : طائفة طائفة . ويقال : " هم عليه عنق " ، أي : هم عليه إلب واحد .

(14/180)


لكنَّا مَعَك ، (1) ثم أنزل الله نصره ، وهزَمَ عدوّهم ، وتراجع المسلمون. قال : وأخذ رسول الله كفًّا من تراب أو : قبضةً من حَصْباء فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : " شاهت الوجوه! " ، فانهزموا. فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم ، وأتى الجعرَّانة ، فقسم بها مغانم حنين ، وتألَّف أناسًا من الناس ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، فقالت الأنصار : " أمن الرجل وآثر قومه " ! (2) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّة له من أَدَم ، فقال : " يا معشر الأنصار ، ما هذا الذي بلغني ؟ ألم تكونوا ضُلالا فهداكم الله ، وكنتم أذلَّةً فأعزكم الله ، وكنتم وكنتم! " قال : فقال سعد بن عبادة رحمه الله : ائذن لي فأتكلم ! قال : تكلم. قال : أما قولك : " كنتم ضلالا فهداكم الله " ، فكنا كذلك " وكنتم أذلة فأعزكم الله " ، فقد علمت العربُ ما كان حيٌّ من أحياء العرب أمنعَ لما وراء ظهورهم منَّا! فقال عمر : يا سعد أتدري من تُكلِّم! فقال : نعم أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لو سلكَتِ الأنصارُ واديًا والناس واديًا لسكت وادي الأنصار ، ولولا الهجرةُ لكنت امرءًا من الأنصار. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الأنصار كَرِشي وَعَيْبتي ، فاقبلوا من مُحِسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " . (3) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء ، وتنقلبون برسولِ الله إلى بيوتكم! فقالت الأنصار : رضينا عن الله ورسوله ، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذِرَانكم " . (4)
16575 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أو ظِئْره من بني سعد بن بكر ، أتته فسألته سَبَايا يوم حنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أملكهم ، وإنما لي منهم نصيبي ، ولكن ائتيني غدًا فسلِيني والناس عندي ، فإني إذا أعطيتُك نصيبي أعطاك الناس. فجاءت الغد ، فبسط لها ثوبًا ، فقعدت عليه ، ثم سألته ، فأعطاها نصيبه. فلما رأى ذلك الناس أعطوْها أنصباءهم.
16576 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، الآية : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال : يا رسول الله ، لن نغلب اليوم من قِلّة ! وأعجبته كثرة الناس ، وكانوا اثني عشر ألفًا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوُكِلوا إلى كلمة الرجل ، فانهزموا عن رسول الله ، غير العباس ، وأبي سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، قتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الأنصار ؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة ؟ فتراجع الناس ، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذٍ ، وذلك قوله : (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) ، الآية.
16577 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب ، عن أبيه قال : لما كان يوم حنين ، التقى المسلمون والمشركون ، فولّى المسلمون يومئذٍ. قال : فلقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحدٌ إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، آخذًا بغَرْزِ النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يألو ما أسرع نحو
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " برك الغماد " رقم : 15720 .
(2) في المطبوعة : " حن الرجل إلى قومه " ، غير ما في المخطوطة بلا ورع .
(3) " الكرش " ، وعاء الطيب ، و " العيبة " وعاء من أدم يكون فيه المتاع والثياب .
يقول : الأنصار خاصتي وموضع سري ، أثق بهم ، وأعتمد عليهم ، وهم أنفس ما أحرز .
(4) الأثر : 16574 - رواه ابن سعد مختصرا في الطبقات 4 / 1 / 11 ، 12 .

(14/181)


المشركين. (1) قال : فأتيت حتى أخذتُ بلجامه ، وهو على بغلةٍ له شهباء ، فقال : يا عباس. ناد أصحابَ السمرة! وكنت رجلا صَيِّتًا ، (2) فأذَّنت بصوتي الأعلى : أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حُشِرت إلى أولادها ، (3) يقولون : " يا لبيك ، يا لبَّيك ، يا لبيك " ، وأقبل المشركون. فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادت الأنصار : " يا معشر الأنصار " ، ثم قُصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج ، فتنادوا : " يا بني الحارث بن الخزرج " ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاوِل ، إلى قتالهم فقال : " هذا حين حَمِي الوَطِيس " ! (4) ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها ، ثم قال : " انهزموا وربِّ الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة! " قال : فوالله ما زال أمرُهم مدبرًا ، وحدُّهم كليلا حتى هزمهم الله ، قال : فلكأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركُضُ خلفهم على بَغْلَتِه. (5)
16578 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أنهم أصابوا يومئذٍ ستة آلاف سَبْيٍ ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : يا رسول الله : أنت خيرُ الناس ، وأبرُّ الناس ، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالَنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عندي من ترونَ! وإن خير القولِ أصدقُه ، اختاروا : إما ذَراريكم ونساءكم ، وإمّا أموالكم. قالوا : ما كنا نعدِل بالأحساب شيئًا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاءوني مسلمين ، وإنا خيَّرناهم بين الذَّراريّ والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا ، فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسُه أن يردَّه فليفعل ذلك ، ومن لا فليُعْطِنا ، وليكن قَرْضًا علينا حتى نصيب شيئًا ، فنعطيه مكانه. فقالوا : يا نبي الله ، رضينا وسلَّمنا! فقال : " إني لا أدري لعلَّ منكم من لا يرضَى ، فَمُروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعتْ إليه العُرَفاء أن قد رضوا وسلموا. (6)
16579 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، حدثنا يعلى بن عطاء ، عن أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن يعني الفهريّ قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فلما رَكَدت الشمس ، (7) لبستُ لأمَتي ، (8) وركبت فرسي ، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظِلّ شجرة ، فقلت : يا رسول الله ، قد حان الرَّواح ، فقال : أجل! فنادى : " يا بِلال! يا بلال! " فقام بلال من تحت سمرة ، فأقبل كأن ظله ظلُّ طير ، فقال : لبيك وسعديك ، ونفسي فداؤك ، يا رسول الله ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أسرج فرسي! فأخرج سَرْجًا دَفَّتَاه حشْوهما ليفٌ ، ليس فيهما أَشَرٌ
__________
(1) " الغرز " ، ركاب الدابة . و " لا يألو " لا يقصر .
(2) " الصيت " ( على وزن جيد ) : البعيد الصوت العاليه .
(3) في المطبوعة : " إذا حنت إلى أولادها " ، غير ما في المخطوطة ، و " الحشر " ، الجمع .
وفي المراجع الأخرى : " لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها " . والذي في طبقات ابن سعد ، موافق لما في المطبوعة .
(4) " الوطيس " : حفرة تحتفر ، فتوقد فيها النار ، فإذا حميت يختبز فيها ويشوى ، ويقال لها " الإرة " وهذا من بليغ الكلام ، ولم تسمع هذه الكلمة من أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(5) الأثر : 16577 - " كثير بن العباس بن عبد المطلب " ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولد على عهد رسول الله ، ولم يسمع منه ، تابعي ثقة قليل الحديث . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 207 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 153 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم : 1775 من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري . وفصل أخي السيد أحمد تخريجه هناك ، ثم رقم : 1776 .
ورواه مسلم في صحيحه 12 : 113 ، من طريق يونس ، عن الزهري . ثم رواه أيضا ( 12 : 117 ) من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، ومن طريق سفيان بن عيينه عن الزهري .
ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 327 ، من طريق يونس ، عن الزهري .
ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112 4 / 1 / 11 ، الثاني طريق محمد بن عبد الله ، عن عمه ، عن ابن شهاب الزهري ، والأول من طريق محمد بن حميد العبدي ، عن معمر ، عن الزهري .
ثم انظر تاريخ الطبري 3 : 128 ، حديث ابن إسحاق ، في سيرة ابن هشام 4 : 87 ، 88 .
(6) الأثر : 16578 - رواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112 . 87 ، 88 .
(7) " ركدت الشمس " ، ثبتت ، وذلك حين يقوم قائم الظهيرة .
(8) " اللأمة " الدرع ، وسلاح الحرب كله .

(14/183)


ولا بَطَرٌ (1) قال : فركب النبي صلى الله عليه وسلم ، فصافَفْناهم يومَنا وليلتنا ، فلما التقى الخيلان ولَّى المسلمون مدبرين ، كما قال الله. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عباد الله ، يا معشر المهاجرين! " . قال : ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه ، فأخذ حَفْنَةً من تراب فرمى بها وجوههم ، فولوا مدبرين قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي مِنَّا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب. (2)
16580 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل من قيس : فَرَرتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال البراء : لكن رسول الله لم يفرَّ ، وكانت هَوازن يومئذ رُماةً ، وإنَّا لما حملنا عليهم انكشَفُوا فأكبَبْنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسِّهام ، ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها وهو يقول :
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ (3)
__________
(1) " الأشر " ، المرح والخيلاء . و " البطر " ، الطغيان في النعمة من قلة احتمالها .
(2) الأثر : 16579 - " يعلى بن عطاء العامري الطائفي " ، ثقة مضى برقم : 2858 ، 11527 ، 11529 .
و " أبو همام " هو " عبد الله بن يسار " ، روى عن عمرو بن حريث . وأبي عبد الرحمن الفهري . ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 202 .
و " أبو عبد الرحمن الفهري " ، صحابي مختلف في اسمه ، مترجم في الإصابة ، والتهذيب ، وأسد الغابة 5 : 245 ، 246 ، والاستيعاب : 676 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 286 من طريق بهز عن حماد بن سلمة ، ومن طريق عفان ، عن حماد .
ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112 ، 113 ، من طريق عفان ، عن حماد بن سلمة .
ورواه أبو داود في سننه 4 : 485 ، 486 ، برقم : 5233 من طريق موسى بن إسماعيل ، عن حماد مختصرا .
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب 676 ، بغير إسناد .
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة من طريق موسى بن إسماعيل ، عن حماد .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 181 ، 182 ، وقال : " رواه البزار ، والطبراني ، ورجالها ثقات " .
(3) الأثران : 16580 ، 16581 - خبر البراء بن عازب ، رواه مسلم من طرق كثيرة في صحيحه 12 : 117 - 121 ، ورواه من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق في 12 : 121 .
ورواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 24 ) من طرق .

(14/185)


16581 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : سأله رجل : يا أبا عُمارة ، وليتم يوم حنين ؟ فقال البراء وأنا أسمع : أشهد أن رسول الله لم يولِّ يومئذ دُبُره ، وأبو سفيان يقود بغلته. فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول :
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ
فما رُؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدَّ منه.
16582 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال ، حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحابَ محمد عليه السلام ، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاةٍ أن كشفناهم ، فبينا نحن نسوقهم ، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، فتلقانا رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ، ارجعوا " ! فرجعنا ، وركبنا القوم ، فكانت إياها. (1)
__________
(1) الأثر : 16582 - " عبد الرحمن ، مولى أم برثن " ، هو " عبد الرحمن بن آدم ، صاحب السقاية " . وكانت أم برثن تعالج الطيب ، فأصابت غلاما لقطة ، فربته حتى أدرك ، وسمته عبد الرحمن ، فكان مما يقال له " عبد الرحمن بن أم برثن " ، وإنما قيل له : " عبد الرحمن بن آدم ، نسب إلى أبي البشر جميعا ، " آدم " عليه السلام ، لم يكن يعرف له أب ، وهو ثقة ، مضى برقم : 7145 .
وكان في المخطوطة : " مولى برثن " ، وهو خطأ ، وانظر الخبر التالي رقم : 19587 من طريق أخرى .
وقوله : " لم يقفوا لنا حلب شاة " ، يعني : إلا قدر ما تحلب شاة ، كناية من قلة الزمن ، كما يقال : " فواق ناقة " ، و " الفواق " ما بين الحلبتين إذا قبض الجانب على الضرع ثم أرسله .
قوله : " فكانت إياها " ، يعني ، فكانت الهزيمة التي تعلم . وفي حديث معاوية بن عطاء :
" كان معاوية رضي الله عنه إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة كانت إياها " . قالوا : اسم " كان " ضمير " السجدة " ، و " إياها " الخبر ، أي : كانت هي هي ، أي : كان يرفع منها وينهض قائما إلى الركعة الأخرى من غير أن يقعد قعدة الاستراحة .

(14/186)


16583 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : أمدَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين. قال : ويومئذ سمَّى الله الأنصار " مؤمنين " . قال : (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم يَروها).
16584 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) ، قال : كانوا اثني عشر ألفًا.
16585 - حدثنا محمد بن يزيد الأدَميّ قال ، حدثنا معن بن عيسى ، عن سعيد بن السائب الطائفي ، عن أبيه ، عن يزيد بن عامر قال : لما كانت انكشافةُ المسلمين حين انكشفوا يوم حنين ، ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم يَده إلى الأرض ، فأخذ منها قبضة من تراب ، فأقبل بها على المشركين وهم يتْبعون المسلمين ، فحثَاها في وجوهم وقال : " ارجعوا : شاهت الوجوه! " . قال : فانصرفنا ، ما يلقى أحدٌ أحدًا إلا وهو يمسَحُ القَذَى عن عينيه. (1)
__________
(1) الأثر : 16585 - " محمد بن يزيد الأدمي الخراز " ، شيخ الطبري ، ثقة زاهد ، مضى برقم : 4894 .
و " معن بن عيسى الأشجعي ، القزاز " ، أحد أئمة الحديث ، روى له الجماعة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 390 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277 .
و " سعيد بن السائب الطائفي " ، ثقة ، مضى برقم : 15402 .
وأبوه " السائب بن أبي حفص الطائفي " ، ثقة ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 156 ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 245 .
و " يزيد بن عامر السوائي " " أبو حاجز " صحابي ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 316 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 281 .
وهذا الخبر ، رواه البخاري في تاريخه 4 / 2 / 316 من طريق إبراهيم بن المنذر ، عن معن بن عيسى .
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة 5 : 115 ، 116 .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 6 : 182 ، 183 ) ، حديثان ، كما جاء هنا في التفسير ، وقال في الأول والثاني " رواه الطبراني ، ورجاله ثقات " .

(14/187)


16586 - وبه ، عن يزيد بن عامر السُّوائي قال : قيل له : يا أبا حاجز ، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين ، ماذا وجدتم ؟ قال : وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّستِ فيطنُّ ، ثم يقول : كان في أجوافِنَا مثل هذا! (1)
16587 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثني المعتمر بن سليمان ، عن عوف قال ، سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو : أم برثم قال ، حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين ، قال : لما التقينا نحن وأصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حَلَب شاة. قال : فلما كشفناهم جعلنا نسُوقهم في أدبارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : فتلقانا عندَه رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه فقالوا لنا : " شاهت الوجوه ، ارجعوا ! " ، قال : فانهزمنا ، وركِبُوا أكتافنا ، فكانت إيَّاهَا. (2)
* * *
__________
(1) 16586 - مكرر الأثر السالف ، وتخريجه هناك .
(2) الأثر : 16587 - " عبد الرحمن ، مولى أم برثن ، أو : أم برثم " ، بإبدال النون ميما ، مضى في الأثر رقم : 16582 ، وكان في المطبوعة هنا : " أو : أم مريم " ، وهو خطأ محض ، وتصرف في رسم المخطوطة ، وهي غير منقوطة .

(14/188)


ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)

القول في تأويل قوله : { ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، وتوليتكم الأعداءَ أدباركم ، كشف الله نازل البلاء عنكم ، بإنزاله السكينة وهي الأمنة والطمأنينة عليكم.
* * *
وقد بينا أنها " فعيلة " ، من " السكون " ، فيما مضى من كتابنا هذا قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
(وأنزل جنودًا لم تروها) ، وهي الملائكة التي ذكرتُ في الأخبار التي قد مضى ذكرها (وعذب الذين كفروا) ، يقول : وعذب الله الذين جحدوا وحدانيّته ورسالةَ رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، بالقتل وسَبْي الأهلين والذراريّ ، وسلب الأموال والذلة (وذلك جزاء الكافرين) ، يقول : هذا الذي فعلنا بهم من القتل والسبي (جزاء الكافرين) ، يقول : هو ثواب أهل جحود وحدانيته ورسالة رسوله. (2)
16588 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وعذب الذين كفروا) ، يقول : قتلهم بالسيف.
16589 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد : (وعذب الذين كفروا) ، قال : بالهزيمة والقتل.
16590 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) ، قال : من بَقي منهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السكينة " فيما سلف 3 : 66 ، 70 /5 : 326 - 330 .
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( جزى ) .

(14/189)


ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

القول في تأويل قوله : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه ، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف (على من يشاء) ، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء ، يُقْبِل به إلى طاعته (والله غفور) ، لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها (رحيم) ، بهم ، فلا يعذبهم بعد توبتهم ، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته : ما المشركون إلا نَجَس.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " النجس " ، وما السبب الذي من أجله سمَّاهم بذلك.
فقال بعضهم : سماهم بذلك ، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ، فقال : هم نجس ،
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " ، و " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) ، ( غفر ) ، ( رحم ) .

(14/190)


ولا يقربوا المسجد الحرام لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد.
* ذكر من قال ذلك :
16591 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، في قوله : (إنما المشركون نجس) ، : لا أعلم قتادة إلا قال : " النجس " ، الجنابة.
16592 - وبه ، عن معمر قال : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة ، وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يا رسول الله ، إني جُنُب ! فقال : إنّ المؤمن لا ينجُس.
16593 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) ، أي : أجْنَابٌ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ما المشركون إلا رِجْسُ خنزير أو كلب.
وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد ، فكرهنا ذكرَه.
* * *
وقوله : (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، يقول للمؤمنين : فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم ، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه.
* ذكر من قال ذلك :
16594 - حدثنا بشر ، وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال : قال عطاء : الحرمُ كله قبلةٌ ومسجد. قال : (فلا يقربوا المسجد الحرام) ، لم يعن المسجدَ وحده ، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرَّةٍ.

(14/191)


وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما : -
16595 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثني الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو عمرو : أن عمر بن عبد العزيز كتب : " أنِ آمنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين " ، وأَتْبَعَ في نهيه قولَ الله : (إنما المشركون نجس).
16596 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : (إنما المشركون نجس) ، قال : لا تصافحوهم ، فمن صافحَهم فليتوضَّأ.
* * *
وأما قوله : (بعد عامهم هذا) ، فإنه يعني : بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة ، وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر ، وهي سنة تسع من الهجرة ، كما : -
16597 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان ، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع ، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها.
* * *
وقوله : (وإن خفتم عيلة) ، يقول للمؤمنين : وإن خفتم فاقَةً وفقرًا ، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء).
* * *
يقال منه : عال يَعِيلُ عَيْلَةً وعُيُولا ومنه قول الشاعر : (1)
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاه... وَمَا يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ (2)
__________
(1) هو أحيحة بن الجلاح .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه ، فيما سلف 7 : 459 ، وانظر مجاز القرآن 1 : 255 .

(14/192)


وقد حكي عن بعضهم أنّ من العرب من يقولُ في الفاقة : " عال يعول " بالواو. (1)
* * *
وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأوّل قوله (2) (وإن خفتم عيلة) ، بمعنى : وإذ خفتم. ويقول : كان القوم قد خافُوا ، وذلك نحو قول القائل لأبيه : " إن كنت أبي فأكرمني " ، بمعنى : إذ كنت أبي.
* * *
وإنما قيل ذلك لهم ، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم ، انقطاع تجاراتهم ، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمَّنهم الله من العيلة ، وعوَّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ، ما هو خير لهم منه ، وهو الجزية ، فقال لهم : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) ، إلى : (صَاغِرُون).
* * *
وقال قوم : بإدرار المطر عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16598 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنى معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال : لما نَفَى الله المشركين عن المسجد الحرام ، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن ، قال : من أين تأكلون ، وقد نُفِيَ المشركون وانقطعت عنهم العيرُ! (3) فقال الله : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من
__________
(1) انظر تفسير " عال " فيما سلف 7 : 548 ، 549 .
(2) " عمرو بن فائد " ، أبو علي الأسواري ، وردت عنه الرواية في حروف من القرآن .
مترجم في طبقات القراء 1 : 602 رقم : 2462 ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 253 ، ولسان الميزان 4 : 372 ، وميزان الاعتدال ، 2 : 298 ، وهو في الحديث ليس بشيء ، بل هو منكر الحديث ، متروك .
(3) في المطبوعة : " وانقطعت عنكم " وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .

(14/193)


فضله إن شاء) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم من فضله.
16599 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام ، وَيتَّجرون فيه. فلما نُهُوا أن يأتوا البيت ، قال المسلمون : من أين لنا طعام ؟ فأنزل الله : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، فأنزل عليهم المطر ، وكثر خيرهم ، حتى ذهب عنهم المشركون.
16600 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة : (إنما المشركون نجس) ، الآية ثم ذكر نحو حديث هنّاد ، عن أبي الأحوص.
16601 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : مَنْ يأتينا بطعامنا ، ومن يأتينا بالمتاع ؟ فنزلت : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء). (1)
16602 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خليدة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان المشركون يقدَمون عليهم بالتجارة ، فنزلت هذه الآية : (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله : (عيلة) ، قال : الفقر (فسوف يغنيكم الله من فضله).
16603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية العوفي قال : قال المسلمون : قد كنّا نصيب من تجارتهم وبِياعاتهم ،
__________
(1) الأثران : 16601 ، 16602 - " واقد ، ولي زيد بن خليدة " ، ثقة ، سلف برقم : 11450 .

(14/194)


فنزلت : (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله : (من فضله).
16604 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي أحسِبه قال : أنبأنا أبو جعفر ، عن عطية ، قال : لما قيل : ولا يحج بعد العام مشرك ! قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال : فنزلت : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، يعني : بما فاتهم من بياعاتهم.
16605 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن يمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال : الجزية.
16606 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، قال : أخرج المشركون من مكة ، فشقَّ ذلك على المسلمين وقالوا : كنا نُصيب منهم التجارة والميرة. فأنزل الله : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ،
16607 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، كان ناس من المسلمين يتألَّفون العير; فلما نزلت " براءة " بقتال المشركين حيثما ثقفوا ، وأن يقعدُوا لهم كل مرصد ، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين : فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير ؟ فعلم الله من ذلك ما علم ، فقال : أطيعوني ، وامضوا لأمري ، وأطيعوا رسولي ، فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك.
16608 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله : (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، قال : قال المؤمنون : كنا نصيب

(14/195)


من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله ، عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول " براءة " في القراءة ، ومع آخرها في التأويل (1) ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى قوله : (عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمد وأصحابه بغزْوة تبوك.
16609 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
16609م - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، شقَّ ذلك على المسلمين ، وكانوا يأتون بِبَيْعَات ينتفع بذلك المسلمون. (2) فأنزل الله تعالى ذكره : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، فأغناهم بهذا الخراج ، الجزيةَ الجاريةَ عليهم ، يأخذونها شهرًا شهرًا ، عامًا عامًا ، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحالٍ ، إلا صاحب الجزية ، أو عبد رجلٍ من المسلمين.
16610 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله : (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمّة.
16611 - ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال : إلا صاحب جزية ، أو عبد لرجلٍ من المسلمين.
16612 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " من أول براءة . . . ومن آخرها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .
(2) في المطبوعة : " ببياعات " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/196)


عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية : (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) ، إلا أن يكون عبدًا ، أو أحدًا من أهل الجزية.
16613 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال : أغناهم الله بالجزية الجارية شهرًا فشهرًا ، وعامًا فعامًا.
16614 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال : لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشركٌ ولا ذميٌّ.
16615 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة) ، وذلك أن الناس قالوا : لتقطعنَّ عنا الأسواق ، ولتهلكن التجارة ، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المَرافق! (1) فقال الله عز وجل : (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، من وجه غير ذلك (إن شاء) ، إلى قوله : (وهم صاغرون) ، ففي هذا عوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطَاهم من أعْناق أهلِ الكتاب من الجزية. (2)
* * *
وأما قوله : (إن الله عليم حكيم) ، فإن معناه : (إن الله عليم) ، بما حدثتكم به أنفسكم ، أيها المؤمنون ، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا
__________
(1) في المطبوعة : " فنزل : وإن خفتم " ، ولم تكن " فنزل " في المخطوطة ، سها الكاتب وتجاوز ما كان ينقل منه ، وأثبته من نص ابن إسحاق في سيرة ابن هشام .
(2) الأثر : 16615 - سيرة ابن هشام 4 : 192 ، 193 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16556 .

(14/197)


قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

المسجد الحرام ، وغير ذلك من مصالح عباده (حكيم) ، في تدبيره إياهم ، وتدبير جميع خلقه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم : (قاتلوا) ، أيها المؤمنون ، القومَ (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، يقول : ولا يصدّقون بجنة ولا نار (2) (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) ، يقول : ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ ، يعني : أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام (3) (من الذين أوتوا الكتاب) ، وهم اليهود والنصارَى.
* * *
وكل مطيع ملكًا وذا سلطانٍ ، فهو دائنٌ له. يقال منه : دان فلان لفلان فهو يدين له ، دينًا " ، قال زهير :
لَئِنَ حَلَلْتَ بِجَوٍّ فِي بَنِي أَسَدٍ... فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ (4)
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .
(2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة ( أخر ) .
(3) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 1 : 155 /3 : 571 / 9 : 522 .
(4) ديوانه : 183 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 286 ، من قصيدة من جيد الكلام ، أنذر بها الحارث بن ورقاء الصيداوي ، من بني أسد ، وكان أغار على بني عبد الله بن غطفان ، فغنم ، واستاق إبل زهير ، وراعيه يسارا : يا حَارِ ، لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ ... لَمْ يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي ولا مَلِكُ
فَارْدُدْ يَسَارًا ، وَلا تَعْنُفْ عَلَيَّ وَلا ... تَمْعَكْ بِعِرْضِكَ إِن الغَادِرَ المَعِكَ
وَلا تَكُونَنْ كَأَقْوَامٍ عَلِمْتَهُمُ ... يَلْوُونَ مَا عَنْدَهُمْ حَتَّى إذَا نَهِكُوا
طَابْتْ نُفُوسُهُمُ عَنْ حَقِّ خَصْمِهِمْ ... مَخَافَهُ الشَّرِّ ، فَارْتَدُّوا لِمَا تَرَكُوا
تَعَلَّمَنْ : هَا ، لَعَمْرُ اللهِ ذَا ; قَسَمًا ... فَاقْصِدْ بِذَرْعِكَ ، وانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكَ
لَئِنْ حَلَلْتَ . . . . . .. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَيَأتِيَنَّكَ مِنِّي مَنْطِقٌ قَذَعٌ ... بَاقٍ ، كَمَا دَنَّسَ القُبْطِيَّةَ الوَدَكُ
و " جو " اسم لمواضع كثيرة في الجزيرة ، وهذا " الجو " هنا في ديار بني أسد . و " عمرو " ، هو : " عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء " ، و " فدك " قرية مشهورة بالحجاز ، لها ذكر في السير كثير .

(14/198)


وقوله : (من الذين أوتوا الكتاب) ، يعني : الذين أعطوا كتاب الله ، (1) وهم أهل التوراة والإنجيل (حتى يعطوا الجزية).
* * *
و " الجزية " : الفِعْلة من : " جزى فلان فلانًا ما عليه " ، إذا قضاه ، " يجزيه " ، و " الجِزْية " مثل " القِعْدة " و " الجِلْسة " .
* * *
ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم ، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها.
* * *
وأما قوله : (عن يد) ، فإنه يعني : من يده إلى يد من يدفعه إليه.
* * *
وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرًا له ، شيئًا طائعًا له أو كارهًا : " أعطاه عن يده ، وعن يد " . وذلك نظير قولهم : " كلمته فمًا لفمٍ " ، و " لقيته كَفَّةً
__________
(1) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( أتى ) .

(14/199)


لكَفَّةٍ ، (1) وكذلك : " أعطيته عن يدٍ ليد " .
* * *
وأما قوله : (وهم صاغرون) ، فإن معناه : وهم أذلاء مقهورون.
* * *
يقال للذليل الحقير : " صاغر " . (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم ، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك.
* ذكر من قال ذلك :
16616 - حدثني محمد بن عروة قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمدٌ وأصحابه بغزوة تبوك.
16617 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الصغار " ، الذي عناه الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم : أن يعطيها وهو قائمٌ ، والآخذ جالسٌ.
* ذكر من قال ذلك :
16618 - حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعد ، عن عكرمة : (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، قال :
__________
(1) يقال : " لقيته كفة كفة " ( بفتح الكاف ، ونصب التاء ) ، إذا استقبلته مواجهته ، كأن كل واحد منهما قد كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره ومنعه . وانظر تفصيل ذلك في مادته في لسان العرب ( كفف ) .
(2) انظر تفسير " الصغار " فيما سلف 13 : 22 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/200)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

أي تأخذها وأنت جالس ، وهو قائم. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، عن أنفسهم ، بأيديهم يمشون بها ، وهم كارهون ، وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس ، من وجهٍ فيه نظر.
* * *
وقال آخرون : إعطاؤهم إياها ، هو الصغار.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في القائل : (عزير ابن الله).
فقال بعضهم : كان ذلك رجلا واحدًا ، هو فِنْحاص.
* ذكر من قال ذلك :
16619 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله : (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص. وقالوا : هو الذي قال : ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) ، [سورة آل عمران : 181].
__________
(1) الأثر : 16618 - " عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري " ، شيخ الطبري ، ثقة ، من شيوخ البخاري ، مضى برقم : 13805 .
وفي المطبوعة : " عن ابن سعد " ، وهو خطأ ، خالف ما في المخطوطة وانظر " أبا سعد " في فهرس الرجال .

(14/201)


وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك :
16620 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم ، ونعمانُ بن أوفى ، (1) وشأسُ بن قيس ، ومالك بن الصِّيف ، فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا ، وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله ؟ فأنزل في ذلك من قولهم : (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) ، إلى : (أنى يؤفكون). (2)
16621 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا ، (3) ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهُم التوراة ، ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضًا ، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبلُ من علمائهم ، فدعا عزيرٌ الله ، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جَوْفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من
__________
(1) في سيرة ابن هشام : " ونعمان بن أوفى أبو أنس ، ومحمود بن دحية ، وشاس . . . " .
(2) الأثر : 16620 - سيرة ابن هشام 2 : 219 .
(3) في المطبوعة : " يعملون بها ما شاء الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/202)


التوراة ، فأذّن في قومه فقال : يا قوم ، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ ! فعلقَ بهم يعلمهم ، (1) فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
16622 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقُوا ، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. (2) وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال ، لا ينزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول : " ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم " ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه ، فنزل مرة إلى العيد ، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسِياه ! فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل ؟ (3) قالت : الله! قال : فإن الله حي لم يمت! قالت : يا عزير ، فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل ؟ قال : الله! قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ، (4) ولَّى مدبرًا ، فدعته فقالت : يا عزير ، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصلِّ ركعتين ،
__________
(1) في المطبوعة : " فعلق يعلمهم " ، وفي المخطوطة " فعلق به يعلمهم ، ورجحت صواب ما أثبت . يقال : " علقت أفعل كذا " بمعنى : طفقت . من قولهم : " علق بالشيء " ، إذا لزمه ، قال يزيد بن الطثرية : عَلِقْنَ حَوْلِي يَسْأَلْنَ القِرَى أُصُلا ... وليسَ يَرْضَيْنَ مِنِّي بالمعَاذِيرِ
بمعنى : طفقن ( انظر طبقات فحول الشعراء : 587 ، تعليق : 4 ) .
(2) في المطبوعة : " فدفنوا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة ، جعلها جميعًا بالواو على العطف ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) " خصم " ، أي : غلب في الخصام والحجاج .

(14/203)


فإنه يأتيك شيخٌ ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال : افتح فمك! ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ، مجتمع كهيئة القوارير ، ثلاث مرار. (1) فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا : يا عزير ، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء ، أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خوابٍ مدفونة ، (2) فعارضوها بتوراة عزير ، فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه!
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ " ، لا ينونون " عزيرًا " .
* * *
وقرأه بعض المكيين والكوفيين : ( عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) ، بتنوين " عزير " قال : هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا ، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : " زيدٌ بن عبد الله " ، وأوقع " الابن " موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه ، إذا كان الابن خبرًا ، الإجراء ، والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه.
وأما من ترك تنوين " عزير " ، فإنه لما كانت الباء من " ابن " ساكنة مع التنوين الساكن ، والتقى ساكنان ، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه ، قال الراجز : (3)
__________
(1) في المطبوعة : " مجتمعا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، والدر المنثور . وهذا الموضع من الخبر ، يحتاج إلى نظر في صحته ومعناه .
(2) " خوابي " جمع " خابية " ، وهي الجرة الكبيرة .
(3) لم أعرف قائله .

(14/204)


لَتَجدَنِّي بِالأمِيرِ بَرًّا... وَبِالقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا
إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا (1)
فحذف النون للساكن الذي استقبلها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءةُ من قرأ : ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) ، بتنوين " عزير " ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان " الابن " نعتًا للاسم ، [وتنونه إذا كان خبرًا] ، كقولهم : " هذا زيدٌ بن عبد الله " ، فأرادوا الخبر عن " زيد " بأنه " ابن الله " ، (2) ولم يريدوا أن يجعلوا " الابن " له نعتًا و " الابن " في هذا الموضع خبر لـ " عزير " ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن " عزير " ، أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين.
* * *
(وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يعني قول اليهود : (عزير ابن الله). يقول : يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن ، (3) ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه ،
__________
(1) نوادر أبي زيد : 91 ، معاني القرآن للفراء 1 : 431 . اللسان ( صهب ) ، ( دعس ) ، ( دعص ) ، وغيرها ، وقبله في النوادر : جاءُوا يجرُّون الحدِيدَ جَرًّا ... صُهْبَ السِّبالِ يَبتغونَ الشرَّا
في النوادر : " يجرون السود " ، وهذه رواية غيره .
(2) هذه الجملة كانت في المخطوطة هكذا : " لأن النون العرب من الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن زيد بأنه ابن الله " . وهو كلام مضطرب غاية الاضطراب .
وصححها في المطبوعة هكذا : " لأن العرب لا تنون الأسماء ، إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن عزير بأنه ابن الله " ، وهو أيضا مضطرب .
فأبقيت تصحيح الناشر الأول في صدر الجملة ، ثم صححت سائر الكلام بما يوافق المخطوطة ، ثم زدت فيه ما بين القوسين ، حتى يستقيم الكلام على وجه مرضي بعض الرضى . ولا أشك أن الناسخ قد أسقط قدرا من كلام أبي جعفر .
(3) في المطبوعة : " نسبة قول هؤلاء . . . ككذب اليهود وفريتهم " ، أخطأ في قراءة " يشبه " ، فجعلها " نسبة " ، ثم زاد في " كذب " كافًا أخرى في أولها ، ليستقيم الكلام ، فلم يستقم . وقوله : " كذب " مفعول قوله : " يشبه " . وذلك معنى " المضاهأة " كما سيأتي .

(14/205)


بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16623 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول : يُشبِّهون.
16624 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.
16625 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدّي : (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في " عزيز " .
16626 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول : النصارى ، يضاهئون قول اليهود.
16627 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.
* * *
وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان ، (1) الذين قالوا : " اللات ، والعزَّى ، ومناة الثالثة الأخرى " . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أهل الأديان " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 433 .

(14/206)


واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : (يُضَاهُونَ) ، بغير همز.
* * *
وقرأه عاصم : (يُضَاهِئُونَ) ، بالهمز ، وهي لغة لثقيف.
* * *
وهما لغتان ، يقال : " ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة " و " ضاهأته عليه مُضَأهاة " ، إذا مالأته عليه وأعنته.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار ، واللغة الفصحى.
* * *
وأما قوله : (قاتلهم الله) ، فإن معناه ، فيما ذكر عن ابن عباس ، ما : -
16628 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (قاتلهم الله) ، يقول : لعنهم الله. وكل شيء في القرآن " قتل " ، فهو لعن.
* * *
وقال ابن جريج في ذلك ما : -
16629 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (قاتلهم الله) ، يعني النصارى ، كلمةٌ من كلام العرب. (1)
* * *
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون : معناه : قتلهم الله. والعرب تقول : " قاتعك الله " ، و " قاتعها الله " ، بمعنى : قاتلك الله. قالوا : و " قاتعك الله " أهون من " قاتله الله " .
وقد ذكروا أنهم يقولون : " شاقاه الله ما تاقاه " ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه.
__________
(1) يعني أنها كلمة تقولها العرب ، لا تريد بها معنى " القتل " ، كقولهم : " تربت يداك " ، لا يراد بها وقوع الأمر .

(14/207)


اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

قالوا : ومعنى قوله : (قاتلهم الله) ، كقوله : ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) ، [سورة الذاريات : 10] ، و( قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ ) ، [سورة البروج : 4] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب.
* * *
فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأنّ " فاعلت " لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين ، كقولهم : " خاصمت فلانًا " ، و " قاتلته " ، وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم : " عافاك الله " منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء.
* * *
وقوله : (أنى يؤفكون) ، يقول : أيَّ وجه يُذْهبُ بهم ، ويحيدون ؟ وكيف يصدُّون عن الحق ؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (1)
القول في تأويل قوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : اتخذ اليهود أحبارهم ، وهم العلماء.
* * *
وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم " حَبْرٌ " ، و " حِبْرٌ " بكسر الحاء منه وفتحها. (2)
وكان يونس الجرمي ، (3) فيما ذكر عنه ، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا " حِبر "
__________
(1) انظر تفسير " الإفك " فيما سلف 10 : 486 / 11 : 554 .
(2) انظر تفسير " الحبر " فيما سلف 6 : 543 ، 544 / 10 : 341 ، 448 .
(3) " يونس الجرمي " ، انظر ما سلف 10 : 120 ، تعليق : 1 / 11 : 544 ، تعليق : 3 / 13 : 129 ، تعليق : 3 138 ، تعليق : 4 .

(14/208)


بكسر الحاء ، ويحتج بقول الناس : " هذا مِدَادُ حِبْرٍ " ، يراد به : مدادُ عالم.
وذكر الفرَّاء أنه سمعه " حِبْرًا " ، و " حَبْرًا " بكسر الحاء وفتحها.
* * *
والنصارى " رهبانهم " ، (1) وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم ، (2) كما : -
16630 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) ، قال : قُرَّاءهم وعلماءهم.
* * *
(أربابا من دون الله) ، يعني : سادةً لهم من دون الله ، (3) يطيعونهم في معاصي الله ، فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم ، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم ، كما : -
16631 - حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي ، عن غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم قال : انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في " سورة براءة " : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ، فقال : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون " . (4)
__________
(1) قوله : " والنصارى ، ورهبانهم " هذا معطوف على قوله آنفا : " اتخذ اليهود أحبارهم " .
(2) انظر تفسير " الرهبان " فيما سلف 10 : 502 ، 503 .
(3) انظر تفسير " الرب " فيما سلف 1 : 142 / 12 : 286 ، 482 .
(4) الأثر : 16631 - حديث ( عدي بن حاتم الطائي ) ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متابعة ، كلها من طريق عبد السلام بن حرب ، عن غطيف بن أعين ، من 16631 - 16633 .
" الحسين بن يزيد السبيعي الطحان " ، شيخ الطبري ، وثقه ابن حبان ، ولين حديثه أبو حاتم ، مضى برقم : 2892 ، 7863 ، 9153 . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الحسن بن يزيد " ، وهو خطأ "
و " عبد السلام بن حرب الملائي النهدي " ، الحافظ الثقة ، مضى برقم : 1184 ، 5471 ، 12478 .
و " غطيف بن أعين الشيباني الجزري " أو " غصيف " وثقه ابن حبان ، وقال الترمذي : " ليس بمعروف في الحديث " وضعفه الدارقطني ، مترجم التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 106 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وترجمه ابن أبي حاتم في " غضيف " بالضاد ، 3 / 2 / 55 ، ولم يذكر فيه جرحا . وسيأتي " غضيف " في رقم : 16633 .
و ( مصعب بن سعد بن أبي وقاص ) ، روى عن أبيه ، وعلي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعدي بن حاتم ، وابن عمر . وغيرهم ، وروي عن غطيف بن أعين ، وهو ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 9841 ، 11450 .
وهذا الخبر مختصر الذي يليه ، فراجع التخريج التالي .
ورواه الترمذي من هذه الطريق نفسها عن الحسين بن يزيد الكوفي الطحان في كتاب التفسير ، وقال : " هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب . وغطيف بن أعين ، ليس بمعروف في الحديث " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 230 ، وزاد نسبته إلى ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه . ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد ، وضل عني مكانه في سنن البيهقي .

(14/209)


16632 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد جميعًا ، عن عبد السلام بن حرب قال ، حدثنا غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب ، فقال : يا عديّ ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك ! قال : فطرحته ، وانتهيت إليه وهو يقرأ في " سورة براءة " ، فقرأ هذه الآية : (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال قلت : يا رسول الله ، إنا لسنا نعبدُهم! فقال : أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه ، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه ؟ قال : قلت : بلى! قال : فتلك عبادتهم! واللفظ لحديث أبي كريب. (1)
16633 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية ، عن قيس
__________
(1) الأثر : 16632 - رواه من طريق مالك بن إسماعيل ، عن عبد السلام بن حرب ، بلفظه ، البخاري في الكبير 4 / 1 / 106 . وانظر التخريج السالف .

(14/210)


بن الربيع ، عن عبد السلام بن حرب النهدي ، عن غضيف ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " سورة براءة " ، فلما قرأ : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قلت : يا رسول الله ، إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال : صدقت ، ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه ، ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه. (1)
16634 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : أنه سئل عن قوله : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه ، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16635 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن أبي البختري قال : قيل لأبي حذيفة ، فذكر نحوه غير أنه قال : ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه ، ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه.
16636 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن حبيب عن أبي البختري قال : قيل لحذيفة : أرأيت قول الله : (اتخذوا أحبارهم) ؟ قال : أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه ، فتلك كانت رُبوبيَّتهم.
16637 - ...... قال ، حدثنا جرير وابن فضيل ، عن عطاء ، عن أبي البختري : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال : انطلقوا
__________
(1) الأثر : 16633 - " غضيف " ، هو " غضيف بن أعين " ، و " غطيف " ، كما مر في تخريج الأثر : 16631 . وكان في المخطوطة : " حصف " وجعلها في المطبوعة : " غطيف " ، والصواب ما أثبت . كما أشرت إليه في التعليق المذكور .

(14/211)


إلى حلال الله فجعلوه حرامًا ، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم : " اعبدونا " ، لم يفعلوا.
16638 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري قال : سأل رجل حذيفة فقال : يا أبا عبد الله ، أرأيت قوله : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه ، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16639 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن أبي عديّ ، عن أشعث ، عن الحسن : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال : في الطاعة.
16640 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، يقول : زيَّنُوا لهم طاعتهم.
16641 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال عبد الله بن عباس : لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم ، ولكن أمروهم بمعصية الله ، فأطاعوهم ، فسمَّاهم الله بذلك أربابًا.
16642 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال : قلت لأبي العالية : كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل ؟ قال : [لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى] (1) " ما أمرونا به ائتمرنا ، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم " ، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه ، فاستنصحوا الرجالَ ، ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.
__________
(1) هذه الجملة التي وضعتها بين قوسين من المخطوطة ، ولا أدري ما هي ، ولكني أثبتها كما جاءت ، فلعل أحدا يجد الخبر في مكان آخر فيصححه .

(14/212)


16643 - حدثني بشر بن سويد قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال : لم يعبدوهم ، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي. (1)
* * *
وأما قوله : (والمسيح ابن مريم) ، فإن معناه : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله.
* * *
وأما قوله : (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا) ، فإنه يعني به : وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا ، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا ، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى ، وهو الله الذي له عبادة كل شيء ، وطاعةُ كل خلق ، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية " لا إله إلا هو " ، يقول تعالى ذكره : لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته ، ولزمت جميع العباد طاعته (سبحانه عما يشركون) ، يقول : تنزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته ، القائلون : (عزير ابن الله) ، والقائلون : (المسيح ابن الله) ، المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 16643 - " بشر بن سويد " ، لم أجد من يسمى بهذا الاسم ، أخشى أن يكون : " بشر بن معاذ " شيخ الطبري ، عن " سويد بن نصر المروزي " .
(2) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 13 : 102 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/213)


يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)

القول في تأويل قوله : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يريد هؤلاء المتخذون أحبارَهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا (أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يعني : أنهم يحاولون

(14/213)


هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعثَ به رسوله ، وصدِّهم الناسَ عنه بألسنتهم ، أن يبطلوه ، وهو النُّور الذي جعله الله لخلقه ضياءً (1) (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ، يعلو دينُه ، وتظهر كلمته ، ويتم الحقّ الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم (ولو كره) إتمامَ الله إياه (الكافرون) ، يعني : جاحديه المكذِّبين به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16644 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يقول : يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه (الذي أرسل رسوله) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم (بالهدى) ، يعني : ببيان فرائض الله على خلقه ، وجميع اللازم لهم (2) وبدين الحق ، وهو الإسلام (ليظهره على الدين كله) ، يقول : ليعلي الإسلام على الملل كلها (ولو كره المشركون) ، بالله ظهورَه عليها.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : (ليظهره على الدين كله).
__________
(1) انظر تفسير " الإطفاء " فيما سلف 10 : 458 .
(2) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .

(14/214)


فقال بعضهم : ذلك عند خروج عيسى ، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً.
* ذكر من قال ذلك :
16645 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال ، حدثنا شقيق قال ، حدثني ثابت الحدّاد أبو المقدام ، عن شيخ ، عن أبي هريرة في قوله : (ليظهره على الدين كله) ، قال : حين خروج عيسى ابن مريم. (1)
16646 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن فضيل بن مرزوق قال ، حدثني من سمع أبا جعفر : (ليظهره على الدين كله) ، قال : إذا خرج عيسى عليه السلام ، اتبعه أهل كل دين.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ليعلمه شرائعَ الدين كلها ، فيطلعه عليها.
* ذكر من قال ذلك :
16647 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ليظهره على الدين كله) ، قال : ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله ، فيعطيه إيّاه كله ، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر : 16645 - " ثابت الحداد " ، " أبو المقدام " هو : " ثابت بن هرمر الكوفي " مضى برقم : 5969 .

(14/215)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (34) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وأقروا بوحدانية ربهم ، إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى (1) (ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، يقول : يأخذون الرشى في أحكامهم ، ويحرّفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون : " هذه من عند الله " ، ويأخذون بها ثمنًا قليلا من سِفلتهم (2) (ويصدُّون عن سبيل الله) ، يقول : ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه ، بنهيهم إياهم عنه. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16648 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، أما " الأحبار " ، فمن اليهود. وأما " الرهبان " ، فمن النصارى. وأما " سبيل الله " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأحبار " ، و " الرهبان " فيما سلف ص : 209 ، تعليق : 2 ، و ص : 208 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " أكل الأموال بالباطل " فيما سلف 9 : 392 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الصمد " فيما سلف ص : 151 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " في فهارس اللغة ( سبل ) .

(14/216)


القول في تأويل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ).
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، ويأكلها أيضًا معهم(الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول : بشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة ، مُوجع من الله. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في معنى " الكنز " .
فقال بعضهم : هو كل مال وجبت فيه الزكاة ، فلم تؤدَّ زكاته. قالوا : وعنى بقوله : (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، ولا يؤدُّون زكاتها.
* ذكر من قال ذلك :
16649 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كل مال أدَّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته ، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن ، يكوى به صاحبه ، وإن لم يكن مدفونًا. (2)
16650 - حدثنا الحسن بن الجنيد قال ، حدثنا سعيد بن مسلمة قال ، حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : كل مالٍ أدَّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مال لم تودَّ منه الزكاة ، وإن لم
__________
(1) انظر تفسير " أليم " فينا سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .
(2) الأثر : 16649 - حديث ابن عمرو في الكنز ، رواه أبوه جعفر من طرق ، بألفاظ مختلفة ، موقوفا على ابن عمر ، وهو الصواب ، وإسناد هذا الخبر صحيح إلى ابن عمرو .
رواه مالك بمعناه من طريق عبد الله بن دينار . عن عبد الله بن عمرو في الموطأ : 256 .

(14/217)


يكن مدفونًا ، فهو كنز. (1)
16651 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أيُّما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض. وأيُّما مالٍ لم تودِّ زكاته ، فهو كنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض. (2)
16652 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وجرير ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : ما أدَّيت زكاته فليس بكنز. (3)
16653 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرَضِين. وما لم تؤدِّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا. (4)
16654 - ...... قال ، حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عكرمة قال : ما أدَّيت زكاته فليس بكنز.
__________
(1) الأثر : 16650 - " الحسن بن الجنيد البلخي " ، شيخ الطبري ، ويقال " الحسين " ، مضى برقم : 8458 . وكان في المخطوطة : " الحسين " وأثبت ما في المخطوطة .
و " سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان " ، ضعيف الحديث ، مضى برقم : 8458 .
و " إسماعيل بن أمية الأموي " ، مضى برقم : 2615 ، 8458 .
وهذا إسناد ضعيف لضعف " سعيد بن مسلمة " .
(2) الأثر : 16651 - رواه البيهقي في السنن 4 : 82 ، بنحو هذا اللفظ من طريق ابن نمير ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وقال : " هذا هو الصحيح ، موقوف . وكذلك رواه جماعة عن نافع ، وجماعة عن عبيد الله بن عمر . وقد رواه سويد بن عبد العزيز ، وليس بالقوي ، مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
(3) الأثر : 16652 - " عطية " ، هو " عطية بن سعد العوفي " ، ضعيف الحديث ، مضى تضعيفه في رقم : 305 .
(4) الأثر : 16653 - " العمري " وهو " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب " ، سلف مرارا وهذا الإسناد هو الذي أشار إليه البيهقي فيما سلف رقم 16551 ، في التعليق .

(14/218)


16655 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أما(الذين يكنزون الذهب والفضة) ، فهؤلاء أهل القبلة ، و " الكنز " ، ما لم تؤدِّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض ، وإن قلّ. وإن كان كثيرًا قد أدّيت زكاته ، فليس بكنز.
16656 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر قال : قلت لعامر : مالٌ على رَفٍّ بين السماء والأرض لا تؤدَّى زكاته ، أكنز هو ؟ قال : يُكْوَى به يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدَّيت منه الزكاة أو لم تؤدِّ.
* ذكر من قال ذلك :
16657 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي رحمة الله عليه قال : أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " ، فما كان أكثر من ذلك فهو " كنز " ، (1)
16658 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي مثله.
16659 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الشعبي قال ، أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي رحمة الله عليه في قوله : (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز.
* * *
__________
(1) الأثر : 16657 - " جعدة بن هبيرة المخزومي " ، تابعي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب . خاله علي رضي الله عنهم . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 238 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 526 .
وسيأتي بعد من طريقين .

(14/219)


وقال آخرون : " الكنز " كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
* ذكر من قال ذلك :
16660 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن معاذ قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الواحد : أنه سمع أبا مجيب قال : كان نعل سيف أبي هريرة من فضة ، فنهاه عنها أبو ذر وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك صَفْرَاء أو بيضاء كُوِي بها. (1)
16661 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش وعمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد قال : لما نزلت : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تبًّا للذهب! تبًّا للفضة! يقولها ثلاثًا ، قال : فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : فأيَّ مال نتخذ ؟! فقال عمر : أنا أعلم لكم
__________
(1) الأثر : 16660 - " ابن عبد الواحد " ، يقال : " عبد الله بن عبد الواحد الثقفي " ، ويقال : " فلان بن عبد الواحد ، رجل من ثقيف " ، ويقال : " يحيى بن عبد الواحد " ويقال : " عبد الواحد " . مجهول ، وكان في المطبوعة : " عن أنس ، عن عبد الواحد " ، غير فيها وزاد ما لم يكن في المخطوطة .
و " أبو مجيب " ، الشاشي . مجهول .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 168 من طريق محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن رجل من ثقيف يقال له فلان بن عبد الواحد قال : سمعت أبا مجيب .
وذكره الحافظ في تعجيل المنفعة : 518 ، في ترجمة " أبو محمد " . وذكر نص حديث أحمد ثم قال : " وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الكنى ، فيما حكاه الحاكم أبو أحمد عنه ، من طريق ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عبد الله بن عبد الواحد الثقفي ، عن أبي مجيب الشاشي ، فذكره . وحكى الحاكم أنه قيل في اسم هذا الثقفي : يحيى ، وقيل : عبد الواحد . وقال : الاختلاف فيه على شعبة " .
وفي رواية أحمد : " لقي أبو ذر أبا هريرة ، وجعل أراه قال قبيعة سيفه فضة " .
و " قبيعة السيف " ، هي التي تكون على رأس قائم السيف . وقيل : هي ما تحت شاربي السيف ، مما يكون فوق الغمد ، فيجيء مع قائم السيف . والشاربان : أنفان طويلان أسفل القائم ، أحدهما من هذا الجانب ، والآخر من هذا الجانب .
وأما " نعل السيف " ، فهو ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة .

(14/220)


ذلك! فقال : يا رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم ، وقالوا : فأيَّ المال نتخذ ؟ فقال : لسانًا ذاكرًا ، وقلبًا شاكرًا ، وزوجةً تُعين أحدكم على دينه. (1)
16662 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان ، بمثله. (2)
16663 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد قال : لما نزلت هذه الآية : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال المهاجرون : وأيَّ المال نتّخذ ؟ فقال عمر : اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. قال : فأدركته على بعيرٍ فقلت : يا رسول الله ، إن المهاجرين قالوا : فأيَّ المال نتخذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لسانًا ذاكرًا ، وقلبًا
__________
(1) الأثر : 16661 - خبر عمر هذا رواه أبو جعفر من طرق . أولها هذا ، ثم رقم : 16662 ، 16663 ، 16666 .
و " سالم بن أبي الجعد الأشجعي ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارا . روى عن عمر ، ولم يدركه . ومن هذا ، هذا الخبر ، ورقم : 16663 .
فهذا خبر ضعيف ، لانقطاعه . وانظر تخريج الخبر التالي ، وروايته في المسند من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم ، عن ثوبان .
(2) الأثر : 16662 - " سالم بن أبي الجعد " ، عن " ثوبان " ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اشتراه ثم أعتقه .
و " سالم بن أبي الجعد " لم يسمع من ثوبان ، قال أحمد : " لم يسمع سالم من ثوبان ، ولم يلقه . بينهما : معدان بن أبي طلحة . وليست هذه الأحاديث بصحاح " .
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5 : 278 من طريق إسرائيل ، عن منصور ، عن سالم .
ثم رواه أيضا 5 : 282 ، من طريق وكيع ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم ، عن ثوبان .
ورواه الترمذي في كتاب التفسير ، من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن منصور ، بنحوه ، وقال : " هذا حديث حسن . سألت محمد بن إسماعيل ( البخاري ) فقلت له : سالم بن أبي الجعد سمع ثوبان ؟ فقال ! لا ؛ قلت له ، ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمع من جابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " .
وسيأتي من طريق سالم عن ثوبان برقم : 16666 .
وانظر تفسير ابن كثير 4 : 155 .

(14/221)


شاكرًا ، وزوجةً مؤمنةً ، تعين أحدكم على دينه. (1)
16664 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال : توفي رجل من أهل الصُّفة ، فوُجد في مئزرِه دينارٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيَّةٌ ! ثم توفي آخر فوُجد في مئزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيَّتان! (2)
16665 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن صديّ بن عجلان أبي أمامة قال : مات رجل : من أهل الصُّفة ، فوجد في مئزره دينارٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيّةٌ! ثم توفيّ آخر ، فوجد في مئزره ديناران ، فقال نبي الله : كيّتان ! (3)
16666 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ، عن ثوبان قال : كنا في سفر ، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال المهاجرون : لوددنا أنَّا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه ؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل! فقال عمر : إن شئتم سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا : أجل!
__________
(1) الأثر : 16663 - انظر تخريج الآثار السالفة .
(2) الأثران : 16664 ، 16665 - " شهر بن حوشب " ، مضى توثيقه مرارا .
فهذا خبر صحيح الإسناد ، رواه أحمد في المسند 5 : 253 ، من طرق ، من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر . ورواه من طريق روح ، عن معمر ، عن قتادة ، ومن طريق حسين ، عن شيبان ، عن قتادة .
ورواه أيضا 5 : 252 عن حجاج قال : سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال : سمعت أبا الحسن يحدث قال هاشم في حديثه : أبو الجعد مولى لبني ضبيعة ، عن أبي أمامة .
ثم رواه أيضا 5 : 253 ، من حجاج ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن ، من أهل حمص ، من بني العداء ، من كندة ، مختصرا .
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب ، بإسناد ضعيف رقم : 788 ، 1155 ، 1156 ، 1157 .
وانظر تفسير ابن كثير 4 : 158 ، 159 .
(3) الأثران : 16664 ، 16665 - " شهر بن حوشب " ، مضى توثيقه مرارا .
فهذا خبر صحيح الإسناد ، رواه أحمد في المسند 5 : 253 ، من طرق ، من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر . ورواه من طريق روح ، عن معمر ، عن قتادة ، ومن طريق حسين ، عن شيبان ، عن قتادة .
ورواه أيضا 5 : 252 عن حجاج قال : سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال : سمعت أبا الحسن يحدث قال هاشم في حديثه : أبو الجعد مولى لبني ضبيعة ، عن أبي أمامة .
ثم رواه أيضا 5 : 253 ، من حجاج ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن ، من أهل حمص ، من بني العداء ، من كندة ، مختصرا .
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب ، بإسناد ضعيف رقم : 788 ، 1155 ، 1156 ، 1157 .
وانظر تفسير ابن كثير 4 : 158 ، 159 .

(14/222)


فانطلق ، فتبعته أوضع على بعيري ، (1) فقال : يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا : وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير فنتخذه ؟ قال : نعم! فيتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا ، وقلبًا شاكرًا ، وزوجةٌ تعين أحدَكم على إيمانه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، القولُ الذي ذكر عن ابن عمر : من أن كل مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز يحرُم على صاحبه اكتنازُه وإن كثر وأنّ كل مالٍ لم تُؤَّد زكاته فصاحبه مُعاقب مستحقٌّ وعيدَ الله ، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قلّ ، إذا كان مما يجبُ فيه الزكاة.
وذلك أن الله أوجب في خمس أواقٍ من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشْرها ، (3) وفي عشرين مثقالا من الذهب مثل ذلك ، رُبْع عشرها. فإذ كان ذلك فرضَ الله في الذهب والفضَّة على لسان رسوله ، فمعلومٌ أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ ، لو كان وإن أدِّيت زكاته من الكنوز التي أوعدَ الله أهلَها عليها العقاب ، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من رُبْع العُشْر. لأن ما كان فرضًا إخراجُ جميعِه من المال ، وحرامٌ اتخاذه ، فزكاته الخروجُ من جميعه إلى أهله ، لا رُبع عُشره. وذلك مثلُ المال المغصوب الذي هو حرامٌ على الغاصب إمساكُه ، وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده ، التطهّر منه : ردُّه إلى صاحبه. فلو كان ما زادَ من المال على أربعة آلاف درهم ، أو ما فضل عن حاجة ربِّه التي لا بد منها ، مما يستحق صاحبُه باقتنائه إذا أدَّى إلى أهل السُّهْمان حقوقهم منها من الصدقة وعيدَ الله ، لم يكن اللازمُ ربَّه فيه رُبْع عشره ، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله ، وصرفه فيما يجب عليه صرفه ، كالذي ذكرنا
__________
(1) " أوضع الراكب " ، أسرع بدابته إسراعا دون العدو الشديد .
(2) الأثر : 16666 - مكرر الخبر رقم : 16662 ، وانظر تخريج الأخبار السالفة .
(3) " الورق " ( بكسر الراء ) ، الفضة .

(14/223)


من أن الواجب على غاصِبِ رجلٍ مالَه ، رَدُّه على ربِّه.
* * *
وبعدُ ، فإن فيما : -
16667 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور قال ، قال معمر ، أخبرني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل يوم القيامة صفائحَ من نار يُكْوَى بها جبينه وجبهته وظهره ، (1) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي بين الناس ، ثم يرى سبيله ، وإن كانت إبلا إلا بُطِحَ لها بقاع قرقرٍ ، (2) تطؤه بأخفافها حسبته قال : وتعضه بأفواهها يردّ أولاها على أخراها ، حتى يقضي بين الناس ، ثم يرى سبيله. وإن كانت غنمًا فمثل ذلك ، إلا أنها تنطحه بقُرُونها ، وتطؤُه بأظلافها. (3)
* * *
وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها ، الدلالةُ الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تُؤَدَّ الوظائفُ المفروضةُ فيها لأهلها من الصدقة ، لا على اقتنائها واكتنازها. وفيما بيّنا من ذلك البيانُ الواضح على أن الآية لخاصٍّ ، كما قال ابن عباس ، وذلك ما : -
16668 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي ،
__________
(1) في المخطوطة : " جسه " غير منقوطة ، والذي في مسلم : " جنباه وجبينه " والاختلاف في هذه الأحرف ذكره مسلم في صحيحه ، وأثبت ما في المخطوطة لموافقته لما في مسند أحمد رقم : 7706 .
(2) " بطح " ( بالبناء للمجهول ) ، ألقي على وجهه . و " القاع " : الأرض المستوية الفسيحة . و " قرقر " ، هي الصحراء البارزة الملساء .
(3) الأثر : 16667 - حديث صحيح . رواه مسلم مطولا في صحيحه 7 : 67 ، من طريق محمد بن عبد الملك الأموي ، عن عبد العزيز بن المختار ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبي صالح . ورواه من طرق أخرى عن أبي صالح ، ومن طرق عن أبي هريرة .
ورواه أحمد في مسنده رقم : 7553 ، مطولا ، وقد استوفى أخي السيد أحمد تخريجه هناك . ثم رواه أيضا رقم : 7706 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، مختصرا ، وفيه : " جبينه وجبهته وظهره " فمن أجل ذلك أثبت ما كان في المخطوطة ( تعليق : 1 ) .

(14/224)


قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول : هم أهل الكتاب. وقال : هي خاصَّة وعامةٌ.
* * *
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " هي خاصة وعامة " ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدِّ زكاة ماله منهم ، وعامة في أهل الكتاب ، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا. يدلُّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ، ما : -
16669 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) ، إلى قوله : (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، قال : هم الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. قال : وكل مالٍ لا تؤدَّى زكاته ، كان على ظهر الأرض أو في بطنها ، فهو كنز وكل مالٍ تؤدَّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
16670 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال : " الكنز " ، ما كنز عن طاعة الله وفريضته ، وذلك " الكنز " . وقال : افترضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرَّق بينهما.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا : " ذلك على الخصوص " ، لأن " الكنز " في كلام العرب : كل شيء مجموع بعضُه على بعضٍ ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها ، يدلُّ على ذلك قول الشاعر : (1)
لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَهُمْ... قَرْفَ الْحَتِيِّ وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ (2)
__________
(1) هو المتنخل الهذلي .
(2) ديوان الهذليين 2 : 15 ، اللسان ( كنز ) ، وغيرهما كثير ، وهي أبيات جياد ، وصف فيها جوع الجائع وصفا لا يبارى ، يقول بعده ، ووصف رجلا ضاعت نعمه ، وشردته البيد : * * *لَوْ أنَّهُ جَاءَني جَوْعَانُ مُهْتَلِكٌ ... مِنْ بُؤسِ النَّاسِ ، عَنْهُ الخيْرُ مَحْجُوزُ
أعْيَى وقَصَّرَ لَمَّا فَاتَهُ نَعَمٌ ... يُبَادِرُ اللَّيْلَ بالعَلْيَاء مَحْفُوزُ
حَتَّى يَجِيءَ ، وَجِنُّ اللَّيْلِ يُوغِلُهُ ... والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرِّجْلَيْنِ مَرْكُوزُ
قَدْ حَالَ دُونَ دَرِيسَيْهِ مُؤَوِّبَةٌ ... نِسْعٌ ، لَهَا بِعِضَاهِ الأرْضِ تَهْرِيزُ
كَأنَّمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَلبَّتِهِ ... مِنْ جُلْبَةِ الجُوعِ جَيَّارٌ وإرْزِيزُ
لَبَاتَ أُسْوَةَ حَجَّاجٍ وَإخْوَتِهِ ... فِي جَهْدِنا ، أوْ لَهُ شَفٌّ وَتْمرِيزُ
" القرف " ، ما يقرف عن الشيء ، وهي قشره . و " الحتى " الدوم . يقول : لا أطعمه الخسيس ، والبر عندي مخزون بعضه على بعض .
ثم يقول : ضاعت إبله ، فتقاذفته البيد ، فهو من قلقه يصعد على الروابي يتنور نارا يقصدها .
ثم قال : يدفعه سواد الليل ومخاوفه ، وقد أضناه السير ، فوقع في أرض ذات شوك ، فعلق به ، لا يكاد ينقشه من شدة ضعفه . ثم يقول : اشتدت ريح الشمال الباردة بالليل وهي المؤوبة ، والشمال ، هي النسع فطيرت عنه ثوبيه الباليين ، فأخذه الجوع والبرد ، فحمي جوفه من شدة الجوع ، وذلك هو " الجيار " ، واصطكت أسنانه ، وذلك هو " الإرزيز " . ثم يقول : لو جاءني هذا الجائع المشرد ، لكان بين أهله ، فهو عندي بمنزلة حجاج وإخوته ، وهم أولاد المتنخل ، في ساعة العسرة ، بل لكان له فضل عليهم وهو " الشف " ، ولكان له زيادة وتمييز وهو " التمزيز " .

(14/225)


يعني بذلك : وعندي البرُّ مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع : " مكتنز " ، لانضمام بعضه إلى بعض.
وإذا كان ذلك معنى " الكنز " ، عندهم ، وكان قوله : (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، معناه : والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله ، وهو عامٌّ في التلاوة ، ولم يكن في الآية بيانُ كم ذلك القدر من الذهب والفضّة الذي إذا جمع بعضُه إلى بعض ، (1) استحقَّ الوعيدَ (2) كان معلومًا أن خصوص ذلك إنما أدرك ، لوقْف الرسول عليه ، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يودَّ حق الله منه من الزكاة دون غيره ، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لم يكن في الآية " ، بغير واو ، والصواب إثباتها .
(2) السياق : " وإ ذا كان ذلك معنى الكنز عندهم . . . كان معلوما . . . " .

(14/226)


وقد كان بعض الصحابة يقول : هي عامة في كل كنز غير أنها خاصّة في أهل الكتاب ، وإياهم عَنَى الله بها.
* ذكر من قال ذلك :
16671 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررت بالرَّبَذَة ، فلقيت أبا ذَرّ ، فقلت : يا أبا ذرّ ، ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشأم ، فقرأت هذه الآية : (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، الآية ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينَا ، إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال : فقلت : إنها لفينا وفيهم! قال : فارتَفَع في ذلك بيني وبينه القولُ ، فكتب إلى عثمان يشكُوني ، فكتب إليَّ عثمان أنْ أقبل إليّ ! قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركِبني الناسُ كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تَنَحَّ قريبًا. قلت : والله لن أدعَ ما كنت أقول! (1)
16672 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررنا بالربذة ، ثم ذكر عن أبي ذر نحوه. (2)
__________
(1) الأثر : 16671 - " أبو حصين " ، " عبد الله بن أحمد بن يونس اليربوعي " ، شيخ الطبري ، ثقة . مضى برقم : 12336 .
و " حصين " ، هو " حصين بن عبد الرحمن الهذلي " ، ثقة سلف مرارا ، آخرها رقم : 12193 ، 12304 .
و " زيد بن وهب الجهني " تابعي كبير ، هاجر إلى رسول الله ، ولم يدركه . مضى برقم : 4222 ، 16527 ، 16528 .
وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 3 : 217 / 8 : 244 ) ، أولهما من طريق هشيم ، عن حصين ، والثاني من طريق جرير ، عن حصين .
ورواه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 166 ، من طريق هشيم ، عن حصين .
وسيرويه أبو جعفر من طريق هشيم أيضا برقم : 16674 .
(2) الأثر : 16672 - هذا مكرر الذي قبله .

(14/227)


16673 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث وهشام ، عن أبي بشر قال ، قال أبو ذر : خرجت إلى الشأم ، فقرأت هذه الآية : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فقال معاوية : إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت : إنها لفينا وفيهم. (1)
16674 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررت بالرَّبَذة ، فإذا أنا بأبي ذر قال قلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشأم ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال : فقال : نزلت في أهل الكتاب. فقلت : نزلت فينا وفيهم ثم ذكر نحو حديث هشيم ، عن حصين. (2)
* * *
فإن قال قائل : فكيف قيل : (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فأخرجت " الهاء " و " الألف " مخرج الكناية عن أحدِ النوعين.
قيل : يحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أن يكون " الذهب والفضة " مرادًا بها الكنوز ، كأنه قيل : والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونَها في سبيل الله ، لأن الذهب والفضة هي " الكنوز " ، في هذا الموضع.
والأخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما ، من الخبر عن الأخرى ، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها ، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها ، ومنه قول الشاعر : (3)
__________
(1) الأثر : 16673 - " أبو بشر " ، هو : " جعفر بن أبي وحشية " ، مضى مرارا . وهو إسناد منقطع .
(2) الأثر : 16674 - هو مكرر الأثر السالف رقم : 16671 ، انظر تخريجه هناك .
(3) هو عمرو بن امرئ القيس ، من بني الحارث بن الخزرج ، جد عبد الله بن رواحة ، جاهلي قديم .

(14/228)


يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأَنْتَ بِمَا... عِنْدَكَ رَاض ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ (1)
فقال : " راض " ، ولم يقل : " رضوان " ، وقال الآخر : (2)
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأسْ... وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنُونَا (3)
فقال : " يعاص " ، ولم يقل : " يعاصيا " في أشياء كثيرة. ومنه قول الله : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ) ، [سورة الجمعة : 11] ، ولم يقل : " إليهما "
* * *
القول في تأويل قوله : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ (35) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا يخرجون حقوق الله منها ، يا محمد ، بعذاب أليم (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، فـ " اليوم " من صلة " العذاب الأليم " ، كأنه قيل : يبشرهم بعذاب أليم ، يعذبهم الله به في يوم يحمى عليها.
__________
(1) جمهرة أشعار العرب : 127 ، سيبويه 1 : 37 ، 38 ( منسوبا لقيس بن الخطيم ، وهو خطأ ) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 434 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 258 ، الخزانة 2 : 190 ، وغيرها ، ومضى بيت منها 2 : 21 ، وسيأتي في التفسير 22 : 68 / 26 : 99 ( بولاق ) من قصيدة قالها لمالك بن العجلان النجاري ، في خبر طويل ، يقول له : يا مَالِ ، والسَّيِّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ... يَطْرَأُ فِي بَعْضِ رأيِهِ السَّرَفُ
خالَفْتَ فِي الرأيِ كُلَّ ذِي فَخَرٍ ... وَالحقُّ ، يا مَالِ ، غيرُ مَا تَصِفُ
.
(2) هو حسان بن ثابت .
(3) ديوانه : 413 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 258 ، والكامل 2 : 79 ، واللسان ( شرخ ) ، و " الشرخ " : الحد ، أي غاية ارتفاعه ، يعني بذلك : أقصى قوته ونضارته وعنفوانه .

(14/229)


ويعني بقوله : (يحمي عليها) ، تدخل النار فيوقد عليها ، أي : على الذهب والفضة التي كنزوها (في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم).
* * *
وكل شيء أدخل النار فقد أحمي إحماءً ، يقال منه : " أحمَيت الحديدة في النار أحميها إحماءً " .
* * *
وقوله : (فتكوى بها جباههم) ، يعني بالذهب والفضة المكنوزة ، يحمى عليها في نار جهنم ، يكوي الله بها. يقول : يحرق الله جباهَ كانزيها وجنوبَهم وظهورهم (هذا ما كنزتم) ، ومعناه : ويقال لهم : هذا ما كنزتم في الدنيا ، أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم (فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، يقول : فيقال لهم : فاطعَمُوا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوقَ الله وتكنزونها مكاثرةً ومباهاةً. (1)
وحذف من قوله : (هذا ما كنزتم) و " يقال لهم " ، لدلالة الكلام عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16675 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن حميد بن هلال قال : كان أبو ذر يقول : بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه ، وكيّ في الجنوب ، وكيٍّ في الظهور ، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " ذاق " فيما سلف ص : 15 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 16675 - " حميد بن هلال العدوي " ، ثقة ، متكلم فيه ، لأنه دخل في عمل السلطان . وقال البزار في مسنده : لم يسمع من أبي ذر . ومات حميد في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق . مضى برقم : 13768 .

(14/230)


16676 - ...... قال : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن الأحنف بن قيس قال : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حَلْقَة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، (1) فقام عليهم فقال : بشِّر الكنازين برضْفٍ يحمى عليه في نار جهنم ، (2) فيوضع على حَلَمة ثدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نُغْضِ كتفه ، (3) حتى يخرج من حَلَمة ثدييه ، يتزلزل ، (4) قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال : وأدبر ، فاتبعته ، حتى جلس إلى ساريةٍ ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قُلْت ! فقال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا. (5)
16677 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم قال ، حدثني عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي نصر ، عن الأحنف بن قيس ، قال : رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب ، رثَّ الهيئة ، يطوف في الحِلَق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في جنوبهم ، وكي في جباههم ، وكيٍّ في
__________
(1) في المطبوعة " خشن " في المواضع الثلاث . وأثبت ما في المخطوطة . وهو المطابق لرواية مسلم . " الخشن " و " الأخشن " ، والأنثى " خشنة " و " خشناء " . من الخشونة . وهو الأحرش من كل شيء . ويقال . " رجل أخشن ، خشن " .
(2) " الرضف " ( بفتح فسكون ) : الحجارة المحماة على النار ، والعرب يوغرون بها اللبن ، ويشوون عليها اللحم .
(3) " نغض الكتف " ( بضم فسكون ، أو فتح فسكون ) و " ناغض الكتف " ، هو عند أعلى الكتف ، عظم رقيق على طرفه ، ينغض إذا مشى الماشي ، أي يتحرك .
(4) " يتزلزل " ، أي يتحرك ويضطرب ، كأنه يزل مرة بعد أخرى ، يقول : يضطرب الرضف المحمي نازلا من نغض الكتف حتى يخرج من حلمة الثدي .
(5) الأثر 16676 - " الجريري " ، هو " سعيد بن إياس الجريري " الحافظ المشهور ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 196 ، 12274 .
و " أبو العلاء بن الشخير " ، هو " يزيد بن عبد الله بن الشخير " ثقة وروى له الجماعة . مضى برقم 15514 ، 15515 .
وهذا الخبر رواه البخاري بنحوه مطولا في صحيحه ( الفتح 3 : 128 ) - ورواه مسلم في صحيحه 7 / 77 بلفظه من هذا الطريق مطولا أيضا .

(14/231)


ظهورهم ! ثم انطلق وهو يتذمَّر يقول (1) ما عسى تصنعُ بي قريش!! (2)
16678 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : قال أبو ذر : بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في الجباه ، وكيٍّ في الجنوب ، وكيٍّ في الظهور.
16679 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، قال : حية تنطوي على جبينه وجبهته تقول : أنا مالُك الذي بخلت به! (3)
16680 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : من ترك بعدَه كنزا مثَلَ له يوم القيامة شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان ، (4) يتبعه يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك! فلا يزال يتبعه حتى يُلْقِمه يده فيقضمها ، ثم يتبعه سائر جسده. (5)
__________
(1) " يتذمر " ، أي : يصخب من الغضب ، كأنه يعاتب نفسه .
(2) الأثر : 16677 - " عمرو بن قيس الملائي ، ثقة ، مضى مرارا .
و " عمرو بن مرة الجملي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارا .
و " أبو نصر " ، لم أعرف من هو ؟
(3) الأثر : 16679 - " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي " ، ضعيف ، لا يحتج به ، مضى برقم : 9745 ، 10683 .
وأبوه : " أبو ظبيان الجنبي " ، هو " حصين بن جندب " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى أيضا برقم : 9745 ، 10683 .
وانظر ما سلف في حديث ابن مسعود رقم : 8285 - 8289 .
(4) " الشجاع " ، ضرب من الحيات مارد خبيث . " والأقرع " ، هو الذي لا شعر له على رأسه ، قد تمعط عليه رأسه لكثرة سمه ، وطول عمره . و " الزبيبتان " : نكتتان سوداوان تكونان فوق عينيه ، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه .
(5) الأثر : 16680 - " سالم بن أبي الجعد الأشجعي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 4244 ، 11546 ، 16661 - 16666 .
و " معدان بن أبي طلحة الكناني " ، تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 38 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 404 .
وهذا الخبر ، ذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 157 ، وقال : " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد بن سعيد ، به . وأصل هذا الحديث في الصحيحين ، من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة " ، وذكر الخبر .

(14/232)


16681 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنوز تتحوَّل يوم القيامة شجاعًا يتبع صاحبه وهو يفرُّ منه ، ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئًا إلا أخذه.
16682 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : والذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمسُّ دينارٌ دينارًا ولا درهم درهمًا ، ولكن يوسع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حِدَته. (1)
16683 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : ما من رجل يكوَى بكنز فيوضع دينار على دينارٍ ولا درهم على درهم ، ولكن يوسَّع جلده. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 16682 - هذا الخبر ، ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 29 ، 30 ، وقال : " رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح " .
وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 156 ، وقال : " وقد رواه ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم " .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 3 : 233 ، ونسبه إلى ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، لم يذكر ابن جرير .
(2) الأثر : 16683 - هو مكرر الأثر السالف ، بإسناد آخر ، مختصرا .

(14/233)


إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله ، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، يقول : هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن ، وتحرِّمهن ، وتحرِّم القتال فيهن ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ ، وهن : رجب مُضر وثلاثة متواليات ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16684 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن حباب قال ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق ، فقال : يا أيها الناس ، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة حرم ، أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم. (1)
__________
(1) الأثر : 16684 - " موسى بن عبد الرحمن المسروقي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارا ، آخرها رقم 8906 .
و " زيد بن حباب العكلي " ، مضى مرارا ، منها رقم : 11134 .
و " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، ضعيف جدا ، منكر الحديث مضى مرارا ، منها رقم : 11134 .
و " صدقة بن يسار الجزري " ، مكي ثقة ، روى عن ابن عمر . مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2/ 294 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 428 .
وهذا إسناد ضعيف ، لضعف موسى بن عبيدة الربذي .

(14/234)


16685 - حدثنا محمد بن معمر قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان. (1)
16686 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال ، حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان. (2)
__________
(1) الأثر : 16685 - " محمد بن معمر بن ربعي البحراني " ، شيخ الطبري ، ثقة من شيوخ البخاري ومسلم ، مضى برقم : 241 ، 3056 ، 5393 .
و " روح " ، هو " روح بن عبادة القيسي " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " أشعث " ، هو " أشعث بن عبد الملك الحمراني " ، ثقة مأمون ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 1 \ 431 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 275 .
وهذا الخبر ، نقله ابن كثير في تفسيره 4 : 160 ، عن هذا الوضع ، ثم قال : " رواه البزار ، عن محمد بن معمر ، به ، ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه " .
(2) الأثر : 16686 - هذا خبر منقطع الإسناد ، لأن محمد بن سيرين لم يسمع من أبي بكرة ، ووصله البخاري في مواضع صحيحه ، من طريق " أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبي بكرة " (الفتح 1 : 145 ، 177 ، 178 \ 3 : 459 \ 6 : 210 ، 211 \ 8 : 83 ، 244) ، مطولا.
ووصله مسلم أيضًا في صحيحه 11 : 167.
ورواه أحمد في مسنده 5 : 37 ، منقطعا ، كما رواه الطبري ، وقد استوفى الحافظ ابن حجر ، تفصيل القول في ذلك في الفتح ، في المواضع التي ذكرتها آنفًا.
والحديث صحيح متفق عليه.

(14/235)


16687 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سليمان التيمي قال ، حدثني رجل بالبحرين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ الذي بين جمادى وشعبان " .
16688 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح قوله : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.
16689 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منًى : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
* * *
وهو قول عامة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16690 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أما(أربعة حرم) ، فذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب. وأما(كتاب الله) ، فالذي عنده.
16691 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (إن عدة الشهور عند الله

(14/236)


اثنا عشر شهرًا) ، قال : يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.
16692 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله) ، قال : يذكر بها شأن النسيء.
* * *
وأما قوله : (ذلك الدين القيم) ، فإن معناه : هذا الذي أخبرتكم به ، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله ، وأن منها أربعة حرمًا : هو الدين المستقيم ، كما : -
16693 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (ذلك الدين القيم) ، يقول : المستقيم.
16694 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، ابن زيد في قوله : (ذلك الدين القيم) ، قال : الأمر القيم. يقول : قال تعالى : واعلموا ، أيها الناس ، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن ، وأن من هذه الاثنى عشر شهرًا أربعةُ أشهرٍ حرمًا ، ذلك دين الله المستقيم ، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة ، وتحريمه ما يحرِّمه منها. (1)
وأما قوله : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن معناه : فلا تعصوا الله فيها ، ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم ، فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه. كما : -
__________
(1) " النسئ " ، هكذا جاءت في المخطوطة أيضًا ، بمعنى " الناسئ " ، وهو الذي كان يحلل لهم الشهر ويحرمه. وأخشى أن يكون وهمًا من الناسخ ، فإن " النسئ " على وزن " فعيل " ، وهو بمعنى " مفعول " ، أو مصدر " نسأ الشهر " ، ولم أرهم قالوا في الرجل إلا " ناسئ " ، وجمعه " نسأة " ، مثل " فاسق " و " فسقة " .
وانظر ما سيأتي في تفسير " النسئ " ص : 343 ، والخبر رقم : 16708 ، 16709 ، والتعليق هناك.

(14/237)


16695 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال : الظلم العمل بمعاصي الله ، والترك لطاعته.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه " الهاء " ، و " النون " في قوله : (فيهن).
فقال بعضهم : عاد ذلك على " الاثنى العشر الشهر " ، (1) وقال : معناه : فلا تظلموا في الأشهر كلِّها أنفسكم.
* ذكر من قال ذلك :
16696 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا ، وعظّم حُرُماتهن ، وجعل الذنبَ فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم.
16697 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال : في الشهور كلها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرُم أنفسكم و " الهاء والنون " عائدة على " الأشهر الأربعة " .
* ذكر من قال ذلك :
16698 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أما قوله : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن الظلم في الأشهر الحرم
__________
(1) في المطبوعة : " على الاثنى عشر شهرًا " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/238)


أعظم خطيئةً ووِزْرًا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا ، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال : إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر ، فعظِّموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في تصييركم حرامَ الأشهر الأربعة حلالا وحلالها حرامًا أنفسَكم.
* ذكر من قال ذلك :
16699 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا) ، إلى قوله : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، : أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حرامًا ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء ، الذي كانوا يصنعون من ذلك ، (زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا) ، الآية. (1)
166700 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال : " ظلم أنفسكم " ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16701 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن علي : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال : " ظلم أنفسكم " ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16702 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 16699 - سيرة ابن هشام 4 : 193 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16615.

(14/239)


سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسَكم ، باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظَّم حرمتها.
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في تأويله ، لقوله : (فلا تظلموا فيهن) ، فأخرج الكناية عنه مُخْرَج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة ، إذا كَنَتْ عنه : " فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون ، ولأربعة أيام بقين " وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت : " فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت ، ولأربع عشرة مضت " فكان في قوله جل ثناؤه : (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، وإخراجِه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة ، الدليلُ الواضح على أن " الهاء والنون " ، من ذكر الأشهر الأربعة ، دون الاثنى العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن " الاثنى عشر شهرًا " ، لكان : فلا تظلموا فيها أنفُسكم. (1)
* * *
فإن قال قائل : فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن " الاثنى عشر " ، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب ؟ فقد علمت أن [من] المعروف من كلامها ، (2) إخراجُ كناية ما بين الثلاث إلى العشر ، بالهاء دون النون ، وقد قال الشاعر : (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 435 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أن المعروف من كلامها " ، والسياق يقتضي إثبات ما أثبت بين القوسين ، لأن هذا القائل ، أقر أولا بأن ما قاله الطبري هو " المعروف من كلامها " ، أي المشهور المتفق عليه. فالجيد أن يعترض عليه بشيء آخر ، هو " الجائز في كلامها " ، فمن أجل هذا المعنى زدت " من " بين القوسين ، ليستقيم منطق الكلام .
(3) هو عمر بن لجأ التيمي.

(14/240)


أَصْبَحْنَ فِي قُرْحٍ وَفِي دَارَاتِها... سَبْعَ لَيَالٍ غَيْرَ مَعْلُوفَاتِهَا (1)
ولم يقل : " معلوفاتهن " ، وذلك كناية عن " السبع " ؟
قيل : إن ذلك وإن كان جائزًا ، فليس الأفصحَ الأعرفَ في كلامها. وتوجيهُ كلام الله إلى الأفصح الأعرف ، أولى من توجيهه إلى الأنكر.
* * *
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظُلْم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة ؟
قيل : ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ ، ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة ، فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم ، كما خصّهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) [سورة البقرة : 238] ، ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : (حافظوا على الصلوات) ، ولم يبح ترك المحافظة عليهن ، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى ذكره زادَها تعظيمًا ، وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا. فكذلك ذلك في قوله : (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، .
* * *
وأما قوله : (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، فإنه يقول جل ثناؤه : وقاتلوا المشركين بالله ، أيها المؤمنون ، جميعًا غير مختلفين ، مؤتلفين غير مفترقين ، كما يقاتلكم المشركون جميعًا ، مجتمعين غير متفرقين ، كما : -
16703 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ،
__________
(1) حماسة أبي تمام 4 : 157 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 435 . واللسان ( قرح ) ، غير منسوبة ودل على أنها لعمر بن لجأ ، أبيات رواها الأصمعي في الأصمعيات ص : 25 ، 26 و " قرح " ( بضم القاف وسكون الراء ) ، هو سوق وادي القرى ، صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنى به مسجدا ، ورواية الحماسة واللسان ، " حبسن في قرح " .

(14/241)


حدثنا أسباط ، عن السدي : (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، أما " كافة " ، فجميع ، وأمركم مجتمع.
16704 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وقاتلوا المشركين كافة) ، يقول : جميعًا.
* * *
16705 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وقاتلوا المشركين كافة) ، : أي : جميعا.
* * *
و " الكافة " في كل حال على صورة واحدة ، لا تذكّر ولا تجمع ، لأنها وإن كانت بلفظ " فاعلة " ، فإنها في معنى المصدر ، ك " العافية " و " العاقبة " ، ولا تدخل العربُ فيها " الألف واللام " ، لكونها آخر الكلام ، مع الذي فيها من معنى المصدر ، كما لم يدخلوها إذا قاتلوا : " قاموا معًا " ، و " قاموا جميعا " . (1)
* * *
وأما قوله : (واعلموا أن الله مع المتقين) ، فإن معناه : واعلموا ، أيها المؤمنون بالله ، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة ، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ، ولم تخالفوا أمره فتعصوه ، كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين ، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء ، (2) لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كافة " فيما سلف 4 : 257 ، 258 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 436 .
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 13 : 576 تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/242)


إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما النّسيء إلا زيادة في الكفر.
* * *
و " النسيء " مصدر من قول القائل : " نسأت في أيامك ، ونسأ الله في أجلك " ، أي : زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك ، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء ، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه : " نسيء " . ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء : " نسيء " ، وقيل للمرأة الحبلى : " نَسُوء " ، و " نُسِئت المرأة " ، لزيادة الولد فيها ، وقيل : " نسأتُ الناقة وأنسأتها " ، إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أن : " النسيء " ، " فعيل " صرف إليه من " مفعول " ، كما قيل : " لعينٌ " و " قتيل " ، بمعنى : ملعون ومقتول. ويكون معناه : إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر.
وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام ، وهو أن يكون معناه : إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة ، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا ، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته.
* * *
وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك : (إِنَّمَا النَّسْيُ) بترك الهمز ، وترك مدِّه : (يضل به الذين كفروا) ، .
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.

(14/243)


فقرأته عامة الكوفيين : (يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى : يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه ، الذين كفروا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى : يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته ، الذين كفروا.
* * *
وقد حكي عن الحسن البصري : (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى : يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا ، الناسَ.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : هما قراءتان مشهورتان ، قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به ، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو " ضال " ، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
* * *
وأما الصواب من القراءة في " النسيء " ، فالهمزة ، وقراءته على تقدير " فعيل " لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
* * *
وأما قوله : (يحلونه عامًا) ، فإن معناه : يُحلُّ الذين كفروا النسيء و " الهاء " في قوله : (يحلونه) ، عائدة عليه.
ومعنى الكلام : يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم ، عامًا (ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول : ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور ، وتحريمهم ما حرموا منها ، عدّة ما حرّم الله (1) (فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم) ، يقول : حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها ،
__________
(1) انظر تفسير " عدة " فيما سلف 3 : 459 \ 14 : 234 .

(14/244)


وما خولف به أمرُ الله وطاعته (1) (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول : والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها ، (2) وما لله فيه رضًى ، القومَ الجاحدين توحيدَه ، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه يخذّلهم عن الهُدى ، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16706 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : " النسيء " ، هو أن " جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني " ، كان يوافي الموسم كلَّ عام ، وكان يُكنى " أبا ثُمَامة " ، (4) فينادي : " ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ ، (5) ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ " ، (6) فيحله الناس ، فيحرم صَفَر عامًا ، ويحرِّم المحرم عامًا ، فذلك قوله تعالى : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله : (الكافرين). وقوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول : يتركون المحرم عامًا ، وعامًا يحرِّمونه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " زين " فيما سلف ص : 7 : تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " لمحاسن الأفعال وحلها " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وصوابه ما أثبت.
(3) انظر تفسير " هدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
(4) انظر أخبار " النسأة " ، وخبر " جنادة بن عوف بن أمية " في سيرة ابن هشام 1 : 44 - 47 ، والمحبر : 156 ، 157 ، وغيرهما . و " جنادة بن عوف " ، هو الذي قام عليه الإسلام من النسأة.
(5) كان في المطبوعة : " لا يجاب " بالجيم ، ووردت بالجيم في كثير من الكتب ، منها لسان العرب ( نسأ ) ، ولكنه ورد في المحبر : 157 ، بالحاء المهملة ، وهو من " الحوب " ، أي : الإثم ، أي : لا ينسب إلى الإثم . وانظر الخبر التالي رقم : 16710 .
(6) في المطبوعة : " صفر العام الأول حلال " ، حذف " العام " الثانية ، وهي ثابتة في المخطوطة .

(14/245)


قال أبو جعفر : وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس ، يدل على صحة قراءة من قرأ(النَّسْيُ) ، بترك الهمزة وترك المدّ ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه " فَعْلٌ " ، من قول القائل : " نسيت الشيء أنساه " ، ومن قول الله : ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) ، [سورة التوبة : 67] ، بمعنى : تركوا الله فتركهم.
16707 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : فهو المحرَّم ، كان يحرَّم عامًا ، وصفرُ عامًا ، وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم ، وكانوا يحرمون صفرًا مرة ، ويحلُّونه مرة ، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله.
16708 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : كان " النسيء " رجلا من بني كنانة ، (1) وكان ذا رأي فيهم ، وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا ، فيغزون فيه ، فيغنمون فيه ، ويصيبون ، ويحرِّمه سنة.
16709 - ...... قال حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، الآية ، وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى " النسيء " ، فكان يجعل المحرَّم صفرًا ، ويستحل فيه الغنائم ، فنزلت هذه الآية.
16710 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن مجاهد قال ، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له ، فيقول : " أيها الناس ، إني لا أعاب ولا أحَابُ ، (2) ولا مَرَدَّ لما أقول ، إنَّا قد
__________
(1) قوله : " كان النسيء رجلا " ، دال على صواب قوله هناك ص : 237 ، تعليق 1 : ، على أن " النسيء " في ذلك الموضع صواب أيضًا ، وانظر الأثر التالي ، قوله : " وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء " ، وهذا كله لم تذكره كتب اللغة التي بين يدي .
(2) " أحاب " مضى تفسيرها ص : 243 ، تعليق : 2 ، وكانت هنا في المطبوعة أيضًا " أجاب " بالجيم .

(14/246)


حرمنا المحرَّم ، وأخَّرنا صفر " . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : " إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم " ، فهو قوله : (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، قال : يعني الأربعة (فيحلوا ما حرم الله) ، لتأخير هذا الشهر الحرام.
16711 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، " النسيء " ، المحرّم ، وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا ، فالزيادة " صفر " ، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم ، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه ، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
16712 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله : (الكافرين) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم ، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول : " ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم " ، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول : " ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر " ، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما " الصفران " . قال : فكان أول من نَسَأ النسيء : بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة : أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث ، ثم أحد بني كنانة. (1)
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة : " وكانوا ثلاثة " ، ثم لم يذكر غير واحد . وقوله : " أبو ثمامة ، صفوان بن أمية " ، مضى قبل في الأثر رقم : 16706 أن " أبا ثمامة " هو " جنادة بن عوف بن أمية " ، أما صفوان هذا فقد ذكره أبو عبيد البكري في شرح الأمالي : 10 ، وقال : قال الليثي : كان الذي انبرى للنسئ ، القلمس ، وهو : صفوان بن محرث ، أحد بني مالك بن كنانة ، وكان له بذلك ملكة وأكل ، وتوارثه بنوه إلى الإسلام " . ولكن الذي ذكره ابن حبيب في المحبر ، وابن هشام في سيرته 1 : 44 . قال ابن إسحاق : " وكان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحلت ما أحل ، وحرمت منها ما حرم : القلمس ، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم ابن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة . ثم قام بعده على ذلك ، ابنه : عباد بن حذيفة . ثم قام بعد عباد : قلع بن عباد . ثم قام بعد قلع : أمية بن قلع . ثم قلم بعد أمية : عوف بن أمية . ثم قام بعد عوف : أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام " . وذلك ما قاله ابن حبيب ، وما قاله ابن حزم في الجمهرة : 178 ، والمصعب الزبيري في نسب قريش : 12 .
ولم أجد هذا الخبر في مكان آخر ، فأعرف مقالة قتادة في أمر النسئ والنسأة .
و " صفوان بن محرث " الذي ذكره البكري ، هو " صفوان بن أمية " المذكور في هذا الخبر ، وهو : " صفوان بن أمية بن محرث بن بن خمل بن شق بن رقبة بن مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة " ، وكان أحد حكام العرب في الجاهلية ، وأحد من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية ( انظر المحبر : 133 ، 237 \ أمالي القالي 1 : 240 وذكر شعره في تحريم الخمر ) . وبين من هذا كله أن " صفوان بن أمية " ، ليس من " بني فقيم بن الحارث بن مالك " . بل من بني " مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك " .
ثم انظر ص : 250 ، تعليق : 1 ، وذكر " القلمس " للناسئ في شعر عبد الرحمن بن الحكم ، وأمه هي : " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث " .

(14/247)


16713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : فرض الله الحج في ذي الحجة. قال : وكان المشركون يسمون الأشهر : ذو الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، يحجون فيه مرة ، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان ورمضان ، ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة ، فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " .
16714 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن

(14/248)


معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجُّوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة ، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " .
16715 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشرا شهرًا ، فيجعلون المحرَّم صفرًا ، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنزل الله : (إنما النسيء زيادة في الكفر).
16716 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) ، الآية. قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له : " القَلَمَّس " ، كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو ، قال : " أخرجوا بنا " ، قالوا له : " هذا المحرَّم " ! فقال : " ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان عام قابلٍ قضينا ، فجعلناهما محرَّمَين " . قال : ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال : " لا تغزوا في صفر ، حرِّموه مع المحرم ، هما محرَّمان ، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه. ذلك " الإنساء " ، وقال منافرهم : (1)
__________
(1) في المطبوعة : " وقال شاعرهم " ، وأثبت ما في المخطوطة . و " المنافر " ، هو المفاخر في المنافرة . قال ابن سيده : " وكأنما جاءت المنافرة ، في أول ما استعملت ، أنهم كانوا يسألون الحاكم : أينا أعز نفرا ؟ " . و " المنافرة " : هي أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ، ثم يحكما بينهما رجلا .

(14/249)


وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ (1)
وأنزل الله : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى آخر الآية.
* * *
وأما قوله : (زيادة في الكفر) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء ، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء ، (2) كما : -
16717 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول : ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
* * *
وأما قوله : (ليواطئوا) ، فإنه من قول القائل : " واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة " ، إذا وافقته عليه ، معينًا له ، غير مخالف عليه.
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك ما : -
16718 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول : يشبهون.
* * *
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة مضطرب الميزان ، وذكره القرطبي في تفسيره 8 : 138 . ومنا ناسئ الشهر القلمس
وهو أيضًا غير مستقيم ، والذي وجدته ، هو ما قاله عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، قال : نمَانِي أبُو العَاصِي الأمِينُ وَهَاشِمٌ ... وعُثْمانُ ، والنَّاسِي الشُّهُورَ القَلَمَّسُ
وأم عبد الرحمن بن الحكم ، ومروان بن الحكم ، هي : " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث بن خمل بن شق " ، و " صفوان " هذا هو الذي جاء ذكره في الخبر رقم : 16712 ، وأنه كان من " النسأة " ، وكل ناسئ كان يقال له : " القلمس " ، فهذا البيت يؤيد ما قاله قتادة بعض التأييد. وانظر البيت الذي ذكرته في نسب قريش للمصعب الزبيري ص : 98 .
(2) في المطبوعة : " وقيل : ابتداعهم النسئ " ، غير ما في المخطوطة ، فأفسد الكلام كله .

(14/250)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)

قال أبو جعفر : وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا ، وذلك أن ما شابه الشيء ، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام : أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها ، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله ، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها ، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) }
قال أبو جعفر : وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم ، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.
يقول جل ثناؤه : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (ما لكم) ، أيّ شيء أمرُكم (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) ، يقول : إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ (انفروا) ، أي : اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.
* * *
وأصل " النفر " ، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه : " نفورًا الدابة " . غير أنه يقال : من النفر إلى الغزو : " نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا " ، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه ، (1)
__________
(1) يعني أبو جعفر ، أنهم لم يقولوا في النفر إلى الغزو " نفورا " في مصدره ، وقد أثبتت كتب اللغة أنه يقال في مصدره " نفر إلى الغزو نفورا " .

(14/251)


وإن اتفقت معاني الخبر. (1)
* * *
فمعنى الكلام : ما لكم أيها المؤمنون ، إذا قيل لكم : اخرجُوا غزاة " في سبيل الله " ، أي : في جهاد أعداء الله (2) (اثَّاقلتم إلى الأرض) ، يقول : تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.
* * *
وقيل : " اثّاقلتم " لإدغام " التاء " في " الثاء " فأحدثتْ لها ألف. (3) ليُتَوصَّل إلى الكلام بها ، لأن " التاء " مدغمة في " الثاء " . ولو أسقطت الألف ، وابتدئ بها ، لم تكن إلا متحركة ، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها ، كما قال جل ثناؤه : ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ) ، [سورة الأعراف : 38] ، وكما قال الشاعر : (4)
تُولِي الضَّجِيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا... عَذْبَ المَذَاقِ ، إذَا مَا أتَّابَعَ القُبَلُ (5)
[فهو من " الثقل " ، ومجازه مجاز " افتعلتم " ] ، من " التثاقل " . (6)
وقوله : (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، يقول جل ثناؤه ، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها ، عوضًا من نعيم الآخرة ، وما عند الله للمتقين في جنانه (فما
__________
(1) انظر " النفر " فيما سلف 8 : 536 ، ولم يفسره هناك.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(3) في المطبوعة : " لأنه أدغم التاء في الثاء فأحدث لها ألف " ، وكان في المخطوطة : " لأنه غام " ، فلم يحسن قراءتها ، فغير الكلام ، فأثبته على الصواب من المخطوطة . وانظر ما سلف في الإدغام 2 : 224 .
(4) لم أعرف قائله
(5) مضى شرحه وتفسيره آنفًا 2 : 223 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 438.
(6) مكان هذه الجملة في المطبوعة : " فهو بنى الفعل افتعلتم من التثاقل " ، وهو كلام غث جدا. وفي المخطوطة : " فهو بين الفعل افتعلتم من التثاقل " ، غير منقوط ، وصححت هذه العبارة اجتهادا ، مؤتنسًا بما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 260 ، قال : " ومجاز : اثاقلتم ، مجاز : افتعلتم ، من التثاقل ، فأدغمت التاء في الثاء ، فثقلت وشددت " . يعني أبو عبيدة : أنك لو بنيت " افتعل " من " الثقل " ، كان واجبا إدغام التاء في الثاء . وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 437 ، 438 .

(14/252)


متاع الحياة الدنيا في الآخرة) ، يقول : فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته (1) (إلا قليل) ، يسير. يقول لهم : فاطلبوا ، أيها المؤمنون ، نعيم الآخرة ، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه ، (2) بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16719 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح ، وبعد الطائف ، وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف ، حين خُرِفت النخل ، (3) وطابت الثمار ، واشتَهُوا الظلال ، وشقّ عليهم المخرج.
16720 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية ، قال : هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف ، حين اختُرِفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشقَّ عليهم المخرج. قال : فقالوا : " الثقيل " ، ذو الحاجة ، والضَّيْعة ، والشغل ، (4) والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنزل الله : (انفروا خفافا وثقالا) ، [سورة التوبة : 41]
* * *
__________
(1) انظر تفسير " متاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع).
(2) في المطبوعة : " وترف الكرامة " ، والصواب ما في المخطوطة.
(3) " خرف النخل يخرفه خرفًا ، واخترفه اخترافًا " ، صرم ثمره واجتناه بعد أن يطيب.
(4) في المطبوعة : " فقالوا : منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ... " ، غير ما في المخطوطة ، وكان في المخطوطة ما أثبت. وهو مقبول ، مع شكي في أن يكون سقط من الكلام شيء. وقوله : " الثقيل : ذو الحاجة والضيعة " هو تفسير قوله تعالى : (انفروا خفافًا وثقالا) ، جمع " ثقيل " ، كما سترى في تفسير الآية ص : 262 وما بعدها .

(14/253)


إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

القول في تأويل قوله : { إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله ، متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم : إن لم تنفروا ، أيها المؤمنون ، إلى من استنفركم رسول الله ، يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا ، بترككم النَّفْر إليهم ، عذابًا مُوجعًا (1) (ويستبدل قومًا غيركم) ، يقول : يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم ، ينفرون إذا استنفروا ، ويجيبونه إذا دعوا ، ويطيعون الله ورسوله (2) (ولا تضروه شيئا) ، يقول : ولا تضروا الله ، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا ، لأنه لا حاجة به إليكم ، بل أنتم أهل الحاجة إليه ، وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء (والله على كل شيء قدير) ، يقول جل ثناؤه : والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم ، وعلى كل ما يشاء من الأشياء ، قدير. (3)
* * *
وقد ذكر أن " العذاب الأليم " في هذا الموضع ، كان احتباسَ القَطْر عنهم.
* ذكر من قال ذلك :
16721 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال ، حدثني نجدة الخراساني قال : سمعت ابن عباس ، سئل عن قوله : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، قال : إن رسول الله
__________
(1) انظر تفسير " النفر " فيما سلف قريبا ص : 249.
(2) انظر تفسير " الاستبدال " فيما سلف 8 : 123 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر)

(14/254)


صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر ، فكان ذلك عذابَهم ، فذلك قوله : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما). (1)
16722 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة قال : سألت ابن عباس ، فذكر نحوه إلا أنه قال : فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر. (2)
16723 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم ، (3) على ما يعلم الله من الجَهْد.
* * *
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
16724 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، وقال : ( مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
__________
(1) الأثر : 16721 - " زيد بن الحباب العكلي " ، سلف مرارًا ، آخرها رقم : 16684 .
و " عبد المؤمن بن خالد الحنفي " ، ثقة ، مضى برقم 11914 .
و " نجدة الخراساني " هو : " نجدة بن نفيع الحنفي " ، ثقة ، مضى أيضًا برقم : 11914 .
وهذا الخبر ، رواه الطبري فيما يلي برقم : 16722 ، من طريق يحيى بن واضح ، عن عبد المؤمن .
ورواه أبو داود في سننه 3 : 16 ، رقم : 2506 ، من طريق زيد بن الحباب ، مختصرًا ، ورواه البيهقي في السنن 9 : 48 ، بنحوه . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 239 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه الحاكم.
(2) الأثر : 16722 - هو مكرر الأثر السالف ، وهذا أيضا لفظ أبي داود والبيهقي : " المطر " ، من طريق زيد بن الحباب السالف.
(3) " لهبان الحر " ، (بفتح اللام والهاء) ، شدته في الرمضاء. ويقال : " يوم لهبان " ، صفة ، أي شديد الحر. و " اللهبان " مصدر مثل : اللهب ، واللهيب ، واللهاب (بضم اللام) ، وهو اشتعال النار إذا خلصت من الدخان.

(14/255)


عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) ، إلى قوله : ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، فنسختها الآية التي تلتها : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ، إلى قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، [سورة التوبة : 120 - 122].
* * *
قال أبو جعفر : ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن ، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا ، (1) يجب التسليم له ، ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. (2) وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ ، وجائزٌ أن يكون قوله : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، الخاص من الناس ، ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر ، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.
وإذا كان ذلك كذلك ، كان قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها ، وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض ، وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى ، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " التي ذكروا " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " ولا حجة تأتي بصحة ذلك " وفي المخطوطة : " ولا حجة بات بصحة ذلك " ، غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(14/256)


إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

القول في تأويل قوله : { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }
قال أبو جعفر : وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدوُّ في كثرة ، فكيف به وهو من العدد في كثرة ، والعدو في قلة ؟
يقول لهم جل ثناؤه : إلا تنفروا ، أيها المؤمنون ، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه ، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره (إذ أخرجه الذين كفروا) ، بالله من قريش من وطنه وداره (ثاني اثنين) ، يقول : أخرجوه وهو أحد الاثنين ، أي : واحد من الاثنين.
* * *
وكذلك تقول العرب : " هو ثاني اثنين " يعني : أحد الاثنين ، و " ثالث ثلاثة ، ورابع أربعة " ، يعني : أحد الثلاثة ، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم : " هو أخو ستة ، وغلام سبعة " ، لأن " الأخ " ، و " الغلام " غير الستة والسبعة ، " وثالث الثلاثة " ، أحد الثلاثة.
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : (ثاني اثنين) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ، لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
* * *
وقوله : (إذ هما في الغار) ، يقول : إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر

(14/257)


رحمة الله عليه ، في الغار.
* * *
و " الغار " ، النقب العظيم يكون في الجبل.
* * *
(إذ يقول لصاحبه) ، يقول : إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر ، (لا تحزن) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما ، فجزع من ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن " ، لأن الله معنا والله ناصرنا ، (1)
فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه : فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد ، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم ، وقد كثَّر الله أنصاره ، وعدد جنودِه ؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16725 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا تنصروه) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله : فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره ، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
16726 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، قال : ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ ، فالله فاعلٌ به كذلك ، ناصره كما نصره إذ ذاك(ثانيَ اثنين إذ هما في الغار).
16727 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، الآية ، قال : فكان صاحبَه أبو بكر ، وأما
__________
(1) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص : 240 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/258)


" الغار " ، فجبل بمكة يقال له : " ثَوْر " .
16728 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله ، (1) فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور ، وهو " الغار " الذي سماه الله في القرآن. (2)
16729 - حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال ، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ (3)
__________
(1) " المنيحة " ، شاة أو ناقة يعيرها الرجل أخاه ، يحتلبها وينتفع بلبنها سنة ، ثم يردها إليه.
(2) الأثر : 16728 - هذا جزء من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان ، والذي خرجته فيما سلف برقم : 16083 ، ومواضع أخرى كثيرة. وهذا الجزء من الكتاب في تاريخ الطبري 2 : 246.
(3) الأثر : 16729 - " يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي " ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 302 .
و " عفان " هو " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار " ، ثقة ، من شيوخ أحمد والبخاري ، مضى برقم : 5392 .
و " حبان " ، هو " حبان بن هلال الباهلي " ، ثقة ، روى له الجماعة. مضى برقم : 5472 . " حبان " بفتح الحاء لا بكسرها.
و " همام " هو " همام بن يحيى بن دينار الأزدي " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها : 16306.
و " ثابت " هو " ثابت بن أسلم البناني " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى برقم : 2942 ، 7030 .
وهذا الخبر رواه من طريق عفان بن مسلم ، ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 123 ، وأحمد في مسنده رقم : 11 ، والترمذي في تفسير الآية.
ورواه من طريق حبان بن هلال ، البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 245 ) ، ومسلم في صحيحه 15 : 149 .
ورواه البخاري من طريق محمد بن سنان ، عن هلال في صحيحه (الفتح 7 : 9) .
وقال الترمذي : " هذا حديث صحيح غريب ، إنما يروى من حديث همام . وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال ، وغير واحد ، عن همام ، نحو هذا " .
وخرجه السيوطي في الدر 3 : 242 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وأبي عوانة ، وابن حبان ، وابن المنذر ، وابن مردويه.

(14/259)


16730 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد قال : مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
16731 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : (إذ هما في الغار) ، قال : في الجبل الذي يسمَّى ثورًا ، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
16732 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال : أيُّكم يقرأ " سورة التوبة " ؟ (1) قال رجل : أنا. قال : اقرأ. فلما بلغ : (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) ، بكى أبو بكر وقال : أنا والله صاحبُه. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " سورة البقرة " ، وهو خطأ أبين من أن يدل على تصحيحه.
(2) الأثر : 16732 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 5973 .
وأبوه " الحارث بن يعقوب بن ثعلبة ، أو : ابن عبد الله ، الأنصاري المصري " . ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1\ 2 \ 282 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 93.

(14/260)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله (1) وقد قيل : على أبي بكر (وأيده بجنود لم تروها) ، يقول : وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة ، لم تروها أنتم (2) (وجعل كلمة الذين كفروا) ، وهي كلمة الشرك (السُّفْلى) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت ، وأبطلها الله تعالى ، ومحق أهلها ، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب ، والغالب هو الأعلى (وكلمة الله هي العليا) ، يقول : ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله ، وهي كلمتُه (العليا) ، على الشرك وأهله ، الغالبةُ ، (3) كما : -
16733 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، وهي : الشرك بالله (وكلمة الله هي العليا) ، وهي : لا إله إلا الله.
* * *
وقوله : (وكلمة الله هي العليا) ، خبر مبتدأ ، غيرُ مردودٍ على قوله : (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على " الكلمة " الأولى ، لكان نصبًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السكينة " فيما سلف ص : 189 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التأييد " فيما سلف ص : 44 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الأعلى " فيما سلف 7 : 234.
(4) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 438 ، وهو فصل جيد واضح.

(14/261)


وأما قوله : (والله عزير حكيم) ، فإنه يعني : (والله عزيز) ، في انتقامه من أهل الكفر به ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، ولا ينصر من عاقبه ناصر (حكيم) ، في تدبيره خلقَه ، وتصريفه إياهم في مشيئته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم).

(14/262)


انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

القول في تأويل قوله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) }
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في معنى " الخفة " و " الثقل " ، اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه.
فقال بعضهم : معنى " الخفة " ، التي عناها الله في هذا الموضع ، الشباب ومعنى " الثقل " ، الشيخوخة.
* ذكر من قال ذلك :
16734 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن رجل ، عن الحسن في قوله : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : شيبًا وشبّانًا.
16735 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن عمرو ، عن الحسن قال : شيوخًا وشبانًا.
16736 - ...... قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة : (انفروا خفافا وثقالا) ، قال : كهولا وشبانًا ، ما أسمع الله عَذَر واحدًا!! (1) فخرج إلى الشأم ، فجاهد حتى مات. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " عذر أحدًا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 16736 - " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة " ، مضى مرارًا ، وثقة.
أخي السيد أحمد فيما سلف رقم : 4897 ، وقد تكلم فيه أحمد وغيره قال : " ضعيف الحديث " . و " أنس " هو " أنس بن مالك " خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و " أبو طلحة " ، هو " زيد بن سهل الأنصاري " ، صاحب رسول الله ، شهد العقبة ، وبدرا ، المشاهد كلها.
وهذا الخبر ، رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 66 من طريق عفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، وعلي بن يزيد ، عن أنس ، مطولا ، بغير هذا اللفظ . ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 353 ، من هذه الطريق نفسها وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 246 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي عمر العدني في مسنده ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد ، وأبي يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 312 ، بغير هذا اللفظ ، وقال : " رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح " .

(14/262)


16737 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن المغيرة بن النعمان قال : كان رجل من النَّخع ، وكان شيخًا بادنًا ، فأراد الغزوَ ، فمنعه سعد بن أبي وقاص فقال : إن الله يقول : (انفروا خفافًا وثقالا) ، فأذن له سعد ، فقتل الشيخ ، فسأل عنه بعدُ عُمَرُ ، فقال : ما فعل الشيخ الذي كأنّه من بني هاشم ؟ (1) فقالوا : قتل يا أمير المؤمنين! (2)
16738 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال : الشابُّ والشيخ.
16739 - ...... قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن مالك بن مغول ، عن إسماعيل ، عن عكرمة ، قال : الشاب والشيخ.
16740 - ...... قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : كهولا وشبَّانًا.
16741 - ...... قال ، حدثنا حبويه أبو يزيد ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر بن حميد ، عن بشر بن عطية : كهولا وشبانًا (3)
__________
(1) في المطبوعة : " كان من بني هاشم " ، وهو خطأ لا شك فيه ، فإن الرجل " من النخع " ، كما ذكر قبل ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 16737 - " المغيرة بن النعمان النخعي " ، ثقة ، مضى برقم : 13622.
(3) الأثر : 16741 - " حبويه ، أبو يزيد " ، هو " إسحاق بن إسماعيل الرازي " ، مضى مرارًا ، منها رقم : 15993 ، وكتب في المطبوعة : " حيوة " ، وغير ما في المخطوطة ، وهو خطأ محض.
وأما " جعفر بن حميد " ، فلم أجد له ذكرًا في شيء من مراجعي ، والذي يروي عنه يعقوب بن عبد الله القمي ، هو : " جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي " ، والذي نقله ابن حجر في التهذيب في ترجمته عن أبي نعيم أن اسم " أبي المغيرة " هو : " دينار " لا " حميد " .
وأما " بشر بن عطية " ، فلم أجد من يسمى بهذا إلا " بشر بن عطية " ، رجل روى عنه مكحول ، يقال هو صحابي ، ويقال هو : " بشر بن عصمة المزني " ، انظر لسان الميزان 2 : 26 ، 27 ، في الترجمتين ، والإصابة في ترجمة الاسمين. وهذا كله مضطرب.

(14/263)


16742 - حدثنا الوليد قال ، حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، في قوله : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : شبانًا وكهولا.
16743 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : شبابًا وشيوخًا ، وأغنياء ومساكين.
16744 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، قال الحسن : شيوخًا وشبّانًا.
16745 - حدثني سعيد بن عمرو قال ، حدثنا بقية قال ، حدثنا حَرِيز قال ، حدثني حبان بن زيد الشرعبيّ قال : نفرنا مع صَفْوان بن عمرو ، وكان واليًا على حمص قِبَلَ الأفْسوس ، إلى الجَرَاجمة ، (1) فلقيت شيخًا كبيرًا هِمًّا ، (2) قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته ، فيمن أغار. (3) فأقبلت عليه فقلت : يا عمِّ ، لقد أعذر الله إليك! قال : فرفع حاجبيه ، فقال : يا ابن
__________
(1) " الأفسوس " ، بلد بثغور طرسوس ، و " طرسوس " مدينة بثغور الشأم بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم.
و " الجراجمة " ، نبط الشأم ، ويقال : هم قوم من العجم بالجزيرة .
وكان في المخطوطة : " قبل الأفسون إلى الحراصه " ، والصواب في المطبوعة وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير 4 : 176 ، نقلا عن هذا الموضع من الطبري .
(2) " الهم " ( بكسر الهاء ) : الشيخ الكبير الفاني البالي.
(3) في المخطوطة : " أعات " ، والصواب ما في المطبوعة ، وهو موافق لما في ابن كثير .

(14/264)


أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالا من يحبَّه الله يبتَليه ، ثم يعيده فيبْتليه ، (1) إنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله. (2)
16746 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : كل شيخ وشابّ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : مشاغيل وغير مشاغيل.
* ذكر من قال ذلك :
16747 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الحكم في قوله : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : مشاغيل وغير مشاغيل.
* * *
وقال آخرون : معناه : انفروا أغنياء وفقراء.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو الصواب وحده.
(2) الأثر : 16745 - " بقية " هو " بقية بن الوليد " ، سلف مرارًا كثيرة.
و " حريز " هو " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي " ، ثقة مأمون ، ثبت في الحديث ، وإنما وضع منه من وضع ، لأنه كان ينال من علي رضي الله عنه ، ثم ترك ذلك . و " حريز " ( بفتح الحاء ، وكسر الراء ) . وقال أبو داود : " شيوخ حريز ، كلهم ثقات " . مترجم في التهذيب ، والكبير 2\ 1 \ 96 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 289 .
وكان في المطبوعة : " جرير " ، وهو في المخطوطة غير منقوط .
و " حبان بن زيد الشرعبي ( بكسر الحاء من : حبان ) ، أبو خداش الحمصي ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وسلف قبل أن أبا داود ، وثق جميع شيوخ حريز بن عثمان . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 1 \ 78 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 269 .
و " صفوان بن عمرو " ، كأنه هو " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، ثقة . والذي حملني على هذا الظن ، أني رأيت في ترجمته في التهذيب عن أبي اليمان ، عن صفوان : " أدركت من خلافة عبد الملك ، وخرجنا في بعث سنة 94 " ، ولكني لم أجد ذكرًا لولايته على حمص.
وقد سلف " صفوان بن عمرو السكسكي " مرارًا ، منها رقم : 7009 ، 12807 ، 13108 .

(14/265)


16748 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : أغنياء وفقراء.
* * *
وقال آخرون : معناه : نِشاطًا وغير نِشاط.
* ذكر من قال ذلك :
16749 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (انفروا خفافًا وثقالا) ، يقول : انفروا نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
16750 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : (خفافًا وثقالا) ، قال : نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
وقال آخرون : معناه : ركبانًا ومشاةَ.
* ذكر من قال ذلك :
16751 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو : إذا كان النَّفْر إلى دروب الشأم ، نفر الناس إليها " خفافًا " ، ركبانًا. وإذا كان النَّفْر إلى هذه السواحل ، نفروا إليها " خفافًا وثقالا " ، ركبانًا ومشاة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ذا ضَيْعَة ، وغير ذي ضَيْعة.
* ذكر من قال ذلك :
16752 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال : " الثقيل " ، الذي له الضيعة ، فهو ثقيل يكره أن يُضيع ضَيْعته ويخرج و " الخفيف " الذي لا ضيعة له ، فقال الله : (انفروا خفافًا وثقالا).
16753 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال :

(14/266)


زعم حضرميّ أنه ذُكر له أن ناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا فيقول : إن أجتنبْه إباءً ، فإني آثم! (1) فأنزل الله : (انفروا خفافًا وثقالا).
16754 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن محمد قال : شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى ، (2) إلا عامًا واحدًا. وكان أيوب يقول : (انفروا خفافًا وثقالا) ، فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا. (3)
16755 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا حَرِيز بن عثمان ، عن راشد بن سعد ، عمن رأى المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوتٍ من توابيت الصَّيارفة بحمص ، وقد فَضَل عنها من عِظَمِه ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك ! فقال : أبتْ علينا " سورة البعوث " ، (4) (انفروا خفافًا وثقالا). (5)
__________
(1) في المطبوعة مكان : " إن أحتنبه إباء ، فإني آثم " ما نصه : " فيقول : إني أحسبه قال : أنا لا آثم " ، وهو مضطرب جدًا ، وفي تفسير ابن كثير 4 : 174 ، 175 ، اختصر الكلام وكتب : " فيقول : إني لا آثم " ، وفي الدر المنثور 3 : 246 ، مثله مختصرًا .
وأما المخطوطة فكان رسمها هكذا : " فيقول : إن أحسبه أبًا قال آثم " ، فآثرت قراءتها كما أثبتها ، ومعناه : إن أجتنب النفر إباء للغزو ، فإني آثم ، ولكن علتي أو كبرى عذر يدفع عنى إثم التخلف . هذا ما رجحته ، والله أعلم .
(2) في المطبوعة : " إلا وهو في أخرى " ، وفي المخطوطة : " في آخرين " ، وحذف هذه العبارة ابن كثير في تفسيره ، والسيوطي في الدر المنثور . وهي صحيحة المعنى ، رواها ابن سعد " في أخرى " كما في المطبوعة : ورواها الحاكم : " إلا هو فيها " .
(3) الأثر : 16754 - رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 49 من طريق إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، وهو " ابن عطية " ، مطولا مفصلا .
ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 458 ، من هذه الطريق نفسها ، مطولا .
(4) هكذا جاء هنا في المخطوطة : " البعوث " ، وأنا في شك منه شديد ، لأني لم أجد من سمى " سورة التوبة " ، " سورة البعوث " ، بل أجمعوا على تسميتها " سورة البحوث " ، كما سأفسره بعد ص : 265 ، تعليق : 6 . ثم انظر آخر التعليق على الخبر رقم : 16756 .
(5) الأثر : 16755 . " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي " ، مضى آنفا برقم 16745 . وكان في المطبوعة : " جرير " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط .
و " راشد بن سعد المقرائي الحبراني الحمصي " ، ثقة ، لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك ، وشيوخ " حريز بن عثمان " ثقات جميعًا ، كما أسلفت في رقم : 16745 ، و " حريز " ثقة في نفسه . وهذا الخبر سيأتي بعد هذا ، ليس فيه مجهول.

(14/267)


16756 - حدثنا سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد قال : حدثنا حريز قال ، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة قال ، حدثني أبو راشد الحبراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، قد فَضَل عنها من عِظَمه ، (1) يريد الغزو ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك ! فقال : أبَتْ علينا " سورة البُحُوث " : (2) (انفروا خفافًا وثقالا). (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فضل عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، لأنه صواب محض ، فالتابوت ، يذكر ، وقد يؤنث .
(2) في المطبوعة : " البعوث " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الموافق لرواية هذا الأثر في المراجع التي سأذكرها . و " البحوث " : منهم من يقولها بضم الباء ، جمع " بحث " ، سميت بذلك لأنها بحثت عن المنافقين وأسرارهم ، أي : استثارتها وفتشت عنها .
وقد قال ابن الأثير إنه رأى في " الفائق " للزمخشري " البحوث " بفتح الباء ، ومطبوعة الفائق ، لا ضبط فيها . ثم قال ابن الأثير : " فإن صحت ، فهي فعول ، من أبنية المبالغة ، أما الزمخشري فقال : " سورة البحوث : هي سورة التوبة ، لما فيها من البحث عن المنافقين وكشف أسرارهم ، وتسمى المبعثرة " .
وهذا كله يؤيد ما ذهبت إليه في ص ، 265 ، التعليق رقم : 3 .
(3) الأثر : 16756 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 16755 .
" سعيد بن عمرو السكوني " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 5563 ، 6521 ، وغيرهما .
و " بقية بن الوليد " ، مضى توثيقه ، ومن تكلم فيه قريبًا رقم : 16745 .
و " حريز " هو " حريز بن عثمان " ، سلف في الأثر السالف ، ومراجعه هناك ، وكان في المطبوعة هنا " جرير " أيضًا ، والمخطوطة غير منقوطة .
و " عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي " ، أبو سلمة الحمصي ، ثقة ، لأن أبا داود قال : و " أبو راشد الحبراني الحميري الحمصي " ، تابعي ثقة. لم يرو عنه غير " حريز " . مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري : 30 .
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 115 ، من طريق يزيد بن هارون ، عن حريز بن عثمان (وفي الطبقات : جرير ، وهو خطأ كما بينت) .
ورواه الحاكم في المستدرك من طريق : بقية بن الوليد ، عن حريز بن عثمان ( وفيه : جرير ، وهو خطأ ) .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 30 ، وقال : " رواه الطبراني ، وفيه بقية بن الوليد ، وفيه ضعف ، وقد وثق . وبقية رجاله ثقات " .
قلت : قد تبين من التخريج أنه رواه عن " حريز " ، " يزيد بن هارون " ، وهو ثقة روى له الجماعة ، كما سلف مرارًا .
هذا ، وقد جاء في مجمع الزوائد " سورة البعوث " ، وانظر ما كتبته آنفا في ص : 265 ، تعليق : 3 ، و ص : 265 ، تعليق : 6 .

(14/268)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله ، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في " الخفاف " كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك ، وصحة جسمه وشبابه ، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال ، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في " الثقال " ، كل من كان بخلاف ذلك ، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه ، ومن مُعسِرٍ من المال ، ومشتغل بضيعة ومعاش ، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب ، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في " الخفاف " و " الثقال " من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب ، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل.
* * *
16757 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مسلم بن صبيح قال : أول ما نزل من " براءة " : (انفروا خفافًا وثقالا).
__________
(1) في المطبوعة : " ذا تيسر " ، والذي في المخطوطة محض الصواب .

(14/269)


16758 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، مثله.
16759 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : إن أول ما نزل من " براءة " : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، قال : يعرِّفهم نصره ، ويوطِّنهم لغزوة تَبُوك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : (جاهدوا) ، أيها المؤمنون ، الكفارَ (بأموالكم) ، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم ، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعًا أو كرهًا ، أو يعطوكم الجزية عن يدٍ صَغَارًا ، إن كانوا أهل كتابٍ ، أو تقتلوهم (1) (وأنفسكم) ، يقول : وبأنفسكم ، فقاتلوهم بأيديكم ، يخزهم الله وينصركم عليهم (ذلكم خير لكم) ، يقول : هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافًا وثقالا وجهادِ أعدائه بأموالكم وأنفسكم ، خيرٌ لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم ، والخلودِ إليها ، والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عِوضًا من الآخرة إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بُيِّن لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 173 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ).

(14/270)


لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)

القول في تأويل قوله : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلُّف عنه حين خرج إلى تبوك ، فأذن لهم : لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه (عرضا قريبا) ، يقول : غنيمة حاضرة (1) (وسفرًا قاصدًا) ، يقول : وموضعًا قريبًا سهلا (لاتبعوك) ، ونفروا معك إليهما ، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد ، وكلفتهم سفرًا شاقًّا عليهم ، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ ، وزمان القَيْظ وحين الحاجة إلى الكِنِّ (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) ، يقول تعالى ذكره : وسيحلف لك ، يا محمد ، هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك ، اعتذارًا منهم إليك بالباطل ، لتقبل منهم عذرهم ، وتأذن لهم في التخلُّف عنك ، بالله كاذبين " لو استطعنا لخرجنا معكم " ، يقول : لو أطقنا الخروجَ معكم بوجود السَّعة والمراكب والظهور وما لا بُدَّ للمسافر والغازي منه ، وصحة البدن والقوى ، لخرجنا معكم إلى عدوّكم (يهلكون أنفسهم) ،
يقول : يوجبون لأنفسهم ، بحلفهم بالله كاذبين ، الهلاك والعطب ، (2) لأنهم يورثونها سَخَط الله ، ويكسبونها أليم عقابه (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، في حلفهم بالله : (لو استطعنا لخرجنا معكم) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين ، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال ، مما يحتاج إليه الغازي في غزوه ، والمسافر في سفره ،
__________
(1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف ص : 59 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الهلاك " فيما سلف 13 : 150. تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/271)


عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

وصحة الأبدان وقوَى الأجسام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16760 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لو كان عرضًا قريبًا) ، إلى قوله(لكاذبون) ، إنهم يستطيعون الخروج ، ولكن كان تَبْطِئَةً من عند أنفسهم والشيطان ، وزَهَادة في الخير.
16761 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (لو كان عرضًا قريبًا) ، قال : هي غزوة تبوك.
16762 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، أي : إنهم يستطيعون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) }
قال أبو جعفر : وهذا عتاب من الله تعالى ذكره ، عاتبٌ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه ، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم ، من المنافقين.
يقول جل ثناؤه : (عفا الله عنك) ، يا محمد ، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك ، وفي التخلف عنك ، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه (2)
(لم أذنت لهم) ، لأي شيء أذنت لهم ؟
__________
(1) الأثر : 16762 - سيرة ابن هشام 4 : 194 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16699.
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة (عفا).

(14/272)


(حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ، يقول : ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك إذ قالوا لك : (لو استطعنا لخرجنا معك) ، حتى تعرف مَن له العذر منهم في تخلفه ، ومن لا عذر له منهم ، فيكون إذنك لمن أذنتَ له منهم على علم منك بعذره ، وتعلمَ مَنِ الكاذبُ منهم المتخلفُ نفاقًا وشكًّا في دين الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16763 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، قال : ناسٌ قالوا : استأذِنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
16764 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) ، الآية ، عاتبه كما تسمعون ، ثم أنزل الله التي في " سورة النور " ، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء ، فقال : ( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) ، [سورة النور : 62] ، فجعله الله رخصةً في ذلك من ذلك.
16765 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء : إذنه للمنافقين ، وأخذه من الأسارى ، فأنزل الله : (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، الآية.
16766 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، قرأت على سعيد بن أبي عروبة ، قال : هكذا سمعته من قتادة ، قوله : (عفا الله عنك لم

(14/273)


لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)

أذنت لهم) ، الآية ، ثم أنزل الله بعد ذلك في " سورة النور " : ( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) ، الآية.
16767 - حدثنا صالح بن مسمار قال ، حدثنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا موسى بن سَرْوان ، قال : سألت مورِّقًا عن قوله : (عفا الله عنك) ، قال : عاتبه ربه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) }
قال أبو جعفر : وهذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين : أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله ، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك ، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر ، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله ، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب ، فإنه لا يستأذنك في
__________
(1) الأثر : 16767 - " صالح بن مسمار المروزي السلمي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 224.
و " النضر بن شميل المازني " الإمام النحوي ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 11512 .
و " موسى بن سروان العجلي " ، ويقال : " ثروان " و " فروان " مضى برقم : 11411 ، وكان في المطبوعة هنا " موسى بن مروان " ، وهو خطأ ، وأثبت ما في المخطوطة .
و " مورق " ، هو " مورق بن مشمرج العجلي " ، ثقة عابد من العباد الخشن . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 51 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 403 .

(14/274)


إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه (1) (والله عليم بالمتقين) ، يقول : والله ذو علم بمن خافه ، فاتقاه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه ، وغير ذلك من أمره ونهيه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16768 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر ، وعَذَر الله المؤمنين ، فقال : ( لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) ، [سورة النور : 62].
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنما يستأذنك ، يا محمد ، في التخلف خِلافكَ ، وترك الجهاد معك ، من غير عذر بيِّنٍ ، الذين لا يصدّقون بالله ، ولا يقرّون بتوحيده (وارتابت قلوبهم) ، يقول : وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله ، وفي ثواب أهل طاعته ، وعقابه أهل معاصيه (3) (فهم في ريبهم يترددون) ، يقول : في شكهم متحيِّرون ، وفي ظلمة الحيرة متردِّدون ، لا يعرفون حقًّا من باطل ، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.
__________
(1) انظر تفسير " جاهد " فيما سلف ص : 270 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(3) انظر تفسير " الارتياب " و " الريب " فيما سلف 11 : 172 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك ثم 11 : 280 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(14/275)


وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)

وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في " سورة النور " .
* ذكر من قال ذلك :
16769 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله : (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، إلى قوله : (فهم في ريبهم يترددون) ، نسختهما الآية التي في " النور " : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ) ، إلى : ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، [سورة النور : 62].
* * *
وقد بيَّنَّا " الناسخ والمنسوخ " بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو أراد هؤلاء المستأذنوك ، يا محمد ، في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك ، الخروجَ معك (لأعدوا له عدة) ، يقول : لأعدوا للخروج عدة ، ولتأهّبوا للسفر والعدوِّ أهْبَتهما (2) (ولكن كره الله انبعاثهم) ، يعني : خروجهم لذلك (3) (فثبطهم) ، يقول : فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم خِلافك ، واستثقلوا السفر والخروج معك ، فتركوا
__________
(1) انظر مقالته في " الناسخ والمنسوخ " فيما سلف ص 42 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . وانظر الفهارس العامة ، وفهارس النحو والعربية وغيرهما .
(2) انظر تفسير " أعد " ، فيما سلف ص : 31 .
(3) انظر تفسير " الكره " فيما سلف 8 : 104 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك. - وتفسير " البعث " فيما سلف 11 : 407 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/276)


لذلك الخروج (وقيل اقعدوا مع القاعدين) ، يعني : اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون ، ومع النساء والصبيان ، واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. (1)
* * *
وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله ، وأنهم لو خرجوا معهم ضرُّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا : " عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول " ، و " الجد بن قيس " ، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك : -
16770 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذين استأذنوه فيما بلغني ، من ذوي الشرف ، منهم : عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، والجدّ بن قيس ، وكانوا أشرافًا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم ، أن يخرجوا معهم ، (2) فيفسدوا عليه جنده. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف 9 : 85 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يخرجوا معهم " وفي سيرة ابن هشام : " معه " .
(3) الأثر : 16770 - سيرة ابن هشام 4 : 194 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16762 . وكان في المخطوطة : " فيفسدوا عليه حسه " غير منقوطة ، فاسدة الكتابة. والذي في المطبوعة مطابق لما في سيرة ابن هشام ، وهو الصواب.

(14/277)


لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

القول في تأويل قوله : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لو خرج ، أيها المؤمنون ، فيكم هؤلاء المنافقون (ما زادوكم إلا خبالا) ، يقول : لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا ، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.
* * *
وقد بينا معنى " الخبال " ، بشواهده فيما مضى قبل. (1)
* * *
(ولأوضعوا خلالكم) ، يقول : ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم.
* * *
وأصله من " إيضاع الخيل والركاب " ، وهو الإسراع بها في السير ، يقال للناقة إذا أسرعت السير : " وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا " ، و " أوضعها صاحبها " ، إذا جدّ بها وأسرع ، " يوضعها إيضاعًا " ، ومنه قول الراجز : (2)
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخبال " فيما سلف 7 : 139 ، 140.
(2) هو دريد بن الصمة.
(3) سيرة ابن هشام 4 : 82 ، واللسان (وضع) ، وغيرهما ، وهذا رجز قاله دريد في يوم غزوة حنين ، وكان خرج مع هوزان ، عليهم مالك بن عوف النصري ، ودريد بن الصمة يومئذ شيخ كبير ، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شيخًا مجربًا . وكان مالك بن عوف كره أن يكون لدريد بن الصمة رأي في حربهم هذه أو ذكر ، فقال دريد : " هذا يوم لم أشهده ولم يفتني " . يَا لَيْتنِي فِيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاء الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
" الجذع " ، الصغير الشاب. و " الخبب " ، ضرب من السير كالوضع . ثم وصف فرسه فيما تمنى. " وطفاء " ، طويلة الشعر ، و " الزمعة " الهنة الزائدة الناتئة فوق ظلف الشاة. و " الشاة " هنا : الوعل وهو شاة الجبل. و " صدع " الفتى القوي من الأوعال.

(14/278)


وأما أصل " الخلال " ، فهو من " الخَلَل " ، وهي الفُرَج تكون بين القوم ، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [الشَّيَاطين ، كأنها] أَوْلادُ الحذَفِ " . (1)
* * *
وأما قوله : (يبغونكم الفتنة) ، فإن معنى : " يبغونكم الفتنة " ، يطلبون لكم ما تفتنون به ، عن مخرجكم في مغزاكم ، بتثبيطهم إياكم عنه. (2)
* * *
يقال منه : " بغيتُه الشر " ، و " بغيتُه الخير " " أبغيه بُغاء " ، إذا التمسته له ، بمعنى : " بغيت له " ، وكذلك " عكمتك " و " حلبتك " ، بمعنى : " حلبت لك " ، و " عكمت لك " ، (3) وإذا أرادوا : أعنتك على التماسه وطلبه ، قالوا : " أبْغَيتُك كذا " ، و " أحلبتك " ، و " أعكمتك " ، أي : أعنتك عليه. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16771 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) لم يذكر إسناده ، وهو حديث مشهور ، رواه أبو داود في سننه 1 : 252 ، رقم : 667 ، بغير هذا اللفظ ، والنسائي في السنن 2 : 92 . والذي وضعته بين القوسين فيما رواه صاحب اللسان ، لأنه في السنن : " كأنها الحذف " ، وفي اللسان أيضًا " كأنها بنات حذف " . أما المطبوعة فقد ضم الكلام بعضه إلى بعض ، مع أنه كان في المخطوطة ، بياض بين " لا يتخللكم " ، وبين " أولاد الحذف " ، وفي الهامش حرف ( ط ) دلالة على الخطأ .
و " الحذف " ضأن سود جرد صغار ، ليس لها آذان ولا أذناب ، يجاء بها إلى الحجاز من جرش اليمن ، واحدتها " حذفة " (بفتحتين) ، شبه الشياطين بها .
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 86 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) " عكمه " و " عكم له " ، هو أن يسوي له الأعدال على الدابة ويشدها.
(4) انظر تفسير " بغى " فيما سلف 13 : 84 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
ثم انظر مثل هذا التفصيل فيما سلف 7 : 53 .

(14/279)


معمر ، عن قتادة : (ولأوضعوا خلالكم) ، بينكم (يبغونكم الفتنة) ، بذلك.
16772 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ولأوضعوا خلالكم) ، يقول : [ولأوضعوا بينكم] ، خلالكم ، بالفتنة. (1)
16773 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطئونكم قال : رفاعة بن التابوت ، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وأوس بن قيظيّ.
16774 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (ولأوضعوا خلالكم) ، قال : لأسرعوا الأزقة (2) (خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطِّئونكم عبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول.
16775 - ...... قال حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : (ولأوضعوا خلالكم) ، قال : لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك.
16776 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ، قال : هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال : وما يُحزنكم ؟(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ، ! يقولون : " قد جُمع لكم ، وفُعِل وفُعِل ، يخذِّلونكم " (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، الكفر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ولأضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة " ، وهو لا يفيد معنى ، وظني أن " أسلحتهم " هي " بينكم " وهو تفسير " خلالكم " كما مر في أثر قتادة السالف ، ولكنه أخر اللفظ الذي فسره وهو " خلالكم " .
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " الأزقة " ، وهو جمع " زقاق " " بضم الزاي " ، وهو الطريق الضيق ، دون السكة ، وجعل " الأزقة " مفعولا لقوله : " أسرعوا " ، غريب ، وأخشى أن يكون في الكلام خلل أو تصحيف.

(14/280)


وأما قوله : (وفيكم سَمَّاعون لهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معنى ذلك : وفيكم سماعون لحديثكم لهم ، يؤدُّونه إليهم ، عيون لهم عليكم.
* ذكر من قال ذلك :
16777 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وفيكم سماعون لهم) ، يحدِّثون أحاديثكم ، عيونٌ غير منافقين.
16778 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وفيكم سماعون لهم) ، قال : محدِّثون ، عيون ، غير المنافقين. (1)
16779 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وفيكم سماعون لهم) ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم.
* ذكر من قال ذلك :
16780 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وفيكم سماعون لهم) ، وفيكم من يسمع كلامهم.
16781 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغني من ذوي الشرف ، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، والجدُّ بن قيس ، وكانوا أشرافًا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم : أن يخرجوا معهم ، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : (وفيكم سمَّاعون لهم). (2)
__________
(1) في المطبوعة : " غير منافقين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 16781 - صدر هذا الخبر مضى برقم : 16770 ، وساقه هنا فيما بعد ، وهو في سيرة ابن هشام 4 : 194 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16762.

(14/281)


قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل : وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم ، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم ، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
وأما على التأويل الأول ، فإن معناه : وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم ، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم ، عيون لهم عليكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب ، تأويلُ من قال : معناه : " وفيكم سماعون لحديثكم لهم ، يبلغونه عنكم ، عيون لهم " ، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم : " سمَّاع " ، وصف من وصف به أنه سماع للكلام ، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) [سورة المائدة : 41] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه : " له سامع ومطيع " ، ولا تكاد تقول : " هو له سماع مطيع " . (1)
* * *
وأما قوله : (والله عليم بالظالمين) ، فإن معناه : والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها ، ويضعها في غير مواضعها ، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر ، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا ، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون ، (2) ويساء بما ساءهم ، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. (3)
* * *
وقد بينا معنى " الظلم " في غير موضع من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سماع " فيما سلف 10 : 309.
(2) في المطبوعة : " بما سر المؤمنين " ، وفي المخطوطة : " بما سر المؤمنون " ، وصوابها ما أثبت.
(3) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ).

(14/282)


لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

القول في تأويل قوله : { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك ، يا محمد ، التمسوا صدَّهم عن دينهم (1) وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه ، (2) كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب وسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله : (من قبل) ، من قبل هذا (وقلبوا لك الأمور) ، يقول : وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك ، (3) وإنكار ما تأتيهم به ، وردّه عليك (حتى جاء الحق) ، يقول : حتى جاء نصر الله (وظهر أمر الله) ، يقول : وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه ، وهو الإسلام (4) (وهم كارهون) ، يقول : والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. (5) وكذلك الآن ، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به ، وهم كارهون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16782 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وقلبوا
__________
(1) انظر تفسير " ابتغى " فيما سلف قريبا ص : 279 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : ، 279 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " التقليب " فيما سلف 12 : 44 ، 45 ، ومادة (قلب) في فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " الظهور " فيما سلف ص : 214 ، 215.
(5) انظر تفسير " الكره " فيما سلف ص : 276 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/283)


لك الأمور) ، أي : ليخذِّلوا عنك أصحابك ، ويردُّوا عليك أمرك (حتى جاء الحق وظهر أمر الله). (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم.
16783 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو ، عن الحسن قوله : (وقلبوا لك الأمور) ، قال : منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن رافع ، وزيد بن التابوت القينقاعي. (2)
* * *
وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة ، كالذي :
16784 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وغيرهم ، كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها ، وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ ، وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس ، (3) وشدة من الحرّ ، وجَدْبٍ من البلاد ، وحين طاب الثمار ، وأحِبَّتِ الظلال ، (4) فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص عنها ، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ
__________
(1) الأثر : 16782 - سيرة ابن هشام 4 : 194 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16781.
(2) الأثر : 16782 - لم أجده في سيرة ابن هشام . ولكنه في تاريخ الطبري 3 : 143 ، بمثله .
(3) في السيرة : " في زمان من عسرة الناس " .
(4) " وأحبت الظلال " ليس في سيرة ابن هشام ، وهو ثابت في رواية أبي جعفر في التاريخ 3 : 142 . وكذلك في المطبوعة : " والناس يحبون " وأثبت ما في المخطوطة ، فهو مطلب السياق.

(14/284)


إلا كَنَى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له ، (1) إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بيَّنها للناس ، لبعد الشُّقَّة ، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له ، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد ، وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه ، لما فيه ، مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم. (2)
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره ، فأمر الناس بالجهازِ والانكماش ، (3) وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله. (4)
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، (5) وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء " ذباب " (6) جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع وكان فيما يزعمون ، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم ، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف
__________
(1) " صمد للأمر يصمد " ، قصده قصدًا.
(2) هذه الجملة الأخيرة من أول قوله : " فتجهز الناس " ، لم أجدها في هذا الموضع من سيرة ابن هشام 4 : 159 ، وسأذكر موضع ما يليه في التخريج ، فإنه قد أسقط ما بعد ذلك ، حتى بلغ ما بعده .
(3) " الانكماش " الإسراع والجد في العمل والطلب.
(4) " الحملان " (بضم فسكون) مصدر مثل " الحمل " ، يريد : حمل من لا دابة له على دابة يركبها في وجهه هذا.
وهذه الجملة من أول قوله : " ثم إن رسول الله " ، إلى هذا الموضع ، في سيرة ابن هشام 4 : 161 ، والذي يليه من موضع آخر سأبينه .
(5) وهذه الجملة مفردة في سيرة ابن هشام 4 : 162 ، بعدها كلام حذفه أبو جعفر ، ووصله بما بعده.
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " على ذي حدة " ، وكان في المخطوطة كتب قبل " ذي " " دين " ثم ضرب عليها. ولم أجدهم قالوا : " على ذي حدة " ، يؤيد صواب ذلك أن ابن هشام قال : " على حدة " ، وذكر أبو جعفر هذا الخبر في تاريخه 3 : 143 ، فيه أيضًا " على حدة " ، فمن أجل ذلك أغفلت ما كان في المطبوعة والمخطوطة وكان في المطبوعة ، وفي سيرة ابن هشام " نحو ذباب " ، وفي المخطوطة : " نحوا " ، والألف مطموسة قصيرة ، والذي في التاريخ ما أثبته " بحذاء " ، وهو الصواب الذي لا شك فيه. وبيان موضع الجبل ، ليس مذكورًا في السيرة ، وهو مذكور في التاريخ.

(14/285)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي ، أخا بني عوف بن الخزرج ، وعبد الله بن نبتل ، أخا بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، (1) أخا بني قينقاع ، وكانوا من عظماء المنافقين ، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله.
قال : وفيهم ، فيما حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري ، أنزل الله : (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) ، الآية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) }
قال أبو جعفر : وذكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله : (ومنهم) ، ومن المنافقين (من يقول ائذن لي) ، أقم فلا أشخَصُ معك (ولا تفتني) ، يقول : ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتِهم ، فإنّي بالنساء مغرمٌ ، فأخرج وآثَمُ بذلك. (3)
* * *
وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
16785 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " رفاعة بن يزيد " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، والتاريخ.
(2) الأثر : 16784 - هذا خبر مفرق ، ذكرت مواضعه فيما سلف ، وهو في سيرة ابن هشام 4 : 159 \ ثم 4 : 161 \ ثم 4 : 162 ، وهو بتمامه في تاريخ الطبري 3 : 142 ، 143 . والجزء الأخير من هذا الخبر ، مضى برقم : 16873.
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 283 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/286)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (ائذن لي ولا تفتني) ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اغزُوا تبوك ، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم ! فقال الجدّ : ائذن لنا ، ولا تفتنَّا بالنساء.
16786 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اغزوا تغنَموا بنات الأصفر يعني نساء الروم ، ثم ذكر مثله.
16787 - ...... قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : (ائذن لي ولا تفتني) ، قال : هو الجدّ بن قيس قال : قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ، ولكن أعينك بمالي.
16788 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ، للجد بن قيس أخي بني سلمة : هل لك يا جدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله ، أوْ تأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي ما رَجل أشدّ عُجْبًا بالنساء منِّي ، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قد أذنت لك ، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، الآية ، أي : إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه ، أعظم. (1)
16789 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في
__________
(1) الأثر : 16788 - سيرة ابن هشام 4 : 159 ، 160 ، وهو تابع صدر الأثر السالف رقم : 16784 ، بعد قوله هناك : " وأخبرهم أنه يريد الروم " ، وبين الذي رواه أبو جعفر ، وما في السيرة خلاف يسير في ختام الخبر.

(14/287)


قوله : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، قال : هو رجل من المنافقين يقال له جَدُّ بن قيس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : العامَ نغزو بني الأصفر ونتَّخذ منهم سراريّ ووُصفاءَ (1) فقال : أي رسول الله ، ائذن لي ولا تفتني ، إن لم تأذن لي افتتنت وقعدت ! (2) وغضب [رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، (3) فقال الله : (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، وكان من بني سلمة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : من سيدكم يا بني سَلِمة ؟ فقالوا : جدُّ بن قيس ، غير أنه بخيلٌ جبان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وأيُّ داءٍ أدْوَى من البخل ، ولكن سيِّدكم الفتى الأبيض ، الجعد : بشر بن البراء بن مَعْرُور. (4)
16790 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، يقول : ائذن لي ولا تحرجني (ألا في الفتنة سقطوا) ، يعني : في الحرج سقطوا.
16791 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، ولا تؤثمني ، ألا في الإثم سقطوا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " سراري ووصفانًا " ، والصواب من المخطوطة. و " الوصفاء " جمع " وصيف " ، والأنثى " وصيفة " ، وجمعها " وصائف " ، وهو الخادم الغلام الشاب ، ومثله الخادمة.
(2) في المطبوعة : " ووقعت " ، مكان " وقعدت " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأراد القعود عن الخروج إلى الغزوة خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(3) في المطبوعة : " فغضب " ، وفي المخطوطة : " وغضب " ، وظاهر أنه سقط من الخبر ما أثبته بين القوسين.
(4) في المطبوعة : " الجعد الشعر البراء بن معرور " ، غير ما كان في المخطوطة ، وهو الصواب المحض ، فإن الخبر هو خبر " بشر بن البراء بن معرور " في تسويده على بني سلمة. وأما أبوه " البراء بن معرور " ، فهو من أول من بايع بيعة العقبة الأولى ، وأول من استقبل القبلة ، وأول من أوصى بثلث ماله ، وهو أحد النقباء ، ومات قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل مقدم رسول الله المدينة بشهر ، ولما دفنوه ، وجهوا قبره إلى القبلة.
ويقال : " رجل جعد " ، يراد به أنه مدمج الخلق ، معصوب الجوارح ، شديد الأسر ، غير مسترخ ولا مضطرب ، وهو من حلية الكريم. ويراد به أيضا : جعودة الشعر ، وهو مدح العرب ، لأن سبوطة الشعر إنما هي في الروم وفي الفرس. وإنما أراد في الخبر المعنى الأول.

(14/288)


إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)

وقوله : (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، يقول : وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذَّب رسله ، محدقة بهم ، جامعة لهم جميعًا يوم القيامة. (1)
يقول : فكفى للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بِصِلِيِّها خزيًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه ، (2) يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين ، وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها ، (3) يقول الجد ونظراؤه : (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، أي : قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد ، وترك أتباعه إلى عدوّه (من قبل) ، يقول : من قبل أن تصيبه هذه المصيبة (ويتولوا وهم فرحون) ، يقول : ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة ، (4) بفلول أصحابه وانهزامهم عنه ، (5) وقتل من قُتِل منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 13 : 581 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف : 13 : 473 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
وتفسير " الحسنة " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن).
(3) " الفلول " ، مصدر " فل " ، لازمًا ، بمعنى : انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا ، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7 : 313 ، تعليق : 3 ، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم : " من فل ذل " ، أي : من انهزم وفر عن عدوه ، ذل .
(4) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(5) " الفلول " ، مصدر " فل " ، لازمًا ، بمعنى : انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا ، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7 : 313 ، تعليق : 3 ، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم : " من فل ذل " ، أي : من انهزم وفر عن عدوه ، ذل .

(14/289)


قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

* ذكر من قال ذلك :
16792 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، يقول : إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك (حسنة تسؤهم) ، قال : الجدُّ وأصحابه.
16793 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، حِذْرنا.
16794 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، قال : حِذْرنا.
16795 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءَهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مؤدِّبًا نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك : (لن يصيبنا) ، أيها المرتابون في دينهم (إلا ما كتب الله لنا) ، في اللوح المحفوظ ، وقضاه علينا (1) (هو مولانا) ، يقول : هو ناصرنا على أعدائه (2) (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ،
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف من فهارس اللغة (كتب).
(2) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).

(14/290)


قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

يقول : وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، فإنهم إن يتوكلوا عليه ، ولم يرجُوا النصر من عند غيره ، ولم يخافوا شيئًا غيره ، يكفهم أمورهم ، وينصرهم على من بغاهم وكادهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم وبينت لك أمرهم : هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخَلَّتين اللتين هما أحسن من غيرهما ، (2) إما ظفرًا بالعدو وفتحًا لنا بِغَلَبَتِناهم ، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة وإما قتلا من عدوِّنا لنا ، ففيه الشهادة ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار. وكلتاهما مما نُحبُّ ولا نكره (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) ، يقول : ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة ، تهلككم (أو بأيدينا) ، فنقتلكم (فتربصوا إنا معكم متربصون) ، يقول : فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا ، وما إليه صائرٌ أمر كلِّ فريقٍ منَّا ومنكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 43 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التربص " فيما سلف ص : 177 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
وتفسير " الحسنى " فيما سلف 9 : 96 ، 97 .

(14/291)


* ذكر من قال ذلك :
16796 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (هل تربصون لنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول : فتح أو شهادة وقال مرة أخرى : يقول القتل ، فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا.
16797 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول : قتل فيه الحياة والرزق ، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا ، وهو مثل قوله : ( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، إلى( فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [سورة النساء : 74].
16798 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إلا إحدى الحسنيين) ، قال : القتل في سبيل الله ، والظهور على أعدائه.
16799 - ...... قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : بلغني عن مجاهد قال : القتل في سبيل الله ، والظهور.
16800 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إحدى الحسنيين) ، القتل في سبيل الله ، والظهور على أعداء الله.
16801 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه قال ابن جريج ، قال ابن عباس : (بعذاب من عنده) ، بالموت (أو بأيدينا) ، قال : القتل.
16802 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، إلا فتحًا أو قتلا في سبيل

(14/292)


قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)

الله (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) ، أي : قتل.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين : أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره ، وعلى أي حال شئتم ، من حال الطوع والكره ، (1) فإنكم إن تنفقوها لن يتقبَّل الله منكم نفقاتكم ، وأنتم في شك من دينكم ، وجهلٍ منكم بنبوة نبيكم ، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه (إنكم كنتم قومًا فاسقين) ، يقول : خارجين عن الإيمان بربكم. (2)
* * *
وخرج قوله : (أنفقوا طوعا أو كرها) ، مخرج الأمر ، ومعناه الجزاء ، (3) والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها " إن " ، التي تأتي بمعنى الجزاء ، كما قال جل ثناؤه : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) [سورة التوبة : 80] ، فهو في لفظ الأمر ، ومعناه الجزاء ، (4) ومنه قول الشاعر : (5)
أَسِيئي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلُومَةً... لَدَيْنَا ، ولا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ (6)
__________
(1) انظر تفسير " الطوع " فيما سلف 6 : 564 ، 565.
وتفسير " الكره " فيما سلف ص : 283 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف 13 : 110 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة في الموضعين : " ومعناه الخبر " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 441 .
(4) في المطبوعة في الموضعين : " ومعناه الخبر " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 441 .
(5) هو كثير عزة.
(6) سلف تخريجه وبيانه في التفسير 2 : 294 ، ولم أشر هناك إلى هذا الموضع ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 441.

(14/293)


وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)

فكذلك قوله : (أنفقوا طوعًا أو كرهًا) ، إنما معناه : إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يُتَقَبَّل منكم.
* * *
وقيل : إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس ، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم : " هذا مالي أعينك به " .
16803 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قال ، الجدّ بن قيس : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ، ولكن أعينك بمالي ! قال : ففيه نزلت(أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم) ، قال : لقوله " أعينك بمالي " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما منع هؤلاء المنافقين ، يا محمد ، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك ، وفي غير ذلك من السبل ، إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ، فـ " أن " الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع ، (1) لان معنى الكلام : ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) ،
__________
(1) يعني بالثانية " أن " المشددة في " أنهم " ، وأما الأولى فهي " أن " الخفيفة.

(14/294)


يقول : لا يأتونها إلا متثاقلين بها. (1) لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابًا ، ولا يخافون بتركها عقابًا ، وإنما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين ، فإذا أمنوهم لم يقيموها (ولا ينفقون) ، يقول : ولا ينفقون من أموالهم شيئًا (إلا وهم كارهون) ، أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه ، مما فيه تقوية للإسلام وأهله. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كسالى " فيما سلف 9 : 330 ، 331.
(2) انظر تفسير " الكره " فيما سلف ص : 293 . تعليق : 1 والمراجع هناك.

(14/295)


فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

القول في تأويل قوله : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : فلا تعجبك ، يا محمد ، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال : معنى ذلك التقديمُ ، وهو مؤخر.
* ذكر من قال ذلك :
16804 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) ، قال : هذه من تقاديم الكلام ، (1)
__________
(1) هذه أول مرّة أجد استعمال " تقاديم " جمعًا في هذا التفسير. وهي جمع " تقديم " كأمثاله من قولهم " التكاذيب " ، " والتكاليف " ، و " التحاسين " ، و " التقاصيب " ، وما أشبهها .
وكان في المخطوطة : " هذه من تقاديم الله ، ليعذبهم بها في الآخرة " ، ولكن ناشر المطبوعة نقل هذا النص الثابت في المطبوعة ، من الدر المنثور 3 : 249 ، وكأنه الصواب ، إن شاء الله ، ولذلك تركته على حاله .
وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 442 .

(14/295)


يقول : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
16805 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، بما ألزمهم فيها من فرائضه.
* ذكر من قال ذلك :
16806 - حدثت عن المسيّب بن شريك ، عن سلمان الأنصري ، عن الحسن : (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، قال : بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. (1)
16807 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، بالمصائب فيها ، هي لهم عذابٌ ، وهي للمؤمنين أجرٌ.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا ، التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل ، فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره ، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته.
وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر ، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا ، وجهًا يوجِّهه إليه ، وقال : كيف يعذِّبهم
__________
(1) الأثر : 16806 - " المسيب بن شريك التميمي ، أبو سعيد " ، ترك الناس حديثه ، وقال البخاري : " سكتوا عنه " . مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 408 ، وإن أبي حاتم 4 \ 1 \ 294 ، وميزان الاعتدال 3 : 171 ، ولسان الميزان 6 : 38 .
و " سلمان الأنصري " ، هكذا في المخطوطة ، وفي المطبوعة " الأقصري " ، ولم أستطع أن أعرف شيئًا عن هذا الاسم.

(14/296)


وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)

بذلك في الدنيا ، وهي لهم فيها سرور ؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه ، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس ، ولا راجٍ من الله جزاءً ، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا ، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ.
* * *
وأما قوله : (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ، فإنه يعني وتخرج أنفسهم ، فيموتوا على كفرهم بالله ، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
يقال منه : " زَهَقَت نفس فلان ، وزَهِقَت " ، فمن قال : " زَهَقت " قال : " تَزْهَق " ، ومن قال : " زَهِقت " ، قال : " تزهق " ، " زهوقًا " ، ومنه قيل : " زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا " إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال : " زهق الباطل " ، إذا ذهب ودرس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويحلف بالله لكم ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلا خوفًا منكم : (إنهم لمنكم) في الدين والملة. يقول الله تعالى ، مكذّبًا لهم : (وما هم منكم) ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم ، بل هم أهل
__________
(1) لا أدري ما هذا ، فإن أصحاب اللغة لم يذكروا في مضارع اللغتين إلا " تزهق " بفتح الهاء ، أما الأخرى فلا أدري ما تكون ، ولا أجد لها عندي وجهًا ، فتركتها على حالها لم أضبطها.

(14/297)


لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

شكٍّ ونفاقٍ (ولكنهم قوم يفرقون) ، يقول : ولكنهم قوم يخَافونكم ، فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم : " إنا منكم " ، ليأمنوا فيكم فلا يُقْتَلوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لو يجد هؤلاء المنافقون " ملجأ " ، يقول : عَصَرًا يعتصِرون به من حِصْن ، ومَعْقِلا يعتقِلون فيه منكم (أو مغارات) ،
* * *
وهي الغيران في الجبال ، واحدتها : " مغارة " ، وهي " مفعلة " ، من : " غار الرجل في الشيء ، يغور فيه " ، إذا دخل ، ومنه قيل ، " غارت العين " ، إذا دخلت في الحدقة.
* * *
(أو مدَّخلا) ، يقول : سَرَبًا في الأرض يدخلون فيه.
* * *
وقال : " أو مدّخلا " ، الآية ، لأنه " من ادَّخَل يَدَّخِل " . (1)
* * *
وقوله : (لولَّوا إليه) ، يقول : لأدبروا إليه ، هربًا منكم (2) (وهم يجمحون). يقول : وهم يسرعون في مَشْيِهم.
* * *
وقيل : إن " الجماح " مشيٌ بين المشيين ، (3) ومنه قول مهلهل :
__________
(1) في المطبوعة : " أو مدخلا الآية ، لأنه " ، وهو خطأ في الطباعة فيما أرجح ، زاد " الآية لشبهه بقوله : " لأنه " بعده ، وخالف الطابع المصحح ، فأثبت له ما صححه ! !
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(3) هذا نص نادر لا تجده في كتاب اللغة ، فليقيد فيها هو وشاهده.

(14/298)


لَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمُ... حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَحْسَابِهِمْ خَمَدُوا (1)
* * *
وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة ، لأنهم إنما أقاموا بين أَظْهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله ، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم ، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه ، فصانعوا القوم بالنفاق ، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان ، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم. فقال الله واصِفَهم بما في ضمائرهم : (لو يجدون ملجأ أو مغاراتٍ) ، الآية.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16808 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (لو يجدون ملجأ) ، " الملجأ " الحِرْز في الجبال ، " والمغارات " ، الغِيران في الجبال. وقوله : (أو مدَّخلا) ، و " المدّخل " ، السَّرَب.
16809 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون) ، " ملجأ " ، يقول : حرزًا (أو مغارات) ، يعني الغيران (أو مدخلا) ، يقول : ذهابًا في الأرض ، وهو النفق في الأرض ، وهو السَّرَب.
16810 - وحدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) لم أجد هذا البيت فيما وقفت عليه من شعر مهلهل. وقوله : " خمدا " ، أي : سكنوا فماتوا ، كما تنطفئ الجمرة.

(14/299)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، قال : حرزًا لهم يفرُّون إليه منكم.
16811 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا) ، قال : محرزًا لهم ، لفرُّوا إليه منكم وقال ابن عباس : قوله : (لو يجدون ملجأ) ، حرزًا (أو مغارات) ، قال : الغيران (أو مدّخلا) ، قال : نفقًا في الأرض.
16812 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، يقول : " لو يجدون ملجأ " ، حصونًا (أو مغارات) ، غِيرانًا (أو مدخلا) ، أسرابًا (لولوا إليه وهم يجمحون).
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن المنافقين الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم في هذه الآيات (من يلمزك في الصدقات) ، يقول : يعيبك في أمرها ، ويطعُنُ عليك فيها.
* * *
يقال منه : " لمز فلان فلانًا يَلْمِزُه ، ويَلْمُزُه " إذا عابه وقرصه ، وكذلك " همزه " ، ومنه قيل : " فلان هُمَزَةً لُمَزَة ، ومنه قول رؤبة :
قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وَجَمْزِي... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ بَاطِلي وَلَمْزِي (1)
__________
(1) ديوانه : 64 ، من رجزه في أبان بن الوليد البجلي ، ثم ذكر فيها نفسه ، فقال : فَإن ترَيْنِي الْيَوْمَ أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وجَمْزِي
مِنْ بَعْدِ تَقْمَاص الشَّبَابِ الأَبْزِ ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ باطِلِي وَلَمْزِي
فَكُلُّ بَدْءِ صَالحٍ أَوْ نِقْزِ ... لاقٍ حِمَامَ الأَجَلِ المُجْتَزِّ
" أم حمز " ، يعني " أم حمزة " . و " العنق " ضرب من العدو ، و " الجمز " فوق العنق ، ودون الحضر ، وهو العدو الشديد. يعني ما تقارب من جريه لما كبر ، " تقماص الشباب " ، من " القمص " ، " قمص الفرس " ، إذا نفر واستن ، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا ، ويعجن برجليه. و " التقماص " مصدر لم تذكره كتب اللغة. و " الأبز " : الشديد الوثب ، المتطلق في عدوه ، يقال : " ظبي أبوز ، وأباز " ، ولم يذكروا في الصفات " الأبز " ، وهو هنا صفة بالمصدر. و " البدء " : السيد الشاب المقدم المستجاد الرأي. و " النقز " (بكسرالنون) : الخسيس الرذال من الناس.

(14/300)


ومنه قول الآخر : (1)
إِذَا لَقَيْتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً... وَإِنْ أُغَيَّبْ ، فَأَنْتَ العَائِبُ اللُّمَزَهْ (2)
(فإن أعطوا منها رضوا) ، يقول : ليس بهم في عيبهم إياك فيها ، وطعنهم عليك بسببها ، الدِّينُ ، ولكن الغضب لأنفسهم ، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك ، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) هو زياد الأعجم.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 263 ، إصلاح المنطق : 475 ، والجمهرة لابن دريد 3 : 18 ، والمقاييس 6 : 66 ، واللسان (همز) ، وسيأتي في التفسير 30 : 188 (بولاق) بغير هذه الرواية ، وهي : تُدْلِي بِوُدٍّ إذَا لاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيِّبْ فأنت الهَامِزُ اللُّمَزَهْ
وهي رواية ابن السكيت ، وابن فارس ، والطبري بعد ، ورواية ابن دريد ، وصاحب اللسان ، وابن دريد. إذَا لَقِيتُكَ عن شَحْطٍ تُكَاشِرُني
وقوله : " وإن أغيب " بالبناء للمجهول ، لا كما ضبط في مجاز القرآن.

(14/301)


16813 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال : يروزك. (1)
16814 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يروزك ويسألك ، (2) قال ابن جريج : وأخبرني داود بن أبي عاصم قال : قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت. قال : ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل ؟ فنزلت هذه الآية.
16815 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يقول : ومنهم من يطعُنُ عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديثَ عهدٍ بأعرابيّةٍ ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبًا وفضة ، فقال : يا محمد ، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ، ما عدلت ! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ويلك! فمن ذا يعدل عليك بعدي! ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه ، إنما أنا خازن.
16816 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال : يطعن.
16817 - ...... قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري
__________
(1) " رازه يروزه روزًا " ، اختبره وامتحنه ، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد ، وفسروه فقالوا : " يقال : رزت ما عند فلان ، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى : يمتحنك ويذوق أمرك ، هل تخاف لائمته أم لا " .
(2) " رازه يروزه روزًا " ، اختبره وامتحنه ، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد ، وفسروه فقالوا : " يقال : رزت ما عند فلان ، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى : يمتحنك ويذوق أمرك ، هل تخاف لائمته أم لا " .

(14/302)


عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْمًا ، إذ جاءه ابن ذي الخُوَيْصِرَة التميمي ، (1) فقال : اعدل ، يا رسول الله ! فقال : ويلك ، ومن يعدل إن لم أعدل ! فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ! قال : دَعْه ، فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صَلاتهم ، (2) وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة ، (3) فينظر في قُذَذَه فلا ينظر شيئًا ، (4) ثم ينظر في نَصْله ، فلا يجد شيئًا ، ثم ينظر في رِصَافه فلا يجد شيئًا ، (5) قد سبق الفَرْثَ والدم ، (6) آيتهم رجل ، أسود ، (7) إحدى يده أو قال : يديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ ، (8) يخرجون على حين فترة من الناس. قال : فنزلت : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن عليًّا رحمة الله عليه حين ، قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9)
16817م - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في
__________
(1) في مسلم والبخاري " ذو الخويصرة " ، ليس فيها (ابن) ، وهذا هو المعروف المشهور.
(2) في المطبوعة : " يحقر " ، وهي كذلك في رواية الخبر في الصحيحين ، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة.
(3) " مرق السهم من الرمية " ، خرج من الجانب الآخر خروجًا سريعًا. و " الرمية " ، المرمية ، يعني الصيد المرمي بالسهم ونحوه.
(4) " القذذ " جمع " قذة " (بضم القاف) ، وهي ريش السهم.
(5) " الرصاف " جمع " رصفة " (بفتحات) ، وهي العقبة التي تلوى على موضع الفوق من السهم.
(6) " الفرث " ، سرجين الدابة ، ما دام في كرشها.
(7) " الآية " ، العلامة.
(8) " البضعة " القطعة من اللحم. " تدردر " ، " تتدردر " ، أي : تضطرب.
(9) الأثر : 16817 - هذا حديث صحيح الإسناد ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 6 : 455) ومسلم في صحيحه 7 : 165 ، من طريق الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
وجاء الخبر من طرق صحاح كثيرة ، انظر شرح البخاري ، وصحيح مسلم.

(14/303)


وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

قوله : (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) ، قال : هؤلاء المنافقون ، قالوا : والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ ، ولا يؤثر بها إلا هواه ! فأخبر الله نبيه ، وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله ، وإن هذا أمر من الله ليس من محمد : (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك ، يا محمد ، في الصدقات ، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء ، وقسم لهم من قسم (وقالوا حسبنا الله) ، يقول : وقالوا : كافينا الله ، (1) (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) ، يقول : سيعطينا الله من فضل خزائنه ، ورسوله من الصدقة وغيرها (2) (إنا إلى الله راغبون) ، يقول : وقالوا : إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " آتى " و " فضل " في فهارس اللغة (آتى) ، (فضل).

(14/304)


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما الصدقات إلا للفقراء والمساكين ، (1) ومن سماهم الله جل ثناؤه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة " الفقير " و " المسكين " .
فقال بعضهم : " الفقير " ، المحتاج المتعفف عن المسألة ، و " المسكين " ، المحتاج السائل. (2)
* ذكر من قال ذلك :
16818 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال : " الفقير " ، الجالس في بيته " والمسكين " ، الذي يسعى.
16819 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال : " المساكين " ، الطوافون ، و " الفقراء " ، فقراء المسلمين.
16820 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن جرير بن حازم قال ، حدثني رجل ، عن جابر بن زيد : أنه سئل عن " الفقراء " ، قال : " الفقراء " ، المتعففون ، و " المساكين " ، الذين يسألون.
__________
(1) في المطبوعة : " لا ينال الصدقات " ، وهو كلام غير مستقيم ، والصواب ما كان في المخطوطة ، ولكنه لم يحسن قراءته.
(2) انظر تفسير " المسكين " فيما سلف 13 : 560 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/305)


16821 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزريّ قال : سألت الزهري عن قوله : (إنما الصدقات للفقراء) ، قال : الذين في بيوتهم لا يسألون ، و " المساكين " ، الذين يخرجون فيسألون. (1)
16822 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " الفقير " الذي لا يسأل ، و " المسكين " ، الذي يسأل.
16823 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال : " الفقراء " ، الذين لا يسألون الناس ، أهلُ حاجة (2) و " المساكين " ، الذين يسألون الناس.
16824 - حدثنا الحارث قال ، حدثني عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الوارث ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " الفقراء " ، الذين لا يسألون ، و " المساكين " الذين يسألون.
* * *
وقال آخرون : " الفقير " ، هو ذو الزمانة من أهل الحاجة ، و " المسكين " ، هو الصحيح الجسم منهم. (3)
* ذكر من قال ذلك :
16825 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال : " الفقير " ، من به زَمانة و " المسكين " ، الصحيح المحتاج.
__________
(1) الأثر : 16821 - " معقل بن عبيد الله الجزري العبسي ، الحراني " ، ثقة ، ليس به بأس . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 1 \ 393 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 286 .
وكان في المطبوعة : " الحراني " ، مكان " الجزري " ، وهو صواب ، ولكني أثبت ما كان في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وهو أهل حاجة " ، زاد ما ليس في المخطوطة.
(3) في المطبوعة ، أسقط " منهم " .

(14/306)


16826 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، أما " الفقير " ، فالزَّمِن الذي به زَمانة ، وأما " المسكين " ، فهو الذي ليست به زمانة.
* * *
وقال آخرون : " الفقراء " ، فقراء المهاجرين ، و " المساكين " ، من لم يهاجر من المسلمين ، وهو محتاج.
* ذكر من قال ذلك :
16827 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا جرير بن حازم ، عن علي بن الحكم ، عن الضحاك بن مزاحم : (إنما الصدقات للفقراء) ، قال : فقراء المهاجرين و " المساكين " ، الذين لم يهاجروا. (1)
16828 - ...... قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : (إنما الصدقات للفقراء) ، المهاجرين ، قال : سفيان : يعني : ولا يعطى الأعراب منها شيئًا.
16829 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.
16830 - ...... قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله.
16831 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا (2) كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار ، والزوجة ، والعبد ، والناقة يحج عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء ، وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
16832 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 16827 - " علي بن الحكم البناني " ، ثقة ، له أحاديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 181.
(2) في المطبوعة : " قال " ، والصواب من المخطوطة.

(14/307)


سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كان يقال : إنما الصدقات في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله.
* * *
وقال آخرون : " المسكين " ، الضعيف الكسب. (1)
* ذكر من قال ذلك :
16833 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن عون ، عن محمد قال : قال عمر : ليس الفقير بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلقُ الكسْب قال يعقوب : قال ابن علية : " الأخلق " ، المحارَفُ ، عندنا. (2)
16834 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين : أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال : ليس المسكين بالذي لا مال له ، ولكن المسكين الأخلقُ الكسْبِ.
* * *
وقال بعضهم : " الفقير " ، من المسلمين ، و " المسكين " من أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
16835 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عمر بن نافع قال : سمعت عكرمة في قوله : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال : لا تقولوا لفقراء المسلمين " مساكين " ، إنما " المساكين " ، مساكين أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : " الفقير " ،
__________
(1) في المطبوعة : " الضعيف البئيس " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وكان فيها : " النسب " ، وهو تحريف ، دل على صوابه الآثار التالية.
(2) أراد عمر : أن الفقير ، هو الذي لم يقدم لآخرته شيئًا يثاب عليه ، وأن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة ، وأن فقر الدنيا أهون الفقرين. و " الأخلق " من قولهم : " هضبة خلقاء " ، ملساء لا نبات بها . وللجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شيء " أخلق " . وفي حديث فاطمة بنت قيس : " أما معاوية ، فرجل أخلق من المال " ، أي : خلو عار منه.
وأما " المحارف " ، كما فسره ابن علية ، فهو المنقوص الحظ ، فهو محدود محروم ، إذا طلب الرزق لم يرزق ، ضد " المبارك " .

(14/308)


هو ذو الفقر أو الحاجة ، ومع حاجته يتعفّف عن مسألة الناس والتذلل لهم ، في هذا الموضع و " المسكين " هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، وإن كان الفريقان لم يُعْطَيا إلا بالفقر والحاجة ، دون الذلة والمسألة ، (1) لإجماع الجميع من أهل العلم أن " المسكين " ، إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر ، وأن معنى " المسكنة " ، عند العرب ، الذلة ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) ، [سورة البقرة : 61] ، يعني بذلك : الهون والذلة ، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنَّف من قسم له من الصدقة المفروضة قسمًا بالفقر ، فجعلهم صنفين ، كان معلومًا أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك ، كان لا شك أن المقسوم له باسم " الفقير " ، غير المقسوم له باسم الفقر و " المسكنة " ، والفقير المعطَى ذلك باسم الفقير المطلق ، هو الذي لا مسكنة فيه. والمعطى باسم المسكنة والفقر ، هو الجامع إلى فقره المسكنة ، وهي الذلّ بالطلب والمسألة.
فتأويل الكلام ، إذ كان ذلك معناه : إنما الصدقات للفقراء : المتعفِّف منهم الذي لا يسأل ، والمتذلل منهم الذي يسأل.
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبَرٌ.
16836 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بالذي تردّه اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، إنما المسكين المتعفف! اقرءوا إن شئتم : ( لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) ، (2) [سورة البقرة : 273].
__________
(1) في المطبوعة : " الذل والمسكنة " ، والصواب ما في المخطوطة ، ولم يحسن قراءتها.
(2) الأثر : 16836 - " إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري " روى له الجماعة ، مضى برقم : 6884 ، 8398 .
و " شريك بن أبي نمر " ، هو " شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي " ثقة ، روى له البخاري ومسلم ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 2 \ 237 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 363 .
وهذا الخبر رواه البخاري من طريق محمد بن جعفر عن شريك بن أبي نمر (الفتح 8 : 152) ، ورواه مسلم في الصحيح من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن شريك ، ومن طريق محمد بن جعفر ، عن شريك ، عن عطاء بن يسار ، وعبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة (7 : 129).

(14/309)


ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما المسكين المتعفف " على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر " مساكين " ، لا على تفصيل المسكين من الفقير.
ومما ينبئ عن أن ذلك كذلك ، انتزاعه صلى الله عليه وسلم بقول الله : (1) اقرءوا إن شئم : (لا يسألون الناس إلحافًا) ، وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر فقال : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) ، [سورة البقرة : 273].
* * *
وقوله : (والعاملين عليها) ، وهم السعاة في قبضها من أهلها ، ووضعها في مستحقِّيها ، يعطون ذلك بالسعاية ، أغنياء كانوا أو فقراء.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16837 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله قال : سألت الزهري : عن " العاملين عليها " ، فقال : السعاة.
16838 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (والعاملين عليها) ، قال : جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها.
16839 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد :
__________
(1) في المطبوعة : " انتزاعًا لقول الله " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة . يقال : " انتزع بالآية ، وبالشعر " ، إذا تمثل به.

(14/310)


(والعاملين عليها) ، الذي يعمل عليها.
* * *
ثُمّ اختلف أهل التأويل في قدر ما يعطى العامل من ذلك.
فقال بعضهم : يعطى منه الثُّمُن.
* ذكر من قال ذلك :
16840 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن حسن بن صالح ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : للعاملين عليها الثمن من الصدقة.
16841 - حدثت عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (والعاملين عليها) ، قال : يأكل العمال من السهم الثامن.
* * *
وقال آخرون : بل يعطى على قدر عُمالته.
* ذكر من قال ذلك :
16842 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن الأخضر بن عجلان قال ، حدثنا عطاء بن زهير العامري ، عن أبيه : أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة : أيُّ مالٍ هي ؟ فقال : مالُ العُرْجان والعُوران والعميان ، وكل مُنْقَطَع به. (1) فقال له : إن للعاملين حقًّا والمجاهدين! قال : إن المجاهدين قوم أحل لهم ، والعاملين عليها على قدر عُمالتهم. (2) ثم قال : لا تحل الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مِرَّة سويّ (3)
__________
(1) " منقطع به " (بالبناء للمجهول) ، هو الرجل إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت ، أو قامت عليه راحلته ، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه. يقال : " قطع به " ، و " انقطع به " .
(2) في المطبوعة : " وللعاملين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 16842 - " عبد الوهاب بن عطاء الخفاف " ، ثقة ، مضى برقم : 5429 ، 5432 ، 10522 .
و " الأخضر بن عجلان الشيباني " ، ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 67 .
و " عطاء بن زهير بن الأصبغ العامري " ، روى عن أبيه ، روى عنه شميط ، والأخضر بن عجلان ، هكذا ذكره ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 332 ، ولم أجد له ترجمة في غيره .
وأبوه : " زهير بن الأصبغ العامري " ، روى عن عبد الله بن عمرو ، روى عنه ابنه عطاء . مترجم في الكبير 2 \ 1 \ 392 ، وابن حاتم 1 \ 2 \ 587 ، ولم يذكرا فيه جرحًا .
وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 252 ، ولم ينسبه إلا إلى أبي الشيخ ، وفيه " عبد الله بن عمر " ، وهو خطأ.

(14/311)


16843 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : يكون للعامل عليها إن عمل بالحق ، ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن ، إنما يفرضون له بقدر عُمالته.
16844 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : (والعاملين عليها) ، قال : كان يعطى العاملون.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : يعطى العامل عليها على قدر عُمالته وأجر مثله.
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم ، وإنما عرّف خلقه أن الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم ، وإذ كان كذلك ، بما سنوضح بعدُ ، وبما قد أوضحناه في موضع آخر ، كان معلومًا أن من أعطي منها حقًّا ، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطى فيه. وإذا كان ذلك كذلك ، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله ، لا على الحاجة التي تزول بالعطية ، كان معلومًا أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عِوَض من سعيه وعمله ، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضًا من عمله الذي لا يزول بالعطية ، وإنما يزول بالعزل.
* * *
وأما " المؤلفة قلوبهم " ، فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام ، ممن لم تصحّ نصرته ، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه ، كأبي سفيان بن حرب ، وعيينة بن بدر ،

(14/312)


والأقرع بن حابس ، ونظرائهم من رؤساء القبائل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16845 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (والمؤلفة قلوبهم) ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضَخ لهم من الصدقات ، (1) فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا : هذا دين صالح ! وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه.
16846 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، (2) حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير : أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية : أبو سفيان بن حرب ومن بني مخزوم : الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع ومن بني جُمَح : صفوان بن أمية ومن بني عامر بن لؤي : سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ومن بني أسد بن عبد العزى : حكيم بن حزام ومن بني هاشم : سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني فزارة : عيينة بن حصن بن بدر ومن بني تميم : الأقرع بن حابس ومن بني نصر : مالك بن عوف ومن بني سليم : العباس بن مرداس ومن ثقيف : العلاء بن حارثة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة ، إلا عبد الرحمن بن يربوع ، وحويطب بن عبد العزى ، فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين.
16847 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) " رضخ له من ماله رضيخة " ، أعطاه عطية مقاربة ، ليست بالكثيرة ، وأصله من " الرضخ " ، وهو كسر النوى وغيره ، كأنه كسر له من ماله شيئا.
(2) في المطبوعة : " حدثنا عبد الأعلى " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، وهذا إسناد دائر في التفسير وشيخ الطبري " محمد بن عبد الأعلى " .

(14/313)


عيسى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري قال ، قال صفوان بن أمية : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما بَرِح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ. (1)
16848 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : ناس كان يتألفهم بالعطية ، عيينة بن بدر ومن كان معه.
16849 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن : (والمؤلفة قلوبهم) ، : الذين يُؤَلَّفون على الإسلام.
16850 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأما " المؤلفة قلوبهم " ، فأناس من الأعراب ومن غيرهم ، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
16851 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله قال : سألت الزهري عن قوله : (والمؤلفة قلوبهم) ، فقال : من أسلم من يهوديّ أو نصراني. قلت : وإن كان غنيًّا ؟ قال : وإن كان غنيًّا.
16852 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري ، عن الزهري : (والمؤلفة قلوبهم) ، قال : من هو يهوديّ أو نصرانيّ. (2)
__________
(1) الأثر : 16847 - رواه مسلم في صحيحه 15 : 72 ، 73 ، مطولا من طريق عبد الله بن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن صفوان بن أمية .
ورواه أحمد في مسنده 3 : 401 من طريق زكريا بن عدي ، عن سعيد بن المسيب ، عن صفوان ، (هكذا جاء هنا في المسند) ، والصواب ما سيأتي في المسند 6 : 465 ، من طريق زكريا بن عدي ، عن ابن المبارك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب.
(2) الأثر : 16852 - " معقل بن عبيد الله الجزري " ، مضى قريبًا برقم : 16821 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا " الحراني " ، مكان " الجزري " ، وهو صواب ، ولكني أثبت ما في المخطوطة.

(14/314)


ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها ، وهل يعطى اليوم أحدٌ على التألف على الإسلام من الصدقة ؟
فقال بعضهم : قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم ، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها ، وفي سبيل الله ، أو لعامل عليها.
* ذكر من قال ذلك :
16853 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : (والمؤلفة قلوبهم) ، قال : أما " المؤلفة قلوبهم " فليس اليوم.
16854 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16855 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : وأتاه عيينة بن حصن : ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ، [سورة الكهف : 29] ، أي : ليس اليوم مؤلفة.
168856 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن قال : ليس اليوم مؤلفة.
16857 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما ولي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه ، انقطعت الرشى.
* * *
وقال آخرون : " المؤلفة قلوبهم " ، في كل زمان ، وحقهم في الصدقات.
* ذكر من قال ذلك :
16858 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا

(14/315)


إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : في الناس اليوم ، المؤلفة قلوبهم.
16859 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما : سدُّ خَلَّة المسلمين ، والآخر : معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه ، فإنه يُعطاه الغني والفقير ، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه ، وإنما يعطاه معونةً للدين. وذلك كما يعطى الذي يُعطاه بالجهاد في سبيل الله ، فإنه يعطى ذلك غنيًّا كان أو فقيرًا ، للغزو ، لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم ، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء ، استصلاحًا بإعطائهموه أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم ، بعد أن فتح الله عليه الفتوح ، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول : " لا يتألف اليوم على الإسلام أحد ، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم " ، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
* * *
وأما قوله : (وفي الرقاب) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم ، وهم الجمهور الأعظم : هم المكاتبون ، يعطون منها في فك رقابهم. (1)
* ذكر من قال ذلك :
16860 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسين : أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناسَ يوم الجمعة ، فقال له : أيها الأمير ، حُثَّ الناس عليَّ ! فحثَّ
__________
(1) انظر تفسير " الرقاب " فيما سلف 3 : 347 \ 9 : 35 ، 36 \ 10 : 552 - 557.

(14/316)


عليه أبو موسى ، فألقى الناسُ عليه عمامة وملاءة وخاتمًا ، حتى ألقوا سَوادًا كثيرًا ، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال : اجمعوه ! فجمع ، ثم أمر به فبيع. فأعطى المكاتب مكاتبته ، ثم أعطى الفضل في الرقاب ، ولم يرده على الناس ، وقال : إنما أعطي الناسُ في الرقاب.
16861 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله قال ، سألت الزهري عن قوله : (وفي الرقاب) ، قال : المكاتَبون.
16862 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وفي الرقاب) ، قال : المكاتَب.
16863 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : (وفي الرقاب) ، قال : هم المكاتبون.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال : لا بأس أن تُعْتَقَ الرقبة من الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، قولُ من قال : " عنى بالرقاب ، في هذا الموضع ، المكاتبون " ، لإجماع الحجة على ذلك ، فإن الله جعل الزكاة حقًّا واجبًا على من أوجبها عليه في ماله ، يخرجها منه ، لا يرجع إليه منها نفعٌ من عرض الدنيا ، ولا عِوَض. والمعتق رقبةً منها ، راجع إليه ولاء من أعتقه ، وذلك نفع يعود إليه منها.
* * *
وأما " الغارمون " ، فالذين استدانوا في غير معصية الله ، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عَرَض.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :

(14/317)


16864 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد قال : " الغارمون " ، من احترق بيته ، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه ، ويدَّانُ على عياله ، فهذا من الغارمين.
16865 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد في قوله : (والغارمين) ، قال : من احترق بيته ، وذهب السيل بماله ، وادَّان على عياله.
16866 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : " الغارمين " ، المستدين في غير سَرَف ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
16867 - ...... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله قال : سألنا الزهري عن " الغارمين " ، قال : أصحاب الدين.
16868 - ...... قال ، حدثنا معقل ، عن عبد الكريم قال ، حدثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة قال : كتب عمر بن عبد العزيز : أن يُعْطى الغارمون قال أحمد : أكثر ظني : من الصدقات.
16869 - ...... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : " الغارمون " ، المستدين في غير سرف.
16870 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أما " الغارمون " ، فقوم غرَّقتهم الديون في غير إملاق ، (1) ولا تبذير ولا فساد.
16871 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " الغارم " ، الذي يدخل عليه الغُرْم.
16872 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : (والغارمين) ، قال : هو الذي يذهب السيل والحريق بماله ، ويدَّان على عياله.
__________
(1) " الإملاق " هنا هو : إنفاق المال وتبذيره حتى يورث حاجة ، و " الإملاق " أيضًا : الإفساد . وانظر ما سلف في الخبر رقم : 6233 ، ج 5 : 602 ، تعليق : 2.

(14/318)


16873 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : المستدين في غير فساد.
16874 - ...... قال ، حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : " الغارمون " ، الذين يستدينون في غير فساد ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.
16875 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير ، فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا.
* * *
وأما قوله : (وفي سبيل الله) ، فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده ، بقتال أعدائه ، وذلك هو غزو الكفار. (1)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16876 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وفي سبيل الله) ، قال : الغازي في سبيل الله.
16877 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل عمل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو في سبيل الله ، أو ابن السبيل ، أو رجل كان له جار تصدَّق عليه فأهداها له. (2)
__________
(1) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(2) الأثر : 16877 - رواه أبو داود في سننه 2 : 158 ، رقم : 1635 من طريق مالك ، عن زيد بن أسلم ، موقوفًا ، ثم رواه برقم : 1636 ، من طريق معمر ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
ورواه ابن ماجه في سننه : 589 ، رقم : 1841 ، مرفوعًا ، بنحوه.

(14/319)


16878 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة : في سبيل الله ، أو ابن السبيل ، أو رجل كان له جار فتصدق عليه ، فأهداها له. (1)
* * *
وأما قوله : (وابن السبيل) ، فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد.
* * *
و " السبيل " : الطريق ، (2) وقيل للضارب فيه : " ابن السبيل " ، للزومه إياه ، كما قال الشاعر : (3)
أنَا ابنُ الحَرْبِ رَبَّتْنِي وَلِيدًا... إلَى أنْ شِبْتُ واكْتَهَلَتْ لِدَاتِي
وكذلك تفعل العرب ، تسمي اللازم للشيء يعرف به : " ابنه " . (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16879 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : " ابن السبيل " ، المجتاز من أرض إلى أرض.
16880 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 16878 - " عطية " هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفي " ، ضعيف ، مضى مرارًا.
وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه 2 : 160 ، رقم : 1637 ، من طريق سفيان ، عن عمران البارقي ، عن عطية ، بنحوه ، ثم قال أبو داود : " ورواه فراس ، وابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله " .
وهو حديث ضعيف لضعف " عطية العوفي " .
(2) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
وتفسير " ابن السبيل " فيما سلف 3 : 345 \ 4 : 295 \ 8 : 346 - 347.
(3) لم أعرف قائله.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " يعرف بابنه " ، وهو لا يستقيم ، صوابه ما أثبت.

(14/320)


مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : (وابن السبيل) ، قال : لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيًّا ، إذا كان مُنْقَطَعًا به.
16881 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا معقل بن عبيد الله قال : سألت الزهري عن " ابن السبيل " ، قال : يأتي عليَّ ابن السبيل ، وهو محتاج. قلت : فإن كان غنيًّا ؟ قال : وإن كان غنيًا.
16882 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وابن السبيل) ، الضيف ، جعل له فيها حق.
16883 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال [ابن زيد] : " ابن السبيل " ، المسافر من كان غنيًّا أو فقيرًا ، إذا أصيبت نفقته ، أو فقدت ، أو أصابها شيء ، أو لم يكن معه شيء ، فحقه واجب. (1)
16884 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أنه قال : في الغني إذا سافر فاحتاج في سفره. قال : يأخذ من الزكاة.
16885 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : " ابن السبيل " ، المجتاز من الأرض إلى الأرض.
* * *
وقوله : (فريضة من الله)) ، يقول جل ثناؤه : قَسْمٌ قسمه الله لهم ، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم (2) (والله عليم) ، بمصالح خلقه فيما فرض لهم ، وفي غير ذلك ، لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة (حكيم) ، في تدبيره خلقه ، لا يدخل في تدبيره خلل. (3)
__________
(1) الأثر : 16883 - في المطبوعة والمخطوطة : " قال قال ابن السبيل " . والزيادة بين القوسين من إسناده قبل ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم 16876.
(2) انظر تفسير " الفريضة " فيما سلف 9 : 212 ، تعليق : ، والمرجع هناك.
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم).

(14/321)


واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية ، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حق ، أو ذلك إلى رب المال ؟ ومن يتولى قسمها ، في أن له أن يعطي جميعَ ذلك من شاء من الأصناف الثمانية.
فقال عامة أهل العلم : للمتولي قسمُها ووضعُها في أيِّ الأصناف الثمانية شاء. وإنما سمَّى الله الأصناف الثمانية في الآية ، إعلامًا منه خلقَه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها ، لا إيجابًا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم.
* ذكر من قال ذلك :
16886 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن المنهال بن عمرو ، عن زرّ بن حبيش ، عن حذيفة في قوله : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال : إن شئت جعلته في صنف واحد ، أو صنفين ، أو لثلاثة.
16887 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن المنهال ، عن زر ، عن حذيفة قال : إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.
16888 - ...... قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : (إنما الصدقات للفقراء) ، قال : أيُّما صنف أعطيته من هذا أجزأك.
16889 - ...... قال ، حدثنا ابن نمير ، عن عبد المطلب ، عن عطاء : (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية ، قال : لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك. ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفِّفين فجبرتهم بها ، كان أحبَّ إليَّ.
16890 - ...... قال أخبرنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين... وابن السبيل) ، فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.

(14/322)


16891 - ...... قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
16892 - ...... قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال : إنما هذا شيء أعلمَهُ ، فأيَّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.
16893 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : (إنما الصدقات للفقراء) ، قال : في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك.
16894 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
16895 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
16896 - ...... قال ، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد ، عن جعفر بن يرقان ، عن ميمون بن مهران : (إنما الصدقات للفقراء) ، قال : إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك. (1)
16897 - ...... قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعود ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، الآية ، قال : أعلمَ أهلَها مَنْ همْ.
16898 - ...... قال ، حدثنا حفص ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : أنه كان يأخذ الفرْض في الصدقة ، ويجعلها في صنف واحد.
* * *
وكان بعض المتأخرين يقول : إذا تولى رب المال قَسْمها كان عليه وضعها في ستة أصناف ، وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا ، وأنّ سهم العاملين
__________
(1) الأثر : 16896 - " خالد بن حيان الرقي " ، أبو يزيد الكندي الخراز ، ثقة ، متكلم فيه ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 1 \ 133 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 326 .

(14/323)


وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

يبطل بقسمه إياها. ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطي من كل صنف أقل من ثلاثة أنفس. وكان يقول : إن تولى قَسْمها الإمامُ ، كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف ، لا يجزي عنده غير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه (1) (ويقولون هو أذن) ، سامعةٌ ، يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدِّقه.
* * *
وهو من قولهم : " رجل أذنة " ، مثل " فعلة " (2) إذا كان يسرع الاستماع والقبول ، كما يقال : " هو يَقَن ، ويَقِن " إذا كان ذا يقين بكل ما حُدِّث. وأصله من " أذِن له يأذَن " ، إذا استمع له. ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أذِن الله لشيء كأذَنِه لنبيّ يتغنى بالقرآن " ، (3) ومنه قول عدي بن زيد :
__________
(1) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف 8 : 84 - 86 ، و ص : 85 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة : " رجل أذنة مثل فعلة " ، وهذا شيء لم أعرف ضبطه ، ولم أجد له ما يؤيده في مراجع اللغة ، والذي فيها أنه يقال : " رجل أذن " (بضم فسكون) و " أذن " (بضمتين) ، ولا أدري أهذه على وزن " فعلة " (بضم ففتح) : " همزة " و " لمزة " ، أم على نحو وزن غيره. وأنا في ارتياب شديد من صواب ما ذكره هنا ، وأخشى أن يكون سقط من الناسخ شيء ، أو أن يكون حرف الكلام.
(3) هذا الحديث ، استدل به بغير إسناد ، وهو حديث صحيح ، رواه مسلم في صحيحه (6 : 78 ، 79) من حديث أبي هريرة.

(14/324)


أَيُّها القَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ... إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعِ وَأَذَنْ (1)
وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث. (2)
16899 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، ذكر الله غشَّهم (3) يعني : المنافقين وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذن) ، الآية. وكان الذي يقول تلك المقالة ، فيما بلغني ، نبتل بن الحارث ، أخو بني عمرو بن عوف ، وفيه نزلت هذه الآية ، وذلك أنه قال : " إنما محمد أذُنٌ! من حدّثه شيئًا صدّقه ! " ، يقول الله : (قل أذن خير لكم) ، أي : يسمع الخير ويصدِّق به. (4)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (قل أذن خير لكم).
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، بإضافة " الأذن " إلى " الخير " ، يعني : قل لهم ، يا محمد : هو أذن خير ، لا أذن شرٍّ.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) ، بتنوين " أذن " ، ويصير " خير " خبرًا له ، بمعنى : قل : من يسمع منكم ، أيها المنافقون ، ما تقولون ويصدقكم ، إن كان محمد كما وصفتموه ، من أنكم إذا أتيتموه ، فأنكرتم (5) ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له ، سمع منكم وصدقكم خيرٌ
__________
(1) أمالي الشريف المرتضى 1 : 33 ، واللسان (أذن) و (ددن) ، و " الدد " (بفتح الدال) و " الددن " ، اللهو. و " السماع " ، الغناء ، والمغنية يقال لها " المسمعة " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " في ربيع بن الحارث " ، وهو خطأ محض ، لا شك فيه.
(3) في المطبوعة : " ذكر الله عيبهم " ، أخطأ ، والصواب ما في المخطوطة ، وسيرة ابن هشام.
(4) الأثر : 16899 - سيرة ابن هشام 4 : 195 ، وهو تابع الأثر السلف رقم : 16783 ، وانظر خبر نبتل بن الحارث أيضًا في سيرة ابن هشام 2 : 168.
(5) في المطبوعة : " إذا آذيتموه فأنكرتم " ، وهو كلام لا معنى له ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، والصواب ما أثبت.

(14/325)


لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذبهم فقال : بل لا يقبل إلا من المؤمنين (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين).
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندي في ذلك ، قراءةُ من قرأ : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، بإضافة " الأذن " إلى " الخير " ، وخفض " الخير " ، يعني : قل هو أذن خير لكم ، لا أذن شر. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16900 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، يسمع من كل أحد.
16901 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، قال : كانوا يقولون : " إنما محمد أذن ، لا يحدَّث عنا شيئًا ، إلا هو أذن يسمع ما يقال له " .
16902 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويقولون هو أذن) ، نقول ما شئنا ، ونحلف ، فيصدقنا.
16903 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (هو أذن) ، قال : يقولون : " نقول ما شئنا ، ثم نحلف له فيصدقنا " .
16904 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 444.

(14/326)


وأما قوله : (يؤمن بالله) ، فإنه يقول : يصدِّق بالله وحده لا شريك له.
وقوله : (ويؤمن للمؤمنين) ، يقول : ويصدق المؤمنين ، لا الكافرين ولا المنافقين.
وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا : " محمد أذن! " ، يقول جل ثناؤه : إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمعُ خيرٍ ، يصدِّق بالله وبما جاءه من عنده ، ويصدق المؤمنين ، لا أهل النفاق والكفر بالله.
* * *
وقيل : (ويؤمن للمؤمنين) ، معناه : ويؤمن المؤمنين ، لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها : " آمنتُ له وآمنتُه " ، بمعنى : صدّقته ، كما قيل : ( رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) ، [سورة النمل : 72] ، ومعناه : ردفكم وكما قال : ( لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) [سورة الأعراف : 154] ، ومعناه : للذين هم ربّهم يرهبون. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16905 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله قال : حدثنى معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) ، يعني : يؤمن بالله ، ويصدق المؤمنين.
* * *
وأما قوله : (ورحمة للذين آمنوا منكم) ، فإن القرأة اختلفت في قراءته ، فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) ، بمعنى : قل هو
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 444 .

(14/327)


أذن خير لكم ، وهو رحمة للذين آمنوا منكم فرفع " الرحمة " ، عطفًا بها على " الأذن " .
* * *
وقرأه بعض الكوفيين : (وَرَحْمَةٍ) ، عطفا بها على " الخير " ، بتأويل : قل أذن خير لكم ، وأذن رحمة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءةُ من قرأه : (وَرَحْمَةٌ) ، بالرفع ، عطفًا بها على " الأذن " ، بمعنى : وهو رحمة للذين آمنوا منكم. وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه ، وصدَّق بما جاء به من عند ربه ، لأن الله استنقذهم به من الضلالة ، وأورثهم باتِّباعه جنّاته.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : " هو أذن " ، وأمثالِهم من مكذِّبيه ، والقائلين فيه الهُجْرَ والباطل ، (2) عذابٌ من الله موجع لهم في نار جهنم. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 444.
(2) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف ص : 324 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).

(14/328)


يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

القول في تأويل قوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم : يحلف لكم ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المنافقون بالله ، ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرِهم إياه بالطعن عليه والعيب له ، ومطابقتهم سرًّا أهلَ الكفر عليكم بالله والأيمان الفاجرة : أنهم ما فعلوا ذلك ، وإنهم لعلى دينكم ، ومعكم على من خالفكم ، يبتغون بذلك رضاكم. يقول الله جل ثناؤه : (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ، بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا (إن كانوا مؤمنين) ، يقول : إن كانوا مصدِّقين بتوحيد الله ، مقرِّين بوعده ووعيده.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16906 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) ، الآية ، ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقًّا ، لهم شَرٌّ من الحمير! قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد حق ، ولأنت شر من الحمار ! فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له : ما حملك على الذي قلت ؟ فجعل يلتَعنُ ، ويحلف بالله ما قال ذلك. (1) قال : وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدِّق الصادق ، وكذِّب
__________
(1) " التعن الرجل " ، إذا أنصف في الدعاء على نفسه ، أو لعن نفسه.

(14/329)


أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

الكاذب ! فأنزل الله في ذلك : (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين).
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبًا للمؤمنين ليرضوهم ، وهم مقيمون على النفاق ، أنه من يحارب الله ورسوله ، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما (فأن له نار جهنم) ، في الآخرة (خالدًا فيها) ، يقول : لابثًا فيها ، مقيمًا إلى غير نهاية ؟ (1) (ذلك الخزي العظيم) ، يقول : فلُبْثُه في نار جهنم وخلوده فيها ، هو الهوان والذلُّ العظيم. (2)
* * *
وقرأت القرأة : (فَأَنَّ) ، بفتح الألف من " أن " بمعنى : ألم يعلموا أنَّ لمن حادَّ الله ورسوله نارُ جهنم وإعمال " يعلموا " فيها ، كأنهم جعلوا " أن " الثانية مكررة على الأولى ، واعتمدوا عليها ، إذ كان الخبر معها دون الأولى.
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك ، على الابتداء ، بسبب دخول " الفاء " فيها ، وأن دخولها فيها عنده دليلٌ على أنها جواب الجزاء ، وأنها إذا كانت للجزاء جوابًا ، (3) كان الاختيار فيها الابتداء.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف ص : 160 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة : " إذا كانت جواب الجزاء " ، وفي المخطوطة : " إذا كانت الجواب جزاء " ، والصواب ما أثبت ، إنما أخطأ الناسخ.

(14/330)


يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلام الحرفين ، أعني " أن " الأولى والثانية ، لأن ذلك قراءة الأمصار ، وللعلة التي ذكرت من جهة العربية.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يخشى المنافقون أن تنزل فيهم (1) (سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ، يقول : تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. (2)
* * *
وقيل : إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين ، قالوا : " لعل الله لا يفشي سِرَّنا! " ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : (استهزءوا) ، متهددًا لهم متوعدًا : (إن الله مخرج ما تحذرون).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16907 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) ، قال : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون : " عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا! " .
16908 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) انظر تفسير " الحذر " فيما سلف 10 : 575.
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف 13 : 252 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/331)


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)

عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله إلا أنه قال : سِرَّنا هذا.
* * *
وأما قوله : (إن الله مخرجٌ ما تحذرون) ، فإنه يعني به : إن الله مظهر عليكم ، أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه ، فأظهر الله ذلك عليهم وفضحهم ، (1) فكانت هذه السورة تدعَى : (الفَاضِحَةَ).
16909 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت تسمَّى هذه السورة : (الفَاضِحَةَ) ، فاضحة المنافقين.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولئن سألت ، يا محمد ، هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب ، ليقولن لك : إنما قلنا ذلك لعبًا ، وكنا نخوض في حديثٍ لعبًا وهزؤًا! (2) يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون ؟
وكان ابن إسحاق يقول : الذي قال هذه المقالة : كما : -
16910 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذي قال هذه المقالة فيما بلغني ، وديعة بن ثابت ، أخو بني أمية بن زيد ، من بني عمرو بن عوف. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإخراج " فيما سلف 2 : 228 \ 12 : 211.
(2) انظر تفسير " الخوض " فيما سلف 11 : 529 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
وتفسير " اللعب " فيما سلف 11 : 529 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
وتفسير " الاستهزاء " فيما سلف 11 : 262 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) الأثر : 16910 - سيرة ابن هشام 4 : 195 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16899.

(14/332)


16911 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا الليث قال ، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم : أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً ، وأجبُننا عند اللقاء ! فقال له عوف : كذبت ، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه قال زيد (1) قال عبد الله بن عمر : فنظرت إليه متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة ، (2) يقول : (إنما كنا نخوض ونلعب) ! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن) ؟ ما يزيده. (3)
16912 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغبَ بطونًا ، ولا أكذبَ ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس : كذبتَ ، ولكنك منافق ! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فقال زيد " ، بالفاء ، والسياق يقتضي إسقاطها.
(2) " الحقب " (بفتحتين) : حبل يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله ، لئلا يؤذيه التصدير ، أو يجتذبه التصدير فيقدمه. و " نكبته الحجارة " ، لثمت الحجارة رجله وظفره ، أي نالته وآذته وأصابته.
(3) الأثر : 16911 - " هشام بن سعد المدني " ، ثقة ، متكلم في ، مضى برقم : 5490 ، 11704 ، 12821.
" زيد بن أسلم العدوي " الفقيه ، روى عن عبد الله بن عمر ، روى له جماعة ، مضى مرارًا كثيرة وسيأتي الخبر الذي يليه ، من طريق ابن وهب ، عنه. وهذا إسناد صحيح.

(14/333)


تَنْكُبه الحجارة ، وهو يقول : " يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب! " ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). (1)
16913 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن عكرمة في قوله : (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، إلى قوله : (بأنهم كانوا مجرمين) ، قال : فكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : " اللهم إني أسمع آية أنا أعْنَى بها ، تقشعرُّ منها الجلود ، وتَجِبُ منها القلوب ، (2) اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحدٌ : أنا غسَّلت ، أنا كفَّنت ، أنا دفنت " ، قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحدٌ من المسلمين إلا وُجد غيره.
16914 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، الآية ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا : " يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها! هيهات هيهات " ! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " احبسوا عليَّ الرَّكْب ! (3) فأتاهم فقال : قلتم كذا ، قلتم كذا. قالوا : " يا نبي الله ، إنما كنا نخوض ونلعب " ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون.
16915 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، ورَكْب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونها ! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه
__________
(1) الأثر : 16912 - مكرر الأثر السالف ، وهو صحيح الإسناد.
(2) " وجب قلبه يجب وجيبًا " ، خفق واضطرب. وكان في المطبوعة : " وتجل " باللام ، كأنه يعني من " الوجل " ، ولكنه لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة.
(3) في المطبوعة : " على هؤلاء الركب " ، زاد " هؤلاء " لغير طائل.

(14/334)


وسلم على ما قالوا ، فقال : عليّ بهؤلاء النفر ! فدعاهم فقال : قلتم كذا وكذا! فحلفوا : ما كنا إلا نخوض ونلعب!
16916 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء ! فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كنا نخوض ونلعب ! فقال : (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ، إلى قوله : (مجرمين) ، وإن رجليه لتنسفان الحجارة ، (1) وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
16917 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال : قال رجل من المنافقين : " يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا ، في يوم كذا وكذا! وما يدريه ما الغيب ؟ " .
16918 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ليسفعان بالحجارة " ، غير ما كان في المخطوطة مسيئًا في فعله ، والصواب ما في المخطوطة. " نسفت الناقة الحجارة والتراب في عدوها تنسفه نسفًا " ، إذا أطارته ، وكذلك يقال في الإنسان إذا اشتد عدوه.
(2) " النسعة " (بكسر فسكون) : سير مضفور يجعل زمامًا للبعير ، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير. ويقال للبطان والحقب : " النسعان " .

(14/335)


لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

القول في تأويل قوله : { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم : (لا تعتذروا) ، بالباطل ، فتقولوا : (كنا نخوض ونلعب) (قد كفرتم) ، يقول : قد جحدتم الحق بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به (1) (بعد إيمانكم) ، يقول : بعد تصديقكم به وإقراركم به (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة). (2)
* * *
وذكر أنه عُنِي : بـ " الطائفة " ، في هذا الموضع ، رجلٌ واحد. (3)
وكان ابن إسحاق يقول فيما : -
16919 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذي عُفِي عنه ، فيما بلغني مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي ، (4) حليف بني سلمة ، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع. (5)
16920 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حبان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : (إن نعف عن طائفة منكم) ، قال : " طائفة " ، رجل.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " يقول : لحم الحق " ، وهي لا تقرأ ، والذي في المطبوعة مقارب للصواب ، فتركته على حاله .
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة (عفا).
(3) انظر تفسير " الطائفة " فيما سلف 13 : 398 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(4) في سيرة ابن هشام في هذا الموضع " مخشن بن حمير " ، وقد أشار ابن هشام إلى هذا الاختلاف فيما سلف من سيرته ، ابن هشام 4 : 168 . ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر : 16919 - سيرة ابن هشام 4 : 195 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16910.

(14/336)


الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : (إن نعف عن طائفة منكم) ، بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر (نعذب طائفة) ، بكفره واستهزائه بآيات الله ورسوله.
* ذكر من قال ذلك :
16922 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، قال بعضهم : كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث ، يسير مجانبًا لهم ، (1) فنزلت : (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) ، فسُمِّي " طائفةً " وهو واحدٌ.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك. إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنه ، يعذب الله طائفة منكم بترك التوبة.
* * *
وأما قوله : (إنهم كانوا مجرمين) ، فإن معناه : نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم ، وهو الكفر بالله ، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (المنافقون والمنافقات) ، وهم الذين يظهرون للمؤمنين الإيمانَ بألسنتهم ، ويُسِرُّون الكفرَ بالله ورسوله (3) (بعضهم
__________
(1) في المطبوعة : " فيسير " ، بالفاء ، أثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف 13 : 408 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النفاق " فيما سلف 1 : 234 ، 270 ، 273 ، 324 - 327 ، 346 - 363 ، 408 ، 409 ، 414 \ 4 : 232 ، 233 \ 8 : 513 \ 9 : 7 .

(14/337)


من بعض) ، يقول : هم صنف واحد ، وأمرهم واحد ، في إعلانهم الإيمان ، واستبطانهم الكفر (يأمرون) مَنْ قبل منهم (بالمنكر) ، وهو الكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به وتكذيبه (1) (وينهون عن المعروف) ، يقول : وينهونهم عن الإيمان بالله ورسوله ، وبما جاءهم به من عند الله (2)
* * *
وقوله : (ويقبضون أيديهم) ، يقول : ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله ، ويكفُّونها عن الصدقة ، فيمنعون الذين فرضَ الله لهم في أموالهم ما فرَض من الزكاة حقوقَهم ، كما : -
16923 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (ويقبضون أيديهم) ، قال : لا يبسطونها بنفقة في حق.
16924 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16925 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
16926 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
16927 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ويقبضون أيديهم) ، لا يبسطونها بخير.
16928 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ويقبضون أيديهم) ، قال : يقبضون أيديهم عن كل خير.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المنكر " فيما سلف 13 : 165 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف 13 : 165 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(14/338)


وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)

وأما قوله : (نسوا الله فنسيهم) ، فإن معناه : تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره ، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى " النسيان " ، الترك ، بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما : -
16929 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، قتادة قوله : (نسوا الله فنسيهم) ، نُسُوا من الخير ، ولم ينسوا من الشرّ.
* * *
قوله : (إن المنافقين هم الفاسقون) ، يقول : إن الذين يخادعون المؤمنين بإظهارهم لهم بألسنتهم الإيمانَ بالله ، وهم للكفر مستبطنون ، (2) هم المفارقون طاعةَ الله ، الخارجون عن الإيمان به وبرسوله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) بالله (نار جهنم) ، أن يصليهموها جميعًا (خالدين فيها) ، يقول : ماكثين فيها أبدًا ، لا يحيون فيها ولا يموتون (4) (هي حسبهم) ، يقول : هي
__________
(1) انظر تفسير " النسيان " فيما سلف 12 : 475 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النفاق " فيما سلف قريبا ص : 337 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص : 293 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).

(14/339)


كافيتهم عقابًا وثوابًا على كفرهم بالله (1) (ولعنهم الله) ، يقول : وأبعدهم الله وأسحقهم من رحمته (ولهم عذاب مقيم) ، يقول : وللفريقين جميعًا : يعني من أهل النفاق والكفر ، عند الله (عذابٌ مقيم) ، دائم ، لا يزول ولا يبيد. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص : 403 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " مقيم " فيما سلف 10 : 293 ، 294 \ 14 : 172.

(14/340)


كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)

القول في تأويل قوله : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين الذين قالوا : (إنما كنا نخوض ونلعب) : أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزئون ؟ (كالذين من قبلكم) ، من الأمم الذين فعلوا فعلكم ، فأهلكهم الله ، وعجل لهم في الدنيا الخزي ، مع ما أعدَّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة. يقول لهم جل ثناؤه : واحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم ، فإنهم كانوا أشد منكم قوةً وبطشًا ، وأكثر منكم أموالا وأولادًا (فاستمتعوا بخلاقهم) ، يقول : فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم ، (1) ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة ، (2)
__________
(1) انظر تفسير " الاستمتاع " فيما سلف 12 : 116 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الخلاق " فيما سلف 2 : 452 - 454 \ 4 : 201 - 203 \ 6 : 527 ، 528 .

(14/340)


وقد سلكتم ، أيها المنافقون ، سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول : فعلتم بدينكم ودنياكم ، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم ، الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري (بخلاقهم) ، يقول : كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم (وخضتم) ، في الكذب والباطل على الله (كالذي خاضوا) ، يقول : وخضتم أنتم أيضًا ، أيها المنافقون ، كخوض تلك الأمم قبلكم. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16930 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لتأخذُنَّ كما أخذ الأمم من قبلكم ، ذراعًا بذراع ، وشبرًا بشبر ، وباعًا بباع ، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه! قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم القرآن : (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم ؟ قال : فهل الناس إلا هم ؟ (2)
16931 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) انظر تفسير " الخوض " فيما سلف ص : 332 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) الأثر : 16930 - إسناده ضعيف .
" أبو معشر " ، هو : " نجيج بن عبد الرحمن السندي " ، منكر الحديث ، مضى برقم : 1275 .
ولكن هذا الخبر له أصل في الصحيح ، فقد رواه البخاري في صحيحه من طريق أحمد بن يونس ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة (الفتح 13 : 254) ، بغير هذا اللفظ.
يقال : " أخذ إخذ فلان " ، إذا سار بسيرته.

(14/341)


عن ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : (كالذين من قبلكم) ، الآية قال ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة!(كالذين من قبلكم) ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه قال : والذي نفسي بيده لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضبٍّ لدخلتموه. (1)
16932 - ...... قال ابن جريج : وأخبرنا زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد بن مهاجر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم ، شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، وباعًا بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا : ومن هم ، يا رسول الله ؟ أهلُ الكتاب! قال : فَمَهْ! (2)
__________
(1) الأثر : 16931 - " عمر بن عطاء " ، هذا الراوي عن عكرمة هو : " عمر بن عطاء بن وراز " ، وهو ضعيف ، ليس بشيء. قال أحمد : " روى ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، فهو : ابن وراز. وكل شيء روى ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار " ، فهما رجلان . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 13 \ 126 ، وميزان الاعتدال 2 : 265 .
فهذا إسناد ضعيف أيضًا ، ولكن له أصل في الصحيح ، كما سلف من قبل.
(2) الأثر : 16932 - هذا إسناد تابع للإسناد السالف ، ولكني فصلته عنه ، لأن الإسناد الأول قد تم برواية ابن جريج حديث ابن عباس ، ثم انتقل إلى إسناد آخر إلى أبي هريرة.
و " زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخرساني " ، وكان شريك ابن جريج ، وهو ثقة ، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 1 \ 327 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 533 .
و " محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي القرشي " ، ثقة ، مضى برقم : 10521 .
فهذا خبر صحيح الإسناد.
وأما قوله : " فمه " ، فقد كتبها في المطبوعة : " فمن " ، وهي في المخطوطة بالهاء واضحة عليها سكون ، ويدل على صواب ذلك ، اقتصار ابن جريج في الخبر التالي على ذكر " فمن " ، دون ذكر الخبر ، فهذا دال على أن الأولى مخالفة للثانية ، لا مطابقة لها.
واستعمال " مه " بمعنى الاستفهام ، قد ذكر له صاحب اللسان في مادة " ما " ، شاهدًا ،
ولكنه أ ساء في نقله عن ابن جني بعده ، فلم يتبين ما أراد قبله . قال : " ما : حرف نفي ، وتكون بمعنى الذي . . . وتكون موضوعة موضع : من ، وتكون بمعنى الاستفهام وتبدل من الألف الهاء ، فيقال : مه ، قال الراجز : قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ
ومِنْ هَاهُنَا وَمْنِ هُنَهْ
إِنْ لَمْ أُرَوِّها فَمَهْ
قال ابن جني : يحتمل ، مه ، هنا وجهين : أحدهما أن تكون : فمه ، زجرًا منه ، أي : فاكفف عني. ولست أهلا للعتاب أو : فمه يا إنسان ، يخاطب نفسه ويزجرها " .
قلت : وهذا تحكم من أبي الفتح بن جني ، فإن سياق الرجز يوجب أن يكون معناه : إن لم أرو أنا هذا الإبل ، فمن يرويها ؟ وهو صريح معنى الاستدلال الذي ساقه صاحب اللسان ، ولكنه أساء في البيان وقصر ، وأساء في إردافه الكلام ما أردفه من كلام أبي الفتح .
وهذا الخبر الذي رواه ابن جريج ، عن أبي هريرة ، دليل آخر وشاهد قوي على استعمالهم " مه " ، بمعنى الاستفهام.

(14/342)


16933 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال أبو سعيد الخدري أنه قال : فمن. (1)
16934 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (فاستمتعوا بخلاقهم) ، قال : بدينهم.
16935 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حَذَّركم أن تحدثوا في الإسلام حَدَثًا ، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوامٌ من هذه الأمة ، (2) فقال الله في ذلك : (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) ، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم ، وإن الفتنة عائدة كما بدأت.
* * *
__________
(1) الأثر : 16933 - حديث أبي سعيد الخدري ، في معنى الأخبار السالفة رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 13 : 255 ) ، ومسلم في صحيحه 16 : 219 ، من طريق زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري .
وهذا الخبر رواه ابن جريج مختصرًا على كلمة واحدة ، وهي " فمن " ، ليبين معنى رواية أبي هريرة قبل : " فمه " ، أنها بمعنى " فمن " ، استفهامًا ، كما سلف في التعليق قبله.
(2) جاء هكذا في المخطوطة : " حدثكم أن تحثوا في الإسلام حدثًا ، وقد علمتم أنه ... " ، وهو غير مقروء ، ولا مستقيم ، والذي في المطبوعة ، كأنه منقول من الدر المنثور 3 : 255 ، فقد نسبه إلى أبي الشيخ ، ولم ينسبه إلى ابن جرير ، وهو فضلا عن ذلك ، مختصر في الدر المنثور.

(14/343)


أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

وأما قوله : (أولئك حبطت أعمالهم) ، فإن معناه : هؤلاء الذين قالوا : (إنما كنا نخوض ونلعب ، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم (حبطت أعمالهم) ، يقول : ذهبت أعمالهم باطلا. فلا ثوابَ لها إلا النار ، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه (1) (وأولئك هم الخاسرون) ، يقول : وأولئك هم المغبونون صفقتهم ، ببيعهم نعيم الآخرة بخلاقهم من الدنيا اليسيرِ الزهيدِ (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يُسِرُّون الكفرَ بالله ، وينهون عن الإيمان به وبرسوله (نبأ الذين من قبلهم) ، يقول : خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم ، (3) حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا ، ماذا حلّ بهم من عقوبتنا ؟
ثم بين جل ثناؤه مَنْ أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نَبَأهُم ، فقال : (قوم نوح) ، ولذلك خفض " القوم " ، لأنه ترجم بهن عن " الذين " ، و " الذين " في موضع خفض.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف ص : 166 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف 13 : 535 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 331 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/344)


ومعنى الكلام : ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم ، إذ كذبوا رسولي نوحًا ، وخالفوا أمري ؟ ألم أغرقهم بالطوفان ؟
(وعاد) ، يقول : وخبر عاد ، إذ عصوا رسولي هودًا ، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية ؟ وخبر ثمود ، إذ عصوا رسولي صالحًا ، ألم أهلكهم بالرجفة ، فأتركهم بأفنيتهم خمودًا ؟ وخبر قوم إبراهيم ، إذ عصوه وردُّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحق ، ألم أسلبهم النعمة ، وأهلك ملكهم نمرود ؟ وخبر أصحابِ مَدْين بن إبراهيم ، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة إذ كذبوا رسولي شعيبًا ؟ وخبر المنقلبة بهم أرضُهم ، فصار أعلاها أسفلها ، إذ عصوا رسولي لوطًا ، (1) وكذبوا ما جاءهم به من عندي من الحق ؟ يقول تعالى ذكره : أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله ، أن يُسْلك بهم في الانتقام منهم ، وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا ، سبيلُ أسلافهم من الأمم ، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رُسلنا ، إذ أتتهم بالبينات.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16936 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (والمؤتفكات) ، قال : قوم لوط ، انقلبت بهم أرضهم ، فجعل عاليها سافلها.
16937 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (والمؤتفكات) ، قال : هم قوم لوط.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الائتفاك " فيما سلف ص : 208 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(14/345)


فإن قال قائل : فإن كان عني بـ " المؤتفكات " قوم لوط ، فكيف قيل : " المؤتفكات " ، فجمعت ولم توحّد ؟
قيل : إنها كانت قريات ثلاثًا ، فجمعت لذلك ، ولذلك جمعت بالتاء ، على قول الله : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) ، [سورة النجم : 53]. (1)
فإن قال : وكيف قيل : أتتهم رسلهم بالبينات ، وإنما كان المرسل إليهم واحدًا ؟
قيل : معنى ذلك : أتى كل قرية من المؤتفكات رسولٌ يدعوهم إلى الله ، فتكون رُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته ، رسلا إليهم ، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي : " الفُدَيْكات " ، و " أبو فديك " ، واحدٌ ، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم ، دعوا بذلك ، ونسبوا إلى رئيسهم. فكذلك قوله : (أتتهم رسلهم بالبينات).
* * *
وقد يحتمل أن يقال معنى ذلك : أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، رسلهم من الله بالبينات.
* * *
وقوله : (فما كان الله ليظلمهم) ، يقول جل ثناؤه : فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها ، واستحقاقها من الله عظيم العقاب ، لا ظلمًا من الله لهم ، ولا وضعًا منه جل ثناؤه عقوبةً في غير من هو لها أهلٌ ، لأن الله حكيم لا خلل في تدبيره ، ولا خطأ في تقديره ، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله ، حتى أسخطوا عليهم ربهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب فعذِّبوا.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 446.

(14/346)


وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

القول في تأويل قوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأما " المؤمنون والمؤمنات " ، وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه ، فإن صفتهم : أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم (1) (يأمرون بالمعروف) ، يقول : يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله ، وبما جاء به من عند الله ، (2) [(وينهون عن المنكر) ... ] (3) (ويقيمون الصلاة) ، يقول : ويؤدُّون الصلاة المفروضة (4) (ويؤتون الزكاة) ، يقول : ويعطون الزكاة المفروضةَ أهلَها (5) (ويطيعون الله ورسوله) ، فيأتمرون لأمر الله ورسوله ، وينتهون عما نهياهم عنه (أولئك سيرحمهم الله) ، يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم ، الذين سيرحمهم الله ، فينقذهم من عذابه ، ويدخلهم جنته ، لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله ، الناهون عن المعروف ، الآمرون بالمنكر ، القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم (إن الله عزيز حكيم) ، يقول : إن الله ذو عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به ، لا يمنعه من الانتقام منه مانع ، ولا ينصره منه ناصر (حكيم) ، في انتقامه منهم ، وفي جميع أفعاله. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص : 338 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) ما بين القوسين زدته استظهارًا ، وهو تمام الآية ، أخل به الناسخ ، وأسقط تفسيره ، كما هو بين من سياق أبي جعفر في تفسيره.
انظر تفسير " المنكر " فيما سلف ص : 338 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم).
(5) انظر تفسير " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى).
(6) انظر تفسير " عزيز " ، و " حكيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم).

(14/347)


وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
16938 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كل ما ذكره الله في القرآن من " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، فـ " الأمر بالمعروف " ، دعاء من الشرك إلى الإسلام و " النهي عن المنكر " ، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
16939 - ...... قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يقيمون الصلاة) ، قال : الصلوات الخمس.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا به وبما جاء به من عند الله ، من الرجال والنساء (جنات تجري من تحتها الأنهار) ، يقول : بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار (1) (خالدين فيها) ، يقول : لابثين فيها أبدًا ، مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد (2) (ومساكن طيبة) ، يقول : ومنازل يسكنونها طيبةً. (3)
__________
(1) انظر تفسير " جنة " فيما سلف من فهارس اللغة (جنن).
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(3) انظر تفسير " طيبة " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب).

(14/348)


و " طيبها " أنها ، فيما ذكر لنا ، كما : -
16940 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن جَسْر ، عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى : (ومساكن طيبة في جنات عدن) ، فقالا على الخبير سقطت! سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قصرٌ في الجنة من لؤلؤ ، فيه سبعون دارًا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرًا. (1)
16941 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال ، حدثنا قرة بن حبيب ، عن جَسْر بن فرقد ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين وأبي هريرة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : (ومساكن طيبه في جنات عدن) ، قال : قصر من لؤلؤة ، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتًا من زبرجدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرًا ، على كل سرير فراشًا من كل لون ، على كل فراش زوجة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ،
__________
(1) الأثر : 16940 - " إسحاق بن سليمان الرازي " ، شيخ أبي كريب ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13224.
و " جسر " هو : " جسر بن فرقد ، أبو جعفر القصاب " ، روى عنه إسحاق بن سليمان ، وروى هو عن الحسن وغيره ، وكان رجلا صالحًا ، ولكنه في الحديث ليس بشيء. مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 245 ، وقال : " ليس بذاك " ، وفي ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 538 ، وميزان الاعتدال 1 : 184 ، ولسان الميزان 2 : 104 .
وكان في المطبوعة : " إسحاق بن سليمان ، عن الحسن قال سألت " ، واسقط اسم " جسر " ، لأنه كان في المخطوطة قد كتب : " عن الحسن ، عن الحسن " ، ثم ضرب الناسخ على " الألف واللام " من " الحسن " الأولى ، فظنه قد ضرب عليه كله ، والصواب ما أثبت ، وسيأتي في الإسناد التالي.
وهذا الخبر ، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 30 ، 31 ، وقال : " رواه البزار والطبراني في الأوسط . وفيه جسر بن فرقد ، وهو ضعيف ، وقد وثقه سعيد بن عامر ، وبقية رجال الطبراني ثقات " .
ثم خرجه في مجمع الزوائد 10 : 420 وقال : " رواه الطبراني ، وفيه : جسر بن فرقد ، وهو ضعيف " ، فاختصر ما سلف .
وهو إسناد ضعيف كما قال ، فقد ضعف جسر بن فرقد ، البخاري وغيره من الأئمة.

(14/349)


على كل مائدة سبعون لونًا من طعام ، في كل بيت سبعون وصيفة ، ويعطى المؤمن من القوة في غَداةٍ واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع. (1)
* * *
وأما قوله : (في جنات عدن) ، فإنه يعني : وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جل ثناؤه ، (في جنات عدن).
* * *
و " في " من صلة " مساكن " .
* * *
وقيل : " جنات عدن " ، لأنها بساتين خلد وإقامة ، لا يظعَنُ منها أحدٌ.
* * *
وقيل : إنما قيل لها(جنات عدن) ، لأنها دارُ الله التي استخلصها لنفسه ، ولمن شاء من خلقه من قول العرب : " عَدَن فلان بأرض كذا " ، إذا أقام بها وخلد بها ، ومنه " المَعْدِن " ، ويقال : " هو في معدِن صدق " ، يعني به : أنه في أصلٍ ثابت. وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى :
وَإنْ يَسْتَضِيفُوا إلَى حِلْمِه... يُضَافُوا إلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَن (2)
__________
(1) 16941 - " قرة بن حبيب بن يزيد بن شهرزاد القنوي الرماح " ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 41 \ 183 ، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 132 .
و " جسر بن فرقد " سلف في الإسناد وقبله . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " حسن بن فرقد " ، وصوابه ما أثبت .
وهو إسناد ضعيف أيضًا.
(2) ديوانه : 17 ، ومخطوطة ديوانه القصيدة رقم : 15 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 264 ، واللسان " وزن " ، وهي من كلمته الأولى التي أقبل بها على قيس بن معد يكرب الكندي ، ورواية الديوان " إلى حكمه " ، ولكنها في المخطوطة ومجاز القرآن كما أثبتها ، ولكن المطبوعة كتب " حكمه " .
يقول قبله : ولكنّ رَبِّي كَفَى غُرْبتِي ... بِحَمْدِ الإِلَهِ ، فقد بَلَّغَنْ
أَخَا ثِقَةٍ عَاليًا كَعْبُهْ ... جَزيلَ العَطاء كَرِيمَ المِنَنْ
كَرِيمًا شَمائلُهُ ، مِنْ بَني ... مُعَاوِيةَ الأَكْرَمِينَ السُّنَنْ
فَإنْ يَتْبَعُوا أَمْرَهُ يَرْشُدُوا ... وَإنْ يَسْأَلُوا مَالَهُ لا يَضِنّْ
و " استضاف إليه " ، لجأ إليه عند الحاجة.

(14/350)


وينشد : " قد وَزَن " . (1)
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر ، يتأوّلونه.
16942 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (جنات عدن) ، قال : " معدن الرجل " ، الذي يكون فيه.
16943 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا الليث بن سعد ، عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يفتح الذكرَ في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن ، وهي في داره التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، وهي مسكنه ، ولا يسكن معه من بني آدم غير ثلاثة : النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، ثم يقول : طوبى لمن دخلك ، وذكر في الساعة الثالثة. (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قد وزن " ، بالواو ورواية الديوان : " قد رزن " بالراء ، وكله صحيح المعنى. وهذه التي ذكرها الطبري ، هي الرواية التي فسرها صاحب اللسان في " وزن " .
يقال : " وزن الشيء " ، أي : رجح ، و " وزن الرجل وزانة " ، إذا كان متثبتًا ، و " رجل وزين الرأي " ، أصيله. و " رزن " بالراء مثله في المعنى ، يقال : " رجل رزين " ، أي : وقور.
(2) الأثران : 16943 ، 16944 - " زيادة بن محمد الأنصاري " ، منكر الحديث ، مترجم في التهذيب والكبير 2 \ 1 \ 407 ، وذكر إسناد هذا الخبر ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 619 ، وميزان الاعتدال 1 : 361 ، وساق هذا الحديث بطوله ، وفيه ذكر الساعة الثالثة ، ثم قال : " وهذه ألفاظ منكرة ، لم يأت بها غير زيادة " .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 412 وقال : " رواه البزار ، وفيه زيادة بن محمد ، وهو ضعيف " .
وكان في المطبوعة في الخبر الأول : " الكندي سعد ، عن زيادة بن محمد " ، وصوابه " الليث بن سعد " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنه وصل الحروف بعضها ببعض .

(14/351)


16944 - حدثني موسى بن سهل قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا الليث بن سعد قال ، حدثنا زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عدن دارُه يعني دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، وهي مسكنه ، ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة : النبيين ، والصديقين ، والشهداء. يقول الله تبارك وتعالى : طوبى لمن دخلك. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى(جنات عدن) ، جنات أعناب وكروم.
* ذكر من قال ذلك :
16945 - حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال ، حدثنا زكريا بن عدي قال ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث : أن ابن عباس سأل كعبًا عن جنات عدن ، فقال : هي الكروم والأعناب ، بالسريانية. (2)
* * *
وقال آخرون : هي اسم لبُطْنان الجنة ووَسطها.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 16944 - انظر التعليق السالف . و " آدم " ، هو " آدم بن أبي إياس " .
(2) الأثر : 16945 - " أحمد بن أبي سريج الرازي " ، هو " أحمد بن الصباح النهشلي الرازي " ، شيخ أبي جعفر . روى عنه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي . ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 56 .
و " زكريا بن عدي بن زريق التيمي " ، ثقة ، مضى برقم : 15446 .
و " عبيد الله بن عمرو الرقي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، منها رقم : 7187 .
و " زيد بن أبي أنيسة الجزري " ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها : 13855 .
و " يزيد بن أبي زياد القرشي " ، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، ثقة ، يضعف حديثه . مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13308 .
و " عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي " ، روى له الجماعة ، مضى أيضا ، برقم : 13308.

(14/352)


16946 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : " عدن " ، بُطْنان الجنة.
16947 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان وشعبة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : (جنات عدن) ، قال : بُطْنان الجنة قال ابن بشار في حديثه ، فقلت : ما بطنانها ؟ وقال ابن المثنى في حديثه ، فقلت للأعمش : ما بطنان الجنة ؟ قال : وَسطها.
16948 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، وأبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : (جنات عدن) ، قال : بطنان الجنة.
16949 - ...... قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بمثله.
16950 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله.
16951 - حدثنا أحمد بن أبي سريج قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، وعبد الله بن مرة ، عنهما جميعًا ، أو عن أحدهما ، عن مسروق ، عن عبد الله : (جنات عدن) ، قال : بطنان الجنة.
16952 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود في قول الله : (جنات عدن) ، قال : بُطْنان الجنة.
* * *

(14/353)


وقال آخرون : " عدن " ، اسم لقصر.
* ذكر من قال ذلك :
16953 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال ، حدثنا عبدة أبو غسان ، عن عون بن موسى الكناني ، عن الحسن قال : " جنات عدن " ، وما أدراك ما جنات عدن ؟ قصرٌ من ذهَب ، لا يدخله إلا نبي ، أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حكم عدل ، ورفع به صوته. (1)
16954 - حدثنا أحمد بن أبي سريج قال ، حدثنا عبد الله بن عاصم قال ، حدثنا عون بن موسى قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن ؟ قصر من ذهب ، لا يدخله إلا نبيّ ، أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حكم عدل رفع الحسن به صوته. (2)
16955 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا يزيد قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن في الجنة قصرًا يقال له " عدن " ، حوله البروج والرُّوح ، له خمسون ألف باب ، على كل باب حِبَرة ، (3) لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق.
16956 - حدثنا الحسن بن ناصح قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال : سمعت يعقوب بن عاصم يحدث ، عن عبد الله بن عمرو :
__________
(1) الأثر : 16953 - " عبدة ، أبو غسان " ، لم أعرف من يكون ؟
و " عون بن موسى الكنافي الليثي " ، أبو روح ، ثقة سمع الحسن. مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 17 ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 386 .
(2) الأثر : 16954 - " أحمد بن أبي سريج " ، مضى برقم : 16945 .
" عبد الله بن عاصم الحماني " ، صدوق ، روى عنه أبو حاتم ، وأبو زرعة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 134 .
" عون بن موسى الكناني " ، مضى قبله.
(3) " الحبرة " (بكسر الحاء وفتح الباء) : ضرب من برود اليمن منمر. وقالوا : " ليس : حبرة ، موضعًا أو شيئًا معلومًا ، إنما هو شيء " . وكأنه هو المراد في مثل هذا الخبر ، أي : ستور موشية.

(14/354)


إن في الجنة قصرًا يقال له " عدن " ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبَرة ، لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. (1)
* * *
وقيل : هي مدينة الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
16957 - حدثت عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : في(جنات عدن) ، قال : هي مدينة الجنة ، فيها الرُّسُل والأنبياء والشهداء ، وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعدُ ، والجنات حولها.
* * *
وقيل : إنه اسم نهر.
* ذكر من قال ذلك :
16958 - حدثت عن المحاربي ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن عطاء قال : " عدن " ، نهر في الجنة ، جنّاته على حافتيه.
* * *
وأما قوله : (ورضوان من الله أكبر) ، فإن معناه : ورضَى الله عنهم أكبر من ذلك كله ، (2) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الأثر : 16956 - " الحسن بن ناصح " ، هو " الحسن بن ناصح البصري السراج " ، قال ابن أبي حاتم : " روى عن عثمان بن عثمان الغطفاني ، ومعتمر بن سليمان ، ومعاذ بن معاذ ، ويحيى بن راشد ، سمع منه أبي في المرحلة الثانية " ، الجرح والتعديل 1 \ 2 \ 39 ، تاريخ بغداد 7 : 435 .
وهناك أيضا : " الحسن بن ناصح الخلال المخرمي " ، روى عن إسحاق بن منصور ، وغيره قال ابن أبي حاتم : " أدركته . ولم أكتب عنه ، وكان صدوقًا " ، وكأن هذا هو شيخ الطبري .
مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 39 ، وتاريخ بغداد 7 : 435 .
وكان في المطبوعة : " الحسن بن ناجح " ، وهو مخالفة لما في المخطوطة .
و " يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي " ، ذكره ابن حبان في الثقات ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 388 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 211 .
(2) انظر تفسير " الرضوان " فيما سلف ص 174 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(14/355)


16959 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ! فيقولون : لبّيك ربَّنَا وسعْدَيك ! فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك. قالوا : يا ربّ ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك! قال : أحِلّ عليكم رضوَاني ، فلا اسخط عليكم بعده أبدًا. (1)
16960 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثني يعقوب ، عن حفص ، عن شمر قال : يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب ، إلى الرجل حين ينشقُّ عنه قبره ، فيقول : أبشر بكرامة الله! أبشر برضوان الله ! فيقول مثلك من يبشِّر بالخير ؟ ومن أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي كُنْت أسهِر ليلك ، وأُظمئ نهارك! فيحمله على رقبته حتى يُوافي به ربَّه ، فيمثُلُ بين يديه فيقول : يا رب ، عبدك هذا ، اجزه عني خيرًا ، فقد كنت أسهر ليله ، وأظمئ نهاره ، وآمره فيطيعني ، وأنهاه فيطيعني. فيقول الرب تبارك وتعالى : فله حُلَّة الكرامة. فيقول : أي ربّ ، زدْهُ ، فإنه أهلُ ذلك ! فيقول : فله رِضْواني قال : (ورضوان من الله أكبر). (2)
__________
(1) الأثر : 16959 - هذا حديث صحيح رواه البخاري بهذا الإسناد نفسه ، وبلفظه في صحيحه (الفتح 11 : 363 ، 364) ، واستوفى الكلام عليه الحافظ ابن حجر في شرحه. ورواه مسلم في صحيحه 17 : 168 ، وانظر ما سلف رقم : 6751 ، 16567 ، من حديث جابر بن عبد الله ، غير مرفوع ، وما علقت به عليه هناك . وذكره ابن كثير في تفسيره في هذا الموضع 4 : 202 وقال : " رواه البزار في مسنده ، من حديث الثوري. وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة. هذا عندي على شرط الصحيح " .
(2) الأثر : 16960 - " يعقوب " ، هو : " يعقوب بن عبد الله القمي " ، ثقة ، مضى مرارًا ، منها : 13045 .
و " حفص " هو " حفص بن حميد القمي " ، ثقة ، مضى برقم : 8518 .
و " شمر " هو " شمر بن عطية الأسدي الكاهلي " ، ثقة ، مضى برقم : 11545 .
وانظر شواهد لبعض ألفاظ هذا الخبر فيما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 159 - 165 .
ولم أجد هذا الخبر مسندًا بلفظه هذا.

(14/356)


وابتُدِئ الخبر عن " رضوان الله " للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جل ثناؤه ، فرفع ، وإن كان " الرضوان " فيما قد وعدهم. ولم يعطف به في الإعراب على " الجنات " و " المساكن الطيبة " ، ليعلم بذلك تفضيلُ الله رضوانَه عن المؤمنين ، على سائر ما قسم لهم من فضله ، وأعطاهم من كرامته ، نظير قول القائل في الكلام لآخر : " أعطيتك ووصلتك بكذا ، وأكرمتك ، ورضاي بعدُ عنك أفضل لك " . (1)
* * *
(ذلك هو الفوز العظيم) ، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات (هو الفوز العظيم) ، يقول : هو الظفر العظيم ، والنجاء الجسيم ، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد ، ونَجوْا من الهوان في سَقَر ، (2) فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، جعل الكلام هكذا : " أفضل ذلك ، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات . . . " ، وهو غير مستقيم ، والذي أثبته هو الذي في المخطوطة ، ولكن ظاهر أنه قد سقط من الناسخ بعض كلام أبي جعفر . فاستظهرت أن السياق هو ذكر لفظ الآية ، ثم تفسير " ذلك " بقوله : " هذه الأشياء . . . " ، فأثبتها كذلك ، وفصلت بين الكلامين فصلا تامًا.
وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 446.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " الهوان في السفر " ، وهو لا معنى له ، والصواب ما أثبت .
(3) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ، 11 : 286 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/357)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (يا أيها النبي جاهد الكفار) ، بالسيف والسلاح (والمنافقين).
* * *

(14/357)


واختلف أهل التأويل في صفة " الجهاد " الذي أمر الله نبيه به في المنافقين. (1) فقال بعضهم : أمره بجهادهم باليد واللسان ، وبكل ما أطاق جهادَهم به.
* ذكر من قال ذلك :
16961 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، ويحيى بن آدم ، عن حسن بن صالح ، عن علي بن الأقمر ، عن عمرو بن جندب ، عن ابن مسعود في قوله : (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهرَّ في وجهه. (2)
* * *
وقال آخرون : بل أمره بجهادهم باللسان.
* ذكر من قال ذلك :
16962 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 257 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
وتفسير " المنافق " فيما سلف ص : 339 ؛ تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 16961 - " حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا.
و " يحيى بن آدم " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا .
و " حسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري " ، ثقة ، مضى مرارًا .
و " علي بن الأقمر الوادعي الهمداني " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا .
و " عمرو بن أبي جندب " أو " عمرو بن جندب " ، هو " أبو عطية الوادعي " ، مختلف في اسمه . ترجم له في التهذيب ، في الأسماء ، وفي الكنى ، وقال : " قال البخاري في تاريخه : روى عنه أبو إسحاق ، وعلي بن الأقمر " ، ثم قال : " والصواب أنه وإن كان يكنى أبا عطية ، فإنه غير الوادعي " . وهو ثقة ، من أصحاب عبد الله بن مسعود . ترجم له ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 224 باسم " عمرو بن جندب " ، وكان في المطبوعة " عمرو بن جندب " ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، وهما صواب كما ترى .
وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 248 ، ونسبه إلى ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .
وقوله : " فليكفهر في وجهه " : أي فليلقه بوجه منقبض عابس لإطلاقه فيه ولا بشر ولا انبساط.

(14/358)


علي ، عن ابن عباس قوله تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان ، وأذهبَ الرفق عنهم.
16963 - حدثنا القاسم قال ، حدثني الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال : " الكفار " ، بالقتال ، و " المنافقين " ، أن يغلُظ عليهم بالكلام.
16964 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، يقول : جاهد الكفار بالسيف ، وأغلظ على المنافقين بالكلام ، وهو مجاهدتهم.
* * *
وقال آخرون : بل أمره بإقامة الحدود عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
16965 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين بالحدود ، أقم عليهم حدودَ الله.
16966 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، قال : أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف ، ويغلظ على المنافقين في الحدود.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ، ما قال ابن مسعود : من أنّ الله أمر نبيَه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين ، بنحو الذي أمرَه به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل : فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظُهرِ أصحابه ، مع علمه بهم ؟

(14/359)


قيل : إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر ، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَنْ إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها ، أنكرها ورجع عنها وقال : " إني مسلم " ، فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه ، أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله ، وإن كان معتقدًا غير ذلك ، وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم ، ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم ، كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة ، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله ، لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله ، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله ، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه ، دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك ، ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم ، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه.
* * *
وقوله : (واغلظ عليهم) ، (1) يقول تعالى ذكره : واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرْهاب. (2)
* * *
وقوله : (ومأواهم جهنم) ، يقول : ومساكنهم جهنم ، وهي مثواهم ومأواهم (3) (وبئس المصير) ، يقول : وبئس المكان الذي يُصَار إليه جهنَّمُ. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7 : 341 .
(2) في المطبوعة : " والإرعاب " بالعين ، خالف ما هو الصواب في العربية ، وفي المخطوطة إنما يقال : " رعبه يرعبه رعبًا ، فهو مرعوب ورعيب و " رعبه " ترعيبًا " ، ونصوا فقالوا : " ولا تقل : أرعبه " .
(3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص : 77 ، تعليق : والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 13 : 441 تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(14/360)


يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

القول في تأويل قوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية ، والقول الذي كان قاله ، الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله.
فقال بعضهم : الذي نزلت فيه هذه الآية : الجُلاس بن سويد بن الصامت.
* * *
وكان القولُ الذي قاله ، ما : -
16967 - حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، قال : " إن كان ما جاء به محمد حقًّا ، لنحن أشرُّ من الحُمُر! " ، (1) فقال له ابن امرأته : والله ، يا عدو الله ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت ، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعةٌ ، وأؤاخذ بخطيئتك ! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس ، فقال : " يا جُلاس ، أقلت كذا وكذا ؟ فحلف ما قال ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمُّوا بما لم ينالوا وما نَقَموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
__________
(1) انظر استعمال " أشر " ، فيما سلف في الأثرين رقم : 5080 ، 11723 . وكان في المطبوعة : " الحمير " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/361)


16968 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : نزلت هذه الآية : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مُصْعَب من قُباء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقًّا لنحن أشرُّ من حُمُرنا هذه التي نحن عليها ! (1) فقال مصعب : أما والله ، يا عدو الله ، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتَ ! فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وخشيت أن ينزل فيَّ القرآن ، أو تصيبني قارعة ، أو أن أخْلَط [بخطيئته] ، (2) قلت : يا رسول الله ، (3) أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أُخْلَط بخطيئته ، (4) أو تصيبني قارعة ، ما أخبرتك. قال : فدعا الجلاس فقال له : يا جلاس ، أقلت الذي قال مصعب ؟ قال : فحلف ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، الآية.
16969 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذي قال تلك المقالة ، فيما بلغني ، الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عنه رجلٌ كان في حجره ، يقال له " عمير بن سعيد " ، (5) فأنكرها ، (6) فحلف
__________
(1) في المطبوعة : " حميرنا " بالإفراد وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أخلط " ، ليس فيها ذكر الخطيئة واستظهرتها من باقي الخبر ، ومن تفسير ابن كثير .
(3) في المطبوعة : " يا رسول أقبلت " ، وهو من الطباعة.
(4) في المطبوعة : " أن أؤاخذ بخطيئته " ، غير ما في المخطوطة ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو الصواب ، وهو موافق لما في تفسير ابن كثير 4 : 204 ، 205.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " سعيد " ، والذي في سيرة ابن هشام ، " سعد " ، ولكني تركت ما في المخطوطة ، لأني وجدت الحافظ ابن حجر في الإصابة ، ذكر هذا الاختلاف ، فأخشى أن تكون هذه رواية أبي جعفر في سيرة ابن إسحاق.
(6) في المطبوعة : " فأنكر " ، أثبت ما في المخطوطة ، موافقا لابن هشام.

(14/362)


بالله ما قالها. فلما نزل فيه القرآن ، تاب ونزع وحسنت ، توبته فيما بلغني. (1)
16970 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (كلمة الكفر) ، قال أحدهم : " لئن كان ما يقول محمد حقًّا لنحن شر من الحمير " ! فقال له رجل من المؤمنين : أن ما قال لحقٌّ ، ولأنت شر من حمار! قال : فهمَّ المنافقون بقتله ، فذلك قوله : (وهموا بما لم ينالوا).
16971 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
16972 - ...... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
16973 - حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظلّ شجرة ، فقال : إنه سيأتيكم إنسانٌ فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلَع رجل أزرقُ ، (2) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : علامَ تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا ، حتى تجاوَز عنهم ، فأنزل الله : (يحلفون بالله ما قالوا) ، ثم نعتهم جميعًا ، إلى آخر الآية. (3)
__________
(1) الأثر : 16969 - سيرة ابن هشام 4 : 196 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16919.
(2) إذا قيل : " رجل أزرق " ، فإنما يعنون زرقة العين ، وقد عدد الجاحظ في الحيوان 5 : 330 ، " الزرق من العرب " ، وكانت العرب تتشاءم بالأزرق ، وتعده لئيما . وانظر طبقات فحول الشعراء : 111 ، في قول مزرد ، في قاتل عمر رضي الله عنه : وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ ... بِكَفَّيْ سَبَنْتَى أَزْرَقِ العَيْنِ مُطْرِقِ
(3) الأثر : 16973 - " أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري " ، أبو أيوب البغدادي ، شيخ الطبري . قال ابن أبو حاتم : " كتبنا عنه بالرملة ، وذكرته لأبي فعرفه ، وقال : كان صدروقًا " . مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 241 ، وتاريخ بغداد 7 : 9 ، 10 .
و " عبد الله بن رجاء بن عمرو " ، أبو عمرو الغداني . كان حسن الحديث عن إسرائيل . وهو ثقة . مترجم في التهذيب .
وهذا إسناد صحيح . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 258 ، وزاد نسبته إلى الطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(14/363)


وقال آخرون : بل نزلت في عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول : قالوا : والكلمة التي قالها ما : -
16974 - حدثنا به بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يحلفون بالله ما قالوا) ، إلى قوله : (من وليّ ولا نصير) ، قال : ذكر لنا أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة ، والآخر من غِفار ، وكانت جهينة حلفاء ، الأنصار ، وظهر الغفاريّ على الجهنيّ ، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس : انصروا أخاكم ، فوالله ما مثلنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل : " سمِّن كلبك يأكلك " ، وقال : ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) [سورة المنافقون : 8] ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر).
16975 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنّهم يحلفون بالله كذبًا على كلمة كُفْر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما روي عن عروة : أن الجلاس قاله وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول ، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال.

(14/364)


ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيٍّ ، (1) إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ، ويُتوصَّل به إلى يقين العلم به ، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل ، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه : (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم).
* * *
وأما قوله : (وهموا بما لم ينالوا) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همَّ بذلك ، وما الشيء الذي كان هم به.
[فقال بعضهم : هو رجل من المنافقين ، وكان الذي همَّ به] ، قتلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال ، (2) وخشي أن يفشيه عليه.
* ذكر من قال ذلك :
16976 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : همَّ المنافق بقتله يعني قتل المؤمن الذي قال له : " أنت شر من الحمار " ! فذلك قوله : (وهموا بما لم ينالوا).
16977 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بأن ذلك من ي " ، وهو لا معنى له ، وصوابه ما أثبت ، كما نبهت عليه مرارًا انظر ما سلف : 13 : 260 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) كان في المخطوطة : " . . . وما الشيء الذي كان هم به قيل ابن امرأته ، وجعلها في المطبوعة : " . . . هم به أقتل ابن امرأته ، وعلق عليه فقال : " في العبارة سقط ، ولعل الأصل : فقال بعضهم : كان الذي هم الجلاس بن سويد ، والشيء الذي كان هم به قتل ابن امرأته إلخ ، تأمل " .
والصواب ، إن شاء الله ، ما أثبت بين القوسين ، لأن الخبر التالي من خبر مجاهد ، ولم يبين فيه اسم المنافق ، كما لم يبينه في رقم : 16970 ، وما بعده ، فالصواب الجيد ، أن يكون اسم المنافق مبهما في ترجمة سياق الأخبار ، كدأب أبي جعفر في تراجم فصول تفسيره.
(3) في المطبوعة : " عن مجاهد ، به " ، وفي المخطوطة ، قطع فلم يذكر شيئًا ، فأقررت ما درج على مثله أبو جعفر.

(14/365)


وقال آخرون : كان الذي همَّ ، رجلا من قريش والذي همّ به ، قتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
16978 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شبل ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : (وهموا بما لم ينالوا) ، قال : رجل من قريش ، همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقال له : " الأسود " .
* * *
وقال آخرون : الذي همّ ، عبد الله بن أبي ابن سلول ، وكان همُّه الذي لم ينله ، قوله : ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) ، [سورة المنافقون : 8] ، من قول قتادة وقد ذكرناه. (1)
* * *
وقوله : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر ، كان فقيرًا فأغناه الله بأن قُتِل له مولًى ، فأعطاه رسول الله ديتَه. فلما قال ما قال ، قال الله تعالى : (وما نقموا) ، يقول : ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ، (2) (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
* ذكر من قال ذلك :
16979 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، وكان الجلاس قُتِل له مولًى ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته ، فاستغنى ، فذلك قوله : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
16980 - ...... قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال :
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 16974 .
(2) انظر تفسير " نقم " 10 : 433 \ 13 : 35 .

(14/366)


قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفًا في مولى لبني عديّ بن كعب ، وفيه أنزلت هذه الآية : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
16981 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال : كانت لعبد الله بن أبيٍّ ديةٌ ، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
16982 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان قال ، حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة : أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفا ، وفيه أنزلت : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال عمرو : لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة يعني : الدية اثني عشر ألفًا.
16983 - حدثنا صالح بن مسمار قال ، حدثنا محمد بن سنان العَوَقيّ قال ، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفًا. فذلك قوله : (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال : بأخذ الديِّة. (1)
* * *
وأما قوله : (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، يقول تعالى ذكره : فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قِيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه ، يك رجوعهم وتوبتهم من
__________
(1) الأثر : 16983 - " صالح بن مسمار السلمي المروزي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 224 .
و " محمد بن سنان الباهلي العوقي " ، أبو بكر البصري ، ثقة مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 1 \ 109 وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 279 .
و " محمد بن مسلم الطائفي " ، ثقة ، يضعف ، مضى برقم : 447 ، 3473 ، 4491 .
وهذا الخبر ، لم يذكره أبو جعفر في باب الديات من تفسيره ، انظر ما سلف رقم : 10143 ، في ج 9 : 50 .

(14/367)


ذلك ، خيرًا لهم من النفاق (1) (وإن يتولوا) ، يقول : وإن يدبروا عن التوبة ، فيأتوها ويصرُّوا على كفرهم ، (2) (يعذبهم الله عذابًا أليمًا) ، يقول : يعذبهم عذابًا موجعًا في الدنيا ، إما بالقتل ، وإما بعاجل خزي لهم فيها ، ويعذبهم في الآخرة بالنار. (3)
* * *
وقوله : (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) ، يقول : وما لهؤلاء المنافقين إن عذبهم الله عاجل الدنيا (من ولي) ، يواليه على منعه من عقاب الله (4) (ولا نصير) ينصره من الله فينقذه من عقابه. (5) وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم ، يمتنعون بهم من أرادهم بسوء ، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم ، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه ، إن احتاجوا إلى نصرهم.
* * *
وذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق.
* ذكر من قال ذلك :
16984 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، قال : قال الجلاس : قد استثنى الله لي التوبة ، فأنا أتوب. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16985 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة عن أبيه : (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، الآية ، فقال الجلاس :
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب).
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
(4) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(5) انظر تفسير " النصير " فيما سلف من فهارس اللغة (نصر).

(14/368)


وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)

يا رسول الله ، إني أرى الله قد استثنى لي التوبة ، فأنا أتوب! فتابَ ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم (من عاهد الله) ، يقول : أعطى الله عهدًا (1) (لئن آتانا من فضله) ، يقول : لئن أعطانا الله من فضله ، ورزقنا مالا ووسَّع علينا من عنده (2) (لنصدقن) ، يقول : لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربُّنا (3) (ولنكونن من الصالحين) ، يقول : ولنعملنّ فيها بعَمَل أهل الصلاح بأموالهم ، من صلة الرحم به ، وإنفاقه في سبيل الله. (4) يقول الله تبارك وتعالى : فرزقهم الله وأتاهم من فضله (فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به) ، بفضل الله الذي آتاهم ، فلم يصدّقوا منه ، ولم يصلوا منه قرابةً ، ولم ينفقوا منه في حق الله (وتولوا) ، يقول : وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله (5) (وهم معرضون) ، عنه (6) (فأعقبهم)
__________
(1) انظر تفسير " عاهد " فيما سلف : ص 141 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " آتى " ، و " الفضل " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) و (فضل).
(3) انظر تفسير " التصدق " فيما سلف 9 : 31 ، 37 ، 38.
(4) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(5) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 13 : 463 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك . ج 14 ( 24 ) .

(14/369)


الله (نفاقا في قلوبهم) ، ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله ، وإخلافهم الوعد الذي وعدُوا الله ، ونقضهم عهدَه في قلوبهم (1) (إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، من الصدقة والنفقة في سبيله (وبما كانوا يكذبون) ، في قيلهم ، وحَرَمهم التوبة منه ، لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنَّه أعقبهموه إلى يوم يلقونه ، وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عُني بها رجل يقال له : " ثعلبة بن حاطب " ، من الأنصار. (2)
* ذكر من قال ذلك :
16986 - محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية ، وذلك أن رجلا يقال له : " ثعلبة بن حاطب " ، من الأنصار ، أتى مجلسًا فأشهدهم فقال : لئن آتاني الله من فضله ، آتيت منه كل ذي حقٍّ حقه ، وتصدّقت منه ، ووصلت منه القرابة! فابتلاه الله فآتاه من فضله ، فأخلف الله ما وعدَه ، وأغضبَ الله بما أخلفَ ما وعده. فقصّ الله شأنه في القرآن : (ومنهم من عاهد الله) ، الآية ، إلى قوله : (يكذبون).
16987 - حدثني المثنى قال ، حدثنا هشام بن عمار قال ، حدثنا محمد بن شعيب قال ، حدثنا معان بن رفاعة السلمي ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد الإلهاني : أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن : أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع
__________
(1) انظر تفسير " النفاق " فيما سلف ص : 358 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المخطوطة ، وقف عند قوله : " يقال له " ، ولم يذكر اسم الرجل ، واستظهره الناشر الأول من الأخبار ، وأصاب فيما فعل.

(14/370)


الله أن يرزقني مالا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدِّي شكره ، خير من كثير لا تطيقه! قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبيِّ الله ، فوالذي نفسي بيده ، لو شئتُ أن تسيرَ معي الجبال ذهبًا وفضة لسارت! قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوتَ الله فرزقني مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبه مالا! قال : فاتَّخذ غنمًا ، فنمت كما ينمو الدُّود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحَّى عنها ، فنزل واديًا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت ، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقَّى الركبان يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل ثعلبة ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة! فأخبروه بأمره ، فقال : يا ويْحَ ثعلبة ! يا ويح ثعلبه ! يا ويح ثعلبة! قال : وأنزل الله : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) [سورة التوبة : 103] الآية ، ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، رجلا من جهينة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيفَ يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : مرَّا بثعلبة ، وبفلان ، رجل من بني سليم ، فخذا صدقاتهما ! فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! ما أدري ما هذا ! انطلقا حتى تفرُغا ثم عودا إليّ. فانطلقا ، وسمع بهما السُّلمي ، فنظر إلى خِيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهم بها. فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال : بلى ، فخذوه ، (1) فإنّ نفسي بذلك طيّبة ، وإنما هي لي! فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما رجعا ، حتى مرَّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ! فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة ! قبل أن يكلِّمهما ، ودعا للسلميّ بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، والذي صنع السلميّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى قوله : (وبما كانوا يكذبون) ، وعند رسول الله رجلٌ من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه ، فقال : ويحك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا وكذا ! فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ! فجعل يَحْثِي على رأسه التراب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني! فلما أبَى أن يقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، رجع إلى منزله ، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئًا. ثم أتى أبا بكر حين اسْتخلِف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي ! فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها! فقُبِض أبو بكر ، ولم يقبضها. فلما ولي عمر ، أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي ! فقال : لم يقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك ! فقُبِض ولم يقبلها ، ثم ولي عثمان رحمة الله عليه ، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا أقبلها منك ! (2) فلم يقبلها منه. وهلك ثَعْلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه. (3)
16988 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية : ذكر لنا أن رجلا من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار ، فقال : لئن آتاه الله مالا ليؤدِّين إلى كل ذي حقّ حقه ! فآتاه الله مالا فصنع فيه ما تسمعون ، قال : (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) إلى قوله : (وبما كانوا يكذبون). ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل ، قالت بنو إسرائيل : إن التوراة كثيرة ، وإنا لا نفرُغ لها ، فسل لنا ربَّك جِماعًا من الأمر نحافظ عليه ، ونتفرغ فيه لمعاشنا! (4) قال : يا قوم ، مهلا مهلا!
__________
(1) " بلي " واستعمالها في غير جحد ، قد سلف مرارًا ، آخرها في رقم : 16305 ، ص : 67 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وأنا لا أقبلها " ، والجيد حذف " لا " كما سلف في مقالة أبي بكر وعمر ، وهو مطابق لما في أسد الغابة .
(3) الأثر : 16987 - " هشام بن عمار بن نصير السلمي " ، ثقة ، روى له البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه . وتكلموا فيه قالوا : لما كبر تغير . ومضى برقم : 11108 . و " محمد بن شعيب بن شابور الأموي " ثقة ، مضى برقم : 16987 .
و " معان بن رفاعة السلمي " أو : " السلامي " وهو المشهور ، لين الحديث ، يكتب حديثه ولا يحتج به . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 70 ، وفي إحدى نسخه " السلمي " كما جاء في الطبري ، ولذلك تركته على حاله ، وابن أبي حاتم .
و " علي بن يزيد الألهاني " ، " أبو عبد الملك " ، ضعيف بمرة ، روى من القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة نسخة كبيرة ، وأحاديثه هذه ضعاف كلها . مضى برقم : 11525 .
و " القاسم بن عبد الرحمن الشامي " ، تقدم بيان توثيقه ، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من قبل الرواة عنه الضعفاء ، مضى برقم : 1939 ، 11525 .
وأما ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، ففي ترجمته خلط كثير . أهو رجل واحد ، أم رجلان ؟ أولهما هو الذي آخى رسول الله بينه وبين معتب بن الحمراء ، والذي شهد بدرًا وأحدًا . والآخر هو صاحب هذه القصة . يقال : إن الأول قتل يوم أحد . وجعلهما بعضهم رجلا واحدًا ونفوا أن يكون قتل يوم أحد . انظر ترجمته في الإصابة ، والاستيعاب : 78 ، وأسد الغابة 1 : 237 ، وابن سعد : 3 \ 2 \ 32 .
وهذا الخبر رواه بهذا الإسناد ، ابن الأثير في أسد الغابة 1 : 237 ، 238 ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 21 ، 32 ، وقال : " رواه الطبراني ، وفيه علي بن يزيد الألهاني ، وهو متروك " .
وهو ضعيف كل الضعف ، ليس له شاهد من غيره ، وفي بعض رواته ضعف شديد .
وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 260 ، ونسبه إلى الحسن بن سفيان ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والعسكري في الأمثال ، والطبراني ، وابن منده ، والبارودي ، وأبي نعيم في معرفة الصحابة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر.
(4) في المطبوعة : " لمعايشنا " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(14/371)


هذا كتاب الله ، ونور الله ، وعِصْمة الله! قال : فأعادوا عليه ، فأعاد عليهم ، قالها ثلاثًا. قال : فأوحى الله إلى موسى : ما يقول عبادي ؟ قال : يا رب ، يقولون : كيت وكيت. قال : فإني آمرهم بثلاثٍ إن حافظوا عليهن دخلوا بهن الجنة ، أن ينتهوا إلى قسمة الميراثِ فلا يظلموا فيها ، ولا يدخلوا أبصارَهم البيوت حتى يؤذن لهم ، وأن لا يطعموا طعامًا حتى يتوضأوا وضوء الصلاة. قال : فرجع بهن نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، ففرحوا ، ورأوا أنهم سيقومون بهن. قال : فوالله ما لبث القومُ إلا قليلا حتى جَنَحُوا وانْقُطِع بهم. فلما حدّث نبيُّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل ، قال : تكفَّلوا لي بستٍّ ، أتكفل لكم بالجنة! قالوا : ما هنّ ، يا رسول الله ؟ قال : إذا حدثتم فلا تكذبوا ، وإذا وعدتم فلا تُخْلفوا ، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا ، وكُفُّوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم : أبصارَكم عن الخيانة ، وأيديكم عن السرقة ، وفروجكم عن الزِّنا.
16989 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ثلاثٌ من كن فيه صار منافقًا وإن صامَ وصلى وزعم أنه مُسلم : إذا حدث كذب ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف.
* * *
وقال آخرون : بل المعنيُّ بذلك : رجلان : أحدهما ثعلبة ، والآخر معتب بن قشير.
* ذكر من قال ذلك :
16990 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية ، (1) وكان الذي عاهد الله منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني
__________
(1) كان في المطبوعة : " من فضله ، إلى الآخر " ، وهو غريب جدًا ، وفي المخطوطة : " من فضله الآخر " ، وصواب قراءتها ما أثبت ، وإنما سها الناسخ كعادته.

(14/374)


عمرو بن عوف. (1)
16991 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، قال رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن ! فلما رزقهم بخلوا به.
16992 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن ! فلما رزقهم بخلوا به ، (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، حين قالوا : " لنصدقن " ، فلم يفعلوا.
16993 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
16994 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية ، قال : هؤلاء صنف من المنافقين ، فلما آتاهم ذلك بخلوا به ، فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقًا إلى يوم يلقونه ، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو ، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.
* * *
وقال أبو جعفر : في هذه الآية ، الإبانةُ من الله جل ثناؤه عن علامةِ أهل النفاق ، أعني في قوله : (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).
* * *
__________
(1) الأثر : 16990 - سيرة ابن هشام 4 : 196 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16969 .

(14/375)


وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين ، ورُوِيت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
* ذكر من قال ذلك :
16995 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال ، قال عبد الله : اعتبروا المنافق بثلاثٍ : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدَر ، وأنزل الله تصديقَ ذلك في كتابه : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى قوله : (يكذبون). (2)
16996 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن صبيح بن عبد الله بن عميرة ، عن عبد الله بن عمرو قال : ثلاث من كن فيه كان منافقًا : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان. قال : وتلا هذه الآية : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى آخر الآية. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " ووردت به " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 16995 - " عمارة " ، هو " عمارة بن عمير التيمي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 3294 ، 5789 ، 15359 .
و " عبد الرحمن بن يزيد النخعي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة . مضى برقم : 3294 ، 3295 ، 3299 .
و " عبد الله " ، إنما يعني " عبد الله بن مسعود " .
وهذا خبر صحيح الإسناد ، موقوف على ابن مسعود ، ولم أجده مرفوعًا عنه . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 108 ، بلفظه هذا ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " . وذكر قبله حديثا نحوه ، ليس فيه الآية : " عن عبد الله ، يعني ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " ، ثم قال : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح " .
(3) الأثر : 16996 - هذا الخبر ، يأتي بإسناد آخر بعده .
و " صبيح بن عبد الله بن عميرة " و " صبيح بن عبد الله العبسي " ، في الذي يليه . وقد سلف برقم : 12741 ، 12742 ، وسلف أن البخاري ترجم له في الكبير 2 \ 2 \ 319 ، باسم " صبيح بن عبد الله " ، زاد في الإسناد " العبسي " ، وعلق المعلق هناك أنه في ابن ماكولا : " صبيح بن عبد الله بن عمير التغلبي " والذي قاله الطبري هنا " عميرة " ، ولم أجد ما أرجح به ، وترجم له في ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 449 ، ولم يذكروا له رواية عن " عبد الله بن عمرو " ، وكان في المطبوعة هنا " عبد الله بن عمر " ، وأظنه خطأ ، يدل عليه ما في الخبر بعده . (وانظر ما يلي).
وهذا الخبر بهذا الإسناد نقله أخي السيد أحمد في شرحه على المسند ، في مسند " عبد الله بن عمرو بن العاص " رقم : 6879 ، ثم قال : " ورواه الحافظ أبو بكر الفريابي في كتاب صفة النفاق ( ص : 50 - 51 ) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن غندر ، عن شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن صبيح بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمرو " ، ثم ساق الخبر بنحوه ، ثم قال : " وهذا موقوف ، وإسناده صحيح ، وهو شاهد جيد لهذا الحديث ، لأنه مثله مرفوع حكمًا . وصبيح بن عبد الله ، بضم الصاد ، تابعي كبير ، أدرك عثمان وعليًا . وترجمه البخاري في الكبير 2 \ 2 \ 319 ، ولم يذكر فيه جرحًا " .
وحديث المسند ، حديث مرفوع .
وحديث آية المنافق ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 1 : 83 ، 84) من حديث أبي هريرة. وعبد الله بن عمرو. ورواه مسلم في صحيحه (2 : 46 - 48) ، من حديث عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة.

(14/376)


16997 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت صبيح بن عبد الله العبسيّ يقول : سألت عبد الله بن عمرو عن المنافق ، فذكر نحوه. (1)
16998 - حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا أبو هشام المخزومي قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا عثمان بن حكيم قال ، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث : بالكذب ، والإخلاف ، والخيانة ، فالتمستُها في كتاب الله زمانًا لا أجدُها ، ثم وجدتها في اثنتين من كتاب الله ، (2) قوله : (ومنهم من عاهد الله) حتى بلغ : (وبما كانوا يكذبون) ، وقوله : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) [سورة الأحزاب : 72] ، هذه الآية.
16999 - حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا محمد المحرم قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) الأثر : 16997 - " صبيح بن عبد الله العبسي " ، انظر ما سلف رقم : 16996 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة " القيسي " بالقاف والياء ، وصححته من المراجع ، ومما سلف رقم : 12741 ، 12742.
(2) في المطبوعة : " في آيتين " وأثبت ما في المخطوطة والذي رجح ذلك عندي ، أن الذي ذكره بعد هذا ، ثلاث آيات من سورة التوبة ، وآية من سورة الأحزاب ، فهذه أربعة . ولكنه أراد في سورتين من القرآن ، أو نحو ذلك .

(14/377)


ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ، فقلت للحسن : يا أبا سعيد ، لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني ، وليس عندي ، وخفت أن يحبسني ويهلكني ، فوعدته أن أقضيه رأسَ الهلال ، فلم أفعل ، أمنافق أنا ؟ قال : هكذا جاء الحديث! ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو : أن أباه لما حضره الموت قال : زوِّجوا فلانًا ، فإني وعدته أن أزوجه ، لا ألقى الله بثُلُثِ النفاق ! قال قلت : يا أبا سعيد ، ويكون ثُلُث الرجل منافقًا ، وثلثاه مؤمن ؟ قال : هكذا جاء الحديث. قال : فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح ، فأخبرته الحديثَ الذي سمعته من الحسن ، وبالذي قلت له وقال لي ، فقال لي : (1) أعجزت أن تقول له : أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام ، ألم يعدوا أباهم فأخلفوه ، وحدَّثوه فكذبوه ، وأتمنهم فخانوه ، أفمنافقين كانوا ؟ ألم يكونوا أنبياء ؟ أبوهم نبيٌّ ، وجدُّهم نبي ؟ قال : فقلت لعطاء : يا أبا محمد ، حدِّثني بأصل النفاق ، وبأصل هذا الحديث. فقال : حدثني جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصَّة ، الذين حدَّثوا النبي فكذبوه ، وأتمنهم على سرّه فخانوه ، ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال : وخرج أبو سفيان من مكة ، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه ، واكتموا. قال : فكتب رجل من المنافقين إليه " " إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذرَكم " . فأنزل الله : ( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، [سورة الأنفال : 27] ، وأنزل في المنافقين : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى : (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدو وبما كانوا يكذبون) ، فإذا لقيت الحسن فأقرئه السلام ، وأخبره بأصل هذا الحديث ، وبما قلت لك. قال : فقدمت على الحسن فقلت : يا أبا سعيد ، إن أخاك عطاءً يقرئك السلام ، فأخبرته بالحديث الذي حدث ، وما قال لي ، فأخذ الحسن بيدي فأشالها ، (2) وقال : يا أهل العراق ، أعجزتم أن تكونوا مثلَ هذا ؟ سمع مني حديثًا فلم يقبله حتى استنبط أصله ، صدق عطاء ، هكذا الحديث ، وهذا في المنافقين خاصة. (3)
17000 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا يعقوب ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فهو منافق. فقيل له : ما هي يا رسول الله ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان.
17001 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثنا مبشّر ، عن الأوزاعي عن هارون بن رباب ، عن عبد الله بن عمرو بن وائل : أنه لما حضرته الوفاة قال : إنّ فلانًا خطب إليّ ابنتي ، وإني كنت قلت له فيها قولا شبيهًا بالعِدَة ، والله لا ألقى الله بثُلُث النفاق ، وأشهدكم أني قد زوَّجته. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فقال " ، أسقط " لي " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فأمالها " ، وهو لا معنى له البتة. وفي المخطوطة : " فأسالها " ، غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها. يقال : " شالت الناقة بذنبها وأشالته " ، رفعته. ويقال : " أشال الحجر ، وشال به ، وشاوله " ، رفعه ، ويقال : " شال السائل بيديه " ، إذا رفعهما يسأل بهما .
(3) الأثر : 16999 - " القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 10509 ، 10531 .
و " شبابة " ، هو " شبابة بن سوار الفزاري " ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 12851 ، وقبله . وكان في المطبوعة : " أسامة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فحرفه تحريفًا منكرًا. و " محمد المحرم " ، هو " محمد بن عمر المحرم " ويقال هو : " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، وهو منكر الحديث . سلف بيان حاله برقم : 15922 ، تفصيلا ، ومواضع ترجمته . وكان في المطبوعة : " محمد المخرمي " ، غير ما في المخطوطة بلا دليل ولا بيان ، وهو إساءة وخطأ . وهذا خبر منكر جدًا ، أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير 1 \ 1 \ 248 في ترجمة " محمد المحرم " ، قال : " عن عطاء ، والحسن . منكر الحديث : إذا وعد أخلف ، سمع منه شبابة " ، يعني هذا الخبر.
(4) الأثر : 17001 - " مبشر " ، هو " مبشر بن إسماعيل الحلبي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 11 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 343 . وكان في المطبوعة : " ميسرة " ، تصرف تصرفًا معيبًا ، وفي المخطوطة : " مسر " غير منقوطة.
و " هارون بن رياب التميمي الأسيدي " ، كان من العباد ممن يخفي الزهد . ثقة . قال ابن حزم : " اليمان ، وهارون ، وعلي ، بنو رياب كان هارون من أهل السنة ، واليمان من أئمة الخوارج ، وعلي من أئمة الروافض ، وكانوا متعادين كلهم " ! ! مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 2 \ 219 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 89 .
وأما " عبد الله بن عمرو بن وائل " ، فهذا غريب ولكنه صحيح ، فإنه " عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل " ، فلا أدري لما فعل ذلك في سياق اسمه ، إلا أن يكون سقط من الناسخ .
هذا ، وقد كان الإسناد في المطبوعة هكذا : " حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح ، قال حدثنا ميسرة " ، وقد صححت " ميسرة " قبله ، أما " قال حدثني حجاج عن ابن جريج " ، فقد كتبها ناسخ المخطوطة ، ولكنه ضرب عليها ضربات بالقلم ، يعني بذلك حذفه ، ولكن الناشر لم يعرف اصطلاحهم في الضرب على الكلام ، فأثبت ما حذفته.

(14/378)


وقال قوم : كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون ، شيئًا نووه في أنفسهم ، ولم يتكلموا به.
* ذكر من قال ذلك :
17002 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال : سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول : ركبت البحرَ ، فأصابنا ريحٌ شديدة ، فنذر قوم منا نذورًا ، ونويت أنا ، لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة سألت أبي سليمانَ فقال لي : يا بُنَيّ ، فِ به. (1)
قال معتمر : وحدثنا كهمس ، عن سعيد بن ثابت قال قوله : (ومنهم من عاهد الله) ، الآية ، قال : إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : (ألم يعلموا أن الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) ؟ (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فه به " ، ولا يقال ذلك إلا عند الوقف ، والصواب " ف " على حرف واحد ، أمرًا من " وفى يفي " . وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 17002 - " كهمس بن الحسن التميمي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4\ 1 \ 239 ، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 170.
و " سعيد بن ثابت " ، هكذا هو في المخطوطة ، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من كتب الرجال ، وأخشى أن يكون قد دخله تحريف.

(14/380)


أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)

القول في تأويل قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ (78) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرًّا ، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا (أن الله يعلم سرهم) ، الذي يسرُّونه في أنفسهم ، من الكفر به وبرسوله (ونجواهم) ، يقول : " ونجواهم " ، إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله ، وذكرِهم بغير ما ينبغي أن يُذكروا به ، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلَّها بهم ، وسطوته أن يوقعها بهم ، على كفرهم بالله وبرسوله ، وعيبهم للإسلام وأهله ، فينزعوا عن ذلك ويتوبوا منه (وأن الله علام الغيوب) ، يقول : ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم ، مما أكنّته نفوسهم ، فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة ، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب ، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه ، وإظهار خلاف ما يعتقدونه ؟ (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم ، ويطعنون فيها عليهم
__________
(1) انظر تفسير " علام الغيوب " فيما سلف 11 : 238 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(14/381)


بقولهم : " إنما تصدقوا به رياءً وسُمْعة ، ولم يريدوا وجه الله " (1) ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدَّقون به إلا جهدهم ، وذلك طاقتهم ، فينتقصونهم ويقولون : " لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيًّا! " سخريةً منهم بهم (فيسخرون منهم سخر الله منهم).
* * *
وقد بينا صفة " سخرية الله " ، بمن يسخر به من خلقه ، في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2)
* * *
(ولهم عذاب أليم) ، يقول : ولهم من عند الله يوم القيامة عذابٌ موجع مؤلم. (3)
* * *
وذكر أن المعنيّ بقوله : (المطوعين من المؤمنين) ، عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعنيّ بقوله : (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، أبو عقيل الأراشيّ ، أخو بني أنيف.
* ذكر من قال ذلك :
17003 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً! وقالوا : إن كان الله ورسولُه لَغنِيّيْنِ عن هذا الصاع!
__________
(1) انظر تفسير " اللمز " فيما سلف ص : 300 ، 301 .
وانظر تفسير " التطوع " فيما سلف 3 : 247 ، 441 ، وسيأتي تفسيره بعد قليل ص : 392 ، 393.
(2) لم يمض تفسير " سخر " ، وإنما عني أبو جعفر قوله تعالى في سورة البقرة : (الله يستهزئ بهم) ، انظر ما سلف 1 : 301 - 306 .
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).

(14/382)


17004 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم : أن أجمعوا صدقاتكم! فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من آخرهم بِمَنٍّ من تمر ، (1) فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمرٍ ، بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير الماءَ ، (2) حتى نلت صاعين من تمرٍ ، فأمسكت أحدَهما ، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا : والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا! وما يصنعان بصاعك من شيء " ! ثم إن عبد الرحمن بن عوف ، رجل من قريش من بني زهرة ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات ؟ فقال : لا! فقال عبد الرحمن بن عوف : إن عندي مئة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت ؟ فقال : ليس بي جنون! فقال : فعلِّمنا ما قلت ؟ (3) قال : نعم! مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلافٍ فأقرضها ربيّ ، وأما أربعة آلاف فلي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ! وكره المنافقون فقالوا : " والله ما أعطى عبد الرحمن عطيَّته إلا رياءً " ! وهم كاذبون ، إنما كان به متطوِّعًا. فأنزل الله عذرَه وعذرَ صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال الله في كتابه : (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية.
__________
(1) في المطبوعة : " من أحوجهم بمن من تمر " ، غير ما في المخطوطة بلا طائل ، و " المن " مكيال.
(2) " الجرير " ، الحبل ، وأراد أنه أنه كان يسقي الماء بالحبل.
(3) في المطبوعة : " أتعلم ما قلت " ، وفي المخطوطة : " أفعلمنا ما قلت " ، وهذا صواب قراءتها.

(14/383)


17005 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف ، فلمزه المنافقون وقالوا : " راءَى " (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، قال : رجل من الأنصار آجرَ نفسه بصاع من تمر ، لم يكن له غيره ، فجاء به فلمزوه ، وقالوا : كان الله غنيًّا عن صاع هذا!
17006 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
17007 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
17008 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، الآية ، قال : أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله ، فتقرَّب به إلى الله ، فلمزه المنافقون فقالوا : ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة ! فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له " حبحاب ، أبو عقيل " (1)
__________
(1) " حبحاب " ، ذكره ابن حجر في الإصابة في " حبحاب " . ثم قال : " قليل فيه بموحدتين ، والأشهر بمثلثتين ، وسيأتي " ولم يذكره في " حثحاث " كما يدل عليه تعقيبه هذا ، وإنما ذكره في " جثجاث " بالجيم والثاء المثلثة فيما سلف قبله ، وقال هناك : " قيل : هو اسم أبي عقيل ، صاحب الصاع ، ضبطه السهيلي تبعًا لابن عبد البر ، وضبطه غير بالحاء المهملة . وقيل في اسمه غير ذلك. وتأتي ترجمته في الكنى " بيد أن الحافظ ابن حجر قال في فتح الباري 8 : 249 " وذكر السهيلي أنه رآه بخط بعض الحفاظ مضبوطًا بجيمين " .
ولم أجد في الاستيعاب لابن عبد البر ضبطًا له ، وهو مترجم هناك في " أبو عقيل صاحب الصاع " ص : 673 ، وهو في مطبوعة الاستيعاب بالحاء والثاء المثلثة من ضبط مصححه . وفي السهيلي ( الروض الأنف 2 : 331 ) : " جثجاث " ، بالجيم والثاء .
وأما صاحب أسد الغابة فترجم له في " أبو عقيل ، صاحب الصاع " ( 5 : 257 ) ، ولم يضبطه ، وهو محرف في المطبوعة. ولكنه أورده في " حبحاب " (بالحاء والباء) ، وقال : هو أبو عقيل الأنصاري . أسد الغابة 1 : 366 .
وترجم له ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 41 في " بني أنيف بن جشم بن عائذ الله ، من بلى ، حلفا بني جحجبا بن كلفة " وقال : " أبو عقيل ، واسمه عبد الرحمن الإراشي الأنيفي " ، ولم يذكر خبر الصاع .
هذا ، وقد استوفى الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8 : 249 ، ذكر " أبي عقيل " ، فذكر الاختلاف في صاحب الصاع ، وهذا ملخصه :
الأول : أنه " الحبجاب ، أبو عقيل " ، وذكر ما رواه الطبري هنا وفيما سيأتي ، وما رواه غيره.
الثاني : أنه " سهل بن رافع " ، وحجته فيه ، خبر رواه الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن عثمان البلوي ، " عن جدته بنت عدي أن أمهما عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون " ، وهكذا قال ابن الكلبي .
الثالث : من طريق عكرمة : أنه " رفاعة بن سهل بن رافع " ، وقال : وعند أبي حاتم " رفاعة بن سعد " ، ويحتمل أن يكون تصحيفًا ، ويحتمل أن يكون اسم " أبي عقيل " " سهل " ، ولقبه " حبحاب " أو هما اثنان من الصحابة .
الرابع : في الصحابة " أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي " ، بدري ، لم يسمه موسى ابن عقبة ، ولا ابن إسحاق ، وسماه الواقدي " عبد الرحمن " . قال : واستشهد باليمامة . قال : وكلام الطبري يدل على أنه هو صاحب الصاع عنده . وتبعه بعض المتأخرين ، والأول أولى .
الخامس : أنه " عبد الرحمن بن سمحان " ؟ ؟ (هكذا جاء).
السادس : أن صاحب الصاع هو " أبو خيثمة " : " عبد الله بن خشيمة ، من بني سالم ، من الأنصار " ، ودليله ما جاء في حديث توبة كعب بن مالك ، وانظر الأثر رقم : 17016 .
السابع : عن الواقدي أن صاحب الصاع ، هو " علية بن زيد المحاربي " .
وقال الحافظ : " وهذا يدل على تعدد من جاء بالصاع " .
وهذا اختلاف شديد ، يحتاج إلى فضل تحقيق ومراجعة ، قيدته هنا ليكون تذكرة لمن أراد تتبعه وتحقيقه.

(14/384)


فقال : يا نبي الله ، بتُّ أجرُّ الجرير على صاعين من تمر ، أما صاع فأمسكته لأهلي ، وأما صاع فها هو ذا! فقال المنافقون : " والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا " . فأنزل الله في ذلك القرآن : (الذين يلمزون) ، الآية.
17009 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال : تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف دينار ، فتصدق بأربعة آلاف دينار ، فقال ناس من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء ! فقال الله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) وكان لرجل صاعان من تمر ، فجاء بأحدهما ، فقال ناس من المنافقين : إن

(14/385)


كان الله عن صاع هذا لغنيًّا ! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم ، فقال الله : (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).
17010 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن [عمر بن] أبي سلمة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تصدقوا ، فإني أريد أن أبعث بعثًا. قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إن عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت ! فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمرٍ ، صاعًا لربي ، وصاعًا لعيالي ! قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً ! وقالوا : أو لم يكن الله غنيًّا عن صاع هذا ! فأنزل الله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، إلى آخر الآية. (1)
17011 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن
__________
(1) الأثر : 17010 - " أبو عوانة " ، هو " الوضاح بن عبد الله اليشكري " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى برقم : 4498 ، 10336 ، 10337 .
و " عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " ، يضعف ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 12755 . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أبو عوانة ، عن أبي سلمة " ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه من إسناده في تفسير ابن كثير ، ومن مجمع الزوائد .
وأبوه " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها : 12822.
خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 32 ، عن أبي سلمة ، وعن أبي هريرة ، ثم قال : " رواه البزار من طريقين : إحداهما متصلة عن أبي هريرة ، والأخرى عن أبي سلمة مرسلة . قال : ولم نسمع أحدًا أسنده من حديث عمر بن أبي سلمة ، إلا طالوت بن عباد . وفيه عمر بن أبي سلمة ، وثقه العجلي ، وأبو خيثمة وابن حبان ، وضعفه شعبة وغيره. وبقية رجالهما ثقات " .
وحديث البزار رواه ابن كثير في تفسيره 4 : 212 ، 213 ، وهذا إسناده : " قال الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " ، وساق الخبر. ثم قال ابن كثير : " ثم رواه عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه مرسلا. قال : ولم يسنده أحد إلا طالوت " .

(14/386)


بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال : أصاب الناس جَهْدٌ شديد ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدَّقوا ، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون : ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة ! قال : وجاء رجل بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي ، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون : إن الله غنىٌّ عن صاع هذا ! فأنزل الله هذه الآية : (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم). (1)
17012 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية ، وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات ، (2) عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف دينار ، وعاصم بن عدي أخا بني العَجلان ، (3) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة ، وحضَّ عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمئة وَسْقٍ من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء ! وكان الذي تصدّق بجهده : أبو عقيل ، أخو بني أنيف ، الأراشي ، حليف بني عمرو بن عوف ، (4) أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغنيٌّ عن صاع أبي عقيل!! (5)
__________
(1) الأثر : 17011 - " عبد الرحمن بن سعد " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي الرازي " ، مضى برقم : 10666 ، 10855 .
(2) في المطبوعة : " من المطوعين " ، وكان في المخطوطة قد كتب " وكان المطوعين " ، ثم عاد بالقلم على الياء فجعلها واوًا ، فتصرف الناشر ولم يبال بفعل الناسخ. والذي أثبته مطابق لما في السيرة . ولذلك غير الناسخ ما بعده فكتب ، " أخو بني العجلان " ، غير ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " أخو بني عجلان " ، تصرف تصرفًا معيبًا.
(4) قوله : " الأراشي ، حليف بني عمر بن عوف " ، ليس في المطبوع من سيرة ابن هشام ، وانظر التعليق السالف ص : 384 ، رقم : 1.
(5) الأثر : 17012 - سيرة ابن هشام 4 : 196 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16990.

(14/387)


17013 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل (1) قال أبو النعمان : كنا نعمل قال : فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. قال : وجاء رجل فتصدق بصاع تمر ، فقالوا : إن الله لغنيٌّ عن صاع هذا ! فنزلت : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم). (2)
17014 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة قال ، حدثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أبيه قال : بتُّ أجرُّ الجرير على ظهري على صاعين من تمر (3) فانقلبتُ بأحدهما إلى أهلي يتبلَّغون به ، (4) وجئت بالآخر أتقرَّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (5) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : انثره في الصدقة. فسخر المنافقون منه. وقالوا :
__________
(1) قوله " كنا نحامل " ، من " المحاملة " وفسره الحافظ ابن حجر في الفتح فقال : " أي نحمل على ظهورنا بالأجرة . يقال : حاملت ، بمعنى : حملت ، كسافرت . وقال الخطابي : يريد : نتكلف الحمل بالأجرة ، لنكسب ما نتصدق به . ويؤيده في الرواية الثانية التي بعده - يعني في البخاري - حيث قال : انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل ، أي : يطلب الحمل بالأجرة " .
ويبين هذا أيضًا ، تفسير أبي النعمان بقوله : " كنا نعمل " ، وهو تفسير فيما أرجح ، لا رواية أخرى في الخبر.
(2) الأثر : 17013 - " أبو النعمان " ، " الحكم بن عبد الله الأنصاري " ، ثقة ، قال البخاري : " حديثه معروف ، كان يحفظ " . وليس له في صحيح البخاري غير هذا الحديث . مترجم في التهذيب .
و " أبو مسعود " ، هو " أبو مسعود الأنصاري البدري " ، واسمه " عقبة بن عمرو بن ثعلبة " ، صاحب رسول الله ، شهد العقبة. وكان في المخطوطة : " عن ابن مسعود " ، وهو خطأ صرف .
وهذا الخبر ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3 : 224) من طريق عبيد الله بن سعيد ، عن أبي النعمان الحكم بن عبد الله البصري بمثله ، وفيه زيادة بعد قوله : " بشيء كثير " ، هي " فقالوا : مرائي " .
ثم رواه البخاري أيضًا في صحيحه ( الفتح 8 : 249 ) من طريق بشر بن خالد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود ، بغير هذا اللفظ ، وفيه التصريح باسم " أبي عقيل " الذي أتى بنصف صاع . ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه 7 : 105 . ثم انظر : ص : 389 ، تعليق رقم : 1.
(3) " الجرير " : الحبل ، وسلف شرحه ص : 383 ، تعليق : 2.
(4) " تبلغ ببعض الطعام " ، أي : اكتفى به من كثيره ، حتى يبلغ ما يشبعه.
(5) قوله : " إلى رسول الله " ، متعلق بقوله : " جئت " ، لا بقوله : " أتقرب به " ، أي : جئت به إلى رسول الله ، أتقرب به إلى الله.

(14/388)


لقد كان الله غنيًّا عن صدقة هذا المسكين! فأنزل الله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآيتين. (1)
17015 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا الجريري ، عن أبي السليل قال : وقف على الحيّ رجل ، (2) فقال : حدثني أبي أو عمي فقال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : من يتصدق اليوم بصدقة أشهدُ له بها عند الله يوم القيامة ؟ قال : وعليّ عمامة لي. قال : فنزعت لَوْثًا أو لوثيْن لأتصدق بهما ، (3) قال : ثم أدركني ما يدرك ابن آدم ، فعصبت بها رأسي. قال : فجاء
__________
(1) الأثر : 17014 - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، ضعيف بمرة ، لا تحل الرواية عنه ، كما قال أحمد. مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11811.
وأما " خالد بن يسار " ، الذي روى عن ابن أبي عقيل ، وروى عنه " موسى بن عبيدة " ، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرا. وهناك " خالد بن يسار " ، روى عن أبي هريرة ، روى عنه شعيب بن الحبحاب ، ولا أظنه هو هو ، وهذا أيضا قالوا : هو مجهول .
وأما " ابن أبي عقيل " ، فاسمه " رضى بن أبي عقيل " ، مترجم في الكبير 2\ 1\ 313 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 523 ، قالا : " روى عن أبيه ، وروى عن محمد بن فضيل " ولم يذكر فيه جرحًا .
و " أبو عقيل " ، مضى ذكره ، وهو مترجم في الكنى للبخاري : 62 ، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 416 ، وقالا : روى عنه ابنه : رضى بن أبي عقيل .
وهذا خبر ضعيف الإسناد جدًا ، لضعف " موسى بن عبيدة " ، وللمجهول الذي فيه ، وهو " خالد بن يسار " .
بيد أن الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 32 ، 33 ، روى هذا الخبر ، بنحو لفظه ، ثم قال : " رواه الطبراني ، ورجاله ثقات ، إلا خالد بن يسار ، لم أجد من وثقه ولا جرحه " . فلا أدري أرواه عن " خالد بن يسار " ، أحد غير " موسى بن عبيدة " في إسناد الطبراني ، أم رواه " موسى بن عبيدة " ، فإن يكن " موسى " هو راويه ، فقد سلف مرارًا أن ضعفه الهيثمي. والظاهر أنه من رواية " موسى " لأني رأيت ابن كثير في تفسيره 4 : 213 ، نقل هذا الخبر عن الطبري ، ثم قال : " وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب ، به . وقال : اسم أبي عقيل حباب (حبحاب) ، ويقال : عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة " (انظر ص : 383 ، تعليق : 2) ، فهذا دال على أن في إسناد الطبراني " موسى بن عبيدة " ، الضعيف بمرة.
(2) في المسند : " وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع " ، واختلف لفظ الخبر بعد.
(3) " لاث العمامة على رأسه ، يلوثها " أي : عصبها ولفها وأدارها . و " اللوث " اللفة من لفائف العمامة .

(14/389)


رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصرَ قِمَّة ، (1) ولا أشدَّ سوادًا ، ولا أدَمَّ بعينٍ منه ، (2) يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها. قال : أصدقةٌ هي ، يا رسول الله ؟ قال : نعم! قال : فدُونَكها ! (3) فألقى بخطامها أو بزمامها (4) قال : فلمزه رجل جالسٌ فقال : والله إنه ليتصدّق بها ، ولهي خيرٌ منه ! فنظر إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل هو خير منك ومنها! (5) يقول ذلك ثلاثًا صلى الله عليه وسلم. (6)
17016 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول : الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون : " أبو خيثمة الأنصاري " . (7)
__________
(1) " القمة " بالكسر ، شخص الإنسان إذا كان قائمًا ، وهي " القامة " . وهذا هو المراد هنا . و " القمة " أيضا ، رأس الإنسان ، وليس بمراد هنا.
(2) في المطبوعة : " ولا أذم لعيني منه " ، وهو فاسد ، غير ما في المخطوطة . وهذه الجملة في مسند أحمد محرفة : " ولا آدم يعير بناقة " ، وفي تفسير ابن كثير نقلا عن المسند : " ولا أذم ببعير ساقه " ، فزاده تحريفا . والصواب ما في تفسير الطبري .
" ولا أدم " من " الدمامة " ، " دم الرجل يدم دمامة " ، وهو القصر والقبح . وفي حديث ابن عمر : " لا يزوجن أحدكم ابنته بدميم " .
(3) " دونكها " ، أي : خذها .
(4) في المخطوطة : " فألقى الله بخطامها أبو بزمامها " ، وهو خطأ ظاهر ، صوابه ما أثبت . ولكن ناشر المطبوعة حذف فكتب : " فألقى بخطامها " .
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم " ، وهو تحريف من الناسخ ، وصوابه ما أثبت ، وذلك أنه رأى في النسخة التي نقلنا عنها : " يقول ذلك ثلثا " فقرأها " نبينا " ، وصوابه " ثلثا " ، كما كانوا يكتبونها بحذف الألف . واستظهرت ذلك من حديث أحمد في المسند قال : " ثلاث مرات " .
(6) الأثر : 1715 - " أبو السليل " ، هو : " ضريب بن نقير بن سمير القيسي الجريري " ، ثقة . روى عن سعيد الجريري وغيره . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 \ 2 \ 343 ، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 470 .
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5 : 34 ، ونقله عن ابن كثير في تفسيره 4 : 211 ، 212 ، بزيادة ، واختلاف في بعض لفظه ، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات .
(7) الأثر : 17016 - " عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري " ، ثقة. مضى برقم : 16147 . وانظر ما سلف ج 13 : 567 ، تعليق : 1 .

(14/390)


17017 - حدثني المثنى قال ، حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال ، حدثنا عامر بن يساف اليمامي ، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف ، جئتك بأربعة آلاف ، فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! وجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله ، بتُّ الليلة أجرُّ الماء على صاعين ، فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به ، أجعله في سبيل الله ، فقال : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال ناس من المنافقين : والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياءً وسمعة ، ولقد كان الله ورسوله غنيَّين عن صاع فلان! فأنزل الله : (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، يعني عبد الرحمن بن عوف : (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، يعني صاحب الصاع (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم). (1)
17018 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال ، قال ابن عباس : أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدَقاتهم ، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف ، فقال : هذا مالي أقرِضُه الله ، وقد بقي لي مثله. فقال له : بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ! فقال المنافقون : ما أعطى إلا رياءً ، وما أعطى صاحبُ الصّاع إلا رياءً ، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا ! وما يصنع الله بصاع من شيء!
__________
(1) الأثر : 17017 - " ومحمد بن رجاء " ، " أبو سهل العباداني " ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع .
و " عامر بن يساف اليمامي " ، وهو " عامر بن عبد الله بن يساف " وثقه ابن معين وغيره ، وقال ابن عدي : " منكر الحديث عن الثقات . ومع ضعفه يكتب حديثه " . مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 329 ، وميزان الاعتدال 2 : 7 ، وتعجيل المنفعة : 206 ، ولسان الميزان 3 : 224 .
و " يحيى بن أبي كثير اليمامي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 12760.

(14/391)


17019 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، إلى قوله : (ولهم عذاب أليم) ، قال : أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدّقوا ، فقام عمر بن الخطاب : فألفَى ذلك مالي وافرًا ، فآخذ نصفه. (1)
قال : فجئت أحمل مالا كثيرًا. فقال له رجل من المنافقين : ترائِي يا عمر! فقال : نعم ، أرائي الله ورسوله ، (2) وأما غيرهما فلا! قال : ورجلٌ من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فواجَرَ نفسه ليجرّ الجرير على رقبته بصاعين ليلته ، (3) فترك صاعًا لعياله ، وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغنيَّان ! فذلك قول الله تبارك وتعالى : (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، هذا الأنصاري (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).
* * *
وقد بينا معنى " اللمز " في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى. (4)
* * *
وأما قوله : (المطوّعين) ، فإن معناه : المتطوعين ، أدغمت التاء في
__________
(1) في المطبوعة : " فقام عمر بن الخطاب ، فألفى مالا وافرًا ، فأخذ نصفه " ، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة ، فحرف وبدل وحذف ، وأساء بما فعل غاية الإساءة . وإنما هذا قول عمر ، يقول : فألفى هذا الأمر بالصدفة ، مالي وافرا ، فآخذ نصفه .
(2) في المطبوعة : " فقال عمر : أراني الله . . . ، وفي المخطوطة : " فقال نعم : إن الله ورسوله " ، لم يحسن كتابتها ، وأثبت الصواب من الدر المنثور 3 : 263 .
(3) في المطبوعة : " فآجر نفسه " ، وهي الصواب المحض ، من قولهم : " أجر المملوك يأجره أجرًا ، فهو مأجور " و " آجره إيجارًا ، ومؤاجرة " . وأما ما أثبته عن المخطوطة ، فليس بفصيح ، وإنما هو قياس ضعيف على قولهم في : " آمرته " ، " وأمرته " ، وقولهم في " آكله " ، " وأكله " على البدل ، وذلك كله ليس بفصيح ولا مرضي . وإنما أثبتها لوضوحها في المخطوطة ، ولأنه من الكلام الذي يقال مثله .
(4) انظر تفسير " اللمز " فيما سلف ص : 300 ، 301 ، 382 .

(14/392)


الطاء ، فصارت طاء مشددة ، كما قيل : (وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيْرًا) [سورة البقرة : 158] ، (1) يعني : يتطوّع. (2)
* * *
وأما " الجهد " ، فإن للعرب فيه لغتين. يقال : " أعطاني من جُهْده " ، بضم الجيم ، وذلك فيما ذكر ، لغة أهل الحجاز ومن " جَهْدِه " بفتح الجيم ، وذلك لغة نجد. (3)
وعلى الضم قراءة الأمصار ، وذلك هو الاختيار عندنا ، لإجماع الحجة من القرأة عليه.
وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية ، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد ، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه ، كما اختلفت لغاتهم في " الوَجْد " ، " والوُجْد " بالضم والفتح ، من : " وجدت " . (4)
* * *
وروي عن الشعبي في ذلك ما : -
17020 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبي قال : " الجَهْدُ " ، و " الجُهْد " ، الجَهْدُ في العمل ، والجُهْدُ في القوت. (5)
17021 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبي ، مثله.
__________
(1) هذه القراءة ، ذكرها أبو جعفر فيما سلف 3 : 247 ، وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين .
وأما قراءتنا في مصحفنا اليوم : (ومن تطوع خيرا) .
(2) انظر تفسير " التطوع " فيما سلف 3 : 247 ، 441 \ 14 : 382 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 447.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 447 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 264 ، وما سلف ص : 382 .
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 447 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 264 ، وما سلف ص : 382 .
(5) في المطبوعة ، حذف قوله : " الجهد ، والجهد " وجعل " فالجهد " ، " الجهد " ، وبدأ به الكلام . وأثبت ما في المخطوطة .

(14/393)


17022 - ...... قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبي قال : الجَهْد في العمل ، والجُهد في القِيتَة. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " والجهد في المعيشة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فغيرها . و " القوت "
و " القيت " (بكسر القاف) و " القيتة " (بكسر القاف) ، كله واحد ، وهو المسكة من الرزق ، وما يقوم به بدن الإنسان من الطعام .

(14/394)


اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

القول في تأويل قوله : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ادع الله لهؤلاء المنافقين ، الذين وصفت صفاتهم في هذه الآيات (1) بالمغفرة ، أو لا تدع لهم بها.
وهذا كلام خرج مخرج الأمر ، وتأويله الخبر ، ومعناه : إن استغفرت لهم ، يا محمد ، أو لم تستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم.
وقوله : (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، يقول : إن تسأل لهم أن تُسْتر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها ، وترك فضيحتهم بها ، فلن يستر الله عليهم ، ولن يعفو لهم عنها ، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة (2) (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) ، يقول جل ثناؤه : هذا الفعل من الله بهم ، وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم ، من أحل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول : والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله ، (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وصف صفاتهم " ، وما أثبت أبين .
(2) انظر تفسير " الاستغفار " و " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر).
(3) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).

(14/394)


من آثر الكفر به والخروج عن طاعته ، على الإيمان به وبرسوله. (1)
* * *
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نزلت هذه الآية قال : " لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة " ، رجاءً منه أن يغفر الله لهم ، فنزلت : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )[سورة المنافقون : 6].
17023 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه : لولا أنكم تُنْفقون على محمد وأصحابه لانفَضُّوا من حوله! وهو القائل : ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) [سورة المنافقون : 8] ، فأنزل الله : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لأزيدنّ على السبعين! فأنزل الله : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم .
17024 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن شباك ، عن الشعبي قال : دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من أنت ؟ قال : حُباب بن عبد الله بن أبيّ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول ، إن " الحُبَاب " هو الشيطان. (2)
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام : إنه قد قيل لي : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين ، وألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصَه وهو عَرِقٌ.
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف : 339 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) " الحباب " (بضم الحاء) ، الحية ، قال ابن كثير : " ويقع على الحية أيضا ، كما يقال لها الشيطان ، فهما مشتركان فيه " .

(14/395)


17025 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إن تستغفر لهم سبعين مرة) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سأزيد على سبعين استغفارة! فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون : ( لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) ، عزمًا. (1)
17026 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17027 - ...... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
17028 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
17029 - ...... قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن الشعبي قال : لما ثَقُل عبد الله بن أبيّ ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن أبي قد احْتُضِر ، فأحبُّ أن تشهده وتصليّ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما اسمك ؟ قال : الحُباب بن عبد الله. قال : بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ، إن " الحباب " اسم شيطان. قال : فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِق ، وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه وهو منافق ؟ فقال : إن الله قال : (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين! قال هشيم : وأشكُّ في الثالثة.
17030 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) إلى قوله : (القوم الفاسقين) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية : أسمعُ ربّي قد رَخّص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ،
__________
(1) " عزما " ، يعني توكيدًا ، وحقًا واجبًا.

(14/396)


فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)

فلعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله ، من شدة غضبه عليهم : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[سورة المنافقون : 6].
17031 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال نبي الله : قد خيَّرني ربي ، فلأزيدنهم على سبعين! فأنزل الله( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ) ، الآية.
17032 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لما نزلت : (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأزيدنّ على سبعين! فقال الله : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ).
* * *
القول في تأويل قوله : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فرح الذين خلَّفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، يقول : بجلوسهم في منازلهم (1) (خلاف رسول الله) ، يقول : على الخلاف لرسول الله في جلوسه
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف 9 : 85 \ 14 : 277.

(14/397)


ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنَّفْر إلى جهاد أعداء الله ، فخالفوا أمْرَه وجلسوا في منازلهم.
* * *
وقوله : (خِلاف) ، مصدر من قول القائل : " خالف فلان فلانًا فهو يخالفه خِلافًا " ، فلذلك جاء مصدره على تقدير " فِعال " ، كما يقال : " قاتله فهو يقاتله قتالا " ، ولو كان مصدرًا من " خَلَفه " لكانت القراءة : " بمقعدهم خَلْفَ رسول الله " ، لأن مصدر : " خلفه " ، " خلفٌ " لا " خِلاف " ، ولكنه على ما بينت من أنه مصدر : " خالف " ، فقرئ : (خلاف رسول الله) ، وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار ، وهي الصواب عندنا.
* * *
وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى : " بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، (1) واستشهد على ذلك بقول الشاعر : (2)
عَقَبَ الرَّبِيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا (3)
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 264 .
(2) هو الحارث بن خالد المخزومي.
(3) الأغاني 3 : 336 (دار الكتب) 15 : 128 (ساسي) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 264 ، واللسان (عقب) ، (خلف) ، من قصيدة روى بعضها أبو الفرج في أغانيه ، يقوله في عائشة بنت طلحة تعريضًا ، وتصريحًا ببسرة جاريتها ، يقول قبله : يَا رَبْع بُسرَةَ إن أضَرَّ بِكَ البِلَى ... فَلَقد عَهِدتُكَ آهلا مَعْمورًا
ورواية أبي الفرج " عقب الرذاذ " ، و " الرذاذ " صغار المطر . وأما " الربيع " ، فهو المطر الذي يكون في الربيع . قال أبو الفرج الأصبهاني : " وقوله : عقب الرذاذ ، يقول : جاء الرذاذ بعده . ومنه يقال : عقب لفلان غنى بعد فقر وعقب الرجل أباه : إذا قام بعده مقامه . وعواقب الأمور ، مأخوذة منه ، واحدتها عاقبة . . . والشواطب : النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف ، يعملن منه الحصر . ومنه السيف المشطب ، والشطبية : الشعبة من الشيء . ويقال : بعثنا إلى فلان شطبية من خيلنا ، أي : قطعة " . قلت : وإنما وصف آثار الغيث في الديار ، فشبه أرضها بالحصر المنمقة ، للطرائق التي تبقى في الرمل بعد المطر.

(14/398)


وذلك قريبٌ لمعنى ما قلنا ، لأنهم قعدوا بعده على الخلافِ له.
* * *
وقوله : (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول تعالى ذكره : وكره هؤلاء المخلفون أن يغزُوا الكفار بأموالهم وأنفسهم (1) (في سبيل الله) ، يعني : في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه ، (2) ميلا إلى الدعة والخفض ، وإيثارًا للراحة على التعب والمشقة ، وشحًّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله.
* * *
(وقالوا لا تنفروا في الحر) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة ، وهي غزوة تبوك ، في حرّ شديدٍ ، (3) فقال المنافقون بعضهم لبعض : " لا تنفروا في الحر " ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) لهم ، يا محمد (نار جهنم) ، التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله (أشد حرًّا) ، من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه. يقول : الذي هو أشد حرًا ، أحرى أن يُحذر ويُتَّقى من الذي هو أقلهما أذًى (لو كانوا يفقهون) ، يقول : لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظَه ، ويتدبَّرون آي كتابه ، (4) ولكنهم لا يفقهون عن الله ، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروهًا وأخفَّه أذًى ، ويواقعون أشدَّه مكروهًا (5) وأعظمه على من يصلاه بلاءً.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 358 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 58 : 536 \ 14 : 251 ، 254 .
(4) انظر تفسير " فقه " فيما سلف ص : 51 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " ويوافقون أشده مكروهًا " ، وهو خطأ من الناسخ ، والصواب ما أثبت .

(14/399)


17033 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) ، إلى قوله : (يفقهون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجال : يا رسول الله ، الحرُّ شديدٌ ، ولا نستطيع الخروجَ ، فلا تنفر في الحرّ ! فقال الله : (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج.
17034 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتاده في قوله : (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، قال : هي غزوة تبوك. (1)
17035 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ إلى تبوك ، فقال رجل من بني سَلِمة : لا تنفروا في الحرّ ! فأنزل الله : (قل نار جهنم) ، الآية.
17036 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : [ثم] ذكر قول بعضهم لبعض ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، وأجمع السير إلى تبوك ، على شدّة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه : (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًّا). (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من عزوة تبوك " ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 17036 - سيرة ابن هشام 4 : 196 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17012 . والزيادة بين القوسين منه.

(14/400)


فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)

القول في تأويل قوله : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولَهْوهم عن طاعة ربهم ، فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكانَ ضحكهم القليل في الدنيا (جزاء) ، يقول : ثوابًا منا لهم على معصيتهم ، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم ، وقعودهم في منازلهم خلافَ رسول الله (1) (بما كانوا يكسبون) ، يقول : بما كانوا يجترحون من الذنوب. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17037 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي رزين : (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال يقول الله تبارك وتعالى : الدنيا قليل ، فليضحكوا فيها ما شاءوا ، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.
17038 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خثيم : (فليضحكوا قليلا) ، قال : في الدنيا (وليبكوا كثيرًا) ، قال : في الآخرة.
17039 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين في قوله : (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال : في الآخرة.
17040 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .

(14/401)


شعبة ، عن منصور ، عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية : (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال : ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرًا. وقال في هذه الآية : ( وإذا لا تمتعون إلا قليلا ) ، [سورة الأحزاب : 16] ، قال : إلى آجالهم أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم. (1)
17041 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (فليضحكوا قليلا) ، قال : ليضحكوا قليلا في الدنيا (وليبكوا كثيرًا) ، في الآخرة ، في نار جهنم (جزاء بما كانوا يكسبون).
17042 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فليضحكوا قليلا) ، : أي في الدنيا (وليبكوا كثيرًا) ، : أي في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك ، أو قيل له : لا تُقَنِّط عبادي.
17043 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خثيم ، (فليضحكوا قليلا) ، قال : في الدنيا (وليبكوا كثيرًا) ، قال : في الآخرة.
17044 - ...... قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين : (فليضحكوا قليلا) ، قال : في الدنيا ، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع ، فذلك الكثير.
17045 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني
__________
(1) الأثر : 17040 - سيأتي هذا الجزء نفسه بإسناده في تفسيره آية " سورة الأحزاب " . وكان في المطبوعة هنا : " قال : أجلهم " ، وفي المخطوطة : " قال : آجالهم " ، أسقط " إلى " ، أثبتها من نص الخبر في تفسير سورة الأحزاب .
وكان في المطبوعة في هذا الأثر ، والذي قبله ، وما سيأتي : " الربيع بن خيثم " ، والصواب : " خيثم " ، كما سلف مرارًا ، فغيرته ، ولم أنبه عليه .

(14/402)


فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)

معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال : هم المنافقون والكفار ، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى : (فليضحكوا قليلا) ، في الدنيا (وليبكوا كثيرًا) ، في النار.
17046 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (فليضحكوا) ، في الدنيا ، (قليلا) (وليبكوا) ، يوم القيامة ، (كثيرًا). وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) ، حتى بلغ : ( هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ، [سورة المطففين : 36].
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن ردّك الله ، يا محمد ، إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه (1) (فاستأذنوك للخروج) ، معك في أخرى غيرها (فقل) لهم (لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرة) ، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك (2) (فاقعدوا مع الخالفين) ، يقول : فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنكم منهم ، فاقتدوا بهديهم ،
__________
(1) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف ص : 336 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص : 397 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/403)


واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله ، فإن الله قد سخط عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17047 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، الحر شديد ، ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفر في الحرّ ! وذلك في غزوة تبوك فقال الله : (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج. فتخلف عنه رجال ، فأدركتهم نفوسهم فقالوا : والله ما صنعنا شيئًا ! فانطلق منهم ثلاثة ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أتوه تابوا ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فأنزل الله : (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله : (ولا تقم على قبرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلك الذين تخلَّفوا ، فأنزل الله عُذْرَهم لما تابوا ، فقال : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ) ، إلى قوله : (إن الله هو التواب الرحيم) ، [سورة التوبة : 117 ، 118] .
17048 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله : (فاقعدوا مع الخالفين) ، أي : مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين ، قيل فيهم ما قيل. (1)
17049 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (فاقعدوا مع الخالفين) ، و " الخالفون " ، الرجال.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في قوله : (الخالفين) ، ما قال ابن عباس.
__________
(1) في المطبوعة : " فقيل فيهم . . . " ، وكان في المخطوطة : " قتل منهم ما قتل " ، صوابه ما في المطبوعة .

(14/404)


وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)

* * *
فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء ، فقولٌ لا معنى له. لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال ، بالياء والنون ، ولا بالواو والنون. ولو كان معنيًّا بذلك النساء لقيل : " فاقعدوا مع الخوالف " ، أو " مع الخالفات " . ولكن معناه ما قلنا ، من أنه أريد به : فاقعدوا مع مرضى الرِّجال وأهل زَمانتهم ، والضعفاء منهم ، والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر ، فإن العرب تغلب الذكور على الإناث ، ولذلك قيل : (فاقعدوا مع الخالفين) ، والمعنى ما ذكرنا.
* * *
ولو وُجِّه معنى ذلك إلى : فاقعدوا مع أهل الفساد ، من قولهم : " خَلَف الرجال عن أهله يخْلُف خُلُوفًا ، إذا فسد ، ومن قولهم : " هو خَلْف سَوْءٍ " كان مذهبًا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى ، من قولهم : " خَلَف اللبن يَخْلُفُ خُلُوفا " ، إذا خبث من طول وضعه في السِّقاء حتى يفسد ، ومن قولهم : " خَلَف فم الصائم " ، إذا تغيرت ريحه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تصلِّ ، يا محمد ، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا (ولا تقم على قبره) ، يقول : ولا تتولَّ دفنه وتقبيره. (2)
__________
(1) انظر تفسير " خلف " فيما سلف : 13 : 209 ، 210 .
(2) في المطبوعة : " وتقبره " ، غير ما في المخطوطة . و " التقبير " بمعنى : الدفن ، من ألفاظ قدماء الفقهاء . وقد سلف استخدام أبي جعفر هذه اللفظة ، وتعليقي عليها فيما سلف 9 : 387 ، تعليق : 1 .

(14/405)


من قول القائل : " قام فلان بأمر فلان " ، إذا كفاه أمرَه.
* * *
(إنهم كفروا بالله) ، يقول : إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله وماتوا وهم خارجون من الإسلام ، مفارقون أمرَ الله ونهيه. (1)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ.
* ذكر من قال ذلك :
17050 - حدثنا محمد بن المثنى ، وسفيان بن وكيع ، وسوار بن عبد الله قالوا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر قال : جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله حين مات أبوه فقال : أعطني قميصَك حتى أكفّنه فيه ، وصلّ عليه ، واستغفر له . فأعطاه قميصه وإذا فرغتم فآذنوني. (2) فلما أراد أن يصلي عليه ، [جذبه] عمر ، (3) وقال : أليس قد نهاك الله أن تُصَليّ على المنافقين ؟ فقال : بل خيّرني وقال : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) ، قال : فصلي عليه. قال : فأنزل الله تبارك وتعالى : (ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، قال : فترك الصلاة عليهم. (4)
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص : 385 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " قال : وإذا فرغتم " ، وليس في المخطوطة : " قال " بل فيها : " وإذا وإذا فرغتم " ، بالتكرار .
(3) " جذبه " التي بين القوسين ، ساقطة من المخطوطة ، زادها الناشر الأول ، وأصاب . .
(4) الأثر : 17050 - خبر " عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر " ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 3 : 110 \ 8 : 251 ، 255 ) ، رواه من طريق يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن عمر ، ثم من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله ، ثم من طريق أنس بن عياض ، عن عبيد الله .
ورواه مسلم في صحيحه 17 : 121 ، من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله بن عمر .
وسيأتي من رواية أبي جعفر ، من طريق أسامة ، في الذي يليه ، رقم : 17051.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 217 - 219 ، فراجعه هناك .

(14/406)


17051 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عبيد الله ، عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه ، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ابنَ سلول ! أتصلي عليه ، وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما خيَّرني ربّي ، فقال : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، وسأزيد على سبعين. فقال : إنه منافق ! فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره). (1)
17052 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن مجاهد قال ، حدثني عامر ، عن جابر بن عبد الله : أن رأسَ المنافقين مات بالمدينة ، فأوصى أن يصلي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وأن يكفَّن في قميصه ، فكفنه في قميصه ، وصلى عليه وقام على قبره ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره). (2)
17053 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سلمة ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول ، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره). (3)
__________
(1) الأثر : 17051 - انظر التخريج السالف .
(2) الأثر : 17052 - حديث جابر بن عبد الله من هذه الطريق ، ذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 219 ، عن مسند البزار ، من طريق عمرو بن علي ، عن يحيى ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر ، وقال : " وإسناده لا بأس به ، وما قبله شاهد له " . وسيأتي حديث جابر من طريق أخرى رقم : 17054
(3) الأثر : 17053 - " يزيد الرقاشي " ، هو " يزيد بن أبان الرقاشي " ، ضعيف بل متروك ، مضى برقم : 6654 ، 6728 ، 7577 ، وغيرها .

(14/407)


17054 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر قال : جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أبيّ وقد أدخل حُفْرته ، فأخرجه فوضعه على ركبتيه ، وألبسه قميصه ، وتَفَل عليه من ريقه ، والله أعلم . (1)
17055 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لما توفي عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول ، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة ، تحوَّلتُ حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ، أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبي ، القائل يوم كذا كذا وكذا!! أعدِّد أيّامه ، (2) ورسول الله عليه السلام يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخِّر عنّي يا عمر ، إني خُيِّرت فاخترت ، وقد قيل لي : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فلو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له ، لزدت ! قال : ثم صلى عليه ، ومشى معه ، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال : فعجبتُ لي وجُرْأتي (3) على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : (ولا تصلِّ على أحدا منهم مات أبدًا) ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه على منافق ، ولا قام
__________
(1) الأثر : 17054 - حديث جابر ، مضى من طريق الشعبي آنفا رقم : 10752 .
وأما هذه الطريق ، فمنها رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 3 : 111 ) ، ومسلم في صحيحه 175 : 121 ، وروا أيضا من طريق ابن جريج ، عن عمرو بن دينار .
وقوله : " والله أعلم " ، يعني : والله أعلم بقضائه ، إذ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل ، مع قضاء الله في المنافقين بما قضى به فيهم .
(2) هكذا في السيرة : " أعدد أيامه " وظنها بعضهم خطأ ، وهو صواب . يعني يعدد ما كان منه في أيام من أيامه ، يوم قال كذا ، ويوم قال كذا .
(3) في المطبوعة : " أتعجب لي " ، وفي المخطوطة : " تعجبت " ، وأثبت نص ابن هشام في سيرته . وفي السيرة : " ولجرأتي " .

(14/408)


على قبره ، حتى قبضه الله. (1)
17056 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : لما مات عبد الله بن أبي ، أتى ابنه عبد الله بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله قميصه ، فأعطاه ، فكفَّن فيه أباه. (2)
17057 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس ، عن عمر بن الخطاب قال : لما مات عبد الله بن أبيّ فذكر مثل حديث ابن حميد ، عن سلمة. (3)
17058 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، الآية ، قال : بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه ، فنهاه عن ذلك عمر. فأتاه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عليه ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أهلكك حبُّ اليهود! قال فقال : يا نبي الله ، إني لم أبعث إليك لتؤنّبني ، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي! وسأله قميصه أن يكفن فيه ، فأعطاه إياه ، فاستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فمات فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الأثر : 17055 - سيرة ابن هشام 4 : 196 ، 197 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17036 .
وحديث الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 254 ) ، من طريق يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب الزهري . وسيأتي من هذه الطريق برقم : 17057 .
وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 218 .
وقوله : " أخر عني يا عمر " ، أي : أخر عني رأيك ، فاختصر إيجاز وبلاغة - هكذا قالوا : وقد ذكرت آنفا ج 10 : 339 ، تعليق : 6 ، أنهم قصروا من شرحه ، وأن معناه ، اصرف عني رأيك وأبعده ، وأنه مما يزداد على بيان كتب اللغة .
(2) الأثر : 17056 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام.
(3) الأثر : 17057 - سلف تخريجه في رقم : 17055.

(14/409)


وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)

وسلم ، ونفث في جلده ، ودلاه في قبره ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا) ، الآية. قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كُلّم في ذلك فقال : وما يغني عنه قميصي من الله أو : ربي وصلى عليه وإني لأرجو أن يسلم به ألفٌ من قومه. (1)
17059 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فلما دخل عليه ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أهلكك حبُّ يهود! قال : يا رسول الله ، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفّن فيه ، فأعطاه إياه ، وصلى عليه ، وقام على قبره ، فأنزل الله تعالى ذكره : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبرة).
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تعجبك ، يا محمد ، أموالُ هؤلاء المنافقين وأولادهم ، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم
__________
(1) قوله : " وصلى عليه " ، هكذا في المخطوطة ، وجعلها في المطبوعة : " وصلاتي عليه " ، كأنه ظنه معطوفًا على قوله : " ما يغنى عنه قميصي " ، ولكن جائز أن يكون ما أثبته من المخطوطة ، هو الصواب ، وهو خبر من قتادة أو غيره ، فصل به بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولذلك وضعته بين خطين .

(14/410)


وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)

على قبره ، من أجل كثرة ماله وولده ، فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم ، بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات ، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات ، (وتزهق أنفسهم) ، يقول : وليموت فتخرج نفسه من جسده ، (1) فيفارق ما أعطيته من المال والولد ، فيكون ذلك حسرة عليه عند موته ، ووبالا عليه حينئذٍ ، ووبالا عليه في الآخرة ، بموته جاحدًا توحيدَ الله ، ونبوةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
17060 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن السدي : (وتزهق أنفسهم) ، في الحياة الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا أنزل عليك ، يا محمد ، سورة من القرآن ، بأن يقال لهؤلاء المنافقين : (آمنوا بالله) ، يقول : صدِّقوا بالله (وجاهدوا مع رسوله) ، يقول : اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) (استأذنك أولوا الطول منهم) ، يقول : استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك ، والقعود في أهله (3) (وقالوا ذرنا) ، يقول : وقالوا لك : دعنا ، (4) نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم ، ومن لا يقدر على
__________
(1) انظر تفسير " زهق " فيما سلف ص : 297 .
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 399 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الطول " فيما سلف 8 : 182 - 185 .
(4) انظر تفسير " ذر " فيما سلف 13 : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/411)


الخروج معك في السفر. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17061 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (استأذنك أولوا الطول) ، قال : يعني أهل الغنى.
17062 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (أولوا الطول منهم) ، يعني : الأغنياء.
17063 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم) ، كان منهم عبد الله بن أبيّ ، والجدُّ بن قيس. فنعى الله ذلك عليهم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص : 404 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 17063 - سيرة ابن هشام 4 : 197 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17055 ، غير أن ابن هشام قال : " وكان ابن أبي من أولئك ، فنعى الله ذلك عليه ، وذكره منه " .
ولم يذكر هنا " الجد بن قيس " .

(14/412)


رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)

القول في تأويل قوله : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : رضي هؤلاء المنافقون الذين إذا قيل لهم : آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ، استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء الله من المشركين أن يكونوا في منازلهم ،

(14/412)


كالنساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد ، فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ (1) (وطبع على قلوبهم) ، يقول : وختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين (فهم لا يفقهون) ، عن الله مواعظه ، فيتعظون بها. (2)
* * *
وقد بينا معنى " الطبع " ، وكيف الختم على القلوب ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى " الخوالف " قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17064 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال : " الخوالف " هنّ النساء.
17065 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يعني : النساء.
17066 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حبوية أبو يزيد ، عن يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال : النساء.
17067 - ...... قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (مع الخوالف) ، قال : مع النساء.
17068 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص : 405 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " فقه " فيما سلف ص : 399 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 13 : 10 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/413)


لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)

قوله : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، أي : مع النساء.
17069 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قالا النساء.
17070 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17071 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17072 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال : مع النساء.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين ، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدقوا الله ورسوله معه ، هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم ، فأنفقوا في جهادهم أموالهم واتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها (1) (وأولئك) ، يقول : وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم (الخيرات) ، وهي خيرات الآخرة ، وذلك : نساؤها ، وجناتها ، ونعيمها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص : 411 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/414)


أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

واحدتها " خَيْرَة " ، كما قال الشاعر : (1)
وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلاتِ... رَبَلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ المَلِكاتِ (2)
و " الخيرة " ، من كل شيء ، الفاضلة. (3)
* * *
(وأولئك هم المفلحون) ، يقول : وأولئك هم المخلدون في الجنات ، الباقون فيها ، الفائزون بها. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أعد الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه (5) (جنات) ، وهي البساتين ، (6) تجري من تحت أشجارها الأنهار (خالدين فيها) ، يقول : لابثين فيها ، لا يموتون فيها ، ولا يظعنون عنها (7) (ذلك الفوز العظيم) ، يقول : ذلك النجاء العظيم ، والحظّ الجزيل. (8)
* * *
__________
(1) لرجل من بني عدي ، عدي تيم تميم ، وهو جاهلي .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 267 ، واللسان ( خير ) ، و " الربلات " جمع " ربلة " ( بفتح الراء وسكون الباء ، أو فتحها ) ، وهي لحم باطن الفخذ . عنى أمرًا قبيحًا . وقوله " خيرة " ، مؤنث " خير " ، صفة ، لا بمعنى التفضيل ، يقال : " رجل خير ، وامرأة خيرة " ، فإذا أردت التفضيل قلت : " فلانة خير الناس " .
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 267 .
(4) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 13 : 574 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " أعد " فيما سلف ص : 31 ، 267 .
(6) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة ( جنن ) .
(7) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(8) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ص : 357 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/415)


وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)

القول في تأويل قوله : { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وجاء) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) ، في التخلف (وقعد) ، عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه (1) (الذين كذبوا الله ورسوله) ، وقالوا الكذب ، واعتذرُوا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره : سيُصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم ، عذابٌ أليم. (2)
* * *
فإن قال قائل : (وجاء المعذّرون) ، وقد علمت أن " المعذِّر " ، في كلام العرب ، إنما هو : الذي يُعَذِّر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه ؟ وليست هذه صفة هؤلاء ، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم ، وحرصوا على ذلك ، فلم يجدوا إليه السبيل ، فهم بأن يوصفوا بأنهم : " قد أعذروا " ، أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم " عذَّروا " . وإذا وصفوا بذلك ، (3) فالصَّواب في ذلك من القراءة ، ما قرأه ابن عباس ، وذلك ما : -
17073 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي حماد قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك قال : كان ابن عباس يقرأ : ( وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ ) ، مخففةً ، ويقول : هم أهل العذر.
مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه ؟
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص : 412 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .
(3) في المطبوعة : " بأنهم عذروا ، إذا وصفوا بذلك " ، كأنه متعلق بالسالف .
والصواب أنه ابتداء كلام ، والواو في " وإذا " ثابتة في المخطوطة .

(14/416)


قيل : إن معنى ذلك على غير ما ذهبتَ إليه ، وإن معناه : وجاء المعتذِرون من الأعراب ولكن " التاء " لما جاورت " الذال " أدغمت فيها ، فصُيِّرتا ذالا مشدَّدة ، لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى ، كما قيل : " يذَّكَّرون " في " يتذكرون " ، و " يذكّر " في " يتذكر " وخرجت العين من " المعذّرين " إلى الفتح ، لأن حركة التاء من " المعتذرين " ، وهي الفتحة ، نقلت إليها ، فحركت بما كانت به محركة. والعرب قد توجِّه في معنى " الاعتذار " ، إلى " الإعذار " ، فيقول : " قد اعتذر فلان في كذا " ، يعني : أعذر ، (1) ومن ذلك قول لبيد :
إِلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا... ومَنْ يَبْكِ حَوْلا كَامِلا فَقَدِ اعتَذَرْ (2)
فقال : فقد اعتذر ، بمعنى : فقد أعْذَر.
* * *
على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم " معذِّرين " .
فقال بعضهم : كانوا كاذبين في اعتذارهم ، فلم يعذرهم الله.
* ذكر من قال ذلك :
17074 - حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثني أبي ، عن الحسين قال : كان قتادة يقرأ : (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال : اعتذروا بالكذب.
17075 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال : نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا ، فلم يعذرهم الله.
* * *
فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء : أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 447 ، 448 .
(2) سلف البيت وتخريجه 1 : 119 ، تعليق : 1 .

(14/417)


بالباطل لا بالحق ، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار ، إلا أن يوصفوا بأنهم أعْذَرُوا في الاعتذار بالباطل. فأمّا بالحق على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء فغير جائز أن يوصَفوا به.
* * *
وقد كان بعضهم يقول : إنما جاءوا معذّرين غير جادِّين ، يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجَّهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك ، غير أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم بتأويل القرآن وجَّه تأويله إلى ذلك ، فأستحبُّ القول به. (1)
وبعدُ ، فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار ، التشديد في " الذال " ، أعني من قوله : (المُعَذّرُونَ) ، ففي ذلك دليلٌ على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار ، لأن القوم الذين وُصفوا بذلك لم يكلفوا أمرًا عَذَّرُوا فيه ، وانما كانوا فرقتين : إما مجتهد طائع ، وإما منافق فاسقٌ ، لأمر الله مخالف. فليس في الفريقين موصوفٌ بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو معذّر مبالغٌ ، أو معتَذِر.
فإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد " الذال " من " المعذرين " ، عُلم أن معناه ما وصفناه من التأويل.
* * *
وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس.
17076 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن حميد قال : قرأ مجاهد : (وَجاءَ المُعذَرُونَ) ، مخففةً ، وقال : هم أهل العذر.
17077 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان المعذرون ، [فيما بلغني ، نفرًا من بني غِفارٍ ، منهم : خفاف بن أيماء بن
__________
(1) في المطبوعة : " فاستحبوا " جمعًا ، وإنما جاء الخطأ من سوء كتابة المخطوطة ، لأنه أراد أن يكتب بعد آخر الباء واوًا ، ثم عدل عن ذلك ، فأخذ الناشر بما عدل عنه الناسخ ! ! .

(14/418)


لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)

رَحَضة ، ثم كانت القصة لأهل العذر ، حتى انتهى إلى قوله : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية]. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو ، (2) ولا على المرضى ، ولا على من لا يجد نفقة يتبلَّغ بها إلى مغزاه " حرج " ، وهو الإثم ، (3) يقول : ليس عليهم إثم ، إذا نصحوا لله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما على المحسنين من سبيل) ، يقول : ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد معه ، لعذر يعذر به ، طريقٌ يتطرَّق عليه فيعاقب من قبله (4) (والله غفور رحيم) ، يقول : والله ساتر على ذنوب المحسنين ، يتغمدها بعفوه لهم عنها (رحيم) ، بهم ، أن يعاقبهم عليها. (5)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في " عائذ بن عمرو المزني " .
* * *
__________
(1) الأثر : 17077 - سيرة ابن هشام 4 : 197 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17063 . وكان هذا الخبر في المخطوطة والمطبوعة مبتورًا ، أتممته من سيرة ابن هشام ، ووضعت تمامه بين القوسين .
(2) انظر تفسير " الضعفاء " فيما سلف 5 : 551 \ 8 : 19 .
(3) انظر تفسير " الحرج " فيما سلف 12 : 295 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المحسن " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة ( حسن ) ، ( سبل ) .
(5) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) ، ( رحم ) .

(14/419)


وقال بعضهم في " عبد الله بن مغفل " .
* * *
* ذكر من قال : نزلت في " عائذ بن عمرو " .
17078 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) ، نزلت في عائذ بن عمرو.
* * *
* ذكر من قال : نزلت في " ابن مغفل " .
17079 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) ، إلى قوله : (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم " عبد الله بن مغفل المزني " ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أجد ما أحملكم عليه! فتولوا ولهم بكاءٌ ، وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، (1) ولا يجدون نفقةً ولا محملا. فلما رأى الله حرصَهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه فقال : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) ، إلى قوله : (فهم لا يعلمون).
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وعز عليهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو محض صواب .

(14/420)


وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

القول في تأويل قوله : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولا سبيل أيضًا على النفر الذين إذا ما جاءوك ، لتحملهم ، يسألونك الحُمْلان ، ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداءِ الله معك ، يا محمد ، قلت لهم : لا أجد حَمُولةً أحملكم عليها (تولوا) ، يقول : أدبروا عنك ، (1) (وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون ، (2) ويتحمَّلون به للجهادِ في سبيل الله.
* * *
وذكر بعضهم : أن هذه الآية نزلت في نفر من مزينة.
* ذكر من قال ذلك :
17080 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) ، قال : هم من مزينة.
17081 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال : هم بنو مُقَرِّنٍ ، من مزينة.
17082 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءةً ، عن مجاهد في قوله : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله : (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، قال : هم بنو مقرِّن. من مزينة.
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(2) انظر تفسير " تفيض من الدمع " فيما سلف 10 : 507

(14/421)


17083 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال : هم بنو مقرِّن من مزينة.
17084 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن عروة ، عن ابن مغفل المزني ، وكان أحد النفر الذين أنزلت فيهم : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية.
17085 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، قال : منهم ابن مقرِّن وقال سفيان : قال الناس : منهم عرباض بن سارية.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في عِرْباض بن سارية.
* ذكر من قال ذلك :
17086 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا دخلنا على عرباض بن سارية ، وهو الذي أنزل فيه : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. (1)
17087 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثنا ثور ، عن خالد ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، وحجر بن حجر بنحوه.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في نفر سبعة ، من قبائل شتى.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 17086 - " عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب . و " حجر بن حجر الكلاعي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب .

(14/422)


إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)

17088 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب وغيره قال : جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه ، فقال : (لا أجد ما أحملكم عليه)! فأنزل الله : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. قال : هم سبعة نفر : من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ومن بني واقف : هرمي بن عمرو (1) ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ، يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى : سلمان بن صخر ومن بني حارثة : عبد الرحمن بن يزيد ، أبو عبلة ، وهو الذي تصدق بعرضِه فقبله الله منه ومن بني سَلِمة : عمرو بن غنمه ، وعبد الله بن عمرو المزني.
17089 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قوله : (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله : (حزنًا) ، وهم البكاؤون ، كانوا سبعة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر ، يا محمد ، ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خِلافَك ، وترك الجهاد معك ، وهم أهل غنى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو ، نفاقًا وشكًّا في وعد الله ووعيده (3) (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يقول : رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء وهن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حرمي بن عمرو " ، والصواب " هرمي " بالهاء ، انظر ترجمته في الإصابة .
(2) الأثر : 17089 - سيرة ابن هشام 4 : 197 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17077 ، وليس فيه في هذا الموضع قوله : " وهم سبعة " . وأما عدتهم عند ابن إسحاق فقد ذكرها ابن هشام في سيرته 4 : 161 ، وقال : " وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم " ، ثم عددهم .
(3) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .

(14/423)


" الخوالف " ، خلف الرجال في البيوت ، ويتركوا الغزو معك ، (1) (وطبع الله على قلوبهم) ، يقول : وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب (2) (فهم لا يعلمون) ، سوء عاقبتهم ، بتخلفهم عنك ، وتركهم الجهاد معك ، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا ، وعظيم البلاء في الآخرة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص : 413 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف ص : 413 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/424)


يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)

القول في تأويل قوله : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يعتذر إليكم ، أيها المؤمنون بالله ، هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين ، بالأباطيل والكذب ، إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم " قل " ، لهم ، يا محمد ، (لا تعتذروا لن نؤمن لكم) ، يقول : لن نصدِّقكم على ما تقولون (قد نبأنا الله من أخباركم) ، يقول : قد أخبرنا الله من أخباركم ، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم (1) (وسيرى الله عملكم ورسوله) ، يقول : وسيرى الله ورسوله فيما بعدُ عملكم ، أتتوبون من نفاقكم ، أم تقيمون عليه ؟ (ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة) ، يقول : ثم ترجعون بعد مماتكم (إلى عالم الغيب والشهادة) ، يعني : الذي يعلم السرَّ والعلانية ، الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم
__________
(1) انظر تفسير " نبأ " فيما سلف ص : 344 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/424)


سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)

وظواهرها (1) (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، فيخبركم بأعمالكم كلها سيِّئها وحسنها ، (2) فيجازيكم بها : الحسنَ منها بالحسن ، والسيئَ منها بالسيئ.
* * *
القول في تأويل قوله : { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : سيحلف ، أيها المؤمنون بالله ، لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله (إذا انقلبتم إليهم) ، يعني : إذا انصرفتم إليهم من غزوكم (3) (لتعرضوا عنهم) ، فلا تؤنبوهم (فأعرضوا عنهم) ، يقول جل ثناؤه للمؤمنين : فدعوا تأنيبهم ، وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق (4) (إنهم رجس ومأواهم جهنم) ، يقول : إنهم نجس (5) (ومأواهم جهنم) ، يقول : ومصيرهم إلى جهنم ، وهي مسكنهم الذي يأوُونه في الآخرة (6) (جزاء بما كانوا يكسبون) ، (7) يقول : ثوابًا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله. (8)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غيب ) ، ( شهد ) .
(2) في المخطوطة : " سيئها " وأسقط " وحسنها " ، والصواب ما في المطبوعة .
(3) انظر تفسير " الانقلاب " فيما سلف 13 : 35 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص : 369 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 12 : 194 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص : 360 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(7) في المطبوعة والمخطوطة " جزاء بما كانوا يعملون " ، سهو من الناسخ فيما أرجح .
(8) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
وتفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب).

(14/425)


وذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين ، قالا ما : -
17090 - حدثنا به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا) ، إلى : (بما كانوا يكسبون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ألا تغزو بني الأصفر ، (1) لعلك أن تصيب بنت عظيم الرُّوم ، فإنهنّ حِسان ! (2) فقال رجلان : قد علمت ، يا رسول الله ، أن النساء فتنة ، فلا تفتنَّا بهنَّ! فأذن لنا ! فأذن لهما. فلما انطلقا ، قال أحدهما : إن هو إلا شَحْمةٌ لأوّل آكلٍ! (3) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل عليه في ذلك شيء ، فلما كان ببعض الطريق ، نزل عليه وهو على بعض المياه : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ) [سورة التوبة : 42] ، ونزل عليه : ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) [سورة التوبة : 43] ، ونزل عليه : ( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [سورة التوبة : 44] ، ونزل عليه : (إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون). فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم وهم خلفهم ، فقال : تعلمون أنْ قَد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَكم قرآن ؟ قالوا : ما الذي سمعت ؟ قال : ما أدري ، غير أني سمعت أنه يقول : " إنهم رجس " ! فقال رجل يدعى " مخشيًّا " ، (4) والله لوددت أني أجلد مئة جلدة ، وأني لست معكم!
__________
(1) " بنو الأصفر " ، هم الروم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " فإنهم حسان " والصواب ما أثبت .
(3) " الشحمة " ، عنى بها قطعة من " شحم سنام البعير " ، وشحمة السنام من أطايب البعير ، يسرع إليها الآكل ، قال زفر بن الحارث الكلابي : وكُنَّا حَسِبْنا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ... لَيالِيَ قارَعْنا جُذَامَ وحمِيرَا
فَلَمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ ، بَعضَهُ ... بِبَعضٍ ، أَبَتْ عِيدانُهُ أَنْ تكَسَّرا
وفي المثل : " ما كل بيضاء شحمة ، ولا كل سوداء تمرة " .
(4) في المخطوطة : " مخشي " ، والصواب ما في المطبوعة وهو " مخشي بن حمير الأشجعي " ، انظر ترجمته في الإصابة .

(14/426)


فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما جاء بك ؟ فقال : وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفَعه الريح ، وأنا في الكِنّ!! (1) فأنزل الله عليه : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) [سورة التوبة : 49] ، ( وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) [سورة التوبة : 81] ، ونزل عليه في الرجل الذي قال : " لوددت أني أجْلد مئة جلدة " قولُ الله : ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ) [سورة التوبة : 64] ، فقال رجل مع رسول الله : لئن كان هؤلاء كما يقولون ، ما فينا خير! فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : أنت صاحب الكلمة التي سمعتُ ؟ " فقال : لا والذي أنزل عليك الكتاب ! فأنزل الله فيه : ( وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) [سورة التوبة : 74] ، وأنزل فيه : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، [سورة التوبة : 47].
17091 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن عبد الله بن كعب قال : سمعت كعبَ بن مالك يقول : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيَتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، وصَدَقته حديثي. فقال كعب : والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطُّ ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظمَ في نفسي من صدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا أكون كذبتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي ، (2) شرَّ
__________
(1) " سفعته النار ، والشمس ، والسموم ، تسفعه سفعًا " ، لفحته لفحًا يسيرًا فغيرت لون بشرته وسودته. و " الكن " (بكسر الكاف) : ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن ، وكل ما ستر من الشمس والسموم فهو كن .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " حين أنزل الوحي ما قال لأحد " ، بإسقاط " شر " ، وهو لا يستقيم ، وأثبته من نص روايته في صحيح مسلم .

(14/427)


يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)

ما قال لأحد : (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله : (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين). (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يحلف لكم ، أيها المؤمنون بالله ، هؤلاء المنافقون ، اعتذارًا بالباطل والكذب (لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ، يقول : فإن أنتم ، أيها المؤمنون ، رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم ، إذ كنتم لا تعلمون صِدْقهم من كذبهم ، فإن رضاكم عنهم غيرُ نافعهم عند الله ، لأن الله يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون ، ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون ، وأنهم على الكفر بالله......... (2) يعني أنهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر بالله ، ومن الطاعة إلى المعصية. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 17091 - هذا مختصر من الخبر الطويل في توبة كعب بن مالك ، رواه مسلم في صحيحه 17 : 87 - 100 ، من هذه الطريق ، وقد مضى جزء آخر منه برقم : 16147 .
(2) لا أشك أن موضع هذه النقط خرم في كلام أبي جعفر ، من ناسخ كتابه ، وكأن صواب الكلام : " وأنهم على الكفر بالله مقيمون ، وأنهم هم الفاسقون ، يعني : أنهم الخارجون . . . " ، أو كلامًا شبيهًا بهذا .
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص : 406 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(14/428)


الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

القول في تأويل قوله : { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الأعراب أشدُّ جحودًا لتوحيد الله ، وأشدّ نفاقًا ، من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك ، لجفائهم ، وقسوة قلوبهم ، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير ، فهم لذلك أقسى قلوبًا ، وأقلُّ علمًا بحقوق الله.
* * *
وقوله : (وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، يقول : وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، (1) وذلك فيما قال قتادة : السُّنن.
17092 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، قال : هم أقل علمًا بالسُّنن.
17093 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد ، فقال : والله إنّ حديثك ليعجبني ، وإن يدك لَتُرِيبُني ! فقال زيد : وما يُريبك من يدي ؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي : والله ما أدري ، اليمينَ يقطعون أم الشمالَ ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله : (الأعرابُ أشدُّ كفرًا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزلَ الله على رسوله). (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حدود الله " فيما سلف 8 : 68 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 17093 - " عبد الرحمن بن مغراء الدوسي " ، ثقة ، متكلم فيه . مضى برقم : 11881 . وكان في المطبوعة : " عبد الرحمن بن مقرن " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فبدل من عند نفسه .
و " زيد بن صوحان العبدي " ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثقة قليل الحديث ، مضى برقم : 13486 .
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 6 : 84 ، 85 من طريق يعلي بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم.

(14/429)


وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

وقوله : (والله عليم حكيم) ، يقول : (والله عليم) ، بمن يعلم حدودَ ما أنزل على رسوله ، والمنافق من خلقه ، والكافرِ منهم ، لا يخفى عليه منهم أحد (حكيم) ، في تدبيره إياهم ، وفي حلمه عن عقابهم ، مع علمه بسرائرهم وخِداعهم أولياءَه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن الأعراب من يَعُدُّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك ، أو في معونة مسلم ، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده (مغرما) ، يعني : غرمًا لزمه ، لا يرجو له ثوابًا ، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا (ويتربص بكم الدوائر) ، يقول : وينتظرون بكم الدوائر ، (2) أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروهٍ ومجيء محبوب ، (3) وغلبة عدوٍّ لكم. (4) يقول الله تعالى ذكره : (عليهم دائرة السوء) ، يقول : جعل الله دائرة السوء عليهم ، ونزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون ، ولا بكم (والله سميع) ، لدعاء الداعين (عليم) بتدبيرهم ، وما هو بهم نازلٌ من عقاب الله ، وما هم إليه صائرون من أليم عقابه. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .
(2) انظر تفسير " التربص " فيما سلف ص : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة " ونفى محبوب " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهي سيئة الكتابة .
(4) انظر تفسير " الدوائر " فيما سلف 10 : 404 .
(5) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .

(14/430)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17094 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر) ، قال : هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياءً اتِّقاءَ أن يُغْزَوْا أو يُحارَبوا أو يقاتلوا ، ويرون نفقتهم مغرمًا. ألا تراه يقول : (ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء) ؟
* * *
واختلفت القرأة في قراءه ذلك.
فقرأ عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : (عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوْءِ) بفتح السين ، بمعنى النعت لـ " الدائرة " ، وإن كانت " الدائرة " مضافة إليه ، كقولهم : " هو رجل السَّوْء " ، " وامرؤ الصدق " ، من كأنه إذا فُتح مصدرٌ من قولهم : " سؤته أسوُءه سَوْءًا ومَساءَةً ومَسَائِيَةً. (1)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين : (عَلَيهِم دَائِرَةُ السُّوْءِ) ، بضم السين ، كأنه جعله اسمًا ، كما يقال : عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال : " عليهم دائرة السُّوء " فضم ، لم يقل : " هذا رجل السُّوء " بالضم ، و " الرجل السُّوء " ، (2) وقال الشاعر : (3)
وكُنْتُ كَذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَمًا... بِصَاحِبِه يَوْمًا أحَالَ عَلَى الدَّمِ (4)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 449 ، 450 .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 450 .
(3) هو الفرزدق .
(4) ديوانه : 749 ، وطبقات فحول الشعراء : 306 ، والحيوان 5 : 319 ، 6 : 298 ، واللسان (حول) ، وغيرها كثير ، من أبيات لها خبر طويل . وقوله : " أحال على الدم " ، أي : أقبل عليه . والذئبان ربما أقبلا على الرجل إقبالا واحدًا ، وهما سواء على عداوته والجزم على أكله ، فإذا أدمى أحدهما وثب على صاحبه فمزقه وأكله ، وترك الإنسان ( من كلام الجاحظ ) . وقد كرر الفرزدق هذا المعنى في قوله : فَتًى لَيْسَ لابْنِ العَمِّ كالذِّئْبِ ، إن رَأَى ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا دَمًا فَهْوَ آكِلُهُ
.

(14/431)


وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين ، بمعنى : عليهم الدائرة التي تَسُوءهم سوءًا. كما يقال : " هو رجل صِدْق " ، على وجه النعت.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن الأعراب من يصدِّق الله ويقرّ بوحدانيته ، وبالبعث بعد الموت ، والثواب والعقاب ، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين ، (1) وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(قربات عند الله) ، و " القربات " جمع " قربة " ، وهو ما قرَّبه من رضى الله ومحبته (وصلوات الرسول) ، يعني بذلك : ويبتغي بنفقة ما ينفق ، مع طلب قربته من الله ، دعاءَ الرسول واستغفارَه له.
وقد دللنا ، فيما مضى من كتابنا ، على أن من معاني " الصلاة " ، الدعاء ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17095 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ،
__________
(1) في المطبوعة : " ينوي بما ينفق " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) انظر تفسير " الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة ( صلا ) .

(14/432)


عن ابن عباس قوله(وصلوات الرسول) ، يعني : استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام.
17096 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول) ، قال : دعاء الرسول : قال : هذه ثَنِيَّةُ الله من الأعراب. (1)
17097 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، قال : هم بنو مقرِّن ، من مزينة ، وهم الذين قال الله فيهم : ( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ) ، [سورة التوبة : 92]. قال : هم بنو مقرّن ، من مزينة قال : حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : (الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا) ، ثم استثنى فقال : (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، الآية.
17098 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا جعفر ، عن البختريّ بن المختار العبدي قال ، سمعت عبد الرحمن بن معْقل قال : كنا عشرة ولد مقرّن ، فنزلت فينا : (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، إلى آخر الآية. (2)
* * *
__________
(1) " الثنية " ، ما استثنى من شيء ، وفي حديث كعب الأحبار : " الشهداء ثنية الله في الأرض " ، يعني هم من الذين استثناهم الله من الصعقة الأولى ، تأول ذلك في قوله تعالى : (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) ، فجعل منهم الشهداء ، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
(2) الأثر : 17098 - " البختري بن المختار العبدي " ، ثقة . مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 136 وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 427 .
و " عبد الرحمن بن معقل المزني " ، تابعي ثقة ، وعده بعضهم في الصحابة لهذا الحديث .
فقال الحافظ بن حجر : " إنما عنى بقوله : كنا أباه وأعمامه ، وأما هو فيصغر عن ذلك . ومن أعمامه عبد الرحمن بن مقرن ، ذكره ابن سعد في الصحابة " . وهو مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 122 ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 284 .
وكان في المطبوعة : " عبد الله بن مغفل " ، غير ما في المخطوطة ، وبدل ، وصحف ، وأساء إساءة لا يعذر فيها .

(14/433)


قال أبو جعفر : قال الله : (ألا إنها قُرْبة لهم) ، يقول تعالى ذكره : ألا إنّ صلوات الرسول قربة لهم من الله.
وقد يحتمل أن يكون معناه : ألا إنّ نفقته التي ينفقها كذلك ، قربةٌ لهم عند الله (سيدخلهم الله في رحمته) ، يقول : سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة (إن الله غفورٌ) ، لما اجترموا (رحيم) ، بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) ، ( رحم ) .

(14/434)


وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

القول في تأويل قوله : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله (من المهاجرين) ، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم ، وفارقوا منازلهم وأوطانهم (1) (والأنصار) ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله (2) (والذين اتبعوهم بإحسان) ، يقول : والذين سَلَكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله ، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، طلبَ رضا الله (3) (رضي الله عنهم ورضوا عنه).
__________
(1) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص : 173 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأنصار " فيما سلف 10 : 481 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة ( حسن ) .

(14/434)


واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : (والسابقون الأوّلون).
فقال بعضهم : هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، أو أدْركوا.
* ذكر من قال ذلك :
17099 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن إسماعيل ، عن عامر : (والسابقون الأوّلون) ، قال : من أدرك بيعة الرضوان.
17100 - ...... قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عامر قال : (المهاجرون الأوّلون) ، من أدرك البيعة تحت الشجرة.
17101 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : (المهاجرون الأولون) ، الذين شهدوا بيعة الرضوان.
17102 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان عن مطرف ، عن الشعبي قال : " المهاجرون الأولون " ، من كان قبل البيعة إلى البيعة ، فهم المهاجرون الأوّلون ، ومن كان بعد البيعة ، فليس من المهاجرين الأولين.
17103 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل ومطرف ، عن الشعبي قال : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
17104 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن داود ، عن عامر قال : فَصْل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية.
17105 - حدثني المثني قال ، أخبرنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرف ، عن الشعبي قال : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
17106 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبثر

(14/435)


أبو زبيد ، عن مطرف ، عن الشعبي قال : المهاجرون الأولون ، من أدرك بيعة الرضوان. (1)
* * *
وقال آخرون : بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
17107 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن عثمان الثقفي ، عن مولى لأبي موسى ، عن أبي موسى قال : المهاجرون الأولون ، من صلى القبلتين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
17108 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن مولى لأبي موسى قال : سألت أبا موسى الأشعري عن قوله : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
17109 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن قتادة قال : قلت لسعيد بن المسيب : لم سُمُّوا " المهاجرين الأولين " ؟ قال : من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعًا ، فهو من المهاجرين الأولين.
17110 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : المهاجرون الأولون ، الذين صلوا القبلتين.
17111 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قوله : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
17112 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عباس بن الوليد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 17106 - " عبثر ، أبو زبيد " ، هو " عبثر بن القاسم الزبيدي ، أبو زبيد " ، مضى برقم : 12402 ، وغيرها .

(14/436)


يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله.
17113 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب وعن أشعث ، عن ابن سيرين في قوله : (والسابقون الأولون) ، قال : هم الذين صلوا القبلتين.
17114 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا ابن عون ، عن محمد ، قال : المهاجرون الأولون : الذين صلوا القبلتين.
17115 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
* * *
وأما الذين اتبعوا المهاجرون الأولين والأنصار بإحسان ، فهم الذين أسلموا لله إسلامَهم ، وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما : -
17116 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب قال : مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) ، قال : من أقرأك هذه الآية ؟ (1) قال : أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال : لا تفارقْني حتى أذهب بك إليه ! فأتاه فقال : أنت أقرأت هذا هذه الآية ؟ قال : نعم! قال : وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال : [نعم!]. (2) لقد كنتُ أرانا رُفِعنا رَفْعَةً لا يبلُغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ : تصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة ، (3)
__________
(1) استفهام عمر ، كما سيظهر في رقم : 17118 ، عن قراءة الآية بخفض " الأنصار " بالواو في " والذين " ، وقراءته هو ، رفع " الأنصار " وبغير واو في قوله " الذين اتبعوهم " .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، ونقلتها من تفسير ابن كثير 4 : 229 .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " قال : وتصديق ذلك في أول الآية " . وهو غير مستقيم صوابه من تفسير ابن كثير 4 : 229 ، وانظر الأثر التالي .

(14/437)


وأوسط الحشر ، وآخر الأنفال. أما أول الجمعة : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) ، ، [سورة الجمعة : 3] ، وأوسط الحشر : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ) ، [سورة الحشر : 10] ، وأما آخر الأنفال : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ) ، [سورة الأنفال : 75].
17117 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحسن بن عطية قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، حتى بلغ : (ورضوا عنه) ، قال : وأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ قال : أبي بن كعب ! فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ! فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم! قال : أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم! قال : لقد كنت أظن أنّا رُفِعنا رَفْعة لا يبلغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ : بلى ، تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) ، إلى : ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، وفي سورة الحشر : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ) ، وفي الأنفال : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ) ، إلى آخر الآية.
* * *
وروي عن عمر في ذلك ما :
17118 - حدثني به أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن حبيب بن الشهيد ، وعن ابن عامر الأنصاري : أن عمر بن الخطاب قرأ : (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، فرفع " الأنصار " ولم يلحق الواو في " الذين " ، فقال له زيد بن ثابت " والذين اتبعوهم بإحسان " ، فقال عمر : " الذين اتبعوهم بإحسان " ، فقال زيد :

(14/438)


أمير المؤمنين أعلم! فقال عمر : ائتوني بأبيّ بن كعب. فأتاه ، فسأله عن ذلك ، فقال أبي : (والذين اتبعوهم بإحسان) ، فقال عمر : إذًا نتابع أبَيًّا.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة على خفض " الأنصار " ، عطفًا بهم على " المهاجرين " .
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ : (الأنْصَارُ) ، بالرفع ، عطفًا بهم على " السابقين " .
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز غيرها ، الخفضُ في(الأنْصَارِ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليه ، وأن السابق كان من الفريقين جميعًا ، من المهاجرين والأنصار ، وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين ، دون الخبر عن الجميع وإلحاق " الواو " في " الذين اتبعوهم بإحسان " ، (1) لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعًا ، على أن " التابعين بإحسان " ، غير " المهاجرين والأنصار " ، وأما " السابقون " ، فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله : (رضي الله عنهم ورضوا عنه).
* * *
ومعنى الكلام : رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه ، وأجابوا نبيّه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه ، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام (وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار) ، يدخلونها (خالدين فيها) ، لابثين فيها (2) (أبدًا) ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها (3) (ذلك الفوز العظيم). (4)
* * *
__________
(1) قوله : " وإلحاق الواو " معطوف على قوله : " والقراءة التي لا أستجيز غيرها ، الخفض . . . " .
(2) انظر تفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(3) انظر تفسير " أبدًا " فيما سلف ص : 175 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ص : 415 ، تعليق : 8 ، والمراجع هناك .

(14/439)


وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

القول في تأويل قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.
* * *
وقوله : (مردوا على النفاق) ، يقول : مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.
* * *
ومنه : " شيطانٌ مارد ، ومَرِيد " ، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل : " تمرَّد فلان على ربه " ، أي : عتَا ، ومرنَ على معصيته واعتادها. (1)
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما : -
17119 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، قال : أقاموا عليه ، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.
17120 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، أي لجُّوا فيه ، وأبوْا غيرَه. (2)
* * *
(لا تعلمهم) ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تعلم ، يا محمد ، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة ،
__________
(1) انظر تفسير " مريد " فيما سلف 9 : 211 ، 212 ، وفي المطبوعة : " أي : عتا ومرد على معصيته . . . " ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 17120 - سيرة ابن هشام 4 : 198 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17089 .

(14/440)


ولكنا نحن نعلمهم ، كما : -
17121 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (وممن حولكم من الأعراب منافقون) ، إلى قوله : (نحن نعلمهم) ، قال : فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس ؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام : ( وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، ، [سورة الشعراء : 112] ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام : ( بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) [سورة هود : 86] ، وقال الله لنبيه عليه السلام : (لا تعلمهم نحن نعلمهم).
* * *
وقوله : (سنعذبهم مرتين) ، يقول : سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين ، إحداهما في الدنيا ، والأخرى في القبر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ، ما هي ؟
فقال بعضهم : هي فضيحتهم ، فضحهم الله بكشف أمورهم ، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
* ذكر من قال ذلك :
17122 - حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قول الله : (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، إلى قوله : (عذاب عظيم) ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة ، فقال : اخرج يا فلان ، فإنك منافق. اخرج ، يا فلان ، فإنك منافق. فأخرج من المسجد ناسًا منهم ، فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد ، فاختبأ منهم حياءً

(14/441)


أنه لم يشهد الجمعة ، وظنّ أن الناس قد انصرفوا ، واختبأوا هم من عمر ، ظنّوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد ، فإذا الناس لم يصلُّوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر ، يا عمر ، فقد فضح الله المنافقين اليوم ! فهذا العذاب الأول ، حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني ، عذاب القبر. (1)
17123 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : (سنعذبهم مرتين) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين ، فيعذبهم بلسانه ، قال : وعذاب القبر.
* * *
[وقال آخرون : ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا.] (2)
* * *
ذكر من قال ذلك :
17124 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (سنعذبهم مرتين) ، قال : القتل والسِّبَاء.
17125 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (سنعذبهم مرتين) ، بالجوع ، وعذاب القبر. قال : (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يوم القيامة.
17126 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون ، والقاسم ، ويحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (سنعذبهم مرتين) ، قال : بالجوع والقتل وقال يحيى : الخوف والقتل. (3)
17127 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : بالجوع والقتل.
__________
(1) الأثر : 17122 - رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 33 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، وهو ضعيف " .
(2) هذه الترجمة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، استظهرتها من سياق الأخبار التالية .
(3) في المطبوعة : " بالجوع . . . " ، بالباء في أوله ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/442)


17128 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : (سنعذبهم مرتين) ، قال : بالجوع ، وعذاب القبر.
17129 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (سنعذبهم مرتين) ، قال : الجوع والقتل. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : سنعذبهم عذابًا في الدنيا ، وعذابًا في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
17130 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (سنعذبهم مرتين) ، عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال : " ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة ، (2) سِراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتًا. ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله ، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه ، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشُدُك الله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا والله ، ولا أومِن منها أحدًا بعدك !
17131 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (سنعذبهم مرتين) ، قال : عذاب الدنيا وعذاب القبر.
17132 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا حدثنا بدل بن المحبر قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة : (سنعذبهم مرتين) ، قال : عذابًا في الدنيا ، وعذابًا في القبر.
__________
(1) في المطبوعة : " بالجوع " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) " الدبيلة " في اللغة ، خراج ودمل كبير ، تظهر في الجوف ، فتقتل صاحبها غالبا ، وهي تصغير " دبلة " ( بضم الدال وسكون الباء ) ، بمثل معناها .

(14/443)


17133 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردّون إلى عذاب النار.
* * *
وقال آخرون : كان عذابهم إحدى المرتين ، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم ، والمرة الأخرى في جهنم.
* ذكر من قال ذلك :
17134 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : (سنعذبهم مرتين) ، قال : أما عذابٌ في الدنيا ، فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، [سورة التوبة : 55] ، بالمصائب فيهم ، هي لهم عذاب ، وهي للمؤمنين أجر. قال : وعذاب في الآخرة ، في النار (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، قال : النار.
* * *
وقال آخرون : بل إحدى المرتين ، الحدود ، والأخرى : عذابُ القبر.
ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرتضًى. (1)
* * *
وقال آخرون : بل إحدى المرتين ، أخذ الزكاة من أموالهم ، والأخرى عذابُ القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن.
* * *
وقال آخرون : بل إحدى المرتين ، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
17135 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (سنعذبهم مرتين) ، قال : العذاب الذي وعدَهم مرتين ، فيما بلغني ، غَمُّهم بما هم
__________
(1) في المطبوعة : " غير مرضي " . وأثبت ما في المخطوطة .

(14/444)


فيه من أمر الإسلام ، (1) وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة ، ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه ، ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه ، عذابُ الآخرة ، (2) والخُلْد فيه. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين ، ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين (4) وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ. (5) غير أن في قوله جل ثناؤه : (ثم يردّون إلى عذاب عظيم) ، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.
* * *
وقوله : (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يقول : ثم يردُّ هؤلاء المنافقون ، بعد تعذيب الله إياهم مرتين ، إلى عذاب عظيم ، وذلك عذاب جهنم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فيما بلغني عنهم ما هم فيه أمر الإسلام " ، والصواب من سيرة ابن هشام .
(2) في المطبوعة : " ويخلدون فيه " ، وفي المخطوطة : " ويخلد فيه " ، وصواب قراءتها من سيرة ابن هشام .
(3) الأثر : 17135 - سيرة ابن هشام 4 : 198 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17120 .
(4) في المطبوعة : " نتوصل به " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(5) في المطبوعة : " بأي ذلك من بأي ، على أن في قوله . . . " ، فحرف وبدل وأفسد الكلام إفسادًا .
وانظر القول في " أي ذلك كان من أي " فيما سلف ص : 365 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك ، فقد مضت أخواتها كثيرًا ، وحرفها الناسخ .

(14/445)


وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

القول في تأويل قوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق ، ومنهم " آخرون اعترفوا بذنوبهم " ، يقول : أقرُّوا بذنوبهم (خلطوا عملا صالحًا) ، يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ : اعترافهم بذنوبهم ، وتوبتهم منها ، والآخر السيئ : هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين خرج غازيًا ، وتركهم الجهادَ مع المسلمين.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، وإنما الكلام : خلطوا عملا صالحًا بآخر سيئ ؟
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فكان بعض نحويي البصرة يقول : قيل ذلك كذلك ، وجائز في العربية أن يكون " بآخر " ، (1) كما تقول " استوى الماء والخشبة " ، أي : بالخشبة ، " وخلطت الماء واللبن " .
وأنكر [آخر] أن يكون نظير قولهم (2) " استوى الماء والخشبة " . واعتلَّ في ذلك بأن الفعل في " الخلط " عامل في الأول والثاني ، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه ، وأن تقديم " الخشبة " على " الماء " غير جائز في قولهم : " استوى الماء والخشبة " ، وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك " الخلطَ " . (3)
__________
(1) لا شك أن الناسخ أسقط شيئًا من كلام أبي جعفر ، وهو ظاهر لمن تأمل . وانظر التعليق التالي .
(2) الذي بين القوسين في المطبوعة وحدها ، ولكنه كان فيها " آخرون " . أما المخطوطة ففيها : " وأنكر أن يكون نظير قولهم . . . " ، وهذا أيضا دال على إسقاط الناسخ بعض الكلام . وانظر التعليق التالي .
(3) في المطبوعة : " دليلا عندهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولكن الناشر الأول غيره ، لما وضع " آخرون " من عند نفسه . انظر التعليق السالف .
هذا ، وقد تركت الكلام على حاله ، لأني لا شك أن الناسخ تخطأ بعض كلام أبي جعفر .

(14/446)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أنه بمعنى قولهم : " خلطت الماء واللبن " ، بمعنى : خلطته باللبن.
* * *
" عسى الله أن يتوب عليهم " ، يقول : لعل الله أن يتوب عليهم " وعسى " من الله واجب ، (1) وإنما معناه : سيتوب الله عليهم ، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت " إن الله غفور رحيم " ، يقول : إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه ، وساترٌ له عليها " رحيم " ، به أن يعذبه بها. (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية ، والسبب الذي من أجله أنزلت فيه.
فقال بعضهم : نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، منهم أبو لبابة ، فربط سبعةٌ منهم أنفسهم إلى السّواري عند مَقْدم النبي صلى الله عليه وسلم ، توبةً منهم من ذنبهم.
* ذكر من قال ذلك :
17136 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال : كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم ، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. (3)
__________
(1) انظر تفسير " عسى " فيما سلف : ص 167 تعليق 5 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .
(3) في المطبوعة : " وكان " وأثبت ما في المخطوطة بالفاء .

(14/447)


فلما رآهم قال : " من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري ؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك ، يا رسول الله ، [وحلفوا لا يطلقهم أحد] ، حتى تطلقهم ، وتعذرهم. (1) فقال النبي عليه السلام : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم ، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا ! (2) فأنزل الله تبارك وتعالى : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) و " عسى " من الله واجب. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم.
* * *
وقال آخرون : بل كانوا ستة ، أحدهم أبو لبابة.
* ذكر من قال ذلك :
17137 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله) ، إلى قوله : (إن الله غفور رحيم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكّروا وندموا ، وأيقنوا بالهلكة ، وقالوا : " نكون في الكِنِّ والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالسّواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرُنا " ، فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد ، وبقي ثلاثةُ نفرٍ لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم " ، سقط بعض الكلام وتمامه في الدر المنثور : " وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم " ، وآثرت ما وضعته بين القوسين .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ونحن بالله " ، وآثرت ما كتبت .

(14/448)


من غزوته ، وكان طريقه في المسجد ، فمرَّ عليهم فقال : من هؤلاء الموثقو أنفسهِم بالسواري ؟ فقالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم ، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم ، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم ! فأنزل الله برحمته : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) و " عسى " من الله واجب فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعذرَهم ، وتجاوز عنهم.
* * *
وقال آخرون : الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية.
* ذكر من قال ذلك :
17138 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) ، قال : هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري ، منهم كرْدَم ، ومرداس ، وأبو لبابة.
17139 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : الذين ربطوا أنفسهم بالسواري : هلال ، وأبو لبابة ، وكردم ، ومرداس ، وأبو قيس. (1)
* * *
وقال آخرون : كانوا سبعة.
* ذكر من قال ذلك :
17140 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) هؤلاء خمسة ، لم يذكر تمام الثمانية ، كما تدل عليه ترجمة الكلام.

(14/449)


قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) ، ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْطٍ تخلفوا عن غزوة تبوك ، فأما أربعة فخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا : جدُّ بن قيس ، وأبو لبابة ، وحرام ، وأوس ، وكلهم من الأنصار ، وهم الذين قيل فيهم : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) ، الآية.
17141 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال : هم نفر ممن تخلف عن تبوك ، منهم أبو لبابة ، ومنهم جد بن قيس ، تِيبَ عليهم قال قتادة : وليسوا بثلاثة.
17142 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال : هم سبعة ، منهم أبو لبابة ، كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك ، وليسوا بالثلاثة.
17143 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، نزلت في أبي لبابة وأصحابه ، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فلما قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ، وكان قريبًا من المدينة ، ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا : " نكون في الظلال والأطعمة والنساء ، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا ! " وأوثقوا أنفسهم ، وبقي ثلاثة ، لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. (1) فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ، فمرّ في المسجد ، وكان طريقه ، فأبصرهم ، فسأل عنهم ، فقيل له : أبو لبابة وأصحابه ، تخلفوا عنك ، يا نبي الله ، فصنعوا بأنفسهم
__________
(1) " بالسواري " زيادة من المخطوطة ، ليست في المطبوعة .

(14/450)


ما ترى ، وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين ! فأنزل الله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى : (عسى الله أن يتوب عليهم) و " عسى " من الله واجب فأطلقهم نبيُّ الله وعذرهم.
* * *
وقال آخرون : بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة ، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه ، (1) ما كان من أمره في بني قريظة.
* ذكر من قال ذلك :
17144 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال : نزلت في أبي لبابة ، قال لبني قريظة ما قال.
17145 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال : أبو لبابة ، إذ قال لقريظة ما قال ، أشار إلى حلقه : إن محمدًا ذابحكم إن نزلتم على حُكْم الله.
17146 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فذكر نحوه إلا أنه قال : إن نزلتم على حكمه.
17147 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية ، فقال : لا أحلُّ نفسي حتى يحلني الله ورسوله ! قال : فحلَّه النبي صلى الله عليه وسلم : وفيه أنزلت هذه الآية : (وآخرون اعترفوا
__________
(1) في المطبوعة : " فتيب عليه منه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهي صواب محض .

(14/451)


بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا) ، الآية.
17148 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال : نزلت في أبي لبابة.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة ، بسبب تخلفه عن تبوك.
* ذكر من قال ذلك :
17149 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الزهري : كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فربط نفسه بسارية ، فقال : والله لا أحلّ نفسي منها ، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا ، حتى أموت أو يتوب الله عليّ ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا ، حتى خرّ مغشيا عليه ، قال : ثم تاب الله عليه ، ثم قيل له : قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال : والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني ! قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده. ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله ، إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله! قال : يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
* * *
وقال بعضهم : عني بهذه الآية الأعراب.
* ذكر من قال ذلك :
17150 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال : فقال إنهم من الأعراب.
17151 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه

(14/452)


الأمة من قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى : (إن إ لله غفور رحيم). (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قولُ من قال : نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركهم الجهادَ معه ، والخروجَ لغزو الروم ، حين شخص إلى تبوك وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة ، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه قال : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم ، ولم يكن المعترفُ بذنبه ، الموثقُ نفسه بالسارية في حصار قريظة ، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك [كذلك] ، (2) وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً ، عُلِم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد ، (3) فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة ، وكان لا جماعةَ فعلت ذلك ، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل ، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، صحَّ ما قلنا في ذلك. وقلنا : " كان منهم أبو لبابة " ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر : 17151 - " حجاج بن أبي زينب السلمي " ، " أبو يوسف الواسطي " ، " الصيقل " ، ضعيف ، ليس بقوي ولا حافظ . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 2 \ 373 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 161 ، وميزان الاعتدال 1 : 215 . وكان في المطبوعة : " بن أبي ذئب " ، وهو خطأ ، والمخطوطة برسم المطبوعة غير منقوطة .
و " أبو عثمان " ، هو النهدي ، " عبد الرحمن بن مل " ، ثقة ، أسلم على عهد رسول الله ولم يلقه . مضى مرارًا ، منها رقم : 13097 - 13100 .
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 273 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في التوبة ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان .
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق .
(3) في المطبوعة : " أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد " ، أساء قراءة المخطوطة ، فحرف وزاد من عنده ، ما أفسد الكلام وأهلكه .

(14/453)


خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

القول في تأويل قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها (صدقة تطهرهم) ، من دنس ذنوبهم (1) (وتزكيهم بها) ، يقول : وتنمِّيهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها ، إلى منازل أهل الإخلاص (2) (وصل عليهم) ، يقول : وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم ، واستغفر لهم منها (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول : إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم ، بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم (3) (والله سميع عليم) ، يقول : والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم ، ولغير ذلك من كلام خلقه (عليم) ، بما تطلب بهم بدعائك ربّك لهم ، وبغير ذلك من أمور عباده. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17152 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابه حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا ، واستغفر لنا ! قال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا! فأنزل الله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
__________
(1) انظر تفسير " التطهير " فيما سلف 12 : 549 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " التزكية " فيما سلف من فهارس اللغة ( زكا ) .
(3) انظر تفسير " الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة ( صلا ) .
وتفسير " سكن " فيما سلف 11 : 557 .
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .

(14/454)


وتزكيهم بها) ، يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص (وصل عليهم) ، يقول : استغفر لهم.
17153 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : خذ من أموالنا فتصدَّق بها عنا ، وصلِّ علينا يقولون : استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا آخذ منها شيئًا حتى أومر. فأنزل الله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، يقول : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا من أموالهم ، فتصدَّق بها عنهم.
17154 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم قال : لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسَّواري ، قالوا : يا رسول الله ، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها ! فأنزل الله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، الآية.
17155 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا عنهم : يا نبيّ الله ؛ طهِّر أموالنا ! فأنزل الله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الآخران مثله ، وكان عَمي منهم اثنان ، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِي.
17156 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأربعة : جدُّ بن قيس ، وأبو لبابة ، وحرام ، وأوس ، هم الذين قيل فيهم : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، أي وقارٌ لهم ، وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدَّقوا.

(14/455)


17157 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك ، قال : لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه ، أتوا نبيّ الله بأموالهم فقالوا : يا نبي الله ، خذ من أموالنا فتصدَّق به عنا ، وطهَّرنا ، وصلِّ علينا ! يقولون : استغفر لنا فقال نبي الله : لا آخذ من أموالكم شيئًا حتى أومر فيها فأنزل الله عز وجل : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، من ذنوبهم التي أصابوا (وصل عليهم) ، يقول : استغفر لهم. ففعل نبي الله عليه السلام ما أمره الله به.
17158 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : (خذ من أموالهم صدقة) ، أبو لبابة وأصحابه (وصل عليهم) ، يقول : استغفر لهم ، لذنوبهم التي كانوا أصابوا.
17159 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، قال : هؤلاء ناسٌ من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، اعترفوا بالنفاق ، وقالوا : يا رسول الله ، قد ارتبنا ونافقنا وشككنا ، ولكن توبةٌ جديدة ، وصدقةٌ نخرجها من أموالنا ! فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، بعد ما قال : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) ، [سورة التوبة : 84].
* * *
واختلف أهل العربية في وجه رفع " تزكيهم " .
فقال بعض نحويي البصرة : رفع " تزكيهم بها " ، في الابتداء ، وإن شئت جعلته من صفة " الصدقة " ، ثم جئت بها توكيدًا ، وكذلك " تطهرهم " .

(14/456)


وقال بعض نحويي الكوفة : إن كان قوله : (تطهرهم) ، للنبي عليه السلام فالاختيار أن تجزم ، لأنه لم يعد على " الصدقة " عائد ، (1) (وتزكيهم) ، مستأنَفٌ. وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها ، جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول ، أن قوله : (تطهرهم) ، من صلة " الصدقة " ، لأن القرأة مجمعة على رفعها ، وذلك دليل على أنه من صلة " الصدقة " . وأما قوله : (وتزكيهم بها) ، فخبر مستأنَفٌ ، بمعنى : وأنت تزكيهم بها ، فلذلك رفع.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (إن صلاتك سكن لهم).
فقال بعضهم : رحمة لهم.
* ذكر من قال ذلك :
17160 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول : رحمة لهم.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : إن صلاتك وقارٌ لهم.
* ذكر من قال ذلك :
17161 - حدثنا بشر قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إن صلاتك سكن لهم) ، أي : وقارٌ لهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة المدينة : (إِنَّ صَلوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ) بمعنى دعواتك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة " بأنه لم يعد " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/457)


أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

وقرأ قرأة العراق وبعض المكيين : ( إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) ، بمعنى : إن دعاءك.
* * *
قال أبو جعفر : وكأنَّ الذين قرأوا ذلك على التوحيد ، رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحُّ ، لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله : (إن صلواتك سكن لهم) ، إذ كانت " الصلوات " ، هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد ، دون ما هو أكثر من ذلك. والذي قالوا من ذلك ، عندنا كما قالوا ، وبالتوحيد عندنا القراءةُ لا العلة ، لأن ذلك في العدد أكثر من " الصلوات " ، (1) ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلواته أنه سكن لهؤلاء القوم ، (2) لا الخبر عن العدد. وإذا كان ذلك كذلك ، كان التوحيد في " الصلاة " أولى.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره ، أخبر به المؤمنين به : أن قبول توبة من تاب من المنافقين ، وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها ، ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأن نبيَّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه ، وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد ، وأن محمدًا إنما يفعل ما يفعل من تركٍ وإطلاقٍ
__________
(1) في المطبوعة : " وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد . . . " ، غير ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .
(2) في المطبوعة : " وصلاته " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/458)


وأخذِ صدقةٍ وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جل ثناؤه : ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين ، الموثقو أنفسهم بالسواري ، القائلون : " لا نُطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا " ، السَّائلو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخذَ صدقة أموالهم ، أنَّ ذلك ليس إلى محمد ، وأن ذلك إلى الله ، وأن الله هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده أو يردُّها ، ويأخذ صدقة من تصدَّق منهم أو يردُّها عليه دون محمد ، فيوجِّهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله ، ويقصدوا بذلك قصدَ وجهه دون محمد وغيره ، ويخلصوا التوبة له ، ويريدوه بصدقتهم ، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم ؟ يقول : المراجع لعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته ، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه. (1)
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما : -
17162 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : قال الآخرون يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء ، يعني الذين تابوا ، كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون ، فما لهم ؟ فقال الله : (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم). (2)
17163 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه قال شعبة : قال العوام بن حوشب : هو قتادة ، أو ابن قتادة ، رجل من محارب قال : سمعت عبد الله بن السائب وكان جاره قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ما من عبدٍ تصدق بصدقة إلا وقعت في يد الله ، فيكون هو الذي يضعُها في يد السائل. وتلا هذه الآية : (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات). (3)
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " ، " التواب " ، " الرحيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) ، ( رحم ) .
(2) انظر تفسير " التوبة " ، " التواب " ، " الرحيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) ، ( رحم ) .
(3) الأثر : 17163 - " قتادة " ، أو " ابن قتادة " ، رجل من محارب . لم أجده هكذا .
ولم أجد أحدًا تكلم في أمره أو ذكره . وصريح هذا الإسناد يدل على أن " قتادة " أو " ابن قتادة " المحاربي ، هذا ، هو الذي أخبر شعبة ، وهو الذي كان يأتي حمادًا ، ولم يجلس إليه ، وأنه هو الذي سمع من عبد الله بن السائب ، وكان جاره ، وأن " عبد الله بن السائب " هو الذي سمع من عبد الله ابن مسعود . وهذا إشكال :
فإن " عبد الله بن السائب " ، هو " عبد الله بن السائب الكندي " ، روى عن أبيه ، وزادان الكندي . وعبد الله بن معقل بن مقرن ، وعبد الله بن قتادة المحاربي ( كما سيأتي في الآثار التالية ) . وروى عنه الأعمش ، وأبو إسحاق الشيباني ، والعوام بن حوشب ، وسفيان الثوري . وهو ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 75 ، ولم يذكروا له رواية عن ابن مسعود كما ترى ، بل ذكروا روايته عن " عبد الله بن قتادة المحاربي " ، كما سيأتي في الآثار التالية .
فأنا أخشى أن يكون في إسناد هذا الخبر شيء ، بدلالة الآثار التي تليه ، وهي مستقيمة على ما ذكر في كتب الرجال ، وأخشى أن يكون شعبة سمعه عن رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه ، عن عبد الله بن السائب ، عن قتادة ، أو ابن قتادة ، رجل من محارب ثم سمعه من العوام بن حوشب ، عن عبد الله بن السائب ، عن قتادة ، أو قتادة ، رجل من محارب وأن يكون الناسخ قد أفسد الإسناد . وانظر الكلام على " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " أو " عبد الله بن قتادة " في التعليق على الآثار التالية .

(14/459)


17164 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي ، عن عبد الله بن مسعود قال : ما تصدَّق رجلٌ بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ، ويأخذ الصدقات). (1)
17165 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن ابن مسعود ، بنحوه. (2)
17166 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة قال ، قال عبد الله : إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية : (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (3)
__________
(1) الآثار : 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي " ، مضى في التعليق السالف .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " ، فهو هكذا في جميعها ، إلا في رقم : 17165 ، فإنه في المخطوطة : " عبد الله بن قتادة " ، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه .
وأما كتب التراجم ، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي " ، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال : " روي عن عبد الله بن مسعود ، روى عنه عبد الله بن السائب ، سمعت أبي يقول ذلك " . وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة : 233 ، وقال : " عن ابن مسعود ، وعنه عبد الله بن السائب ، وثقه ابن حبان " ، ثم قال : " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال : روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة ، قاله الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عنه " .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة " ، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر .
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 275 ، ونسبه إلى عبد الرزاق ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم ، والطبراني .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 111 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، وفيه : عبد الله بن قتادة المحاربي ، لم يضعفه أحد ، وبقية رجاله ثقات " .
(2) الآثار : 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي " ، مضى في التعليق السالف .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " ، فهو هكذا في جميعها ، إلا في رقم : 17165 ، فإنه في المخطوطة : " عبد الله بن قتادة " ، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه .
وأما كتب التراجم ، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي " ، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال : " روي عن عبد الله بن مسعود ، روى عنه عبد الله بن السائب ، سمعت أبي يقول ذلك " . وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة : 233 ، وقال : " عن ابن مسعود ، وعنه عبد الله بن السائب ، وثقه ابن حبان " ، ثم قال : " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال : روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة ، قاله الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عنه " .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة " ، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر .
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 275 ، ونسبه إلى عبد الرزاق ، والحكم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم ، والطبراني .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 111 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، وفيه : عبد الله بن قتادة المحاربي ، لم يضعفه أحد ، وبقية رجاله ثقات " .
(3) الآثار : 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي " ، مضى في التعليق السالف .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " ، فهو هكذا في جميعها ، إلا في رقم : 17165 ، فإنه في المخطوطة : " عبد الله بن قتادة " ، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه .
وأما كتب التراجم ، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي " ، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال : " روي عن عبد الله بن مسعود ، روى عنه عبد الله بن السائب ، سمعت أبي يقول ذلك " . وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة : 233 ، وقال : " عن ابن مسعود ، وعنه عبد الله بن السائب ، وثقه ابن حبان " ، ثم قال : " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال : روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة ، قاله الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عنه " .
وأما " عبد الله بن أبي قتادة " ، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر .
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 275 ، ونسبه إلى عبد الرزاق ، والحكم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم ، والطبراني .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 111 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، وفيه : عبد الله بن قتادة المحاربي ، لم يضعفه أحد ، وبقية رجاله ثقات " .

(14/460)


17168 - حدثنا أبو كريب [قال ، حدثنا وكيع] قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن القاسم : أنه سمع أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ، فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدكم مُهْرَه ، حتى إن اللقمة لتصيرُ مثل أُحُدٍ. وتصديق ذلك في كتاب الله : (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، (1) و( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) ، (2) [سورة البقرة : 276]
17169 - حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الرَّقى قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن عباد بن منصور ، عن القاسم ، عن أبي هريرة ، ولا أراه إلا قد رفعه قال : إن الله يقبل الصدقة ثم ذكر نحوه. (3)
__________
(1) هكذا جاءت الآية في المخطوطة " وهو الذي يقبل التوبة " ، كما رواه أحمد في المسند أيضا رقم : 10090 ، بهذا الإسناد ، بمثل هذا الخطأ ، فإن التلاوة : " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة . . . " ، وقد استظهر أخي السيد أحمد أنه خطأ قديم ، كما قال في التعليق على الخبر رقم : 6253 فيما سلف . وأما في المطبوعة ، فقد صححها الناشر " أن الله هو يقبل التوبة . . . " .وأثبت ما في المخطوطة ليعلم هذا الخطأ .
(2) الأثر : 17168 - سلف هذا الخبر بهذا الإسناد برقم : 6253 ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك .
(3) الأثر : 17169 - " سليمان بن عمر بن خالد الأقطع الرقي " ، مضى برقم : 6254 ، وكان في المطبوعة " الربى " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وصواب قراءتها " الرقى " .
مضى برقم : 6254 ، وخرجه أخي السيد أحمد فيما سلف .

(14/461)


وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

17170 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة قال : إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيِّب ، ويأخذها بيمينه ، وإن الرّجل يتصدق بمثل اللقمة ، فيربِّيها الله له كما يربِّي أحدكم فصيله أو مُهْره ، فتربو في كف الله أو قال : في يد الله حتى تكون مثل الجبل. (1)
17171 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " والذي نفس محمد بيده ، لا يتصدق رجلٌ بصدقة فتقع في يد السائل ، حتى تقع في يد الله!
17172 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (وأن الله هو التواب الرحيم) ، يعني : إن استقاموا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وقل) ، يا محمد ، لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك (اعملوا) ، لله بما يرضيه ، من طاعته ، وأداء فرائضه (فسيرى الله عملكم ورسوله) ،
__________
(1) الأثر : 17170 - مضى برقم : 6256 ، من طريق محمد بن عبد الملك ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، بنحوه . وخرجه أخي السيد أحمد هناك ، وأشار إلى رواية الطبري في هذا الموضع ، وصحح إسناده هذا .

(14/462)


يقول : فسيرى الله إن عملتم عملكم ، ويراه رسوله والمؤمنون ، في الدنيا (وستردون) ، يوم القيامة ، إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم ، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركم وظواهرها (1) (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، يقول : فيخبركم بما كنتم تعملون ، (2) وما منه خالصًا ، وما منه رياءً ، وما منه طاعةً ، وما منه لله معصية ، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
* * *
17173 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، قال : هذا وعيدٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غيب ) ، ( شهد ) .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) .
(3) عند هذا الموضع انتهى الجزء الحادي عشر من مخطوطتنا ، وفي نهايته ما نصه :
" نجز المجلد الحادي عشر من كتاب البيان ، بحمد الله وعونه وحُسْن توفيقه يتلوه في الجزء الثاني عشر ، إن شاء الله تعالى : القول في تأويل قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
وكان الفراغ من نسخه في شهر شعبان المبارك سنة خمس عشرة وسبعمائة . غفر الله لمؤلفه ، ولصاحبه ، ولكاتبه ، ولجميع المسلمين .
آمين ، آمين ، آمين ، آمين "
ثم يتلوه الجزء الثاني عشر ، وأوله :
" بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ " .

(14/463)


وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

القول في تأويل قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المتخلفين عنكم حين شخصتم لعدوّكم ، أيها المؤمنون ، آخرون.
* * *
ورفع قوله : " آخرون " ، عطفًا على قوله : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا).
* * *
(وآخرون مرجون) ، يعني : مُرْجئون لأمر الله وَقضائه.
* * *
يقال منه : " أرجأته أرجئه إرجاء وهو مرجَأ " ، بالهمز وترك الهمز ، وهما لغتان معناهما واحد. وقد قرأت القرأة بهما جميعا. (1)
* * *
وقيل : عُني بهؤلاء الآخرين ، نفرٌ ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فندموا على ما فعلوا ، ولم يعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري ، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحَّت توبتهم ، فتاب عليهم وعفا عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17174 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : وكان ثلاثة منهم يعني : من المتخلفين عن
__________
(1) انظر تفسير " الإرجاء " فيما سلف 13 : 20 ، 21 .

(14/464)


غزوه تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري ، أرجئوا سَبْتَةً ، (1) لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم ، فأنزل الله : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ) ، إلى قوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ، [سورة التوبة : 117 ، 118].
17175 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية يعني قوله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدَّق بها عنهم ، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة ، ولم يوثقوا ، ولم يذكروا بشيء ، ولم ينزل عذرهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وهم الذين قال الله : (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم). فجعل الناس يقولون : هلكوا! إذ لم ينزل لهم عذر ، وجعل آخرون يقولون : عسى الله أن يغفرَ لهم ! فصاروا مرجئين لأمر الله ، حتى نزلت : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) ، الذين خرجوا معه إلى الشام ( مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ، ثم قال : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) ، يعني المرجئين لأمر الله ، نزلت عليهم التوبة ، فعُمُّوا بها ، فقال : ( حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) ، إلى قوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).
17176 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال : هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
17177 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " سبتة " ، أي برهة من الدهر .

(14/465)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال : هلال بن أمية ، ومرارة بن ربعيّ ، وكعب بن مالك ، من الأوس والخزرج.
17178 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هلال بن أمية ، ومرارة بن ربعيّ ، وكعب بن مالك ، من الأوس والخزرج. (1)
17179 - ...... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17180 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17181 - ...... قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
17182 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد : غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينزل الله عذرهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : " هلكوا " ، حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه.
__________
(1) الأثر : 17177 - " مرارة بن ربعي " ، هكذا جاء في المخطوطة في هذا الخبر ، وفي الذي يليه . وصححه في المطبوعة : " مرارة بن الربيع " ثم جاء في رقم : 17183 في المخطوطة : " مرارة بن ربيعة " ، وكلاهما غير المشهور المعروف في كتب تراجم الصحابة ، والكتب الصحاح ، فهو فيها جميعا " مرارة بن الربيع الأنصاري " ، من بني عمرو بن عوف .
وأما " مرارة بن ربعي بن عدي بن يزيد بن جشم " ، فلم يذكره غير ابن الكلبي ، وقال : " كان أحد البكائين " .
فأثبت ما في مخطوطة الطبري ، لاتفاق الاسم بذلك في مواضع ، وأخشى أن يكون في اسمه خلاف لم يقع إلي خبره . وانظر ما سيأتي برقم : 17436 .
ثم انظر رقم : 17433 ، وما بعده ، وفيها " ابن ربيعة " و " ابن الربيع " .

(14/466)


وتقول فرقة أخرى : " عسى الله أن يعفو عنهم ! " ، وكانوا مرجئين لأمر الله. ثم أنزل الله رحمته ومغفرته فقال : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ) الآية ، وأنزل : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) ، الآية.
17183 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال : كنا نُحدَّث أنهم الثلاثة الذين خُلّفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن ربيعة ، رهط من الأنصار. (1)
17184 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال : هم الثلاثة الذين خُلّفوا.
17185 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) ، وهم الثلاثة الذين خلفوا ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، حتى أتتهم توبتهم من الله. (2)
* * *
وأما قوله : (إما يعذبهم) ، فإنه يعني : إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه ، فيعذبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة (وإما يتوب عليهم) ، يقول : وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم ، فيغفر لهم (والله عليم حكيم) ، يقول : والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه ، لا يدخل حكمه خَلَلٌ. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 17183 - " مرارة بن ربيعة " ، المعروف " مرارة بن الربيع " ، ولكن هكذا جاء في المخطوطة ، وصححه الناشر في المطبوعة . وانظر رقم : 17177 .
(2) الأثر : 17185 - سيرة ابن هشام 4 : 198 ، 199 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17135 .
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) و ( حكم ) .

(14/467)


وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا ، وهم ، فيما ذكر ، اثنا عشر نفسًا من الأنصار.
* ذكر من قال ذلك :
17186 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني : من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة والليلة المطِيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ! فقال : إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قَدْ قَدمنا أتيناكم إن شاء الله ، فصلَّينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان ، أتاه خبرُ المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم ، أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي أو أخاه : عاصم بن عدي أخا بني العجلان فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه ! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنْظِرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي ! فدخل [إلى] أهله ، فأخذ سَعفًا من النخل ، فأشعل فيه نارًا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرّقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه

(14/468)


اثني عشر رجلا خِذَام بن خالد ، من بني عبيد بن زيد ، (1) أحد بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب ، من بني عبيد ، وهو إلى بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير ، من بني ضبيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر ، من بني ضبيعة بن زيد وعباد بن حنيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف وجارية بن عامر ، وابناه : مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ، ونبتل بن الحارث ، وهم من بني ضبيعة وبَحْزَج ، (2) وهو إلى بني ضبيعة وبجاد بن عثمان ، وهو من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت ، وهو إلى بني أمية ، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرًا بالله لمحادّتهم بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ويفرِّقوا به المؤمنين ، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، يقول : وإعدادًا له ، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله ، وكفر بهما ، وقاتل رسول الله (من قبل) ، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب يعني : حزّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خذله الله ، لحق بالروم يطلب النَّصْر من ملكهم على نبي الله ، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار (4) يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه ، فيما ذكر عنه ، ليصلي فيه ، فيما يزعم ، إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " خذام بن خالد بن عبيد " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام .
(2) في المطبوعة : " وبخدج " ، والصواب ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام .
(3) الأثر : 17186 - سيرة ابن هشام 4 : 173 ، 174 .
(4) انظر تفسير " الضرار " فيما سلف 5 : 7 ، 8 ، 46 ، 53 / 6 : 85 - 91 .

(14/469)


رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه : (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل).
(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) ، يقول جل ثناؤه : وليحلفن بانوه : " إن أردنا إلا الحسنى " ، ببنائناه ، إلا الرفق بالمسلمين ، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه ، (1) وتلك هي الفعلة الحسنة (والله يشهد إنهم لكاذبون) ، في حلفهم ذلك ، وقيلهم : " ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى! " ، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السُّوآى ، ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرًا بالله ، وتفريقًا بين المؤمنين ، وإرصادًا لأبي عامر الفاسق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17187 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن ابن عباس قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا ، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم ، واستعدُّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم ، فأخرج محمدًا وأصحابه ! فلما فرغوا من مسجدهم ، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحبُّ أن تصلي فيه ، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه : ( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) ، إلى قوله : ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ).
17188 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا
__________
(1) في المطبوعة : " ومن عجز عن المسير " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .

(14/470)


ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قُباء ، خرج رجالٌ من الأنصار ، منهم : بحزج ، (1) جدُّ عبد الله بن حنيف ، (2) ووديعة بن حزام ، ومجمع بن جارية الأنصاري ، فبَنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج (3) ويلك! ما أردت إلى ما أرى! فقال : يا رسول الله ، والله ما أردت إلا الحسنى ! وهو كاذب ، فصدَّقه رسول الله وأراد أن يعذِره ، فأنزل الله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، يعني رجلا منهم يقال له " أبو عامر " كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد انطلق إلى هرقل ، فكانوا يرصدون [إذا قدم] أبو عامر أن يصلي فيه ، (4) وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
17189 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ،
__________
(1) في المطبوعة : " بخدج " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام 4 : 174 ، كما سلف في رقم : 17186 . ورأيت بعد في المحبر : 47 : " بخدج " ولم أتمكن من تصحيحه . ثم انظر جمهرة الأنساب لابن حزم : 316 في نسب " سهل بن حنيف " ، و " عثمان بن حنيف " ، و " عباد بن حنيف " . وانظر التعليق التالي .
(2) ما أدري قوله : " جد عبد الله بن حنيف " ، ولست أدري أهو من كلام ابن عباس أو من كلام غيره ، وإن كنت أرجح أنه من كلام غيره ، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين " عبد الله بن حنيف " ، وجده " بحزج " . والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار : " عباد بن حنيف " ، أخو " سهل بن حنيف " . فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء ، فاختلط الكلام . وفي نسب " سهل بن حنيف " " عمرو ، وهو بحزج ، بن حنش بن عوف بن عمرو " ( انظر ابن سعد 3 / 2 / 39 ، ثم : 5 : 59 ) ، وجمهرة الأنساب لابن حزم : 316 ، ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية ، وهو بلا شك غير " بحزج " ، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار .
فهذا الذي هنا يحتاج إلى فضل تحقيق ، لم أتمكن من بلوغه .
(3) في المطبوعة : " لبخدج " ، وانظر التعليقات السالفة .
(4) في المطبوعة ، ساق الكلام سياقا واحدا هكذا : " وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه " ، وفي المخطوطة : " وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه " ، وبين الكلامين بياض ، وفي الهامش حرف ( ط ) دلالة على الخطأ ، وأثبت ما بين القوسين من الدر المنثور 1 : 276 ، وروى الخبر من طريق ابن مردويه ، وابن أبي حاتم . وهذا الذي أثبته يطابق في معناه ما سيأتي في الآثار التالية .

(14/471)


قال : أبو عامر الراهب ، انطلق إلى قيصر ، فقالوا : " إذا جاء يصلي فيه " ، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
17190 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، قال المنافقون (لمن حارب الله ورسوله) ، لأبي عامر الراهب.
17191 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17192 - ...... قال ، حدثنا أبو إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال : نزلت في المنافقين وقوله : (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال : هو أبو عامر الراهب.
17193 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17194 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال : هم بنو غنم بن عوف.
17195 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال : هم حيّ يقال لهم : " بنو غنم " .
17196 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال : هم حي يقال لهم : " بنو غنم " قال أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ،

(14/472)


أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم ، فقال الذين بنوا مسجد الضرار : إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
17197 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، الآية ، عمد ناسٌ من أهل النفاق ، فابتنوا مسجدًا بقباء ، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلِّي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم ، حتى أطلعه الله على ذلك وأما قوله : (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، فإنه كان رجلا يقال له : " أبو عامر " ، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين ، فقتلوه بإسلامه. (1) قال : إذا جاء صلى فيه ، فأنزل الله : (لا تقم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى) ، الآية.
17198 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، هم ناس من المنافقين ، بنوا مسجدًا بقباء يُضارُّون به نبيّ الله والمسلمين (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، كانوا يقولون : إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون : إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
17199 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال : مسجد قباء ، كانوا يصلون فيه كلهم. وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له : " أبو عامر " ، أبو : " حنظلة غسيل الملائكة " ،
__________
(1) قوله : " فقتلوه بإسلامه " ، كلام صحيح ، وإن ظن بعضهم أنه لا يستقيم ، وذلك أن أبا عامر الراهب ، لما خرج إلى الروم مات هناك سنة تسع أو عشر . ( الإصابة في ترجمة ولده : حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر ) . فكأنه يقال أيضا أن الروم قتلته بإسلامه ، كما جاء في هذا الخبر . وأما قوله بعد : " قال : إذا جاء صلى فيه " ، فهو من كلام قتادة . وانظر الأخبار التالية ، فإنه يقال إنه تنصر .

(14/473)


لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

و " صيفي " ، [واحق]. (1) وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين ، فخرج أبو عامر هاربًا هو وابن عبد ياليل ، من ثقيف ، (2) وعلقمة بن علاثة ، من قيس ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبد ياليل ، (3) فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر ، فتنصر وأقام. قال : وبنى ناسٌ من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر ، قالوا : " حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه " ، وتفريقًا بين المؤمنين ، يفرقون به جماعتهم ، (4) لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ربما جاء السيلُ ، فيقطع بيننا وبين الوادي ، (5) ويحول بيننا وبين القوم ، ونصلي في مسجدنا ، (6) فإذا ذهب السيل صلينا معهم ! قال : وبنوه على النفاق. قال : وانهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : وألقى الناس عليه التِّبن والقُمامة ، (7) فأنزل الله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، لئلا يصلي في مسجد قباء جميعُ المؤمنين (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، أبي عامر (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
17200 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن أبي جعفر ، عن ليث : أن شقيقًا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلُّوا بعدُ ! فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بُني على ضرار ، وكل مسجد بُنِيَ ضرارًا أو رياءً أو سمعة ، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تقم ، يا محمد ، في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون ، ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين ، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال : (لمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم) ، أنت (فيه).
* * *
يعني بقوله : (أسس على التقوى) ، ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته (من أول يوم) ، ابتدئ في بنائه (أحق أن تقوم فيه) ، يقول : أولى أن تقوم فيه مصلِّيًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأخيه " ، والذي في المخطوطة كما أثبته غير مقروء قراءة ترتضي . وممكن أن تكون " وأخوه " ، ولكنه عندئذ خطأ ، صوابه أن يكون و " أخيه " ، كما أثبته ناشر المطبوعة .
بيد أن السياق يدل على أن ما بين القوسين اسم ثالث ، وهو اسم أخي حنظلة ، وصيفي ، ولم استطع أن أجد خبر ذلك .
وأما " صيفي " ، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة " صيفي " ، وأنه كان ممن شهد أحدا ، ونسب ذلك إلى ابن سعد والطبراني ، ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد .
(2) الذي جاء في المخطوطة والمطبوعة : " ابن بالين " ، وإن كان في المخطوطة غير منقوط .
وهو خطأ لا شك فيه عندي ، وأن صوابه : " وابن عبد ياليل " كما أثبته . فإن ابن عبد البر في الاستيعاب : 105 ، في ترجمة " حنظلة الغسيل " ، ذكر أن أبا عمر الفاسق لما فتحت مكة ، لحق بهرقل هاربا إلى الروم ، فمات كافرا عند هرقل ، وكان معه هناك " كنانة بن عبد ياليل " و " علقمة بن علاثة " ، فاختصما في ميراثه إلى هرقل ، فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل ، وقال لعلقمة : هما من أهل المدر ، وأنت من أهل الوبر .
و " كنانة بن عبد ياليل الثقفي " ، ترجم له ابن حجر في القسم الرابع ، وذكره ابن سلام الجمحي ، في طبقات فحول الشعراء ص : 217 ، في شعراء الطائف ، ولم يورد له خبرا بعد ذكره .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وابن بالين " ، وفي المخطوطة غير منقوطة . انظر التعليق السالف .
(4) في المطبوعة : " بين جماعتهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(5) في المطبوعة : " يقطع " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(6) في المطبوعة : " فنصلي " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(7) في المطبوعة : " النتن والقامة " والصواب ما في المخطوطة . و " التبن " عصيفة الزرع ، فهو الذي يلقى . وأما " النتن " فالرائحة الكريهة ، فكأنه ظن أن " النتن " مجاز لمعنى " الأقذار " ، لنتن رائحتها ! وهو باطل .

(14/474)


وقيل : معنى قوله : (من أول يوم) ، مبدأ أول يوم كما تقول العرب : " لم أره من يوم كذا " ، بمعنى : مبدؤه و " من أول يوم " ، يراد به : من أول الأيام ، كقول القائل : " لقيت كلَّ رجل " ، بمعنى كل الرجال.
* * *
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه بقوله : (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم).
فقال بعضهم : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم.
* * *
* ذكر من قال ذلك :
17201 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن عثمان بن عبيد الله قال : أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر ، أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى ، أيّ مسجد هو ؟ مسجد المدينة ، أو مسجد قباء ؟ قال : لا مسجد المدينة. (1)
17202 - ...... قال ، حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي ، عن الدراوردي ، عن عثمان بن عبيد الله ، عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي سعيد قالوا : المسجد الذي أسس على التقوى ، مسجد الرسول. (2)
__________
(1) الأثر : 17201 - " إبراهيم بن طهمان الخراساني " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 3762 ، 3727 ، 4931 .
و " عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع " ، مولى سعيد بن العاص . رأى أبا هريرة ، وأبا قتادة ، وابن عمر ، وأبا أسيد ، يضفرون لحاهم . مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 156 . وسيأتي في الأثرين التاليين رقم : 17202 ، 17203 .
وأما قوله : " أرسلني محمد بن أبي هريرة " ، فإني أرتاب فيه كل الارتياب ، وأرجح أنه : " محرر بن أبي هريرة " ، ولم أجد لأبي هريرة ولد يقال له " محمد " ، بل ولده هم " المحرر بن هريرة " ، و " وعبد الرحمن بن أبي هريرة " ، و " بلال بن أبي هريرة " . ومضى " المحرر بن أبي هريرة " برقم : 2863 ، 16368 - 16370 .
(2) الأثر : 17202 - " القاسم بن عمرو بن محمد العنقزي " ، مولى قريش ، سمع أباه . مترجم في الكبير 4 / 1 / 172 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 115 ، ولم يذكرا فيه جرحا .
" الدراوردي " ، هو " عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 10676 ، 15714 .
و " عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع " ، مضى في الأثر السالف .

(14/476)


17203 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن ربيعة بن عثمان ، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال : سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : هو مسجد الرسول. (1)
17204 - ...... قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد قال : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17205 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد قال : هو مسجد الرسول.
17206 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حميد الخراط المدني قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال لي : [قال أبي] (2) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه في بيت بعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أيُّ مسجدٍ الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : هو مسجدكم هذا! [فقلت] : (3) هكذا سمعت أباك يذكره. (4)
__________
(1) الأثر : 17203 - " ربيعة بن عثمان بن ربيعة التيمي " ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 264 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 476 .
و " عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع " ، مضى في الأثرين السالفين .
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من لفظ حديث مسلم . ولو قلت " قال قال أبي " ، لكان مطابقا لما في المسند .
(3) في المخطوطة : " ثم هكذا سمعت أباك يذكر " ، وفي المطبوعة حذف " ثم " وجعل " يذكر " ، " يذكره " . فزدت ما بين القوسين إتماما للسياق . ونص روايته مسلم : " قالت فقلت : أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره " .
(4) الأثر : 17206 - رواه مسلم في صحيحه 9 : 168 ، 169 من هذه الطريق نفسها ، مع اختلاف يسير في بعض لفظه .
ورواه أحمد في مسنده 3 : 24 ، من هذه الطريق ، نفسها مع خلاف في بعض لفظه .

(14/477)


17207 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : المسجد الذي أسس على التقوى ، هو مسجدُ النبيِّ الأعظمُ.
17208 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب قال : إن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، هو مسجد المدينة الأكبر.
17209 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود قال ، قال سعيد بن المسيب ، فذكر مثله إلا أنه قال : الأعظم.
17210 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن حرملة ، عن سعيد بن المسيب قال : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17211 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : أحسبه عن أبيه قال : مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي أسس على التقوى.
* * *
وقال آخرون : بل عني بذلك مسجد قُباء.
* ذكر من قال ذلك :
17212 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، يعني مسجد قُباء.
17213 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، نحوه.
17214 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، هو مسجد قباء.

(14/478)


17215 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن صالح بن حيان ، عن ابن بريدة قال : مسجد قُباء ، الذي أسس على التقوى ، بناه نبي الله صلى الله عليه وسلم. (1)
17216 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : المسجد الذي أسس على التقوى ، مسجد قباء.
17217 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير : الذين بُني فيهم المسجدُ الذي أسس على التقوى ، بنو عمرو بن عوف.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لصحة الخبَر بذلك عن رسول الله. (2)
* ذكر الرواية بذلك.
17218 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قال أبو كريب : حدثنا وكيع وقال ابن وكيع : حدثنا أبي عن ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس ، رجل من الأنصار ، عن سهل بن سعد قال ، اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد النبيّ! وقال الآخر : هو مسجد قباء! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال : هو مسجدي هذا اللفظ لحديث أبي كريب ، وحديث سفيان نحوه. (3)
__________
(1) الأثر : 17215 - " صالح بن حيان القرشي " ، ضعيف الحديث ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 276 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 398 ، وميزان الاعتدال 1 : 455 .
" ابن بريدة " ، هو " عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي " ، ثقة ، مضى برقم : 12523 .
(2) يعني الخبر الذي رواه أحمد ومسلم وأبو جعفر آنفا برقم : 17206 ، وما سيأتي من الأخبار .
(3) الأثر : 17218 - " ربيعة بن عثمان التيمي " ، ثقة ، مضى برقم : 17203 .
و " عمران بن أبي أنس العامري المصري " ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 2 294 .
وأما قول أبي جعفر " رجل من الأنصار " ، فظني أن ذلك لأنه يقال إنه مولى " أبي خراش السلمي ، أو الأسلمي " ، قال ابن سعد : " كانوا يزعمون أنهم من بني عامر بن لؤى ، والناس يقولون إنهم موالي ، ثم انتموا بعد ذلك إلى اليمن " .
ولم أجدهم ذكروا له سماعا من سهل بن سعد الأنصاري ، وهو خليق أن يروى عنه ، لأن سهل بن سعد مات سنة 88 ، وعمران مات سنة 117 .
و " سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري " ، له ولأبيه صحبة ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بن كعب ، وعاصم بن عدي ، وعمرو بن عبسة ، ومروان بن الحكم ، وهو دونه .
وهذا الخبر تفرد به أحمد من هذه الطريق نفسها ، في مسنده 5 : 331 ، ثم رواه في ص : 335 ، من طريق عبد الله بن عامر ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، وانظر الخبر التالي .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 34 ، وقال : " رواه أحمد والطبراني باختصار ، ورجالهما رجال الصحيح " .

(14/479)


17219 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو نعيم ، عن عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : مسجدي هذا. (1)
17220 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن وهب قال ، حدثني الليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء! وقال آخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله : هو مسجدي هذا. (2)
17221 - حدثني بحر بن نصر الخولاني قال ، قرئ على شعيب بن الليث ،
__________
(1) الأثر : 17219 - " عبد الله بن عامر الأسلمي " ، ضعيف ، ذاهب الحديث ، مضى برقم : 15586 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 117 ، من طريق أبي نعيم ، عن عبد الله بن عامر الأسلمي ، ومن طريق عبد الله بن الحارث الأسلمي ، عن عبد الله بن عامر .
وهذا إسناد ضعيف ، لضعف " عبد الله بن عامر الأسلمي " .
(2) الأثر : 17220 - هذا حديث صحيح ، رواه الترمذي في كتاب التفسير ، ورواه أحمد في مسنده 3 : 8 ، 89 ، وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح . وقد روى هذا عن أبي سعيد من غير هذا الوجه ، رواه أنيس بن أبي يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد " ، وهو ما سيرويه ، أبو جعفر من رقم : 17222 - 17224 .

(14/480)


عن أبيه ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري قال : تمارى رجلان ، فذكر مثله. (1)
17222 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني سَحْبَل بن محمد بن أبي يحيى قال ، سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدث ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسجد الذي أسس على التقوى ، مسجدي هذا ، وفي كلٍّ خيرٌ. (2)
17223 - حدثني المثنى قال ، حدثني الحماني قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن أنيس ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (3)
17224 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا صفوان بن عيسى قال ، أخبرنا أنيس بن أبي يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد : أن رجلا من بني خُدْرة
__________
(1) الأثر : 17221 - " بحر بن نصر بن سابق الخولاني " ، شيخ أبي جعفر ، مضى برقم : 10588 ، 10647 .
وهذا الخبر ، ذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 243 ، من مسند أحمد قال : " حدثنا موسى بن داود قال ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد قال : تمارى رجلان " . ولم أستطع أن أستخرجه من المسند في ساعتي هذه ، وقال ابن كثير : " تفرد به أحمد " .
(2) الأثر : 17222 - " سحبل بن محمد بن أبي يحيى سمعان الأسلمي " ، هو " عبد الله بن محمد بن أبي يحيى " ، وقد ينسب إلى جده . ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 156 .
وفي بعض الكتب غير مضبوط " سحيل " بالياء ، وضبطه في التقريب بفتح السين المهملة ، وسكون الحاء ، بعدها موحدة . وكان في المطبوعة : " سجل " ، والصواب ما في المخطوطة .
و " أنيس بن أبي يحيى سمعان الأسلمي " ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 43 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 334 .
وأبوه " سمعان " ، " أبو يحيى ، الأسلمي " ، تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 205 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 316 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3 : 23 من طريق : يحيى ، عن أنيس بن أبي يحيى ، بنحوه .
ثم رواه أيضا 3 : 91 من طريق صفوان ، عن أنيس ، بنحوه ( رواه أبو جعفر برقم : 17224 ) .
وإسناده صحيح . وسيأتي من طرق أخرى بعده .
(3) الأثر : 17223 - مكرر الذي قبله .

(14/481)


ورجلا من بني عمرو بن عوف ، امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدريُّ : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العوفي : هو مسجد قباء. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه فقال : هو مسجدي هذا ، وفي كلٍّ خيرٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، رجال يحبُّون أن ينظفوا مقاعدَهم بالماء إذا أتوا الغائط ، والله يحبّ المتطهّرين بالماء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17225 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب قال : لما نزل : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الطُّهور الذي أثنى الله عليكم ؟ قالوا : يا رسول الله ، نغسل أثر الغائط. (2)
__________
(1) الأثر : 17224 - رواه أحمد في مسنده ، كما أشرت إليه في التعليق على رقم : 17222 .
و " صفوان بن عيسى الزهري " ، من شيوخ أحمد ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 310 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 425 .
(2) الأثر : 17225 - حديث شهر بن حوشب المرسل ، سيأتي ذكره في التعليق على رقم : 17228 ، بعده .

(14/482)


17226 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قُباء : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطُّهور ، فما تصنعون ؟ " قالوا : إنا نغسل عنَّا أثر الغائط والبوْل.
17227 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، ما هذا الطُّهور الذي أثنى الله عليكم فيه ؟ قالوا : إنا نَسْتطيب بالماء إذا جئنا من الغائط.
17228 - حدثني جابر بن الكردي قال ، حدثنا محمد سابق قال ، حدثنا مالك بن مغول ، عن سيَّارٍ أبي الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبروني ، فإن الله قد أثنى عليكم بالطُّهور خيرًا ؟ فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجد عندنا مكتوبًا في التوراة ، الاستنجاءُ بالماء. (1)
__________
(1) الأثر : 17228 - حديث شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، سيأتي من طرق ، هذا ثم : 17229 - 17231 ، 17240 .
" جابر بن الكردي بن جابر الواسطي " ، شيخ الطبري ، ثقة مضى برقم : 7216.
و " محمد بن سابق التميمي " ، ثقة ، قيل إنه ليس ممن يوصف بالضبط في الحديث . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 111 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 283 ، ولم يذكرا فيه جرحا .
و " مالك بن مغول بن عاصم البجلي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 5431 ، 10872 ، 14268 .
و " سيار ، أبو الحكم العنزي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 39 .
و " شهر بن حوشب الأشعري " ، ثقة ، مضى برقم : 1489 ، 5244 ، 6650 - 6652 ، وبعدها كثير .
و " محمد بن عبد الله بن سلام بن الحارث الخزرجي الإسرائيبلي " ، له رؤية ورواية محفوظة . مترجم في تعجيل المنفعة : 366 ، 367 ، والكبير 1 / 1 / 18 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 297 ، والاستيعاب : 234 ، 235 ، وأسد الغابة 4 : 324 ، والإصابة ، في ترجمته .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 6 : 6 ، من طريق " يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني ابن مغول - قال سمعت سيارا أبا الحكم غير مرة يحدث عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله . . . " .
ورواه البخاري في التاريخ الكبير 1 / 1 / 18 من طريق محمد بن يوسف ، عن مالك بن مغول ، بنحوه ، ثم قال : " وقال إسحاق ، عن جرير ، عن ليث ، عن رجل من الأنصار من أهل قباء : لما نزلت ، بهذا " . فبين الاختلاف فيه على شهر بن حوشب ، وأنه أبهم الرجل من الأنصار .
وأشار إليه الحافظ ابن عبد البر في ترجمته وقال : " حديثه مخرج في التفسير ، ويختلف في إسناد حديثه هذا ، ومنهم من يجعله مرسلا " ، والمرسل هو رواية الطبري السالفة رقم : 17225 ، وقال ابن حجر في الإصابة : " قال ابن منده : رواه داود بن أبي هند ، عن شهر مرسلا ، لم يذكر محمد ولا أباه " .
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمته .
وسيأتي في رقم : 17230 ، قول يحيى بن آدم " ولا أعلم إلا عن أبيه " . فانظر التعليق على الأثر هناك .

(14/483)


17229 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا [يحيى بن رافع] ، عن مالك بن مغول قال ، سمعت سيارًا أبا الحكم غير مرة ، يحدث ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قُباء قال : إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا يعني قوله : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قالوا : إنا نجده مكتوبًا عندنا في التوراة ، الاستنجاءُ بالماء. (1)
17230 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا [يحيى بن رافع] ، قال ، حدثنا مالك بن مغول ، عن سيار ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال يحيى : ولا أعلمه إلا عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا! قالوا : إنا نجده
__________
(1) الأثر : 17229 - " يحيى بن رافع " ، هكذا جاء في الموضعين في مطبوعة الطبري ومخطوطته ، ولا أدري كيف وقع هذا ، فليس في هذه الطبقة من الرواة من أعرفه يقال له " يحيى بن رافع " ، وأما " يحيى بن رافع الثقفي " ، فهذا قديم جدا سمع عثمان وأبا هريرة ، ومضى برقم : 5777 ، ولكنه لما وقع هكذا في الموضعين أثبته على حاله .
أما الذي لا أكاد أشك فيه ، فالصواب أنه " يحيى بن آدم " ، كما جاء في مسند أحمد ، وكما ذكره الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة ، والإصابة ، وذكر أيضا رواية أبي هشام الرفاعي عن يحيى بن آدم ، كما سترى بعد ، من طريق البغوي .
وهذا الخبر ، رواه ابن حجر في الإصابة ، وقال : " أخرجه أحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وابن قانع ، والبغوي " . وانظر التعليق على رقم : 17228 ، وعلى رقم : 17230 .

(14/484)


مكتوبًا علينا في التوراة ، الاستنجاءُ بالماء. وفيه نزلت : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا). (1)
17231 - حدثني عبد الأعلى بن واصل قال ، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري قال ، حدثنا أبو أويس المدني ، عن شرحبيل بن سعد ، عن عويم بن ساعدة ، وكان من أهل بدر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : إني أسمع الله قد أثنى عليكم الثَّناء في الطهور ، (2) فما هذا الطهور ؟ قالوا : يا رسول الله ، ما نعلم شيئًا ، إلا أن جيرانًا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا. (3)
__________
(1) الأثر : 17230 - هكذا " يحيى بن رافع " ، والصواب المرجح " يحيى بن آدم " كما سلف في التعليق الماضي .
ومن هذا الطريق ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وتعجيل المنفعة ، وفيه زيادة " ولا أعلمه إلا عن أبيه " ، ونسبه إلى البغوي في الصحابة ، ثم أعقبه بقوله : " قال قال أبو هشام ( يعني الرفاعي ) ، وكتبته من أصل كتاب يحيى بن آدم ، ليس فيه عن أبيه " ثم قال : " وقال البغوي : حدث به الفريابي ، عن مالك بن مغول ، عن سيار ، عن شهر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يذكر أباه " .
ثم قال : " روى سلمة بن رجاء ، عن مالك بن مغول ، فزاد فيه : عن أبيه . وقال أبو زرعة الرازي : الصحيح عندنا عن محمد ، ليس فيه : عن أبيه " .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 212 ، 213 على محمد بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، ثم قال : " رواه الطبراني في الكبير ، وفيه شهر بن حوشب ، وقد اختلفوا فيه . ولكنه وثقه أحمد وابن معين ، وأبو زرعة ، ويعقوب بن أبي شيبة " ثم خرجه عن محمد بن عبد الله بن سلام ، ثم قال : " رواه أحمد عن محمد بن عبد الله بن سلام ، ولم يقل : عن أبيه ، كما قال الطبراني . وفيه شهر أيضا " .
فهذا الذي ذكرته دال ، أولا ، على أن صواب الاسم " يحيى بن آدم " ، لا " يحيى بن رافع " كما وقع في المخطوطة والمطبوعة . ودال أيضا على الاختلاف في هذا الخبر اختلافا يوجب النظر .
ثم بقي شيء آخر ، لم أجد من ذكره في الكلام على هذا الخبر ، أرجو أن أكون أصبت في ذكره وبيانه .
وذلك أن الثناء من الله على رجال يحبون أن يتطهروا ، كانوا يلزمون المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، وهو مسجد قباء بلا شك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سأل هؤلاء عن ثناء الله عليهم . وهؤلاء الرجال هم من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، ومنزلهم بقباء . وهم قوم عرب على دينهم في الجاهلية ، لم يذكر أحد أنهم كانوا يهودا .
وخبر شهر بن حوشب هذا ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، ذكر فيه ثناء الله على هؤلاء الرجال ، وأن جوابهم كان : " إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة ، الاستنجاء بالماء " ، فظاهر هذا الخبر يدل على أن دينهم كان اليهودية . وذلك ما لم أجد قائلا قال به .
و " محمد بن عبد الله بن سلام " ، وأبوه " عبد الله بن سلام بن الحارث " ، من بني قينقاع ، من اليهود ، من ذرية يوسف النبي عليه السلام ، وكان عبد الله بن سلام حليف القواقل من الخزرج ، وهم بنو عمرو بن عوف بن الخزرج ، وليسوا من " بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس " في شيء ، ومنازل هؤلاء غير منازل هؤلاء. وفي إسلام عبد الله بن سلام (سيرة ابن هشام 2 : 163) ، أنه قال ، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرته : " فلما نزل بقباء ، في بني عمرو بن عوف ، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها " ، فعبد الله بن سلام ، وولده لم يكن منهم أحد بقباء .
فقوله في الخبر رقم : 17228 " قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبروني . . . " ، إلى آخر الخبر ، مشكل جدا ، لأن الخبر خبر محمد بن عبد الله بن سلام ، والضمير فيه راجع إليه وإلى قومه أو حلفائه بني عمرو بن عوف بن الخزرج ، وهذا لا يصح البتة ، بدليل قوله في الذي يليه : أن ذلك كان " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء " .
وهذا الذي ذكرت اضطراب شديد في صلب الخبر ، لا يرفعه شيء . ومهما يكن من أمر إسناده ، واختلاف المختلفين فيه على شهر بن حوشب ، فإن علته في سياقه ، أشد من علته في إسناده عندي . والله أعلم من أين أتى هذا الاضطراب ؟ والذي لا شك فيه : أنه بعيد جدا أن يكون هذا الجواب من كلام بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، وأنه أشبه بأن يكون كلام أحد من حلفائهم اليهود .
وأوضح منه ما جاء في خبر عويم بن ساعدة ( رقم : 17231 ) ، وهو : " ما نعلم شيئا ، إلا أن جيرانا لنا من اليهود ، رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا " . فهذا أبين ، وأقرب إلى سياق ما سئلوا عنه ، وأدنى إلى رفع الاضطراب . والله تعالى أعلم .
(2) في المسند : " قد أحسن عليكم الثناء " ، ولو قرئ ما في المخطوطة : " قد أسنى " بمعنى : رفع ، لكان حسنا .
(3) الأثر : 17231 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 11125 .
و " إسماعيل بن صبيح اليشكري " ، ثقة ، مضى برقم : 2996 ، 8640 ، 11158 .
و " أبو أويس المدني " ، هو " عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الصبحي " ، صدوق ، ليس بحجة ، مضى برقم : 8640 .
و " شرحبيل بن سعد الخطمي " ، قال أخي السيد أحمد فيما سلف رقم : 8396 : " الحق أنه ثقة ، إلا أنه اختلط في آخر عمره ، إذ جاوز المئة . وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند : 2104 . وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما ، والكلام في تضعيفه شديد ، وذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب ، روايته عن عويم بن ساعدة فقال : " وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر ، لأن عويما مات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقال : في خلافة عمر رضي الله عنه " .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3 : 422 من طريق حسين بن محمد ، عن أبي أويس ، بنحوه .
وذكره ابن كثير في تفسير 4 : 41 ، ثم قال : " ورواه ابن خزيمة في صحيحه " . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 212 ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الثلاثة . وفيه شرحبيل بن سعد ، ضعفه مالك ، وابن معين ، وأبو زرعة ، وثقه ابن حبان " .

(14/485)


17232 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا محمد بن سعيد قال ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
17233 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي ليلى ، عن عامر قال : كان ناس من أهل قُباء يستنجون بالماء ، فنزلت : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).
17234 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار ، عن شعبة ، عن مسلم القُرِّيّ قال : قلت لابن عباس : أصبُّ على رأسي ؟ وهو محرم قال : ألم تسمع الله يقول : (إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين) ؟ (1)
17235 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن داود ، وابن أبي ليلى ، عن الشعبي ، قال ، لما نزلت : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : ما هذا الذي أثنى الله عليكم ؟ قالوا : ما منَّا من أحدٍ إلا وهو يستنجي من الخلاء.
17236 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة : ما هذا الذي أثنى الله عليكم : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ قال : نوشك أن نغسل الأدبار بالماء! (2)
__________
(1) الأثر : 17234 - " مسلم القري " بضم القاف وتشديد الراء ، نسبة إلى بني قرة ، من عبد القيس وهو مولاهم هو : " مسلم بن مخراق العبدي الفريابي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 271 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 194 .
(2) الأثر : 17236 - " عبد الحميد المدني " . ظني أنه " عبد الحميد بن سليمان الخزاعي ، أبو عمر المدني الضرير " ، روى عن أبي حازم ، وأبي الزناد ، وروى عنه هشيم ، وهو من أقرانه ، ضعيف الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 14 .
و " إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري " ، ظني أيضا أنه " إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري المدني " ، روى عن الزهري وغيره ، وهو ضعيف أيضا ، كثير الوهم . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 271 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 84 .
وفي تفسير ابن كثير 4 : 241 " عن إبراهيم بن المعلى الأنصاري " ، ولم أجد له ذكرا في كتب الرجال .

(14/487)


17237 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر ، عن حصين ، عن موسى بن أبي كثير قال : بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نستنجي بالماء. (1)
17238 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أصبغ بن الفرج قال ، أخبرني ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن أبي الزناد قال : أخبرني عروة بن الزبير ، عن عويم بن ساعدة ، من بني عمرو بن عوف ، ومعن بن عدي ، من بني العجلان ، وأبي الدحداح فأما عويم بن ساعدة ، فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنِ الذين قال الله فيهم : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الرجال ، منهم عويم بن ساعدة لم يبلغنا أنه سمّى منهم رجلا غير عويم. (2)
__________
(1) الأثر : 17237 - " عبد الرحمن بن سعد " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي " ، مضى برقم : 10666 ، 10855 ، 17011 .
و " أبو جعفر " هو " أبو جعفر الرازي " ، مضى مرارا كثيرة.
و " حصين " هو " حصين بن عبد الرحمن السلمي " ، مضى مرارا آخرها : 16671 .
و " موسى بن أبي كثير الأنصاري " ، ثقة ، في الحديث : مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 293 ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 7 .
(2) الأثر : 17238 - " أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الأموي " ، الفقيه المصري ، ثقة كان وراق ابن وهب ، وكان من أجل أصحابه ، وكان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 37 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 321 .
وهذا الخبر جزء من حديث السقيفة ( الفتح 12 : 133 ) ، وعلق عليه الحافظ ابن حجر هناك ، وذكر طرقه . وذكره في الإصابة في ترجمة " عويم بن ساعدة " ، وذكر هذه الزيادة عن الإسماعيلي قال : " وزاد الإسماعيلي في روايته قال الزهري ، فأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما ، هما : عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، فأما عويم ، فهو الذي بلغنا . . . " ، بنحوه .
وخبر السقيفة ، رواه البخاري ( الفتح 12 : 128 - 139 ) من طريق عبد العزيز بن عبد الله ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس .
ورواه أحمد في مسنده رقم : 391 ، من طريق مالك بن أنس ، عن ابن شهاب الزهري . ( وفي المسند : " عويمر بن ساعدة " ، وهو خطأ ، صوابه : عويم بن ساعدة ) .
ورواه ابن سعد الطبقات 3 / 2 / 31 ، مختصرا ، وفيه نحو خبر لفظ أبي جعفر ، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، وفيه " قال ابن شهاب : وأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقومهما ، عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي . فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا . . . " ، بنحوه .

(14/488)


17239 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشام بن حسان قال ، حدثنا الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا الذي ذكركم الله به في أمر الطهور ، فأثنى به عليكم ؟ قالوا : نغسل أثر الغائِطِ والبول.
17240 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مالك بن مغول قال ، سمعت سيارًا أبا الحكم يحدّث ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أو قال : قدم علينا رسول الله فقال : إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا أفلا تخبروني ؟ " قالوا : يا رسول الله ، إنا نجد علينا مكتوبًا في التوراة ، الاستنجاءُ بالماء قال مالك : يعني قوله : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا). (1)
17241 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قال : لما نزلت هذه الآية : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما طهوركم هذا الذي ذكرَ الله ؟
__________
(1) الأثر : 17240 - هذا مكرر الآثار السالفة من رقم : 17225 ، ثم رقم : 17228 - 17230 ، فانظر التعليق عليها هناك .

(14/489)


أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

قالوا : يا رسول الله ، كنا نستنجي بالماء في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام لم ندعْه. قال : فلا تدَعوه.
17242 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان في مسجد قُباء رجال من الأنصار يوضِّئون سَفِلَتهم بالماء ، (1) يدخلون النخل والماء يجري فيتوضئون ، فأثنى الله بذلك عليهم فقال : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، الآية.
17243 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء قال : أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء ، فنزلت فيهم : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).
* * *
وقيل : (والله يحب المطهرين) ، وإنما هو : " المتطهِّرين " ، ولكن أدغمت التاء في الطاء ، فجعلت طاء مشددة ، لقرب مخرج إحداهما من الأخرى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : (أفمن أسس بنيانه).
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : (أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوى مِنَ
__________
(1) قوله : " يوضئون سفلتهم " يعني ، يغسلون أدبارهم . و " السفلة " بمعنى المقعدة والدبر ، لم تذكر في كتب اللغة ، والمذكور بهذا المعنى " السافلة " . وضبطتها " بفتح السين وكسر الفاء " قياسا على قولهم : " سفلة البعير " ، وهي قوائمه ، لأنها أسفل .
(2) انظر تفسير " المطهر " فيما سلف 4 : 384 .

(14/490)


اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما.
* * *
وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : " أَفَمَنْ أُسِّس أ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسِّس بُنْيَانَهُ " ، على وصف " من " بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى " من " ، إذ كان هو المؤسس ، (2) أعجبُ إليّ.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : أيُّ هؤلاء الذين بنوا المساجد خير ، أيها الناس ، عندكم : الذين ابتدأوا بناء مسجدهم على اتقاء الله ، بطاعتهم في بنائه ، وأداء فرائضه ورضًى من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك ، وفعلهم ما فعلوه خيرٌ ، أم الذين ابتدأوا بناءَ مسجدهم على شفا جُرفٍ هارٍ ؟
يعني بقوله : (على شفا جرف) ، على حرف جُرُف. (3)
* * *
و " الجرف " ، من الركايا ، ما لم يُبْنَ له جُولٌ (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " على وصف من بناء الفاعل " ، وهو خلط في الكلام ، صوابه ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته .
(2) في المطبوعة : " إذا كان من المؤسس " وأثبت ما في المخطوطة ، وهو محض صواب .
(3) انظر تفسير " الشفا " فيما سلف 7 : 85 ، 86 .
(4) في المطبوعة : " من الركي " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 269 ، وهذا نص كلامه .
و " الركايا " جمع " ركية " ، وتجمع أيضا على " ركي " ، بحذف التاء ، وهي البئر . و " الجول " ( بضم الجيم ) ، هو جانب البئر والقبر إلى أعلاها من أسفلها .
وهذا التفسير الذي ذكره أبو عبيدة ، لم أجده في تفسير الكلمة في كتب اللغة ، ولكنه جائز صحيح المعنى ، إن صحت روايته .

(14/491)


(هار) ، يعني متهوِّر. وإنما هو " هائر " ، ولكنه قلب ، فأخرت ياؤها فقيل : " هارٍ " ، كما قيل : " هو شاكي السلاح " ، (1) و " شائك " ، وأصله من " هار يهور فهو هائر " ، وقيل : " هو من هارَ يهار " ، إذا انهدم. ومن جعله من هذه اللغة قال : " هِرْت يا جرف " ، ومن جعله " من هار يهور " ، قال : " هُرْت يا جرف " .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما هذا مَثَلٌ. يقول تعالى ذكره : أيّ هذين الفريقين خير ؟ وأيّ هذين البناءين أثبت ؟ أمَن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله ، وعلمٍ منه بأن بناءه لله طاعة ، والله به راضٍ ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال ، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه ، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه ، فيهدمه ، كما يأتي البناءُ على جرف ركيَّةٍ لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ، ثَرِيّةِ التراب متناثرة ، (2) لا تُلْبِثه السيول أن تهدمه وتنثره ؟
يقول الله جل ثناؤه : (فانهار به في نار جهنم) ، يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما : -
17244 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (فانهار به) ، يعني قواعده (في نار جهنم). (3)
17245 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (فانهار به) ، يقول : فخرَّ به.
17246 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) ، إلى قوله : (فانهار به في نار جهنم) ،
__________
(1) في المطبوعة : " شاك السلاح " ، والصواب ما في المخطوطة بالياء في آخره .
(2) في المطبوعة : " ترى به التراب متناثرا " ، غير ما في المخطوطة ، إذ كانت غير منقوطة ، ويقال : " أرض ثرية " ، إذا كانت ذات ثرى وندى . و " ثريت الأرض فهي ثرية " ، إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس .
(3) في المطبوعة ، أسقط " يعني " .

(14/492)


قال : والله ما تناهَى أنْ وقع في النار. ذكر لنا أنه تحفَّرت بقعة منها ، (1) فرُؤي منها الدخان.
17247 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : بنو عمرو بن عوف. استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بنيانه ، فأذن لهم ، ففرغوا منه يوم الجمعة ، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال : وانهار يوم الاثنين. قال : وكان قد استنظرهم ثلاثًا ، السبت والأحد والاثنين (فانهار به في نار جهنم) ، مسجد المنافقين ، انهار فلم يتناهَ دون أن وقع في النار قال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه ، فأبصروا الدخان يخرج منه.
17248 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج ، عن طلق بن حبيب ، عن جابر قوله : (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، قال : رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
17249 - حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال ، حدثنا أبو سلمة قال ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج قال ، حدثني طلق العنزي ،
__________
(1) في المطبوعة : " أنه حفرت بقعة منه " ، وأثبت ما في المخطوطة . وقوله " تحفرت " أي : صارت فيها حفرة ، وكأنه غيرها لأنها لم تذكر في كتب اللغة ، ولكنها قياس عربي عريق .
وقوله " منها " أي : من أرض مسجد الضرار .
(2) الأثر : 17248 - " عبد العزيز بن المختار الأنصاري ، الدباغ " ، ثقة ، روى له الجماعة . مضى برقم : 1685 .
و " عبد الله الداناج " ، هو " عبد الله بن فيروز " و " دانا " بالفارسية ، العالم . ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 136 .
و " طلق بن حبيب العنزي " ، ثقة ، سمع جابرا . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 360 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 490 .
وهذا خبر صحيح الإسناد ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 279 ، وقال : " أخرجه مسدد في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه " . وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه .

(14/493)


لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

عن جابر بن عبد الله قال : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار. (1)
17250 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال ، حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال : حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني : زمان بني أمية فمررنا بالمدينة ، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس ، فلما كان زمان أبي جعفر ، قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة! فهذا البناءُ الذي ترون ، جرى على يَدِ عبد الصمد بن علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن ، وفيه حجر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مَزْبَلة. (2)
* * *
قوله : (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول : والله لا يوفق للرشاد في أفعاله ، من كان بانيًا بناءه في غير حقه وموضعه ، ومن كان منافقًا مخالفًا بفعله أمرَ الله وأمرَ رسوله.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا (ريبة) ، يقول : لا يزال مسجدهم الذي بنوه (ريبة في قلوبهم) ،
__________
(1) الأثر : 17249 - هو مكرر لأثر السالف .
" محمد بن مرزوق " ، هو " محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي " . شيخ الطبري ، مضى برقم 28 : 8224 .
و " أبو سلمة " ، هو : " موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي " ، ثقة . مضى برقم : 15202 .
(2) الأثر : 17250 - " سلام بن سالم الخزاعي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 252 ، 6529 .
و " خلف بن ياسين الكوفي " ، مضى برقم : 252 ، ورواية " سلام بن سالم الخراعي " عنه . وذكر أخي السيد أحمد هناك أنه قد يكون " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات " ، وهو كذاب . والظاهر أنه هو هو ، لأن خلفا يروي في هذا الخبر عن أبيه ، وأبوه " ياسين بن معاذ الزيات " ، وهو أيضا ضعيف متروك الحديث ، وكان من كبار فقهاء الكوفة ، روى عن الزهري ، ومكحول ، وحماد بن أبي سليمان ، وهو مترجم في لسان الميزان 6 : 238 ، والكبير 4 / 2 / 429 ، وقال : " يتكلمون فيه ، منكر الحديث " ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 312 ، وذكر أنه قد روى عنه ابنه خلف ، ولكنه لم يترجم " خلف بن ياسين بن معاذ " . وهذا الخبر الشاهد بأن " ياسين " أبا " خلف " ، كان على عهد بني أمية ، ورواية خلف ابنه عنه ، وشيوخ " ياسين " الذين روى عنهم ، كل ذلك دال على صواب ما ذهب إليه أخي ، من أن " خلف بن ياسين الكوفي " ، هو " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات " .

(14/494)


يعني : شكًّا ونفاقًا في قلوبهم ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحْسنين (1) (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني : إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا (والله عليم) ، بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار ، من شكهم في دينهم ، وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه ، وما إليه صائرٌ أمرهم في الآخرة ، وفي الحياة ما عاشوا ، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم (حكيم) ، في تدبيره إياهم ، وتدبير جميع خلقه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، يعني شكًّا (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني الموت.
17252 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ريبة في قلوبهم) ، قال : شكًّا في قلوبهم (إلا أن تقطع قلوبهم) ، إلا أن يموتوا.
17253 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) ، يقول : حتى يموتوا.
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف ص : 275 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .

(14/495)


17254 - حدثني مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال : إلا أن يموتوا. (1)
17255 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال : يموتوا.
17256 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال : يموتوا.
17257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17258 - ...... قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة والحسن : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قالا شكًّا في قلوبهم.
17259 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق الرازي قال ، حدثنا أبو سنان ، عن حبيب : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال : غيظًا في قلوبهم.
17260 - ...... قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال : يموتوا.
17261 - ...... قال ، حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن حبيب : (إلا أن تقطع قلوبهم) ، : إلا أن يموتوا.
17262 - ...... قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن السدي : (ريبة في قلوبهم) ، قال : كفر. قلت : أكفر مجمّع بن جارية ؟ قال : لا ولكنها حَزَازة.
__________
(1) الأثر : 17254 - " مطر بن محمد الضبي " ، انظر ما سلف رقم : 12198 ، 14610 .

(14/496)


17263 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال : حزازة في قلوبهم.
17264 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا ، كما حُبِّب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) ، [سورة البقرة : 93] قال : حبَّه (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال : لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين.
17265 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن السدي ، عن إبراهيم : (ريبة في قلوبهم) ، قال شكًّا. قال قلت : يا أبا عمران ، تقول هذا وقد قرأت القرآن ؟ قال : إنما هي حَزَازة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (إلا أن تقطع قلوبهم).
فقرأ ذلك بعض قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة : (إِلا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) ، بضم التاء من " تقطع " ، على أنه لم يسمَّ فاعله ، وبمعنى : إلا أن يُقَطِّع الله قلوبهم.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة : ( إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) ، بفتح التاء من " تقطع " ، على أن الفعل للقلوب. بمعنى : إلا أن تنقطّع قلوبهم ، ثم حذفت إحدى التاءين.
* * *
وذكر أن الحسن كان يقرأ : " إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ " ، بمعنى : حتى تتقطع قلوبهم. (1)
* * *
وذكر أنها في قراءة عبد الله : (وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وعلى الاعتبار بذلك
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 452 .

(14/497)


إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قرأ من قرأ ذلك : (إلا أَنْ تُقَطَّع) ، بضم التاء.
* * *
قال أبو جعفر : والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى ، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت ، إلا بتقطيع الله إياها ، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
وأما قراءة ذلك : (إلَى أَنْ تَقَطَّعَ) ، فقراءةٌ لمصاحف المسلمين مخالفةٌ ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزةً.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة (وعدًا عليه حقًّا) يقول : وعدهم الجنة جل ثناؤه ، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به ، في كتبه المنزلة : التوراة والإنجيل والقرآن ، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله ، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه ، فقَتَلوا وقُتِلوا (ومن أوفى بعهده من الله) ، يقول جل ثناؤه : ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله (فاستبشروا) ، يقول ذلك للمؤمنين : فاستبشروا ، أيها المؤمنون ، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا ، ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به ، فإن ذلك هو الفوز العظيم ، (1) كما : -
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/498)


17266 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية قال : ما من مسلم إلا ولله في عنقه بَيْعة ، وَفى بها أو مات عليها ، في قول الله : (إن الله اشترى من المؤمنين) ، إلى قوله : (وذلك هو الفوز العظيم) ، ثم حَلاهم فقال : (التائبون العابدون) ، إلى : (وبشر المؤمنين).
17267 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، يعني بالجنة.
17268 - ...... قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن يسار ، عن قتادة : أنه تلا هذه الآية : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) ، قال : ثامَنَهُم الله ، فأغلى لهم الثمن. (1)
17269 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : أنه تلا هذه الآية : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، قال : بايعهم فأغلى لهم الثمن.
17270 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت ! قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا ، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم. قالوا : فإذا فعلنا ذلك ، فماذا لنا ؟ قال : الجنة! قالوا : ربح البيعُ ، لا نُقيل ولا نستقيل ! (2) فنزلت : (إن الله اشترى من المؤمنين) ، الآية.
__________
(1) " ثامنت الرجل في المبيع " ، إذا قاولته في ثمنه وفاوضته ، وساومته على بيعه واشترائه .
(2) " أقاله البيع يقيله إقالة " ، و " تقايلا البيعان " ، إذا فسخا البيع ، وعاد المبيع إلى مالكه ، والثمن إلى المشتري ، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما . وتكون " الإقالة " في البيعة والعهد . و " استقاله " طلب إليه أن يقيله .

(14/499)


17271 - ...... قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبيد بن طفيل العبسي قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم ، وسأله رجل عن قوله : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، الآية ، قال الرجل : ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ؟ قال : ويلك! أين الشرط ؟(التائبون العابدون). (1)
__________
(1) الأثر : 17271 - " عبيد بن طفيل العبسي " ، هو " الغطفاني " ، " أبو سيدان " ، و " عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان " ، ولكنه في كتب الرجال " الغطفاني " . وقد مضى برقم : 2547 .

(14/500)


التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

القول في تأويل قوله : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع ، إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك ، وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )[سورة البقرة : 18] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
ومعنى : " التائبون " ، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه ، (2) كما : -
17272 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم ، عن ثعلبة بن سهيل قال ، قال الحسن في قول الله : (التائبون) ، قال : تابوا إلى الله من الذنوب كلها. (3)
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 330 ، 331 .
(2) انظر تفسير " تائب " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) .
(3) الأثر : 17272 - " ثعلبة بن سهيل الطهوي " ، ثقة ، مضى برقم : 12273 . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 175 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 464 .

(14/500)


17273 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال ، حدثني أبي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن : أنه قرأ(التائبون العابدون) ، قال : تابوا من الشرك ، وبرئوا من النفاق.
17274 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب قال : قرأ الحسن : (التائبون العابدون) ، قال : تابوا من الشرك ، وبرئوا من النفاق.
17275 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : التائبون من الشرك.
17276 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : (التائبون العابدون) ، قال الحسن : تابوا والله من الشرك ، وبرئوا من النفاق.
17277 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (التائبون) ، قال : تابوا من الشرك ، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
17278 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : (التائبون) ، قال : الذين تابوا من الذنوب ، ثم لم يعودوا فيها.
* * *
وأما قوله : (العابدون) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له ، فجدُّوا في خدمته ، (1) كما : -
17279 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (العابدون) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
17280 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) انظر تفسير " العابد " فيما سلف من فهارس اللغة ( عبد ) .

(14/501)


قال ، قال الحسن في قول الله(العابدون) ، قال : عبدوا الله على أحايينهم كلها ، في السراء والضراء.
17281 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (العابدون) ، قال : العابدون لربهم.
* * *
وأما قوله : (الحامدون) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر ، (1) كما : -
17282 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (الحامدون) ، قوم حمدوا الله على كل حال.
17283 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن ثعلبة قال ، قال الحسن : (الحامدون) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها ، في السرّاء والضرّاء.
17284 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (الحامدون) ، قال : الحامدون على الإسلام.
* * *
وأما قوله : (السائحون) ، فإنهم الصائمون ، كما : -
17285 - حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عبيد بن عمير
17286 - وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث ، عن عمرو ، عن عبيد بن عمير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن " السائحين " فقال : هم الصائمون. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحمد " فيما سلف 1 : 135 - 141 / 11 : 249 .
(2) الأثر : 17286 - قال ابن كثير في تفسيره 4 : 249 : " هذا مرسل جيد " ، وذكره السيوطي في الدر المنثور 3 : 281 ، من طريق عبيد بن عمير ، عن أبي هريرة ، ونسبه إلى الفريابي ، ومسدد في مسنده ، وابن جرير ، والبيهقي في شعب الإيمان . بيد أن ابن جرير لم يرفعه من هذه الطريق إلى أبي هريرة كما ترى .

(14/502)


17287 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا حكيم بن حزام قال ، حدثنا سليمان ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السائحون " هم الصائمون.
17288 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : (السائحون) ، الصائمون. (1)
17289 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : (السائحون) ، الصائمون. (2)
17290 - ...... قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، بمثله.
17291 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله قال ، أخبرنا شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن قال : السياحةُ : الصيام.
17292 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أشعث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : (السائحون) ، : الصائمون.
17293 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أشعث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : (السائحون) ، الصائمون.
17294 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أشعث ، عن سعيد بن جبير قال : (السائحون) ، الصائمون.
__________
(1) الأثران : 17287 ، 17288 - أولهما مرفوع ، والآخر موقوف على أبي هريرة ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 281 ، ونسبه إلى ابن جرير وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وابن النجار ، مرفوعا ، وذكره السيوطي في تفسيره 4 : 248 ، وقال : " وهذا الموقوف أصح " .
(2) الأثر : 17289 - خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 34 ، 35 ، عن عبد الله بن مسعود ، ثم قال : " رواه الطبراني ، وفيه عاصم بن بهدلة . وثقه جماعة ، وضعفه آخرون ، وبقية رجاله رجال الصحيح " .

(14/503)


17295 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
17296 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله.
17297 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن إسحاق ، عن عبد الرحمن قال : (السائحون) ، هم الصائمون.
17298 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (السائحون) ، قال : يعني بالسائحين ، الصائمين.
17299 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : (السائحون) ، هم الصائمون.
17300 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (السائحون) ، الصائمون.
17301 - ...... قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة ، هم الصائمون. (1)
17302 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن أبي عمرو العبدي قال : (السائحون) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.
17303 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن ثعلبة بن سهيل قال ، قال الحسن : (السائحون) ، الصائمون.
17304 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن
__________
(1) في المطبوعة ، حذف " ذكر " من قوله : " ذكر السياحة " . والعبارة مضطربة بعض الاضطراب . وانظر أجود منها في رقم : 17306 .

(14/504)


هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : (السائحون) ، الصائمون شهر رمضان.
17305 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : (السائحون) ، الصائمون.
17306 - ...... قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كل شيء في القرآن(السائحون) ، فإنه الصائمون.
17307 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : (السائحون) ، الصائمون.
17308 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (السائحون) ، يعني الصائمين.
17309 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، ويعلى ، وأبو أسامة ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : (السائحون) ، الصائمون.
17310 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، مثله.
17311 - ...... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ابن الزبير ، عن ابن عيينة قال ، حدثنا عمرو : أنه سمع وهب بن منبه يقول : كانت السياحة في بني إسرائيل ، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً ، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة ، فلم ير شيئًا ، فقال : أي ربِّ ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا ؟ قال : فَأرِي ما رَأى السائحون قبله قال ابن عيينة : إذا ترك الطعام والشراب والنساء ، فهو السائح.
17312 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة(السائحون) ، قوم أخذوا من أبدانهم ، صومًا لله.
17313 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا

(14/505)


إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله ، عن عائشة قالت : سياحةُ هذه الأمة الصيام. (1)
* * *
وقوله : (الراكعون الساجدون) ، يعني المصلين ، الراكعين في صلاتهم ، الساجدين فيها ، (2) كما : -
17314 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (الراكعون الساجدون) ، قال : الصلاة المفروضة.
* * *
وأما قوله : (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم ، واتباع الرشد والهدى ، والعمل (3) وينهونهم عن المنكر ، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه. (4)
* * *
وقد روي عن الحسن في ذلك ما : -
17315 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (الآمرون بالمعروف) ، لا إله إلا الله (والناهون عن المنكر) ، عن الشرك.
17316 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) الأثر : 17313 - " إبراهيم بن يزيد الخوزي " ، متروك الحديث ، مضى برقم : 7484 ، 16259 .
و " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث " ، ثقة ، مضى برقم : 16259 ، ولم يدرك أن يروي عن عائشة ، فهو مرسل عن عائشة .
فهذا خبر ضعيف الإسناد جدا .
(2) انظر تفسير " الركوع " ، و " السجود " فيما سلف من فهارس اللغة ( ركع ) ، ( سجد ) .
(3) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص : 347 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المنكر " فيما سلف ص : 347 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/506)


قال ، قال الحسن في قوله : (الآمرون بالمعروف) ، قال : أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها (والناهون عن المنكر) ، قال : أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.
17317 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كل ما ذكر في القرآن " الأمر بالمعروف " ، و " النهي عن المنكر " ، فالأمر بالمعروف ، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر ، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا : من أن " الأمر بالمعروف " هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، و " النهي عن المنكر " ، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم ، ولا خبر عن الرسول ، ولا في فطرة عقلٍ ، فالعموم بها أولى ، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.
* * *
وأما قوله : (والحافظون لحدود الله) ، فإنه يعني : المؤدّون فرائض الله ، المنتهون إلى أمره ونهيه ، الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به ، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه ، (1) كالذي : -
17318 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (والحافظون لحدود الله) ، يعني : القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد ، إذا وَفَوا الله بشرطه ، وفى لهم بشرطهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحفظ " فيما سلف 5 : 167 / 8 : 295 / 10 : 562 / 11 : 532 .
وتفسير " الحدود " فيما سلف : ص : 429 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " إذا وفوا الله بشرطه ، وفى لهم شرطهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/507)


17319 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (والحافظون لحدود الله) ، قال : القائمون على طاعة الله.
17320 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن ثعلبة بن سهيل قال ، قال الحسن في قوله : (والحافظون لحدود الله) ، قال : القائمون على أمر الله.
17321 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (والحافظون لحدود الله) ، قال : لفرائض الله.
* * *
وأما قوله : (وبشر المؤمنين) ، فإنه يعني : وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده ، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة ، (1) كما : -
17322 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، حتى ختم الآية ، قال الذين وفوا ببيعتهم (التائبون العابدون الحامدون) ، حتى ختم الآية ، فقال : هذا عملهم وسيرهم في الرخاء ، ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.
* * *
وقال بعضهم : معنى ذلك : وبشر من فعل هذه الأفعال يعني قوله : (التائبون العابدون) ، إلى آخر الآية وإن لم يغزوا.
* ذكر من قال ذلك :
17323 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : (وبشر المؤمنين) ، قال : الذين لم يغزوا.
__________
(1) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص : 174 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .

(14/508)


مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)

القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به " أن يستغفروا " ، يقول : أن يدعوا بالمغفرة للمشركين ، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم " أولي قربى " ، ذوي قرابة لهم " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " ، يقول : من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان ، وتبين لهم أنهم من أهل النار ، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك ، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا : فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك ؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ ، خلاه وتركه ، وترك الاستغفار له ، وآثر الله وأمرَه عليه ، فتبرأ منه حين تبين له أمره. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه.
فقال بعضهم : نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته ، فنهاه الله عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
17324 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمةً
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/509)


أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنزلت : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ، ونزلت : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ، [القصص : 56].
17325 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال ، حدثني يونس ، عن الزهري قال ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاةُ ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم : " هو على ملة عبد المطلب " ، وأبى أن يقول : " لا إله إلا الله " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنزل الله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ، الآية. (1)
17326 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 17325 - هذا حديث صحيح . رواه البخاري وصححه (الفتح 3 : 176 ، 177 ) من طريق إسحاق ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبي صالح ، عن ابن شهاب الزهري ، ورواه أيضا ( الفتح 8 : 258 ) من طريق إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، ثم رواه أيضا ( الفتح : 8 : 389 ) من طريق أبي اليمان ، عن شعيب عن الزهري .
ورواه مسلم في صحيحه 1 : 213 - 216 ، من طرق ، أولها هذه الطريق التي رواها منه أبو جعفر.
ورواه أحمد في مسنده 5 : 433 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري .
وكلها أسانيد صحاح .
وسيأتي برقم : 17328 ، عن سعيد بن المسيب ، لم يرفعه عن أبيه ، بغير هذا اللفظ .

(14/510)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ، قال : يقول المؤمنون : ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا ؟ فأنزل الله : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه " ، الآية.
17327 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن عمرو بن دينار : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه : لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنزل الله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " إلى قوله : " تبرأ منه " .
17328 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : لما حضر أبا طالب الوفاةُ ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيْ عم ، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا ، وأحسنهم عندي يدًا ، ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي ، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة ، قل : لا إله إلا الله ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها ، فمنع من ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
17329 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل ، عن عطية قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس ، رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها ، حتى نزلت :

(14/511)


" ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " ، إلى قوله : " تبرأ منه " .
17330 - ..... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ قال : وأكثر ظني أنه قال : قَبْرٍ (1) فجلس إليه ، فجعل يخاطبُ ، ثم قام مُسْتَعْبِرًا ، (2) فقلت : يا رسول الله ، إنّا رأينا ما صنعت! قال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ. (3)
17331 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا " ، إلى : " أنهم أصحاب الجحيم " ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه ، فنهاه الله عن ذلك ، فقال : وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنزل الله : " وما كان استغفار إبراهيم " ، إلى " لأواه حليم " .
__________
(1) في المطبوعة : " أتى رسما - وأكبر ظني أنه قال : قبرا " ، غير ما في المخطوطة ، والصواب ما فيها لأنه ذكر المضاف " أتى رسم " ثم فصل وقال : " قبر " ، فيما رجح من ظنه ، يعني : " رسم قبر " ، على الإضافة .
(2) في المخطوطة : " ثم قام مستغفرا " ، والصواب ما في المطبوعة ، وتفسير ابن كثير 4 : 250 ، نقلا عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر .
(3) الأثر : 17330 - " علقمة بن مرثد الحضرمي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 11330 .
و " سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي " ، ثقة ، روى عن أبيه ، ثقة ، مضى برقم : 11330 .
وأبوه " بريدة بن الحصيب الأسلمي " ، صحابي ، أسلم قبل بدر ، ولم يشهدها . فهذا خبر صحيح الإسناد وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 35 ، بهذا اللفظ .
ورواه أحمد في مسنده 5 : 359 ، من طريق حسين بن محمد ، عن خلف عن خليفة ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه بغير هذا اللفظ مطولا .
ورواه من طريق محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ( 5 : 355 ) ، ثم من طريق القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي بريدة ، عن أبيه ( 5 : 356 ) .

(14/512)


وقال آخرون : بل نزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين ، فنهوا عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
17332 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ، الآية ، فكانوا يستغفرون لهم ، حتى نزلت هذه الآية. فلما نزلت ، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، ثم أنزل الله : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " ، الآية.
17333 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ، الآية ، ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بلى! والله لأستغفرنّ لأبي ، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال : فأنزل الله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " حتى بلغ : " الجحيم " ، ثم عذر الله إبراهيم فقال : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، . قال : وذكر لنا أن نبيَّ الله قال : أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني ، ووَقَرْنَ في قلبي : أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا ، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له ، ومن أمسك فهو شرٌّ له ، ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ " . (1)
__________
(1) " الكفاف " ( بفتح الكاف ) ، وهو من الرزق على قدر حاجة المرء ، لا يفضل منه شيء .
وإذا لم يكن عند المرء فضل عن قوته ، لم يلمه الله تعالى ذكره ، على أن لا يعطي أحدا . وانظر مثل هذا المعنى فيما سلف رقم : 4173 .

(14/513)


واختلف أهل العربية في معنى قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " .
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ما كان لهم الاستغفار وكذلك معنى قوله : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ) ، وما كان لنفس الإيمان ( إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، [يونس : 100].
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : معناه : ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال : وكذلك إذا جاءت " أن " مع " كان " ، فكلها بتأويل : ينبغي ، ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) [آل عمران : 161] ما كان ينبغي له ، ليس هذا من أخلاقه. قال : فلذلك إذا دخلت " أن " لتدل على الاستقبال ، (1) لأن " ينبغي " تطلب الاستقبال.
* * *
وأما قوله : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " ، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه.
فقال بعضهم : أنزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين ، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك ، حين أنزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم : ( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) [مريم : 47] .
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره ، وسنذكر عمن لم نذكره.
17334 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تدل " بغير لام ، والسياق يقتضي إثباتها .

(14/514)


فأنزل الله : " وما كان استغفار إبراهيم " إلى " تبرأ منه " . (1)
17335 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي : أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان ، حتى نزلت : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " ، إلى قوله : " تبرأ منه " . (2)
وقيل : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة " ، ومعناه : إلا من بعد موعدة ، كما يقال : " ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا " ، بمعنى : من بعد ذلك السبب ، أو من أجله. فكذلك قوله : " إلا عن موعدة " ، من أجل موعدة وبعدها. (3)
* * *
وقد تأوّل قوم قولَ الله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " ، الآية ، أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم ، لقوله : " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " . وقالوا : ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره ، وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك ، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
__________
(1) الأثر : 17334 - " أبو الخليل " ، هو " عبد الله بن أبي الخليل الهمداني " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 45 ، وابن سعد في الطبقات 6 : 169 ، وقال : " روى عن علي ثلاثة أحاديث ، من حديث ابن أبي إسحاق " . وفرق بينه وبين " عبد الله بن الخليل الحضرمي " ( الطبقات 6 : 170 ) ، وكذلك فعل ابن أبي حاتم وغيره .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم : 1085 من طريق وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، ومن طريق عبد الرحمن ، عن سفيان ، عنه ، ورواه قبله رقم : 771 ، من طريق يحيى بن آدم ، عن سفيان. وانظر الخبر التالي.
(2) الأثر : 17335 - رواه أحمد في المسند رقم : 771 ، من طريق يحيى بن آدم أيضا ، ولكن بغير هذا اللفظ ، وأن المستغفر رجل من المسلمين ، كالذي سلف . وانظر بيانه في شرح أخي السيد أحمد .
(3) انظر تفسير " عن " بمعنى " بعد " فيما سلف 10 : 313 .

(14/515)


* ذكر من قال ذلك :
17336 - حدثنا سليمان بن عمر الرقي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا ، فإذا مات ، وكله إلى شانه! ثم قال : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، لم يدعُ. (1)
17337 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا فضيل ، عن ضرار بن مرة ، عن سعيد بن جبير قال : مات رجل نصراني ، فوكله ابنه إلى أهل دينه ، فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال : ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له ؟ (2) ثم تلا " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعداها إياه " ، الآية. (3)
* * *
وتأوّل آخرون " الاستغفارَ " ، في هذا الموضع ، بمعنى الصلاة. (4)
* ذكر من قال ذلك :
17338 - حدثني المثني قال ، ثنى إسحاق قال ، حدثنا كثير
__________
(1) الأثر : 17336 - " الشيباني " هو " ضرار بن مرة " ، " أبو سنان الشيباني " الأكبر ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 340 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 465 . ومضى له ذكر في رقم : 10238 ، للتفريق بينه وبين " أبي سنان الشيباني " الأصغر ، وهو " سعيد بن سنان البرجمي " .
وسيأتي في الخبر التالي ، التصريح باسمه .
(2) " أجنه " ، واراه في قبره .
(3) الأثر : 17337 - " ضرار بن مرة " ، هو الشيباني ، سلف في التعليق قبله . وفي لفظ هذا الخبر اضطراب ظاهر ، فإن الخبر الأول قبله عن الشيباني ، دال على النهي عن الاستغفار له بعد موته ، وفي هذا الخبر ، إذن بالاستغفار له بعد موته . ولا أدري من أين جاء هذا الاختلاف على الشيباني في لفظه .
(4) في المخطوطة : " بمعنى الصلاح " ، والصواب في المطبوعة ، كما دل عليه الأثر التالي .

(14/516)


بن هشام ، عن جعفر بن برقان قال ، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق ، عن عطاء بن أبي رباح قال : ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة ، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا ، لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين ، يقول الله : " ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " .
* * *
وتأوّله آخرون ، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
* ذكر من قال ذلك :
17339 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه ، قلت : ولأبيه ؟ قال : لا إن أبي مات وهو مشرك. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن معنى " الاستغفار " : مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة ، (2) لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا ، لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك ، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم ، ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.
* * *
__________
(1) الأثر : 17339 - " عصمة بن زامل الطائي " ، مترجم في الكبير 4 / 1 / 63 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 20 ، ولسان الميزان 4 : 168 ، 169 ، وقال : " روى عن أبيه ، عن أبي هريرة .
وعنه وكيع ، وجميل بن حماد الطائي . قال البرقاني : قلت للدارقطني : جميل بن حماد ، عن عصمة بن زامل ، فذكر هذا الإسناد . فقال : إسناد بدوي ، يخرج اعتبارا " .
وكان في المطبوعة : " عصمة بن راشد " ، غير ما في المخطوطة كأنه بحث فلم يجده ، فظنه تحريفا .
وأبوه : " زامل بن أوس الطائي " مترجم في الكبير 2 / 1 / 405 ، وابن حاتم 1 / 2 / 617 ، ولسان الميزان 2 : 469 ، وقال الدارقطني : إسناد يروى ، يخرج اعتبارا . وذكره ابن حبان في الثقات .
(2) انظر تفسير الاستغفار ، فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر)

(14/517)


وأما قوله : " من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم " ، فإن معناه : ما قد بيَّنتُ ، من أنه : من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.
* * *
وقيل : " أصحاب الجحيم " ، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها ، كما يقال لسكان الدار : " هؤلاء أصحاب هذه الدار " ، بمعنى : سكانها. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17340 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرازق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " ، قال : تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.
17341 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : " تبيَّن له " حين مات ، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله : " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " .
17342 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك في قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية ، يقول : إذا ماتوا مشركين ، يقول الله : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) ، (2) الآية ، [المائدة : 72].
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " .
قال بعضهم : معناه : فلما تبين له بموته مشركًا بالله ، تبرأ منه ، وترك الاستغفار له.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " وغيرها فيما سلف من فهارس اللغة ( صحب ) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ومن يشرك " ، وهو سهو ، والتلاوة ما أثبت .

(14/518)


17343 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات " فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه " .
17344 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.
17345 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات لم يستغفر له.
17346 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، يعني : استغفر له ما كان حيًا ، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
17347 - حدثني مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة ، قالا حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، قال : لما مات.
17348 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
17349 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فلما تبين له أنه عدو لله " ، قال : موته وهو كافر.
17350 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن شعبة. عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.

(14/519)


17351 - ...... قال ، حدثنا ابن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، قال : حين مات ولم يؤمن. (1)
17352 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن عمرو بن دينار : " فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه " ، : موته وهو كافر.
17353 - ..... قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، قال : لما مات.
17354 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، لما مات على شركه " تبرأ منه " .
17355 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " ، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًا ، فلما مات على شركه تبرّأ منه.
17356 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ، قال : موته وهو كافر.
17357 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
__________
(1) الأثر : 17351 - " ابن أبي غنية " ، هو " يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي " ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 11085 .
وأبوه : " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية " ، يروى عن " الحكم بن عتيبة " ، مضى أيضا رقم : 10597 ، 11085 .
وكان في المطبوعة : " حدثنا البراء بن عتبة " ، غير ما في المخطوطة ، لأن الناسخ أساء نقطه ، وصوابه ما أثبت .

(14/520)


ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله ، فلم يستغفر له. (1)
17358 - ...... قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، أبو إسرائيل ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فلما تبين له أنه عدو لله " ، قال : فلما مات.
* * *
وقال آخرون : معناه : فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه ، حتى إذا كاد أن يجاوزه ، حانت من إبراهيم التفاتةٌ ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع ، فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ. (2)
* ذكر من قال ذلك :
17359 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا عبد الله بن سليمان قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة : " ربِّ والدي ، رَبِّ والدي " ! فإذا كان الثالثة ، أخذ بيده ، فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ ، (3) فيتبرأ منه.
17360 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبيد بن عمير ، قال : إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد ، يسمعكم الداعي ، وينفُذُكم البصر. قال : فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع
__________
(1) الأثر : 17357 - " أحمد بن إسحاق الأهوازي " ، شيخ أبي جعفر ، مضى مرارا كثيرة ، وهو إسناد دائر في التفسير . وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا : " محمد بن إسحاق " وهو خطأ محض .
(2) في المطبوعة : " فخلى عنه وتبرأ منه " ، والصواب ما في المخطوطة .
(3) " الضبعان " ( بكسر فسكون ) ، وذكر الضباع ، لا يكون بالألف والنون إلا للمذكر .
والأنثى " الضبع " ( بفتح فضم ) ، ويقال للذكر أيضا " ضبع " . وبالتذكير جاء في كلام الطبري آنفا وسيأتي في الذي يلي هذا الخبر .

(14/521)


لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال : فحسبته يقول : نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف ، (1) دحْضِ مَزِلَّةٍ ، (2) وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال : فيمضون كالبرق ، وكالريح ، وكالطير ، وكأجاويد الركاب ، وكأجاويد الرجال ، (3) والملائكة يقولون : " ربّ سلِّمْ سلِّم " ، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ ، ومكدوسٌ في النار ، (4) يقول إبراهيم لأبيه : إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ، ولست تاركك اليوم ، فخُذْ بحقْوي! (5) فيأخذ بِضَبْعَيْه ، (6) فيمسخ ضَبُعًا ، فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه. (7)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فيضرب الصراط على جسر جهنم " ، زاد " جسر " ، وليست في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " وحضر من له " ، وهو كلام خلو من كل معنى . وفي المخطوطة " دحصر مزله " ، غير منقوطة ، وعلى الصاد مثل الألف ( أ ) ، ومثلها على هاء " مزله " ، وهو شك من الكاتب ، ولو قرأها قارئ : " وخطر مزلة " لكان له شبه معنى ، ولكن واو العطف فساد في الكلام . والصواب ما قرأته إن شاء الله ، ويؤيده ما جاء في حديث أبي ذر : " إن خليلي صلى الله عليه وسلم قال : إن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض " . و " الدحض " ( بفتح الدال وسكون الحاء ) الزلق . و " المزلة " ( بفتح الزاي أو كسرها ) الموضع الذي تزل فيه الأقدام . ويقال : " مزلة مدحاض " .
ثم وجدت صواب ما قرأت في المستدرك للحاكم 4 : 583 ، كما سترى بعد .
(3) وقوله : " وكأجاويد الركاب ، وكأجاويد الرجال " ، " الأجاويد " جمع " أجواد " ، وهي جمع " جواد " ، وهو الفرس السابق الجيد ، ثم يقال : " فرس جواد الشد " ، إذا كان يجود بحضره وجريه جودا متتابعا ، لا يكل . و " الركاب " : الإبل التي يسار عليها ، واحدتها " راحلة " ، ولا واحد لها من لفظها . وأما " الرجال " ، فظني أنه جمع " رجيل " ، و " الرجيل " من الخيل ، الموطوء الركوب الذي لا يعرق . أو يكون جمع " رجل " ، يعني الرجال العدائين ، لأنه أتى في مجمع الزوائد : " كجري الفرس ، ثم كسعي الرجل " .
بيد أن رواية اللسان في مادة (جود) قال : " وفي حديث الصراط : ومنهم من يمر كأجاويد الخيل " ، ورواية الحاكم في المستدرك : " وكأجاويد الخيل والمراكب " .
(4) " مكدوس " ، مدفوع فيها ، من " الكدس " ، وهو الصرع والإلقاء ، " كدس به الأرض " ، صرعه ، وألصقه بها . و " كدسه " : طرده من ورائه وساقه . وهذه التي هنا هي إحدى الروايتين . والرواية الأخرى " مكردس " . و " المكردس " الذي جمعت يداه ورجلاه وأوثق ، ثم ألقي على الأرض ، كما يفعل بالأسير . وهذه رواية الحاكم في المستدرك .
(5) " الحقو " ( بفتح الحاء وكسرها وسكون القاف ) : مشد الإزار من الجنب
(6) " الضبع " ( بفتح فسكون ) : من الإنسان وغيره ، وسط العضد بلحمه .
(7) الأثر : 17360 - حديث الصراط ، رواه الحاكم في المستدرك 4 : 582 - 584 من طريق هشام بن سعد ، عن زيد بن المسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، مطولا ، وقال : " حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه بهذه السياقة " ، وليس فيه ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام .
ومن حديث الصراط ما خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 358 ، 359 ، من حديث عائشة ، " ورواه أحمد ، وفيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، وقد وثق . وبقية رجاله رجال الصحيح " . وفي هذا الخبر ذكر ما أشرت إليه في التعليق ص : 522 ، " من قوله : " كأجاويد الخيل والركاب " وخرجه الهيثمي أيضا ( 10 : 359 ، 360 ) ، عن عبد الله بن مسعود ، خبرًا فيه " كجري الفرس ، ثم كسعي الرجل " كما أشرت إليه في التعليق رقم : 2 ، ص : 522 .

(14/522)


وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ الله ، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ ، يبرأ منه ، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ ، وهو به مشرك ، وهو حالُ موته على شركه.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الأوّاه " .
فقال بعضهم : هو الدعَّاء. (1)
* ذكر من قال ذلك :
17361 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله قال : " الأوّاه " ، الدعّاء.
17362 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : " الأوّاه " ، الدعّاء.
17363 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ بن حبيش قال : سألت عبد الله عن " الأواه " ، فقال : هو الدعّاء.
__________
(1) " الدعاء " ( بتشديد العين ) : الكثير الدعاء .

(14/523)


17364 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله.
17365 - ..... قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الكريم عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : " الأوّاه " : الدعّاء.
17366 - ..... قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله.
17367 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، وإسرائيل ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله. (1)
17368 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، قال : نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير ، قال : " الأوّاه " : الدعاء.
17369 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا داود ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن أبيه قال : " الأوّاه " : الدعّاء.
* * *
وقال آخرون : بل هو الرحيم.
* ذكر من قال ذلك :
17370 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن أبي العُبَيْدَيْنِ ، قال : سئل عبد الله عن " الأوّاه " ، فقال : الرحيم. (2)
__________
(1) الآثار : 17363 - 17367 - حديث زر ، عن عبد الله بن مسعود ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 35 ، وقال : " رواه الطبراني ، وفيه عاصم - يعني عاصم بن أبي النجود - وهو ثقة وقد ضعف " .
(2) الأثر : 17370 - خبر أبي العبيدين ، عن عبد الله ، رواه الطبري من رقم : 17370 ، 17378 ، 17386 .
" سلمة " ، هو " سلمة بن كهيل الحضرمي " ثقة ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 14503 .
و " مسلم البطين " ، هو " مسلم بن عمران " . ثقة . مضى برقم : 14503 - 14056 .
و " أبو العبيدين " ، هو " معاوية بن سبرة بن حصين السوائي العامري الأعمى " ، ثقة ، كان ابن مسعود يدنيه ويقربه ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 329 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 387 .
وهذا الخبر ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 35 ، مطولا وقال : " رواه كله الطبراني بأسانيد ، ورجال الروايتين الأوليين ، ثقات " .

(14/524)


17371 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال : سمعت يحيى بن الجزار يحدث ، عن أبي العبيدين ، رجلٍ ضرير البصر : أنه سأل عبد الله عن " الأواه " ، فقال : الرحيم. (1)
17372 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر بن شميل جميعًا ، عن المسعوديّ ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي العبيدين : أنه سأل ابن مسعود ، فقال : ما " الأواه " ؟ قال : الرحيم.
17373 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ،
__________
(1) الأثر : 17371 - " يحيى بن الجزار العرني " ، ثقة ، مضى برقم : 5425 ، 16406 ، 16405 ، 16408 .

(14/525)


عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العبيدين : أنه جاء إلى عبد الله وكان ضرير البصر فقال : يا أبا عبد الرحمن ، من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له ، قال : أخبرني عن " الأوّاه " ، قال : الرحيم.
17374 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين ، قال : سألت عبد الله عن " الأواه " ، فقال : هو الرحيم.
17375 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له : ما حاجتك ؟ قال : ما " الأواه " ؟ قال : الرحيم.
17376 - ..... قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العبيدين ، رجل من بني سَوَاءَة ، قال : جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن " الأوّاه " ، فقال له عبد الله : الرحيم.
17377 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، وهانئ بن سعيد ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العبيدين ، عن عبد الله قال : " الأواه " ، الرحيم.
17378 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار : أن أبا العبيدين ، رجل من بين نمير قال يعقوب : كان ضريرَ البصر ، وقال ابن وكيع : كان مكفوفَ البصر سأل ابن مسعود فقال : ما " الأواه " ؟ قال : الرحيم.
17379 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : " الأواه " : الرحيم.
17380 - ..... قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، مثله.
17381 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، مثله.
17382 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : هو الرحيم.
17383 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدَّث أن " الأواه " الرحيم.
17384 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " إن إبراهيم لأواه " ، قال : رحيم.
* * *
قال عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود مثل ذلك.

(14/526)


17385 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : " الأواه " : الرحيم.
17386 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله عن " الأواه " ، فقال الرحيم.
17387 - ...... قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل قال : " الأواه " : الرحيم.
17388 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : " الأواه " : الرحيم بعباد الله.
17389 - ..... قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو خيثمة زهير قال ، حدثنا أبو إسحاق الهمداني ، عن أبي ميسرة ، عن عمرو بن شرحبيل ، قال : " الأواه " : الرحيم بلحن الحبشة.
* * *
وقال آخرون : بل هو الموقن. (1)
* ذكر من قال ذلك :
17390 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " الأواه " : الموقن.
17391 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن مبارك ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " الأواه " ، الموقن ، بلسان الحبشة.
17392 - ..... قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن حسن ، عن
__________
(1) في المخطوطة في هذا الموضع ، وفي أكثر المواضع التالية " الموفق " ، وفي بعضها " الموقن " ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب ، فتركته على حاله ، حتى أجد ما يرجحه .

(14/527)


مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال ، " الأواه " ، الموقن ، بلسانه الحبشة.
17393 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز ، قال : سمعت سفيان يقول : " الأواه " ، الموقن وقال بعضهم : الفقيه الموقن.
17394 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن عطاء ، قال : " الأواه " ، الموقن ، بلسان الحبشة.
17395 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : هو الموقن ، بلسان الحبشة.
17396 - ..... قال ، حدثنا ابن نمير ، عن الثوري ، عن مجالد ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، قال : " الأواه " ، الموقن.
17397 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن مسلم ، عن مجاهد قال : " الأواه " ، الموقن.
17398 - .... قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قابوس ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : " الأواه " ، الموقن.
17399 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أواه " ، موقن.
17400 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أواه " ، قال : مؤتمن موقن.
17401 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن إبراهيم لأواه حليم " ، قال : " الأواه " : الموقن.
* * *
وقال آخرون : هي كلمة بالحبشة ، معناها : المؤمن.
* ذكر من قال ذلك :

(14/528)


17402 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لأواه حليم " ، قال : " الأواه " ، هو المؤمن بالحبشية. (1)
17403 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إن إبراهيم لأواه " ، يعني : المؤمن التواب.
17404 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا حسن بن صالح ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " الأواه " : المؤمن.
17405 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " الأواه " ، المؤمن بالحبشية. (2)
* * *
وقال آخرون : هو المسبِّح ، الكثير الذكر لله.
* ذكر من قال ذلك :
17406 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، قال : " الأواه " : المسبِّح.
17407 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنه أوَّاه.
17408 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن حيان ، عن ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر قال : " الأواه " ، الكثير الذكر لله.
* * *
وقال آخرون : هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بالحبشة " ، والصواب ما أثبت ، كما سيأتي في المخطوطة في التالية .
(2) في المطبوعة فقط : " بالحبشة " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(14/529)


* ذكر من قال ذلك :
17409 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا المنهال بن خليفة ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا ، فقال : يرحمك الله ، إن كنت لأواهًا! يعني : تلاءً للقرآن. (1)
* * *
وقال آخرون : هو من التأوُّه.
* ذكر من قال ذلك :
17410 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي يونس القشيري ، عن قاصّ كان بمكة : أن رجلا كان في الطواف ، فجعل يقول : أوّه! (2) قال : فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : دعه إنه أوَّاه !
17411 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا ، يحدّث عن أبي ذر ، قال : كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه : " أوَّه! أوّه " ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أوَّاه! زاد أبو كريب في حديثه ، قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. (3)
17412 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن جعفر بن سليمان قال ، حدثنا عمران ، عن عبيد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : " الأواه " :
__________
(1) " تلاء " على وزن " فعال " بتشديد العين ، من " التلاوة " ، يعني كثير التلاوة للقرآن .
(2) " أوه " بتشديد الواو ، وفيها لغات أخرى .
(3) الأثران : 17410 ، 17411 - " أبو يونس القشيري " ، أو " الباهلي " ، هو " حاتم بن أبي صغيرة " ، ثقة ، مضى برقم : 15180 .

(14/530)


إذا ذكر النار قال : أوّه.
17413 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب قال : كان إذا ذكر النار قال : أوّه. (1)
17414 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان قال ، أخبرنا أبو عمران قال ، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول ، سمعت كعبًا يقول : " إن إبراهيم لأواه " ، قال : إذا ذكر النار قال : " أوّهْ من النار " .
* * *
وقال آخرون : معناه أنه فقيهٌ.
* ذكر من قال ذلك :
17415 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " إن إبراهيم لأوّاه " ، قال : فقيه.
* * *
وقال آخرون : هو المتضرع الخاشع.
* ذكر من قال ذلك :
17416 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ ، قال رجل : يا رسول الله ، ما
__________
(1) الأثر : 17413 - " عبد العزيز بن عبد الصمد العمي " ثقة ، مضى برقم : 3302 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة ، " عبد العزيز ، عن عبد الصمد العمي " ، وهو خطأ محض ، وكان في المطبوعة وحدها " القمي " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة .
و " أبو عمران الجوني " ، هو " عبد الملك بن حبيب الأزدي " ، ثقة ، مضى برقم : 80 ، 13042 .
و " عبد الله بن رباح الأنصاري " ، ثقة ، مضى برقم : 48 ، 13042.
و " كعب " ، هو " كعب الأحبار " المشهور .

(14/531)


" الأوَّاه " ، قال : المتضرع ، قال : " إن إبراهيم لأوّاه حليم " .
17417 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن عبد الحميد ، عن شهر ، عن عبد الله بن شداد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأوّاه " : الخاشعُ المتضرِّع " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود ، الذي رواه عنه زرٌّ : أنه الدعَّاء. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله ذكر ذلك ، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه ، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه ، فقال : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه " ، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال : إن إبراهيم لدعَّاء لربه ، شاكٍ له ، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له ، ودعاءَ الله له بالمغفرة ، عند وعيد أبيه إياه ، وتهدُّده له بالشتم ، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله : ( أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) ، فقال له صلوات الله عليه ، ( سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) ، [مريم : 46 - 48] . فوفى لأبيه بالاستغفار له ، حتى تبيَّن له أنه عدو لله ، فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه ، حليم عمن سَفِه عليه.
* * *
__________
(1) الأثران : 17416 ، 17417 - " عبد الحميد بن بهرام الفزاري " ، ثقة ، متكلم في روايته عن شهر بن حوشب . مضى مرارا . انظر رقم : 1605 ، 4221 ، 6650 - 6652 .
و " شهر بن حوشب " ، ثقة ، متكلم فيه ، مضى مرارا .
و " عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 5088 . وهذا مرسل .
(2) انظر ما سلف من رقم 17361 - 17368 .

(14/532)


وأصله من " التأوّه " ، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق ، كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) وكما روى عقبة بن عامر ، الخبَرَ الذي حدَّثنيه : -
17418 - يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ابن لهيعة قال ، حدثني الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر : أنه قال لرجل يقال له " ذو البجادين " : " إنه أواه " ! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ، ويرفَعُ صوته. (2)
__________
(1) انظر رقم : 171416 ، 1717 .
(2) الأثر : 17418 - " يحيى بن عثمان بن صالح القرشي السهمي ، المصري " شيخ الطبري طعن عليه ؛ لأنه كان يحدث من غير كتبه . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 175 .
وأبوه : " عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري " ، ثقة ، متكلم فيه . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 154 قال أبو حاتم : " كان شيخا صالحا سليم الناحية ، قيل : كان يلقن ؟ قال : لا " .
و " ابن لهيعة " مضى مرارا ، وذكر الكلام فيه .
و " الحارث بن زبيد الحضرمي المصري " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 283 . وابن أبي حاتم 1 / 2 / 93 .
و " علي بن رباح بن قصير اللخمي المصري " ، ثقة ، مضى برقم : 4747 ، 10341 .
و " عقبة بن عامر الجهني " ، صحابي ، ولي إمرة مصر .
و " ذو البجادين " ، هو " عبد الله بن عبد نهم المزني " ، وهو مترجم في الإصابة ، في اسمه هذا ، وفي الاستيعاب : 349 ، في " عبد الله ذو البجادين المزني " ، وفي مثله في أسد الغابة 3 : 123 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4 : 159 ، من هذه الطريق نفسها ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 369 ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني ، وإسنادهما حسن " . وخرجه الحافظ بن حجر في الإصابة قال : " وأخرجه أحمد ، وجعفر بن محمد الغريابي في كتاب الذكر ، من طريق ابن لهيعة . . . " وساق الإسناد والخبر .
وفي أمر " عبد الله ذي البجادين " ، إشكال هذا موضع عرضه مختصرا ، وذلك أن صاحب الإصابة ، ذكر في ترجمته أنه كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته ، وذكر خبرا ، رواه الهجري في نوادره ( مخطوط ) قال :
" قال عبد الله بن ذي البجادين المزني ، وساق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ساندا في الغَائر من الرَّكوبة ، من الأبيض ، جبل العرج في مُهاجَره : تَعَرَّضِي مَدَارِجًا وَسُومِي ... تَعَرُّضَ الجوْزاء لِلنُّجُومِ
هذَا أبُو القاسمِ فاسْتَقِيمي
وذكر الحافظ هذا الشعر في خبره ، وذكر صاحب لسان العرب خبر دلالته لنبينا صلى الله عليه وسلم في مادة ( بجد ) ، وذكر الشعر في مادة ( درج ) ، و ( عرض ) ، وفيه خبر الهجري ، و ( سوم ) .
والرجز يقوله لناقته ، يقول لها : " تعرضي " ، أي : خذي يمنة ويسرة ، وتنكبي الثنايا الغلاظ بين الجبال ، وهي " المدارج " - و " سومي " من السوم ، وهو سرعة المر ، مع قصد الصوب في السير - " تعرض الجوزاء " ؛ لأن الجوزاء تمر على جنب معارضة ، ليست بمستقيمة في السماء .
ويقال في سبب تسميته " ذا البجادين " أنه حين أراد المسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجادا باثنين ، فاتزر بواحد ، وارتدى بالآخر . ويقال إنه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله لأبيه : " دعني أدله على الطريق " ! فأبى ، ونزع ثيابه عنه وتركه عريانا . فاتخذ بجادا من شعر وطرحه على عورته ، ثم لحقهم ، وأخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنشأ يرتجز ، بما ذكرناه من رجزه .
والذي رأيناه في السير ، أن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره هو : " عبد الله بن أريقط الليثي " ، و " عبد الله " هذا لم يكن مسلما ، ولا وجد من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك ، وكان مستأجرا .
( ابن هشام 2 : 136 / الروض الأنف 2 : 28 ، ثم ترجمته في الإصابة وغيرها ) . وهو بلا شك غير ذي البجادين ، لأن ذا البجادين ، مزني ؛ ولأنه مات في تبوك ، ولأنهم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل في قبر أحد ، إلا خمسة ، منهم عبد الله المزني ، ذو البجادين .
فإذا عرف هذا تباعد الإشكال الموهم أنهما رجل واحد ، واحتاج أمر دلالة ذي البجادين ، إلى إيضاح لم تذكره كتب السير .

(14/533)


ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض : " لا تتأوه " ، (1) كما قال المُثَقِّب العَبْدي :
إذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ (2)
ومنه قول الجَعْديَ :
ضَرُوحٍ مَرُوحٍ تُتْبِعُ الْوُرْقَ بَعْدَما... يُعَرِّسْنَ شَكْوَى ، آهَةً وَتَنَمَّرَا (3)
__________
(1) في المطبوعة : " لم تتأوه " ، فعل ذلك لأن كاتب المخطوطة خلط في كتابه " لا " ، فاجتهد الناشر ، والصواب ما أثبت .
(2) ديوانه : 29 ، المفضليات : 586 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 270 طبقات فحول الشعراء : 231 ، واللسان ( أوه ) ، ومر ذكره هذا البيت ، في التعليق على بيت من القصيدة فيما سلف 2 : 548 تعليق : 1 . وعنى بذلك ناقته ، تحن إلى ديارها وأوطانها .
(3) ديوانه : 33 ، 52 ، وجمهرة أشعار العرب : 146 ، والمعاني الكبير : 315 ، من قصيدة النابغة ، التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي ، فلما بلغ قوله : بَلَغْنا السَّمَاءَ مَجْدُنا وجُدُودُنا ... وَإنا لَنَبْغِي بَعْدَ ذَلكَ مَظْهَرا
فقال له : أين المظهر يا أبا ليلى ؟ فقال : الجنة ! قال : أجل ، إن شاء الله ثم أنشده ما فيها من الحكمة قال : " لا يفضض الله فاك " ، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا ، كلما سقطت سن عادت أخرى ، وكان النابغة معمرا .
وقوله : " ضروح " ، أي تضرح برجلها ، رمحت بها ، أراد نشاطها وإبعادها في سيرها . ويروى " خنوف " و " طروح " و " مروح " شديدة النشاط ، من المرح . وقوله " تتبع الورق " ، هكذا في المخطوطة ، ورواية ديوانه " تبعث الورق " ، و " تعجل الورق " ، وذلك أن تذعرها ، فتجعلها عن التعريس ، وهما روايتان واضحتا المعنى . وأما رواية التفسير ، فإن صحت ، فقد أراد أنها تتبع الشكوى والتأوه ، فتنزعج فتذعر . و " الورق " عني بها القطا . و " القطا " ورق الألوان . وكان في المطبوعة " الودق " وهو خطأ . وقوله : " وتنمرا " ، كان في المطبوعة : " وتشمرا " ، وهو خطأ لا شك فيه ، والمخطوطة غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها . و " التنمر " الغضب . ورواية الديوان وغيره " وتذمرا " ، وهي أوضح وأبين . وقوله : " آهة " ، أي تأوهًا .
ورواية العجز في الديوان : " يعرس تشكوا آهة وتذمرا " ، والذي في المخطوطة مطابق لما في المعاني الكبير لابن قتيبة " شكوى " .

(14/534)


ولا تكاد العرب تنطق منه : بـ " فعل يفعل " ، وإنما تقول فيه : " تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل " ، مثل : " تأوّه يتأوه " ، " وأوّه يؤوِّه " .
كما قال الراجز :
فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه (1)
وقالوا أيضًا : " أوْهِ منك! " ، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده :
فَأَوْهِ مِنَ الذِّكْرَى إذَا مَا ذَكَرْتُها... وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ (2)
قال : وربما أنشدنا : ( فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى ) ، بغيرها. ولو جاء " فعل " منه على الأصل لكان : " آه ، يَئوهُ أوْهًا " .
* * *
ولأن معنى ذلك : " توجَّع ، وتحزّن ، وتضرع " ، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال : معناه " الرحمة " : أن ذلك كان
__________
(1) لم أعرف قائله . " ضوضى " ، ضجت وصاحت . وفي الحديث حين ذكر رؤيته صلى الله عليه وسلم النار ، أعاذنا الله من عذابها : " أنه رأى فيها قوما إذا أتاهم لهبها ضوضوا " ، أي أحدثوا ضوضاء من صياحهم وجلبتهم .
(2) لسان العرب ( أوه ) ، لم أعرف قائله ، وذكر اختلاف روايته هناك .

(14/535)


وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)

من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه ، والرحمة له ، ولغيره من الناس.
وقال آخرون : إنما كان ذلك منه لصحة يقينه ، وحسن معرفته بعظمة الله ، وتواضعه له.
وقال آخرون : كان لصحة إيمانه بربِّه.
وقال آخرون : كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله أحد الذي أنزله عليه.
وقال آخرون : كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.
وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ ، وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض ، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه ، الخاشع له بقلبه ، ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه ، ودعائه إياه في حاجاته ، وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله : " إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما كان الله ليقضي عليكم ، في استغفاركم لموتاكم المشركين ، بالضلال ، بعد إذ رزقكم الهداية ، ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ ، فأما من لم يؤمر ولم ينه ، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه " إن الله بكل شيء عليم " ، يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين ، من الجزع على ما سلف منكم

(14/536)


من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه ، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها ، فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم ، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
17419 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " ، قال : بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته ، فافعلوا أو ذَرُوا.
17420 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " ، قال : بيانُ الله للمؤمنين : أن لا يستغفروا للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذَرُوا.
17421 - ..... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
17422 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : " وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " ، قال : يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته ، فافعلوا أو ذروا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/537)


إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الله ، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما ، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه ، بيده حياتهم وموتهم ، يحيي من يشاء منهم ، ويميت من يشاء منهم ، فلا تجزعوا ، أيها المؤمنون ، من قتال من كفر بي من الملوك ، ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة ، أو غيرهم ، واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي ، فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم ، والمذلُّ من أشاء.
وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك ، وإغراءٌ منه لهم بحربهم.
وقوله : ( وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير ) ، يقول : وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه ، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه ، يستنقذكم من عقابه (ولا نصير) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول : فبالله فثقوا ، وإياه فارهبوا ، وجاهدوا في سبيله من كفر به ، فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة ، تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(14/538)


لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)

القول في تأويل قوله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته ، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام ، وأنصار رسوله في الله (1) الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء (2) ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) ، يقول : من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق ، ويشك في دينه ويرتاب ، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه (3) (ثم تاب عليهم ) ، يقول : ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه ، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم (إنه بهم رءوف رحيم) ، يقول : إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم (رحيم) ، أن يهلكهم ، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله ، وصبروا عليه من البأساء والضراء. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17423 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المهاجر " فيما سلف ص : 434 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " العسرة " فيما سلف 6 : 28 ، 29 .
(3) انظر تفسير " الزيغ " فيما سلف 6 : 183 ، 184 .
وتفسير " فريق " فيما سلف 12 : 388 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " رؤوف " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( رأف ) ، (رحم ) .

(14/539)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( في ساعة العسرة) ، في غزوة تبوك.
17424 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : ( في ساعة العسرة ) ، قال : خرجوا في غزوةٍ ، (1) الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد ، وأصابهم يومئذ عطش شديد ، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ، ويشربون ماءه ، (2) وكان ذلك عسرة من الماء ، وعسرة من الظهر ، وعسرة من النفقة. (3)
17425 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ساعة العسرة ) ، قال : غزوة تبوك ، قال : " العسرة " ، أصابهم جَهْدٌ شديد ، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما ، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة ، ويشربون عليها الماء.
17426 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال : غزوة تبوك.
17427 - ...... قال ، حدثنا زكريا بن عدي ، عن ابن مبارك ، عن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال : عسرة الظهر ، وعسرة الزاد ، وعسرة الماء. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " في غزوة تبوك " ، زاد من عنده ، وليست في المخطوطة ، وهي بلا شك غزوة تبوك .
(2) في المطبوعة : " ماءها " ، والذي في المخطوطة صواب أيضا .
(3) الأثر : 17424 - " عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي " ، منكر الحديث ليس بمتقن ، لا يحتجون بحديثه من جهة حفظه . مضى برقم : 487 ، وانظر الخبر رقم : 17427 .
(4) الأثر : 17427 - " زكريا بن عدي بن زريق التميمي " ، ثقة ، مضى برقم : 1566 ، 15446 ، 16945 . وكان في المطبوعة : " زكريا بن علي " ، والصواب ما في المخطوطة ، ولكن لم يحسن قراءته .
" عبد الله بن محمد بن عقيل " ، سلف برقم : 17424 .

(14/540)


17428 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة ) ، الآية ، الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهدٌ شديد ، حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما ، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم ، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
17429 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة ، فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فَرْثه فيشربه ، (1) ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا ، فادع لنا! قال : تحب ذلك ؟ قال : نعم! فرفع يديه ، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء ، فأظلّت ، ثم سكبت ، (2) فملأوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها ، (3)
__________
(1) " الفرث " ، سرجين الكرش ما دام في الكرش .
(2) " قالت السماء " ، أي : أقبلت بالسحاب ، وكان في المطبوعة : " مالت " وأثبت ما في المخطوطة . وهو مطابق لما في مجمع الزوائد ، وفي ابن كثير ، وغيره " سالت " وليست بشيء . وهذا تعبير عزيز جيد .
وقوله : " فأظلت " ، أي : جاء السحاب بالظل ، وفي ابن كثير وغيره " فأهطلت " ، وليست بشيء . وفي مجمع الزوائد : " فأطلت " ، وكأنه تصحيف .
(3) في المطبوعة : " ثم رجعنا ننظر فلم نجدها ، جاوزت العسكر " ، غير ما كان في المخطوطة ، وهو صواب مطابق لما في المراجع . وقوله : " ذهبنا ننظر " ، العرب تضع " ذهب " في الكلام ظرفا للفعل ، انظر ما سلف 11 : 128 ، تعليق : 1 ، ثم ص : 250 ، في كلام أبي جعفر ، والتعليق : 1 ، ثم رقم : 16206 .

(14/541)


جاوزت العسكر. (1)
17430 - حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال ، حدثنا يعقوب بن محمد قال ، حدثنا عبد الله بن وهب قال ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس قال : قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه : حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 17429 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري " . ثقة متقن ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 13570 ، 16732 .
و " سعيد بن أبي هلال الليثي المصري " ، ثقة ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 13570 .
و " عتبة بن أبي عتبة " . هو " عتبة بن مسلم التيمي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 374 .
و " نافع بن جبير بن مطعم " . تابعي ثقة ، أحد الأئمة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 82 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 451 .
ورجال إسناد هذا الخبر ثقات .
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 194 ، 195 ، وقال : " رواه البزار ، والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار ثقات " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 286 ، ونسبه إلى ابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في الدلائل .
وهو في دلائل النبوة لأبي نعيم ص : 190 في باب " ذكر ما كان في غزوة تبوك " . ، بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 257 ، 258 ، والبغوي بهامشه .
(2) الأثر : 17430 - " إسحاق بن زياد العطار " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 14146 ، ولم نجد له ذكرا ، وقد مضى هناك : " إسحاق بن زياد العطار النصري " بغير تاء في " زياد " في المطبوعة والمخطوطة . وغير ممكن فصل القول في ذلك ، ما لم نجد له ترجمة تهدي إلى الصواب .

(14/542)


وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

القول في تأويل قوله : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }

(14/542)


قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار) (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قيل ، هم الآخرون الذين قال جل ثناؤه : ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) [سورة التوبة : 106] ، فتاب عليهم عز ذكره وتفضل عليهم.
وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفهم الله عن التوبة ، فأرجأهم عمَّن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما : -
17431 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عمن سمع عكرمة في قوله : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : خُلِّفوا عن التوبة.
17432 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أما قوله : (خلفوا) ، فخلِّفوا عن التوبة.
* * *
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) ، يقول : بسعتها ، (2) غمًّا وندمًا على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (وضاقت عليهم أنفسهم) ، بما نالهم من الوَجْد والكرْب بذلك (وظنوا أن لا ملجأ) ، يقول : وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجأون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء ، (3)
__________
(1) انظر ما سلف ص : 464 - 467 .
(2) انظر تفسير " رحب " فيما سلف . ص : 179 .
(3) انظر تفسير " الظن " فيما سلف 2 : 17 - 20 ، 265 / 5 : 352 .
وتفسير " الملجأ " فيما سبق ص : 298 .

(14/543)


بتخلفهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينجيهم من كربه ، ولا مما يحذرون من عذاب الله ، إلا الله ، ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته ، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم ، لينيبوا إليه ، ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه (إن الله هو التواب الرحيم) ، يقول : إن الله هو الوهّاب لعباده الإنابة إلى طاعته ، الموفقُ من أحبَّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه (الرحيم) ، بهم ، أن يعاقبهم بعد التوبة ، أو يخذل من أراد منهم التوبةَ والإنابةَ ولا يتوب عليه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17433 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في قوله : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومُرارة بن الربيع ، وكلهم من الأنصار. (2)
17434 - حدثني عبيد بن محمد الوراق قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بنحوه إلا أنه قال : ومرارة بن الربيع ، أو : ابن ربيعة ، شكّ أبو أسامة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " التواب " ، " والرحيم " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( ثوب ) ، ( رحم ) .
(2) الأثر : 17433 - " مرارة بن ربيعة " ، المشهور : " مرارة بن الربيع " ، ولكنه هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة هنا . ثم جاء في الأخبار التالية " الربيع " . وقد مضى مثل هذا الاختلاف وأشد منه فيما سلف في التعليق على رقم 17177 ، 17178 ، 17183 . وذكر ابن كثير في تفسيره 4 : 264 ، وذكر هذا الخبر فقال : " وكذا في مسلم : ربيعة ، في بعض نسخه ، وفي بعضها : مرارة بن الربيع " .
(3) الأثر : 17434 - " عبيد بن محمد الوراق " ، هو " عبيد بن محمد بن القاسم بن سليمان بن أبي مريم " ، " أبو محمد الوراق النيسابوري " ، سكن بغداد ، وحدث بها عن موسى بن هلال العبدي وأبي النضر هاشم بن القاسم ، والحسن بن موسى الأشيب ، ويعقوب بن محمد الزهري ، وبشر بن الحارث . كان ثقة ، مات سنة 255 ، ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 11 : 97 ، وروى عنه الطبري في موضعين من تاريخه 2 : 202 ، 250 ، روى عن روح بن عبادة .
وكان في المطبوعة : " عبيد بن الوراق " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأن الناسخ كتب " عبيد بن محمد " كلمة واحدة مشتبكة الحروف .
وأما " مرارة بن الربيع " أو " ابن ربيعة " ، فانظر التعليق السالف .

(14/544)


17435 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة وعامر : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : أرْجئوا ، في أوسط " براءة " .
17436 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : الذين أرجئوا في أوسط " براءة " ، قوله : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ ) ، [سورة التوبة : 106] هلال بن أمية ، ومرارة بن رِبْعيّ ، وكعب بن مالك. (1)
17437 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، الذين أرجئوا في وسط " براءة " .
17438 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : كلهم من الأنصار : هلال بن أمية ، ومرارة بن ربيعة ، وكعب بن مالك.
17439 - ...... قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : الذين أرجئوا.
17440 - ...... قال ، حدثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : (الثلاثة الذين خلفوا) ، كعب بن مالك وكان شاعرا ، ومرارة بن الربيع ، وهلال ابن أمية ، وكلهم أنصاريّ. (2)
17441 - ...... قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، والمحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كلهم من الأنصار : هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك.
__________
(1) الأثر : 17436 - " مرارة بن ربعي " ، هكذا في المخطوطة كما أثبته ، وفي المطبوعة " ابن ربيعة " ولكن هكذا ، جاء هنا ، كالذي مضى في رقم : 17177 ، 17178 ، فانظر التعليق هناك .
(2) في المطبوعة : " أنصار " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .

(14/545)


17442 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هاشم ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : هلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، كلهم من الأنصار.
17443 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، إلى قوله : (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) ، كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن ربيعة ، تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية ، فقال : لا أطلقها أو لا أطلق نفسي (1) حتى يُطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله : والله لا أطلقه حتى يطلقه ربُّه إن شاء! وأما الآخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك ، (2) فجعله صدقة في سبيل الله ، وقال : والله لا أطعمه! وأما الآخر فركب المفاوز يتبع رسول الله ، ترفعه أرض وتَضَعه أخرى ، وقدماه تَشَلْشَلان دمًا. (3)
17444 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : (الثلاثة الذين خلفوا) ، هلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، ومرارة بن ربيعة.
17445 - ...... قال ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن سلام أبي الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال : هلال بن أمية ، ومرارة ، وكعب بن مالك.
17446 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن عون ،
__________
(1) في المطبوعة : " لا أطلقها ، أو لا أطلق نفسي " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) " الحائط " ، هو البستان من النخيل ، إذا كان عليه حائط ، وهو الجدار . ويقال لها أيضا " حديقة " ، لإحداق سوره بها . فإذا لم يكن عليها حائط ، فهي " ضاحية " ، لبروزها للعين . و " أدرك الثمر " ، أي بلغ نضجه .
(3) " تشلشلان " ، " تتشلشلان " ، على حذف إحدى التائين . " تشلشل الماء والدم " ، إذا تبع قطران بعضه بعضا في سيلانه متفرقا .

(14/546)


عن عمر بن كثير بن أفلح قال : قال كعب بن مالك : ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغَزاة! قال كعب بن مالك : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : " أتجهز غدًا ثم ألحقه " ، فأخذت في جَهازي ، فأمسيت ولم أفرغ. فلما كان اليوم الثالث ، أخذت في جهازي ، فأمسيت ولم أفرغ ، فقلت : هيهات! سار الناس ثلاثًا! فأقمت. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الناس يعتذرون إليه ، فجئت حتى قمت بين يديه ، فقلت : ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة! فأعرض عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الناس أن ألا يكلمونا ، وأمِرَتْ نساؤنا أن يتحوَّلن عنَّا. قال : فتسوَّرت حائطا ذات يوم ، فإذا أنا بجابر بن عبد الله ، فقلت : أيْ جابر! نشدتك بالله ، هل علمتَني غششت الله ورسوله يومًا قطُّ ؟ فسكت عني فجعل لا يكلمني. (1) فبينا أنا ذات يوم ، إذ سمعت رجلا على الثنيَّة يقول : كعب! كعب! حتى دنا مني ، فقال : بشِّروا كعبًا. (2)
17447 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام ، حتى إذا بلغ تبوك ، أقام بها بضع عشرة ليلة ، ولقيه بها وفد أذْرُح ووفد أيلة ، فصَالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية ، ثم قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها ، وأنزل الله : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة) ، الآية ،
__________
(1) انظر " جعل " ، وأنها من حروف الاستعانة فيما سلف 11 : 250 ، في كلام الطبري ، والتعليق هناك رقم : 1 ، والتعليق على الأثر رقم : 13862 .
(2) الأثر : 17446 - " عمر بن كثير بن أفلح المدني " ، مولى أبي أيوب الأنصاري ، ثقة ، ذكره ابن حبان في أتباع التابعين ، وكأنه لم يصح عنده لقيه للصحابة . وذكر غيره أنه روى عن كعب بن مالك . وابن عمر ، وسفينة . ومضى برقم : 12223 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4 : 454 ، 455 ، من هذه الطريق نفسها بنحوه .

(14/547)


والثلاثة الذين خلفوا : رَهْطٌ منهم : كعب بن مالك ، وهو أحد بني سَلِمة ، ومرارة بن ربيعة ، وهو أحد بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أمية ، وهو من بني واقف ، وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلا. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، صَدَقه أولئك حديثهم ، واعترفوا بذنوبهم ، وكذب سائرهم ، فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حبسهم إلا العذر ، فقبل منهم رسول الله وبايعهم ، ووكَلَهم في سرائرهم إلى الله ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خُلِّفوا ، وقال لهم حين حدَّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم : قد صدقتم ، فقوموا حتى يقضى الله فيكم. فلما أنزل الله القرآن ، تاب على الثلاثة ، وقال للآخرين : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) ، حتى بلغ : ( لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) [سورة التوبة : 95 ، 96].
قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عَمي قال : سمعت كعب بن مالك يحدِّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب : لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتبْ أحدًا تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحبُّ أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكرَ في الناس منها. (1)
فكان من خبري حين تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ،
__________
(1) قوله : " أذكر " أي أشهر ذكرا .

(14/548)


أني لم أكن قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطُّ حتى جمعْتُهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوِزَ ، واستقبل عدوًّا كثيرًا ، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبُوا أهبة غزوهم ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير ، ولا يجمعهم كتاب حافظٌ يريد بذلك : الديوان قال كعب : فما رجلٌ يريد أن يتغيّب إلا يظنَّ أن ذلك سيخفى ، ما لم ينزل فيه وَحْيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليهما أصعَرُ. (1) فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، [فأرجع ولم أقض شيئًا ، وأقول في نفسي : " أنا قادر على ذلك إذا أردت! " ، فلم يزل ذلك يتمادى بي ، حتى استمرّ بالناس الجدُّ. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه] ، (2) ولم أقض من جَهازي شيئًا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل ذلك يتمادى [بي] ، (3) حتى أسرعوا وتفارط الغزْوُ ، (4) وهممت أن أرتحل فأدركهم ، فيا ليتني فعلت ، فلم يُقْدَر ذلك لي. فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أنّي لا أرى لي أسوةً إلا رجلا مغموصًا عليه في النفاق ، (5) أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سَلِمَة : يا رسول الله ، حبسه بُرْداه ، والنظر في عِطْفيْه! (6) [فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت! والله يا رسول الله ، ما علمنا عليه إلا خيرًا]! (7) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو على ذلك ، رأى رجلا مُبَيِّضًا يزول به السرابُ ، (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري ، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر ، فلمزه المنافقون. (9)
قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلا من تبوك ، حضرني بثِّي ، (10) فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : " بم أخرج من سَخَطه غدًا " ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلّ قادمًا! " ، زاح عني الباطل ، (11) حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا ، فأجمعت صدقه ، (12) وصَبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا ، (13) وكان إذا قدم من سفر ، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك ، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا
__________
(1) " أصعر " ، أي : أميل ، على وزن " أفعل " التفضيل ، وأصله من " الصعر " ( بفتحتين ) ، وهو ميل في الوجه ، كأنه يلتفت إليه شوقا .
(2) الذي بين القوسين ساقط من المخطوطة ، وأثبته من رواية مسلم في صحيحه . وكان في المطبوعة : " . . . لكي أتجهز معهم ، فلم أقضي من جهازي شيئا " ، أما المخطوطة ، فكان فيها ما يدل على أن الناسخ قد أسقط من الكلام : " . . . لكي أتجهز معهم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا " .
(3) الزيادة بين القوسين ، من صحيح مسلم .
(4) " تفارط الغزو " ، أي فات وقته ، ومثله " تفرط " ، وفي الحديث : " أنه نام عن العشاء حتى تفرطت " ، أي : فات وقتها .
(5) " أسوة " ، أي : قدوة ومثلا . و " المغموص عليه " ، من قولهم " غمص عليه قولا قاله " ، أي : عابه عليه ، وطعن به عليه . ويعني : مطعونا في دينه ، متهما بالنفاق .
(6) " النظر في عطفيه " ، كناية عن إعجابه بنفسه ، واختياله بحسن لباسه . و " العطفان " ، الجانبان ، فهو يتلفت من شدة خيلائه .
(7) الزيادة بين القوسين ، من صحيح مسلم . وظاهر أن الناسخ أسقطها في نسخه .
(8) " المبيض " ( بتشديد الباء وكسرها ) ، هو لا بس البياض . و " يزول به السراب " ، أي : يرفعه ويخفضه ، وإنما يحرك خياله .
(9) " لمزه " ، عابه وحقره .
(10) في المطبوعة : " حضرني همي " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، والذي فيها مطابق لرواية مسلم في صحيحه . و " البث " ، أشد الحزن . وذلك أنه إذا اشتد حزن المرء ، احتاج أن يفضي بغمه وحزنه إلى صاحب له يواسيه ، أو يسليه ، أو يتوجع له .
(11) " أظل قادما " ، أي : أقبل ودنا قدومه ، كأنه ألقى على المدينة ظله . وقوله : " زاح عني الباطل " ، أي : زال وذهب وتباعد .
(12) " أجمعت صدقه " ، أي : عزمت على ذلك كل العزم ، " أجمع صدقه " و " أجمع على صدقه " ، سواء .
(13) في المطبوعة : " وأصبح " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في صحيح مسلم .

(14/549)


بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئتُ ، فلما سلمت تبسم تبسُّم المغْضَب ، ثم قال : تعالَ! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : ما خلَّفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ قال قلت : يا رسول الله ، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سَخَطه بعذرٍ ، لقد أعطيتُ جدلا (1) ولكني والله لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني ، ليوشكنّ الله أن يُسْخِطَك عليّ ، ولئن حدثتك حديث صِدْق تَجدُ عليّ فيه ، (2) إني لأرجو فيه عفوَ الله ، (3) والله ما كان لي عُذْر! والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّا هذا فقد صَدَق ، قم حتى يقضي الله فيك! فقمت ، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا : والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا! لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، (4) فقد كان كافِيَك ذنبك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك! قال : فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّبَ نفسي! قال : ثم قلت لهم : هل لَقي هذا معي أحدٌ ؟ قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا مثلَ ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال : قلت من هما ؟ قالوا : مرارة بن ربيع العامري ، (5) وهلال بن أمية الواقفي. قال : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا ، فيهما أسوة. (6) قال : فمضيت حين ذكروهما لي. (7)
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة ، (8) من بين من تخلّف عنه. قال : فاجتنبنا الناسُ وتغيَّروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً ، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ، ولا يكلمني أحدٌ ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : " هل حرك شفتيه بردّ السلام أم لا ؟ " ، ثم أصلي معه ، وأسارقه النظر ، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسوَّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي ، وأحبُّ الناس إليّ فسلمت عليه ، فوالله ما ردّ علي السلام! فقلت : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت. قال : فعُدْت فناشدته ، فسكت ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي ، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار.
فبينا أنا أمشي في سوق المدينة ، إذا بنبطيّ من نَبَط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدلُّ على كعب بن مالك ؟ قال : فطفق الناس يشيرون
__________
(1) " الجدل " ، اللدد في الخصومة ، والقدرة عليها ، وعلى مقابلة الحجة بالحجة .
(2) " تجد " من " الوجد " ، وهو الغضب والسخط .
(3) هكذا في المخطوطة : " عفو الله " ومثله في مسند أحمد 3 : 460 وفي صحيح مسلم " عقبى الله " ، أي : أن يعقبني خيرا ، وأن يثبتني عليه .
(4) في المطبوعة حذف " في " من قوله : " لقد عجزت في أن لا تكون " ، وهي ثابتة في المخطوطة ، وهي مطابقة لما في صحيح مسلم . وأما الذي في المطبوعة ، فهو مطابق لما في البخاري من رواية غيره .
(5) في المطبوعة : " ابن الربيع " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر روايته في مسلم " مرارة بن ربيعة " ، وما قالوا في اختلاف رواه مسلم . وما قالوه أيضا في روايته " العامري " ، وأن صوابها " العمري " نسبة إلى بني عمرو بن عوف .
(6) في المطبوعة : " لي فيهما أسوة " ، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة ، ولا في صحيح مسلم . وإنما هو من رواية البخاري ، بغير هذا الإسناد .
(7) " مضيت " ، أي : أنفذت ما رأيت . من قولهم : " مضى في الأمر مضاء " ، نفذ ، و " أمضاه " أنفذه .
(8) قوله : " أيها الثلاثة " ، أي : خصصنا بذلك دون سائر المعتذرين . وهذه اللفظة تقال في الاختصاص ، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب ، تقول : " أما أنا فأفعل هذا ، أيها الرجل " ، يعني نفسه . انظر ما سلف 3 : 147 ، تعليق : 1 ، في الخبر رقم : 2182 .

(14/551)


له ، حتى جاءني ، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان ، وكنت كاتبًا ، فقرأته ، فإذا فيه : " أما بعدُ ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ ، فالحق بنا نُوَاسِك " .
قال : فقلت حين قرأته : وهذا أيضًا من البلاء!! فتأمَّمتُ به التنُّور فسجرته به. (1) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين ، واستلبث الوحي ، (2) إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت : أطلِّقها ، أم ماذا أفعل ؟ قال : لا بل اعتزلها فلا تقربها. قال : وأرسل إلى صاحبي بذلك. قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. (3)
قال : فجاءت امرأة هلالٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادمٌ ، فهل تكره أن أخدُمَه ؟ فقال : لا ولكن لا يقرَبَنْكِ! قالت فقلت : إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله
__________
(1) " فتأممت " ، وهكذا في المخطوطة أيضا ، وفي رواية البخاري " فتيممت " . وأما في صحيح مسلم ، " فتياممت " ، وقال النووي : " هكذا هو في حميع النسخ ببلادنا ، وهي لغة في : تيممت ، ومعناها : قصدت " . وأما القاضي عياض ، فقال في مشارق الأنوار ( أمم ) : " ومثله : فتيممت بها التنور ، كذا رواه البخاري . ولمسلم : فتأممت ، وكلاهما بمعنى ، سهل الهمزة في رواية ، وحققها في أخرى أي : قصدت " .
ثم انظر تفسير " الأم " و " التأمم " في تفسير أبي جعفر فيما سلف 5 : 558 / 8 : 407 / 9 : 471 .
وفي المطبوعة : " فتأممت به " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في مسلم والبخاري ، إلا أن في مسلم " فسجرتها بها " ، وفي البخاري : " فسجرته بها " . وأنث " بها " ، إرادة لمعنى الصحيفة ، وهي الكتاب ، ثم رجع بالضمير إلى " الكتاب " .
" والتنور " ، الكانون الذي يخبز فيه .
و " سجر التنور " ، أوقده وأحماه وأشبع وقوده ، وأراد : أنه زاد التنور التهابا ، بإلقائه الصحيفة في ناره . وهذا كلام معجب ، أراد به أن يسخر من رسالة ملك غسان إليه .
(2) " استلبث " ، أي : أبطأ وتأخر .
(3) في المطبوعة : " تكوني عندهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في صحيح مسلم . وفي البخاري بغير هذا الإسناد : " فتكوني " .

(14/553)


ما زال يبكي مُنْذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدُمه ؟ قال فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شابٌّ!
فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. (1) قال : ثم صليت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا ، (2) قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعتُ صوت صارخٍ أوْفى على جبل سَلْع ، (3) يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر! قال : فخررت ساجدًا ، وعرفت أن قد جاء فرجٌ. قال : وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، (4) فذهب الناس يبشروننا ، (5) فذهب قِبَلَ صاحبي مبشرون ، وركض رجل إلي فرسًا ، وسعى ساعٍ من أسْلَم قِبَلي وأوفى على الجبل ، وكان الصوت أسرعَ من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6)
__________
(1) في صحيح مسلم " حين نهي عن كلامنا " ، وضبط " نهي " بالبناء للمجهول ، ورواية أبي جعفر ، تصحح ضبطه بالبناء للمعلوم أيضا .
(2) في المطبوعة : " التي ذكر الله عنا " ، غير ما في المخطوطة ، هو مطابق لما في صحيح مسلم ، وهو العربي العريق .
(3) " أوفى عليه " ، صعده وارتفع عليه ، فأشرف على الوادي منه واطلع .
(4) " آذن " أعلم الناس بها . ورواية مسلم : " فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس " ، والذي هنا مطابق لرواية البخاري ، بغير هذا الإسناد .
(5) " ذهب " ، سلف ما كتبته عن الاستعانة بقولهم : " ذهب " و " جعل " . انظر رقم : 17429 ، ص : 541 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .
(6) انظر ص : 553 ، تعليق : 1 .

(14/554)


فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة ويقولون : لِتَهْنِكَ توبة الله عليك! (1) حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهَرول حتى صافحني ، وهنأني ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة (2) قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، وهو يبرُقُ وجهه من السرور : أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك! فقلت : أمن عندك ، يا رسول الله ، أم من عند الله ؟ قال : لا بل من عند الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه ، حتى كأن وجه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه.
قال : فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك بعض مالك ، فهو خيرٌ لك! قال فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت : يا رسول الله ، إن الله إنما أنجاني بالصدق ، وإنّ من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت! قال : فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صِدْق الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام ، أحسن مما ابتلاني ، (4)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لتهنك " ، وهي كذلك في رواية البخاري بغير هذا الإسناد ، وفي صحيح مسلم المطبوع : " لتهنئك " ، وذكره القاضي عياض في مشارق الأنوار ( هنأ ) فقال : " ولتهنك توبة الله ، يهمز ، ويسهل " . وقد ذكر صاحب لسان العرب (هنأ ) أن العرب تقول : " ليهنئك الفارس " بجزم الهمزة ، و " ليهنيك الفارس " بياء ساكنة ، ولا يجوز " ليهنك " كما تقول العامة " ، والذي قاله ونسبه للعامة ، صواب لا شك فيه عندي .
(2) قال الحافظ في الفتح : " قالوا : سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة ، لما آخى بين المهاجرين والأنصار . والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير ، لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين ، فهو أخو أخيه " .
(3) " انخلع من ماله " ، أي : خرج من جميع ماله ، وتعرى منه كما يتعرى إنسان إذا خلع ثوبه . وأراد : إخراجه متصدقا به .
(4) " أبلاه " أي : أنعم عليه .

(14/555)


والله ما تعمَّدت كِذْبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال : فأنزل الله : (لقد تابَ الله على النبي) ، حتى بلغ : (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، إلى : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
قال كعب : والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ قطُّ بعد أن هَدَاني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا أكون كذبته ، (1) فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله قال للذين كذبوا ، حين أنزل الوحي ، شَرَّ ما قال لأحدٍ : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) ، إلى قوله : ( لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) ، [سورة التوبة : 95 ، 96].
قال كعب : خُلِّفنا ، أيها الثلاثة ، (2) عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حَلفوا له ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله : (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا عن الغزو ، (3) إنما هو تخليفه إيّانا ، (4) وإرجاؤه أمرَنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. (5)
__________
(1) " أن لا أكون " ، " لا " زائدة ، كالتي في قوله تعالى : ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) [ سورة : الأعراف : 12] . انظر ما سلف في تفسير الآية 12 : 323 - 325 .
(2) في المطبوعة : " خلفنا " دون " كنا " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وما أثبته مطابق لرواية مسلم في صحيحه .
(3) في صحيح مسلم : " مما خلفنا ، تخلفنا عن الغزو " ، والذي هنا وفي المخطوطة ، مطابق لما فيه رواية البخاري بغير هذا الإسناد .
(4) في المطبوعة : " ختم الجملة بقوله : " فقبل منهم " بالجمع ، خالف ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في صحيح مسلم والبخاري .
(5) الأثر : 17447 - حديث كعب بن مالك ، سيرويه أبو جعفر من طرق سأبينها بعد . أما روايته هذه من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، فهو إسناد مسلم في صحيحه 17 : 87 ، 98 ، وانظر التعليق على الأخبار التالية . وانظر الأثرين السالفين رقم : 16147 ، 17091 ، والتعليق عليهما .

(14/556)


17448 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فذكر نحوه. (1)
17449 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عن أبيه قال : لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة غَزاها إلا بدرًا ، ولم يعاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر ، ثم ذكر نحوه. (2)
17450 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري ، ثم السلمي ، عن أبيه ، أن أباه عبد الله بن كعب ، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره قال : سمعت أبي كعبَ بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وحديث صاحبيه ، قال : ما تخلفت عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها ، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر ، ثم ذكر نحوه. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 17448 - من هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 86 - 93 ) ، وأحمد في مسنده 3 : 459 ، 460 ، الحديث بطوله .
(2) الأثر : 17449 - من هذه الطريق ، طريق معمر ، رواه أحمد في مسنده 6 : 387 - 390 . وانظر أيضا ما رواه أحمد في مسنده 3 : 456 ، روايته من طريق يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري ، الحديث بطوله ، وصحيح مسلم 17 : 98 - 100 .
(3) الأثر : 17450 - سيرة ابن هشام 4 : 175 - 181 ، الحديث بطوله .

(14/557)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين ، معرِّفَهم سبيل النجاة من عقابه ، والخلاصِ من أليم عذابه : (يا أيها الذين آمنوا) ، بالله ورسوله (اتقوا الله) ، وراقبوه بأداء فرائضه ، وتجنب حدوده (وكونوا) ، في الدنيا ، من أهل ولاية الله وطاعته ، تكونوا في الآخرة (مع الصادقين) ، في الجنة. يعني : مع من صَدَق اللهَ الإيمانَ به ، فحقَّق قوله بفعله ، ولم يكن من أهل النفاق فيه ، الذين يكذِّب قيلَهم فعلُهم.
وإنما معنى الكلام : وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا ، كما قال جل ثناؤه : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [سورة النساء : 69].
* * *
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام ، لأن كون المنافق مع المؤمنين غيرُ نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم ، إن لم يكن عاملا عملهم. وإذا عمل عملهم فهو منهم ، وإذا كان منهم ، كان وجْهُ الكلام أن يقال : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، (1) ولتوجيه الكلام إلى ما وجَّهنا من تأويله ، فسَّر ذلك من فسَّره من أهل التأويل بأن قال : معناه : وكونوا مع أبي بكر وعمر ، أو : مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرين رحمة الله عليهم.
* * *
* ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله :
__________
(1) في المطبوعة : " كان لا وجه في الكلام أن يقال " ، غير ما في المخطوطة ، والذي فيها ما أثبته ، وهو مستقيم صحيح . والذي جاء به من عنده مفسد للكلام .

(14/558)


17451 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع في قول الله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال : مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
17452 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حبويه أبو يزيد ، عن يعقوب القمي ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع قال : قيل للثلاثة الذين خُلِّفوا : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، محمدٍ وأصحابه.
17453 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (وكونوا مع الصادقين) ، قال : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما ، رحمةُ الله عليهم.
17454 - ...... قال ، حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم الرمّاني ، عن سعيد بن جبير في قول الله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال : مع أبي بكر وعمر ، رحمة الله عليهما. (1)
17455 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال : مع المهاجرين الصادقين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه : (وَكُونُوا مِن الصَّادِقينَ) ، ويتأوّله : أنّ ذلك نَهْىٌ من الله عن الكذب.
* ذكر الرواية عنه بذلك :
17456 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الأثر : 17454 - " أبو هاشم الرماني " ثقة ، روى له الجماعة . مختلف في اسمه ، مضى برقم : 10818 .

(14/559)


عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول : قال ابن مسعود : إن الكذب لا يحلُّ منه جدٌّ ولا هزلٌ ، اقرءوا إن شئتم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) ، قال : وكذلك هي قراءة ابن مسعود : (من الصادقين) ، فهل ترون في الكذب رُخْصَة ؟
17457 - ...... قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا عبيدة ، عن عبد الله ، نحوه.
17458 - ...... قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا عبيدة يحدِّث عن عبد الله قال : الكذب لا يصلح منه جدٌّ ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) وهي كذلك في قراءه عبد الله فهل ترون من رخصة في الكذب ؟
17459 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : لا يصلح الكذب في هزلٍ ولا جدٍّ. ثم تلا عبد الله : (اتقوا الله وكونوا) ، ما أدري أقال : (من الصادقين) أو(مع الصادقين) ، وهو في كتابي : (مع الصادقين).
17460 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ، مثله.
17461 - ...... قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : والصحيح من التأويل في ذلك ، هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك. وذلك أنّ رسوم المصاحف كلّها مجمعة على : (وكونوا مع الصادقين) ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحدٍ القراءةَ بخلافها.
* * *

(14/560)


مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)

وتأويل عبد الله ، رحمة الله عليه ، في ذلك على قراءته ، تأويلٌ صحيح ، غير أن القراءة بخلافها.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لم يكن لأهل المدينة ، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن حولهم من الأعراب) ، سُكّان البوادي ، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وهم من أهل الإيمان به ، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارٍ لهم ، (1) ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ، ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. (2) يقول : إنه لم يكن لهم هذا (بأنهم) ، من أجل أنهم ، وبسبب أنهم (لا يصيبهم) ، في سفرهم إذا كانوا معه (ظمأ) ، وهو العطش (ولا نصب) ، يقول : ولا تعب (ولا مخمصة في سبيل الله) ، يعني : ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته ، وهدْم مَنَار الكفر (3) (ولا يطئون موطئًا) ، يعني : أرضًا ، يقول : ولا يطأون أرضًا
__________
(1) في المطبوعة : " ولا دارهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " رغب " فيما سلف 3 : 89 .
(3) انظر تفسير " المخمصة " فيما سيأتي ص : 564 ، تعليق : 1 .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .

(14/561)


(يغيظ الكفار) ، وطؤهم إياها (1) (ولا ينالون من عدوّ نيلا) ، يقول : ولا يصيبون من عدوّ الله وعَدُوّهم شيئًا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ، ثوابَ عمل صالح قد ارتضاه (2) (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، يقول : إن الله لا يدع محسنًا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره ، وانتهى عما نهاه عنه ، أن يجازيه على إحسانه ، ويثيبه على صالح عمله. (3) فلذلك كتبَ لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية ، الثوابَ على كلّ ما فعل ، فلم يضيِّع له أجرَ فعله ذلك.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية.
* * *
فقال بعضهم : هي محكمة ، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، لم يكن لأحدٍ أن يتخلف إذا غزا خِلافَه فيقعد عنه ، إلا من كان ذا عُذْرٍ. فأما غيره من الأئمة والولاة ، فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلَّف خلافه ، إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.
* ذكر من قال ذلك :
17462 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) ، هذا إذا غزا نبيُّ الله بنفسه ، فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : لولا أن أشقَّ على أمتي ما تخلَّفت خلف سريّة تغزو في سبيل الله ، لكني لا أجد سَعةً ، فأنطلق بهم معي ، ويشقّ علي أو : أكره أن أدعهم بعدي.
17463 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، سمعت
__________
(1) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7 : 215 / 114 : 16 .
(2) انظر تفسير " كتب " فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(3) انظر تفسير " المحسن " فيما سلف من فهارس اللغة ( حسن ) .

(14/562)


الأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والفزاري ، والسبيعي ، وابن جابر ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، إلى آخر الآية ، إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون هذه الآية : نزلت وفي أهل الإسلام قلة ، فلما كثروا نسخها الله ، وأباح التخلف لمن شاء ، فقال : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) [سورة التوبة : 122]
* ذكر من قال ذلك :
17464 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، فقرأ حتى بلغ : (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ، قال : هذا حين كان الإسلام قليلا فلما كثر الإسلام بعدُ قال : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) ، إلى آخر الآية.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن الله عنى بها الذين وصفهم بقوله : ( وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) ، [سورة التوبة : 90] . ثم قال جل ثناؤه : (ما كان لأهل المدينة) ، الذين تخلفوا عن رسول الله ، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه ، أن يتخلفوا خِلافَه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلَّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص ، إلا من أذن له ، أو أمره بالمقام بعده. فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلُّف. فعدّد جل ثناؤه من تخلف منهم ، فأظهر نفاقَ من كان تخلُّفه منهم نفاقًا ، وعذر من كان تخلفه لعُذْرٍ ، وتاب على من كان تخلُّفه تفريطًا من غير شك ولا ارتياب

(14/563)


في أمر الله ، إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه ، فلم يكن محظورًا ، إذا لم يكن عن كراهةٍ منه صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم. فليس بفرضٍ على جميعهم النهوضُ معه ، إلا في حال حاجته إليهم ، لما لا بُدَّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم ، فيلزمهم حينئذ طاعته.
وإذا كان ذلك معنى الآية ، لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخةً للأخرى ، إذ لم تكن إحداهما نافيةً حكم الأخرى من كل وجوهه ، ولا جاء خبر يوجِّه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
* * *
وقد بينا معنى " المخمصة " ، وأنها المجاعة بشواهده ، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضعٍ غير هذا ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما " النيل " ، فهو مصدر من قول القائل : " نالني ينالني " ، و " نلت الشيء فهو مَنيل " . وذلك إذا كنت تناله بيدك ، وليس من " التناول " . وذلك أن " التناول " من " النوال " ، يقال منه : " نُلْتُ له ، أنول له " ، من العطيّة.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : " النيل " مصدر من قول القائل : " نالني بخير ينولني نوالا " ، و " أنالني خيرًا إنالةً " . وقال : كأن " النيل " من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب ، بل من شأن العرب أن تصحِّح الواو من ذوات الواو ، إذا سكنت وانفتح ما قبلها ، كقولهم : " القَوْل " ، و " العَوْل " ، و " الحول " ، ولو جاز ما قال ، لجاز " القَيْل " . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المخمصة " فيما سلف 9 : 532 - 534 .
(2) انظر تفسير " النيل " فيما سلف 3 : 20 / 6 : 587 / 12 : 408 ، 469 / 13 : 133 ولم يفسر " النيل " فيما سلف بمثل هذا البيان في هذا الموضع . وهذه ملاحظة نافعة في استخراج المنهج الذي ألف به أبو جعفر تفسيره هذا .

(14/564)


وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

القول في تأويل قوله : { وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " ، وسائر ما ذكر (ولا ينالون من عدوٍّ نيلا) (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، في سبيل الله (1) (ولا يقطعون) ، مع رسول الله في غزوه (واديًا) إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك ، جزاءً لهم عليه ، كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم ، كما : -
17465 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، الآية ، قال : ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بُعْدًا إلا ازدادوا من الله قربًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعًا. (2)
* * *
وقد بينا معنى " الكافة " بشواهده ، وأقوال أهل التأويل فيه ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة : " ولا كبيرة " ، وزدتها لأنها حق الكلام .
(2) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 8 : 536 / 14 : 254 ، 399 .
(3) انظر تفسير " الكافة " فيما سلف 4 : 257 ، 258 / 14 : 242 .

(14/565)


ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية ، وما " النفر " ، الذي كرهه لجميع المؤمنين ؟
فقال بعضهم : وهو نَفْرٌ كان من قوم كانوا بالبادية ، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام ، فلما نزل قوله : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) ، انصرفوا عن البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه ، وممن عُنِي بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، وكره انصرافَ جميعهم من البادية إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك :
17466 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، قال : ناسٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفًا ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودَعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا! فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجًا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يبتغون الخير (ليتفقهوا) ، وليسمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم (ولينذروا قومهم) ، الناس كلهم (إذا رجعوا اللهم لعلهم يحذرون).
17467 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله إلا أنه قال في حديثه : فقال الله : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، خرج بعض ، وقعد بعضٌ يبتغون الخير.
17468 - ...... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحو حديثه عن أبي حذيفة.

(14/566)


17469 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة غير أنه قال في حديثه : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم! وقال : (ليتفقهوا) ، ليسمعوا ما في الناس.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا إلى عدوّهم ، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده ، كما : -
17470 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قال : ليذهبوا كلهم فلولا نفر من كل حي وقبيلة طائفة ، وتخلف طائفة (ليتفقهوا في الدين) ، ليتفقه المتخلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
* * *
* ذكر من قال ذلك :
17471 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني عصبة ، يعني السرايا ، ولا يتَسرَّوا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن ، تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا ، وقد تعلمناه " . فيمكث السرايا يتعلَّمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ، [ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : (ليتفقهوا في الدين) ، يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه] ، (1) ويعلموا السرايا إذا رجعت
__________
(1) ما بين القوسين ، ليس في المخطوطة ، وزاده ناشر المطبوعة من الدر المنثور 3 : 292 ، فيما أرجح .

(14/567)


إليهم لعلهم يحذرون. (1)
17472 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله : (لعلهم يحذرون) ، قال : هذا إذا بعث نبيُّ الله الجيوشَ ، أمرهم أن لا يُعَرُّوا نبيه ، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها ، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
17473 - حدثنا الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، الآية ، كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحلَّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه ، إلا أهل العذر. وكان إذا أقام فأسرت السرايا ، لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن ، تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه. فإذا رجعت السرية ، قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا " ، فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول : إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني بذلك : أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعًا ونبيُّ الله قاعد ، ولكن إذا قعد نبيُّ الله ، تسرَّت السرايا ، وقعد معه عُظْمُ الناس.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ، ولكنهم منافقون. ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون ، لنفر بعضٌ ليتفقه في الدين ، ولينذر قومه إذا رجع إليهم.
__________
(1) كان في المطبوعة : " ويعلمونه " ، وفي الدر : " ويعلموه " ، وفي المخطوطة : " ويعلموا " عطفا على قوله : " ليفقهوا " .

(14/568)


* ذكر من قال ذلك :
17474 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضَر بالسِّنين أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تُقْبل بأسرها حتى يحلُّوا بالمدينة من الجهْد ، ويعتلُّوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيَّقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم ، وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين ، فردّهم رسول الله عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
* * *
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول ثالثٌ ، وهو ما : -
17475 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله : (لعلهم يحذرون) ، قال : كان ينطلق من كل حيّ من العرب عصابةٌ ، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسألونه عما يريدونه من دينهم ، ويتفقهون في دينهم ، ويقولون لنبي الله : ما تأمرنا أن نفعله ، وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم ؟ قال : فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله ، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : " إن من أسلم فهو منَّا " ، وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليعرِّف أباه وأمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم. (1) فإذا رجعوا إليهم ، يدعونهم إلى الإسلام ، وينذرونهم النار ، ويبشرونهم بالجنة.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت هذه الجملة في المخطوطة والمطبوعة ، وهي جملة غريبة التركيب ، أخشى أن يكون سقط منها شيء

(14/569)


وقال آخرون : إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزرَوْا بأعراب المسلمين وغيرهم ، (1) في تخلُّفهم خِلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف.
* ذكر من قال ذلك :
17476 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : ( مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ) ، إلى : ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ، قال ناس من المنافقين : هلك من تخلف! فنزلت : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى : (لعلهم يحذرون) ، ونزلت : ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) ، الآية [سورة الشورى : 16].
17477 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة قال ، حدثنا سليمان الأحول ، عن عكرمة ، قال : سمعته يقول : لما نزلت : ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) [سورة التوبة : 39] ، و( مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ ) ، إلى قوله : ( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) ، قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه! وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو ، إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، إلى قوله : (لعلهم يحذرون) ، ونزلت : ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ) ، الآية.
* * *
واختلف الذين قالوا : " عُنى بذلك النهيُ عن نَفْر الجميع في السرية ، وترك
__________
(1) في المطبوعة : " بأعراب المسلمين وعزروهم " ، والصواب ما في المخطوطة .

(14/570)


النبيّ عليه السلام وحده " في المعنيِّين بقوله : (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) .
فقال بعضهم : عُنى به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا : معنى الكلام : فهلا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد ، ليتفقه المتخلفون في الدين ، ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم ؟ وذلك قول قتاده ، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه ، من رواية سعيد بن أبي عروبة ، (1) وقد : -
17478 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الآية ، قال : ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، يقول : لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.
17479 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قالا كافة ، ويَدَعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة ، وتحذر النافرةُ المتخلفةَ.
* ذكر من قال ذلك :
17480 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، قال : ليتفقه الذين خرجوا ، بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 17472 .

(14/571)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويلُه : وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهادٍ وغير ذلك من أمورهم ، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدًا. ولكن عليهم إذا سَرَّى رسول الله سرية أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة (1) (طائفة) ، وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد ، (2) كما قال الله جل ثناؤه : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يقول : فهلا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ؟ (3) وهذا إلى هاهنا ، على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس ، وهو قول الضحاك وقتادة.
وإنما قلنا : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الأعراب ، لغير عذر يُعذرون به ، إذا خرج رسول الله لغزوٍ وجهادِ عدوٍّ قبل هذه الآية بقوله : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) ، ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فكان معلومًا بذلك إذْ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازمَ لهم من فرض النَّفْر ، والمباحَ لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خِلافه إلا لعذر ، بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عَقِيب تعريفهم ذلك ، تعريفُهم الواجبَ عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته ،
__________
(1) انظر تفسير " الفريق " و " الفرقة " فيما سلف : ص : 539 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف : ص : 403 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " لولا " فيما سلف 11 : 356 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(14/572)


وإشخاص غيره عنها ، كما كان الابتداءُ بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
* * *
وأما قوله : (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، (1) فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله ، على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان ، من لم يكن فقهه ، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم (لعلهم يحذرون) ، (2) يقول : لعل قومهم ، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك ، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرًا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبِروا خبرَهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه ، (3) لأن " النفر " قد بينا فيما مضى ، أنه إذا كان مطلقًا بغير صلة بشيء ، أنَّ الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو. (4) فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه ، وكان جل ثناؤه قال : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، علم أن قوله : (ليتفقهوا) ، إنما هو شرط للنفر لا لغيره ، إذْ كان يليه دون غيره من الكلام.
* * *
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معناه : ليتفقه المتخلِّفون في الدين ؟
قيل : ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نَفْر الطائفة النافرة ، لو كان سببًا لتفقه المتخلفة ، وجب أن يكون مقامها معهم سببًا لجهلهم وترك التفقه ، وقد علمنا أن
__________
(1) انظر تفسير " التفقه " فيما سلف ص : 413 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الحذر " فيما سلف 10 : 575 / 14 : 331 .
(3) انظر ما سلف رقم : 17480 .
(4) انظر ما سلف ص : 251 - 256 .

(14/573)


مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببًا لمنعهم من التفقه.
* * *
وبعدُ ، فإنه قال جل ثناؤه : (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، عطفًا به على قوله : (ليتفقهوا في الدين) ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدّم من الله إليها ، وللإنذار وخوف الوعيد نَفرتْ ، فما وجْهُ إنذار الطائفة المتخلفة الطائفةَ النافرةَ ، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما ؟ ولو كانت إحداهما جائزٌ أن توصف بإنذار الأخرى ، لكان أحقَّهما بأن يوصف به ، الطائفة النافرة ، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ، ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا ، من أنها تنذر من حَيِّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه : أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نُظَرائه من أهل الشرك.
* * *

(14/574)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : " يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم. (1) يقول لهم : ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا ، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ ، الروم ، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد ، فإن الفرض على
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .

(14/574)


أهل كل ناحية ، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام ، فإن اضطروا إليهم ، لزمهم عونهم ونصرهم ، لأن المسلمين يدٌ على من سواهم.
* * *
ولصحة كون ذلك كذلك ، تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية ، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من الأعداء.
* ذكر الرواية بذلك :
17481 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شبيب بن غرقدة البارقي ، عن رجل من بني تميم قال ، سألت ابن عمر عن قتال الديلم قال : عليك بالروم! (1)
17482 - حدثنا ابن بشار ، وأحمد بن إسحاق ، وسفيان بن وكيع قالوا ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال : الديلم.
17483 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم ، تلا هذه الآية : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).
17484 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا عمران أخي قال : سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت : ما ترى في قتال الديلم ؟ فقال :
__________
(1) الأثر : 17481 - " شبيب بن غرقدة البارقي " ، والمشهور " السلمي " ، مضى برقم : 3008 ، 3009 ، وهو تابعي ثقة . وهكذا جاء في المخطوطة كما أثبته ، ولكن ناشر المطبوعة كتبه هكذا " عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة البارقي ، عن رجل من بني تميم " ، وهو لا يصح أبدا ، لأن " عروة البارقي " ، هو : " عروة بن أبي الجعد البارقي " ، وهو صحابي معروف ، مضى أيضا برقم : 3008 . والذي حدث هناك أيضا أنه زاد في الإسناد " عروة " ، واستظهر أخي أنه زيادة في الإسناد ، وهو الصواب ، ويؤيده ما حدث في هذا الموضع ، من ناسخ أو ناشر . وعذره فيما أظن شهرة " شبيب بن غرقدة " أنه " السلمي " ، وأنه يروي عن " عروة البارقي " ، فلما رأى " شبيب بن غرقدة البارقي " ، ظن أنه خطأ في الإسناد فأضاف " عن عروة " بين " غرقدة " ، و " البارقي " .

(14/575)


قاتلوهم ورابطوهم ، فإنهم من الذين قال الله : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). (1)
17485 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن الربيع ، عن الحسن : أنه سئل عن الشأم والديلم ، فقال : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، الديلم.
17486 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، سمعت أبا عمرو ، وسعيد بن عبد العزيز يقولان : يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم وحصونهم ، ويتأوَّلان قول الله : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).
17487 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال : كان الذين يلونهم من الكفار العربُ ، فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، حتى بلغ ، ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) ، [سورة التوبة : 29]. قال : فلما فرغ من قتال من يليه من العرب ، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال : وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
* * *
وأما قوله : (وليجدوا فيكم غلظة) ، فإن معناه : وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم (فيكم) ، أي : منكم شدةً عليهم (2) (واعلموا أن الله مع المتقين) ، يقول : وأيقنوا ، عند قتالكم إياهم ، أن الله معكم ، وهو ناصركم عليهم ، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
* * *
__________
(1) الأثر : 17484 - " يعقوب بن عبد الله القمي " ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 16960 .
وهو يروي عن أخويه : " عبد الرحمن ، وعمران " ، ولم أجد لأخيه " عمران " ترجمة .
(2) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7 : 341 / 14 : 360 .

(14/576)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)

القول في تأويل قوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول : أيها الناس ، أيكم زادته هذه السورة إيمانًا ؟ يقول : تصديقًا بالله وبآياته. يقول الله : (فأما الذين آمنوا) ، من الذين قيل لهم ذلك (فزادتهم) ، السورة التي أنزلت (إيمانا) ، وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين. (1)
* * *
فإن قال قائل : أو ليس " الإيمان " ، في كلام العرب ، التصديق والإقرارُ ؟ (2) قيل : بلى!
فإن قيل : فكيف زادتهم السورة تصديقًا وإقرارًا ؟
قيل : زادتهم إيمانًا حين نزلت ، لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرضُ الإقرار بها والعمل بها بعينها ، إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقٌّ. فلما أنزل الله السورة ، لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله ، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه ، فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " استبشر " فيما سلف 7 : 396 .
(2) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف من فهارس اللغة ( أمن ) .

(14/577)


وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17488 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) ، قال : كان إذا نزلت سورة آمنوا بها ، فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا ، وكانوا يستبشرون.
17489 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (فزادتهم إيمانًا) ، قال : خشيةً.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وأما الذين في قلوبهم مرض) ، نفاق وشك في دين الله ، (1) فإن السورة التي أنزلت (زادتهم رجسًا إلى رجسهم) ، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله ، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا ، فكان ذلك زيادة شكٍّ حادثةٍ في تنزيل الله ، لزمهم الإيمان به عليهم ، بل ارتابوا بذلك ، فكان ذلك زيادة نَتْنٍ من أفعالهم ، إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق. وذلك معنى قوله : (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (2) (وماتوا) ، يعني : هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا (وهم كافرون) ، يعني : وهم كافرون بالله وآياته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المرض " فيما سلف 1 : 278 - 281 / 10 : 404 / 14 : 12 .
(2) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف ص : 425 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك

(14/578)


أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

القول في تأويل قوله : { أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءه قوله : (أولا يرون) .
فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( أو لا يرون ) ، بالياء ، بمعنى : أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرضُ النفاق ؟
وقرأ ذلك حمزة : (أَوَ لا تَرَوْنَ) ، بالتاء ، بمعنى : أو لا ترون أنتم ، أيها المؤمنون ، أنهم يفتنون ؟
قال أبو جعفر : والصواب عندنا من القراءة في ذلك ، الياءُ ، على وجه التوبيخ من الله لهم ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه ، وصحة معناه.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنَّ الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين ، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرة ، وفي بعضها مرتين (1) (ثم لا يتوبون) ، يقول : ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله ، والاختبار الذي يعرض لهم ، لا ينيبون من نفاقهم ، ولا يتوبون من كفرهم ، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته ، فيتعظوا بها ، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم ؟
واختلف أهل التأويل في معنى " الفتنة " التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها.
فقال بعضهم : ذلك اختبارُ الله إياهم بالقحط والشدة.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 286 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(14/579)


17490 - حدثنا ابن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : بالسَّنة والجوع.
17491 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (يفتنون) ، قال : يبتلون (في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : بالسنة والجوع.
17492 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين.
17493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : بالسنة والجوع.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : أنهم يختبرون بالغزو والجهاد.
* ذكر من قال ذلك :
17494 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين.
17495 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، مثله.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : أنهم يختبرون بما يُشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض.

(14/580)


* ذكر من قال ذلك :
17496 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة : (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئامٌ من الناس كثير.
17497 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة ، قال : كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
* * *
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الله عجَّب عبادَه المؤمنين من هؤلاء المنافقين ، ووبَّخ المنافقين في أنفسهم بقلّة تذكرهم ، وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائزٌ أن تكون تلك المواعظُ الشدائدَ التي ينزلها بهم من الجوع والقحط وجائزٌ أن تكون ما يريهم من نُصرة رسوله على أهل الكفر به ، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم وجائزٌ أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم ، بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا خبر يوجب صحةَ بعض ذلك دون بعض ، من الوجه الذي يجب التسليم له. ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو : أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين ، بما يكون زاجرًا لهم ، ثم لا ينزجرون ولا يتعظون ؟

(14/581)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)

القول في تأويل قوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وإذا ما أنزلت سورة) ، من القرآن ، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة ، وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (نظر بعضهم إلى بعض) ، فتناظروا (هل يراكم من أحد) ، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به ، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله : (صرف الله قلوبهم) ، فقال : صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين (1) (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول : فعل الله بهم هذا الخذلان ، وصرف قلوبهم عن الخيرات ، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه ، استكبارًا ، ونفاقا. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في الجالب حرفَ الاستفهام.
فقال بعض نحويي البصرة ، قال : (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، كأنه قال : " قال بعضهم لبعض " ، لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وشبيهًا به ، (3) والله أعلم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هو : وإذا ما أنزلت سورة قال بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد ؟
__________
(1) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 3 : 194 / 11 : 286 / 13 : 112 .
(2) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف ص : 573 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة " وتنبيها به " ، وصواب قراءته ما أثبت .

(14/582)


وقال آخر منهم : هذا " النظر " ليس معناه " القول " ، ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام ، كقول العرب : " تناظروا أيهم أعلم " ، و " اجتمعوا أيهم أفقه " ، أي : اجتمعوا لينظروا فهذا الذي يجلب الاستفهام.
* * *
17498 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس قال : لا تقولوا : " انصرفنا من الصلاة " ، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا : " قد قضينا الصلاة " .
17499 - ...... قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمير بن تميم الثعلبي ، عن ابن عباس قال : لا تقولوا : " انصرفنا من الصلاة " ، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم. (1)
17500 - ...... قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس قال : لا تقولوا : " انصرفنا من الصلاة " ، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا : " قد قضينا الصلاة " .
17501 - ...... حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) ، الآية ، قال : هم المنافقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما : -
17502 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، ممن
__________
(1) الأثر : 17499 - " عمير بن تميم الثعلبي " ، هكذا في المخطوطة أيضا ، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل 3 / 1 / 378 في " عمير بن قميم الثعلبي " بالقاف . وقال المعلق إنه في إحدى النسخ " عمير بن قثم التغلبي " . وفي الثقات والكنى للدولابي " بن تميم " . وقال ابن أبي حاتم : ( قال يحيى بن سعيد ، وأبو نعيم ، هو " أبو هلال الطائي " ، وقال وكيع : هو " أبو تهلل " . روى عن ابن عباس ، روى عنه أبو إسحاق الهمداني ، ويونس بن أبي إسحاق ، سمعت أبي يقول ذلك ) .

(14/583)


لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)

سمع خبرَكم ، رآكم أحدٌ أخبره ؟ (1) إذا نزل شيء يخبر عن كلامهم. قال : وهم المنافقون. قال : وقرأ : ( وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ) ، حتى بلغ : ( نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) أخبره بهذا ؟ أكان معكم أحد ؟ سمع كلامكم أحد يخبره بهذا ؟
17503 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو إسحاق الهمداني ، عمن حدثه ، عن ابن عباس قال : لا تقل : " انصرفنا من الصلاة " ، فإن الله عيَّر قومًا فقال : (انصرفوا صرف الله قلوبهم) ، ولكن قل : " قد صلَّينا " .
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للعرب : (لقد جاءكم) ، أيها القوم ، رسول الله إليكم (من أنفسكم) ، تعرفونه ، لا من غيركم ، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم (2) (عزيز عليه ما عنتم) ، أي : عزيز عليه عنتكم ، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى (3) (حريص عليكم) ، يقول : حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق (4) (بالمؤمنين رءوف) ، : أي رفيق (رحيم) . (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " من يسمع خبركم ولكم أحد أخبره " ، وما في المطبوعة مطابق لما في الدر المنثور 3 : 293 ، وهو شبيه بالصواب إن شاء الله .
(2) انظر تفسير " من أنفسهم " فيما سلف 7 : 369 .
(3) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز)
وتفسير " العنت " فيما سلف 4 : 360 / 7 : 140 - 144 / 8 : 206 .
(4) انظر تفسير " الحرص " فيما سلف 9 : 284 .
(5) انظر تفسير " رؤوف " فيما سلف 3 : 171 : 251 / 14 : 539 .
وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( رحم ) .

(14/584)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله : (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال : لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
17505 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد في قوله : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني خرجت من نكاحٍ ، ولم أخرج من سفاح.
17506 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، بنحوه.
17507 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال : جعله الله من أنفسهم ، فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. (1)
* * *
وأما قوله : (عزيز عليه ما عنتم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : ما ضللتم.
* ذكر من قال ذلك :
17508 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا طلق بن غنام قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن ابن عباس في قوله : (عزيز عليه ما عنتم) ، قال : ما ضللتم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ولا يحسدونه " بالواو ، والسياق يقتضي ما أثبت .

(14/585)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
* ذكر من قال ذلك :
17509 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (عزيز عليه ما عنتم) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه ، ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به ، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. (1)
* * *
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم ، وهو يقتل كفارَهم ، ويسبي ذراريَّهم ، ويسلبهم أموالهم ؟
قيل : إن إسلامهم ، لو كانوا أسلموا ، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه ، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم ، لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم ، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
* * *
وأما " ما " التي في قوله : (ما عنتم) ، فإنه رفع بقوله : (عزيز عليه) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت : عزيز عليه عنتكم.
* * *
وأما قوله : (حريص عليكم) ، فإن معناه : ما قد بيَّنت ، وهو قول أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة ، بياض بين " كما " ، و " الله به " بقدر كلمتين ، وفي المطبوعة أتم الكلام هكذا : " كما وصفه الله به ، عزيزا عليه " ، والزيادة بين القوسين استظهار مني ، وسائره كنص المخطوطة .

(14/586)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

17510 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (حريص عليكم) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (حريص عليكم) ، قال : حريص على من لم يسلم أن يسلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فإن تولى ، يا محمد ، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك ، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله ، وما دعوتهم إليه من النور والهدى (1) (فقل حسبي الله) ، يكفيني ربي (2) (لا إله إلا هو) ، لا معبود سواه (عليه توكلت) ، وبه وثقت ، وعلى عونه اتكلت ، وإليه وإلى نصره استندت ، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس (3) (وهو رب العرش العظيم) ، الذي يملك كلَّ ما دونه ، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. (4)
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم ، الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده ، وفي ملكه وسلطانه ، لأن " العرش العظيم " ، إنما يكون للملوك ، فوصف نفسه بأنه " ذو العرش " دون سائر خلقه ، وأنه الملك العظيم دون غيره ، وأن من دونه في سلطانه وملكه ، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(2) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص : 340 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 291 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12 : 482 .

(14/587)


17511 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (فإن تولوا فقل حسبي الله) ، يعني الكفار ، تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه في المؤمنين.
17512 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عبيد بن عمير قال : كان عمر رحمة الله عليه لا يُثْبت آيةً في المصحف حتى يَشْهَدَ رجلان ، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) ، فقال عمر : لا أسألك عليهما بيّنةً أبدًا ، كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
17513 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن زهير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله رحيم يحبّ كل رحيم ، يضع رحمته على كل رحيم. قالوا : يا رسول الله ، إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا قال : وأراه قال : وأزواجنا ؟ قال : ليس كذلك ، ولكن كونوا كما قال الله : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) . أراهُ قرأ هذه الآية كلها. (1)
17514 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآية.
__________
(1) الأثر : 17513 - " أحمد بن عبد الله بن يونس التيمي " ، ثقة ، مضى مرارا آخرها رقم : 16095 .
و " زهير " ، هو " زهير بن معاوية بن حديج الجعفي " ، ثقة ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 12794 .
و " أبو صالح الحنفي " تابعي ثقة ، مضى برقم : 3226 ، 13291 - 13293 وهذا خبر مرسل .

(14/588)


17515 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبيّ قال : آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، الآية. (1)
17516 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن أبيّ قال : أحدثُ القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآيتين. (2)
17517 - حدثني أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن محمد قال ، حدثنا أبان بن يزيد العطار ، عن قتادة ، عن أبي بن كعب قال : أحدث القرآن عهدًا بالله ، الآيتان : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، إلى آخر السورة. (3)
* * *
آخر تفسير سورة التوبة (4) تم الجزء الرابع عشر من تفسير الطبري
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله :
تفسير السورة التي يذكر فيها يونس
__________
(1) الأثران : 17514 ، 17515 - " علي بن زيد بن جدعان " ، سيئ الحفظ ، مضى مرارا آخرها رقم : 13493 ، 16736 .
و " يوسف بن مهران البصري " ، ثقة ، مضى مرارا ، آخرها : 13495 . وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه 5 : 117 ، من طريق محمد بن أبي بكر ، عن بشر بن عمر ، عن شعبة ، بمثله .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 36 ، وقال : " رواه عبد الله بن أحمد ، والطبراني ، وفيه علي بن زيد بن جدعان ، وهو ثقة سيء الحفظ ، وبقية رجاله ثقات " .
(2) الأثر : 17516 - مكرر الذي قبله ، ولكنه مرسل عن أبي .
(3) الأثر : 17517 - مرسل ، قتادة لم يرو عن أبي بن كعب .
(4) بعد هذا في المخطوطة ما نصه : " والحمد لله رب العالمين يتلوه إن شاء الله تعالى تفسير السورة التي يذكر فيها يونس " .

(14/589)


الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)

سورة يونس
القول في تأويل قوله تعالى : { الر }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم تأويله : أنا الله أرى.
* ذكر من قال ذلك :
17518 - حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : ( الر ) ، أنا الله أرى. (1)
17519 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس قوله : ( الر ) ، قال : أنا الله أرى.
* * *
وقال آخرون : هي حروف من اسم الله الذي هو " الرحمن " .
*ذكر من قال ذلك :
17520 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا علي بن
__________
(1) الأثر : 17518 - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 4451 ، 11545 .

(15/589)


الحسين قال حدثني أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( الر ) و( حم ) و( نون ) حروف " الرَّحمن " مقطعةً.
17521 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال : ذكر سالم بن عبد الله : ( الر ) و( حم ) و( نون ) ، فقال : اسم " الرحمن " مقطع ثم قال : " الرحمن " .
17522 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي حماد قال ، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : ( الر ) و( حم ) و( نون ) ، هو اسم " الرحمن " .
17523 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن أبي عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن عامر : أنه سئل عن : ( الر ) و( حم ) و( ص ) ، قال : هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء ، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى.
* * *
وقال آخرون : هي اسم من أسماء القرآن.
*ذكر من قال ذلك :
17524 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( الر ) ، اسم من أسماء القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اختلاف الناس ، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره ، وذلك في أول " سورة البقرة " ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا ، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا ، قوله في( الم ) ، فأما
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 205 - 224 .

(15/10)


الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك ، فقد ذكرنا قولهم هناك ، مكتفًي عن الإعادة ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) }
قال أبو جعفر : اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تلك آيات التوراة.
* ذكر من قال ذلك :
17525 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن مجاهد : ( تلك آيات الكتاب الحكيم ) ، قال : التوراة والإنجيل.
17526 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق ، قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : ( تلك آيات الكتاب ) ، قال : الكُتُب التي كانت قبل القرآن.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : هذه آيات القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، تأويل من تأوّله : " هذه آيات القرآن " ، ووجّه معنى(تلك) إلى معنى " هذه " ، وقد بينا وجه توجيه( تلك ) إلى هذا المعنى في " سورة البقرة " ، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
و( الآيات ) ، الأعلام و(الكتاب) ، اسم من أسماء القرآن ، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ومكتفيًا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) انظر ما سلف 1 : 225 - 228 .
(3) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أي ) .
وتفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .

(15/11)


أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)

وإنما قلنا : هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب ، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ ، فيوجه إليه الخبر.
فإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : والرحمن ، هذه آيات القرآن الحكيم.
* * *
ومعنى( الحكيم ) ، في هذا الموضع ، " المحكم " ، صرف " مُفْعَل " إلى " فعيل " ، كما قيل : ( عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، بمعنى مؤلم ، (1) وكما قال الشاعر : (2)
*أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* (3)
وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. (4)
فمعناه إذًا : تلك آيات الكتاب المحكم ، الذي أحكمه الله وبينه لعباده ، كما قال جل ثناؤه : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) [سورة هود : 1]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه ، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .
(2) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي .
(3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1 : 283 .
(4) انظر ما سلف 1 : 283 ، 284 ، وغيره من المواضع في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها .

(15/12)


من قبله إلى مثله من البشر ، فتعجَّبوا من وحينا إليه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17527 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ! فأنزل الله تعالى : ( أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم ) ، وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا ) [سورة يوسف : 109].
17528 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال : ومثل ذلك : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) [سورة الأعراف : 65] ، ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) ، [سورة الأعراف : 73] ، قال الله : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) ، [سورة الأعراف : 69].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم : أن أنذر الناس ، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله : ( أن لهم قدم صدق ) ، عطفٌ على( أنذر ) .
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " و " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) ، ( نذر ) .

(15/13)


واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( قدم صدق ) ، فقال بعضهم : معناه : أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال.
* ذكر من قال ذلك :
17529 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال : ثواب صِدق.
17530 - . . . . قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال : الأعمال الصالحة.
17531 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول : أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم.
17532 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن حبان ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث ، عن مجاهد : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال : صلاتهم وصومهم ، وصدقتُهم ، وتسبيحُهم. (1)
17533 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قدم صدق ) ، قال : خير.
17534 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قدم صدق ) ، مثله.
17535 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) الأثر : 17532 - " زيد بن حباب التميمي " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11490 . وكان في المطبوعة : " يزيد بن حبان " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فتصرف أسوأ التصرف .
و " إبراهيم بن يزيد الخوزي " ، ضعيف ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17313 .
و " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث " ، ثقة ، مضى برقم : 16259 ، 17313 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الوليد بن عبد الله ، عن أبي مغيث " ، وهو خطأ محض .

(15/14)


عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17536 - . . . . قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : ( قدم صدق ) ، ثواب صدق ( عند ربهم ) .
17537 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
17538 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ) ، قال : " القدم الصدق " ، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال.
* * *
وقال آخرون : معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
* ذكر من قال ذلك :
17539 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول : سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم ، قَدَمَ صدق.
* ذكر من قال ذلك :
17540 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل بن عمرو بن الجون ، عن قتادة أو الحسن : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال : محمدٌ شفيعٌ لهم. (1)
17541 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) الأثر : 17540 - " فضيل بن عمرو بن الجون " ، لم أجد له ترجمة . ولا أدري أهو " فضيل بن عمرو الفقيمي " ، أو غيره ! .

(15/15)


قوله : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم.
17542 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال : محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قولُ من قال : معناه : أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ.
* * *
وذلك أنه محكيٌّ عن العرب : " هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام " أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا ، فكان لهم فيه تقديم. ويقال : " له عندي قدم صِدْق ، وقدم سوء " ، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر ، ومنه قول حسان بن ثابت :
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَحَلْفُنَا... لأَوّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (1)
وقول ذي الرمة :
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا... مَعَ الحَسَبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ (2)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 13 : 209 ، وروايته هناك : " لنا القدم الأولى " .
(2) ديوانه 272 ، من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، يقول بعده : خِلاَلَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى عِنْدَ رَبِّهِ ... وَعُثْمَانَ وَالفَارُوقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرِ
ورواية ديوانه : " طمت على الفخر " .

(15/16)


القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) }
قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : ( إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) ، بمعنى : إن هذا الذي جئتنا به يعنون القرآن لسحر مبين.
* * *
وقرأ ذلك مسروق ، وسعيد بن جبير ، وجماعة من قراء الكوفيين : ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ).
* * *
وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك : أن كل موصوف بصفةٍ ، يدل الموصوف على صفته ، وصفته عليه. (1)
والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك ، وذلك نظير هذا الحرف : ( قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ) ، و " لساحر مبين " . (2)
وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه " ساحر " ، ووصفهم ما جاءهم به أنه " سحر " يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك ، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ ، لاتفاق معنى القراءتين.
* * *
وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وهو : " فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي " قال الكافرون : إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى
__________
(1) في المطبوعة : " نزل الموصوف " ، وفي المخطوطة : " ترك " ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(2) انظر ما سلف 11 : 216 ، 217 .

(15/17)


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)

رجل منهم : أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم ، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي : يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن ربكم الذي له عبادة كل شيء ، ولا تنبغي العبادة إلا له ، هو الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام ، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور ، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ ، ولا يدخل أموره خلل. (2) ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، يقول : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد ، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة (3) " ( ذلكم الله ربكم ) ، يقول جل جلاله : هذا الذي هذه صفته ، سيِّدكم ومولاكم ، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان ( فاعبدوه ) ،
__________
(1) انظر تفسير " السحر " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( سحر ) ، ( بين ) .
(2) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف 1 : 428 - 431 / 12 : 483 وتفسير " العرش " فيما سلف 12 : 482 / 14 : 587 .
(3) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف 12 : 481 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الإذن " فيما سلف 14 : 112 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/18)


يقول : فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته ، وأخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهية والربوبية ، بالذلة منكم له ، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة ( أفلا تذكرون) ، يقول : أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج ، (1) فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة ، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها ؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17543 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( يدبر الأمر ) ، قال : يقضيه وحدَه.
17544 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، قال : يقضيه وحده.
17545 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( يدبر الأمر ) قال : يقضيه وحده.
17546 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17547 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف 12 : 493 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/19)


إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه ، معادُكم ، أيها الناس ، يوم القيامة جميعًا. (1) ( وعد الله حقا ) فأخرج( وعد الله ) مصدَّرًا من قوله : ( إليه مرجعكم ) ، لأنه فيه معنى " الوعد " ، ومعناه : يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا ، فلذلك نصب(وعد الله حقا) ( إنه يبدأ لخلق ثم يعيده ) يقول تعالى ذكره : إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ( ثم يعيده ) ، يقول : ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه ، بعد فنائه وبَلائِه. (2) كما : -
17548 - حدثني محمد بن عمرو ، قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال : يحييه ثم يميته قال أبو جعفر : وأحسبه أنا قال : " ثم يحييه " .
17549 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال : يحييه ثم يميته ، ثم يحييه.
17550 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف 12 : 287 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " البدء " و " العود " فيما سلف 12 : 382 - 388 .

(15/20)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، : يحييه ، ثم يميته ، ثم يبدؤه ، ثم يحييه.
17551 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
* * *
وقرأت قراء الأمصار ذلك : ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ) ، بكسر الألف من(إنه) ، على الاستئناف.
* * *
وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه( أَنَّهُ ) بفتح الألف من( أنه ).
* * *
كأنه أراد : حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ف " أنّ " حينئذ تكون رفعًا ، كما قال الشاعر : (1)
أحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ زَائِرًا... رُبَى جَنَّة إِلا عَلَيَّ رَقِيبُ (2)
* * *
وقوله : (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) ، يقول : ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره( ليجزي الذين آمنوا) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، على أعمالهم الحسنة (3) (بالقسط) يقول : ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب ، والصالحَ من الجزاء في الآخرة وذلك هو " القسط " ، و " القسط " العدلُ والإنصاف ، (4) كما : -
17552 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) في المطبوعة : " أبا حبة إلا على رقيب " ، وهو تحريف لما في المخطوطة ، وهو فيها هكذا ، غير منقوط : " رباحه " ، وصواب قراءته ما أثبت .
(3) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( جزى ) .
(4) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 12 : 379 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/21)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (بالقسط) ، بالعدل.
* * *
وقوله : (والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم) ، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب ، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم ، كفارهم ومؤمنيهم ، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان ، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ ، ابتدأ الخبر ، والمعنيُّ العطف فقال : والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله( لهم شراب ) في جهنم(من حميم) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره ، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه ، وكما وصفه جل ثناؤه : ( كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) ، [سورة الكهف : 29].
* * *
وأصله : " مفعول " صرف إلى " فعيل " ، وإنما هو " محموم " : أي مسخّن ، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم ، (1)
ومنه قول المرقش :
وَكُلُّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ... فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (2)
يعني ب " الحميم " ، الماء المسخَّن.
* * *
وقوله : (عذاب أليم) ، يقول : ولهم مع ذلك عذاب موجع ، (3) سوى الشراب من الحميم ، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حميم " فيما سلف 11 : 448 ، 449 .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 11 : 448 ، وروايته هناك : " في كل ممسي " .
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .

(15/22)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض(هو الذي جعل الشمس ضياء) ، بالنهار(والقمر نورًا) بالليل. ومعنى ذلك : هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر(وقدّره منازل) ، يقول : قضاه فسوّاه منازلَ ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها ، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. (1)
* * *
وقال : (وقدّره منازل) ، فوحّده ، وقد ذكر " الشمس " و " القمر " ، فإن في ذلك وجهين :
أحدهما : أن تكون " الهاء " في قوله : (وقدره) للقمر خاصة ، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين ، لا بالشمس.
والآخر : أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر ، كما قال في موضع آخر : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) ، [سورة التوبة : 62] ، وكما قال الشاعر : (2)
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي... بَرِيًّا ، وَمِنْ جُولِ الطَّوِيِّ رَمَانِي (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقدير " فيما سلف 11 : 560 .
(2) هو ابن أحمر ، أو : الأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي .
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 458 ، اللسان ( جول ) ، وغيرهما . وكانت بينه وبين رجل حكومة في بئر ، فقال خصمه : " إنه لص ابن لص " ، فقال هذا الشعر ، وبعده : دَعَانِي لِصًّا فِي لُصُوصٍ ، ومَا دَعَا ... بِهَا وَالِدِي فِيمَا مَضَى رَجُلاَن
ورواية البيت على الصواب : " ومن أجل الطوى " ، و " الطوى " : البئر . و " الجول " و " الجال " ناحية من نواحي البئر إلى أعلاها من أسفلها .

(15/23)


إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

وقوله : (لتعلموا عدد السنين والحساب) ، يقول : وقدّر ذلك منازل (لتعلموا) ، أنتم أيها الناس ( عدد السنين) ، دخول ما يدخل منها ، أو انقضاءَ ما يستقبل منها ، وحسابها يقول : وحساب أوقات السنين ، وعدد أيامها ، وحساب ساعات أيامها( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) ، يقول جل ثناؤه : لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره : خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي ، بغير عون ولا شريك(يفصل الآيات) يقول : يبين الحجج والأدلة (1) (لقوم يعلمون) ، إذا تدبروها ، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، من خلع الأنداد ، والبراءة من الأوثان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته ، وأنه خالق كلِّ ما دونه : إن في اعتقاب الليل النهارَ ، واعتقاب النهار الليلَ ، . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا ، (2) وفيما خلق الله في السموات من الشمس والقمر والنجوم ، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء(لآيات) ، يقول : لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً(لقوم يتقون) الله ، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف : 14 : 152 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
(2) وتفسير " اختلاف الليل والنهار " فيما سلف 3 : 272 ، 273 .

(15/24)


فإن قال قائل : أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض على صانعه ، إلا لمن اتقى الله ؟
قيل : في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته ، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه : إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله ، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق ، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة ، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
* * *

(15/25)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة ، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب ، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها ، راضُون بها عوضًا من الآخرة ، مطمئنين إليها ساكنين (1) والذين هم عن آيات الله وهي أدلته على وحدانيته ، وحججه على عباده ، في إخلاص العبادة له (غافلون) ، معرضون عنها لاهون ، (2) لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه ، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه ، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون(أولئك مأواهم النار) ، يقول جل ثناؤه : هؤلاء الذين هذه صفتهم (مأواهم ) ، مصيرها إلى النار نار
__________
(1) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 13 : 418 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف 13 : 281 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/25)


جهنم في الآخرة (1) (بما كانوا يكسبون) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام ، ويجْترحون من السيئات. (2)
* * *
والعرب تقول : " فلان لا يرجو فلانًا " : إذا كان لا يخافه.
ومنه قول الله جل ثناؤه : ( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ). [سورة نوح : 13] ، (3) ومنه قول أبي ذؤيب :
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْج لَسْعَهَا... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوب عَوَاسِلِ (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17553 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واطمأنوا بها) ، قال : هو مثل قوله : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ).
17554 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، قال : هو مثل قوله : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ) [سورة هود : 15].
17555 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17556 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله(إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن
__________
(1) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 14 : 425 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة ( كسب ) .
(3) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب).
(4) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 9 : 174 .

(15/26)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

آياتنا غافلون) ، قال : إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا ، لها يفرح ، ولها يحزن ، ولها يسخط ، ولها يرضى.
17557 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، الآية كلها ، قال : هؤلاء أهل الكفر. ثم قال : (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله(وعملوا الصالحات) ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره (1) (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، يقول : يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة ، كما : -
17558 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له : ما أنت ؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول : أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة (2)
__________
(1) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة ( صلح ) .
(2) في المطبوعة : " وبشارة " ، والصواب ما أثبته من المخطوطة .

(15/27)


فيقول : ما أنت ؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول : أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار.
17559 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال : يكون لهم نورًا يمشون به.
17560 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد ، مثله.
17561 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17562 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله وقال ابن جريج : (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال : يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة ، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله : (يهديهم ربهم بإيمانهم). والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : بإيمانهم ، يهديهم ربهم لدينه. يقول : بتصديقهم هَدَاهم.
* ذكر من قال ذلك :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) في المطبوعة : " ويلاده " ؛ بالدال ، وأثبت في المخطوطة. " لازه يلازه ملازاة ولزازًا " قارنه ولزمه ولصق به

(15/28)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
* * *
وقوله : (تجري من تحتهم الأنهار) ، يقول : تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم ، أنهار الجنة( في جنات النعيم) ، يقول في بساتين النعيم ، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. (2)
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( تجري من تحتهم الأنهار) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات ؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم ، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها ؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة ، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معنى ذلك : تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم ، وذلك نظير قول الله : ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) [سورة مريم : 24]. ومعلوم أنه لم يجعل " السري " تحتها وهي عليه قاعدة إذ كان " السري " هو الجدول وإنما عني به : جعل دونها : بين يديها ، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون ، ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) ، [سورة الزخرف : 51] ، بمعنى : من دوني ، بين يديّ.
* * *
__________
(1) لم يذكر شيئًا بعد قوله : " ذكر من قال ذلك " ، وفي هامش المخطوطة " كذا " ، وهو دليل على أنه سقط قديم .
(2) انظر تفسير " جنات النعيم " فيما سلف 10 : 461 ، 462 .

(15/29)


وأما قوله : (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، فإن معناه : دعاؤهم فيها : سبحانك اللهم ، (1) كما : -
17563 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرت أن قوله : (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، قال : إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه (2)
قالوا : سبحانك اللهم! وذلك دعواهم ، فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم فيردّون عليه ، فذلك قوله : ( وتحيتهم فيها سلام). قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم ، فذلك قوله : (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
17564 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، يقول : ذلك قولهم فيها(وتحيتهم فيها سلام).
17565 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال : سمعت سفيانا يقول : (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) ، قال : إذا أرادوا الشيء قالوا : " اللهم " ، فيأتيهم ما دَعَوا به.
* * *
وأما قوله : (سبحانك اللهم) ، فإن معناه : تنزيها لك ، يا رب ، مما أضاف إليك أهل الشرك بك ، من الكذب عليك والفِرْية. (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17566 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي.
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف 12 : 303 ، 304 .
(2) في المطبوعة : " فيشتهونه " بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 14 ، 213 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/30)


عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم : " سبحان الله " تنزيهٌ لله.
17567 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : سمعت موسى بن طلحة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " سبحان الله " ، قال : إبراء الله عن السوء.
17568 - حدثنا أبو كريب ، وأبو السائب ، وخلاد بن أسلم قالوا ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا قابوس ، عن أبيه : أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن " سبحان الله " ، قال : كلمة رضيها الله لنفسه.
17569 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي ، عن موسى بن طلحة قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " سبحان الله " ، فقال : تنزيهًا لله عن السوء. (1)
17570 - حدثني علي بن عيسى البزار قال ، حدثنا عبيد الله بن محمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال ، حدثني حفص بن سليمان قال ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير " سبحان الله " ، فقال : هو تنزيه الله من كل سوء. (2)
__________
(1) الأثر : 17567 ، 17569 - " سفيان " بن سعيد ، هو الثوري الإمام المشهور .
و " عثمان بن عبد الله بن وهب التيمي " ، مولى آل طلحة ينسب إلى جده يقال : " عثمان بن وهب " تابعي ثقة ، روى عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وأم سلمة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 155 .
و " موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، تابعي ثقة ، روى عن أبيه وغيره من الصحابة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 286 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 147 .
وهو خبر مرسل ، وسيأتي موصولا في الذي يليه ، ولكنها أخبار لا يقوم إسنادها .
(2) الأثر : 17570 - " علي بن عيسى البزار " ، شيخ الطبري ، هو " علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي ، ثقة ، مضى برقم : 2168 .
و " عبيد الله بن محمد بن حفص التميمي ، العيشي " ، من ولد عائشة بنت طلحة ، ثقة ، مستقيم الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 335 .
و " عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله " ، منكر الحديث ، لا يحتج به .
مترجم في لسان الميزان 3 : 412 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 226 ، ومي زان الاعتدال 2 : 102 .
و " حفص بن سليمان الأسدي البزار " ، ضعيف الحديث ، مضى برقم : 5753 ، 11458 .
و " طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، وثقه ابن معين وغيره ، وقال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال في كتاب الضعفاء الصغير ص : 46 : " وليس بالقوي " ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 477 .
وأبوه : " يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 283 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 160 .
وهذا خبر هالك الإسناد ، كما رأيت .

(15/31)


17571 - حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال ، حدثنا سليمان بن أيوب قال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، قول " سبحان الله " ؟ قال : تنزيه الله عن السوء. (1)
* * *
(وتحيتهم) ، يقول : وتحية بعضهم بعضًا(فيها سلام) ، أي : سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. (2)
* * *
والعرب تسمي الملك " التحية " ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب :
أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي (3)
__________
(1) الأثر : 17571 - " محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، المصري " ، أبو الكروس ، شيخ الطبري ، مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 34 .
و " سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة " روى نسخة عن أبيه عن آبائه عامة ، أحاديثه لا يتابع عليها ، وروى أحاديث مناكير . وذكره ابن حبان في الثقات . مترجم من التهذيب وابن أبي حاتم 2 / 1 / 101 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضًا .
(2) انظر تفسير " التحية " فيما سلف 8 : 586 - 590 .
(3) من قصيدة طويلة له ، رواها أبو علي القالي في أماليه 3 : 147 - 150 ، واللسان ( حيا ) ، مع اختلاف في الرواية .

(15/32)


وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ومنه قول زهير بن جناب الكلبي :
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى... قَدْ نِلْتُهُ إلا التَّحِيَّهْ
* * *
وقوله : (وآخر دعواهم) ، يقول : وآخر دعائهم (1) (أن الحمد لله رب العالمين) ، يقول : وآخر دعائهم أن يقولوا : الحمد لله رب العالمين " ، ولذلك خففت " أن " ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال(استعجالهم بالخير) ، يقول : كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به(لقضي إليهم أجلهم) ، يقول : لهلكوا ، وعُجِّل لهم الموت ، وهو الأجل. (2)
* * *
وعني بقوله : (لقضي) ، لفرغ إليهم من أجلهم ، (3) ونُبذ إليهم ، (4) كما قال أبو ذؤيب :
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ص : 30 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 13 : 290 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 13 : 290 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " وتبدى لهم " ، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته .

(15/33)


وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا... دَاوُدُ ، أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ (1)
* * *
(فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول :
فندع الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور ، (2) (في طغيانهم) ، يقول : في تمرّدهم وعتوّهم ، (3) (يعمهون) يعني : يترددون. (4)
وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم ، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم ، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم ، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17572 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال : قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله : " لا باركَ الله فيه ولعنه " !
17573 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال : قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " !
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2 : 542 .
(2) انظر تفسير " يذر " فيما سلف من فهارس اللغة ( وذر ) .
وتفسير " الرجاء " فيما سلف ص : 26 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف 13 : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " العمه " فيما سلف 13 : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/34)


فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك ، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
17574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال : قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " (لقضي إليهم أجلهم) قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته.
17575 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال : قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " ! قال الله : (لقضي إليهم أجلهم) ، قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال : (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، قال يقول : لا نهلك أهل الشرك ، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.
17576 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قوله : (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال : هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
17577 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (لقضي إليهم أجلهم) ، قال : لأهلكناهم. وقرأ : ( مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) ، [سورة فاطر : 45] . قال : يهلكهم كلهم.
* * *
ونصب قوله : (استعجالهم) ، بوقوع(يعجل) عليه ، كقول القائل : " قمت اليوم قيامَك " بمعنى : قمت كقيامك ، وليس بمصدّرٍ من(يعجل) ، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول " الكاف " أعني كاف التشبيه فيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 458 .

(15/35)


وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)

واختلفت القراء في قراءة قوله : (لقضي إليهم أجلهم) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بضم القاف من " قضي " ، ورفع " الأجل " .
* * *
وقرأ عامة أهل الشأم : ( لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ ) ، بمعنى : لقضى الله إليهم أجلهم.
* * *
قال أبو جعفر : وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، لأن عليه أكثر القراء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (1) (دعانا لجنبه) ، يقول : استغاث بنا في كشف ذلك عنه ( لجنبه) ، يعني مضطجعًا لجنبه. (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به (فلما كشفنا عنه ضره) ، يقول : فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (2) (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ، يقول : استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، (3) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه ، وترك الشكر لربه الذي
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف 14 : 64 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضرر ) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11 : 354 / 13 : 73 .
(3) انظر تفسير " مر " فيما سلف 13 : 304 ، 305 .

(15/36)


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به ، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره : (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون) ، يقول : كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه ، (1) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر ، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه ، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به ، (2) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17578 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : (دعانا لجنبه) ، قال : مضطجعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم (3) (لما ظلموا) ، يقول : لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه (4) (وجاءتهم رسلهم) من عند الله ، (بالبينات) ، وهي الآيات والحجج
__________
(1) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 14 : 245 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 12 : 458 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " القرون " فيما سلف 11 : 263 .
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ) .

(15/37)


ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. (1)
ومعنى الكلام : وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق ( وما كانوا ليؤمنوا) يقول : فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له ( وكذلك نجزي المجرمين) ، يقول تعالى ذكره : كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم ، أيها المشركون ، بظلمهم أنفسَهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وردِّهم نصيحتَهم ، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم ، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي ، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا ، وأوردُه النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) }
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره : ثم جعلناكم ، أيها الناس ، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا ، تخلفونهم في الأرض ، وتكونون فيها بعدهم (2) (لننظر كيف تعملون) ، يقول : لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم ، تحتذون مثالهم فيه ، فتستحقون من العقاب ما استحقوا ، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات ، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل ، كما : -
17579 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ،
__________
(1) انظر تفسير " البينات " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(2) انظر تفسير " الخلائف " فيما سلف 13 : 122 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/38)


عن قتادة قوله : (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : صدق ربُّنا ، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا ، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار ، والسر والعلانية.
17580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال ، حدثنا حماد عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه : رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء ، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (1)
ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر ، ثم ذُرِع الناس حول المنبر ، (2)
ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر : دعنا من رؤياك ، لا أرَبَ لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال : يا عوف ، رؤياك! قال : وهل لك في رؤياي من حاجة ؟ أو لم تنتهرني! قال : ويحك ! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقصّ عليه الرؤيا ، حتى إذا بلغ : " ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع " ، قال : أمّا إحداهن ، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية ، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة ، فإنه شهيد. قال : فقال يقول الله : (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل.
وأما قوله : " فإني لا أخاف في الله لومة لائم " فما شاء الله.
وأما قوله : " فإني شهيد " فأنَّى لعمر الشهادة ، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال : إن الله على ما يشاء قدير. (3)
* * *
__________
(1) " انتشط " ( بالبناء للمجهول ) ، أي : انتزع ، جذب إلى السماء ورفع إليها ، من قولهم : " نشط الدلو من البئر " ، إذا نزعها وجذبها من البئر صعدا بغير بكرة .
(2) " ذرع الناس " ، أي : قدر ما بينهم وبين المنبر بالذراع . يقال : " ذرع الثوب " ، إذا قدره بالذراع.
(3) الأثر : 17580 - " زيد بن عوف القطعي " ، " أبو ربيعة " ، " فهد " ، متروك ، وقد مضى برقم : 5623 ، 14215 ، 14218 ، 14221 . وكان في المطبوعة هنا : " يزيد بن عوف ، أبو ربيعة ، بهذا " ، ومثله في تفسير ابن كثير 4 : 287 ، وهو اتفاق غريب على الخطأ ! .
وهذا الخبر ، رواه ابن سعد بغير هذا اللفظ ، بإسناد حسن في كتاب الطبقات الكبير 3 / 1 / 239 .

(15/39)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلنَاه إليك ، يا محمد (1) (بينات) ، واضحات ، على الحق دالاتٍ (2) (قال الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول : قال الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالمعاد إلينا ، ولا يصدّقون بالبعث ، (3) لك (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) ، يقول : أو غيِّره (4) (قل) لهم ، يا محمد (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) ، أي : من عندي. (5)
* * *
والتبديل الذي سألوه ، فيما ذكر ، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد ، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا ، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه ، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه ، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع.
* * *
وقوله : (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) ، يقول : قل لهم : ما أتبع في كل ما آمركم
__________
(1) انظر تفسير " تلا " فيما سلف 13 : 502 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(3) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف ص : 34 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " التبديل " فيما سلف 11 : 335 / 12 : 62 ، وفهارس اللغة ( بدل ) .
(5) انظر تفسير " تلقاء " فيما سلف 12 : 466 .

(15/40)


قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)

به أيها القوم ، وأنهاكم عنه ، إلا ما ينزله إليّ ربي ، ويأمرني به (1) ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، يقول : إني أخشى من الله إن خالفت أمره ، وغيَّرت أحكام كتابه ، وبدّلت وَحيه ، فعصيته بذلك ، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه ، وذلك : يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه ، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا أو بدله) (قل) لهم ، يا محمد (لو شاء الله ما تلوته عليكم) ، أي : ما تلوت هذا القرآن عليكم ، أيها الناس ، بأن كان لا ينزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم (3) (ولا أدراكم به) ، يقول : ولا أعلمكم به( فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله) يقول : فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم ، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي (أفلا تعقلون) ، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول ، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي ، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم ؟ فقد كان لي اليوم ، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم ، مندوحةٌ عن معاداتكم ، ومتّسَعٌ ، في الحال التي كنت بها
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) .
(2) هذا تضمين لآية سورة الحج : 2 .
(3) انظر تفسير " تلا " فيما سلف ص : 40 ، رقم : 1 .

(15/41)


منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17581 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم.
17582 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول : لو شاء الله لم يعلمكموه.
17583 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول : ما حذَّرتكم به.
17584 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون) ، لبث أربعين سنة.
17585 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم به.
17586 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أنه كان يقرأ : (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ) ، يقول : ما أعلمتكم به. (1)
17587 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول ،
__________
(1) في المخطوطة : " ولا أدرأكم " ، وفي المطبوعة : " ولا أدراتكم " ، بغير همز ، والصواب ما أثبت ، كما نص عليه ابن خالويه في شواذ القراءات ص : 56 : " بالهز والتاء " ، ومعاني القرآن للفراء .

(15/42)


أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ولا أدراكم به) ، يقول : ولا أشعركم الله به.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن ، عند أهل العربية غلطٌ.
* * *
وكان الفرّاء يقول في ذلك : قد ذكر عن الحسن أنه قال : (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ). قال : فإن يكن فيها لغة سوى " دريت " و " أدريت " ، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من " دريت " أو " أدريت " فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف ، مثل " قضيت " و " دعوت " . ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها ، لأنها تضارع " درأت الحد " ، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول : " رثَأْتُ زوجي بأبيات " ، ويقولون : " لبّأتُ بالحجّ " و " حلأت السويق " ، فيغلطون ، لأن " حلأت " ، قد يقال في دفع العطاش ، من الإبل ، و " لبأت " : ذهبت به إلى " اللبأ " لِبَأ الشاء ، و " رثأت زوجي " ، ذهبت به إلى " رثأت اللبن " ، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب ، فتلك " الرثيثة " . (1)
* * *
وكان بعض البصريين يقول : لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من " أدريت " مثل " أعطيت " ، إلا أن لغةً لبني عقيل (2)
: " أعطَأتُ " ، يريدون : " أعطيت " ، تحوّل الياء ألفًا ، قال الشاعر : (3)
__________
(1) هذا نص الفراء بتمامه في معاني القرآن 1 : 459 ، مع خلاف يسير في حروف قليلة .
(2) في المطبوعة : " لغة بني عقيل " ، والصواب ما في المخطوطة ، باللام .
(3) هو حريث بن عناب ( بالنون ) الطائي .

(15/43)


لَقَدْ آذَنَتْ أَهْلُ الْيَمَاَمَةِ طَيِّئٌ... بِحَرْبٍ كَنَاصَاةِ الأَغَرِّ المُشَهَّرِ (1)
يريد : كناصية ، حكي ذلك عن المفضّل ، وقال زيد الخيل :
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا (2)
فقال " بقا " ، وقال الشاعر : (3)
لَزَجَرْتُ قَلْبًا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ... إِنَّ الغَوِيَّ إِذَا نُهَا لَمْ يَعْتِبِ (4)
يريد " نُهِي " . قال : وهذا كله على قراءة الحسن ، وهي مرغوب عنها ، قال : وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا ، يقولون : " هذه جاراة " ، (5)
وفي " الترقوة " " ترقاة " و " العَرْقوة " " عرقاة " . قال : وقال بعض طيئ : " قد لَقَت فزارة " ، حذف الياء من " لقيت " لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا ، لسكون التاء ، فيلتقي ساكنان. وقال : زعم يونس أن " نَسَا " و " رضا " لغة معروفة ، قال الشاعر :
__________
(1) نوادر أبي زيد : 124 ، والمعاني الكبير : 1048 ، واللسان ( نصا ) .
(2) نوادر أبي زيد : 68 ، وقبله أُنْبِئْتُ أَنَّ ابْنًا لِتَيْمَاءَ هَهَنَا ... تَغَنَّى بِنَا سَكْرَانَ أَوْ مُتَسَاكِرًا
يَحُضُّ عَلَيْنَا عَامِرًا ، وِإَخالُنَا ... سَنُصْبِحُ أَلْفًا ذَا زَوَائِدَ ، عامِرًا
قال أو زيد : " يقول : لا أخشى ما بقي قيس يسوق إبلا ، لأني أغير عليهم " .
(3) هو لبيد .
(4) ديوانه قصيدة رقم : 61 ، والأغاني 15 : 134 ( ساسي ) ، من مرثية أخيه أربد ، وقبله : طَرِبَ الفُؤَادُ وَلَيْتَهُ لَمْ يُطْرَبِ ... وَعَنَاهُ ذِكْرَى خُلَّةٍ لم تَصْقَبِ
سَفَهًا ، وَلَوْ أنّي أطَعتُ عَوَاذِلِي ... فيما يُشِرْنَ بِهِ بِسَفْحِ المِذْنِبِ
لَزَجَرْتُ قَلْبًا . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والذي أثبته هو نص المخطوطة ، أما المطبوعة ، فإنه لم يحسن معرفة الشعر ، فكتبه هكذا : " زجرت له : و " أعتب " ، آب إلى رضى من يعاتبه .
(5) يعني في " جارية " .

(15/44)


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

(1)
وَأُبْنِيْتُ بِالأَعْرَاض ذَا الْبَطْنِ خالِدًا... نَسَا أوْ تَنَاسَى أَنْ يَعُدَّ المَوَالِيَا
* * *
ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى ، وهي ما : -
17588 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ).
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها ، (2) هي القراءة التي عليها قراء الأمصار : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ) ، بمعنى : ولا أعلمكم به ، ولا أشعركم به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب : أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا ، (3) وأوضع لقيله في غير موضعه ، (4) ممن اختلق على الله كذبًا ، وافترى عليه باطلا (5) (أو كذب بآياته) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه ؟ (6) يقول له
__________
(1) لم أعرف قائله ، ولم أجد البيت في مكان آخر .
(2) في المطبوعة : " لا أستجيز أن تعدوها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " أي خلق أشر بعدنا " ، وهو كلام ساقط جدًا ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقولة .
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ) .
(5) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف 13 : 135 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيى ) .

(15/45)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

جل ثناؤه : قل لهم : ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم ، وافترائكم عليه ، وتكذيبكم بآياته ( إنه لا يفلح المجرمون) ، يقول : إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة ، إذا لقوا ربّهم ، ولا ينالون الفلاح. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك ، يا محمد صفتهم ، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم ، في الدنيا ولا في الآخرة ، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ، يعني : أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله (2) قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله : (قل) لهم( أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) ، يقول : أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض ؟ (3) وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله : قل لهم : أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما ؟ وذلك باطلٌ
__________
(1) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 14 : 415 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة ( جرم ) .
(2) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف ص : 18 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) .

(15/46)


وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

لا تعلم حقيقته وصحته ، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون ، وأنها لا تشفع لأحد ، ولا تنفع ولا تضر (سبحان الله عما يشركون) ، يقول : تنزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون ، (1) من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، وافترائهم عليه الكذب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم ، فافترقت بهم السبل في ذلك ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) ، يقول : ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم " لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يقول : لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم ، وينجي أهل الحق . (2)
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في " سورة البقرة " ، وذلك في قوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ) ، [سورة البقرة : 213] ، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
17589 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص ، 30 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
وتفسير " تعالى " فيما سلف 13 : 317 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة ( قضى ) .
(3) انظر ما سلف 4 : 275 - 280 .

(15/47)


وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) ، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه.
17590 - حدثني المثنى قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
17591 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون : هلا أنزل على محمد آيةٌ من ربه (1) يقول : عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول ؟ (2) قال الله له : (فقل) يا محمد(إنما الغيب لله) ، أي : لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه ، لأنه لا يعلم الغيب وهو السرُّ والخفيّ من الأمور (3) إلا الله ، فانتظروا أيها القوم ، قضاءَ الله بيننا ، بتعجيل عقوبته للمبطل منا ، وإظهاره المحقَّ عليه ، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " لولا " فيما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها .
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيى ) .
(3) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة ( غيب ) .

(15/48)


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب ، ورخاء بعد شدّة أصابتهم.
وقيل : عنى به المطر بعد القحط ، و " الضراء " : وهي الشدة ، و " الرحمة " : هي الفرج. يقول : (إذا لهم مكر في آياتنا) ، استهزاء وتكذيبٌ ، (1) كما : -
17592 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إذا لهم مكر في آياتنا) قال : استهزاء وتكذيب.
17593 - . . . قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17594 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقوله : (قل الله أسرع مكرًا) يقول تعالى ذكره : : (قل) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا ، يا محمد ( الله أسرع مكرًا) ، أي : أسرع مِحَالا بكم ، (2) واستدراجًا لكم وعقوبةً ، منكم ، من المكر في آيات الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 14 : 230 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الضراء " فيما سلف 12 : 573 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " المس " فيما سلف ص : 36 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " المكر " فيما سلف 13 : 502 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) " المحال " ( بكسر الميم ) : الكيد والمكر .

(15/49)


هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

والعرب تكتفي ب " إذا " من " فعلت " و " فعلوا " ، فلذلك حُذِف الفعل معها. (1) وإنما معنى الكلام : ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من " مكروا " ، ب " إذا لهم مكر " .
* * *
( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) ، يقول : إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم ، أيها الناس ، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله الذي يسيركم ، أيها الناس ، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك (حتى إذا كنتم في الفلك) ، وهي السفن (2) (وجرين بهم) يعني : وجرت الفلك بالناس (بريح طيبة) ، في البحر(وفرحوا بها) ، يعني : وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 459 ، 460 .
(2) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12 : 502 .

(15/50)


و " الهاء " في قوله : " بها " عائدة على " الريح الطيبة " .
* * *
(جاءتها ريح عاصف) ، يقول : جاءت الفلك ريحٌ عاصف ، وهي الشديدة.
* * *
والعرب تقول : " ريح عاصف ، وعاصفة " ، و " وقد أعصفت الريح ، وعَصَفت " و " أعصفت " ، في بني أسد ، فيما ذكر ، قال بعض بني دُبَيْر : (1)
حَتَّى إِذَا أَعْصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ... فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ (2)
* * *
(وجاءهم الموج من كل مكان) يقول تعالى ذكره : وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان (وظنوا أنهم أحيط بهم) ، يقول : وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق (3) (دعوا الله مخلصين له الدين) ، يقول : أخلصوا الدعاء لله هنالك ، دون أوثانهم وآلهتهم ، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها ، كما : -
17595 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (دعوا الله مخلصين له الدين) ، قال : إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء.
17596 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة في قوله : (مخلصين له الدين) ، " هيا شرا هيا " (4) تفسيره : يا حي يا قوم.
17597 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في
__________
(1) لم أعرف قائله . و " بنو دبير " من بني أسد .
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 460 " مزعزعة " ، شديدة الهبوب ، تحرك الشجر توشك أن تقتلعه .
و " قطار " جمع " قطر " ، وهو المطر . و " رعد زجل " رفيع الصوت متردده عاليه .
(3) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 14 : 289 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) هكذا جاءت الكلمة ، ولم أستطع أن أعرف ما هي ، وهي أعجمية بلا ريب .

(15/51)


قوله : (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله ، فإذا نجاهم إذا هم يشركون .
* * *
(لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها (لنكونن من الشاكرين) ، لك على نعمك ، وتخليصك إيانا مما نحن فيه ، بإخلاصنا العبادة لك ، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (هو الذي يسيركم) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) من " السير " بالسين.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر القاري : ( هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ ) ، من " النشر " ، وذلك البسط ، من قول القائل : " نشرت الثوب " ، وذلك بسطه ونشره من طيّه.
* * *
فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا وهو قريب المعنى من " التسيير " .
* * *
وقال : (وجرين بهم بريح طيبة) ، وقال في موضع آخر : (في الفلك المشحون) ، فوحد [سورة يس : 41] .
* * *
والفلك : اسم للواحدة ، والجماع ، ويذكر ويؤنث. (1)
* * *
قال : (وجرين بهم) ، وقد قال(هو الذي يسيركم) فخاطب ، ثم عاد
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 460 .

(15/52)


فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وجواب قوله : (حتى إذا كنتم في الفلك) (وجاءتها ريح عاصف).
* * *
وأما جواب قوله : (وظنوا أنهم أحيط بهم) ف(دعوا الله مخلصين له الدين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم ، من الجهد الذي كانوا فيه ، أخلفوا الله ما وعدُوه ، وبغوا في الأرض ، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه ، من الكفر به ، والعمل بمعاصيه على ظهرها. (2)
يقول الله : يا أيها الناس ، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم ، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه (متاع الحياة الدنيا) ، يقول : ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. (3)
* * *
وعلى هذا التأويل ، " البغي " يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله : (على
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 154 ، 196 / 3 : 304 ، 305 / 6 : 238 ، 464 / 8 : 447 / 11 : 264 ، ومواضع أخر ، اطلبها في فهارس النحو والعربية وغيرهما .
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف 12 : 403 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 14 : 340 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .

(15/53)


أنفسكم) (1) ويكون قوله( متاع الحياة الدنيا ) ، مرفوعًا على معنى : ذلك متاع الحياة الدنيا ، كما قال : ( لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ ) ، [سورة الأحقاف : 35] ، بمعنى : هذا بلاغ.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم ، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله ، متاع الحياة الدنيا ، كأنه قال : إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا ، فيكون " البغي " مرفوعًا ب " المتاع " ، و " على أنفسكم " من صلة " البغي " .
* * *
وبرفع " المتاع " قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه نصبه ، بمعنى : إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا ، فجعل " البغي " مرفوعًا بقوله : (على أنفسكم) ، و " المتاع " منصوبًا على الحال. (2)
* * *
وقوله : (ثم إلينا مرجعكم) يقول : ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم ، وذلك بعد الممات (3) يقول : فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. (4)
* * *
__________
(1) قراءتنا في مصحفنا اليوم ، في مصر وغيرها ، بنصب " متاع " ، وهي القراءة الأخرى التي سيذكرها أبو جعفر ، ولكنه جرى فيما سلف على تفسير قراءة الرفع .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 461 ، في تأويل القراءتين .
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص : 20 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 46 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/54)


إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت ، كمثل ماءٍ أنزلناه من السماء ، يقول : كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض (فاختلط به نبات الأرض) ، يقول : فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات ، مختلطٌ بعضها ببعض ، كما : -
17598 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : (إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) ، قال : اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار ، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. (1)
* * *
وقوله : (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) يعني : ظهر حسنها وبهاؤها (2) (وازينت) ، يقول : وتزينت (3) ( وظن أهلها) ، يعني : أهل الأرض
__________
(1) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف 13 : 280 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الزخرف " فيما سلف 12 : 55 ، 56 .
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص : 37 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/55)


( أنهم قادرون عليها) ، يعني : على ما أنبتت.
* * *
وخرج الخبر عن " الأرض " والمعنى للنبات ، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به.
* * *
وقوله : (أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا) ، يقول : جاء الأرض " أمرنا " ، يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارًا (فجعلناها) ، يقول : فجعلنا ما عليها (حصيدًا) يعني : مقطوعة مقلوعة من أصولها. (1)
* * *
وإنما هي " محصودة " صرفت إلى " حصيد " .
* * *
( كأن لم تغن بالأمس) ، يقول : كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
* * *
وأصله : من " غَنِيَ فلان بمكان كذا ، يَغْنَى به " ، إذا أقام به ، (2) كما قال النابغة الذبياني :
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لَكَ جِيرَةٌ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالَةٍ وَتَوَدُّد (3)
* * *
يقول : فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها ، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس ، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها.
يقول الله جل ثناؤها : (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ، يقول : كما
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 277 .
(2) انظر تفسير " غني بالمكان " فيما سلف 12 : 569 ، 570 .
(3) ديوانه : 65 ، وسيأتي في التفسير 12 : 66 ( بولاق ) ، وغيرهما ، من قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة ، وقبله : فِي إثْرِ غانيةٍ رَمَتْكَ بِسَهْمِاَ ... فأَصَابَ قَلْبَكَ غَيْرَ أَنْ لَمْ تَقْصِدِ
وكان في المطبوعة : " إذ هم لي جيرة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لرواية ديوانه .

(15/56)


بينَّا لكم أيها الناس ، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها ، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. (1)
وخصَّ به أهل الفكر ، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17599 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) ، الآية ، : أي والله ، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
17600 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وازينت) ، قال : أنبتت وحسُنَت .
17601 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، قال : سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية : ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَّنَ أَهْلُهَا أَنَّهمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا) ، قال : قد قرأتها ، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس : هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. (2)
__________
(1) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص : 24 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 17601 - " الحارث " ، هو : " الحارث بن أبي أسامة " ، ثقة ، مضى مرارًا .
و " عبد العزيز " ، هو : " عبد العزيز " بن أبان الأموي ، كذاب خبيث ، وضاع للأحاديث ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 14333 .
وأما " عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام " ، فلم أجحد له ذكرا في التوراة .
وأبوه " أبو بكر بن عبد الرحمن " ، " راهب قريش " ، ثقة ، عالم ، عاقل ، سخي ، كثير الحديث ، أحد فقهاء المدينة السبعة . ترجم له ابن حجر في التهذيب ، وابن سعد في الطبقات 5 : 153 والزبيري في نسب قريش : 303 ، 304 . وذكر ابن سعد ولده فقال : " فولد أبو بكر : عبد الرحمن لا بقية له وعبد الله ، وعبد الملك ، وهشاما . . . " . ولم يذكر ذلك الزبيري في نسب قريش ، ولكنه ذكر قصة قال في أولها " فقال لابنه عبد الله اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن . . . " ثم قال في نفس القصة بعد قليل : " فذهب عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن " : " وسماه ابن سعد لما عد أولاد ، أبي بكر بن عبد الرحمن : عبد الرحمن " ، ولكن نص ابن سعد مخالف لما قال الحافظ ابن حجر فهما عنده رجلان بلا شك في ذلك . ولم أجد ما أستقصي من الأخبار حتى أفضل في هذا الاختلاف . و " عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن " ، ليس بثقة . و " مروان " ، هو : " مروان بن الحكم " . وهذا الخبر كما ترى ، هالك الإسناد من نواحيه . والقراءة التي فيه إذا صحت من غير هذا الطريق الهالك ، فهي قراءة تفسير ، كما هو معروف ، وكما أشرنا إليه مرارًا في أشباهها . ولا يجل لقارئ أنة يقرأ بمثلها على أنها نص التلاوة ، لشذوذها ، ولمخالفتها رسم المصحف بالزيادة ، بغير حجة يجب التسليم لها .

(15/57)


17602 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعشْ ، كأن لم تَنْعَم.
17603 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبيّ : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (وازينت) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : (وَازَّيَّنَتْ) بمعنى : وتزينت ، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما ، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته ، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يُبْتَدأ به.
* * *
وحكي عن أبي العالية ، وأبي رجاء ، والأعرج ، وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك : (وَأَزْيَنَتْ) على مثال " أفعلت " .
* * *
__________
(1) الأثر : 17603 - " أبو أسامة " ، هو " حماد بن أسامة بن يزيد القرشي " ، ثقة ، روى له الجماعة مضى مرارًا .
" وإسماعيل " ، هو " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . وأما " أبو سلمة بن عبد الرحمن " ، فلم يسمع من أبي بن كعب . فهو إسناد مرسل .

(15/58)


وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك : (وَازَّيَّنَتْ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لعباده : أيها الناس ، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها ، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية ، ولها فاعملوا ، وما عند الله فالتمسوا بطاعته ، فإن الله يدعوكم إلى داره ، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه ، تسلموا من الهموم والأحزان فيها ، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها ، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم ، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه ، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته ، (1) كما : -
17604 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : " الله " ، السلام ، ودارُه الجنة.
17605 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا
__________
(1) انظر تفسير " الهداية " و " الصراط المستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) ، ( سرط) ، ( قوم ) .

(15/59)


معمر ، عن قتادة في قوله : (والله يدعو إلى دار السلام) ، قال : " الله " هو السلام ، ودارُه الجنة.
17606 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، قيل لي : " لتنم عينُك ، وليعقِل قلبك ، ولتسمع أُذُنك " فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني. ثم قيل : " سيّدٌ بنى دارًا ، ثم صنع مأدُبة ، ثم أرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي ، لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرضَ عنه السيد " ، فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم " . (1)
17607 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا : " يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ " .
17608 - حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال ، حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة قال ، حدثني خُلَيد العَصَريّ ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان ، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين (2)
__________
(1) الأثر : 17606 - " أبو قلابة " ، هو : " عبد الله بن زيد الجرمي " ، أحد أعلام التابعين ، مضى مرارًا . فهذا خبر " مرسل " ، وسيأتي نحوه متصلا في تخريج الأثر رقم : 17609 .
(2) " الجنبة " ( بفتح الجيم والنون ، وبفتحها وإسكان النون ) الناحية ، ورواة الحديث يروون " الجنبة " فتحتين ، وأهل اللغة يؤثرون سكون النون . ويستدلون على ذلك بقول أبي صعترة البولاني : فما نُطْفَةٌ مِنْ حَبِّ مُزْنٍ تَقَاذَفَتْ ... به جَنْبَتَا الجُودِيِّ والليلُ دَامِسُ
بِأَطْيَبِ مَنْ فِيهَا ، وَمَا ذُقْتُ طَعْمَهُ ، ... وَلكِنَّنِي فِيما تَرَى العَيْنُ فَارِسُ
والذي رواه أهل الحديث جيد صحيح .

(15/60)


: " يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم ، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى " . قال : وأنزل ذلك في القرآن في قوله : (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). (1)
17609 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال : إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ! فقال : اسْمَع سمعتْ أُذنك ، واعقل عَقَل قلبك ، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك ، كمثل ملك اتخذ دارًا ، ثم بنى فيها بيتًا ، ثم جعل فيها مأدُبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه .
__________
(1) الأثر : 17608 - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي الطحان " ، شيخ الطبري ، ثقة . روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما ، مترجم في التهذيب ، وأبي ابن حاتم 1 / 2 / 54 . و " عبد الملك بن عمرو " ، هو " أبو عامر العقدي " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 12795 . و " عباد بن راشد التميمي " ، ثقة وليس بالقوي ، روى له البخاري مقرونا بغيره ، مضى برقم : 11060 ، 12527 . و " خليد بن عبد الله العصري " ، روى عن أبي الدرداء ، وقال ابن حبان في الثقات ، وذكره : يقال إن هذا مولى لأبي الدرداء . وفرق البخاري في الكبير بين " خليد مولى أبي الدرداء " ، و " خليد بن عبد الله العصري " ، وكذلك ابن أبي حاتم . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 181 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 383 . وهذا خبر صحيح الإسناد ، ورواه أحمد في مسنده مطولا 5 : 197 ، من طريق همام ، عن قتادة ، عن خليد العصري . وزيادته : " وَلَا آبَت شمس قَطُّ إلا بعث بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَان يُناديان ، يُسْمِعان أهل الأرض إلا الثَّقلين : اللهمّ أعطِ مُنْفقًا خلفًا ، وأعط مُمْسكًا تَلَفًا " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 304 ، مطولًا ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .

(15/61)


فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيتُ الجنَّة ، وأنت يا محمد الرسولُ ، من أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 17069 - " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ثقة مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13377 . و " سعيد بن أبي هلال الليثي المصري " ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17429 ، روايته عن جابر مرسلة ، وحديثه عن جابر أورده البخاري معلقًا ، متابعة . وفي الترمذي : " سعيد بن أبي هلال ، لم يدرك جابرًا " . فهذا خبر مرسل عن جابر ، وصله الحاكم في المستدرك 2 : 338 من طريق " عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال قال : سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين ، وتلا هذه الآية : " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " فقال : حدثني جابر بن عبد الله " ، ثم قال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 304 ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، بمثل لفظ الحاكم وإسناده . وكان في المطبوعة : " أكل منها " ، وهو موافق لما في سائر المراجع ، وأثبت ما في المخطوطة ، لأنه واضح لا إشكال في قراءته ، ولا في معناه .

(15/62)


لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه ، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى ، (الحسنى).
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الحسنى " ، و " الزيادة " اللتين وعدهما المحسنين من خلقه.
فقال بعضهم : " الحسنى " ، هي الجنة ، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء " والزيادة عليها " ، النظر إلى الله.
* ذكر من قال ذلك :

(15/62)


17610 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد ، عن أبي بكر الصديق : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه ربهم. (1)
17611 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد ، عن سعيد بن نمران ، عن أبي بكر : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه الله. (2)
17612 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 17610 - " عامر بن سعد البجلي " ، تابعي ثقة ، له في الصحيح حديث واحد ، وروايته عن أبي بكر الصديق ، مرسلة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 321 . وهذا الخبر ، أخرجه الآجري في الشريعة ص : 257 ، من طرق ، مرسلًا .
(2) الأثر : 17611 - " سعيد بن نمران الناعطي " ، روى عن أبي بكر الصديق ، روى عنه عامر بن سعد العجلي ، وكان سعيد بن نمران الناعطي ، من أصحاب علي بن أبي طالب ، وضمه إلى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، حين ولاه اليمن ، وشهد اليرموك ، وكان ابنه مسافر بن سعيد بن نمران من أصحاب المختار ، مترجم في الكبير 2 / 1 / 473 ، وابن أبي حاتم ، 2 / 1 / 68 ، وابن سعد 6 : 56 ، وقال البخاري " سمع أبا بكر " ، ولكن العجيب أن ابن حجر ترجم له في لسان الميزان 3 : 46 ، وقال : " مجهول " ، وكذلك قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1 : 392 . فأخشى أن يكون ذلك تجاوزًا من الذهبي وابن حجر ، وأنهما عنيا بقولهما " مجهول " أن حال روايته وسماعه من أبي بكر هو المجهول ، لا سعيد بن نمران نفسه . وإلا فكيف يكون مجهولا ، وهو مذكور مترجم ، وله عند الطبري في تاريخه ذكر 4 : 126 ، في حوادث سنة 14 ، في فتح اليرموك ثم في سنة 17 ( 4 : 194 ) في خبر سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب ، وأن سعدًا " أرسل إلى قوم من نساب العرب وذوي رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران ، ومشعلة بن نعيم " . وفي باب ذكر الكتاب من بدء أمر الإسلام ( تاريخ الطبري 7 : 198 ) : " وكان يكتب لعلي ، سعيد بن نمران الهمداني ، ثم ولّى قضاء الكوفة لابن الزبير " . وذكره وكيع أيضًا في أخبار القضاة 2 : 396 ، 397 ، وقال : " لما قدم علي الكوفة ، ولى سعيد بن نمران الهمداني ثم عزله ، وولى مكانه عبيدة السلماني " ثم قال في ص 397 : " فاستقضى ابن الزبير سعيد بن نمران الهمداني ، فقضى ثلاث سنين " . وذكر كتابته لعلي ، الجهشياري في الوزراء والكتاب ص : 23 . فثبت بهذا أنه معروف مشهور ، وأما " المجهول " ، فهو حال سماعه من أبي بكر ، لولا ما قاله البخاري من أنه سمع أبا بكر .
ومهما يكن من أمر ، فهذا خبر في إسناده نظر . خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 306 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن خزيمة ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، والدارقطني ، وابن منده في الرد على الجهمية ، واللالكائي والآجري ، والبيهقي ، كلاهما في الرؤية .

(15/63)


عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه ربهم.
17613 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد قال : في هذه الآية : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : " الزيادة " ، النظر إلى وجه الرحمن.
17614 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم بن نذير ، عن حذيفة : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال : النظر إلى وجه ربهم. (1)
17615 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا شريك قال : سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله : (وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه الرحمن.
17616 - حدثني علي بن عيسى قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي قال : سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ ، يحدَّث عن أبي موسى الأشعري قال : إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي : " هل أنجزكم الله ما وعدكم " ! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة ، فيقولون : نعم! فيقول : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظرُ إلى وجه الرحمن. (2)
17617 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر : 17614 - " مسلم بن نذير السعدي " ، ويقال : " مسلم بن يزيد " ، ويقال إن " يزيد " جده . روى عن حذيفة ، روى عنه أبو إسحاق السبيعي ، وهو من أهل الكوفة ، كان قليل الحديث ، ويذكرون أنه كان يؤمن بالرجعة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 273 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 197 ، 199 في " مسلم بن يزيد السعدي " . وابن سعد 6 : 159 . و " نذير " بضم النون ، على التصغير .
(2) الأثر : 17616 - " أبو بكر الهذلي " ، ضعيف بمرة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 14690 . و " أبو تميمة الهجيمي " ، هو " طريف بن مجالد " ، تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/356 ، وابن أبي حاتم 2/1/492 ، وهذا خبر ضعيف الإسناد ، وسيأتي في الأثرين التاليين .

(15/64)


المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال ، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول : إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول : " يا أهل الجنة ، هل أنجزكم الله ما وعدكم " ! فينظرون ، (1) فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة ، فيقولون : " نعم ، قد أنجزنا الله ما وعدنا " ! ثم يقول الملك : " هل أنجزكم الله ما وعدكم " ؟ ثلاث مرات ، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا ، فيقولون : " نعم " ! فيقول : " قد بقى لكم شيءٌ ، إن الله يقول : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، ألا إن الحسنى الجنة ، والزيادة النظرُ إلى وجه الله " . (2)
17618 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني شبيب ، عن أبان ، عن أبي تميمة الهجيمي : أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم : (3) " إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً ، فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن " . (4)
__________
(1) في المطبوعة : " فينظرون ، إلى ما أعد الله لهم من الكرامة ، فيرون " ، زاد على المخطوطة ما ليس فيها ، أظنه فعله متابعًا لما جاء في الأثر السالف .
(2) الأثر : 17617 - هو مكرر الذي قبله مطولا ، وهو ضعيف بمرة ، لضعف " أبي بكر الهذلي " ، كما سلف .
(3) في المخطوطة " يسمع ألهم آخرهم " ، وكأن الصواب ما في المطبوعة .
(4) الأثر : 17618 - " شبيب بن سعيد التيمي الحبطي " ، أحاديثه مستقيمة ، ومضى برقم : 6613 ، 12085 ، غير أن ابن وهب حدث عنه بأحاديث مناكير ، قال ابن عدي : " ولعل شبيبًا لما قدم مصر في تجارته ، كتب عنه ابن وهب من حفظه ، فغلط ووهم . وأرجو أن لا يتعمد الكذب وإذا حدث عنه ابنه أحمد ، فكأنه شبيب آخر يعني يجود " . و " أبان " ، هو " أبان بن أبي عياش فيروز " ، مولى عبد القيس ، كان رجلا صالحًا سخيًّا ، فيه غفلة ، يهم في الحديث ويخطئ فيه حتى أسقطوا روايته ، وحتى قال فيه شعبة : " لأن أشرب من بول حماري أحب إلي من أن أقول : حدثني أبان ولأن يزني الرجل ، خير من أن يروى من أبان " . ومضى برقم : 6728 . فهذا أيضًا خبر هالك الإسناد . وخبر أبي موسى الأشعري ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 305 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، والدارقطني في الرؤية ، وابن مردويه .

(15/65)


17619 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه ربهم. وقرأ : (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال : بعد النظر إلى وجْه ربهم.
17620 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سليمان بن المغيرة قال ، أخبرنا ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله : (وزيادة) ، قال : قيل له : أرأيت قوله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ؟ قال : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم ، قال : نودوا : " يا أهل الجنة ، إن الله قد وعدكم الزيادة ، فيتجلى لهم " قال ابن أبي ليلى : فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم ، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم ، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة ، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم ؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. (1)
17621 - . . . . قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، وسليمان بن المغيرة ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه ربهم.
17622 - . . . . قال : حدثنا الحجاج ، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم : إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال : فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال : فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال : ثم قال : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه ربهم ، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك.
__________
(1) الأثر : 17620 - الآثار من رقم : 17619 إلى رقم : 17623 ، راجع آخر التعليق التالي .

(15/66)


17623 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى وجه الله.
17624 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن في قول الله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى الربّ.
17625 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال : إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، وأهلُ النارِ النارَ ، نودوا : " يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدًا " ! قالوا : ما هو ؟ ألم تبيّض وجوهنا ، وتُثْقِل موازيننا ، وتُدخلنا الجنة ، وتُنْجِنَا من النار ؟ فيكشف الحجابُ ، فيتجلى لهم ، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولفظ الحديث لعمرو.
17626 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب قال ، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، وأهل النار النار ، نادى منادٍ : " يا أهل الجنة ، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه " . فيقولون : " وما هو ؟ ألم يُثقل الله موازيننا ، ويبيِّض وجوهنا ؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي ، وابن بشار ، عن عبد الرحمن. (1)
__________
(1) الأثر : 17626 - هذا خبر صحيح ، رواه مسلم في صحيحه 3 : 16 ، 17 ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد. ورواه أبو داود الطياليسي في مسنده ص : 186 رقم 2315 ، روايته عن حماد بن سلمة. ورواه أحمد في مسنده ( 4 : 332 ، 333 ) من ثلاث طرق ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد ، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد ، ومن طريق عفان عن حماد ثم رواه في مسنده ( 6 : 15 ) من طريق يزيد ، عن حماد . ورواه ابن ماجه في سننه ص 67 ، رقم : 187 من طريق حجاج بن المنهال ، عن حماد . ورواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد ، ثم قال : " حديث حماد بن سلمة ، هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة مرفوعا ، وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله ، ولم يذكر فيه : عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " . وهذا الذي أشار إليه الترمذي ، هو ما رواه أبو جعفر من رقم : 17619 - 17623 . ورواه الآجري في الشريعة : 261 من طريق يزيد بن هارون عن حماد ، ومن طريق هناد بن السري ، عن قبيصة بن عقبة ، عن حماد .

(15/67)


17627 - . . . . قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن نمران ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. (1)
17628 - . . . . قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد ، مثله.
17629 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ : إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة ، وأما الزيادة ، فالنظر إلى وجه الرحمن.
17630 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
17631 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن كعب بن عجرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : الزيادة ، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. (2)
__________
(1) الأثر : 17627 - " سعيد بن نمران " مضى برقم : 17611 ، ولم يذكر أن أبا إسحاق السبيعي ، سمع من سعيد بن نمران ، وظاهر أن بينهما " عامر بن سعد " ، كما سلف في الآثار من رقم : 17610 - 17613 .
(2) الأثر : 17631 - " إبراهيم بن المختار التميمي " ، " حبويه " ، " أبو إسماعيل الرازي " .
روى عن شعبة ، ومالك ، وابن جريج ، وغيرهم . قال ابن معين : " ليس بذاك " ، وقال البخاري : " فيه نظر " ، وقال ابن حبان في الثقات : " يتقي حديثه من رواية ابن حميد عنه " . مترجم في التهذيب والكبير 1 / 1 / 329 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 138 ، وميزان الاعتدال 1 : 31 . و " عطاء " ، هو " عطاء بن أبي مسلم الخراساني " وهو " عطاء بن ميسرة " ، مضى مرارًا . وروى عن الصحابة مرسلا ، كابن عباس ، وعدي بن عدي الكندي ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وأنس ، وكعب بن عجرة ، ومعاذ بن جبل ، وغيرهم . فهذا خبر ضعيف الإسناد لضعف " إبراهيم بن المختار " ، ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة .

(15/68)


17632 - . . . . قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الرحمن بن سابط قال : " الحسني " ، النضرة و " الزيادة " ، النظر إلى وجه الله.
17633 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال ، سمعت زهيرًا ، عمن سمع أبا العالية قال ، حدثنا أبيّ بن كعب : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : الحسنى : الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله. (1)
* * *
وقال آخرون في " الزيادة " ، بما : -
17634 - حدثنا به يحيى بن طلحة قال ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن الحكم ، عن علي رضي الله عنه : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : " الزيادة " ، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. (2)
17635 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن الحكم ، عن علي رضي الله عنه ، نحوه ، إلا أنه قال : فيها أربعة أبواب.
17636 - . . . .قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم بن عتيبة ، عن علي رضي الله عنه ، مثل حديث يحيى بن طلحة ، عن فضيل ، سواءً.
* * *
__________
(1) الأثر : 17633 - هذا خبر ضعيف إسناده ، لجهالة من روى عن أبي العالية .
(2) الأثر : 17634 - " الحكم " ، هو " الحكم بن عتيبة الكندي " مضى مرارًا ، والثابت سماعه من التابعين ، فإنه ولد سنة 50 ، ومات سنة 113 ، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه . فهذا حديث ضعيف لإرساله عن علي .

(15/69)


وقال آخرون : " الحسنى " واحدةٌ من الحسنات بواحدة
و " الزيادة " ، التضعيف إلى تمام العشر.
* ذكر من قال ذلك.
17637 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : هو مثل قوله : ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ، [سورة ق : 35] ، يقول : يجزيهم بعملهم ، ويزيدهم من فضله. وقال : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، [سورة الأنعام : 160].
17638 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن علقمة بن قيس : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال قلت : هذه الحسنى ، فما الزيادة ؟ قال : ألم تر أن الله يقول : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) ؟
17639 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول في هذه الآية : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : الزيادة : بالحسنة عشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف.
* * *
* وقال آخرون : " الحسنى " حسنة مثل حسنة و " الزيادة " زيادة مغفرة من الله ورضوان.
* ذكر من قال ذلك :
17640 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (للذين أحسنوا الحسنى) ، مثلها حسنى " وزيادة " ، مغفرة ورضوان.
* * *
وقال آخرون : " الزيادة " ، ما أعطوا في الدنيا.

(15/70)


*ذكر من قال ذلك :
17641 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال : " الحسنى " ، الجنة " وزيادة " ما أعطاهم في الدنيا ، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا : ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) ، [سورة العنكبوت : 27] ، قال : ما آتاه مما يحب في الدنيا ، عجل له أجره فيها.
* * *
وكان ابن عباس يقول في قوله : (للذين أحسنوا الحسنى) ، بما : -
17642 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (للذين أحسنوا الحسنى) ، يقول : للذين شهدوا أن لا إله إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى ، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة ، وأن تبيض وجوههم ، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه ، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا ، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله : (وزيادة) ، الزيادات على " الحسنى " ، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء ، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم ، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يُعَمَّ ، كما عمَّه عز ذكره.
* * *

(15/71)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، لا يغشى وجوههم كآبة ، ولا كسوف ، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ.
* * *
و " القتر " الغبار ، وهو جمع " قَتَرَةٍ " ومنه قول الشاعر : (1)
مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّاياتِ وَالْقَتَرَا (2)
يعني ب " القتر " الغبار.
* * *
(ولا ذلة) ، ولا هوان (3) ( أولئك أصحاب الجنة ) ، يقول : هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، هم أهل الجنة وسكانها ، (4)
ومن هو فيها (5) ( هم فيها خالدون ) ، يقول : هم فيها ماكثون أبدًا ، لا تبيد ، فيخافوا زوال نعيمهم ، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
__________
(1) هو الفرزدق .
(2) ديوانه : 290 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 277 ، واللسان ( قتر ) ، وغيرها ، ورواية ديوانه " معتصب برداء الملك " ، وهذا بيت من قصيدة مدح فيها بشر بن مروان ، وقبله : كُلُّ امْرِئٍ لِلْخَوْفِ أَمَّنَهُ ... بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَالمَذْعُورُ مَنْ ذَعَرَا
فَرْعٌ تَفَرَّعَ فِي الأَعْياصِ مَنْصِبُهُ ... والعامِرَيْنِ ، لَهُ العِرنَيْنُ مِنْ مُضَرَا
(3) انظر تفسير " الذلة " فيما سلف 13 : 133 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " أصحاب الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب ) .
(5) في المطبوعة : " ومن هم فيها " ، غير ما في المخطوطة لغير طائل .
(6) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد ) .

(15/72)


وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله : (ولا يرهق وجوههم قتر) ما : -
17643 - حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا زيد ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال : بعد نظرهم إلى ربِّهم. (1)
17644 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج ، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، بنحوه.
17645 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : (ولا يرهق وجوههم قتر) ، قال : سوادُ الوجوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والذين عملوا السيئات في الدنيا ، فعصوا الله فيها ، وكفروا به وبرسوله (2) ( جزاء سيئة ) ، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا ( بمثلها ) ، من عقاب الله في الآخرة (وترهقهم ذلة) ، يقول : وتغشاهم ذلة وهوان ، بعقاب الله إياهم (3)
( ما لهم من الله من عاصم) ، يقول : ما لهم من الله من مانع يمنعهم ، إذا عاقبهم ، يحول بينه وبينهم.
* * *
__________
(1) الأثر : 17643 - " محمد بن منصور بن داود الطوسي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 6653 .
(2) انظر تفسير " كسب " فيما سلف من فهارس اللغة ( كسب ) ، ( سوأ ) .
(3) انظر تفسير " الرهق " فيما سلف قريبًا ص : 72 .
وتفسير " ذلة " فيما سلف ص : 72 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/73)


وبنحو الذي قلنا قوله : " وترهقهم ذلة " قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
17646 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وترهقهم ذلة) ، قال : تغشاهم ذلة وشدّة.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع ل " لجزاء " .
فقال بعض نحويي الكوفة : رُفع بإضمار " لهم " ، كأنه قيل : ولهم جزاء السَّيئة بمثلها ، كما قال : ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) ، [سورة البقرة : 196] ، والمعنى : فعليه صيام ثلاثة أيام ، قال : وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله : (وجزاء سيئة بمثلها) . (1)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة : " الجزاء " مرفوع بالابتداء ، وخبره(بمثلها) . قال : ومعنى الكلام : جزاء سيئة مثلها ، وزيدت " الباء " ، كما زيدت في قوله : " بحسبك قول السُّوء " .
وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم ، فقال : يجوز أن تكون " الباء " في " حسب " [ زائدة (2) ]
لأن التأويل : إن قلت السوء فهو حسبك فلما لم تدخل في الخبر ، (3) أدخلت في " حسب " ، " بحسبك أن تقوم " : إن قمت فهو حسبك. (4) فإن مُدح ما بعد " حسب " أدخلت " الباء " ، فيما بعدها ، كقولك : " حسبك بزيد " ،
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 461 ، وفي المطبوعة : " وجزاء سيئة بمثلها " بالواو ، وفي معاني القرآن للفراء " فجزاء " بالفاء ، ولا أجد في القرآن آية فيها مثل ذلك بالواو أو بالفاء ، وإنما عني هذه الآية بعينها .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " لم تدخل في الجزاء " ، وهو خطأ لا ريبة فيه .
(4) أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء .

(15/74)


ولا يجوز " بحسبك زيد " ، لأن زيدًا الممدوح ، فليس بتأويل خبَرٍ . (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يكون " الجزاء " مرفوعًا بإضمارٍ ، بمعنى : فلهم جزاء سيئة بمثلها ، لأن الله قال في الآية التي قبلها : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه ، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه ، فأشبهُ بالكلام أن يقال : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة ، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى ، كانت الباء صلة للجزاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات (2)
( قِطَعًا من الليل) ، وهي جمع " قطعة " .
* * *
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما : -
17647 - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا) ، قال : ظلمة من الليل.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى : (قطعًا) فقرأته عامة قراء الأمصار : (قِطَعًا) بفتح الطاء ، على معنى جمع " قطعة " ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع أيضًا : " فليس بتأويل جزاء " ، وهو فساد لا شك فيه .
(2) انظر تفسير " الإغشاء " فيما سلف 12 : 483 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/75)


وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك : كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل ، ثم جمع ذلك فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد ، إذ جُمِع " الوجه " .
* * *
وقرأه بعض متأخري القراء : " قِطْعًا " بسكون الطاء ، بمعنى : كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل ، وبقيةً من الليل ، ساعةً منه ، كما قال : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ، [سورة هود : 81 /سورة الحجر : 65] ، أي : ببقية قد بقيت منه.
ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك ، أنه في صحف أبيّ : (وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ). (1)
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي ، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها ، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها ، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. (2)
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت ، فما وجه تذكير " المظلم " وتوحيده ، وهو من نعت " القطع " ، و " القطع " ، جمع لمؤنث ؟
قيل : في تذكير ذلك وجهان : (3)
أحدهما : أن يكون قَطْعًا من " الليل " (4) . وإن يكون من نعت " الليل " ، فلما كان نكرةً ، و " الليل " معرفةً ، نصب على القَطْع ،
فيكون معنى الكلام حينئذ : كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم ثم حذفت الألف واللام
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 462 .
(2) في المطبوعة : " أهل الأمصار والإسلام " ، وهو عبث سخيف .
(3) في المطبوعة : " في تذكيره " ؛ بالهاء مضافة ، وهو عبث أيضًا .
(4) " القطع " ( بفتح فسكون ) ، الحال ، كما سلف مرارًا شرحه وبيانه ، وانظر ما سلف 11 : 455 / 12 : 477 ، وفهارس المصطلحات . وقد بين الطبري في هذا الموضع بأحسن البيان عن معنى " القطع " ، وقد سلف كلامنا فيه مرارًا .

(15/76)


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)

من " المظلم " ، فلما صار نكرة وهو من نعت " الليل " ، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك " حالا " ، والكوفيون " قطعًا " .
والوجه الآخر : على نحو قول الشاعر : (1)
* لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * (2)
والوجه الأوّل أحسن وجهيه.
وقوله : (أولئك أصحاب النار) ، يقول : هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها (3)
(هم فيها خالدون) ، يقول : هم فيها ماكثون. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا ، (5) ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ : (مكانَكم) ، أي :
__________
(1) هو أبو ذؤيب .
(2) ديوانه : 113 ، في آخر قصيدة له ، ورواية الديوان : لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا ... أَحْيَى أُبُوَّتَكِ الشُّمَّ الأَمَادِيحُ
وهذا لا شاهد فيه ، ويروى : * لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا *
وهذا شاهد .
(3) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف من فهارس اللغة ( صحب ) .
(4) انظر تفسير " الخلود " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(5) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف 13 : 529 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(15/77)


امكثوا مكانكم ، وقفوا في موضعكم ، أنتم ، أيها المشركون ، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان (فزيّلنا بينهم) ، يقول : ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به .
* * *
[من قولهم : " زِلْت الشيء أزيلُه " ، إذا فرّقت بينه ] وبين غيره وأبنته منه. (1) وقال : " فزيّلنا " إرادة تكثير الفعل وتكريره ، ولم يقل : " فزِلْنا بينهم " .
* * *
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه : (فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ) ، كما قيل : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) ، [سورة لقمان : 18] ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في " فعَّلت " ، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد ، فيقولون : " فاعلت " إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين ، فلا تكاد تقول إلا " فاعلت " . (2)
* * *
(وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ، وذلك حين(تبرَّأ الذين اتَّبعوا من الذين اتُّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب ، لما قيل للمشركين : " اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله " ، ونصبت لهم آلهتهم ، قالوا : " كنا نعبد هؤلاء " ! ، فقالت الآلهة لهم : (ما كنتم إيانا تعبدون) ، كما : -
17648 - حدثت عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة ، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون ، فيقال : " هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله " ، فتقول الآلهة : " والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا " ! فيقولون : " والله لإيّاكم
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين ، استظهار من نص اللغة لا بد منه ، وكان الكلام في المخطوطة سردًا واحدًا ، وهو فساد من الناسخ . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 492 .
(2) انظر بيان هذا أيضًا في معاني القرآن للفراء 1 : 492 ، فهو نحو منه .

(15/78)


فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)

كنا نعبد " ! فتقول لهم الآلهة : (فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين).
17649 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) ، قال : فرّقنا بينهم (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ! قالوا : بلى ، قد كنا نعبدكم! فقالوا : (كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله : (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، الآية.
* * *
وروي عن مجاهد ، أنه كان يتأول " الحشر " في هذا الموضع ، الموت.
17650 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش قال : سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله : (ويوم نحشرهم جميعًا) ، قال : الحشر : الموت.
* * *
قال أبو جعفر : والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم ، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر ، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم ، ويقولون في الموقف بعد البعث.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) }
قال أبو جعفر : ويقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة ، إذ قال المشركون بالله لها : إياكم كنا نعبد (كفى

(15/79)


هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

بالله شهيدًا بيننا وبينكم) ، أي إنها تقول : حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم ، أيها المشركون ، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون ( إنا كنا عن عبادتكم لغافلين) ، يقول : ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين ، لا نشعر به ولا نعلم ، (1) كما : -
17651 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال : كُلُّ شيء يعبد من دون الله. (2)
17652 - حدثني المثنى قال ، حدثني إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17653 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال : يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) }
قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة قوله : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ) ، بالباء ، بمعنى : عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. (3)
وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك ، مجاهدٌ.
__________
(1) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص : 25 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " قال ذلك كل شيء " ، زاد " ذلك " وأثبت ما في المخطوطة ، وهو لا بأس به .
(3) في المطبوعة : " بما قدمت " بالباء ، لم يحسن قراءة المخطوطة. وانظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( بلا )

(15/80)


17654 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، قال : تختبر.
17655 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17656 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز : ( تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) ، بالتاء. (1)
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم : معناه وتأويله : هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. (2)
وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال : يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة ، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال : ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت) . (3)
* * *
وقال بعضهم : بل معناه : يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ ، كما قال جل ثناؤه : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) ، [سورة الإسراء : 13].
* * *
وقال آخرون : " تَتْلو " تعاين. (4)
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر هذه القراءة وتفسيرها فيما سلف 2 : 411 .
(2) انظر تفسير " يتلو " فيما سلف من فهارس اللغة ( تلا ) .
(3) " لم أجد نص الخبر في غير هذا المكان . مسندًا ولا غير مسند .
(4) في المطبوعة في المواضع كلها " تبلو " بالباء ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، والصواب بالتاء ، وذلك بين أيضًا من سياق التفسير لهذه القراءة .

(15/81)


17657 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت) ، قال : ما عملت. تتلو : تعاينه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء ، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا ، هجم به على مَوْرده ، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا ، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة ، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه ، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله ، مختبر له ، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا ، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
وأما قوله : (وردّوا إلى الله مولاهم الحق) ، فإنه يقول : ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم ، الحقّ لا شك فيه ، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد ( وضل عنخم ما كانوا يفترون) ، يقول : وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء ، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى ، (1) كما : -
17658 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون) ، قال : ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(15/82)


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)

يدعون معه من الأنداد والآلهة ، ما كانوا يفترون الآلهة ، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ (من يرزقكم من السماء) ، الغيثَ والقطر ، ويطلع لكم شمسها ، ويُغْطِش ليلها ، ويخرج ضحاها ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم ، وثمار أشجارها ( أم من يملك السمع والأبصار) يقول : أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها : أن يزيدَ في قواها ، أو يسلبكموها ، فيجعلكم صمًّا ، وأبصاركم التي تبصرون بها : أن يضيئها لكم وينيرها ، أو يذهب بنورها ، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون ( ومن يخرج الحي من الميت) ، يقول : ومن يخرج الشيء الحي من الميت ( ويخرج الميت من الحي ) ، يقول : ويخرج الشيء الميت من الحيّ.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل ، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته ، في " سورة آل عمران " ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 304 - 312 .

(15/83)


فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)

( ومن يدبر الأمر) ، وقل لهم : من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن ، وأمركم وأمرَ الخلق (1) ؟ ( فسيقولون الله) ، يقول جل ثناؤه : فسوف يجيبونك بأن يقولوا : الذي يفعل ذلك كله الله ( فقل أفلا تتقون) ، يقول : أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه ، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا ، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا ، ولا يفعل فعلا ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لخلقه : أيها الناس ، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال ، فيرزقكم من السماء والأرض ، ويملك السمع والأبصار ، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي ، ويدبر الأمر; (الله ربُّكم الحق) ، لا شك فيه ( فماذا بعد الحق إلا الضلال) ، يقول : فأي شيء سوى الحق إلا الضلال ، وهو الجور عن قصد السبيل ؟ (2)
يقول : فإذا كان الحقُّ هو ذا ، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا ، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه(فأنى تصرفون) ، يقول : فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون ، وسواهما تسلكون ، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق ؟ (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تدبير الأمر " فيما سلف ص : 18 ، 19 .
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضلل ) .
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 14 : 582 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/84)


كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال (كذلك حقت كلمة ربك) ، يقول : وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه (على الذين فسقوا) ، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به (1) (أنهم لا يؤمنون) ، يقول : لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسق ) .

(15/85)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد (هل من شركائكم) ، يعني من الآلهة والأوثان (من يبدأ الخلق ثم يعيده) ، يقول : من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل ، فيحدث خلقَه ابتداءً (ثم يعيده) ، يقول : ثم يفنيه بعد إنشائه ، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه ، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ ، وهي لله في العبادة شركاء ، كاذبون مفترون.
فقل لهم حينئذ ، يا محمد : الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء ، ويحدثه من

(15/85)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

غير أصل ، ثم يفنيه إذا شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء (فأنى تؤفكون) ، يقول : فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون ؟ (1) كما : -
17659 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (فأنى تؤفكون) ، قال : أنى تصرفون ؟
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله : (أنى تؤفكون) ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، بشواهده في " سورة الأنعام " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (35) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين (هل من شركائكم) ، الذين تدعون من دون الله ، وذلك آلهتهم وأوثانُهم ، (من يهدي إلى الحق) يقول : من يرشد ضالا من ضلالته
__________
(1) انظر تفسير " الأفك " فيما سلف 10 : 486 / 11 : 554 / 14 : 208 .
(2) انظر ما سلف 11 : 554 ، وقوله أنه ذكر في سورة الأنعام ، وهم من أبي جعفر ، فإنه لم يفصل بيان معنى " الأفك " ، إلا في سورة المائدة ( 10 : 485 ، 468 ) . ولم يذكر قط اختلاف المختلفين في تفسيره . فأخشى أن يدل هذا النص ، على أن أبا جعفر كان قد باعد بين أطراف تفسيره ، فكان ينسى الموضع الذي فصل فيه أحيانًا ، بل لعل هذا يدل أيضًا على أنه كان قد شرع في التفسير مطولا ، كما ذكر في ترجمته ، ثم اختصره هذا الاختصار . ويدل أيضًا ، إذا صح ما قلته ، على أنه كان قد أعد مادة كتابه إعدادًا تامًا ، ثم أدخل في كتابة تفسيره تعديلا كبيرًا ، فلم يثبت فيه كل ما كان أعده له . والله تعالى أعلم .

(15/86)


إلى قصد السبيل ، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم ؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة ، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا " لا " وأقرُّوا بذلك ، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق(أفمن يهدي) أيها القوم ضالا إلى الحقّ ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد(أحق أن يتبع) ، إلى ما يدعو إليه(أمْ مَنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى) ؟
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة : ( أَمَّنْ لا يَهْدِّي ) بتسكين الهاء ، وتشديد الدال ، فجمعوا بين ساكنين (1) وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه : أم من لا يهتدي ، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا ، (2) وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال ، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه ، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها ، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله : ( وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعَدُّوا فِي السَّبْتِ ) ، [سورة النساء : 154] ، (3) وفي قوله : (يَخْصِّمُون) ، [سورة يس : 49]. (4)
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة " (يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة ، غير أنهم نقلوا حركة التاء من " يهتدي " : إلى الهاء الساكنة ، ، فحرَّكوا بحركتها ، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في شبه هذه القراءة فيما سلف 9 : 362 .
(2) في المطبوعة : " بغير ما قرروا " ، والصواب ما في المخطوطة .
(3) انظر ما سلف في هذه القراءة 9 : 362 .
(4) انظر ما سيأتي في هذه القراءة 23 : 11 ( بولاق ) .

(15/87)


وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة : (يَهِدِّي) ، بفتح الياء ، وكسر الهاء ، وتشديد الدال ، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة ، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من " يهتدي " ، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ.
* * *
وقرأ ذلك بعدُ ، عامة قراء الكوفيين (1) (أَمْ مَنْ لا يَهْدِي) ، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا : إن العرب تقول : " هديت " بمعنى " اهتديت " ، قالوا : فمعنى قوله : (أم من لا يهدي) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءة في ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ : (أَمْ مَنْ لا يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال ، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك ، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب ، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلامُ الله.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدي ؟
* * *
وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك : أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل.
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما : -
17660 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدّي إلا أن يهدي) ، قال : الأوثان ، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء.
__________
(1) في المطبوعة : " وقرأ ذلك بعض عامة قرأة ، الكوفيين " جعل " بعد " ، " بعض " ، فأفسد الكلام وأسقطه .

(15/88)


وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)

17661 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (أمن لا يهدي إلا أن يهدي) ، قال : قال : الوثن.
* * *
وقوله : (فما لكم كيف تحكمون) ، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء ، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره ، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته ، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر ، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده ، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا ، يقول : إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته ، بل هم منه في شكٍّ وريبة (1) (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا ) ، يقول : إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا ، ولا يقوم في شيء مقامَه ، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين (2) (إن الله عليم بما يفعلون) ، يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون ، من اتباعهم الظن ، وتكذيبهم الحق اليقين ، وهو لهم بالمرصاد ، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظنن ) .
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 14 : 179 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .

(15/89)


وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، يقول : ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. (1) وذلك نظير قوله : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ ) [سورة آل عمران : 161] ، (2) بمعنى : ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه.
وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن ، هذا القرآن من عنده ، أنزله إلى محمد عبده ، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا : " هو شعر وكهانة " ، والذين قالوا : " إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ " . (3)
يقول لهم جل ثناؤه : ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله ، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق(ولكن تصديق الذي بين يديه) ، أي : يقول تعالى ذكره : ولكنه من عند الله أنزله مصدِّقًا لما بين يديه ، أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله ، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه(وتفصيل الكتاب) ، يقول : وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرائضه التي فرضها عليهم في
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .
وتفسير " ما كان " فيما سلف 7 : 353 / 14 : 509 - 514 ، 561 ، 565 .
(2) هذه قراءة أهل المدينة والكوفة ، بضم الباء وفتح العين ، بالبناء للمجهول ، وهي غير قراءتنا في مصحفنا . وقد سلف بيانها وتفسيرها واختلاف المختلفين فيها فيما سلف 7 : 353 ، 354 . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 464 .
(3) في المطبوعة : " يعيش الرومي " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وذاك تصرف لا خير فيه .

(15/90)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)

السابق من علمه يقول : (لا ريب فيه) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين ، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون : افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله ؟ قل يا محمد لهم : إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته ، فإنكم مثلي من العَرب ، ولساني مثل لسانكم ، وكلامي [مثل كلامكم ] ، (2) فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن.
* * *
و " الهاء " في قوله " مثله " ، كناية عن القرآن.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : معنى ذلك : قل فأتوا بسورة مثل سورته ثم ألقيت " سورة " ، وأضيف " المثل " إلى ما كان مضافًا إليه " السورة " ، كما قيل : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) [سورة يوسف : 82] يراد به : واسأل أهل القرية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف ص : 57 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الريب " فيما سلف 14 : 459 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " العالمين " فيما سلف 13 : 84 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) في المخطوطة : " ولساني مثل لسانكم ، وكلامي فجيئوا " أسقط من الكلام ما وضعته بين القوسين استظهارًا ، أما المطبوعة ، فقد جعلها : " ولساني وكلامي مثل لسانكم " ، فأساء .

(15/91)


وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ، ويزعم أن معناه : فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن " السورة " إنما هي سورة من القرآن ، وهي قرآن ، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم : (فأتوا بسورة مثله) ، ولم يقل : " مثلها " ، لأن الكناية أخرجت على المعنى أعني معنى " السورة " لا على لفظها ، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل : " فأتوا بسورة مثلها " .
* * *
(وادعوا من استطعتم من دون الله ) ، يقول : وادعوا ، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم (من دون الله) ، يقول : من عند غير الله ، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا ، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا.
* * *
وقوله : (إن كنتم صادقين) ، يقول : إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه ، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك ، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه ، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم ، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله ، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز.
* * *

(15/92)


بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين يا محمد ، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنزل الله عليك في هذا القرآن ، (1) من وعيدهم على كفرهم بربهم(ولما يأتهم تأويله) ، يقول : ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن (2) (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، يقول تعالى ذكره : كما كذب هؤلاء المشركون ، يا محمد ، بوعيد الله ، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فانظر ، يا محمد ، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله ، ألم نهلك بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق ؟ (3) يقول : فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك ، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم ، إن لم ينيبوا من كفرهم ، ويسارعوا إلى التوبة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف ص : 51 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف 12 : 478 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف 13 : 43 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/93)


وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن قومك ، يا محمد ، من قريش ، من سوف يؤمن به يقول : من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله(ومنهم من لا يؤمن به) أبدًا ، يقول : ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا(وربك أعلم بالمفسدين ) يقول : والله أعلم بالمكذّبين به منهم ، الذين لا يصدقون به أبدًا ، من كل أحدٍ ، لا يخفى عليه ، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم ، فإني سأتوب عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن كذبك ، يا محمد ، هؤلاء المشركون ، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك ، فقل لهم : أيها القوم ، لي ديني وعملي ، ولكم دينكم وعملكم ، لا يضرني عملكم ، ولا يضركم عملي ، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله(أنتم بريئون مما أعمل) ، لا تُؤْاخذون بجريرته(وأنا برئ مما تعملون) ، لا أوخذ بجريرة عملكم. (2) وهذا كما
__________
(1) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 14 : 86 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بريء " فيما سلف 14 : 12 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/94)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)

قال جل ثناؤه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) [سورة الكافرون : 1 - 3] .
* * *
وقيل : إن هذه الآية منسوخة ، نسخها الجهاد والأمر بالقتال.
*ذكر من قال ذلك :
17662 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) الآية ، قال : أمرَه بهذا ، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك(أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) ، يقول : أفأنت تخلق لهم السمع ، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به ، أم أنا ؟
وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كما أنك لا تقدر أن تسمع ، يا محمد ، من سلبته السمع ، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك ، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن.
* * *

(15/95)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المشركين ، مشركي قومِك ، من ينظر إليك ، يا محمد ، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي ، ولا تقدر أن تهديه ، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به(أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) ، يقول : أفأنت يا محمد ، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك ، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا ، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون ؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك ، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي ، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري ، لأن ذلك بيدي وإليّ.
وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب ، وتعزية له عنهم ، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه ، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه ، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به (ولكن الناس) ، يقول : ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه.

(15/96)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)

وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه ، لذنوبٍ اكتسبوها ، فحق عليهم قول ربهم ، وطبع على قلوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب ، (1) كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم ، (2) ثم انقطعت المعرفة ، وانقضت تلك الساعة يقول الله : (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا (3) (وما كانوا مهتدين) يقول : وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله ، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص : 77 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " اللبث " فيما سلف ص : 41 .
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف 14 : 344 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/97)


وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإما نرينّك ، يا محمد ، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب(أو نتوفينك ) قبل أن نريك ذلك فيهم (1) (فإلينا مرجعهم) ، يقول : فمصيرهم بكل حال إلينا ، ومنقلبهم (2) ( ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ، يقول جل ثناؤه : ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها ، (3) وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم ، جزاءهم الذي يستحقُّونه ، كما : -
17663 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) ، من العذاب في حياتك(أو نتوفينك) ، قبل(فإلينا مرجعهم).
17664 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
17665 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 14 : 15 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص 54 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة ( شهد ) .

(15/98)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولكل أمة خلت قبلكم ، أيها الناس ، رسول أرسلته إليهم ، كما أرسلت محمدًا إليكم ، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته(فإذا جاء رسولهم) ، يعني : في الآخرة ، كما : -
17666 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم) ، قال : يوم القيامة.
* * *
وقوله : (قضى بينهم بالقسط) ، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل (1) (وهم لا يظلمون) ، من جزاء أعمالهم شيئًا ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه . والمسيءُ من أهل الإيمان ، إما أن يعاقبه الله ، وأما أن يعفو عنه ، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل ، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ.
17667 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قضى بينهم بالقسط) ، قال : بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ويقول هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد (متى هذا الوعد) ، الذي تعدنا أنه يأتينا من
__________
(1) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص : 21 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(15/99)


قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

عند الله ؟ وذلك قيام الساعة (إن كنتم صادقين) ، أنت ومن تبعك ، فيما تعدوننا به من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " قل " ، يا محمد ، لمستعجليك وعيدَ الله ، القائلين لك : متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين ؟ (لا املك لنفسي) ، أيها القوم ، أي : لا اقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين (1) (إلا ما شاء الله ) ، أن أملكه ، فأجلبه إليها بأذنه.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه ، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز واعجز ، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك (لكل أمة أجل) ، يقول : لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم ، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم (2)
(لا يستأخرون) ، عنه(ساعة) ، فيمهلون ويؤخرون ، (ولا يستقدمون) ، قبل ذلك ، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 13 : 302 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف من فهارس اللغة ( أمم ) .
وتفسير " الأجل " فيما سلف ص : 33 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " استأجر " و " استقدم " فيما سلف 12 : 404 ، 405 .

(15/100)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك : أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا ، يقول : ليلا أو نهارا ، (1)
وجاءت الساعة وقامت القيامة ، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم ؟ يقول الله تعالى ذكره : ماذا يستعجلُ من نزول العذاب ، (2) المجرمون الذين كفروا بالله ، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم ، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون " آمنتم به " ، يقول : صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق ، وقيل لكم حينئذ : آلآنَ تصدّقون به ، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون ، وأنتم بنزوله مكذبون ؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون.
* * *
ومعنى قوله : (أثم) ، في هذا الموضع : أهنالك ، وليست " ثُمَّ " هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " البيات " فيما سلف 12 : 299 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الاستعجال " فيما سلف ص : 33 .
(3) انظر تفسير " ثم " فيما سلف 2 : 535 وفيه تفسير " ثم " المفتوحة ، بمعنى : هنالك . وقد قال الطبري في تفسيره 8 : 351 : " وقيل إن " ثم " ههنا بمعنى " ثم " بفتح التاء فتكون ظرفا ، والمعنى : أهنالك ، وهو مذهب الطبري . وقال أبو حيان في تفسيره 5 : 167 " وقال الطبري في قوله : أثم ، بضم الثاء أن معناه : أهنالك ، وليست " ثم " هذه ههنا التي تأتي بمعنى العطف ، وما قاله الطبري دعوى " .

(15/101)


ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ثم قيل للذين ظلموا) ، أنفسهم ، بكفرهم بالله(ذوقوا عذاب الخلد) ، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا ، الذي لا فناء له ولا زوال (1) (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول : يقال لهم : فانظروا هل تجزون ، أي : هل تثابون (إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول : إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد ، (3)
فيقولون لك : أحق ما تقول ، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا ؟ قل لهم يا محمد : " أي وربي إنه لحق " ، لا شك فيه ، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم ، بهربٍ ، أو امتناع ، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه ، إذ أراد فعل ذلك بكم ، فاتقوا الله في أنفسكم. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) ، ( كسب ) .
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 54 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف 14 : 131 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/102)


وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو أن لكل نفس كفرت بالله و " ظلمها " ، في هذا الموضع ، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته ، (1) وتركها طاعة من يجب عليها طاعته(ما في الأرض) ، من قليل أو كثير(لافتدت به) ، يقول : لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته (2) وقوله : (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) ، يقول : وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم ، وأيقنوا أنه واقع بهم ( وقضي بينهم بالقسط) ، يقول : وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل (3) (وهم لا يظلمون) ، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته ، ولا يأخذه بذنب أحدٍ ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) }
قال أبو جعفر : يقول جل ذكره : ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء ، لله مِلْك ، لا شيء فيه لأحدٍ سواه . يقول : فليس لهذا الكافر
__________
(1) في المطبوعة : " من يستحق عبادة " ، غير ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الافتداء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فدى ) .
(3) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص : 99 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/103)


هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه ، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها ، لم يقبل منه بدلا من عذابه ، فيصرف بها عنه العذاب ، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه ، وقد حقَّ عليه عذاب الله ؟ يقول الله جل ثناؤه : (ألا إن وعد الله حق) ، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به ، فإنه بهم واقع لا شك (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم ، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الله هو المحيي المميت ، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم ، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك ، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم ، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لخلقه : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) ، يعني : ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده (1) (من
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف 8 : 528 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/104)


قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

ربكم) ، يقول : من عند ربكم ، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يفتعلها أحد ، فتقولوا : لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن ، وهو الموعظة من الله.
وقوله : (وشفاء لما في الصدور) ، يقول : ودواءٌ لما في الصدور من الجهل ، يشفي به الله جهلَ الجهال ، فيبرئ به داءهم ، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به (وهدى) ، يقول : وهو بيان لحلال الله وحرامه ، ودليلٌ على طاعته ومعصيته (ورحمة) ، يرحم بها من شاء من خلقه ، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى ، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به ، لأن من كفر به فهو عليه عمًى ، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك (1) (بفضل الله) ، أيها الناس ، الذي تفضل به عليكم ، وهو الإسلام ، فبيَّنه لكم ، ودعاكم إليه (وبرحمته) ، التي رحمكم بها ، فأنزلها إليكم ، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، وبصَّركم بها معالم دينكم ، وذلك القرآن (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يقول : فإن الإسلام الذي دعاهم إليه ، والقرآن الذي أنزله عليهم ، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " لهؤلاء المشركين بك " ، وهو فاسد جدًا ، ورجحت أن الصواب ما أثبت .

(15/105)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17668 - حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري في قوله : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال : بفضل الله القرآن(وبرحمته) أن جعَلَكم من أهله. (1)
17669 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل ، عن منصور ، عن هلال بن يساف : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال : بالإسلام الذي هداكم ، وبالقرآن الذي علّمكم.
17670 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف : (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال : بالإسلام والقرآن(فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، من الذهب والفضَّة.
17671 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، في قوله : (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال : " فضل الله " ، الإسلام ، و " رحمته " ، القرآن.
17672 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا زيد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، في قوله : (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال : الإسلام والقرآن.
__________
(1) الأثر : 17668 - " علي بن الحسن الأزدي " شيخ الطبري ، مضى برقم : 10258 ، وأننا لم نجد له ترجمة . وكان في المطبوعة هنا " بن الحسين " وهو خطأ ، وقع مثله عندنا في هامش التعليق علىالأثر المذكور 9 : 98 ، تعليق : 1

(15/106)


17673 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف مثله.
17674 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال ، مثله.
17675 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، أما فضله فالإسلام ، وأما رحمته فالقرآن.
17676 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال : فضله : الإسلام ، ورحمته القرآن.
17677 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال : القرآن.
17678 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وبرحمته) ، قال : القرآن.
17679 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : (هو خير مما يجمعون) ، قال : الأموال وغيرها.
17680 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثني أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (قل بفضل الله وبرحمته) يقول : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن.
17681 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال : بكتاب الله ، وبالإسلام(هو خير مما يجمعون).
* * *

(15/107)


وقال آخرون : بل " الفضل " : القرآن و " الرحمة " ، الإسلام.
*ذكر من قال ذلك :
17682 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، قال : (بفضل الله) ، القرآن ، (وبرحمته) ، حين جعلهم من أهل القرآن.
17683 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، قال : " فضل الله " ، القرآن ، و " رحمته " ، الإسلام.
17684 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : (قل بفضل الله وبرحمته) قال : (بفضل الله) القرآن ، (وبرحمته) ، الإسلام.
17685 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال : كان أبي يقول : فضله القرآن ، ورحمته الإسلام.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (فبذلك فليفرحوا).
فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار : (فَلْيَفْرَحُوا) بالياء( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه ، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول : فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه ، فليفرح هؤلاء المشركون ، لا بالمال الذي يجمعون ، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون ، وكذلك : -
17686 - حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن هارون ، عن أبي التيّاح :

(15/108)


(فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يعني الكفار.
* * *
ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما : -
17687 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أسلم المنقري ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب : أنه كان يقرأ : (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خُيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، بالتاء.
17688 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن الأجلح ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، مثل ذلك.
* * *
وكذلك كان الحسن البصري يقول : غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله : ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، بالياء; الأول على وجه الخطاب ، والثاني على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وكان أبو جعفر القارئ ، فيما ذكر عنه ، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ ، بالتاء جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء : ( فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) لمعنيين :
أحدهما : إجماع الحجة من القراء عليه.
والثاني : صحته في العربية ، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء ، وإنما تأمره فتقول : " افعل ولا تفعل " .
وبعدُ ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام ، ويرى أنها لغة مرغوب عنها ، غير الفراء ، فإنه كان يزعم أن الّلام في

(15/109)


الأمر [هي البناء الذي خلق له] ، (1) واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه ، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم ، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال : وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف ، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام ، وأُحدِثَت الألف في قولك : " اضرب " و " افرح " ، لأن الفاء ساكنة ، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء ، كما قال : (ادَّارَكُوا) ، [سورة الأعراف : 38] (2)
و(اثَّاقَلْتُمْ) ، [سورة التوبة : 38]. (3)
وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له ، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها ، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك ، كان خارجًا عن لغتها ، وكتابُ الله الذي أنزله على محمد بلسانها ، (4) فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها ، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها ، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها ؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [حجّة] ولا صحة . (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن اللام في ذي التاء الذي خلق له " ، وهو كلام ساقط بمرة واحدة . وكان في المخطوطة : " أن اللام هي البناء . . . " ، والزيادة التي بين القوسين من عندي ، لأن الناسخ أسقط : كما هو ظاهر . واستظهرت ذلك من كتاب الفراء ، وهذا كله نصه ، كما سيأتي .
(2) في المطبوعة : " ادراكتم " ، وفي المخطوطة " قالوا : ادراكوا واثاقلتم " ، وأثبت نص الفراء .
(3) هذا كله نص الفراء في معاني القرآن 1 : 469 .
(4) في المطبوعة : " وكلام الله " ، والجيد ما في المخطوطة .
(5) في المطبوعة : " لا ثبت بها ولا حجة " ، وفي المخطوطة : " لا تثبت بها ولا صحة " فزدت " حجة " بين القوسين ، لاقتضاء السياق إياها .

(15/110)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين : (أرأيتم) أيها الناس (ما أنزل الله لكم من رزق) ، يقول : ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه ، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، يقول : فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم ، وحرمتم بعضه عليها ، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم ، كما وصفهم الله به فقال : ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ) [سورة الأنعام : 136].
ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك ، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل] يا محمد(آلله أذن لكم) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه(أم على الله تفترون) ، : أي تقولون الباطل وتكذبون ؟ (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17689 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها ، وهو قول الله : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
__________
(1) انظر ما سلف 11 : 116 - 134 .
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .

(15/111)


حرامًا وحلالا) وهو هذا. فأنزل الله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) الآية [سورة الأعراف : 32].
17690 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبى قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم) إلى قوله : (أم على الله تفترون) ، قال : هم أهل الشرك.
17691 - حدثني القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، قال : الحرث والأنعام قال ابن جريج قال ، مجاهد : البحائر والسُّيَّب .
17692 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) قال : في البحيرة والسائبة.
17693 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، الآية ، يقول : كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم ، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك ، أم على الله تفترون ؟
17694 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، فقرأ حتى بلغ : (أم على الله تفترون) ، وقرأ : ( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ) [سورة الأنعام : 139] ، وقرأ : ( وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ) حتى بلغ : ( لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) [سورة الأنعام : 138] فقال : هذا قوله : جعل لهم رزقًا ، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه.

(15/112)


وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)

وقرأ : ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء ، ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) ، إلى آخر الآيات ، [سورة الأنعام : 144].
17695 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، هو الذي قال الله : ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ) إلى قوله : ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ، [سورة الأنعام : 136].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً ، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه ؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر ؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا (إن الله لذو فضل على الناس) ، يقول : إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا ، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة

(15/113)


وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)

(ولكن أكثرهم لا يشكرون) ، يقول : ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك ، وبغيره من سائر نعمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وما تكون) ، يا محمد(في شأن) ، يعني : في عمل من الأعمال(وما تتلوا منه من قرآن) ، يقول : وما تقرأ من كتاب الله من قرآن (1)
(ولا تعملون من عمل) ، يقول : ولا تعملون من عمل أيها الناس ، من خير أو شر(إلا كنَّا عليكم شهودًا) ، يقول : إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم ، إذ تعملونها وتأخذون فيها. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة.
ذكر من قال ذلك :
17696 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إذ تفيضون فيه) ، يقول : إذ تفعلون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة ( تلا . ) .
(2) انظر تفسير " الإفاضة " فيما سلف 4 : 170 .

(15/114)


وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تشيعون في القرآن الكذبَ.
*ذكر من قال ذلك :
17697 - حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك : (إذ تفيضون فيه) ، يقول : تشيعون في القرآن من الكذب. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تفيضون في الحق.
*ذكر من قال ذلك :
17698 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيقة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إذ تفيضون فيه) ، في الحق ما كان.
17699 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17700 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه ، ثم وصل ذلك بقوله : (إذ يفيضون فيه) ، فكان معلومًا أن قوله : (إذ تفيضون فيه) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وَقْت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن ، لكانت القراءة بالياء : " إذ يفيضون فيه " خبرًا منه عن المكذبين فيه.
فإن قال قائل : ليس ذلك خبرًا عن المكذبين ، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، (2) أنه شاهده إذْ تلا القرآن.
__________
(1) في المطبوعة : " فتشيعون " بالفاء ، لم يحسن قراءة المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ولكن خطاب " ، بحذف الهاء ، وأثبتها من المخطوطة .

(15/115)


فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل : (إذ تفيضون فيه) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا جمع ، كما قال : (وما تتلوا منه من قرآن) ، فأفرده بالخطاب ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) ، [سورة الطلاق : 1] ، وذلك أن في قوله : (إذا طلقتم النساء) ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره ، لأنه ابتدأ خطابه ، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس ، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد ، (1) يحصى عليه ويعلمه كما قال : (وما يعزب عن ربك) ، يا محمد ، عمل خلقه ، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء.
* * *
وأصله من " عزوب الرجل عن أهله في ماشيته " ، وذلك غيبته عنهم فيها ، يقال منه : " عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ " .
* * *
لغتان فصيحتان ، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب ، غير أني أميل إلى الضم فيه ، لأنه أغلب على المشهورين من القراء.
* * *
وقوله : (من مثقال ذرة) ، يعني : من زنة نملة صغيرة.
* * *
يحكى عن العرب : " خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك ، أي : أخفُّ وزنًا. (2)
* * *
__________
(1) قوله : " وخبر عن أنه لا يعمل أحد " معطوف على قوله في أول هذه الفقرة : " إنما هو خبر عن وقت عمل العاملين . . . " .
(2) انظر تفسير " المثقال " فيما سلف 8 : 360 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 278 ، وهو نص كلامه .

(15/116)


و " الذرّة " واحدة : " الذرّ " ، و " الذرّ " ، صغار النمل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء ، وإن خف في الوزن كلّ الخفة ، ومقاديرُ ذلك ومبلغه ، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه ، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه : فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم ، فإنّا شهود لأعمالكم ، لا يخفى علينا شيء منها ، ونحن محصُوها ومجازوكم بها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) .
فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من(أَصْغَرَ) و(أَكْبَرَ) على أن معناها الخفض ، عطفًا بالأصغر على الذرة ، وبالأكبر على الأصغر ، ثم فتحت راؤهما ، لأنهما لا يُجْرَيان.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين : [وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] رفعًا ، عطفًا بذلك على معنى المثقال ، لأن معناه الرفع. وذلك أن(مِنْ) لو ألقيت من الكلام ، لرفع المثقال ، وكان الكلام حينئذٍ : " وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ " ، وذلك نحو قوله : ( مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ) ، و(غَيْرُ اللهِ) ، [سورة فاطر : 3]. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ بالفتح ، على وجه الخفض والردّ على الذرة ، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار ، وعليه عَوَامٌّ القراء ،
__________
(1) انظر تفسير " الذرة " فيما سلف 8 : 360 ، 361 .
(2) لم يذكر أبو جعفر قراءة الرفع في هذه الآية ، في موضعها من تفسير " سورة فاطر " ، فيما سيأتي 22 : 77 ( بولاق ) ، وسأشير إلى ذلك في موضعه هناك . وهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر ، تفسيره في مواضع ، كما أشرت إليه في كثير من تعليقاتي .

(15/117)


وهو أصحُّ في العربية مخرجًا ، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ.
* * *
وقوله : (إلا في كتاب) ، يقول : وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله (مبين) ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. (1) أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه ، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه.
* * *
17701 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وما يعزب) ، يقول : لا يغيب عنه.
17702 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا عبد الله قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (وما يعزب عن ربك) ، قال : ما يغيب عنه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .

(15/118)


أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله ، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
* * *
و " الأولياء " جمع " ولي " ، وهو النصير ، وقد بينا ذلك بشواهده. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) ، ولكن ههنا تفصيل في معنى " أولياء الله " ، لم يسبق له نظير .

(15/118)


واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم.
فقال بعضهم : هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم ، لما عليهم من سيما الخير والإخبات.
*ذكر من قال ذلك :
17703 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال : الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم.
17704 - حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله. (1)
17705 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبي الضحى ، مثله.
17706 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبيه : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال : الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم.
17707 - . . . . قال ، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله ، عن سفيان ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبي الضحى قال : سمعته يقول في هذه الآية : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال : من الناس مَفَاتِيح ، (2) إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم.
__________
(1) الأثر : 17704 - " أشعث بن سعد بن مالك القمي " ، ثقة ، مضى برقم : 78 ، وهذا خبر مرسل .
(2) " مفاتيح " ، جمع " مفتاح " ، وهو الذي يفتح به الباب . وهذا مجاز ، إنما أراد أنهم يفتحون باب الخير للناس ، وأعظم الخير ذكر الله سبحانه وتعالى .

(15/119)


17708 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن سَهْل أبي الأسد ، عن سعيد بن جبير ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " أولياء الله " ، فقال : الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله. (1)
17709 - . . . . قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال : الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم
17710 - . . . . قال ، حدثنا أبو يزيد الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ.
17711 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا فرات ، عن أبي سعد ، عن سعيد بن جبير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن " أولياء الله " ، قال : هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله.
17712 - . . . . قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، الآية ، قال : إن ولي الله إذا رُئِي ذُكِر الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما : -
17713 - حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 17708 - " سهل أبو الأسد القراري الحنفي " ثقة ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 100 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 206 ، وكان في المطبوعة : " سهل بن الأسد " ، وهو تصرف من الناشر وفساد ، غير ما في المخطوطة . و " القراري " ، بالقاف ، قال البخاري : " وقرار ، قبيلة " ، وهي من حنيفة ، من بكر ومما يذكر في كتب الرجال " سهل الفزاري " بالفاء " وسهل بن قلان القراري بالقاف وهو عندهم مجهول ، وأخشى أن يكون هو " سهل القراري " ، انظر أيضًا ابن أبي حاتم 2 / 1 / 206 ، وميزان الاعتدال 1 : 431 ، ولسان الميزان 3 : 123 . ومهما يكن ، فهذا خبر مرسل ، عن سعيد بن جبير .

(15/120)


أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل : من هم يا رسول الله ؟ فلعلنا نحبُّهم! قال : هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب ، وجوههم من نور ، على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (1)
17714 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عمارة ، عن أبي زرعة ، عن عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا من هم وما أعمالهم ؟ فإنا نحبهم لذلك! قال : هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله ، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوا الله إن وجوههم لنورٌ ، وإنهم لعلى نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (2)
__________
(1) الأثر : 17713 - " ابن فضيل " ، هو " محمد بن فضيل بن غزوان الضبي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 14247 . وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو فضيل " وهو خطأ ، صوابه من تفسير ابن كثير 4 : 314 ، إذ نقل هذا الخبر عن هذا الموضع من التفسير . وأبوه : " فضيل بن غزوان الضبي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 14247 . و " عمارة بن القعقاع الضبي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 14203 ، 14209 ، 14715 . و " أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة . مضى مرارًا آخرها رقم : 14715 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أبو زرعة ، عن عمرو بن حمزة " ، ومثله في المخطوطة ، و " حمزة " سيئة الكتابة وإنما هي " جرير " ، دخل حرف منها على حرف . وقد مضى الخطأ في اسمه مرارًا . وهذا إسناد صحيح .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 310 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي .
(2) الأثر : 17714 - سلف بيان رجاله في الإسناد السابق ، إلا أن أبا زرعة بن عمرو بن جرير ، لم يرو عن عمر إلا مرسلا ، فهو إسناد جيد إلا أنه منقطع .

(15/121)


17715 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال ، حدثنا يحيى بن حسان قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل ، (1) قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة ، (2) تحابُّوا في الله ، وتصافَوْا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور ، فيجلسهم عليها ، يفزع الناس فلا يفزعون ، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (3)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : " الولي " أعني
__________
(1) " أفناء الناس " أخلاطهم ، ومن لا يدري من أي قبيلة هو . و " نوازع القبائل " جمع " نازع " على غير قياس ، وهم الغرباء الذين يجاورون قبائل ليسوا منهم . وإنما قلت : " جمع على غير قياس " لأن المشهور " نزاع القبائل " كما ورد في حديث آخر . و " فاعل " الصفة للمذكر ، لا يجمع عندهم على " فواعل " إلا سماعًا ، نحو " فوارس " و " هوالك " .
(2) في المطبوعة : " لم يتصل " ، والصواب من المخطوطة ومسند أحمد
(3) الأثر : 17715 - " بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري " شيخ الطبري ، ثقة مضى برقم : 3841 ، 10588 ، 10647 ، وكان في المطبوعة هنا " الحسن بن نصر الخولاني " لا أدري من أين جاء به هكذا ، فأصاب بعض الصواب ؟ وهذا عجب . أما المخطوطة ، ففيها ا " لحسن بن الخولاني " ، والصواب ما أثبت . وروايته عن " يحيى بن حسان " مضت برقم : 2643 ، إلا أنه وقع هناك خطأ أيضًا في اسمه ، فكتب " يحيى بن نصر " ، وقد خبطنا في تصحيفه خبط عشواء ، والصواب " بحر بن نصر " فليصحح هناك . و " يحيى بن حسان التنيسي المصري " ، ثقة ، مضى برقم : 2643 ، والراوي عنه هناك " بحر بن نصر " أيضًا ، كما سلف . و " عبد الحميد بن بهرام الفزاري " ، ثقة ، وثقه أحمد وغيره ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17417. و " شهر بن حوشب " مضى مرارًا كثيرة ، ومضى توثيقه ، وثقه أخي أحمد السيد ، رحمه الله وغفر له . و " عبد الرحمن بن غنم الأشعري " ، مختلف في صحبته ، ويعد من الطبقة الأولى من التابعين ، بعثه عمر بن الخطاب يفقه الناس ، ولازم معاذ بن جبل ، وكان أفقه أهل الشام ، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام ، وكان له جلالة وقدر . وأبو مالك الأشعري " هو المشهور بكنيته ، والمختلف في اسمه ، صحابي ، مترجم في الإصابة والتهذيب وسائر الكتب . وهذا خبر صحيح الإسناد . رواه أحمد في مسنده مطولا 5 : 343 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 310 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي .

(15/122)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)

" ولي الله " هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها ، وهو الذي آمن واتقى ، كما قال الله( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
17716 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : (ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، من هم يا ربّ ؟ قال : (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ، قال : أبى أن يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين صدقوا لله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
* * *
وقوله : (الذين آمنوا) من نعت " الأولياء " ، ومعنى الكلام : ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
فإن قال قائل : فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك ، أفي موضع رفع(الذين آمنوا) أم في موضع نصب ؟
قيل : في موضع رفع. وإنما كان كذلك ، وإن كان من نعت " الأولياء " ، لمجيئه بعد خبر " الأولياء " ، والعرب كذلك تفعل خاصة في " إنّ " ، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا : " إن أخاك قائم الظريفُ " ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " أن يتقبل " ، والصواب ما أثبت.

(15/123)


لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)

كما قال الله : ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ) ، [سورة سبأ : 48] ، وكما قال : ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) ، [سورة ص : 64]. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك ، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب. وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. (2)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " البشرى " ، التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي ؟ وما صفتها ؟ فقال بعضهم : هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة.
*ذكر من قال ذلك :
17717 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن ذكوان ، عن شيخ ، عن أبى الدرداء ، قال : سألت رسول الله
__________
(1) انظر معاني القرآن 1 : 470 ، 471 .
(2) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف 14 : 508 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/124)


صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. (1)
17718 - حدثنا العباس بن الوليد قال ، أخبرني أبي قال : أخبرنا الأوزاعي قال ، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن هذه الآية : (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو قال : غيرك. قال : هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو تُرَى له. (2)
__________
(1) الأثر : 17717 - حديث أبي الدرداء ، رواه أبو جعفر من طرق ، أصنفها في هذا الموضع لأحيل عليها في تخريج الآثار ، أثرًا أثرًا .
1 - طريق ذكوان ( أبي صالح السمان ) ، عن شيخ ، عن أبي الدرداء ، رقم : 17717 ، 17733 .
2 - طريق ذكوان ( أبي صالح السمان ) ، عن أبي الدرداء ، بلا واسطة ، رقم : 17735 ، 17741 .
3 - طريق عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء ، بخمسة أسانيد ، رقم : 17722 ، 17723 ، 17724 ، 17734 ، 17737 .
4 - طريق عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء ، بلا واسطة ، رقم : 17736 ، 17743 .
5 - طريق عمرو بن دينار ، عن فقيه من أهل مصر ، عن أبي الدرداء ، رقم : 17738 .
6 - طريق عمرو بن دينار ، عن أبي الدرداء ، بلا واسطة ، رقم : 17743 .
وهذا تفسير الإسناد رقم : 17717 .
" سليمان " ، هو الأعمش " ، " سليمان بن مهران " ، تابعي ثقة ، مضى مرارًا .
و " شيخ " ، مجهول ، وظاهر أنه تابعي . وعلة هذا الإسناد ، جهالة " الشيخ " الذي روى عنه أبو صالح السمان ، وسائر الإسناد صحيح حسن . وسيأتي في رقم : 17722 ، 17734 ، 17736 ، 17737 ، برواية أبي صالح ، عن عطاء بن يسار في الطريق الثانية ، والثالثة كما فصلتها آنفا .
(2) الأثر : 17718 - حديث عبادة بن الصامت من ثلاث طرق :
1 - طريق يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبادة بسبعة أسانيد ، رقم :
17718 ، 17719 ، 17720 ، 17721 ، 17731 ، 17739 ، 17740 .
2 - طريق حميد بن عبد الله المزني ، عن عبادة بن الصامت ، بإسنادين ، رقم : 17725 ، 17756 .3 - طريق أيوب بن خالد بن صفوان ، عن عبادة رقم : 17730 . وهذا تفسير إسنادنا هذا . " العباس بن الوليد بن مزيد الآملي البيروتي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13461 . وأبوه : " الوليد بن مزيد الآملي البيروتي " ثقة ، قال الأوزاعي شيخه : " كتبه صحيحة " ، مضى برقم : 11821 ، 13461 . و " الأوزاعي " ، هو الإمام المشهور . " ويحيى بن أبي كثير الطائي " ، ثقة ، مضى برقم : 9189 ، 11505 ، 12760 . " وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري " ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 12822 .وانظر التعليق على رقم : 17720 في سماع أبي سلمة من عبادة بن الصامت .وهذا إسناد لم أجده عن طريق الأوزاعي ، وانظر التعليق على سائر حديث عبادة بن الصامت في الأرقام التي ذكرتها آنفا .

(15/125)


17719 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو داود عمن ذكره ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى : (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. (1)
17720 - حدثنا أبو قلابة قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا أبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (2)
__________
(1) الأثر : 17719 - هذا الإسناد لم أجده في سنن أبي داود ، يضعفه جهالة الراوي عن يحيى بن أبي كثير ، ويسنده سائر الآثار التي رويت عن ثقات ، عن يحيى بن أبي كثير .
(2) الأثر : 17720 - " أبو قلابة " ، هو " عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي الضرير " شيخ الطبري ، ثقة . مضى برقم : 4331 ، 5623 . " ومسلم ، " هو " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 13518 . " وأبان " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، ثقة . مضى مرارًا آخرها رقم : 13518 . " وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " ، لم يسمع من عبادة بن الصامت ، يدل على ذلك الأثر التالي ، وقوله فيه : " نبئت عن عبادة بن الصامت " . فقد ذكر المزي : " أنه لم يسمع من طلحة ، وعبادة بن الصامت . فأما عدم سماعه من طلحة فرواه ابن أبي خيثمة والدوري عن ابن معين . وأما عدم سماعه من عبادة ، فقاله ابن خراش . ولئن كان كذلك ، فلم يسمع أيضًا من عثمان ولا من أبي الدرداء ، فإن كلا منهما مات قبل طلحة " ، التهذيب في ترجمته .فإذا صح هذا ، وهو صحيح عن الأرجح ، فأخبار أبي سلمة هذه من عبادة بن الصامت أخبار ضعاف لانقطاعها . ولذلك لم يخرج منها شيء في الصحاح .ومن هذه الطريق ، رواه أحمد في مسنده 5 : 315 ، عن عفان ، عن أبان ، عن يحيى .ورواه الدارمي في سننه 2 : 123 ، من طريق مسلم بن إبراهيم ، عن أبان ، وانظر التعليق على رقم : 17718 ، وسيأتي رقم : 17740 .

(15/126)


17721 - حدثنا ابن المثنى ، وأبو عثمان بن عمر قالا حدثنا علي بن يحيى ، عن أبي سلمة قال : نُبّئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، فقال : سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (1)
__________
(1) الأثر : 17721 - هذا إسناد مختل في المطبوعة والمخطوطة على السواء ، وهو باطل لا شك في بطلانه . وأظنه اضطراب على الناسخ من أصل أبي جعفر .
فقوله " قالا " ، يدل على أن الخبر روي عن " ابن المثنى " وعن " أبي عثمان بن عمر " ، وأن هذا الثاني شيخ الطبري . ولم أجد في شيوخه من هذه كنيته منسوبًا إلى أبيه " عمر " .
وأخرى أنه قال " حدثنا علي بن يحيى " ، وهو باطل أيضًا ، فليس في الرواة عن أبي سلمة " علي بن يحيى " .
ولا أكاد أشك أن " أبا عثمان " شيخ الطبري ، هو " أبو عثمان " ، " أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي " ، مضى برقم : 876 ، 3030 .
وأن الذي روى عنه " محمد بن المثنى " ، هو فيما أرجح ، " عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي " ، وقد سلفت روايته عنه في رقم : 15225 .
ولكن لست أدري ، أروى أيضًا " أبو عثمان المقدمي " شيخ الطبري ، عن " عثمان بن عمر بن فارس " أم لم يرو عنه ، وإن كنت أرجح أنه خليق أن يروى عنه .
وأما قوله : " علي بن يحيى " ، فظاهر أن صوابه : " علي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة " ، يعني " علي بن المبارك " ، عن " يحيى بن أبي كثير " كما سيأتي في الإسناد رقم : 17739 .
وإذن ، فأخشى أن يكون صواب هذا الإسناد هو :
" حدثنا ابن المثنى ، وأبو عثمان قالا ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا علي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة " .
وبذلك يستقم هذا الإسناد الهالك الذي وقع في المطبوعة والمخطوطة .
وتجد هذا الإسناد نفسه ، عن محمد بن المثنى ، عن عثمان بن عمر بن فارس إلى أبي سلمة ، في تاريخ الطبري 2 : 208.
ومهما يكن من شيء ، فهو بعد ذلك إسناد منقطع ، لأن أبا سلمة لم يسمع من عبادة بن الصامت ، كما سلف في رقم : 17720 .
ثم انظر التعليق على رقم : 17739 ، فيما سيأتي .

(15/127)


17722 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، قال : سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال : لقد سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له ، بشراه في الحياة الدنيا ، وبشراه في الآخرة الجنة. (1)
17723 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا عثمان بن سعيد ، عن سفيان ، عن ابن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر قال : سألت أبا الدرداء عن هذه الآية : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، فقال : ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَك ، إلا رجلًا
__________
(1) الأثر : 17722 - هذا حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة ، التي ذكرتها في التعليق على رقم : 17717 .
" أبو معاوية " الضرير هو " محمد بن خازم " ، إمام ثقة ، مضى مرارًا .
و " الأعمش " ، هو " سليمان بن مهران " الإمام . مضى قريبًا رقم : 17717 .
و " أبو صالح " هو " ذكوان " ، مضى برقم : 17717
و " عطاء بن يسار " تابعي ثقة ، مضى مرارًا ، يروي عن أبي الدرداء مباشرة . ولكنه روى الخبر هنا عن رجل من أهل مصر ، وكان عطاء قد قدم مصر ، ومات بالإسكندرية .
فهذا خبر في إسناده علة ، لجهالة الذي روى عنه أبو الدرداء . وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12 : 331 ، رواية الخبر عن عطاء بن يسار ، وقال : " ذكر ابن أبي حاتم ، عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف " ، ولكن في نسخة " الفتح " خطأ ، فإنه كتب " من طريق عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر ، عن عبادة " ، والصواب " عن أبي الدرداء " .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من طريق أبي معاوية عن الأعمش في موضعين من مسنده 6 : 447 ، 452 .
وانظر التعليق على رقم : 17717.

(15/128)


واحدًا! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا واحدًا ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (1)
17724 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، سمع عطاء بن يسار يخبر ، عن رجل من أهل مصر : أنه سأل أبا الدرداء عن : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني ، عن عثمان بن سعيد. (2)
17725 - حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال ، حدثني يحيى بن سعيد قال ، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ ، عن حميد بن عبد الله المزني قال : أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال : آية في كتاب الله أسألك عنها ، قول الله تعالى : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ؟ فقال عبادة : ما سألني عنها أحدٌ قبلك! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك :
__________
(1) الأثر : 17723 - " سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 14266 . وكان في المخطوطة سيئ الكتابة ، يشبه أن يكون " محمد بن عمرو " ، والصواب ما في المطبوعة.
و " عثمان بن سعيد " ، لعله : " عثمان بن سعيد بن دينار القرشي " ، ثقة مترجم في التهذيب .
و " سفيان " ، هو " سفيان بن عيينة " .
و " ابن المنكدر " ، هو " محمد بن المنكدر " ، أحد الأئمة الأعلام مضى مرارًا برقم : 3829 ، 10869 .
وهذا إسناد صحيح إلى عطاء ، كسائر الأسانيد السالفة ، إلا ما فيه من جهالة الرجل من أهل مصر .
رواه أحمد في مسنده 6 : 447 ، من طريق سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه ، وفي كتاب الرؤيا ، من طريق ابن أبي عمر العدني ، عن سفيان .
وانظر التعليق على رقم : 17717 ، وسيأتي من طريق أخرى بعد هذه رقم : 17724 ، وانظر أيضًا التعليق على رقم : 17743 .
(2) الأثر : 17724 - هو مكرر الأثر السالف .
" عمرو بن عبد الحميد الآملي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 3759 ، 10378 .

(15/129)


ما سألني عنها أحدٌ قبلك ، الرؤيا الصالحة يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له . (1)
17726 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرؤيا الحسنة ، هي البشرى ، يراها المسلم ، أو تُرَى له. (2)
17727 - . . . . قال ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح
__________
(1) الأثر : 17725 - حديث عبادة بن الصامت ، هذه هي الطريق الثانية التي أشرت إليها في التعليق على رقم : 17718 ، وسيأتي من طريق أخرى رقم : 17756 .
" أبو حميد الحمصي " ، " أحمد بن المغيرة " ، هو " أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار " أو " أحمد بن محمد بن سيار " ، هكذا يذكر في التفسير أحيانًا ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا منها : 3473 ، 5753 ، 8164 ، 8984 .
و " يحيى بن سعيد " ، هو العطار الشامي الدمشقي ، ضعفوه ، مضى برقم : 5753 ، 9224 ، ولكن أخي السيد أحمد في التعليق على رقم : 5753 ، مال إلى توثيقه .
و " عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي " ويقال في اسمه : " عمرو " ، صالح الحديث ، من ثقات الشاميين ، أدرك عبد الله بن بسر ، ويروي عن أبي عمرو الأنصاري ، والمخارق بن أبي المخارق الذي يروي عن ابن عمر ، روى عنه يحيى بن سعيد العطار ، مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 127 ، وتعجيل المنفعة : 313 .
و " الأحموسي " ، ضبطه الحافظ بالضم ، والواو بعد الميم .
وأما " حميد بن عبد الله المزني " ، فهكذا هو في المخطوطة ، وفي مسند أحمد 5 : 325 " حميد بن عبد الرحمن اليزني " ، وفي ابن أبي حاتم " حميد بن عبد الله المدني " . وأما في التاريخ الكبير للبخاري ، فاقتصر على " حميد بن عبد الله " غير منسوب إلى بلدة أو قبيلة . وأمر نسبته ، لم أستطع أن أفصل فيه ، لقلة ما ذكر عنه . وأما الاختلاف في اسم أبيه ، فلم أجده في غير مسند أحمد ، فلا أدري أهو خطأ في نسخة المسند أم لا . قال البخاري : " حميد بن عبد الله ، سمع عبد الرحمن بن أبي عوف ، ومالك بن أبي رشيد ، سمع منه محمد بن الوليد الزبيدي ، وصفوان بن عمرو ، وعمر الأحموسي " ، ومثله في ابن أبي حاتم .
مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 352 ، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 224 ، ولم يذكر فيه جرحًا .
وهذا خبر منقطع بين حميد ، وعبادة بن الصامت .
(2) الأثر : 17726 - حديث أبي هريرة ، رواه الطبري من : طريق ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، وطريق أبي صالح ، عن أبي هريرة .
" أبو بكر " ، هو " أبو بكر بن عياش " . ثقة مضى مرارًا ، آخرها رقم 14805.
و " هشام " هو " هشام بن حسان الأزدي القردوسي " ، أحد الأعلام ، مضى مرارًا كثيرة ، كان من أحفظ الناس عن ابن سيرين .
فهذا خبر صحيح الإسناد . وانظر التخريج في الخبرين التاليين .

(15/130)


قال ، قال أبو هريرة : الرؤيا الحسنة بشرى من الله ، وهي المبشِّرات . (1)
17728 - حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال ، حدثنا عمار بن محمد قال ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له وهي في الآخرة الجنة. (2)
17729 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن يزيد قال ، حدثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي السَّمْح ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " الرؤيا الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوّة. (3)
__________
(1) الأثر : 17727 - هذا حديث موقوف على أبي هريرة .
" أبو بكر " هو " أبو بكر بن عياش " ، كما سلف .
و " أبو حصين " هو : " عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " أبو صالح " هو " ذكوان " السمان ، مضى قريبًا برقم : 17717 . وهذا خبر موقوف صحيح الإسناد ، وسيأتي بعده مرفوعًا .
(2) الأثر : 17728 - " محمد بن حاتم بن سليمان الزمي " ، المؤدب ، شيخ أبي جعفر ، ثقة ، روى عنه الترمذي ، والنسائي ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وأبو حاتم الرازي ، وغيرهم . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 238 ، وتاريخ بغداد 2 : 268 .
و " عمار بن محمد الثوري " ، ابن أخت " سفيان الثوري " ، لا بأس به ، روى عنه أحمد ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو كريب ، وثقه ابن سعد وابن معين ، والبخاري وقال : " كان أوثق من سيف " ، وسيف أخوه ، كان شيخًا كذابًا خبيثًا يضع الحديث . وقال ابن حبان في عمار : " فحش خطأه وكثر وهمه ، فاستحق الترك " وظني أن ابن حبان قد غالى فيه علوا شديدًا . ومع ذلك فأخشى أن يكون قوله هذا تفسيرا لقول البخاري إنه أوثق من سيف أخيه الكذاب ، وكأنه ضعفه شيئًا ، لا يبلغ منه مبلغ الترك والإسقاط ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 \ 1 \ 29 ، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 393 .
وإسناد هذا الخبر ، إسناد صالح . وأما الإسناد الجيد الصحيح ، فهو إسناد مسلم في صحيحه 15 : 23 ، حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا المسلم يراها أو ترى له ، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .
(3) الأثر : 17729 - حديث عبد الله بن عمرو ، سيأتي من طريق أخرى رقم : 17754 .
و " محمد بن يزيد " الذي روى عنه أبو كريب ، لم يبين هنا ، وأظنه " محمد بن يزيد الحزامي البزاز " روى عن ابن المبارك ، والوليد بن مسلم ، وضمرة بن ربيعة ، وشريك ، وابن عيينة . روى عنه البخاري في التاريخ ، وأبو كريب ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 1 \ 261 ، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 128 ، وميزان الاعتدال 3 : 150 ، ولم يذكر فيه البخاري جرحًا .
وأما " رشدين بن سعد المصري " ، فهو ضعيف الحديث ، مضى تضعيفه برقم : 19 ، 1938 ، 2176 ، 2195 . و " أبو كريب " يروي عن " رشدين " مباشرة ، كما سلف في الآثار التي ذكرتها .
و " عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري " ، ثقة حافظ ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13570 .
وأما " أبو السمح " ، فهو " دراج بن سمعان " ، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص . ثقة ، متكلم فيه ، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله توثيقه فيما سلف ، رقم : 3187 ، 5518 . وكان في المطبوعة : " عن أبي الشيخ " وهو خطأ صرف . وفي المخطوطة مثله رسمًا غير منقوط . والصواب ما أثبت ، كما سيأتي في رقم : 17754 .
و " عبد الرحمن بن جبير المصري " ، الفقيه ، ثقة ، روى عن عبد الله بن عمرو ، وعقبة بن عامر ، وعمرو بن غيلان بن سلمة الثقفي ، وأبي الدرداء ، . كان عبد الله بن عمرو به معجبًا . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 221 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد ، لضعف " رشدين بن سعد " : وسيأتي بإسناد صالح فيما سيأتي رقم : 17754.

(15/131)


17730 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد بن صفوان ، عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، فقد عرفنا بشرى الآخرة ، فما بشرى الدنيا ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له ، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا أو ستين جزءًا من النبوة. (1)
__________
(1) الأثر : 17730 - حديث عبادة بن الصامت ، هذا هو الطريق الثالث من طرقه .
" موسى بن عبيدة الربذي " ، ضعيف لا تحل الرواية عنه ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 16229 .
و " أيوب بن خالد بن صفوان الأنصاري " ، ثقة ، متكلم فيه . روى عن جابر بن عبد الله ، وعن التابعين ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 \ 1 \ 412 ، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 245 ، وفرق البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم بينه وبين " أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري ، " وكذلك فرق بينهما أبو زرعة ، قال الحافظ ابن حجر " وجعلها ابن يونس واحدًا . قلت : وسبب ذلك أن خالد بن صفوان والد أيوب ، وأمه عمرة بنت أبي أيوب الأنصاري ، فهو جده لأمه ، فالأشبه قول ابن يونس ، فقد سبق إليه البخاري " . وقد رأيت أن البخاري قد فرق بينهما في تاريخه ، فلا أدري من أين قال ذلك الحافظ ابن حجر ؟
وهذا إسناد ضعيف ، لضعف " موسى بن عبيدة " ، وهو إسناد منقطع أيضًا ، لأن " أيوب بن خالد " لم يرو عن عبادة بن الصامت .
وكان في المطبوعة : " أو سبعين جزءًا من النبوة " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(15/132)


17731 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو عمرو قال ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عبادة بن الصامت ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ، فقال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة. (1)
17732 - حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال ، حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن سباع بن ثابت ، عن أم كرز الكعبية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات. (2)
__________
(1) الأثر : 17731 - حديث عبادة بن الصامت ، هذه هي الطريق الأول من طرقه ، كما فصلتها في رقم : 17718 ، وهو إسناد آخر للخبر رقم : 17718 .
(2) الأثر : 17732 - " أحمد بن حماد بن سعيد الدولابي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 2593 ، 3571 .
و " سفيان " ، هو " ابن عيينة " .
و " عبيد الله بن أبي يزيد المكي " ، ثقة ، مضى برقم : 20 ، 3778 ، 10274 ، 14673 - 14677 .
وأبوه " أبو يزيد المكي " ، ثقة ، مضى برقم : 20 .
و " سباع بن ثابت " ، حليف لبني زهرة ، عدّه ابن حجر وابن الأثير في الصحابة ، مترجم ، فيهما ، وفي ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 312 ، ولم يذكر له صحبة . وكان في المخطوطة وحدها " سباع بن أبي ثابت " ، والصواب ما في المطبوعة .
وهذا الخبر من طريق سفيان بن عيينة ، بهذا الإسناد ، ورواه ابن ماجة في سننه ص : 1283 ، رقم : 3896 ، والدارمي في سننه 2 : 123 ، بمثله . ورواه أحمد في مسنده 6 : 381 ، من طريق سفيان بن عيينة أيضًا ، وروى معه ثلاثة أحاديث بالإسناد نفسه وفيه " عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه عن سباع بن ثابت " ، فقال أبو عبد الرحمن ولده : " سمعت أبي يقول : سفيان يهم في هذه الأحاديث . عبيد الله ، سمعها من سباع بن ثابت " ، ثم ساق أحد الأحاديث الأربعة من طريق عفان ، عن حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال حدثني سباع بن ثابت " ، مصرحًا بالتحديث .
وذكر ابن أبي حاتم في ترجمة " سباع بن ثابت " أن عبيد الله بن أبي يزيد ، روى عن سباع بن ثابت " من رواية ابن جريج ، وحماد بن زيد ، عنه . وقال : " وأما ابن عيينة ، فيروى عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه عن سباع بن ثابت " .
وهذا خبر صحيح ، على ما فيه من الاختلاف ، وإنما الوهم فيه من سفيان .

(15/133)


17733 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن رجل ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ، قال : الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة. (1)
17734 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل كان بمصر ، قال : سألت أبا الدرداء عن هذه الآية : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، فقال أبو الدرداء : ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما سألني عنها أحدٌ قبلك ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له ، وفي الآخرة الجنة. (2)
17735 - . . . . قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي الدرداء قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، قال : ما سألني عنها أحد غيرُك ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (3)
__________
(1) الأثر : 17733 - حديث أبي الدرداء ، من الطريق الأولى التي بينتها في التعليق على رقم : 17717 ، وروايته هنا من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ذكوان . وانظر التعليق على رقم : 17717 .
ومن هذه الطريق رواها أحمد في مسنده 6 : 445 ، بإسناده عن عبد الرازق ، عن سفيان .
(2) الأثر : 17734 - حديث أبي الدرداء ، من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم : 17717 ، وهو مكرر رقم 17722 ، وقد خرجته هناك .
(3) الأثر : 17735 - هذه هي الطريق الثانية لحديث أبي الدرداء أيضًا ، ولكنه رواية أبي صالح ذكوان ، عن أبي الدرداء مباشرة ، كما سيأتي برقم : 17741 ، وقد فصلت ذلك في التعليق على رقم 17717 . وهذه هي الطريق التي أشار إليها الترمذي في سننه ، في كتاب التفسير ، تذييلا على الخبر الذي رواه أبو جعفر برقم : 17724 .
و " عاصم " ، هو " عاصم بن بهدلة " ، و " عاصم بن أبي النجود " ، وهو ثقة ، روى له الجماعة ، روى له الشيخان مقرونًا بغيره ، لأنه كان في حفظه شيء . فأخشى أن يكون هذا الذي انفرد به مما ساء حفظه فيه . وانظر التعليق على سائر حديث أبي الدرداء .

(15/134)


17736 - . . . . قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء في قوله : " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، قال : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما سألني عنها أحدٌ قبلك ، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له ، وفي الآخرة الجنة. (1)
17737 - . . . . قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي صالح قال ابن عيينة : ثم سمعته من عبد العزيز ، عن أبي صالح السمان عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر قال : سألت أبا الدرداء عن هذه الآية : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ، قال : ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (2)
17738 - . . . . قال ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، عن عمرو بن دينار : أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا ، قدم عليهم في بعض تلك المواسم ، قال قلت : ألا تخبرني عن قول الله تعالى ذكره : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ؟ قال : سألت عنها أبا الدرداء ، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له. (3)
__________
(1) الأثر : 17736 - هذه هي الطريق الرابعة لحديث أبي الدرداء ، وهي رواية أبي صالح السمان " ذكوان " ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء ، بلا واسطة . و " عطاء بن يسار " ، يروي عن أبي الدرداء .
وإسناده حسن . وانظر ما قلته في التعليق على رقم : 17717 ، وما سيأتي في رقم : 17743 .
(2) الأثر : 17737 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم : 17717 .
وهذا الخبر سمعه ابن عيينة من عمرو بن دينار ، عن عبد العزيز بن رفيع ، ثم سمعه من عبد العزيز بن رفيع مباشرة .
" وعبد العزيز بن رفيع الأسدي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 14810 .
ومن هذه الطريق ، رواه الترمذي في السنن ، في كتاب التفسير ، تعقيبًا للأثر السالف برقم : 17724 . ورواه أحمد في مسنده 6 : 447 ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، ليس بينهما " عمرو بن دينار " .
(3) الأثر : 17738 - هذه هي الطريق الخامسة ، لحديث أبي الدرداء .
" عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي " ، ثقة ، مضى برقم : 10885 .
و " حاتم بن أبي صغيرة " ، ثقة ، مضى برقم : 17410 ، 17411 .
و " عمرو بن دينار " ، لم يسمع من أبي الدرداء ، ولكنه رواه هنا عن مجهول ، وهو " فقيه من أهل مصر " . فهو حديث ضعيف .

(15/135)


17739 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن علي بن مبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال : " هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. (1)
17740 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي قالا حدثنا أبان قال ، حدثنا يحيى ، عن أبي سلمة ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قلت : يا رسول الله ، قال الله تعالى : (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو : أحدٌ من أمتي قال : " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. (2)
17741 - . . . . قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، قال : سمعت أبا الدرداء ، وسئل عن :
__________
(1) الأثر : 17739 - " حديث عبادة بن الصامت ، من الطريق الأولى التي بينتها في رقم : 17718 .
وقد فصلت الحديث عنه في التعليق على رقم : 17721 ، ذلك الإسناد المختل ، وفي رقم : 17720 ، وبينت علته هناك .
ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده 5 : 315 .
وابن ماجه في سننه ص : 1283 ، رقم : 3898 .
والحاكم في المستدرك 2 : 340 ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي . وقد بينت قبل أن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من عبادة بن الصامت ، فهو إسناد منقطع . فهذه علته ، وإن كان سائر الإسناد صحيحًا .
(2) الأثر : 17740 - حديث عبادة من الطريق الأولى ، كالذي قبله ، وهو مكرر رقم : 17720 ، وقد خرجته هناك .

(15/136)


(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : ما سألني عنها أحدٌ قبلك ، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. (1)
17742 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن نافع بن جبير ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو تُرَى له. (2)
17743 - . . . . وقال : ابن جريج عن عمرو بن دينار ، عن أبي الدرداء أو ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : هي الرؤيا الصالحة. (3)
17744 - . . . . وقال ابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : هي الرؤيا يراها الرجل.
17745 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
__________
(1) الأثر : 17741 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثانية ، وهو مكرر رقم : 17735 ، وخرجته هناك .
(2) الأثر : 17742 - " عبيد الله بن أبي يزيد المكي " ، ثقة ، مضى قريبًا رقم : 17732 ونافع بن جبير بن مطعم النوفلي " تابعي مشهور وأحد الأئمة . مضى برقم 17429 . وهذا الخبر ، رواه نافع عن صحابي لم يصرح باسمه ، لعله أبو هريرة ، وجهالة الصحابي لا تضر . فهو حديث صحيح إن شاء الله .
(3) الأثر : 17743 - حديث أبي الدرداء هذا من طريقين : طريق عمرو بن دينار عن أبي الدرداء ، بلا واسطة ، وهي الطريق السادسة التي بينتها في رقم : 17717 . " وعمرو بن دينار " لم يسمع من أبي الدرداء ، كما بينت في رقم : 17738 ، فهو ضعيف لانقطاعه .
وطريق محمد بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء ، وهي الطريقة الرابعة . وقد سلف بيانها في تخريج الخبر رقم : 17736 ، وانظر أيضًا حديث محمد بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء ، رقم : 17723 ، 17724 .

(15/137)


17746 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح.
17747 - . . . . قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
17748 - . . . . قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن طلحة القناد ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. (1)
17749 - قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كانوا يقولون : الرؤيا من المبشِّرات.
17750 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : " ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنزلت عليّ قبلك ! قال : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. (2)
17751 - . . . . قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن العوام ، عن إبراهيم التيمي ، أن ابن مسعود قال : ذهبت النبوة ، وبقيت المبشِّرات! قيل : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (3)
17752 - قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، فهو قوله لنبيه : ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ) ، [سورة الأحزاب : 47] . قال : هي
__________
(1) الأثر : 17748 - هذا خبر موقوف على ابن عباس .
(2) الأثر : 17750 - هذا خبر مرسل .
(3) الأثر : 17751 - هذا خبر موقوف على ابن مسعود ، صحيح الإسناد .

(15/138)


الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له.
17753 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن عطاء في قوله : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر بها في حياته.
17754 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها المؤمن ، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. (1)
17755 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أنس بن عياض ، عن هشام ، عن أبيه في هذه الآية : (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له.
17756 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا حميد بن عبد الله : أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى : (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال عبادة : لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ قبلك ، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال لي : يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي! تلك
__________
(1) الأثر : 17754 - حديث عبد الله بن عمرو ، مضى من طريق أخرى ضعيفة ، برقم : 17729 . " عمرو بن الحارث المصري " ، ثقة ، مضى برقم : 17729 .
و " دراج بن سمعان " ، " أبو السمح " ، ثقة ، مضى أيضًا برقم : 17729 ، وتوثيق أخي السيد أحمد رحمه الله ، له . وقد رواه أحمد مطولا في سنده ، برقم : 7044 ، من طريق حسن بن الأشيب ، عن لهيعة ، عن دراج أبي السمح ، وقال أخي : " إسناده صحيح " .وخرجه في مجمع الزوائد 7 : 175 ، وقال : " رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج " وحديثهما حسن ، وفيهما ضعف . وبقية رجاله ثقات " . وهذه الطريق الأخرى من رواية ابن وهب ، أوثق من طريق ابن لهيعة . وخرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 7 : 36 ، وقال نحوه .

(15/139)


الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له. (1)
* * *
وقال آخرون : هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت.
*ذكر من قال ذلك :
17757 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، وقتادة : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا.
17758 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يعلى ، عن أبي بسطام ، عن الضحاك : (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال : يعلم أين هو قبل الموت.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا ، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه ، تقول لنفسه : اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه " . (2)
__________
(1) الأثر : 17756 - هذه هي الطريق الثانية لحديث عبادة بن الصامت ، التي ذكرتها في رقم : 17718 .
" محمد بن عوف بن سفيان الطائي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 5445 ، 12194 ، 13108 " وأبو المغيرة " ، هو " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني " ، ثقة ، مضى برقم : 10371 ، 12194 ، 13108 . " وصفوان " هو : " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، ثقة ، مضى برقم : 7009 ، 12807 ، 13108 رواه أحمد من هذا الطريق نفسها في السند 5 : 325 ، عن أبي المغيرة ، عن صفوان ، عن حميد بن عبد الرحمن اليزني . " وحميد بن عبد الله " ، مضى برقم : 17725 ، ويشبه هناك " المزني " ، وذكرت أن في ابن أبي حاتم " المدني " ، وفي المسند " اليزني " ، كما رأيت . ثم اختلاف آخر ، في المسند " حميد بن عبد الرحمن اليزني " ، ولكني لم أجد هذا الاختلاف في شيء من الدواوين ، فأخشى أن يكون خطأ ناسخ من نساخ المسند . وسلف في رقم : 17725 . أن هذا إسناد منقطع بين " حميد بن عبد الله " ، وعبادة بن الصامت .
(2) حديث بغير إسناد ، لم أستطع أن أجده بلفظه في مكان قريب .

(15/140)


ومنها : بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل ، كما قال جل ثناؤه : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) الآية ، [سورة البقرة : 25].
وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها ، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى ، فذلك مما عمه جل ثناؤه : أن(لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، وأما في الآخرة فالجنة.
* * *
وأما قوله : (لا تبديل لكلمات الله) ، فإن معناه : إن الله لا خُلْفَ لوعده ، ولا تغيير لقوله عما قال ، ولكنه يُمْضي لخلقه مواعيدَه وينجزها لهم ، (1) وقد : -
17759 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع قال : أطال الحجاج الخطبة ، فوضع ابن عمر رأسَه في حِجْري ، فقال الحجاج : إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن عمر فقال : لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير ! لا تبديل لكلمات الله! فقال الحجاج : لقد أوتيت علمًا إن نفعك! (2) قال أيوب : فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تبديل الكلمات " فيما سلف 2 : 62 ، تعليق : 1 ، 3 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " لقد أوتيت علما أن تفعل " ، وهو بين الفساد ، صوابه من المستدرك للحاكم .
(3) الأثر : 17759 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 339 ، 340 ، من طريق أبي النعمان ، عن إسماعيل بن علية ، عن أيوب ، بمثله ، ليس فيه كلمة أيوب . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي . وهذا خبر عظيم القدر فيه أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ظاهرة كما علمهم رسولهم ، من ترك هيبة الجبابرة ، ومن إنكار المنكر من القول والعمل ، ومن اليقظة لمعاني الكلام ومقاصد الأعمال ، ومن تعليم الناس جهرة أخطاء أمرائهم والولاة عليهم ، ومن الصبر على أذى هؤلاء الجبابرة إذا كان الأذى يمسهم في خاصة أنفسهم . فأما إذا كان الأمر أمر الله وأمر رسوله ، وأمر الكتاب المنزل بالحق إلى الديانين والجبابرة جميعًا ، يأمرهم وينهاهم على السواء ، فهم لا يخافون جبارًا قد عود سيفه سفح الدماء ، ودرب لسانه على اللذع والقرص واللجاجة . فرحم الله أمة كان هؤلاء النبلاء ، أئمتها وهداتها !

(15/141)


وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

وقوله : (ذلك هو الفوز العظيم) ، يقول تعالى ذكره : هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وهي الفوز العظيم " ، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزنكَ ، يا محمد ، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون ، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام (2) فإنّ العزة لله جميعًا ، يقول تعالى ذكره : فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة ، لا شريك له فيها ، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون ، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ ، لأنه لا يُعَازُّه شيء (3) (هو السميع العليم) ، يقول : وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه ، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه ، مُحْصًى ذلك عليهم كله ، وهو لهم بالمرصاد. (4)
* * *
وكسرت " إن " من قوله : (إن العزة لله جميعًا) لأن ذلك خبرٌ من الله مبتدأ ، ولم يعمل فيها " القول " ، لأن " القول " ، عني به قول المشركين ، وقوله : (إن العزة لله جميعًا) ، لم يكن من قِيل المشركين ، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 14 : 439 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الحزن " فيما سلف 10 : 108 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " العزة " فيما سلف 10 : 421 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " السميع " و " العليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 471 ، 472 وفيه تفصيل موقع " إن " بعد " القول " وشبهه .

(15/142)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (66) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ألا إن لله يا محمد كلَّ من في السموات ومن في الأرض ، ملكًا وعبيدًا ، لا مالك لشيء من ذلك سواه. يقول : فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام ، وهي لله ملك ، وإنما العبادة للمالك دون المملوك ، وللرب دون المربوب ؟ (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) ، يقول جل ثناؤه : وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون الله يعني : غير الله وسواه شركاء. ومعنى الكلام : أيُّ شيءٍ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا ، والله المنفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض ؟ (إن يتبعون إلا الظن) ، يقول : ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن ، يقول : إلا الشك لا اليقين (1) (وإن هم إلا يخرصون) ، يقول : وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك ، (2) عن غير علمٍ منهم بما يقولون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظنن ) .
(2) في المطبوعة : " تظننا " وأثبت ما في المخطوطة معجما ، على قلة إعجام الحروف فيها .
" والتظني " ، هو " التظنن " ، وإنما قلبت نونه الآخرة ياء لتوالي النونات وثقل تواليها ، وهو كثير فاش في كلام العرب .

(15/143)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنّ ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة ، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار ، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب والنَّصب ، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار (1) (والنهار مبصرًا) ، يقول : : وجَعَل النهار مبصرًا ، فأضاف " الإبصار " إلى " النهار " ، وإنما يُبْصَر فيه ، وليس " النهار " مما يبصر ، ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه ، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم ،
وذلك كما قال جرير :
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلانَ فِي السُّرَى ... وَنِمتِ ، وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ (2)
فأضاف " النوم " إلى " الليل " ووصفه به ، ومعناه نفسه ، أنه لم يكن نائمًا فيه هو ولا بَعِيره.
* * *
يقول تعالى ذكره : فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون ، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا .
* * *
وقوله : (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) ، يقول تعالى ذكره : إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما ، دلالةً وحججًا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك ، هو الذي خلق الليل والنهار ، وخالف بينهما ، بأن جعل هذا للخلق
__________
(1) انظر تفسير " جعل " فيما سلف في فهارس اللغة ( جعل ) .
(2) ديوانه : 554 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 279 ، من قصيدة له طويلة ، أجاب بها الفرزدق .

(15/144)


قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)

سكنًا ، وهذا لهم معاشًا ، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئًا ، ولا يضر ولا ينفع.
* * *
وقال : (لقوم يسمعون) ، لأن المراد منه : الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها ، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به : الذين يسمعون بآذانهم ، ثم يعرضون عن عبره وعظاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد : (اتخذ الله ولدًا) ، وذلك قولهم : " الملائكة بنات الله " . يقول الله منزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك : " سبحان الله " ، تنزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم (1) " هو الغني " يقول : الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا ، فلا حاجة به إلى ولد ، (2) لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه ، ليكون عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته ، والله عن كل ذلك غنيٌّ ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره ، ولا يبيدُ فيكون به حاجة إلى خلف بعده (له ما في السموات وما في الأرض) ، يقول تعالى ذكره : لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا ، والملائكةُ عباده وملكه ، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا ؟ يقول : أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون ؟ (إن عندكم من سلطان بهذا) ، يقول : ما عندكم أيها القوم ،
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص : 47 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغني " فيما سلف 12 : 126 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/145)


قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله ، من حجة تحتجون بها وهي السلطان (1) أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته ، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه ، جهلا منكم بما تقولون ، بغير حجة ولا برهان ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل) يا محمد ، لهم(إن الذين يفترون على الله الكذب) ، فيقولون عليه الباطل ، ويدّعون له ولدًا (2) (لا يفلحون) ، يقول : لا يَبْقَون في الدنيا (3)
، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به ، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه (4) (ثم إلينا مرجعهم) ، يقول : ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم ، إلينا مصيرهم ومنقلبهم (5)
(ثم نذيقهم العذاب الشديد) ، وذلك إصلاؤهم جهنم (6) (بما كانوا يكفرون) بالله في الدنيا ، فيكذبون رسله ، ويجحدون آياته.
* * *
ورفع قوله : (متاع) بمضمر قبله إما " ذلك " ، و إما " هذا " . (7)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف 12 : 523 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص : 46 ، ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف ص : 53 ، ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص : 98 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص : 102 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 472 ، وفيه " : إما ( هو ) ، وإما ( ذاك ) " .

(15/146)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (واتل) على هؤلاء المشركين الذي قالوا : (اتخذ الله ولدًا) ، من قومك (1) (نبأ نوح) ، يقول : خبر نوح (2) (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ، يقول : إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم ، (3) (وتذكيري بآيات الله) ، يقول ، ووعظي إياكم بحجج الله ، وتنبيهي إياكم على ذلك (4) (فعلى الله توكلت) ، يقول : إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم ، وتذكيري بآيات الله ، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم ، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي ، وهو سَنَدي وظهري (5) (فأجمعوا أمركم) ، يقول : فأعدُّوا أمركم ، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. (6)
* * *
يقال منه : " أجمعت على كذا " ، بمعنى : عزمت عليه ، (7)
ومنه قول النبي
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة ( تلا ).
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 102 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " كبر " فيما سلف 11 : 336 ، 337 .
(4) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ).
(5) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 14 : 587 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(6) في المطبوعة : " وما تقدمون عليه " ، وفي المخطوطة : " وما سومون " غير منقوطة ، وهو وهم من الناسخ ، والصواب الذي أرجحه ، ما أثبت ، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة .
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 473 ، وقد فصل القول فيه هناك .

(15/147)


صلى الله عليه وسلم : : " من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له " ، بمعنى : من لم يعزم ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (3)
* * *
وروي عن الأعرج في ذلك ما : -
17760 - حدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) ، يقول : أحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم. (4)
ونصب قوله : (وشركاءكم) ، بفعل مضمر له ، وذلك : " وادعوا شركاءكم " ، وعطف ب " الشركاء " على قوله : (أمركم) ، على نحو قول الشاعر :
__________
(1) هذا حديث رواه بلا إسناد . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث حفصة أم المؤمنين . انظر سنن أبي داود 2 : 441 ، 442 ، رقم : 2454 .
(2) لم أعرف قائله ، ولكني أظنه لأبي النجم ، هكذا أذكر .
(3) نوادر أبي زيد : 133 ، معاني القرآن للفراء 1 : 473 ، اللسان ( جمع ) ، ( زفا ) ، وبعده فيما روى أبو زيد : وَتَحْتَ رَحْلِي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ
حَرْفٌ ، إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ
.
(4) الأثر : 17760 - " عبد الوهاب " ، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي " ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 14229 . " وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي ، مضى برقم : 4985 ، 11693 ، 15514 ، 15515 . " وأسيد " ، هو " أسيد بن أبي أسيد ، يزيد " ، البراد . روى الحروف عن الأعرج ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1/ 49 ، ولم يزد على أن قال " أسيد ، حدثنا موسى ، حدثنا هارون ، عن أسيد سمع عكرمة ، وعن الأعرج في القراءة " ، لم يذكر له نسبًا . وفي ابن أبي حاتم 1 / 1 / 316 ، في ترجمة " أسيد بن يزيد المدني " ، وقال : " روى عن الأعرج ، روى عنه هارون النحوي " . ثم أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد " ، وقال : " واسم أبي أسيد يزيد " ، ولم يذكر له رواية عن الأعرج ، ولا في الرواة عنه هارون النحوي ، فجعلهما رجلين . بيد أني رأيت ابن الجزري في طبقات القراء 1 : 381 في ترجمة " الأعرج " ، وهو " عبد الرحمن بن هرمز " قال : " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد " . وانظر هذا الاختلاف في التهذيب ، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك .

(15/148)


وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (1)
فالرمح لا يُتَقلَّد ، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف ، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، (2) فكذلك ذلك في قوله : (وشركاءكم).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته قراء الأمصار : (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا ، وقوله : (فَأَجْمِعُوا) ، بهمز الألف وفتحها ، من : " أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) ، بفتح الألف وهمزها (وَشُرَكَاؤُكُمْ) ، بالرفع على معنى : وأجمعوا أمركم ، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. (3)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ : ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) ، بفتح الألف من " أجمعوا " ، ونصب " الشركاء " ، لأنها في المصحف بغير واو ، ولإجماع الحجة على القراءة بها ، ورفض ما خالفها ، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو.
* * *
وعني ب " الشركاء " ، آلهتهم وأوثانهم.
* * *
وقوله : (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) ، يقول : ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه في مواضع ، آخرها 13 : 434 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 473 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فاكتفى " بالفاء ، والصواب حذفها ، وإنما خلط الناسخ .
(3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 473 .

(15/149)


من قولهم : " غُمَّ على الناس الهلال " ، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه ، ومنه قول [العجاج] : (1)
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا... بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (2)
وقيل : إن ذلك من " الغم " ، لأن الصدر يضيق به ، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه ، (3) ومنه قول خنساء :
وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه... وَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (4)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما :
17761 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أمركم عليكم غمة) ، قال : لا يكبر عليكم أمركم.
* * *
وأما قوله : (ثم اقضوا إليّ) ، فإن معناه : ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه ، كما : -
17762 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال : اقضوا إليّ ما كنتم قاضين.
17763 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال : اقضوا إليّ ما في أنفسكم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ومنه قول رؤبة " ، وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخ ، فلذلك وضعته بين القوسين ، وإنما نقل هذا أبو جعفر من مجاز القرآن لأبي عبيدة ، وهو فيه على الصواب " العجاج " .
(2) ديوانه : 63 ، واللسان ( غمم ) ، ( كمم ) ، وغيرها . أول رجز له طويل في ديوانه ، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي ، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج ، وسلف بيان ذلك 13 : 75 ، تعليق : 2 ، في شرح بيت من هذا الرجز . وقوله : " تكموا " من قوله : " تكممه " ، أي غطاه وغشاه ، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا " ، قلبت الأخيرة ياء ، كما قيل في " التظنن " و " التظني " ، فلما أسند إليه الواو ، قال : " تكموا " .
(3) في المطبوعة : " يتفرج عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(4) ديوانها : 22 ، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو " من رثائها في أخيها صخر .

(15/150)


17764 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله : (ثم اقضوا إليّ) . (1) .
فقال بعضهم : معناه : امضوا إلي ، كما يقال : " قد قضى فلان " ، يراد : قد مات ومَضَى.
* * *
وقال آخرون منهم : بل معناه : ثم افرغوا إليّ ، وقالوا : " القضاء " ، الفراغ ، والقضاء من ذلك. قالوا : وكأنّ " قضى دينه " من ذلك ، إنما هو فَرَغ منه.
* * *
وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك : (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ) ، بمعنى : توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ ، من قولهم : " قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه " . (2)
* * *
وقوله : (ولا تنظرون) ، يقول : ولا تؤخرون.
* * *
من قول القائل : " أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين " . (3)
* * *
قال أبو جعفر : وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه : إنه بنُصرة الله له عليهم واثق ، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف (4) وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع ، يقول لهم : أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ ، على عزم منكم صحيح ، واستعينوا من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله ،
__________
(1) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ص : 33 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء 1 : 474 .
(3) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف 13 : 322 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " من كيدهم وتواثقهم " ، وهي قراءة فاسدة ، صوابها ما أثبت . والمخطوطة غير منقوطة . و " البوائق " ، جمع " بائقة " . يعني : غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه .

(15/151)


فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

ولا تؤخروا ذلك ، فإني قد توكلت على الله ، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي.
وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح ، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به ، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه : (فإن توليتم ) ، أيها القوم ، عني بعد دعائي إياكم ، وتبليغ رسالة ربي إليكم ، مدبرين ، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ ، والإقرار بتوحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، وترك إشراك الآلهة في عبادته ، فتضيعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم ، لا بسبب من قبلي ، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا ، ولا عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى ، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً (إن أجري إلا على الله) يقول جل ثناؤه : إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي ، لا عليكم ، أيها القوم ، ولا على غيركم (وأمرت أن أكون من المسلمين) ، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة ، المنقادين لأمره ونهيه ، المذللين له ، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه ، وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الأجر " ، و " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولى ) ، ( أجر ) ، ( سلم ) .

(15/152)


فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي " فنجيناه ومن معه " ممن حمل معه في " الفلك " ، يعني في السفينة (1) " وجعلناهم خلائف " ، يقول : وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه (2) بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا ، ورسالة رسولنا نوح.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " فانظر " ، يا محمد كيف كان عاقبة المنذرين " وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه : انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولَهم ، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم ، نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه. (3)
يقول جل ثناؤه : فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ ، بهم إن لم يتوبوا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12 : 502 / 15 : 55 .
(2) انظر تفسير " الخلافة " فيما سلف ص : 38 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص : 93 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/153)


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم ، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم ، وأنهم لله رسل ، وأن ما يدعونهم إليه حقّ (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ، يقول : فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) ، يقول تعالى ذكره : كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها ، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم ، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم ، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام (1) كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده ، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته ، (2) عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم ، موسى وهارون ابني عمران ، إلى فرعون مصر
__________
(1) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 14 : 424 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .

(15/154)


فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)

وملئه ، يعني : وأشراف قومه وسادتهم (1) (بآياتنا) ، يقول : بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبُودة ، والإقرار لهما بالرسالة (فاستكبروا) ، يقول : فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون (2) (وكانوا قومًا مجرمين) ، يعني : آثمين بربهم ، بكفرهم بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (فلما جاءهم الحق من عندنا) ، يعني : فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون ، وذلك الحجج التي جاءهم بها ، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله (قالوا إن هذا لسحر مبين) ، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له (4) (قال موسى) ، لهم : (أتقولون للحق لما جاءكم) ، من عند الله (أسحر هذا) ؟ .
* * *
واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله : (أسحر هذا) ؟ فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت فيه على الحكاية لقولهم ، لأنهم قالوا : (أسحر هذا) ؟ فقال : أتقولون : (أسحر هذا) ؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف 13 : 36 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الاستكبار " فيما سلف 13 : 114 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) قوله " آثمين بربهم " ، تعبير سلف مرارًا في كلام أبي جعفر ، وبينته وفسرته فيما سلف انظر 12 : 303 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " السحر " فيما سلف 13 : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/155)


وقال بعض نحويي الكوفة : إنهم قالوا : " هذا سحر " ، ولم يقولوه بالألف ، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال : فيقال : فلم أدخلت الألف ؟ فيقال : قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم يعلمون أنه سحر ، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته : أحقٌّ هذا ؟ وقد علم أنه حق. قال : وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم : أسحر هذا ؟ ما أعظمه! (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ محذوفًا ، ويكون قوله : (أسحر هذا) ، من قيل موسى ، منكرًا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم : " سحر " ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : قال موسى لهم : (أتقولون للحق لما جاءكم) وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه سحرٌ ، أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه ؟ فيكون " السحر " الأوّل محذوفًا ، اكتفاءً بدلالة قول موسى(أسحر هذا) ، على أنه مرادٌ في الكلام ، كما قال ذو الرمة.
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ ، أَوْ حِينَ نَصَّبَت... لَهُ مِنْ خَدَّا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ (2)
يريد : أو حين أقبل ، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه ، وكما قال جل ثناؤه : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) [سورة الإسراء : 7] ، والمعنى : بعثناهم ليسوءوا وجوهكم فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، في أشباه لما ذكرنا كثيرة ، يُتْعب إحصاؤها.
* * *
وقوله : (ولا يفلح الساحرون) ، يقول : ولا ينجح الساحرون ولا يَبْقون. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 474 .
(2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1 : 327 ، تعليق : 2 .
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص : 146 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/156)


قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال فرعون وملأه لموسى : (أجئتنا لتلفتنا) ، يقول : لتصرفنا وتلوينا (عمّا وجدنا عليه آباءنا) ، من قبل مجيئك ، من الدين.
* * *
يقال منه : " لفت فلانٌ [ عنق فلان " إذا لواها ، كما قال رؤبة] : (1)
*لَفْتُا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* (2)
" التهزيع " : الدق ، و " اللفت " ، اللّي ، كما : -
17765 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (لتلفتنا) ، قال : لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا.
* * *
وقوله : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، يعني العظمة ، وهي " الفعلياء " من " الكبر " . ومنه قول ابن الرِّقاع :
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة : " كما قال ذو الرمة " ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت ، كما دل عليه مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 280 ، وأنا أرجح أن ذلك من الناسخ ، لا من أبي جعفر ، لأنه نقل عن أبي عبيدة . وانظر مثل هذا فيما سلف ص : 150 ، تعليق : 1 : فوضعت الصواب بين القوسين .
(2) ديوانه 24 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 280 ، اللسان ( هزع ) ، من رجز ذكر فيه نفسه ، يقول قبله ، مشبها نفسه بالأسد : فَإنْ تَرَيْنِي أَحْتَمِي بِالسَّكْتِ
فَقَدْ أَقُومُ بِالْمَقَامِ الثَّبْتِ
أشْجَعَ مِنْ ذي لِبَدٍ بِخَبْتِ
يَدُقُّ صُلْباتِ العِظَامِ رَفْتِي
و " الرفت " ، الدق والكسر . وقوله " سواء اللفت " ، أي " سوى اللفت " " سواء " ( بفتح السين ) و " سوى " ( بكسر السين ) ، بمعنى : غير .

(15/157)


سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِش لا يُدَا... نِيهِ تِجِبَّارَةٌ وَلا كِبْرِياءُ (1)
* * *
17766 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال : الملك.
17767 - . . . . قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال : السلطان في الأرض.
17768 - . . . . قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد قال : الملك في الأرض.
17769 - . . . . قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال : الطاعة.
17770 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) قال : الملك.
17771 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17772 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) لم أجد البيت في مكان آخر ، وكان في المطبوعة : " تجباره " ، ومثله في المخطوطة ، أما ضبطه فقد شغلني ، لأن أصحاب اللغة لم يذكروا في مصادر " الجبروت " سوى " التجبار " ( بفتح فسكون ) بمعنى الكبر . فكأن قارئه يقرؤه كما في المطبوعة والمخطوطة " تجباره " ( بفتح فسكون ) ، مضافا إلى الهاء . وظني أن الضبط الذي ذهبت إليه أجود ، وإن لم يذكروه في المصادر في كتب اللغة التي بين أيدينا . ومصدر " تِفِعَّال " ( بكسر التاء والفاء وتشديد العين ) ، هو قياس التصدير في " تَفَعَّل " لكنها صارت مسموعة لا يقاس على ما جاء منها الشافية 1 : 166 ) ، نحو " تِمِلَّاق " ودخول التاء في مثله في المصادر جائز في العربية . وبالضبط الذي ضبطته يستقيم وزن الشعر ، فأخشى أن يكون هذا المصدر على هذا الميزان ، مما أغفلته كتب اللغة .

(15/158)


17773 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد قال : السلطان في الأرض.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني ، وذلك أن الملك سلطان ، والطاعة ملك ، غير أن معنى " الكبرياء " ، هو ما ثبت في كلام العرب ، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك.
* * *
وقوله : (وما نحن لكما بمؤمنين) ، يقول : " وما نحن لكما " يا موسى وهارون " بمؤمنين " ، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا.
* * *

(15/159)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لقومه : ائتوني بكل من يسحر من السحرة ، عليم بالسحر (1) (فلما جاء السحرة ) ، فرعونَ قال موسى : (ألقوا ما أنتم ملقون) ، من حبالكم وعصيِّكم.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ، وهو : " فأتوه بالسحرة ، فلما جاء السحرة " ، ولكن اكتفى بدلالة قوله : (فلما جاء السحرة) ، على ذلك ، فترك ذكره.
وكذلك بعد قوله : (ألقوا ما أنتم ملقون) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه ، وهو : (فألقوا حبالهم وعصيهم) (فلما ألقوا قال موسى) ، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه ، فتُرك ذكره.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السحر " فيما سلف ص : 155 : تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
وتفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .

(15/159)


فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما ألقوا ما هم ملقوه ، قال لهم موسى : ما جئتم به السحر.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون ، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم : قال موسى : الذي جئتم به أيّها السحرة ، هو السحر.
* * *
وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين : (مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به ، أسحر هو أم غيره ؟ (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام ، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه ، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له ، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه ، أي شيء هو ؟
وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة ، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه ، فلم يكن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 475 ، وفيه تفصيل مفيد .

(15/160)


يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل ، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه ، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه ، (1)
ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه . (2)
وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى.
* * *
فإن قال قائل : فما وجه دخول الألف واللام في " السحر " إن كان الأمر على ما وصفت ، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا : " ما جاءني به عمرو درهمٌ والذي أعطاني أخوك دينار " ، ولا يكادون أن يقولوا (3)
: الذي أعطاني أخوك الدرهم وما جاءني به عمرو الدينار ؟
قيل له : بلى ، كلام العرب إدخال " الألف واللام " في خبر " ما " و " الذي " إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب ، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام ، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين ، وإنما يأتي ذلك بغير " الألف واللام " ، (4) إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه ، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. (5) وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة ، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه
__________
(1) في المخطوطة : " ما جاؤوا به من ذلك الحق الذي أتاه " ، وأرجح أن ناسخ المخطوطة قد أسقط شيئًا من الكلام ، ولكن ما في المطبوعة يؤدي عن معناه ، وذلك بزيادة الباء في " بالحق " ، وإن كانت الجملة عندي ضعيفة .
(2) في المطبوعة : " بجده " بالجيم ، والصواب بالحاء . و " الحد " الشدة والبأس والسطوة .
(3) هكذا في المخطوطة " لا يكادون أن يقولوا " ، وبعد " يقولوا " حرف " ط " دلالة على الخطأ ، وليس خطأ . وقد عقد ابن هشام في شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح : 98 - 102 ، فصلا جيدًا في وقوع خبر " كاد " مقرونا به " أن " ، وذكر شواهده في الحديث وفي الشعر ، واحتج لذلك أحسن الاحتجاج .
(4) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " واللام " .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 475 .

(15/161)


ونبوته ، إلى أنه سحرٌ ، فقال لهم موسى : السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة ، هو الذي جئتم به أنتم ، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال : (إن الله سيبطله) ، يقول : سيذهب به ، فذهب به تعالى ذكره ، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه ، حتى لم يبق منه شيء (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ، يعني : أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه ، وعمل فيها بمعاصيه. (1)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : (مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ).
* * *
وفي قراءة ابن مسعود : (مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ) ، (2) وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإفساد " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسد ) .
(2) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1 : 475 .

(15/162)


وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة : (ويحق الله الحق) ، يقول : ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده ، فيعليه على باطلكم ، ويصححه " بكلماته " ، يعني : بأمره (1) (ولو كره المجرمون) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم ، (2) بمعصيتهم إياه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلم يؤمن لموسى ، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة(إلا ذرية من قومه ) خائفين من فرعون وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع.
فقال بعضهم : الذرية في هذا الموضع : القليل.
*ذكر من قال ذلك :
17774 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه) ، قال ، كان ابن عباس يقول : " الذرية " : القليل.
17775 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، " الذرية " ، القليل ، كما قال الله تعالى : ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) [سورة الأنعام : 133]
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان ، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء ، فقيل لهم " ذرية " ، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. (3)
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " يحق الحق بكلماته " فيما سلف 13 : 407 ، تعليق : 2 ، 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر بيان معنى " أثم بربه " فيما سلف ص : 155 ، تعليق : 3 : ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الذرية " فيما سلف 12 : 127 ، 128 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وانظر تفسير بمعنى " القليل " في معاني القرآن للفراء 1 : 476 .

(15/163)


17776 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله تعالى : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال : أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ، ومات آباؤهم.
17777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
17778 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
17779 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال : أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ومات آباؤهم.
17780 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ، قال : أبناء أولئك الذين أرسل إليهم ، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون.
*ذكر من قال ذلك :
17781 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ، قال : كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه.
* * *

(15/164)


وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول ، وذلك ما : -
17782 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (ذرية من قومه) ، يقول : بني إسرائيل.
* * *
فهذا الخبر ، ينبئ عن أنه كان يرى أن " الذرية " في هذا الموضع ، (1) هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية ، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد ، وهو أن " الذرية " ، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل ، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان ، فأدركت ذريّتهم ، فآمن منهم من ذكر الله ، بموسى.
وإنما قلت : " هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك " ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى ، فَلأن تكون " الهاء " ، في قوله : " من قومه " ، من ذكر موسى لقربها من ذكره ، أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها ، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ ، من خبرٍ ولا نظرٍ.
وبعدُ ، فإن في قوله : (على خوف من فرعون وملئهم) ، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله : (إلا ذرية من قومه) ، من ذكر موسى ، لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام ، " على خوف منه " ، ولم يكن(على خوف من فرعون) .
* * *
وأما قوله : (على خوف من فرعون) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى فتأويل الكلام : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، من بني إسرائيل ، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ينبئ عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(15/165)


وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل : " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه " ، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، فقيل لهم " الذرية " ، من أجل ذلك ، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم : " أبناء " . (1) .
والمعروف من معنى " الذرية " في كلام العرب : أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء ، كما قال جل ثناؤه : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) ، [سورة الإسراء : 3] ، وكما قال : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ) ثم قال بعد : ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ) ، [سورة الأنعام : 84 ، 85] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.
* * *
وأما قوله : (وملئهم) ، فإن " الملأ " : الأشراف. (2) وتأويل الكلام : على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
* * *
واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله : (وملئهم) ، فقال بعض نحويي البصرة : عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، على خوف من فرعون) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل.
* * *
وقال بعض نحويي أهل الكوفة : (3)
عني بهما فرعون. قال : وإنما جاز ذلك وفرعون واحد ، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر ، (4) ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال : ألا ترى أنك تقول : " قدم الخليفة فكثر الناس " ، تريد ، بمن معه " وقدم فغلت الأسعار " ، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. (5)
* * *
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 476 .
(2) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص : 155 تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " نحويي الكوفة " ، وأثبت ما في المخطوطة " .
(4) في المطبوعة : " الخوف " ، والصواب من معاني القرآن للفراء . أما المخطوطة فقد أسقط ناسخها وكتب : " لأن الملك ، وقال : ألا ترى " .
(5) في المطبوعة " : لأنا ننوي بقدومه . . . " ، وفي المخطوطة : " لأنا ننوي بقدومه وقدوم من معه " ، وهو خطأ ، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء .

(15/166)


قال : وقد يكون أن تريد أن بـ " فرعون " آل فرعون ، وتحذف " الآل " ، (1) فيجوز ، كما قال : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) ، [سورة يونس : 82] ، يريد أهل القرية ، والله أعلم. قال : ومثله قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) ، [سورة الطلاق : 1]. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : " الهاء والميم " عائدتان على " الذرية " . ووجَّه معنى الكلام إلى أنه : على خوف من فرعون ، وملأ الذرية لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم ، كان مع فرعون على موسى.
* * *
وقوله : (أن يفتنهم) ، يقول : كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون " أن يفتنهم " بالعذاب ، فيصدّهم عن دينهم ، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. (3)
وقال : (أن يفتنهم) ، فوحَّد ولم يقل : " أن يفتنوهم " ، لدليل الخبر عن فرعون بذلك : أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه ، لما قد تقدم من قوله : (على خوف من فرعون وملئهم).
* * *
وقوله : (وإن فرعون لعال في الأرض) ، يقول تعالى ذكره : وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه " وإنه لمن المسرفين " ، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، (4) وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به ، وجحودُه وحدانية الله ، وادّعاؤه لنفسه الألوهة ، وسفكه الدماء بغير حِلِّها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، " وبحذف " ، وفي المخطوطة : " فتحذف آل فرعون " ، وهو خطأ ، صوابه من معاني القرآن .
(2) هذا الذي مضى نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 476 ، 477 .
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة ( فتن ) .
(4) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف ص : 37 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/167)


وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه : يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله ، وصدقتم بربوبيته (فعليه توكلوا) ، يقول : فبه فثقوا ، ولأمره فسلموا ، (1)
فإنه لن يخذل وليّه ، ولن يسلم من توكل عليه (2) (إن كنتم مسلمين) ، يقول : إن كنتم مذعنين لله بالطاعة ، فعليه توكلوا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فقال قوم يا موسى لموسى : (على الله توكلنا) ، أي به وثقنا ، وإليه فوَّضنا أمرنا.
* * *
وقوله : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا : يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين ، ولا تمتحنهم بنا! (4) يعنون قوم فرعون.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم.
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 147 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " ويسلم " ، وفي المخطوطة : " ولم يسلم " ، والصواب ما أثبت .
(3) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة ( سلم ) .
(4) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة ( فتن ) .

(15/168)


فقال بعضهم : سألوه أن لا يظهرهم عليهم ، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم ، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين.
*ذكر من قال ذلك :
17783 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، في قوله : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : لا يظهروا علينا ، فيروا أنهم خير منا.
17784 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمران بن حدير ، عن أبى مجلز في قوله : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : قالوا : لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا.
17785 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : لا تسلّطهم علينا ، فيزدادوا فتنة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
*ذكر من قال ذلك :
17786 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
17787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : لا تسلطهم علينا فيضلونا.
17788 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله وقال أيضًا : فيفتنونا.
17789 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن

(15/169)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : " لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا " ، فيفتتنوا بنا.
17790 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : " لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا " ، فيفتتنوا بنا.
17791 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قوله : (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال : لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم ، فيفتتنوا ويقولوا : " لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا " .
17792 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا ، وتجعله فتنة لهم ، هذه الفتنة. وقرأ : (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) ، [سورة الصافات : 63] ، قال المشركون ، حين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم ، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم ، وهي بلية للمؤمنين ؟.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً ، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به ، وبما جاءهم به ، فإنه لا شك أنه كان لهم " فتنة " ، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان : أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ

(15/170)


وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

في أنفسهم ، من بلية تنزل بهم ، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ونجِّنا يا ربنا برحمتك ، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين ، قوم فرعون ، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا.
* * *
يقال منه : " تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا " ، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا " ، إذا اتخذه ، " وبوأته أنا بيتًا " : إذا اتخذته له. (1)
* * *
(واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول : واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف 7 : 164 / 12 : 541 .

(15/171)


واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) . (1)
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
*ذكر من قال ذلك :
17793 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : مساجد.
17794 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : أمروا أن يتخذوها مساجد.
17795 - . . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا ، فقال لهم : (اجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول : اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها.
17796 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : خافوا ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17797 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17798 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شبل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17799 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانوا لا يصلون إلا في البِيَع ، وكانوا لا يصلون إلا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
__________
(1) انظر تفسير " القبلة " فيما سلف 3 : 131 .

(15/172)


17800 - . . . . قال ، حدثنا جرير عن ليث ، عن مجاهد قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17801 - قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون ، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.
17802 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول : مساجد.
17803 - . . . . قال ، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانوا يصلون في بيوتهم يخافون.
17804 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) ، قال : مساجد.
17805 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17806 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : قال أبي (1) اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها ، تلك " القبلة " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة.
__________
(1) في المطبوعة وحدها : " قال قال أبو زيد " ، يعني ، أباه زيدًا ، والقائل هو " ابن زيد " . وأثبت ما في المخطوطة .

(15/173)


*ذكر من قال ذلك :
17807 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يعني الكعبة.
17808 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) ، قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة.
17809 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قال ابن عباس في قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول : وجِّهوا بيوتكم ، " مساجدكم " نحو القبلة ، ألا ترى أنه يقول : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) [سورة النور : 36].
17810 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : قِبَل القبلة.
17811 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (بيوتكم قبلة) ، قال : نحو الكعبة ، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا.
17812 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، ثم ذكر مثله سواء.
17813 - . . . . قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :

(15/174)


(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) ، مساجد.
17814 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : في قوله : (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا) ، قال : مصر ، " الإسكندرية " .
17815 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : وذلك حين منعهم فرعون الصلاة ، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم ، وأن يوجهوا نحو القبلة.
17816 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (بيوتكم قبلة) ، قال : نحو القبلة.
17817 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) قال : مساجد (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : قبل القبلة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.
*ذكر من قال ذلك :
17818 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال : يقابل بعضها بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قدمنا بيانه ، وذلك أن الأغلب من معاني " البيوت " وإن كانت المساجد بيوتًا البيوت المسكونة ، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن " المساجد " لها اسم هي به معروفة ، خاصٌّ لها ، وذلك " المساجد " . فأمّا " البيوت " المطلقة بغير وصلها بشيء ، ولا إضافتها إلى شيء ، فالبيوت المسكونة.

(15/175)


وكذلك " القبلة " الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به ، دون الخفيّ المجهول ، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك ولم يكن على قوله : (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا.
وكذلك القول في قوله(قبلة)
* * *
(وأقيموا الصلاة) ، يقول تعالى ذكره : وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. (1) . وقوله : (وبشر المؤمنين) ، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام : وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله ، يا محمد ، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة ( قوم ) .
(2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص : 124 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/176)


وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم (1) وهم " الملأ " " زينة " ، من متاع الدنيا وأثاثها (2) (وأموالا) من أعيان الذهب والفضة (في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) ، يقول موسى لربه : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : ( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى : ليضلوا الناسَ ، عن سبيلك ، ويصدّوهم عن دينك.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : (لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، بمعنى : ليضلوا هم عن سبيلك ، فيجورُوا عن طريق الهدى. (3)
* * *
فإن قال قائل : أفكان الله جل ثناؤه ، أعطَى فرعون وقومه ، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ، ليضلوا الناس عن دينه أو ليضلُّوا هم عنه ؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك ، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك ، (4) فلا عتب عليهم في ذلك ؟
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص : 166 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف 12 : 389 .
(3) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1 : 477 .
(4) في المطبوعة : " ما أعطاه لأجله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(15/177)


قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. (1)
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه " اللام " التي في قوله : (ليضلوا).
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ربنا فَضَلوا عن سبيلك ، كما قال : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) ، [سورة القصص : 8] ، أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا ، وإنما التقطوه فكان لهم. قال : فهذه " اللام " تجيء في هذا المعنى. (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : هذه " اللام " ، " لام كي " (3) ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم ، كي يضلوا ثم دعا عليهم.
* * *
وقال آخر : هذه اللامات في قوله : (ليضلوا) و(ليكون لهم عدوًا) ، وما أشبهها بتأويل الخفض : آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل " لام كي " ، في معنى " لام الخفض " ، و " لام الخفض " في معنى " لام كي " ، لتقارب المعنى ، قال الله تعالى : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ) (4) [سورة التوبة : 95] أي لإعراضكم ، ولم يحلفوا لإعراضهم ، وقال الشاعر : (5)
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلا لِتَسْمُو... وَلَكِنَّ المُضَيِّعَ قَدْ يُصَابُ
قال : وإنما يقال : " وما كنت أهلا للفعل " ، ولا يقال " لتفعل " إلا قليلا. قال : وهذا منه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة ، أسقط الناسخ فكتب : " فلا عتب عليهم في ذلك بخلاف ما توهمت " ، وقد أصاب ناشر المطبوعة فيما استظهره من السياق .
(2) أي معنى العاقبة والمآل .
(3) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 477 .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " يحلفون بالله " بغير السين ، وهذا حق التلاوة .
(5) لم أعرف قائله .

(15/178)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أنها " لام كي " ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه ، ويضلوا عن سبيلك عبادَك ، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه : ( لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) ، [سورة الجن : 16 - 17].
* * *
وقوله : (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، هذا دعاء من موسى ، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها ، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها ، وذلك نحو قوله : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) ، [سورة النساء : 47]. يعني به : من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها.
* * *
يقال منه : " طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا " . وقد تستعمل العرب " الطمس " في العفوّ والدثور ، وفي الاندقاق والدروس ، (1) كما قال كعب بن زهير :
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُول (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا.
*ذكر من قال ذلك :
17820 - حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثني ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : بلغنا عن القرظي في قوله : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : اجعل سُكّرهم حجارة. (3)
17821 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الطمس " فيما سلف 8 : 444 ، 445 .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 4 : 424 / 8 : 444 .
(3) سقط من الترقيم سهوًا ، رقم : 17819 .

(15/179)


ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن محمد بن كعب القرظي قال : اجعل سكرهم حجارة.
17822 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : (اطمس على أموالهم) قال : اجعلها حجارة.
17823 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله : (اطمس على أموالهم) ، قال : صارت حجارة.
17824 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة.
17825 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة. (1)
17826 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : يقولون : صارت حجارة.
17827 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق. قال : حدثنا يحيى الحماني قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : صارت حجارة.
17828 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.
17829 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ربنا اطمس على
__________
(1) في المطبوعة : " حروثًا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب أيضًا .

(15/180)


أموالهم) ، قال : جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت.
17830 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : قد فعل ذلك ، وقد أصابهم ذلك ، طمَس على أموالهم ، فصارت حجارةً ، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم ، وكلُّ شيء.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أهلكها.
*ذكر من قال ذلك :
17831 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال : أهلكها.
17832 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17833 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17834 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (ربنا اطمس على أموالهم) ، يقول : دمِّر عليهم وأهلك أموالهم.
* * *
وأما قوله : (واشدد على قلوبهم) ، فإنه يعني : واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان ، كما : -
17835 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : وقال موسى قبل أن يأتي فرعون : " ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " ، فاستجاب الله له ، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق ، فلم ينفعه الإيمان.
17836 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي

(15/181)


قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (واشدد على قلوبهم) ، يقول : واطبع على قلوبهم (حتى يروا العذاب الأليم) ، وهو الغرق.
17837 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واشدد على قلوبهم) ، بالضلالة.
17838 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واشدد على قلوبهم) ، قال : بالضلالة.
17839 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17840 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (واشدد على قلوبهم) ، يقول : أهلكهم كفارًا.
* * *
وأما قوله : (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، فإن معناه : فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته ، حتى يروا العذاب الموجع ، (1) كما : -
17841 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلا يؤمنوا) ، بالله فيما يرون من الآيات (حتى يروا العذابَ الأليم).
17842 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17843 - . .. . قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17844 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) انظر تفسير " الأليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .

(15/182)


عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17845 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، قال : سمعت المنقري يقول : (فلا يؤمنوا) ، يقول : دعا عليهم. (1)
* * *
واختلف أهل العربية في موضع : (يؤمنوا).
فقال بعض نحويي البصرة : هو نصبٌ ، لأن جواب الأمر بالفاء ، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا . وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول : هو نصبٌ ، عطفًا على قوله : (ليضلوا عن سبيلك) .
* * *
وقال آخر منهم ، (2) وهو قول نحويي الكوفة : موضعه جزمٌ ، على الدعاء من موسى عليهم ، بمعنى : فلا آمنوا ، كما قال الشاعر : (3)
فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى... وَلا تَلْقَنِي إِلا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ (4)
بمعنى : " فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى " ، " ولا لقيتني " ، على الدعاء.
* * *
__________
(1) الأثر : 17845 - " المنقري " ، هكذا في المطبوعة . وفي المخطوطة : " المعري " غير منقوطة ، وقد أعياني أن أعرف من يعني .
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 281 .
(3) هو الأعشى .
(4) ديوانه : 58 ، من قصيدته في هجاء يزيد بن مسهر الشيباني ، يقول له : فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابْنُ مُسْهرٍ ... بِرَغْمِكَ إذْ حَلّتْ عَلَيْنَا اللَّهَازِمُ
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي ، كَأَنَّمَا ... زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَى المَحَاجِمُ
فَلاَ يَنبَسِطْ . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فأقسم بالله الذي أنا أعبده ... لتصطفقن يوما عليك المآتم
.

(15/183)


وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هو دعاء ، كأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا. قال : وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه ، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر ، فتجعل : (فلا يؤمنوا) ، في موضع نصب على الجواب ، وليس يسهل. قال : ويكون كقول الشاعر : (1)
يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا (2)
قال : وليس الجواب يسهلُ في الدعاء ، لأنه ليس بشرط. (3)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أنه في موضع جزم على الدعاء ، بمعنى : فلا آمنوا وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ ، وذلك قوله : (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، فإلحاق قوله : (فلا يؤمنوا) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى.
* * *
وأما قوله : (حتى يروا العذاب الأليم) ، فإنّ ابن عباس كان يقول : معناه : حتى يروا الغرق وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. (4)
17846 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ابن عباس : (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، قال : الغرق.
* * *
__________
(1) هو أبو النجم .
(2) سيبويه 1 : 421 ، معاني القرآن للفراء 1 : 478 ، وغيرهما . وسيأتي في التفسير 13 : 159 ( بولاق ) . من أرجوزة له في سليمان بن عبد الملك ، لم أجدها مجموعة في مكان . و " العنق " ، ضرب من السير . و " الفسيح " الواسع البليغ .
(3) هذا الذي سلف نص كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 477 ، 478 .
(4) انظر ما سلف رقم : 18735 ، 18736 .

(15/184)


قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه : (قال) الله لهما : (قد أجيبت دعوتكما) ، في فرعون وملئه وأموالهم.
* * *
فإن قال قائل : وكيف نسبت " الإجابة " إلى اثنين و " الدعاء " ، إنما كان من واحد ؟
قيل : إن الداعي وإن كان واحدًا ، فإن الثاني كان مؤمِّنًا ، وهو هارون ، فلذلك نسبت الإجابة إليهما ، لأن المؤمِّن داعٍ. (1) وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17847 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن رجل ، عن عكرمة في قوله : (قد أجيبت دعوتكما) ، قال : كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فذلك قوله : (قد أجيبت دعواتكما).
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية ، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين ، وأنشد في ذلك : (2)
فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تُعْجَلانَا... بِنزعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 478 .
(2) هو مضرس بن ربعى الأسدي .
(3) الصاحبي : 186 ، ابن يعيش 10 : 49 ، واللسان ( جزز ) ، وسيأتي في التفسير 26 : 103 ، ( بولاق ) . من كلمة له ، لم أجدها مجموعة في مكان ، ومنها أبيات في حماسة ابن الشجري 27 ، 204 ، يقولها في الشواء ، يقول قبل البيت : وَفِتْيَانٍ شَوَيْتُ لَهُمْ شِوَاءً ... سَريعَ الشَّيِّ كنْتُ بِهِ نَجِيحَا
فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلاَتٍ ... دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وقُلْتُ لِصَاحِبي : لا تَحْبِسَانَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى " لا تحبسنا " ، ولا شاهد فيها ، ويروى " واجدز " ( بتشديد الزاي ) وقلب " التاء دالا ، ورواية الطبري الآتية : " لا تحبسانا " أيضًا .
" النجيح " : المجد السريع . واليعملات : النوق . و " الدوامي " : قد دميت أيديها من طول السير وشدته . و " السريح " : خرق أو جلود تشد على أخفاف الإبل إذا دميت . ويقول لصاحبه : لا تحبسنا عن الشيء أو : لا تجعلنا نعجل عليك بالدعاء ، بطول تلبثك في نزع الحطب من أصوله ، بل خذ ما من تيسر قضبانه وعيدانه ، وائتنا به لنشوي .

(15/185)


17848 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زكريا بن عدي ، عن ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح قال : (قد أجيبت دعوتكما) قال : دعا موسى ، وأمن هارون.
17849 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وزيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال : دعا موسى ، وأمَّن هارون.
17850 - . . . . قال : حدثنا أبو معاوية ، عن شيخ له ، عن محمد بن كعب قال : دعا موسى وأمّن هارون.
17851 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : (قد أجيبت دعوتكما) ، قال : دعا موسى ، وأمن هارون.
17852 - قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وعبد الله بن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : دعا موسى وأمَّن هارون ، فذلك قوله : (قد أجيبت دعوتكما).

(15/186)


17853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن عكرمة في قوله : " قد أجيبت دعوتكما " قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن ، فذلك قوله : (قد أجيبت دعوتكما).
17854 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : (قد أجيبت دعوتكما) لموسى وهارون قال ابن جريج : قال عكرمة : أمّن هارون على دعاء موسى فقال الله : (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما).
17855 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : كان هارون يقول : آمين فقال الله : (قد أجيبت دعوتكما) فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها.
* * *
وأما قوله : (فاستقيما) ، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما ، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته ، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجَابَهما فيه ، (1) كما : -
17856 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : (فاستقيما) : فامضيا لأمري ، وهي الاستقامة قال ابن جريج : يقولون : إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. (2)
* * *
وقوله : (ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون) ، (3) يقول : ولا تسلكانّ طريق
__________
(1) انظر تفسير " الاستقامة " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( قوم ) .
(2) هكذا في المطبوعة والدر المنثور : " بعد هذه الدعوة " ، وفي المخطوطة : " بعد هذه الآية " ، إلا أن " الآية " سيئة الكتابة .
(3) انظر تفسير " اتبع " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة ( اتبع ) ، ( سبل ) . وما سيأتي بعد قليل في تفسير الآية التالية .

(15/187)


وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)

الذين يجهلون حقيقة وعدي ، فتستعجلان قضائي ، فإن وعْدي لا خلف له ، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به وبقومه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه (1) (فأتبعهم فرعون) ، يقول : فتَبعهم فرعون(وجنوده) .
يقال منه " أتْبَعته " و " تبعته " ، بمعنى واحد.
وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول : إذا أريد أنه أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام " أتبعهم " بهمز الألف ، وإذا أريد : اتبع أثرهم ، أو اقتدى بهم ، فإنه من " اتّبعت " مشددة التاء غير مهموزة الألف.
* * *
(بغيًا)على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل (2) (وعدْوًا) ، يقول : واعتداء عليهم ،
* * *
وهو مصدر من قولهم : " عدا فلان على فلان في الظلم ، يعدو عليه عَدْوًا " مثل " غزا يغزو غزوا " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " جاوز " فيما سلف 5 : 345 / 13 : 80 .
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف ص : 53 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " العدوان " فيما سلف 14 : 151 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(15/188)


وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ : (بَغْيًا وَعُدُوًّا) ، وهو أيضًا مصدر من قولهم : " عَدَا يَعدُو عُدُوًّا " ، مثل : " علا يعلو عُلُوًّا " . (1)
* * *
(حتى إذا أدركه الغرق) يقول : حتى إذا أحاط به الغرق (2) وفي الكلام متروك ، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه ، وذلك : " فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه " فغرقناه(حتى إذا أدركه الغرق).
* * *
وقوله : (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق ، (3) وأيقن بالهلكة : (آمنت) ، يقول : أقررت ، (أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم ، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة : (أَنَّهُ) بفتح الألف من " أنه " ، على إعمال " آمَنْتُ " فيها ونصبها به.
* * *
وقرأ آخرون : (آمَنْتُ إِنَّهُ) بكسر الألف من " إنه " على ابتداء الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. (4)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12 : 35 ، 36 .
(2) انظر تفسير " الإدراك " فيما سلف 12 : 13 - 21 .
(3) في المطبوعة : " أشرف على الغرق " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت . " أشفى على الموت أو غيره " ، أشرف عليه ، وهو من " الشفى " ، وهو حرف كل شيء وحده .
(4) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1 : 478 .

(15/189)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
17857 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن عبد الله بن شداد قال : اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف ، وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف ، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا : يا موسى أين المخرجُ ؟ فقد أدركنا ، قد كنا نلقى من فرعون البلاء ؟ فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْق كالطود العظيم ، (1) ويبس لهم البحرُ ، وكشف الله عن وجه الأرض ، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها ، (2) وميكائيل يسوقهم ، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل ، دنا منه جبريل ولَصِق به ، فوجد الحصان ريح الأنثى ، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا ، وقال : أقدموا ، فليس القومُ أحقُّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون ، حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرجوا ، ارتطم ونادى فيها : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، ونودي : (آلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنت من المفسدين) ،
17858 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
وعن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يرفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن جبرائيل كان يدسُّ في فم فرعون
__________
(1) تضمين آية سورة الشعراء : 63
(2) " وديق " : مريدة للفحل تشتهيه ، وانظر ما سلف 2 : 52 .

(15/190)


الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. (1)
17859 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا شعبة ، عن عطاء بن السائب ، عن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جعل جبرائيل عليه السلام يدسُّ أو : يحشو في فم فرعون الطين ، مخافة أن تدركه الرحمة.
17860 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن كثير بن زاذان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطُّه وأدسُّ من الحَالِ في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له! يعني فرعون. (2)
__________
(1) الأثران : 17858 ، 17859 - خبر ابن عباس رواه أحمد من هذا الطريق ، طريق شعبة ، عن عدي بن ثابت ، وعطاء بن السائب ، في مسنده رقم : 2144 ، 3154 . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص : 341 رقم : 2618 .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 340 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس " ، وواقفه الذهبي . وانظر الموقوف فيما سيأتي : 17865 ، ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال : " حسن غريب صحيح " .
وانظر ما سيأتي رقم : 17862 .
(2) الأثر : 17860 - " حكام " ، هو " حكام بن سلم الكناني " ، ثقة ، ولكن قال أحمد فيه : " كان حسن الهيئة قدم علينا ، وكان يحدث عن عنبسة أحاديث غرائب " ، مضى مرارًا . " وعنبسة " ، هو " عنبسة بن سعيد الضريس " ، ثقة ، لا بأس به . مضى مرارًا . " وكثير بن زاذان النخعي " ، قال ابن معين : " لا أعرفه " ، وقال أبو حاتم وأبو زرعة ، " هذا شيخ مجهول " ، لا نعلم أحدًا حدث عنه إلا ما روى ابن حميد ، عن هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عنه " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 151 ، ، وميزان الاعتدال 2 : 353 ، وقال : " عن عاصم بن ضمرة ، له حديث منكر " .
و " أبو حازم " ، هو " سلمان الأشجعي " ، ثقة . مضى برقم : 7616 .
فهذا خبر ضعيف جدا ، لضعف كثير بن زاذان . وخرج نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 36 ، عن أبي هريرة وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه : قيس بن الربيع ، وثقه شعبة والثوري ، وضعفه جماعة " .وقوله : " أغطه " ، أي : أغطسه في الماء وأغمسه . و " الحال " ، الطين الأسود والحمأة ، وهو " حال البحر " . وكان في المطبوعة " وحمئة " ، غير ما في المخطوطة ، لأنه لم يعرف معناه ، فظنه خطأ .

(15/191)


17861 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما أغرق الله فرعون قال : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، فقال جبريل : يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه ، مخافة أن تدركه الرحمة . (1)
17862 - حدثني المثنى قال ، حدثني عمرو ، عن حكام قال ، حدثنا شعبة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما قال فرعون " لا إله إلا الله " ، جعل جبريل يحشوا في فيه الطين والتراب. (2)
17863 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، قال : أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها
__________
(1) الأثر : 17861 - " علي بن زيد بن جدعان " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17154 - 17516 ، وثقه أخي السيد أحمد رحمه الله في المسند رقم 783 ، وفيما مضى من تعليقه على بعض أحاديث الطبري . ولكني رأيت الأئمة يضعفونه ، - لا أنهم يكذبونه - ويرونه إلى اللين أدنى ، وأنه كان يقلب الأحاديث وكان يحدث بالحديث اليوم ثم يحدث غدا ، فكأنه ليس بذاك ، وكان يسوء حفظه ، فأخشى أن يكون أخي جازف في توثيقه ، ولكني أرجح أنه يعتبر بحديثه ، ويكتب حديثه ، ولكن لا يحتج به ، وإنما روى له مسلم مقرونًا بغيره . فهذا غاية علي بن زيد فيما أرى ، والله أعلم . " ويوسف بن مهران " ، مضى مرارًا رقم : 13494 . وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم : 2203 من طريق يونس ، عن حماد بن سلمة ، ورقم : 2821 من طريق سليمان بن حرب ، عن حماد . وصححه أخي رحمه الله في الموضعين . وخرجه الترمذي في كتاب التفسير من سننه ، من هذه الطريق نفسها ، وقال : " هذا حديث حسن " وكان في المطبوعة : " آخذ من حمأة البحر " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وقوله : " وأدسيه في فيه " ( بتشديد السين ) من قولهم " دساه " إذا غيبه أو أخفاه . وأصله " دسسه " مضعفا ، ثم توالت السينات ، فقلبت أخراهن ياء . وكذلك جاء في المسند رقم : 2821 ، وهو في المطبوعة " أدسه " ، وفي المخطوطة كما أثبتها ، إلا أنها غير منقوطة .
(2) الأثر : 17862 - سلف تخريجه في رقم : 17858 ، 17859 .

(15/192)


فاه أو قال : ملأ بها فاه مخافة أن تدركه رحمه الله.
17864 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسين بن علي ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : خطب الضحاك بن قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله ، فلما أدركه الغرق قال : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، قال الله : (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).
17865 - . . . . قال ، حدثني أبي ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. (1)
17866 - . . . . قال ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن عيسى بن المغيرة ، عن إبراهيم التيمي : أن جبريل عليه السلام قال : ما حسدتُ أحدًا من بني آدم الرحمة إلا فرعون ، (2)
فإنه حين قال ما قال ، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه ، فأخذت من حَمْأة البحر وزَبَده ، فضربت به عينيه ووجهه.
17867 - . . . . قال ، أخبرنا أبو خالد الأحمر ، عن عمر بن يعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال جبريل عليه السلام : لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة.
* * *
__________
(1) الأثر : 17865 - هذا الخبر الموقوف على ابن عباس ، كما سلف في تخريج رقم : 17858 ، 17859 . وكان في المطبوعة : " يحثو " بالثاء ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ما خشيت على أحد " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب المحض ، وأساء في التغيير .

(15/193)


آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

القول في تأويل قوله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته ، بتماديه في طغيانه ، ومعصيته ربه ، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونزول عقابه ، مستجيرًا به من عذابه الواقع به ، لما ناداه وقد علته أمواج البحر ، وغشيته كرَبُ الموت : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) له ، المنقادين بالذلة له ، المعترفين بالعبودية الآن تقرُّ لله بالعبودية ، وتستسلم له بالذلة ، وتخلص له الألوهة ، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك ، فأسخطته على نفسك ، وكنت من المفسدين في الأرض ، الصادِّين عن سبيله ؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ ، وباب التوبة لك منفتح ، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لفرعون : اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك ، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك (لتكون لمن خلقك آية) ، يقول : لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك ، ، فينزجرون عن معصية الله ، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد.

(15/194)


و " النجوة " ، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض ، ومنه قوله أوس بن حجر :
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنْجْوَتِهِ... وَالمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر قال ذلك :
17868 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد وغيره قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : إنه لم يمت فرعون! قال : فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر.
17869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد قال وكان من أكثر الناس أو : أحدث الناس عن بنى إسرائيل ؛ قال : فحدّثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر ، هابت الخيلُ اللِّهْبَ . (2)
قال : ومثل لحصان منها فرس وَديق ، (3) فوجد ريحها أحسبه أنا قال : فانسلَّ فاتَّبعته . قال : فلما تتامّ آخر جنود فرعون في البحر ، وخرج آخرُ بني إسرائيل ، أُمر البحر فانطَبق عليهم ، فقالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون ، وما كان ليموت أبدًا! فسمع الله تكذيبهم نبيَّه ، قال :
__________
(1) ديوانه ، قصيدة : 4 ، بيت : 15 ، يصف السحاب والمطر بالشدة ، يغشي كل مكان وكل أحد . " عقوة الدار " ، ساحتها وما حولها . و " المستكن " ، الذي اختبأ في كن . و " القرواح " ، البارز الذي ليس يستره من السماء والشمس شيء .
(2) في المخطوطة : " اللهث " ، والذي في المطبوعة هو الصواب إلا أن ضبطه بكسر اللام وسكون الهاء . و " اللهب " المهواة بين الجبلين ، وهو الصدع الذي صدع في البحر ، وانظر قوله تعالى : {فكان كل فرق كالطود العظيم }.
(3) " فرس وديق " ، مريدة للفحل تشتهيه ، انظر ما سلف ص : 190 ، تعليق : 2 .

(15/195)


فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ ، يتراءآه بنو إسرائيل.
17870 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن عبد الله بن شداد : (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال : " بدنه " ، جسده ، رمى به البحرُ.
17871 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن مجاهد ، : (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال : بجسدك.
17872 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17873 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
17874 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب قال ، حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه ، التقى البحرُ عليهم يعني على فرعون وقومه فأغرقهم ، فقال أصحاب موسى : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ، ولا نؤمن بهلاكه! فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر ، حتى استيقنوا بهلاكه.
17875 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول : أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل ، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه.
17876 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (لتكون لمن خلفك آية) ، قال : لما أغرق الله فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك ، فأخرجه الله آيةً وعظةً.
17877 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا

(15/196)


ابن التيمي ، عن أبيه ، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد ، أو غيره ، بنحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن معمر.
17878 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال : بجسدك.
17879 - قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال ، بلغني عن مجاهد : (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال : بجسدك. (1)
17880 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون ، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل ، قال أحمر : كأنه ثور . (2)
* * *
وقال آخرون : تنجو بجسدك من البحر ، فنخرجه منه. (3)
*ذكر من قال ذلك :
17881 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول : أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر ، فنظروا إليه بعد ما غرق.
* * *
فإن قال قائل : وما وجه قوله : (ببدنك) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه ، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه(ببدنك) ؟
قيل : كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما كان جائزًا
__________
(1) الأثر : 17879 - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني " ، مضى مرارًا ، وروايته عن ابن جريج ، وفي المطبوعة : " محمد بن بكير " ، وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " قال : كأنه ثور أحمر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .
(3) في المطبوعة : " فتخرج منه " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(15/197)


وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

ذلك قيل : /(فاليوم ننجيك ببدنك) ، ليعلم أنه ينجيه بالبدن بغير روح ، ولكن ميّتًا.
* * *
وقوله : (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون)
، يقول تعالى ذكره : (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا) ، يعني : عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ (1) (لغافلون) ، يقول : لساهون ، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازلَ صِدْق. (3)
* * *
قيل : عني بذلك الشأم وبيت المقدس.
وقيل : عُنِي به الشأم ومصر.
*ذكر من قال ذلك :
17882 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : (مبوّأ صدق) ، قال : منازل صدق ، مصر والشأم.
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص : 80 ، ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف ص : 171 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/198)


17883 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (مبوَّأ صدق) ، قال : بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس.
17884 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) ، الشام. وقرأ : ( إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) [سورة الأنبياء : 71]
* * *
وقوله : (ورزقناهم من الطيبات) ، يقول : ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو(الطيب). (1)
* * *
وقوله : (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، يقول جل ثناؤه : فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل ، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به وبمبعثه ، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم ، والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله : فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله فوضع(العلم ) مكان(المعلوم).
* * *
وكان بعضهم يتأول(العلم ) ههنا ، كتابَ الله ووحيَه.
*ذكر من قال ذلك :
17885 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، (2) قال : (العلم) ، كتاب الله الذي
__________
(1) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة ( طيب ) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " . . . حتى جاءهم العلم بغيا بينهم " ، وليس هذا من تلاوة هذه الآية ، ولا هو في تفسيرها ، فحذفته . وأشباهها من الآيات التي ورد فيها ذكر العلم والبغي فيه في سورة آل عمران : 19 / سورة الشورى : 14 / سورة الجاثية : 17 ، وآثرت حذف هذه الزيادة من هذا الموضع ، لأني لم أجد أبا جعفر ذكر هذا الخبر في تفسير شيء من هذه الآيات ، والظاهر أن المعنى أخذ بعضه ببعض ، فزاد ابن زيد في التفسير من نظائر الآية في السور الأخرى .

(15/199)


فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)

أنزله ، وأمره الذي أمرهم به ، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم ؟ أهل هذه الأهواء ، هل اقتتلوا إلا على البغي قال : و " البغي " وجهان : وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها ، وبغى في " العلم " ، يرى هذا جاهلا مخطئًا ، ويرى نفسه مصيبًا عالمًا ، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا المخطئ.
* * *
وقوله : (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربَّك ، يا محمد ، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة ، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون ، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار ، والمؤمنين بك منهم الجنة ، فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنزلنا إليك ، (2) من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه ، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا ، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل
__________
(1) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( قضى ) .
(2) في المطبوعة : " ما أخبرناك وأنزل إليك " ، وأثبت الصواب من المخطوطة .

(15/200)


(فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، من أهل التوراة والإنجيل ، كعبد الله بن سلام ونحوه ، من أهل الصدق والإيمان بك منهم ، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17886 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس في قوله : (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال : التوراة والإنجيل ، الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به ، يقول : فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.
17887 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال : هو عبد الله بن سلام ، كان من أهل الكتاب ، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
17888 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) قال : هم أهل الكتاب.
17889 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول : (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب ، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل : أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله

(15/201)


أنه حقٌّ يقين ، حتى قيل له : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ؟
قيل : لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم.
17890 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) ، فقال : لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17891 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال : ما شك وما سأل.
17892 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن الحسن في هذه الآية ، قال : لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17893 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا أشك ولا أسأل.
17894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا أشك ولا أسأل.
* * *
فإن قال : فما وجه مخرج هذا الكلام ، إذنْ ، إن كان الأمر على ما وصفت ؟ قيل : قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا ، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه : " إن كنت مملوكي فانته إلى أمري " والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه : " إن كنت

(15/202)


ابني فبرَّني " ، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه ، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم ، وذكرنا ذلك بشواهده ، وأنّ منه قول الله : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، [سورة المائدة : 116] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. (1) وهذا من ذلك ، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته ، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا ، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا ، إذْ كان القرآن بلسانهم نزل.
* * *
وأما قوله : (لقد جاءك الحق من ربك) الآية ، فهو خبرٌ من الله مبتدأ.
يقول تعالى ذكره : أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك ، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم (فلا تكونن من الممترين) ، يقول : فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. (2)
* * *
ولو قال قائل : إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت ، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه ، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه ، كما قال جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ، [سورة الأحزاب : 1] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11 : 236 ، 237 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 479 .
(2) انظر تفسير " الامتراء " فيما سلف 12 : 61 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/203)


وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) }
قال أبو جعفر : ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا تكونن يا محمدُ ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته ، فتكون ممن غُبن حظه ، وباع رحمةَ الله ورضاه ، بسَخَطه وعقابه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين وجبت عليهم يا محمد " كلمة ربك " ، هي لعنته إياهم بقوله : ( أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، [سورة هود : 18] ، فثبتت عليهم.
* * *
يقال منه : " حق على فلان كذا يحقُّ عليه " ، إذا ثبت ذلك عليه ووجب. (2)
* * *
وقوله : (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ) ، يقول : لا يصدقون بحجج الله ، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم ، ولا بأنك لله رسول (ولو جاءتهم كل آية) ، وموعظة وعبرة ، فعاينوها ، حتى يعاينوا العذاب الأليم ، كما لم يؤمن فرعون وملؤه ،
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
وتفسير " الخسران فيما سلف من فهارس اللغة ( خسر ) .
(2) انظر تفسير " حق " فيما سلف ص : 85

(15/204)


إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا العذاب الأليم ، فحينئذ قال : ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) ، [سورة يونس : 90] ، حين لم ينفعه قيلُه ، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك من عبدة الأوثان وغيرهم ، لا يؤمنون بك فيتبعونك ، إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17895 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ، قال : حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
17896 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ، حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
* * *

(15/205)


فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فهلا كانت قرية آمنت ؟ (1) وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ.
ومعنى الكلام : فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ، ونزول سَخَط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه ، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت ، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه ، واستحقاقه سَخَط الله
__________
(1) انظر " لولا " بمعنى " هلا " 2 : 552 ، 553 / 11 : 266 ، 343 ، 356 .

(15/205)


بمعصيته إلا قوم يونس ، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم.
فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم ، وأخرجهم منهم ، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
* * *
فان قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، بمعنى : فما كانت قرية آمنَت ، بمعنى الجحود ، فكيف نصب " قوم " وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا ، وأن الصحيح من كلام العرب : " ما قام أحدٌ إلا أخوك " ، و " ما خرج أحدٌ إلا أبوك " ؟
قيل : إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله ، وذلك أن " الأخ " من جنس " أحد " ، وكذلك " الأب " ، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله ، كان الفصيح من كلامهم النصبُ ، وذلك لو قلت : " ما بقي في الدار أحدٌ إلا الوتدَ " ، و " ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا " ، لأن " الكلب " ، و " الوتد " ، و " الحمار " ، من غير جنس " أحد " ، ومنه قول النابغة الذبياني :
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
ثم قال :
إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيَّنُها... وَالنُّؤْي كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (1)
فنصب " الأواري " إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب(قوم يونس) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم ، ومن غير جنسهم
__________
(1) سلف الشعر وشرحه 9 : 203 ، تعليق : 3 ، 4 ، والمراجع هناك .

(15/206)


وشكلهم ، وإن كانوا من بني آدم. وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع ، (1) ولو كان(قوم يونس ) بعض " الأمة " الذين استثنوا منهم ، كان الكلام رفعًا ، ولكنهم كما وصفت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17897 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، يقول : لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله ، إلا قرية يونس.
قال ابن جريج : قال مجاهد : فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس.
17898 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) ، يقول : لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ ، فتُرِكت ، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، [وفرقوا] بين كل بهيمة وولدها ، (2) ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال : وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 479 ، 480 ، وفيه زيادة بيان .
(2) في المطبوعة : " وألهوا بين كل بهيمة . . . " ، ولا معنى له ، وفي المخطوطة : " وألفوا " غير منقوطة ، وقد أعياني أن أجد لقراءتها وجهًا ارتضيه ، فوضعت ( وفرقوا ) بين قوسين ، لأن هذه الكلمة بهذا المعنى ولا شك ، كما يتبين من الآثار التالية ، ومن رواية هذا الأثر عن قتادة في الدر المنثور 3 : 317 وفيه مكان هذه الكلمة المبهمة : " وفرقوا " كالتي أثبت بين القوسين .

(15/207)


17899 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إلا قوم يونس) ، قال : بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، يدعون الله أربعين ليلة ، حتى تاب عليهم.
17900 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن إسماعيل بن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير قال : غشَّى قوم يونس العذابُ ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. (1)
17901 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس : إن العذاب كان هبط على قوم يونس ، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دَعَوْا كشف الله عنهم.
17902 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وإسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا) ، قال : كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه ، قال : لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها ، إلا قوم يونس متعناهم.
17903 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال ، حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره ، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، (2) فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه ، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ، وفارقهم . (3) فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب ، [لكنهم] خرجوا من مساكنهم ، (4)
وصعدوا في مكان رفيع ، وأنهم
__________
(1) معنى هذا : كما يغشي القبر بالثوب ، إذا أدخل فيه صاحبه ، كما جاء في رواية هذا الأثر في الدر المنثور 3 : 318 ، باللفظ الذي ذكرته . وانظر ما سيأتي رقم : 17905 .
(2) قوله : " قرأ القرآن في صدره " ، أي جمعه ، فحفظه جميعًا .
(3) في المطبوعة : " ففارقهم " بالفاء ، والصواب من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " لكنهم " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة : " لكنهم " غير منقوطة ، ولست أدري ما صوابها ، والمشكل أنه جاء مثلها فيما يلي ، واستعصت علي قراءتها في الموضعين - فوضعتها بين القوسين في الموضوعين .

(15/208)


جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين : أن يكشف عنهم العذاب ، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال : ففي ذلك أنزل : (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها ، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس ، [لكنه ] ذهب عاتبًا على ربه ، (1) وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ عليه ، حتى ركب في سفينة ، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح فذكر قصة يونس وخبره.
17904 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : " لما رأوا العذاب ينزل ، فرَّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام ، ثم قاموا جميعًا فدعوا الله ، وأخلصوا إيمانهم ، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب : أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء ظنُّه. (2)
17905 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير قال : لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه. قال : فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم ، فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبًا ، فانظروا ، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا ، (3) ثم خرج ، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب ،
__________
(1) انظر التعليق السالف .
(2) انظر تفسير " ساء ظنه " فيما سلف 3 : 585 ، تعليق : 1 / 13 : 95 ، تعليق : 4 .
(3) في المطبوعة : " أخذ مخلاته فتزود فيها شيئًا " ، خالف رسم المخطوطة ، وفيها رسم ما أثبته غير منقوط . و " العلاثة " ( بضم العين ) : الأقط المخلوط بالسمن .

(15/209)


كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر ، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها ، ثم عجُّوا إلى الله فقالوا : آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله عنهم العذاب ، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، قال : جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر.
17906 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال ، حدثنا ابن مسعود في بيت المال ، قال : إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرَّقوا بين كل والدة وولدها ، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه . فكف الله عنهم العذاب ، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل ، فانطلق مغاضبًا.
17907 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا صالح المرى ، عن أبي عمران الجوني ، عن أبي الجلد جيلان قال : لما غشّى قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال : قولوا : " يا حيُّ حين لا حيَّ ، ويا حي محييَ الموتى ، ويا حيُّ لا إله إلا أنت " ! فكشف عنهم العذاب ، ومُتِّعوا إلى حين. (1)
17908 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : بلغني في حرف ابن مسعود : " فلولا " ، يقول(فَهَلا).
* * *
وقوله : (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ، يقول : لما صدّقوا رسولهم ، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله
__________
(1) الأثر : 17907 - " أبو الجلد " ، هو " جيلان بن أبي فروة الأسدي " ، مضى برقم 434 ، 723 ، 1913 .

(15/210)


وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)

ونزل بهم البلاء ، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا (1) (ومتعناهم إلى حين) ، يقول : وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة ، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ، ووقت فناء أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكر لنبيه : (ولو شاء) ، يا محمد (ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، بك ، فصدَّقوك أنك لي رسول ، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له ، حقٌّ ، ولكن لا يشاء ذلك ، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور ، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن ، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17909 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 14 : 330 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة ( متع ) .

(15/211)


معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، [سورة يونس : 100] ، ونحو هذا في القرآن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل (1) ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول.
* * *
فإن قال قائل : فما وجه قوله : (لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، فـ " الكل " يدل على " الجميع " ، و " الجميع " على " الكل " ، فما وجه تكرار ذلك ، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى ؟
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك :
فقال بعض نحويي أهل البصرة : جاء بقوله " جميعًا " في هذا الموضع توكيدًا ، كما قال : (لا تتخذوا إلهين اثنين) ، [سورة النحل : 51] ، ففي قوله : " إلهين " دليل على " الاثنين " .
وقال غيره : جاء بقوله " جميعًا " بعد " كلهم " ، لأن " جميعًا " لا تقع إلا توكيدًا ، و " كلهم " يقع توكيدًا واسمًا ، فلذلك جاء ب " جميعًا " بعد " كلهم " . قال : ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد ، لجاز ههنا. قال : وكذلك : ( إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) ، العدد كله يفسر به ، فيقال : " رأيت قومًا أربعة " ، فلما جاء " باثنين " ، وقد اكتفى بالعدد منه ، لأنهم يقولون : " عندي درهم ودرهمان " ، فيكفي من قولهم : " عندي درهم واحد ، ودرهمان اثنان " ، فإذا قالوا : " دراهم " قالوا : " ثلاثة " ، لأن الجمع يلتبس ، و " الواحد " و " الاثنان " لا يلتبسان ،
__________
(1) في المطبوعة : " لا يؤمن من قومه " ، زاد ما ليس في المخطوطة ، فحذفته .

(15/212)


وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ما] في الجميع ، (1) لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ ، لأن " درهمًا " يدل على الجنس الذي هو منه ، و " واحد " يدل على كل الأجناس. وكذلك " اثنان " يدلان على كل الأجناس ، و " درهمان " ، يدلان على أنفسهما ، فلذلك جاء بالأعداد ، لأنه الأصل.
* * *
وقوله : (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : إنه لن يصدقك يا محمد ، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك ، لا بإكراهك إياه ، ولا بحرصك على ذلك (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لك ، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك ؟ يقول له جل ثناؤه : فاصدَعْ بما تؤْمر ، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه : وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى تصديقك ، يا محمد ، إلا بأن آذن لها في ذلك ، (2) فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها ، وبلِّغها وعيدَ الله ، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها ، ثم خلِّها ، فإن هداها بيد خالقها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " لم يثن الواحدة والتثنية على تنافي الجمع " ، وهو لا معنى له . وفي المخطوطة : " ثم بنى الواحد والتثنية على تنافي الجمع " ، هكذا غير منقوطة ، واستظهرت قراءتها كما أثبتها ، بزيادة " ما " بين " بناء " ، و " في الجميع " . ومع ذلك فبقى في بيان معنى هذا الكلام ، شيء في نفسي ، أخشى أن يكون سقط منه شيء ، فإنه غير واضح عندي .
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف ص : 18 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/213)


قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)

وكان الثوري يقول في تأويل قوله : (إلا بإذن الله ) ، ما : -
17910 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان في قوله : (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، قال : بقضاء الله.
* * *
وأما قوله : (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) ، فإنه يقول تعالى ذكره : إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد ، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك ، ويقرّ بما جئت به من عند ربك (ويجعل الرجس) ، وهو العذابُ ، وغضب الله (1) (على الذين لا يعقلون) ، يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله ، وخَلْع الأنداد والأوثان.
17911 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ويجعل الرجس ) ، قال : السَّخَط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك ، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان : انظروا ، أيها القوم ، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله ، من شمسها وقمرها ، واختلافِ ليلها ونهارِها ، ونزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها وفي الأرض من جبالها ، وتصدُّعها بنباتها ، وأقوات أهلها ، وسائر صنوف عجائبها ، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم موعظة ومعتبرًا ،
__________
(1) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 14 : 579 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/214)


فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)

ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يُغْنيكم عما سواه من الآيات.
يقول الله جل ثناؤه : (وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، يقول جل ثناؤه : وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه ، (1) عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء ، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار ، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به.(ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ؟ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم ، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم سبيلَهم : فهل ينتظر ، يا محمد ، هؤلاء المشركون من قومك المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله ، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب ، الذين مضوا قبلهم فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود ؟ قل لهم ، يا محمد ، إن كانوا ذلك ينتظرون : فانتظروا عقابَ الله إياكم ، ونزول سخطه بكم ، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي تحلُّ بكم من الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ص : 89 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " النذير " فيما سلف 10 : 85 .

(15/215)


ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

*ذكر من قال ذلك :
17912 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله : (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) ، يقول : وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعادٍ وثمود.
17913 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) ، قال : خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته ، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه ، فقال الله : (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقًّا علينا ننجي المؤمنين ).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك : انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله ، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم ، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك ، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه ، كما فعلنا قبل ذلك برُسلنا الذين أهلكنا أممهم ، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حقّ على أممهم (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) ، يقول : كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها ، كذلك نفعل بك ، يا محمد ، وبالمؤمنين ، فننجيك وننجي المؤمنين بك ، حقًّا علينا غير شك.
* * *

(15/216)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك : إن كنتم في شك ، أيها الناس ، من ديني الذي أدعوكم إليه ، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله : فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا ، فتشكُّوا في صحته.
وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. (1)
وإنما معنى الكلام : إن كنتم في شك من ديني ، فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه ، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع. فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه ، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء ، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء . (2) وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة. وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح.
* * *
وقوله : (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ، يقول : ولكن أعبد الله الذي يقبض
__________
(1) " اللحن " ، التعريض والإماء دون التصريح ، وذلك بأن تعدل الكلام عن جهته ، فيكون أجود له وأشد إثارة لفطنة سامعه .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وينفعهم ويضر من يشاء " ، وكأنه سهو من الناسخ ، فإن السياق يقتضي ما أثبت .

(15/217)


وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)

أرواحكم فيميتكم عند آجالكم (1) (وأمرت أن أكون من المؤمنين) ، يقول : وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " وأمرت أن أكون من المؤمنين " ، و " أن أقم " و " أن " الثانية عطفٌ على " أن " الأولى.
ويعني بقوله : (أقم وجهك للدين ) ، أقم نفسك على دين الإسلام ، (2) (حنيفًا) مستقيمًا عليه ، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ ، ولا عبادة وثن (3) (ولا تكونن من المشركين) ، يقول : ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ ، فتكون من الهالكين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولا تدع ، يا محمد ، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا ، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول : لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها ، فإنها
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ص : 98 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الوجه " فيما سلف 2 : 510 - 512 ، 526 - 546 / 10 : 23 ، وما بعدها .
(3) انظر تفسير " الحنيف " فيما سلف 12 : 283 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/218)


لا تنفع ولا تضر " فإن فعلت " ، ذلك ، فدعوتها من دون الله (فإنك إذًا من الظالمين ) ، يقول : من المشركين بالله ، الظالمي أنفُسِهم . (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " الظالم لنفسه " ، والسياق لا يليق به هذا ، وظني أنه سهو من الناسخ ، فلذلك أبدلت به ما أثبت .

(15/219)


وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن يصبك الله ، يا محمد ، بشدة أو بلاء ، (1) فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي أصابك به ، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد (2) (وإن يردك بخير ) ، يقول : وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور (3) (فلا رادّ لفضله ) ، يقول : فلا يقدر أحدٌ إن يحول بينك وبين ذلك ، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه; لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء ، دون الآلهة والأوثان ، ودون ما سواه (يصيب به من يشاء ) ، يقول : يصيب ربك ، يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء ، من يشاء ويريد (4) ( من عباده وهو الغفور ) ، لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته (الرحيم ) بمن آمن به منهم وأطاعه ، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضرر ) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11 : 354 / 13 : 73 / 15 : 36 ، 205 .
(3) انظر تفسير " الخير " فيما سلف من فهارس اللغة ( خير ) .
(4) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف من فهارس اللغة ( صوب ) .
(5) انظر تفسير " الغفور " و " الرحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) ، ( رحم ) .

(15/219)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قل ) ، يا محمد ، للناس : (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، يعني : كتاب الله ، فيه بيان كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم ( فمن اهتدى) ، يقول : فمن استقام فسلك سبيل الحق ، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان (فإنما يهتدي لنفسه) ، يقول : فإنما يستقيم على الهدى ، ويسلك قصد السبيل لنفسه ، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا غيرها (1) ( ومن ضل) ، يقول : ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله ، وخالف دينَه ، وما بعث به محمدًا والكتابَ الذي أنزله عليه ( فإنما يضل عليها) ، يقول : فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها ، لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها ، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى (2) (وما أنا عليكم بوكيل) ، يقول : وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم ، إنما أمركم إلى الله ، وهو الذي يقوّم من شاء منكم ، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم ما أرسلتُ به إليكم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلل ) .
(3) انظر تفسير " وكيل " فيما سلف 12 : 33 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/220)


وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واتبع ، يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك ، وتنزيله الذي ينزله عليك ، فاعمل به ، واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره ، وعلى ما نالك منهم ، حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعلٍ فاصلٍ ( وهو خير الحاكمين) ، يقول : وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين . (1) فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ ، ، وقتلهم بالسيف ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم ، أو يتوبوا ويُنيبوا إلى طاعته ، كما : -
17914 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وما أنت عليهم بوكيل واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) ، قال : هذا منسوخ (حتى يحكم الله) ، حكم الله بجهادهم ، وأمره بالغلظة عليهم . (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف 12 : 561 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم ، وفي مخطوطتنا بعد هذا ما نصه :
" آخر تفسير سورة يونس عليه السلام والحمد لله وحده ، وصلى الله على محمد وآله .
يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها هود " .
يتلوه :
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسِّرْ "

(15/221)


آخر تفسير سورة يونس

(15/222)


الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)

تفسير سورة هود تفسير السورة التي يذكر فيها هود بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) }
قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : (الر) ، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
وقوله : (كتاب أحكمت آياته) ، يعني : هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن.
* * *
ورفع قوله : " كتاب " بنيّة : " هذا كتاب " .
فأما على قول من زعم أن قوله : (الر) ، مرادٌ به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن ، وجعلت هذه الحروف دلالةً على جميعها ، وأن معنى الكلام : " هذه الحروف كتاب أحكمت آياته " فإن الكتاب على قوله ، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله : (الر).
* * *
وأما قوله : (أحكمت آياته ثم فصلت) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : تأويله : أحكمت آياته بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب.
*ذكر من قال ذلك :
17915 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرني
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 205 - 224 / 6 : 149 - 12 : 293 ، 294 / 15 : 7 .

(15/224)


أبو محمد الثقفي ، عن الحسن في قوله : (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) ، قال : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب. (1)
17916 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن : (الر كتاب أحكمت آياته) ، قال : أحكمت في الأمر والنهى ، وفصلت بالوعيد. (2)
17917 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن رجل ، عن الحسن : (الر كتاب أحكمت آياته) ، قال : بالأمر والنهي (ثم فصلت) ، قال : بالثواب والعقاب.
* * *
وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما : -
17918 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال وحدثنا عباد بن العوام ، عن رجل ، عن الحسن قال : (أحكمت) ، بالثواب والعقاب (ثم فصلت) ، بالأمر والنهي.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : (أحبكمت آياته ) من الباطل ، ثم فصلت ، فبين منها الحلال والحرام.
*ذكر من قال ذلك :
17919 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ، أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها بعلمه ، فبيّن حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته.
* * *
__________
(1) الأثر : 17915 - " أبو محمد الثقفي " ، الراوي عن الحسن ، لم أعلم من يكون .
(2) الأثر : 17916 - " عبد الكريم بن محمد الجرجاني " ، قاضي جرجان ، روى عن قيس بن الربيع ، وأبي حنيفة ، وزهير بن معاوية ، وابن جريج ، وغيرهم . روى عنه أبو يوسف القاضي ، وابن عيينة ، وهما أكبر منه ، والشافعي ، وغيرهم . مات سنة نيف وسبعين ومائة ، فلا أدري أيدرك محمد بن حميد أن يروي عنه أم لا ؟ مترجم في التهذيب .

(15/226)


17920 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أحكمت آياته ثم فصلت) ، قال : أحكمها الله من الباطل ، ثم فَصَّلها ، بيَّنها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : معناه : أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل ، ثم فصَّلها بالأمر والنهي.
وذلك أن " إحكام الشيء " إصلاحه وإتقانه و " إحكام آيات القرآن " ، إحكامها من خلل يكون فيها ، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. (1)
وأما " تفصيل آياته " فإنه تمييز بعضها من بعض ، بالبيان عما فيها من حلال وحرام ، وأمرٍ ونهي. (2)
* * *
وكان بعض المفسرين يفسر قوله : (فصلت) ، بمعنى : فُسِّرت ، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول.
*ذكر من قال ذلك :
17921 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (ثم فصلت) ، قال : فُسِّرت .
17922 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فصلت) ، قال : فُسّرت.
17923 - . . . . قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال ، بلغني عن مجاهد : (ثم فصلت) ، قال : فسّرت .
17924 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الإحكام " فيما سلف 6 : 170 ، 174 - 182 .
(2) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص : 91 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/227)


أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)

17925 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عنة ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17926 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال قتادة : معناه : بُيِّنَتْ ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبلُ ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد.
* * *
وأما قوله : (من لدن حكيم خبير) ، فإن معناه : (حكيم ) بتدبير الأشياء وتقديرها ، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. (1)
17927 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : (من لدن حكيم خبير) ، يقول : من عند حكيم خبير. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له ، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، للناس(إنني لكم ) ، من عند الله (نذير) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام (وبشير) ، يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " و " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) ، ( خبر ) .
(2) انظر تفسير " من لدن " فيما سلف 6 : 362 .
(3) انظر تفسير " النذير " فيما سلف ص : 215 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " البشير " فيما سلف من فهارس اللغة ( بشر ) .

(15/228)


وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم فصلت آياته ، بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله : (وأن استغفروا ربكم) ، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم ، فيستر عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام ، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته. (1)
وقوله : (ثم توبوا إليه) ، يقول : ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. (2)
ولذلك قيل : (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، ولم يقل : " وتوبوا إليه " ، لأن " التوبة " معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله ، والاستغفار : استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين ، والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به ، فأما الشرك فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان ، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك ، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من أفعالهم ، وهم على شركهم مقيمون.
وقوله : (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، فإنكم إذا فعلتم ذلك
__________
(1) انظر تفسير " الاستغفار " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) .
(2) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) .

(15/229)


بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها ، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17928 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، فأنتم في ذلك المتاع ، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه ، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين ، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله ، وذلك قضاؤه الذي قضى.
* * *
وقوله : (إلى أجل مسمى) ، يعني الموت.
17929 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلى أجل مسمى) ، قال : الموت.
17930 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إلى أجل مسمى) ، وهو الموت .
17931 - حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : (إلى أجل مسمى) ، قال : الموت.
* * *
وأما قوله : (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، فإنه يعني : يثيب كل من تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك ، مريدًا به وجه الله أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة ، كما : -
17932 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة ( متع ) .
وتفسير " الأجل المسمى " فيما سلف من فهارس اللغة ( أجل ) .

(15/230)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال : ما احتسب به من ماله ، أو عمل بيده أو رجله ، أو كَلِمة ، أو ما تطوَّع به من أمره كله.
17933 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال
17934 - . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال : أو عملٍ بيديه أو رجليه وكلامه ، وما تطوَّل به من أمره كله.
17935 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال : وما نطق به من أمره كله.
17936 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، أي : في الآخرة.
* * *
وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما : -
17937 - حدثت به عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن مسعود ، في قوله : (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة ، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول : هلك من غلب آحادُه أعشارَه !!
* * *
وقوله : (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، يقول تعالى ذكره : وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه ، (1) من إخلاص العبادة لله ، وترك عبادة
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولى ) .

(15/231)


إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

الآلهة ، وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه ، فأدبروا مُوَلِّين عن ذلك ، (فإني) ، أيها القوم ، (أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، شأنُه عظيمٍ هَوْلُه ، وذلك يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
* * *
وقال جل ثناؤه : (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام قولا خاطبت ، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب ، وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (إلى الله) ، أيها القوم ، مآبكم ومصيركم ، (2)
فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام ، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه (وهو على كل شيء قدير) ، يقول : وهو على إحيائكم بعد مماتكم ، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 13 : 314 ، تعليق ، 3 : والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص : 146 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة ( قدر ) .

(15/232)


أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) }
قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة قوله : ( ألا أنهم يثنون صدورهم ) ، فقرأته عامة الأمصار : ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على تقدير " يفعلون " من " ثنيت " ، و " الصدور " منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : ذلك كان من فعل بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه وثَنَى ظهره.
*ذكر من قال ذلك :
17938 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عبد الله بن شداد في قوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال : كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه ، وثنى ظهره. (1)
17939 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال : من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : كان المنافقون
__________
(1) قوله : " قال بثوبه على وجهه " ، أي : أخذ ثوبه وحاول أن يغطي به وجهه حتى لا يراه صلى الله عليه وسلم . و " قال " حرف من اللغة ، يستخدم في معان كثيرة ، ويراد به تصوير الحركة .
انظر ما سلف 2 : 546 ، 547 / الأثر : 5796 ج 5 ص 400 ، تعليق : 1 / الأثر 12523 ج 10 ص 572 ، تعليق : 1 / الأثر 17429 ، ج 14 ص : 541 ، تعليق : 2 .

(15/233)


إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره ، ويطأطئ رأسه. فقال الله : (ألا إنهم يثنون صدورهم) ، الآية.
17940 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين قال : سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله : (يثنون صدورهم) ، قال : كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثَنَى صدره ، وتغشَّى بثوبه ، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
17941 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يثنون صدورهم) قال : شكًا وامتراءً في الحق ، ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
17942 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يثنون صدورهم) ، شكًّا وامتراءً في الحق.(ليستخفوا منه) ، قال : من الله إن استطاعوا.
17943 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : (يثنون صدورهم) ، قال : تضيق شكًّا .
17944 - حدثنا المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يثنون صدورهم) ، قال : تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال : (ليستخفوا منه) ، قال : من الله إن استطاعوا
17945 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.

(15/234)


17946 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال : من جهالتهم به ، قال الله : (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، في ظلمة الليل ، في أجواف بيوتهم(يعلم) ، تلك الساعة(ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ).
17947 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال : كان أحدهم يحنى ظهره ، ويستغشي بثوبه.
* * *
وقال آخرون : إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله . (1)
*ذكر من قال ذلك :
17948 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إلا إنهم يثنون صدورهم) الآية ، قال : [كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ، قال تعالى : (ألا حين ] يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم ، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه ، وأضمر همَّه في نفسه ، فإن الله لا يخفى ذلك عليه. (2)
17949 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يستغشون ثيابهم) ، قال : أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه ، فذلك أخفى ما يكون ، والله يطلع على ما في نفوسهم ، والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
* * *
وقال آخرون : إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين
__________
(1) في المطبوعة : " كلام الله تعالى " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة .

(15/235)


الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ، ويبدون له المحبة والمودة ، أنهم معه وعلى دينه. (1) يقول جل ثناؤه : ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله ، ثم أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم.
* * *
وقال آخرون : كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا.
*ذكر من قال ذلك :
17950 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال : هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ : (ألا حين يستغشون ثيابهم) الآية.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ ) ، على مثال : " تَحْلَولِي الثمرة " ، " تَفْعَوْعِل " .
17951 - حدثنا . . . قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة قال : سمعت ابن عباس يقرأ(أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال : كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم ، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. (2)
17952 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول ، سمعت ابن عباس يقرؤها : (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال : سألته عنها فقال : كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء ، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء.
* * *
وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -
__________
(1) في المطبوعة : " وأنهم " بالواو ، وما في المخطوطة صواب جيد .
(2) الأثر : 17951 - في المطبوعة : " حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة " ، وهذا ليس في المخطوطة ، بل الذي فيها ما أثبته : " حدثنا قال .... حدثنا أبو أسامة " ، بياض بين الكلامين وفوقه كتب " كذا " ، يعني ، هكذا البياض بالأصل .

(15/236)


17953 - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، أخبرت ، عن عكرمة : أن ابن عباس قرأ(أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، وقال ابن عباس : " تثنوني صدورهم " ، الشكُّ في الله ، وعمل السيئات (يستغشون ثيابهم) ، يستكبر ، أو يستكنّ من الله ، والله يراه ، يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
17954 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأ : (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ ) ، قال عكرمة : " تثنوني صدورهم " ، قال : الشك في الله ، وعمل السيئات ، فيستغشي ثيابه ، ويستكنّ من الله ، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، وهو : ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على مثال " يفعلون " ، و " الصدور " نصب ، بمعنى : يحنون صدورهم ويكنُّونها ، (1) كما : -
17955 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يثنون صدورهم) ، يقول : يكنُّون. (2)
17956 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم) ، يقول : يكتمون ما في قلوبهم (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
17957 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ألا انهم يثنون صدورهم) ، يقول : (تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ).
__________
(1) في المطبوعة : " يكبونها " و " يكبون " ، بالباء في الموضعين ، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما .
(2) في المطبوعة : " يكبونها " و " يكبون " ، بالباء في الموضعين ، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما .

(15/237)


قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس ، إلا أن الذي حدثنا ، هكذا ذكر القراءة في الرواية.
* * *
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك ، تأويلُ من قال : إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم ، أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن قوله : (ليستخفوا منه) ، بمعنى : ليستخفوا من الله ، وأن الهاء في قوله ، (منه) ، عائدة على اسم الله ، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك ، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك ، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله ، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا ، تغشَّوا بالثياب ، أو أظهروا بالبَرَاز ، (1)
فقال : (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعني : يتغشَّون ثيابهم ، يتغطونها ويلبسون.
* * *
يقال منه : " استغشى ثوبه وتغشّاه " ، قال الله : ( وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ) [سورة نوح : 7] ، وقالت الخنساء :
أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتِهَا... وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي (2)
* * *
__________
(1) " البراز " ( بفتح الباء ) : الفضاء البعيد الواسع ، ليس فيه شجر ولا ستر .
(2) ديوانها : 109 ، من شعرها في مراثي أخيها صخر ، تقول قبله : إنِّي أَرِقْتُ فبِتُّ اللَّيْلَ سَاهِرَةً ... كَأَنَّمَا كٌحِلَتْ عَيْنِي بِعُوَّارِ
" العوار " القذى . وقولها : " أرعى النجوم " ، تراقبها ، من غلبة الهم عليها ليلا ، فهي ساهرة تأنس بتطويح البصر في السماوات . و " الأطمار " ، أخلاق الثياب . تقول : طال حدادها وحزنها ، فلا تبالي أن يكون لها جديد ، فهي في خلقان ثيابها ، فإذا طال سهرها وغلبها ما غلبها ، تغطت بأطمارها فعل الحزين ، وبكت أو انطوت على أحزانها .

(15/238)


(يعلم ما يسرون) ، يقول جل ثناؤه : يعلم ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم ، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها ، وثنوها ، وما تناجوه بينهم فأخفوه (1) (وما يعلنون) ، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم (إنه عليم بذات الصدور) ، يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه ، من إيمان وكفر ، وحق وباطل ، وخير وشر ، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ ، (2) كما : -
17958 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يقول : يغطون رءوسهم.
* * *
قال أبو جعفر ، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه ، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق ، فتهلكوا باعتقادكم ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف : 103 .
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 13 : 570 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/239)


وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، وما تدبّ دابّة في الأرض .
* * *
و " الدابّة " " الفاعلة " ، من دبّ فهو يدبّ ، وهو دابٌّ ، وهي دابّة. (1)
* * *
(إلا على الله رزقها ) ، يقول : إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها ، هو به متكفل ، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17959 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد ، في قوله : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال : ما جاءها من رزقٍ فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا ، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.
17960 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال : كل دابة
__________
(1) انظر تفسير " الدابة " فيما سلف 14 : 21 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/240)


17961 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، يعني : كلّ دابة ، والناسُ منهم.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو " دابة " (1) وأن معنى الكلام : وما دابة في الأرض وأن " من " زائدة. (2)
* * *
وقوله : ( ويعلم مستقرها ) ، حيث تستقر فيه ، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلا أو نهارًا (ومستودعها) الموضع الذي يودعها ، إما بموتها ، فيه ، أو دفنها . (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17962 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن التيمي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : ( مستقرها ) حيث تأوي ( ومستودعها ) ، حيث تموت.
17963 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ويعلم مستقرها ) ، يقول : حيث تأوى ( ومستودعها ) ، يقول : إذا ماتت.
__________
(1) في المطبوعة : " كل ماش فهو دابة " ، والذي أثبته هو نص المخطوطة ، و " المال " عند العرب ، الإبل والأنعام ، وسائر الحيوان مما يقتنى . وهذا وجه . ولكن الذي في مجاز القرآن ، وهذا نص كلامه ، فهو " كل آكل " ، ولا قدرة لي على الفصل في صواب ما قاله أبو عبيدة ، لأن نسخة المجاز المطبوعة ، ربما وجد فيها خلاف لما نقل عن أبي عبيدة في الكتب الأخرى .
(2) هذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 285 .
(3) انظر تفسير " المستقر " ، و " المستودع " فيما سلف 1 : 539 / 11 : 434 ، 562 - 572 / 12 : 358 ، 359 .

(15/241)


17964 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : (يعلم مستقرها ومستودعها) ، قال : " المستقر " ، حيث تأوي و " المستودع " ، حيث تموت.
* * *
وقال آخرون : ( مستقرّها ) ، في الرحم (ومستودعها ) ، في الصلب.
*ذكر من قال ذلك :
17965 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ويعلم مستقرها ) ، في الرحم( ومستودعها ) ، في الصلب ، مثل التي في " الأنعام " . (1)
17966 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : ( ويعلم مستقرها ومستودعها) ، فالمستقر ما كان في الرحم ، والمستودع ما كان في الصلب.
17967 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ويعلم مستقرها) ، يقول : في الرحم (ومستودعها) ، في الصلب.
* * *
وقال آخرون : " المستقر " في الرحم و " المستودع " ، حيث تموت.
*ذكر من قال ذلك :
17968 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ويعلى ، وابن فضيل ، عن إسماعيل ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال : " مستقرها " ، الأرحام و " مستودعها " : الأرض التي تموت فيها.
17969 - . . . . قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ،
__________
(1) انظر تفسير " سورة الأنعام " 11 : 562 - 572 . والآثار هناك .

(15/242)


عن مرة ، عن عبد الله : ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، " المستقر " الرحم ، و " المستودع " المكان الذي تموت فيه.
* * *
وقال آخرون : ( مستقرها ) ، أيام حياتها ( ومستودعها ) ، حيث تموت فيه.
* ذكر من قال ذلك :
17970 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قالأخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس قوله : ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال : (مستقرها) ، أيام حياتها ، و(مستودعها) : حيث تموت ، ومن حيث تبعث.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه ، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام.
* * *
ويعني بقوله : (كل في كتاب) ، [مبين] ، عدد كل دابة ، (1) ومبلغ أرزاقها ، وقدر قرارها في مستقرها ، ومدة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب (مبين) ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. (2)
وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، أنه قد علم الأشياء كلها ، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها ، يقول لهم تعالى ذكره : فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم ، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم ، واستغشوا عليه ثيابهم ؟
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين ، لأني رجحت أنه حق الكلام ، وأن الناسخ ظن أنه تكرار فتركه .
(2) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .

(15/243)


وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا ، ( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) ، يقول : أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن يميتكم ؟
* * *
وقيل : إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في الأيام الستة ، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض ، من ذكر خلق ما فيهنّ.
17971 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل . (1)
__________
(1) الأثر : 17971 - هذا حديث صحيح ، رواه مسلم في صحيحه 17 : 123 ، ورواه أحمد في مسنده 2 : 327 ، رقم : 8323 من ترقيم أخي رحمة الله عليه ، في الجزء الذي لم يطبع من المسند . ورواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 28 ، 29 ، 32 ، جميعها من طريق القاسم بن بشر بن معروف ، والحسين بن علي الصدائي ، عن حجاج ، فهو صدر إسناد آخر غير هذا الإسناد ، وإن اتفق سائره . هذا وقد نبتت نابتة تريد أن تبطل نحو هذا الحديث بالرأي ، ثم بالطعن في الصحابي الجليل أبي هريرة . وسلك بعضهم إلى هذا مسلكا معيبا عند أهل العلم ، في استجلاب ضروب من الملفقات ، يريد بها مذمة رجل من أصحاب رسول الله ، غير متثبت من الأصل الذي يبنى عليه . فاللهم احفظ دينك من أهوائنا ، فما أهلك الدين والدنيا غير الهوى المسلط على عقولنا ونفوسنا . وفي هذا الأمر مقال ليس هذا مكانه .

(15/244)


17972 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (في ستة أيام) ، قال : بدأ خلق الأرض في يومين ، وقدّر فيها أقواتها في يومين.
17973 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن كعب قال : بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفرغ منها يوم الجمعة ، فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة . قال : فجعل مكان كل يوم ألف سنة.
17974 - وحدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك : (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ، قال : من أيام الآخرة ، كل يوم مقداره ألف سنة . ابتدأ في الخلق يوم الأحد ، وختم الخلق يوم الجمعة ، فسميت " الجمعة " ، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا
* * *
وقوله : (وكان عرشه على الماء) ، يقول : وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن ، (1) كما : -
17975 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (وكان عرشه على الماء) ، قبل أن يخلق شيئًا .
17976 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
__________
(1) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12 : 482 / 14 : 587 / 15 : 18 .

(15/245)


17977 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
17978 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وكان عرشه على الماء) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
17979 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وكان عرشه على الماء) ، قال : هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض.
17980 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس ، عن عمه أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله ، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض ؟ قال : في عَمَاءٍ ، (1)
ما فوقه هواء ، وما تحته هواء ، ثم خلق عرشه على الماء. (2)
17981 - حدثنا ابن وكيع ، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن يعلى بن عطاء ، عن وكيع بن
__________
(1) " العماء " ، في كلام العرب ، السحاب . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : " وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم ، ولا ندري كيف كان ذلك العماء " . وهذه كلمة عالم يعقل عن ربه ، ولا يتنكر لخبر رسوله المبلغ عنه ، العارف بصفاته ، ويقاس عليه مثله مما ورد في أحاديث بدء الخلق وأشباهها ، ما صح إسناد الخبر عن نبي الله ، بأبي هو وأمي . ونقل الترمذي في سننه عن أحمد ، عن يزيد بن هارون : " العماء : أي ليس معه شيء " .
(2) الأثر : 17980 - " حماد " ، هو " حماد بن سلمة " ، مضى مرارًا . " ويعلى بن عطاء العامري الطائفي " ، ثقة ، مضى برقم : 2858 ، 11527 ، 11529 ، 16579 . " ووكيع بن حدس " ، أو " ابن عدس " أبو مصعب العقيلي الطائفي ، ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 178 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 36 . " وأبو رزين العقيلي " ، هو " لقيط بن عامر بن المنتفق " أو " لقيط بن صبرة " ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مضى برقم : 3223 مضى التفريق هناك بينه وبين " لقيط بن صبرة " ، وهذا الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 : 19 من هذه الطريق نفسها . ورواه أحمد في مسنده 4 : 11 من طريق يزيد بن هارون عن حماد ، وص : 12 من طريق بهز ، عن حماد .
ورواه الترمذي في التفسير ، من طريق يزيد بن هارون ، وقال : " هذا حديث حسن " . ورواه ابن ماجه في سننه 1 : 64 ، رقم : 182 ، من طريق يزيد . انظر الأثر التالي رقم : 17981 .

(15/246)


حُدُس ، عن عمه أبي رزين قال : قلت : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : كان في عَماء ما فوقه هواء ، وما تحته هواء ، ثم خلق عرشه على الماء . (1)
17982 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا المسعودي قال ، أخبرنا جامع بن شداد ، عن صفوان بن محرز ، عن ابن حصين ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلوا عليه ، فجعل يبشِّرهم ويقولون : أعطنا ! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه ، فقالوا : جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتفقه في الدين ، ونسأله عن بدء هذا الأمر ؟ قال : فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا ! قالوا : قبلنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان الله ولا شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر قبل كل شيء ، ثم خلق سبع سماوات . ثم أتاني آت فقال : تلك ناقتك قد ذهبت ، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب ، (2)
__________
(1) الأثر : 17981 - هو مكرر الأثر السالف ، ومضى تخريجه هناك .
" محمد بن هارون القطان الرازقي " ، شيخ الطبري ، هكذا جاء في المخطوطة أيضًا ، ومثله في التاريخ بغير " الرازقي " ، ولم أجد ذلك في الذي بين يدي من الكتب . وشيخ الطبري الذي مر مرارًا هو " محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي الحربي البزاز " ، أبو نشيط " ، وجائز أن يكون وضع " القطان " مكان " البزاز " فهما متقاربان في المعنى . أما " الرازقي " ، فهذا مشكل . إنما يقال له " الحربي " أو " الربعي " وقد مضى " أبو نشيط " برقم : 9511 ، 10371 ، 14294 .
(2) هكذا في المخطوطة : " ينقطع دونها السراب " ، وهو صواب ، ودليله رواية أحمد في مسنده " فإذا السراب ينقطع بيني وبينها " ، بمعنى " ينتهي " ، كما يقال : " منقطع الوادي أو الرمل " ، حيث ينتهي إليه طرفه . يريد : ينتهي الطرف إلى منتهى السراب من قبل بصره ، فهو لا يراها . وروى صاحب اللسان حديث أبي ذر " فإذا هي يقطع دونها السراب " ( بضم الياء وفتح القاف وتشديد الطاء ) ، وقال : أي تسرع إسراعًا كثيرًا تقدمت به وفاتت ، حتى إن السراب يظهر دونها ، أي من ورائها ، لبعدها في البر . أما الحافظ ابن حجر في شرح حديث عمران بن حصين هذا ، فقد شرح رواية البخاري وهي " فإذا هي يقطع دونها السراب " وقال : يقطع ، بفتح أوله ، أي : يحول بيني وبين رؤيتها السراب " ، ( الفتح 6 : 207 ) .

(15/247)


ولوددتُ أنّي تركتها. (1)
17983 - حدثنا محمد بن منصور قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (وكان عرشه على الماء) ، قال : كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنّةً ، ثم اتخذ دونها أخرى ، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال : (ومن دونهما جنتان) ، [سورة الرحمن : 62] ، قال : وهي التي
__________
(1) الأثر : 17982 - " خلاد بن أسلم " ، " أبو بكر الصفار " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 3004 ، 11512 . " والنضر بن شميل المازني النحوي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 11512 ، 16767 . " والمسعودي " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 15349 . " وجامع بن شداد المحاربي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 8289 . " وصفوان بن محرز بن زياد المازني " ، ثقة ، روى له الخمسة . مضى برقم : 6496 ، 12866 . " وابن حصين " ، هو " عمران بن حصين الخزاعي " ، صحابي . هذا الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 : 19 بهذا الإسناد نفسه ورواه البخاري مطولا من طريق الأعمش ، عن جامع بن شداد ، ورواه مختصرًا من طريق سفيان ، عن جامع بن شداد ( الفتح 6 : 205 - 207 ) ، ومن طريق سفيان ( الفتح 8 : 76 ) . ورواه أحمد في مسنده من طرق ، من طريق سفيان عن جامع مختصرًا ( 4 : 426 ، 436 ) ومن طريق الأعمش ، عن جامع مطولا ( 4 : 431 ، 432 ) وهو إسناد البخاري بنحو لفظه . وروايته من هذه الطرق الصحاح ، تقيم رواية المسعودي ، لأن " المسعودي " قد تكلموا فيه ، وأنه اختلط بأخرة ، والمرضي من حديثه ما سمعه القدماء منه . وكأن " النضر بن شميل " ممن روى عنه قديمًا . وقد رواه الحاكم في المستدرك 2 : 341 من طريق روح بن عبادة عن المسعودي نفسه ، عن جامع بن شداد ، عن صفوان بن محرز ، عن بريدة الأسلمي الصحابي ، بلفظه وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي . ولا أدري متى سمع روح بن عبادة من المسعودي . فإن الاختلاف في " بريدة " و " عمران بن حصين " ، يحتاج إلى فضل تحقيق .

(15/248)


( لا تَعْلَمُ نَفْس ) أو قال : وهما التي لا تعلم نفس( مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، [سورة السجدة : 17] . قال : وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو : ما فيهما يأتيهم كل يوم منها أو : منهما تحفة.
17984 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قول الله : (وكان عرشه على الماء) ، قال : على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح. (1)
17985 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير قال : سُئل ابن عباس عن قوله : (وكان عرشه على الماء) ، على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح. (2)
17986 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، مثله. (3)
17987 - . . . . قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا مبَشّر الحلبي ، عن أرطاة بن المنذر قال : سمعت ضمرة يقول : إن الله كان عرشه على الماء ، وخلق السموات والأرض بالحق ، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق. (4)
__________
(1) الأثر : 17984 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 341 ، من طريق الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي .
وسيأتي في الذي يليه من طريق الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، بلا واسطة . والأعمش يروي عن سعيد بن جبير . ورواه الطبري في تاريخه من هذه والطريق نفسها 1 : 20 ، 21 .
(2) الأثر : 19786 - هو مكرر الأثرين السالفين ، من طريق الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، بلا واسطة ، ورواه بها الطبري في تاريخه 1 : 21 .
(3) الأثر : 19786 - مكرر الثرين السالفين ، ورواه الطبري في تاريخه منها 1 : 21 .
(4) الأثر : 17987 - " مبشر الحلبي " ، هو " مبشر بن إسماعيل الحلبي " ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 17001 ، وكان في المطبوعة : " ميسر " ، وهو خطأ .
و " أرطاة بن المنذر السكوني " ، ثقة ، من أتباع التابعين ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 58 وابن أبي حاتم 1 / 1 / 326 . " وضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي " ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 338 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 467 . وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 21 من هذه الطريق نفسها .

(15/249)


17988 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول : إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ، ثم قبض من صَفاة الماء [قبضة] ، (1) ثم فتح القبضة فارتفع دخانًا (2) ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان البيت ، ثم دحا الأرض منها ، ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض في يومين ، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع. (3)
* * *
وقوله : (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يقول تعالى ذكره : وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس ، وخلقكم في ستة أيام (ليبلوكم) ، يقول : ليختبركم (4) (أيكم أحسن عملا) ، يقول : أيكم أحسن له طاعة ، كما : -
17989 - حدثنا عن داود بن المحبر قال ، حدثنا عبد الواحد بن زيد ، عن كليب بن وائل ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه تلا
__________
(1) في المطبوعة : " ثم قبض قبضة من صفاء الماء " ، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة ، فغيرها . وزدت " قبضة " بين قوسين ، من رواية هذا الخبر ، بغير هذا الإسناد ، في تاريخ الطبري . " وصفاة الماء " ، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر رقم : 2044 ، 7428 ، وفي الدر المنثور 3 : 322 ، من حديث الربيع بن أنس : " كان عرشه على الماء ، فلما خلق السماوات والأرض ، قسم ذلك الماء قسمين ، فجعل صفاء ( صفاة ) تحت العرش ، وهو البحر المسجور ، فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور ، فينزل منه مثل الطل ، وتنبت منه الأجسام " .
(2) في المطبوعة : " ثم قبض قبضة من صفاء الماء " ، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة ، فغيرها . وزدت " قبضة " بين قوسين ، من رواية هذا الخبر ، بغير هذا الإسناد ، في تاريخ الطبري . " وصفاة الماء " ، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر رقم : 2044 ، 7428 ، وفي الدر المنثور 3 : 322 ، من حديث الربيع بن أنس : " كان عرشه على الماء ، فلما خلق السماوات والأرض ، قسم ذلك الماء قسمين ، فجعل صفاء ( صفاة ) تحت العرش ، وهو البحر المسجور ، فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور ، فينزل منه مثل الطل ، وتنبت منه الأجسام " .
(3) في الأثر : 17988 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 20 من طريق محمد بن سهل بن عسكر ، عن إسماعيل بن عبد الكريم ، مختصرًا .
(4) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف 13 : 448 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/250)


هذه الآية : (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، قال : أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ؟ (1)
17990 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يعني الثقلين.
* * *
وقوله : (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك : إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي (ليقولن إن هذا إلا سحر مبين ) ، أي : ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول ، إلا سحر لسامعه ، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر. (2)
* * *
وهذا على تأويل من قرأ ذلك : (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) ،
* * *
__________
(1) الأثر : 17989 - " داود بن المحبر الطائي الثقفي " ، صاحب " كتاب العقل " ، شبه لا شيء ، كان لا يدري ما الحديث ، هكذا قال أحمد بن حنبل . وهو ضعيف صاحب مناكير ، وذكروا كتاب العقل ، فقال الدارقطني : " كتاب العقل ، وضعه أربعة ، أولهم ميسرة بن عبد ربه ، ثم سرقه منه داود بن المحبر ، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة . وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء ، فركبه بأسانيد أخر . ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي ، فأتى بأسانيد أخر " . وقال الحاكم : " حدثونا عن الحارث بن أبي أسامة عنه بكتاب العقل ، وأكثر ما أودع في ذلك الكتاب من الحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم " . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 223 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 424 . " وعبد الواحد بن يزيد البصري " ، القاص ، شيخ الصوفية منكر الحديث ، ضعيف بمرة ، مترجم في تعجيل المنفعة ص : 266 ، وميزان الاعتدال 2 : 157 ، وابن أبي حاتم 3/1/20. " وكليب بن وائل بن هبار التيمي اليشكري " ، روى عن ابن عمر . ثقة ، وضعفه أبو زرعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 229 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 167 . فهذا حديث ضعيف بمرة ، ولا أصل له .
(2) في المطبوعة : " إلا سحر لسامعه مبين حقيقته أنه سحر " ، وفي المخطوطة : " إلا سحر لسامعه عن حقيقته أنه سحر " ، وبين " سحر " و " لسامعه " حرف " ط " دلالة على الخطأ . وصواب العبارة ما أثبته إن شاء الله . وانظر تفسير " السحر " فيما سلف ص : 159 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .

(15/251)


وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)

وأما من قرأ : (إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ مُبِينٌ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره ، فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك ، يا محمد ، العذابَ فلم نعجله لهم ، وأنسأنا في آجالهم إلى(أمة معدودة ) ، ووقت محدود وسنين معلومة.
* * *
وأصل " الأمة " ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين ، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت. (2) وإنما قيل للسنين " المعدودة " والحين ، في هذا الموضع ونحوه : أمة ، لأن فيها تكون الأمة. (3)
* * *
وإنما معنى الكلام : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11 : 216 ، 217 ، 265 .
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف 13 : 285 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " معدودة " فيما سلف 3 : 417 / 4 : 208 ، وما بعدها .

(15/252)


وبنحو الذي قلنا من أن معنى " الأمة " في هذا الموضع ، الأجل والحين ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
17991 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس : (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، قال : إلى أجل محدود.
17992 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، بمثله.
17994 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إلى أمة معدودة) ، قال : أجل معدود.
17995 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : إلى أجل معدود.
17996 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلى أمة معدودة) ، قال : إلى حين.
17997 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17998 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
17999 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول : أمسكنا

(15/253)


عنهم العذاب (إلى أمة معدودة ) ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : إلى حين.
18000 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول : إلى أجل معلوم. (1)
* * *
وقوله : (ليقولن ما يحبسه) ، يقول : " ليقولن " هؤلاء المشركون " ما يحبسه " ؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به ؟ (2) تكذيبًا منهم به ، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما : -
18002 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال قوله : (ليقولن ما يحبسه) ، قال : للتكذيب به ، أو أنه ليس بشيء.
* * *
وقوله : (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) ، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره : (ألا يوم يأتيهم ) العذابُ الذي يكذبون به (ليس مصروفًا عنهم) ، يقول : ليس يصرفه عنهم صارف ، ولا يدفعه عنهم دافع ، ولكنه يحل بهم فيهلكهم (3) (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ، يقول : ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. (4) وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله ، قيلهم قبل نزوله(ما يحبسه ) ، و " هلا تأتينا " ؟. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول.
__________
(1) تجاوزت في الترقيم رقم : 18001 ، سهوًا .
(2) انظر تفسير " الحبس " فيما سلف 11 : 172 .
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 11 : 286 / 13 : 112 / 14 : 582 / 15 : 84 .
(4) انظر تفسير " حاق " فيما سلف 11 : 172 . وتفسير " الاستهزاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( هزأ ) .
(5) في المطبوعة : " نقلا بأنبيائه " ، وهذا خلط لا معنى له . وفي المخطوطة : " ونعلا بأنبيائه " ، والكلمة الأولى سيئة الكتابة ، وسائر الحروف غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله .

(15/254)


وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)

*ذكر من قال ذلك :
18003 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ، قال : ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق والعيش ، فبسطنا عليه من الدنيا (1) وهي " الرحمة " التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع (ثم نزعناها منه) ، يقول : ثم سلبناه ذلك ، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به (2) (إنه ليئوس كفور) ، يقول : يظل قَنِطًا من رحمة الله ، آيسًا من الخير.
* * *
وقوله : " يئوس " ، " فعول " ، من قول القائل : " يئس فلان من كذا ، فهو يئوس " ، إذا كان ذلك صفة له. (3) .
وقوله : " كفور " ، يقول : هو كفُور لمن أنعم عليه ، قليل الشكر لربّه المتفضل عليه ، بما كان وَهَب له من نعمته. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص : 146 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " النزع " فيما سلف 12 : 437 / 13 : 17 .
(3) انظر تفسير " اليأس " فيما سلف 9 : 516 .
(4) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة ( كفر ) .

(15/255)


وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

*ذكر من قال ذلك :
18004 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور) ، قال : يا ابن آدم ، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية ، فكفور لما بك منها ، وإذا نزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك (1) فيئوس من روح الله ، قنوطٌ من رحمته ، كذلك المرء المنافق والكافر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه ، ورزقناه رخاءً في عيشه ، ووسعنا عليه في رزقه ، وذلك هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه : (ولئن أذقناه نعماء) (2) وقوله : (بعد ضراء مسته) ، يقول : بعد ضيق من العيش كان فيه ، وعسرة كان يعالجها (3) (ليقولنّ ذهب السيئات عني) ، يقول تعالى ذكره : ليقولن عند ذلك : ذهب الضيق والعسرة عني ، وزالت الشدائد والمكاره (إنه لفرح فخور) ، يقول تعالى ذكره : إن الإنسان لفرح بالنعم
__________
(1) في المطبوعة : " يبتغي لك فراغك ، فيؤوس . . . " ، غير ما في المخطوطة ، وكان فيها هكذا : " يسعى فرعك وعقلك فيؤوس " ، وصواب قراءتها ما أثبت . و " القدع " : الكف والمنع .
(2) انظر تفسير " النعماء " فيما سلف من فهارس اللغة ( نعم ) .
(3) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص : 219 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الضراء " فيما سلف ص : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/256)


التي يعطاها مسرور بها (1)
(فخور) ، يقول : ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا ، وما بسط له فيها من العيش ، (2) وينسى صُرُوفها ، ونكدَ العَوَائص فيها ، (3) ويدع طلب النعيم الذي يبقى ، والسرور الذي يدوم فلا يزول.
18005 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : (ذهب السيئات عني) ، غِرَّةً بالله وجراءة عليه (إنه لفرح) ، والله لا يحب الفرحين(فخور) ، بعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله.
* * *
ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين : " الذين صبروا وعملوا الصالحات " . وإنما جاز استثناؤهم منه لأن " الإنسان " بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، [سورة العصر : 1 - 3] ، (4)
فقال تعالى ذكره : (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها ، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله ، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً ، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله : (أولئك لهم مغفرة) يغفرها لهم ، ولا يفضحهم بها في معادهم (وأجر كبير) ، يقول : ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم ، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا ، جزيلٌ ، وجزاءٌ عظيم.
18006 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (إلا الذين صبروا ) ، عند البلاء ، (وعملوا الصالحات ) ، عند النعمة
__________
(1) انظر تفسير " فرح " فيما سلف 14 : 289 .
(2) انظر تفسير " فخور " فيما سلف 8 : 350 .
(3) في المطبوعة : " نكد العوارض " ، غير ما في المخطوطة ، و " العوائص " جمع " عائص " أو " عائصة " ، ومثله " العوصاء " ، وكله معناه : الشدة والعسر والحاجة .
(4) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير الآية . ومن هنا سأرجع إلى النسخة المخطوطة من معاني القرآن ، لأن بقية الكتاب لم تطبع بعد . والنسخة التي أرجع إليها هي المخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم : ب 24986 ، مصورة عن نسخة مكتبة " بغداد لي وهبي " بالمكتبة السليمانية ، بالآستانة .

(15/257)


فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)

(ألئك لهم مغفرة) ، لذنوبهم (وأجر كبير) ، قال : الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلعلك يا محمد ، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك ، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم ، مخافة(أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ، له مصدّق بأنه لله رسول ! يقول تعالى ذكره : فبلغهم ما أوحيته إليك ، فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي ، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي ، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني ، أنزلها إذا شئت ، وليس عليك ، إلا البلاغ والإنذار (والله على كل شيء وكيل) ، يقول : والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره ، فانفذ لما أمرتك به ، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات ، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18007 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قال الله لِنبيه : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة .

(15/258)


أن تفعل فيه ما أمرت ، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا : (لولا أنزل عليه كنز) ، لا نرى معه مالا أين المال ؟ (أو جاء معه ملك) ، ينذر معه ؟ (إنما أنت نذير) ، فبلغ ما أمرت.
* * *

(15/259)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به ، ودلالةً على صحة نبوّتك ، هذا القرآن ، من سائر الآيات غيره ، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه ، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها. وهذا القرآن ، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله ، (1) فان هم قالوا : " افتريته " ، أي : اختلقته وتكذَّبته. (2)
* * *
ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا ، قوله : (أم يقولون افتراه) إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله : (أم يقولون افتراه) ، أي : أيقولون افتراه ؟
* * *
وقد دللنا على سبب إدخال العرب " أم " في مثل هذا الموضع . (3)
* * *
فقل لهم : يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن " مفتريات " ، يعني مفتعلات مختلقات ، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترىً ، وليس بآية معجزةٍ
__________
(1) في المطبوعة : " جميع الخلق عجزت " ، غير ما في المخطوطة ، فأفسد الكلام إفسادًا .
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .
(3) انظر تفسير " أم " فيما سلف 2 : 492 / 3 : 97 / ثم 14 : 165 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/259)


كسائر ما سُئلته من الآيات ، كالكنز الذي قلتم : هَلا أنزل عليه ؟ أو الملك الذي قلتم : هلا جاء معه نذيرًا له مصدقًا ! فإنكم قومي ، وأنتم من أهل لساني ، وأنا رجل منكم ، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة ، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها ، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق.
يقول جل ثناؤه : قل لهم : وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله يعني سوى الله ، لا فتراء ذلك واختلاقه من الآلهة ، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله ، فقد تبين لكم أنكم كذبةٌ في قولكم : (افتراه) ، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم ، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله ، مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون بمجيئها.
* * *
وقوله : (إن كنتم صادقين) ، لقوله : (فأتوا بعشر سور مثله) ، وإنما هو : قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك ، من الآلهة والأنداد.
18008 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح : (أن يقولون افتراه) ، قد قالوه ، (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات). وادعوا شهداءكم ، قال : يشهدون أنها مثله هكذا قال القاسم في حديثه. (1)
* * *
__________
(1) يعني أنه قال : " وادعوا شهداءكم " ، وإن لم يكن ذلك في هذه الآية ، بل هو في غيرها ، وهي آية سورة البقرة : 23 :
( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .

(15/260)


فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات ، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك ، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه ، وأن محمدًا لم يفتره ، ولا يقدر أن يفتريه (وأن لا إله إلا هو) ، يقول : وأيقنوا أيضًا أن لا معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر ، فاخلعوا الأنداد والآلهة ، وأفردوا له العبادة.
* * *
وقد قيل : إن قوله : (فإن لم يستجيبوا لكم) خطاب من الله لنبيه ، كأنه قال : فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار ، يا محمد ، فاعلموا ، أيها المشركون ، أنما أنزل بعلم الله وذلك تأويل بعيد من المفهوم.
* * *
وقوله : (فهل أنتم مسلمون) ، يقول : فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة ، ومخلصون له العبادة ، بعد ثبوت الحجة عليكم ؟
* * *
وكان مجاهد يقول : عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18009 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فهل أنتم مسلمون) ، قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18010 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال

(15/261)


مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)

18010 - وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) ، قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18011 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقيل : (فإن لم يستجيبوا لكم) ، والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحدٍ ، وذلك قوله : (قل فأتوا) ، ولم يقل : " فإن لم يستجيبوا لك " على نحو ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم ، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع ، إذا كانَ خطابه خطابًا لأتباعه وجنده ، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد ، إذا كان في نفسه واحدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : من كان يريد بعمله الحياة الدنيا ، وإيّاها وَزينتها يطلب به ، (2) نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها (3) (وهم فيها) يقول : وهم في الدنيا ، (لا يبخسون) ، يقول : لا ينقصون أجرها ، ولكنهم يوفونه فيها. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12 : 298 ، 549 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " وأثاثها وزينتها يطلب به " ، فأفسد الكلام وضامه ، وهو في المخطوطة على الصواب كما أثبته .
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص : 177 ، تعليق : 2 ، 5 ، والمراجع هناك .
وتفسير " التوفية " فيما سلف من فهارس اللغة ( وفى ) .
(4) انظر تفسير " البخس " فيما سلف 6 : 56 / 12 : 555 .

(15/262)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18012 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية ، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول : من عمل صالحًا التماس الدنيا ، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل ، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا ، يقول الله : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين.
18013 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال : ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا ، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها.
* * *
18014 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، قال : وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا ، (1) وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال : هي مثل الآية التي في الروم : ( وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ) ، [سورة الروم : 39]
18015 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال : من عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا.
__________
(1) في المطبوعة : " وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا " ، وهو كلام متلو لا معنى له .
وفي المخطوطة ما أثبته ، إلا أن فيه " ورب ما عملوا " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت .

(15/263)


18016 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال : من عمل عملا مما أمر الله به ، من صلاة أو صدقة ، لا يريد بها وجهَ الله ، أعطاه الله في الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق ، فذلك قوله : (نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، في الدنيا ، (وهم فيها لا يبخسون) ، أجر ما عملوا فيها ، (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها) ، الآية.
18017 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عيسى يعني ابن ميمون عن مجاهد في قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال : ممن لا يقبل منه ، جُوزِي به ، يُعطَى ثوابَه.
18018 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عيسى الجرشي ، عن مجاهد : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال : ممن لا يقبل منه ، يعجّل له في الدنيا. (1)
18019 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، أي : لا يظلمون. يقول : من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه (2) وطَلِبته ونيتّه ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة ، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن ، فيجازى بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة (وهم فيها لا يبخسون) أي : في الآخرة لا يظلمون.
18020 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور وحدثنا
__________
(1) الأثر : 18018 - " عيسى الجرشي " ، هو " عيسى بن ميمون الجرشي المكي " ، المذكور في الخبر السالف ، مضى قبل مرات ، آخرها رقم : 14677 .
(2) " السدم " ( بفتحتين ) : الولوع بالشيء واللهج به . والغم بطلبه ، والندم على فوته ، وفي الحديث :
" مَنْ كانت الدنيا همَّه وسَدَمَه ، جَعَل الله فَقْرَه بين عينيه " .

(15/264)


الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق جميعًا ، عن معمر ، عن قتادة : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية ، قال : من كان إنما هِمّته الدنيا ، إياها يطلب ، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما يعيش ، وكان ذلك قصاصًا له بعمله.(وهم فيها لا يبخسون) ، قال : لا يظلمون.
18021 - . . .. قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ليث بن أبي سلم ، عن محمد بن كعب القرظي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحسن من محسن ، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . (1)
18022 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية ، يقول : من عمل عملا صالحًا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا : يصل رحمًا ، يعطي سائلا يرحم مضطرًّا ، في نحو هذا من أعمال البرّ ، يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا ، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق ، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله ، ويدفع عنه من مكاره الدنيا ، في نحو هذا ، وليس له في الآخرة من نصيب.
18023 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : (نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، قال : هي في اليهود والنصارى.
18024 - . . . . قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن أبي رجاء الأزدي ، عن الحسن : (نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال : طيباتهم.
18025 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله.
__________
(1) الأثر : 18021 - هذا خبر مرسل .

(15/265)


18026 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله.
18027 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن وهيب : أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية : هم أهل الرياء ، هم أهل الرياء.
18028 - . . . . قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان ، أن عقبة بن مسلم حدثه ، أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه : أنه دخل المدينة ، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدِّث الناس ، فلما سكت وَخَلا (1) قلت : أنشدك بحقِّ ، وبحقِّ ، (2) لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه . قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ثم نَشَغ نشغةً ، (3) ثم أفاق فقال : لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما فيه أحدٌ غيري وغيره ! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة ، ثم مال خارًّا على وجهه ، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ، نزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، (4) وكل أمة جاثيةٌ ، فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن ، ورجل قُتِل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك
__________
(1) في المطبوعة : " وخلى " ، والصواب ما أثبت ، كما في المخطوطة .
(2) " بحق ، وبحق " هذا قسم عليه ، يريد : " بحق كذا " ، وهو اختصار .
(3) " نشغ الرجل " ، شهق حتى يكاد يبلغ به الغشى . قال أبو عبيدة : " وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقا إلى صاحبه ، أو إلى شيء فائت ، وأسفا عليه وحبا للقائه " .
(4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " نزل إلى القيامة " ، وأنا في شك منها شديد ، وأظن الصواب ما في رواية الترمذي :
" ينزل إلى العباد ليقضى بينهم " .

(15/266)


ما أنزلتُ على رسولي ؟ قال : بلى يا رب ! قال : فماذا عملت فيما عُلِّمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار! فيقول الله له : كذبت ! وتقول له الملائكة : كذبت ! ويقول الله له : بل أردت أن يقال : " فلان قارئ " فقد قيل ذلك ! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ! قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم ، وأتصدَّق. فيقول الله له : كذبت ! وتقول الملائكة : كذبت ! ويقول الله له : بل أردت أن يقال : " فلان جواد " ، فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله ، فيقال له : فيما ذا قُتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له : كذبت ! وتقول له الملائكة : كذبت ! ويقول الله له : بل أردت أن يقال : " فلان جريء " ، وقد قيل ذلك ! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. (1)
قال الوليد أبو عثمان : فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية ، فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان : وحدثني العلاء بن أبي حكيم : أنه كان سيَّافًا لمعاوية ، قال : فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة ، فقال أبو هريرة : وقد فعل بهؤلاء هذا ، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك ، وقلنا : [قد جاءنا ] هذا الرجل بشرٍّ ! (2) ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال : صدق الله ورسوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، وقرأ إلى : (وباطل ما كانوا يعملون). (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تسعر لهم " ، والصواب ما أثبت من سنن الترمذي .
(2) في المطبوعة : " قلنا هذا الرجل شر " ، وهو فاسد جدا ، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها : " بشر " ، والصواب ما أثبته من سنن الترمذي ، ووضعت الزيادة بين القوسين .
(3) الأثر : 18028 - " ابن المبارك " ، هو " عبد الله بن المبارك " ، الإمام المشهور ، و " حيوة بن شريح التجيبي المصري " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 16382 . " والوليد بن أبي الوليد القرشي ، أبو عثمان " ، ثقة ، مضى برقم : 5455 . " وعقبة بن مسلم التجيبي المصري " ، تابعي ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 13240 ، 13241 . " وشفي بن ماتع الأصبحي المصري " ، تابعي ثقة ، من ثقات المصريين ، كان عالمًا حكيمًا . وعده ابن جرير الطبري في الصحابة ، ولا يكاد يثبت . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7 / 2 / 201 ، والكبير 2 / 2 / 267 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 389 ، والإصابة في ترجمته في القسم الرابع من حرف الشين . وقال الحافظ ابن حجر : " وأورد حديثه بقي بن مخلد في مسنده أيضًا . ولم أر له رواية عن صحابي إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديثه عنه في السنن . وجزم بأنه تابعي ، وأن حديثه مرسل : البخاري وابن حبان ، وأبو حاتم الرازي ، وغيرهم " . وهذا الخبر رواه الترمذي في " كتاب الزهد " ، في باب " الرياء والسمعة " ، وقال : " هذا حديث حسن غريب " ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فالترمذي إذا قال : حسن غريب ، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق ، لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن " ، قلت : وغرابة هذا الحديث ، رواية " شفي بن ماتع " ، عن " أبي هريرة " ، وشفي لا تعرف له رواية مشهورة ثانية إلا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ، وإن كانت روايته عن أبي هريرة حسنة ، على غرابتها ، لأنه خليق أن يروى عنه ، وخليق أن يلقاه مرة بالمدينة ، كما جاء في هذا الخبر . وقد رواه مختصرًا ، النسائي في سننه 6 : 23 ، من طريق أخرى ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن جريج ، عن يوسف بن يوسف ، عن سليمان بن يسار ، قال : تفرق الناس عن أبي هريرة ، فقال له قائل من أهل الشأم ، أيها الشيخ ، حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحديث فكأن هذا القائل من أهل الشأم هو " شفي بن ماتع " ، وأنه كان بالشأم قبل أن يسكن مصر ، و " شفي " ، في الطبقة الثانية من تابعي أهل مصر ، كما عده ابن سعد . و " سليمان بن يسار الهلالي " ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، وسمع من أبي هريرة ، فكأن هذا القائل ، أو شفي بن ماتع ، كان يومئذ صغيرًا وهو يسأل أبا هريرة بالمدينة ، وكأن خبر النسائي ، هو الشاهد من الحديث الصحيح الذي جعل الترمذي يصف الخبر الأول بأنه " حسن غريب " .

(15/267)


18029 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية ، قال : ممن لا يتقبل منه ، يصوم ويصلي يريد به الدنيا ، ويدفع عنه هَمّ الآخرة (1) (وهم فيها لا يبخسون) ، لا ينقصون.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ويدفع عنه وهم الآخرة " . ولا معنى له ، وأرجح أن الصواب ما أثبت .

(15/268)


أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا (ليس لهم في الآخرة إلا النار) ، يصلونها (وحبط ما صنعوا فيها) ، يقول : وذهب ما عملوا في الدنيا ، (1) (وباطل ما كانوا يعملون) ، لأنهم كانوا يعملون لغير الله ، فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (أفمن كان على بينة من ربه) ، قد بين له دينه فتبينه (2) (ويتلوه شاهد منه). (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : يعني بقوله : (أفمن كان على بينة من ربه) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 14 : 344 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(3) انظر تفسير " يتلو " ، و " شاهد " فيما سلف من فهارس اللغة ( تلا ) ، ( شهد ) .

(15/269)


ذكر من قال ذلك :
18030 - حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا حسين بن محمد قال ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن عروة ، عن محمد ابن الحنفية قال : قلت لأبي : يا أبت ، أنت التالي في(ويتلوه شاهد منه) ؟ قال : لا والله يا بنيّ ! وددت أني كنت أنا هو ، ولكنه لسانُه
18031 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، ، عن الحسن : (ويتلوه شاهد منه) قال : لسانه.
18032 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : (ويتلوه شاهد منه) قال : لسانه.
18033 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله. (1)
18034 - حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن قرة بن خالد ، عن الحسن ، مثله.
18035 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (أفمن كان على بينة من ربه) ، وهو محمد ، كان على بيّنة من ربه.
18036 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قوله : (ويتلوه شاهد منه) قال : لسانه.
18037 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : لسانه هو الشاهد.
18038 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله.
__________
(1) الأثر : 18033 - " الحكم بن عبد الله " ، " أبو النعمان العجلي " ، ثقة ، مضى برقم : 17013 .

(15/270)


18039 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر ، عن عوف ، عن الحسن ، مثله.
* * *
وقال آخرون : يعني بقوله : (ويتلوه شاهد منه) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
18040 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن سليمان العلاف ، عن الحسين بن علي في قوله : (ويتلوه شاهد منه) قال : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم . (1)
18041 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر ، عن عوف ، قال ، حدثني سليمان العلاف قال : بلغني أن الحسن بن علي قال : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم.
18042 - . . . . قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن سليمان العلاف ، سمع الحَسَن بن علي : (ويتلوه شاهد منه) ، يقول : محمد ، هو الشاهد من الله. (2)
18043 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) ، قال :
__________
(1) الأثر : 18040 - " سليمان العلاف " ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 31 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 153 ، ولم يذكرا فيه جرحًا ، وقالا : إنه بلغه عن الحسن ، روى عنه عوف ، وقال البخاري : مرسل . وكأنه يعني هذا الحديث ، انظر الخبر التالي . وكان في المطبوعة والمخطوطة " عن الحسين بن علي " ، وهو خطأ ، يدل عليه ما ذكرته ، وانظر الخبر التالي ، والذي يليه .
(2) الأثران : 18041 ، 18042 - " سليمان العلاف " ، انظر التعليق السالف ، وفي الأثرين " الحسين بن علي " في المخطوطة والمطبوعة ، والصواب ما أثبت كما مر ذلك في التعليق على الأثر السالف .

(15/271)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان على بينة من ربه ، والقرآن يتلوه شاهدٌ أيضًا من الله ، (1) بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18044 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال : النبي صلى الله عليه وسلم.
18045 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، مثله.
18046 - . . .. قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
18047 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا أبو خالد ، سمعت سفيان يقول : (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : هو علي بن أبي طالب.
*ذكر من قال ذلك :
18048 - حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا رزيق بن مرزوق قال ، حدثنا صباح الفراء ، عن جابر ، عن عبد الله بن نجيّ قال ، قال علي رضى الله عنه : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان. فقال له رجُل : فأنتَ فأي شيء نزل فيك ؟ فقال علي : أما تقرأ الآية التي نزلت في هود : (ويتلوه شاهد منه). (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " شاهد منه أيضًا " ، والذي في المخطوطة هو الجيد .
(2) الأثر : 18048 - " رزيق بن مرزوق الكوفي المقرئ البجلي " ، روى عن أبي الأحوص ، وابن عيينة ، وسهل بن شعيب ، وروى عنه أحمد بن يحيى الصوفي ، وأبو حاتم الرازي ، وقال : " صدوق " مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 2 / 506 . " وصباح الفراء " ، لم أجده ، وأخشى أن يكون هو " صباح بن يحيى المزني " ، وهو الشيعي المتروك الذي سلف برقم : 16113 . " وجابر " هو الجعفي " جابر بن يزيد الجعفي " . وهو ضعيف ، بل ربما كان القول فيه أشد ، وكان فوق ذلك رافضيًا يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن حبان : " كان من أصحاب عبد الله بن سبأ ، وكان يقول : إن عليا يرجع إلى الدنيا " مضى مرارًا آخرها رقم : 14008 . " وعبد الله بن نجي بن سلمة الكوفي الحضرمي " ، ليس بالقوي ، كان أبوه على مطهرة علي رضي الله عنه ، قال البخاري : " فيه نظر " ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 184 . وميزان الاعتدال 2 : 82 ، وقال الذهبي : " روى عنه جابر الجعفي ، فمنكرة من جابر " ، ووثقه النسائي .
وكان في المطبوعة " عبد الله بن يحيى " ، لم يحسن قراءة المخطوطة فيعرف الاسم .

(15/272)


وقال آخرون : هو جبريل.
*ذكر من قال ذلك :
18049 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (ويتلوه شاهد منه) ، إنه كان يقول : جبريل.
18050 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : جبريل.
18051 - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى ، بإسناده عن إبراهيم فقال : قال : يقولون : " علي " ، إنما هو جبريل.
18052 - حدثنا أبو كريب ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : هو جبريل ، تلا التوراة والإنجيل والقرآن ، وهو الشاهد من الله.
18053 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ ، قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم : (ويتلوه شاهد منه) قال : جبريل.
18054 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.

(15/273)


18055 - . . . . قال ، حدثنا سهل بن يوسف قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
18056 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
18057 - . . . . قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : جبريل.
18058 - . . . . قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : جبريل.
18059 - . . . . قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : جبريل
18060 - . . . . حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أفمن كان على بينة من ربه) ، يعني محمدًا هو على بينة من الله (ويتلوه شاهد منه) ، جبريل ، شاهدٌ من الله ، يتلو على محمد ما بُعث به.
18061 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : هو جبريل
18062 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : هو جبريل.
18063 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : جبريل.
18064 - . . . . حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (أفمن كان على بينة من ربه) ، يعني محمدًا ، على بينة من ربه (ويتلوه شاهد منه) ، فهو

(15/274)


جبريل ، شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب الله الذي أنزل على محمد قال : ويقال : (ويتلوه شاهد منه) ، يقول : يحفظه المَلَك الذي معه.
18065 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب قال ، كان مجاهد يقول في قوله : (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال : يعني محمدًا ، (ويتلوه شاهد منه) ، قال : جبريل.
* * *
وقالا آخرون : هو ملك يحفظه.
*ذكر من قال ذلك :
18066 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : معه حافظ من الله ، مَلَكٌ.
18067 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، وسويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن مجاهد : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : ملك يحفظه.
18068 - . . . . قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عمن سمع مجاهدًا : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : الملك.
18069 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويتلوه شاهد منه) ، يتبعه حافظٌ من الله ، مَلَكٌ.
18070 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : الملك يحفظه : ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ، [سورة البقرة : 121] قال : يتّبعونه حقّ اتباعه.
18071 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ويتلوه شاهد منه) ، قال : حافظ من الله ، مَلكٌ.
* * *

(15/275)


قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله : (ويتلوه شاهد منه) ، قولُ من قال : " هو جبريل " ، لدلالة قوله : (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً) ، على صحة ذلك . وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى ، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال : " عنى به لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، أو : محمد نفسه ، أو : عليّ " على قول من قال : " عني به علي " . ولا يعلم أنّ أحدًا كان تلا ذلك قبل القرآن ، أو جاء به ، ممن ذكر أهل التأويل أنه عنى بقوله : (ويتلوه شاهد منه) ، غير جبريل عليه السلام.
* * *
فإن قال قائل : فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل ، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله : (ومن قبله كتاب موسى) بالنصب ، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون : ويتلو القرآنَ شاهدٌ من الله ، ومن قبل القرآن كتابَ موسى ؟
قيل : إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها ، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب ، كانت قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا.
فإن قال : فما وجه رفعهم إذًا " الكتاب " على ما ادعيت من التأويل ؟
قيل : وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل كتابنا المنزل على محمد ، فرفعوه ب " من " [ومنه] ، (1) والقراءة كذلك ، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن ، وأن المراد من معناه ذلك ،
__________
(1) في المطبوعة : " فرفعوه بمن قبله والقراءة كذلك " ، غير ما في المخطوطة ، لهذه الكلمة التي وضعتها بين القوسين ، وأنا أخشى أن تكون زيادة لا معنى لها ، ولذلك أثبتها بين القوسين ، كما في المخطوطة .
وانظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء .

(15/276)


وإن كان الخبر مستأنفًا على ما وصفت ، اكتفاءً بدلالة الكلام على معناه.
* * *
وأما قوله : (إمامًا) فإنه نصب على القطع من " كتاب موسى " ، (1) وقوله(ورحمة) ، عطف على " الإمام " . كأنه قيل : ومن قبله كتاب موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به ، ورحمةً من الله تلاه على موسى ، كما : -
18072 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : (ومن قبله كتاب موسى) ، قال : من قبله جاء بالكتاب إلى موسى.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه ، وهو : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً) ، " كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد ، ولا يعرف حقًّا من باطل ، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها " . وذلك نظير قوله : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) [سورة الزمر : 9] (2) والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله : (من كان يريد الحياة الدنيا) ، الآية ، ثم قيل : أهذا خير ، أمن كان على بينة من ربه ؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة على مرادها على ما حذفت ، وذلك كقول الشاعر : (3)
وَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُه... سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا (4)
* * *
__________
(1) " القطع " ، الحال ، كما سلف ص : 76 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء .
(3) هو امرؤ القيس .
(4) ديوانه : 113 ، والخزانة 4 : 227 ، وغيرهما كثير ، وسيأتي في التفسير 13 : 102 / 23 : 128 / 29 : 67 ( بولاق ) ، وهذا البيت قد كثر الاستدلال به على الحذف ، إلا أن البغدادي أفاد فائدة جيدة فقال : " وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في أكثر الروايات ، وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة أبيات ثمانية ، رواها المبرد من قصيدة لأمرئ القيس ، ورأينا أن نقتصر عليها ، وهي : بَعَثْتُ إلَيْها والنُّجوم خَوَاضِعٌ ... حِذَارًا عَلَيْهَا أنْ تَقُومَ فَتَسْمَعَا
فَجَاءتْ قَطُوفَ المَشْيِ هَائِبَةَ السُّرَى ... يُدَافِعُ رُكْنَاهَا كَوَاعِبَ أرْبَعَا
يُزَجِّيهَا مَشْىَ النَّزِيفِ وَقَدْ جَرَى ... صُبَابُ الكَرَى فِي مُخِّهِ فَتَقَطَّعَا
تَقُولُ وَقَدْ جَرَّدْتُهَا مِنْ ثِيَابِهَا ... كَمَا رُعْتَ مَكْحُولَ المَدَامِع أَتْلَعَا
أَجِدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلكِنْ لم نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
إِذَنْ لَرَدَدْنَاهُ ، وَلَوْ طَالَ مَكْثُهُ ... لَدَيْنَا ، وَلَكِنَّا بِحُبِّكَ وُلَّعَا
فَبِتْنَا تَصُدُّ الوُحْشُ عَنَّا ، كَأَنَّنَا ... قَتِيلاَنِ لم يَعْلَمْ النَّاسُ لَنَا مَصْرَعَا
إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ ، أَمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الهَوْلِ أرْوَعَا
هذا ما قاله البغدادي ، وفيه قول لا يتسع له هذا المكان ، ولكن فيه فائدة تقيد .

(15/277)


أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)

وقوله : (أولئك يؤمنون به) ، يقول : هؤلاء الذين ذكرت ، يصدقون ويقرّون به ، إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون : إن محمدًا افتراه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن يكفر بهذا القرآن ، فيجحد أنه من عند الله (من الأحزاب) وهم المتحزّبة على مللهم (1) (فالنار موعده) ، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) انظر تفسير " الحزب " فيما سلف 1 : 244 / 10 : 428 .

(15/278)


(فلا تك في مرية منه) ، يقول : فلا تك في شك منه ، (1) من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ ، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله.
ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال : إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك ، يا محمد ، الحقّ من ربك لا شك فيه ، ولكنّ أكثر الناس لا يصدِّقون بأن ذلك كذلك.
* * *
فإن قال قائل : أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من أن القرآن من عند الله ، وأنه حق ، حتى قيل له : " فلا تك في مرية منه " ؟
قيل : هذا نظير قوله : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ ) [ سورة يونس : 94] ، وقد بينا ذلك هنالك. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18073 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب قال : نبئت أن سعيد بن جبير قال : ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب الله تعالى ، حتى قال " لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصرانيّ ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار " . قال سعيد ، فقلت : أين هذا في كتاب الله ؟ حتى أتيت على هذه الآية : (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال : من أهل الملل كُلّها.
18074 - حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي ، وابن وكيع قالا حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : (ومن
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة ( مري ) .
(2) انظر ما سلف قريبًا ص : 200 - 203 .

(15/279)


يكفُر به من الأحزاب) ، قال : من الملل كلها.
18075 - حدثني يعقوب ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وَجهه ، إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن ، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار " ، فجعلت أقول : أين مصداقُها ؟ حتى أتيت على هذه : (أفمن كان على بينة من ربه) ، إلى قوله : (فالنار موعده) ، قال : فالأحزاب ، الملل كلها.
18076 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، حدثني أيوب ، عن سعيد بن جبير قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار " ، فجعلت أقول : أين مصداقها في كتاب الله ؟ قال : وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن ، حتى وجدت هذه الآيات : (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، الملل كلها. (1)
18077 - . . .. قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال : الكفارُ أحزابٌ كلهم على الكفر.
18078 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) ، [سورة الرعد : 36] ، أي :
__________
(1) الآثار : 18073 - 18077 - هذه الآثار عن سعيد بن جبير ، والتي روى فيها الخبر مرسلا ، رواه الحاكم في المستدرك 2 : 342 ، موصولا مرفوعًا من حديث ابن عباس . وذلك من طريق عبد الرازق ، عن معمر ، عن أبي عمرو البصري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقال الحاكم " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وانظر حديث أبي هريرة ، في صحيح مسلم 2 : 186 ، وما سيأتي من حديث أبي موسى رقم : 18079 .

(15/280)


يكفر ببعضه ، وهم اليهود والنصارى. قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم يموت قبل أن يؤمن بي ، إلا دخل النار " .
18079 - حدثني المثنى قال ، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني ، فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 18079 - " يوسف بن عدي النصري " ، هكذا في المخطوطة غير منقوط ، وفي المطبوعة : " النضري " ولا أدري من أين أتى بإعجامه هذا . والذي مر بنا في الخبر رقم : 10309 ، رواية المثنى ، عن يوسف بن عدي ، عن ابن المبارك " وظننت هناك أنه : " يوسف بن عدي بن رزيق التيمي " ، فلا أدري ما هذه النسبة التي هنا ، إلا أني أظن أنها " المصري " ، لأن " يوسف بن عدي " ، وإن يكن كوفيًا ، إلا أنه سكن مصر ، ومات بها سنة 232 .وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4 : 396 ، عن طريق محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، بهذا اللفظ . ومثله 4 : 398 ، من طريق عفان ، عن شعبة .وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 261 ، 262 ، مطولا ، وفيه من قول أبي موسى الأشعري : " فقلت : ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا في كتاب الله عز وجل ، فقرأت فوجدت : {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } ، فهذا نحو ما قاله سعيد بن جبير في الآثار السالفة . وقال الهيثمي بعد : " رواه الطبراني ، واللفظ له ، وأحمد بنحوه في الروايتين ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، والبزار أيضًا باختصار " .

(15/281)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب عليه ؟ (1) (أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) يعرضون يوم القيامة على ربهم " ، (2) فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون ، كما :
18080 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ، قال : الكافر والمنافق ، (أولئك يعرضون على ربهم) ، فيسألهم عن أعمالهم.
* * *
وقوله : (ويقول الأشهاد) ، يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون وهم جمع " شاهد " مثل " الأصحاب " الذي هو جمع " صاحب " (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، يقول : شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على الله في الدنيا ، فيقولون : هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم ، يقول الله : (ألا لعنة الله على الظالمين) ، يقول : ألا غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم.
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله(ويقول الأشهاد) ، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " افترى " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يكذبون على ربهم " ، والأجود أن تبقى على سياقة الآية .

(15/282)


*ذكر من قال ذلك :
18081 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ويقول الأشهاد) ، قال : الملائكة.
18082 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الملائكة.
18083 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ويقول الأشهاد) ، والأشهاد : الملائكة ، يشهدون على بني آدم بأعمالهم.
18084 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (الأشهاد) ، قال : الخلائق أو قال : الملائكة.
18085 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
18086 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (ويقول الأشهاد) ، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، حفظوه وشهدوا به عليهم يوم القيامة قال ابن جريج : قال مجاهد : " الأشهاد " ، الملائكة.
18087 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش عن قوله : (ويقول الأشهاد) ، قال : الملائكة.
18088 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ويقول الأشهاد) ، يعني الأنبياء والرسل ، وهو قوله : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) ، [سورة النحل : 89] . قال : وقوله : (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، يقولون : يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا ، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك يا ربنا.

(15/283)


18089 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وهشام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز المازني قال ، بينا نحن بالبيت مع عبد الله بن عمر ، وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ (1) فقال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كَنَفه فيقرّره بذنوبه ، فيقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : رب أعرف ! (2) مرتين ، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . قال : فيعطى صحيفة حسناته أو : كتابه بيمينه. وأما الكفار والمنافقون ، فينادى بهم على رءوس الأشهاد : " ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " . (3)
18090 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (4)
18091 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ ، فيخفى خزيُه على أحد ممن خلق لله أو : الخلائق.
* * *
__________
(1) مضى في رقم : 6497 : " أما سمعت " .
(2) مضى في رقم : 6497 : " رب اغفر " ، مكان " رب أعرف " .
(3) الأثر : 18089 - مضى هذا الخبر بإسناده ، وتخريجه في رقم : 6497 ( ج 6 : 119 ، 120 ) .
(4) الأثر : 18090 - مضى هذا الإسناد برقم : 6497 ، أيضًا .

(15/284)


الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) }
قال أبو جعفر : يقولا تعالى ذكره : ألا لعنة الله على الظَّالمين الذين يصدّون الناسَ ، عن الإيمان به ، والإقرار له بالعبودة ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، من مشركي قريش ، وهم الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه (1) . (ويبغونها عوجًا) ، يقول : ويلتمسون سبيل الله ، وهو الإسلام الذي دعا الناس إليه محمد ، (2) يقول : زيغًا وميلا عن الاستقامة. (3) (وهم بالآخرة هم كافرون) ، يقول : وهم بالبعث بعد الممات مع صدهم عن سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا (كافرون ) يقول : هم جاحدون ذلك منكرون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 14 : 216 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بغى " فيما سلف 14 : 283 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(3) انظر تفسير " العوج " فيما سلف 7 : 53 ، 54 / 12 : 448 ، 559 .

(15/285)


أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) }
قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) ، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله ، يقول جل ثناؤه : إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم ، ولكنهم في قبضته وملكه ، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه

(15/285)


هربًا إذا طلبهم (1) (وما كان لهم من دون الله من أولياء) ، يقول : ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله ، (2) ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذبهم ، وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء وقوله : (يضاعف لهم العذاب) ، يقول تعالى ذكره : يزاد في عذابهم ، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان. (3)
* * *
وقوله : (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، فإنه اختلف في تأويله.
فقال بعضهم : ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم ، وأنهم لا يسمعون الحق ، ولا يبصرون حجج الله ، سَمَاعَ منتفع ، ولا إبصارَ مهتدٍ.
*ذكر من قال ذلك :
18092 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، صم عن الحقّ فما يسمعونه ، بكم فما ينطقون به ، عمي فلا يبصرونه ، ولا ينتفعون به
18093 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، قال : ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به ، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به
18094 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك ، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا ، فإنه قال : (ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص : 102 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(3) انظر تفسير " المضاعفة " فيما سلف 12 : 417 - 419 .

(15/286)


يستطيعون السمع) ، وهي طاعته (وما كانوا يبصرون) . وأما في الآخرة ، فإنه قال : (فلا يستطيعون خاشعة) ، [سورة القلم : 42 ، 43].
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : (وما كان لهم من دون الله من أولياء) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا : معنى الكلام : أولئك وآلهتهم ، (لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، يعني الآلهة ، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه ، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا : و " الباء " كان ينبغي لها أن تدخل ، لأنه قد قال : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) ، [سورة البقرة : 10] ، بكذبهم ، في غير موضع من التنزيل أدخلت فيه " الباء " ، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام : " لأجزينَّك ما علمت ، وبما علمت " ، (1) وهذا قول قاله بعض أهل العربية.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما قاله ابن عباس وقتادة ، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع ، ولا يبصرونه إبصار مهتد ، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين ، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله ، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " كقولك في الكلام : لاحن بما فيك ما علمت وبما علمت " ، وهذا كلام يبرأ بعضه من بعض ، والظاهر أن الفساد كله من الناسخ ، لأنه كتب " لاحن " في آخر الصفحة ، ثم قلب ، وبدأ الصفحة الأخرى . " بما فيك ما عملت " ، وهذا عجب . والصواب الذي أثبته ، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن .

(15/287)


أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم ، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله (1) (وضل عنهم ما كانوا يفترون) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله ، (2) بادعائهم له شركاء ، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم ، وأخذ طريقًا غير طريقهم ، فضَلّ عنهم ، لأنه سلك بهم إلى جهنم ، وصارت آلتهم عدمًا لا شيء ، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبًا أو نحاسًا أو كان لله وليًّا ، فسلك به إلى الجنة ، وذلك أيضًا غير مسلكهم ، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم : " جَرمتُ " ، كسبت الذنب و " جرمته " ، (3)
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة ( خسر ) .
(2) انظر تفسير " الضلال " و " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضلل ) ، ( فرى ) .
(3) انظر ما سلف 9 : 483 - 485 / 10 : 95 ، وكان في المطبوعة : " جرمت " ، " أجرمته " بالألف ، والصواب ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في معاني القرآن .

(15/288)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)

وأن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان ، (1) وفي مواضع " لا بد " كقولهم : " لا جرم أنك ذاهب " ، بمعنى : " لا بد " ، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق ، فقالوا : " لا جَرَم لتقومن " ، بمعنى : حَقًّا لتقومن. (2) فمعنى الكلام : لا منع عن أنهم ، ولا صدّ عن أنهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا في الدنيا بطاعة الله و " أخبتوا إلى ربهم " .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الإخبات " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : وأنابوا إلى ربهم.
*ذكر من قال ذلك :
18095 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) ، قال : " الإخبات " ، الإنابة
18096 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وأخبتوا إلى ربهم) ، يقول : وأنابوا إلى ربهم
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 9 : 483 ، ولكني لم أجد هناك هذا التفصيل الذي ذكره بعد ، ولا أظنه مر شيء منه ، إلا أن يكون فاتني تقييده . وأخشى أن يكون سهوًا من أبي جعفر .
(2) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير هذه الآية ، وهذا بعض كلامه .

(15/289)


وقال آخرون : معنى ذلك : وخافوا.
*ذكر من قال ذلك :
18097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : (وأخبتوا إلى ربهم) ، يقول : خافوا
* * *
وقال آخرون : معناه : اطمأنوا.
*ذكر من قال ذلك :
18098 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأخبتوا إلى ربهم) ، قال : اطمأنوا.
18099 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18100 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : خشعوا.
*ذكر من قال ذلك :
18101 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وأخبتوا إليهم ربهم) ، " الإخبات " ، التخشُّع والتواضع
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال متقاربة المعاني ، وإن اختلفت ألفاظها ، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله ، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة ، والطمأنينة إليه من الخشوع له ، غير أن نفس " الإخبات " ، عند العرب : الخشوع والتواضع.
* * *

(15/290)


مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

وقال : (إلى ربهم) ، ومعناه : وأخبتوا لربهم. وذلك أن العرب تضع " اللام " موضع " إلى " و " إلى " موضع " اللام " كثيًرا ، كما قال تعالى : (بأن ربك أوحى لها) ، [سورة الزلزلة : 5] بمعنى : أوحى إليها. وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك ، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله.
* * *
وقوله : (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم ، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها ، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا ، والأصم الذي لا يسمع شيئًا ، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به ، لشغله بكفره بالله ، وغلبة خذلان الله عليه ، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد ، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به ، فهو مقيمٌ في ضلالته ، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان ، (2) أبصر حجج الله ، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله ، والبراءة من الآلهة والأنداد ، ونبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله ، كما :
18102 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب الجنة " و " الخلود " في فهارس اللغة ( صحب ) ، ( خلد ) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فكذلك فريق الإيمان " ، وكأن الصواب ما اثبت .

(15/291)


والسميع) ، قال : " الأعمى " و " الأصم " : الكافر و " البصير " و " السميع " ، المؤمن
18103 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ، الفريقان الكافران ، والمؤمنان ، فأما الأعمى والأصم فالكافران ، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان
18104 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ، الآية ، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن ، فأما الكافر فصم عن الحق ، فلا يسمعه ، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به ، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به
* * *
يقول تعالى : (هل يستويان مثلا) ، يقول : هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس ؟ فإنهما لا يستويان عندكم ، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله (أفلا تذكرون) ، يقول جل ثناؤه : أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون ، ، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما ، فتنزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ؟
* * *
فالأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، في اللفظ أربعة ، وفي المعنى اثنان. ولذلك قيل : (هل يستويان مثلا) .
وقيل : ( كالأعمى والأصم ) ، والمعنى : كالأعمى الأصمّ ، وكذلك قيل(والبصير والسميع) ، ، والمعنى : البصير السميع ، كقول القائل : " قام الظريف والعاقل " ، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا.
* * *

(15/292)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه : إني لكم ، أيها القوم ، نذير من الله ، أنذركم بأسَه على كفركم به ، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ويعني بقوله : (مبين) ، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه. (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (إني) .
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض المدنيين بكسر " إنّ " على وجه الابتداء إذ كان في " الإرسال " معنى " القول " .
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح " أن " على إعمال الإرسال فيها ، كأن معنى الكلام عندهم : لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن يقال إنهما قراءتان متفقتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك.
* * *
وقوله : (أن لا تعبدوا إلا الله) فمن كسر الألف في قوله : (إني) جعل قوله : (أرسلنا) عاملا في " أنْ " التي في قوله : (أن لا تعبدوا إلا الله) ، ويصير
__________
(1) انظر تفسير " نذير " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( نذر ) ، ( بين ) .

(15/293)


المعنى حينئذ : ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه ، أن لا تعبدوا إلا الله ، وقل لهم : إني لكم نذير مبين ومن فتحها ردّ " أنْ " في قوله : (أن لا تعبدوا) عليها. فيكون المعنى حينئذ : لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين ، بأن لا تعبدوا إلا الله.
* * *
ويعني بقوله : [بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس] ، عبادة الآلهة والأوثان ، (1)
وإشراكها في عبادته ، وأفردوا الله بالتوحيد ، وأخلصوا له العبادة ، فإنه لا شريك له في خلقه.
* * *
وقوله : (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) ، يقول : إني أيها القوم ، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة ، وتفردوه بالتوحيد ، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه.
* * *
وجعل " الأليم " من صفة " اليوم " وهو من صفة " العذاب " ، إذ كان العذاب فيه ، كما قيل : ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) ، [سورة الأنعام : 96] ، وإنما " السكن " من صفة ما سكن فيه دون الليل.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة ، والسقط فيها ظاهر بين ، وكأن الصواب إن شاء الله :
" ويعني بقوله : ( أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ) ، أي : اتركوا عبادة الآلهة . . . "

(15/294)


فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم وهم(الملأ ) ، (1) الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة نبيهم نوح عليه السلام (ما نراك) ، يا نوح ، (إلا بشرًا مثلنا) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس ، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه. (2)
* * *
وقوله : (وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) ، يقول : وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس ، دون الكبراء والأشراف ، فيما نرَى ويظهر لنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص : 177 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " البشر " فيما سلف 11 : 521 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/295)


وقوله : (بادي الرأي) ، اختلفت القراء في قراءته.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق : ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) ، بغير همز " البادي " وبهمز " الرأي " ، بمعنى : ظاهر الرأي ، من قولهم : " بدا الشيء يبدو " ، إذا ظهر ، كما قال الراجز : (1)
أَضْحَى لِخَالِي شَبَهِيَ بَادِي بَدِي... وَصَارَ لِلْفَحْلِ لِسَانِي وَيَدِي (2)
" بادي بدي " بغير همز ، وقال آخر :
وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة : (بَادِئَ الرَّأْيِ) ، مهموزًا أيضًا ، بمعنى : مبتدأ الرأي ، من قولهم : " بدأت بهذا الأمر " ، إذا ابتدأت به قبل غيره.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ : ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) بغير همز " البادي " ، وبهمز " الرأي " ، لأن معنى ذلك الكلام : إلا الذين هم أراذلنا ، في ظاهر الرأي ، وفيما يظهر لنا.
* * *
وقوله : (وما نرى لكم علينا من فضل) ، يقول : وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له ، فنتبعكم
__________
(1) أبو نخيلة السعدي .
(2) هذا الرجز والذي يليه ، من رجز أبي نخيلة السعدي ، لا شك في البيت الثاني منهما ، أما الأول فإني أرتاب في صحة إنشاده ، على الوجه الذي أنشده الفراء في معاني القرآن . وقد خرج هذا الرجز ، صديقنا وشيخنا عبد العزيز الميمني الراجكرتي في سمط اللآلئ : 293 ، 480 ، وفي اللسان ( ذرأ ) ، وتهذيب إصلاح المنطق 2 : 32 ، وسيبويه 2 : 54 ، ونوادر اليزيدي : 128 ، والأغاني ( ساسي) 18 : 151 ، وتاريخ ابن عساكر 2 : 321 وأزيد ، تاريخ الطبري 9 : 273 ، والمعاني الكبير : 1223 ، والفراء في معاني القرآن ، ومجاز القرآن 1 : 288 ، واللسان ( بدا ) ، والأبيات هي : كَيْفَ التَّصَابِي فِعْلَ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ ... وَقَد عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بَادِي بَدى
وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدِي ... بَعْدَ انْتِهَاضِي في الشَّبَابِ الأمْلَدِ
وَبَعْدَ مَا أَذْكُرُ مِنْ تَأَوُّدِي ... وَبَعْدَ تَمْشَائِي وتَطْوِيحِي يَدِي
وَمِشْيَتِي تَحْتَ الغُدَافِ الأسْوَدِ
وذكرها صاحب اللسان في ( بدا ) ، والتبريزي في تهذيب إصلاح المنطق ، وزاد بعد قوله " ورثية تنهض في تشددي
وصار للفحل لساني ويدي
أما البيت الأول ، فلم أجده في مكان ، وأخشى أن تكون " بادي بدى " فيه ، موضوعة مكان كلمة أخرى ، ولا شك أن موضع هذين البيتين ، ليس في الموضع الذي وضع أحدهما فيه صاحب اللسان والتبريزي .
(3) انظر التعليق السالف . و " الذرأة " ( بضم فسكون ) ، الشيب في مقدم الرأس .

(15/296)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)

طلبَ ذلك الفضل ، وابتغاءَ ما أصبتموه بخلافكم إيانا (بل نظنكم كاذبين).
* * *
وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام ، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه ، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع ، كما قيل : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) ، [ سورة الطلاق : 1] .
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : بل نظنك ، يا نوح ، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله(بادي الرأي) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18105 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، قال : فيما ظهر لنا
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه ، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب عليّ من

(15/297)


إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها (وآتاني رحمة من عنده) ، يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني (1) (فعميت عليكم) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة : (فَعَمِيَتْ) بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقرّوا بها ، وتصدّقوا رسولكم عليها.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم ، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله ، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله : (فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ ) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) ، فأضَاف " الرحمة " إلى الله ، فكذلك " تعميته على الآخرين " ، بالإضافة إليه أولى.
* * *
وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق ، إذ يعمى عن إبصاره ، و " الحق " لا يوصف بالعمى ، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم : " دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي " ، ومعلوم أن الرجل هي
__________
(1) انظر تفسير ما سلف من ألفاظ الآية في فهارس اللغة .

(15/298)


التي تدخل في الخفّ ، والإصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلومًا المرادُ فيه. (1)
* * *
وقوله : (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) ، يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه الله عليكم (وأنتم لها كارهون) ، (2) يقول : وأنتم لإلزامناكُموها " كارهون " ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
18106 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال نوح : (يا قوم إن كنت على بينة من ربي) ، قال : قد عرفتها ، وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو (وآتاني رحمة من عنده) ، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة
18107 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، الآية ، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه
18108 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية قال : في قراءة أبيّ : ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) .
18109 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) هذا اختصار مقالة الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " عليكم لها كارهون " ، والجيد ما أثبت ، بزيادة : " وأنتم " .
(3) انظر تفسير " الكره " فيما سلف من فهارس اللغة ( كره ) .

(15/299)


الزبير ، عن ابن عيينة قال ، أخبرنا عمرو بن دينار قال ، قرأ ابن عباس : ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا) ، قال ، عبد الله : " من شَطْر أنفسنا " ، من تلقاء أنفسنا.
18110 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، مثله.
18111 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ ) . (1)
* * *
__________
(1) هذه القراءة التي مرت في الأخبار السالفة ، بالزيادة في الآية ، قراءة شاذة لزيادتها على المصحف ، لا يحل لأحد أن يقرأ بها وظني أن قوله : " من شطر أنفسنا " ، أو : " من شطر قلوبنا " تفسير مدرج في كتابة الآية ، وليس قراءة .

(15/300)


وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) }
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل نوح لقومه ، أنه قال لهم : يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم ، ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، مالا أجرًا على ذلك ، فتتهموني في نصيحتي ، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا (إن أجري إلا على الله) ، يقول : ما ثواب نصيحتي لكم ، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه ، إلا على الله ، فانه هو الذي يجازيني ، ويثيبني عليه (وما أنا بطارد الذين آمنوا) ، وما أنا بمقصٍ من آمن بالله ،

(15/300)


وأقرّ بوحدانيته ، وخلع الأوثان وتبرأ منها ، بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم (إنهم ملاقو ربهم) ، يقول : إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم ، صائرون إلى الله ، والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون ، لا عن شرفهم وحسبهم.
* * *
وكان قيل نوح ذلك لقومه ، لأن قومه قالوا له ، كما : -
18112 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) ، قال : قالوا له : يا نوح ، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم ، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء . فقال : (ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) ، فيسألهم عن أعمالهم
18113 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، وحدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح جميعا ، عن مجاهد قوله : (إن أجري إلا على الله) ، قال : جَزَائي.
18114 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18115 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقوله : (ولكني أراكم قومًا تجهلون) ، يقول : ولكني ، أيها القوم ، أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله ، واللازم لكم من فرائضه. ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله.
* * *

(15/301)


وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) }
قال أبو جعفر : يقول : (ويا قوم من ينصرني) ، فيمنعني من الله إن هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحِّدين الله إن طردتهم ؟ (أفلا تذكرون) ، يقول : أفلا تتفكرون فيما تقولون : فتعلمون خطأه ، فتنتهوا عنه ؟.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر : وقوله : (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ، عطف على قوله : (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا).
* * *
ومعنى الكلام : (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا) ، (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) ، التي لا يفنيها شيء ، فأدعوكم إلى اتباعي عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب يعني : ما خفي من سرائر العباد ، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي.ولا أقول أيضًا : إني ملك من الملائكة ، أرسلت إليكم ، فأكون كاذبًا في دعواي ذلك ، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون ، أمرت بدعائكم إلى الله ، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا) يقول : ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحَّدوه ،

(15/302)


قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)

الذين تستحقرهم أعينكم ، وقلتم : إنهم أراذلكم (لن يؤتيهم الله خيرًا) ، وذلك الإيمان بالله (الله أعلم بما في أنفسهم) ، يقول : الله أعلم بضمائر صدورهم ، واعتقاد قلوبهم ، وهو وليّ أمرهم في ذلك ، وإنما لي منهم ما ظهر وبدا ، وقد أظهُروا الإيمان بالله واتبعوني ، فلا أطردهم ولا أستحل ذلك (إني إذا لمن الظالمين) ، يقول : إنّي إن قلت لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي : (لن يؤتيهم الله خيرًا) ، وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير علم منّي بما في نفوسهم ، وطردتهم بفعلي ذلك ، لمن الفاعلين ما ليس لهم فعله ، المعتدين ما أمرهم الله به ، وذلك هو " الظلم " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18116 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) التي لا يفينها شيء ، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها ولا أقول إني ملك نزلت من السماء برسالة ، ما أنا إلا بشر مثلكم.(ولا أعلم الغيب) ، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قوم نوح لنوح عليه السلام : قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا ، (1) فأتنا بما تعدنا من العذاب ، إن كنت من
__________
(1) انظر تفسير " الجدال " فيما سلف 12 : 523 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/303)


قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

الصادقين في عِداتك ودَعواك أنك لله رسول. يعني : بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك.
* * *
18117 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (جادلتنا) ، قال : ماريتنا.
18118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18119 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18120 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : (قالوا يا نوح قد جادلتنا) ، قال : ماريتنا (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) قال ابن جريج : تكذيبًا بالعذاب ، وأنه باطلٌ(فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) ، قال ابن جريج : تكذيبًا بالعذاب ، وأنه باطلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال نوح لقومه حين استعجلوه العذاب : يا قوم ، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ ، إنما ذلك إلى الله لا إلى غيره ، هو الذي يأتيكم به إن شاء (وما أنتم بمعجزين) يقول : ولستم إذا أراد

(15/304)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

تعذيبكم بمعجزيه ، أي بفائتيه هربًا منه ، لأنكم حيث كنتم في ملكه وسلطانه وقدرته ، حكمهُ عليكم جارٍ (1) (ولا ينفعكم نصحي) ، يقول : ولا ينفعكم تحذيري عقوبته ، ونزولَ سطوته بكم على كفركم به (إن أردت أن أنصح لكم) ، في تحذيري إياكم ذلك ، لأن نصحي لا ينفعكم ، لأنكم لا تقبلونه. (2) (إن كان الله يريد أن يغويكم) ، يقول : إن كان الله يريد أن يهلككم بعذابه (هو ربكم وإليه ترجعون) ، يقول : وإليه تردُّون بعد الهلاك. (3)
* * *
حكي عن طيئ أنها تقول : " أصبح فلان غاويًا " : أي مريضًا.
وحكي عن غيرهم سماعًا منهم : " أغويت فلانًا " ، بمعنى أهلكتَه و " غَوِيَ الفصيل " ، إذا فقد اللبن فمات.
وذكر أن قول الله : ( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ، [سورة مريم : 59] ، أي هلاكًا. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك : افترى محمد هذا القرآن ؟ وهذا الخبر عن نوح ؟ قل لهم : إن افتريته فتخرصته واختلقته (5)
(فعليّ إجرامي) يقول : فعلي إثمي في افترائي ما افتريت
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص : 286 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " نصحت لك " فيما سلف 3 : 212 .
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف من فهارس اللغة ( رجع ) .
(4) انظر تفسير " غوى " فيما سلف 12 : 333 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " الافتراء " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( فري ) .

(15/305)


وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

على ربّي دونكم ، لا تؤاخذون بذنبي ولا إثمي ، ولا أؤاخذ بذنبكم.(وأنا بريء مما تجرمون) ، يقول : وأنا بريء مما تذنبون وتأثَمُون بربكم ، من افترائكم عليه.
* * *
ويقال منه : " أجرمت إجرامًا " ، و " جرَمْت أجرِم جَرْمًا " ، (1) كما قال الشاعر : (2)
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأوحَى الله الله إلى نوح ، لمّا حَقّ على قومه القولُ ، وأظلَّهم أمرُ الله ، أنه لن يؤمن ، يا نوح ، بالله فيوحِّده ، ويتبعك على ما تدعوه إليه (من قومك إلا من قد آمن) ، فصدّق بذلك واتبعك.(فلا تبتئس) ، يقول : فلا تستكن ولا تحزن (بما كانوا يفعلون) ، فإني مهلكهم ، ومنقذك منهم ومن اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه ، بعد ما دعا عليهم نوحٌ بالهلاك فقال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ، [سورة نوح : 26] .
* * *
وهو " تفتعل " من " البؤس " ، يقال : " ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسًا " :
__________
(1) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة ( جرم ) .
(2) هو الهيردان بن خطار بن حفص السعدي ، اللص ، وضبط اسمه بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وضم الراء .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 288 ، واللسان ( جرم ) .

(15/306)


كما قال لبيد بن ربيعة :
فِي مَأْتَمٍ كَنِعَاجِ صَا... رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقَيْنا (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18121 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلا تبتئس) ، قال : لا تحزن.
18122 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد مثله.
18123 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ، يقول : فلا تحزن.
18124 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ، قال : لا تأسَ ولا تحزن.
18125 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ، وذلك حين
__________
(1) ديوانه 2 : 46 ( القصيدة : 35 ، البيت : 21 ) ، اللسان ( يأس ) قصيدة له ، يذكر بنته أو امرأته وحالها بعد موته : وَحَذِرْتُ بَعْدَ المَوْتِ يَوْ ... مَ تَشِينُ أَسْمَاءُ الجَبِينَا
فِي رَبْرَبٍ كَنِعَاجِ صَارَ ... ةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينَا
مُتَسَلِّبَاتٍ فِي مُسُوحِ ... الشَّعْرِ أَبْكَارًا وَعُونَا
وهذا شعر ، حسبك به من شعر ! .

(15/307)


وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)

دعا عليهم قال( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ، [سورة نوح : 26] قوله : (فلا تبتئس) ، يقول : فلا تأسَ ولا تحزن.
18126 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ، فحينئذ دعا على قومه ، لما بيَّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، وأن اصنع الفلك ، وهو السفينة ، (1) كما :
18127 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الفلك : السفينة .
* * *
وقوله : (بأعيننا) ، يقول : بعين الله ووحيه كما يأمرك ، كما : -
18127 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. (2)
18128 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12 : 503 / 15 : 50 ، 153 .
(2) " جؤجؤ الطائر " ( بضم الجيم ، ثم سكون الهمزة ، ثم ضم الجيم ) : هو صدره .

(15/308)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ووحينا) ، قال : كما نأمرك.
18129 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (بأعيننا ووحينا) ، كما نأمرك.
18130 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ، قال : بعين الله ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : (ووحينا) ، قال : كما نأمرك.
18131 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (بأعيننا ووحينا) ، قال : بعين الله ووحيه.
* * *
وقوله : (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) ، يقول تعالى ذكره : ولا تسألني في العفو عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من قومك ، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله الهلاك بالغرق ، إنهم مغرقون بالطوفان ، كما : -
18132 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (ولا تخاطبني) ، قال : يقول : ولا تراجعني. قال : تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده. (1)
* * *
__________
(1) " تقدم " ، يعني أمره بذلك .

(15/309)


وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويصنع نوح السفينة ، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء قومه (1) (سخروا منه) ، يقول : هزئوا من نوح ، ويقولون له : أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة ، وتعمل السفينة في البر ؟ فيقول لهم نوح : (إن تسخروا منا) ، إن تهزءوا منا اليوم ، فإنا نهزأ منكم في الآخرة ، كما تهزءون منا في الدنيا (2) (فسوف تعلمون) ، إذا عاينتم عذابَ الله ، مَن الذي كان إلى نفسه مُسِيئًا منَّا .
* * *
وكانت صنعة نوح السفينة ، كما : -
18133 - حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا موسى بن يعقوب قال ، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع : أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة ، أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، حتى كان آخر زمانه غَرس شجرةً ، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعل يعمل سفينة ، ويمرُّون فيسألونه ، فيقول : أعملها سفينة ! فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينةً في البر فكيف تجري ! فيقول : سوف تعلمون. فلما فرغ منها ،
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص : 295 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " سخر " فيما سلف 14 : 382 ، تعليق : 2 .

(15/310)


وفارَ التنور ، وكثر الماء في السكك ، خشيت أمُّ الصبيِّ عليه ، وكانت تحبّه حبًّا شديدًا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثُلُثه . فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل . فلما بلغها الماء خرجت ، حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعتْه بين يديها ، حتى ذهب بها الماء . فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبيّ . (1)
18134 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعًا ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا ، وبابها في عرضها
18135 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ست مائة ذراع.
18136 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الأثر : 18133 - " ابن أبي مريم " ، هو : " سعيد بن أبي مريم " ، ثقة : روى له الجماعة ، سلف مرارًا ، آخرها : 12771 . " وموسى بن يعقوب بن يعقوب الزمعي " ، ثقة ، متكلم فيه ، مضى توثيقه برقم : 9923 ، ورقم : 15756 ، 15822 ، وقال علي بن المديني : " ضعيف الحديث ، منكر الحديث " ، وقال الأثرم : سألت أحمد عنه ، فكأنه لم يعجبه . " وفائد ، مولى عبيد الله بن بن علي بن أبي رافع ، عبادل " ، وهو " فائد ، مولى عبادل " ، ثقة لا باس به . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 131 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 84 . " وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي " ، هو " إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة " ، ثقة ، روى عن خالته عائشة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 296 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 111 .هذا إسناد " حسن " . ورواه الطبري بهذا الإسناد نفسه في تاريخه 1 : 91 . وقد رواه من هذه الطريق نفسها ، الحاكم في المستدرك 2 : 342 ، 547 ثم قال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ، ولكن الذهبي قال : " إسناده مظلم . وموسى ، ليس بذاك " ، وهذا شديد ، وأقرب منه ما قاله ابن كثير في تفسيره 4 : 367 ، 368 ، ورواه عن هذا الموضع من تفسير الطبري ، ومن تفسير الحبر أبي محمد بن أبي حاتم ، ثم قال : " وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وقد روى عن كعب الأحبار ، ومجاهد بن جبير ، قصة هذا الصبي وأمه بنحو هذا " . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 200 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي ، وثقه ابن معين وغيره ، وضعفه ابن المديني ، وبقية رجاله ثقات " .

(15/311)


مفضل بن فضالة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قال الحواريُّون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدَّثنا عنها ! قال : فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب حام بن نوح. قال : فضرب الكثيب بعصاه ، قال : قم بإذن الله ! فإذا هو قائمٌ ينفُض التراب عن رأسه قد شَابَ ، قال له عيسى : هكذا هلكت ؟ قال : لا ولكن مِتُّ وأنا شابّ ، ولكني ظننت أنها الساعة ، فمن ثَمَّ شِبتُ. قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع ، وعرضها ست مائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدوابُّ والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدوابِّ ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذَنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الرَّوْث. فلما وقع الفأر بجَرَز السفينة يقرضه ، (1) أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سِنَّور وسنّورة ، فأقبلا على الفأر ، فقال له عيسى : كيف علم نوح أنّ البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغرابَ يأتيه بالخبر ، فوجد جيفةً فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت قال : فطوَّقَها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنسٍ وأمان ، فمن ثم تألف البيوت. قال : فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا ، فيجلس معنا ، ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عُدْ بإذن الله ، قال : فعاد ترابًا. (2)
18137 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي : أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " ، حتى إذا تمادوا في المعصية ، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن ، واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر النَّجْل بعد النَّجْل ، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله ، حتى إن كان الآخر منهم ليقول : " قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونًا " ! لا يقبلون منه شيئًا . حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى ، كما قص الله علينا في كتابه : ( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ) ، إلى آخر القصة ، حتى قال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ) ، إلى آخر القصة [سورة نوح : 5 - 27]. فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم ، أوحى الله إليه( أن اصطنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ، أي : بعد اليوم ، (إنهم مغرقون) . فأقبل نوح على عمل الفلك ، ولَهِيَ عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ، ويضرب الحديد ، ويهيئ عدة الفلك من القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو ، وجعل قومه يمرُّون به وهو في ذلك من عمله ، فيسخرون منه ويستهزئون به ، فيقول : (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمونَ من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ
__________
(1) في المطبوعة " بحبل السفينة " ، وفي المخطوطة : " يحرر " غير منقوطة ، ورأيت أن أقرأها كذلك ، و " الجرز " ( بفتح الجيم والزاي ) صدر الإنسان أو وسطه ، كما قالوا له : " الجؤجؤ " ، وهو صدر الطائر . وفي تاريخ الطبري " بخرز " ، كأن جمع " خرزة " .
(2) الأثر 18136 - " المفضل بن فضالة بن أبي أمية القرشي " ليس بذاك ، وقيل : في حديثه نكارة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 405 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 317 ، وميزان الاعتدال 3 : 195 . " وعلي بن زيد بن جدعان " ، سلف مرارًا ، آخرها رقم : 17861 ، وقد ذكرت هناك توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله ، له . وذكرت تضعيف الأئمة لحديثه ، ورجحت أن يعتبر بحديثه . وهذا خبر لا شك أنه من بقية أخبار بني إسرائيل وأشباههم ، لا يبلغ أن يكون شيئا .
ورواه الطبري في تاريخه 1 : 91 ، 92 .

(15/312)


عليه عذاب مقيم) ، قال : ويقولون فيما بلغني : يا نوح قد صرت نجَّارًا بعد النبوّة ! قال : وأعقم الله أرحام النساء ، فلا يولد لهم ولد. قال : ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب السّاج ، وأن يصنعه أزْوَر ، (1) وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا ، وأن يجعله ثلاثة أطباق : سفلا ووسطًا وعلوًا ، وأن يجعل فيه كُوًى. ففعل نوح كما أمره الله ، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه(إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) وقد جعل التَّنُّور آية فيما بينه وبينه ، فقال : (إذا جاء أمرنا وفار التَّنُّور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) ، واركب. فلما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله ، وكانوا قليلا كما قال الله ، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ، ذكر وأنثى ، فحمل فيه بنيه الثلاثة : سام وحام ويافث ونساءهم ، وستة أناس ممن كان آمن به ، فكانوا عشرة نفر : نوح وبنوه وأزواجهم ، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ ، وتخلف عنه ابنه يَام ، وكان كافرًا. (2)
18138 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : سمعته يقول : كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الذرّة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلما أدخل الحمار وأدخَل صدره ، تعلق إبليس بذنبه ، (3) فلم تستقلّ رجلاه ، فجعل نوح يقول : ويحك ادخل ! فينهض فلا يستطيع. حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ! قال : كلمة زلَّت عن لسانه ، فلما قالها نوح خلَّي الشيطان سبيله ، فدخل ودخل الشيطانُ معه ، فقال
__________
(1) " أزور " ، من " الزور " ، (بفتح فسكون ) وهو الصدر ، و " الزور " ( بفتحتين ) ، وهو عوج الزور ، وهو أن يستدق جوشن الصدر ، ويخرج الكلكل ، كأنه عصر من جانبيه .
(2) الأثر : 18137 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 92 ، 93 .
(3) في المطبوعة : " فلما دخل الحمار وأدخل رأسه مسك إبليس " ، وفي المخطوطة : " فلما أدخل الحمار ، وأدخل صدره إبليس بذنبه " ، الأولى " أدخل " ، وبين الكلامين بياض ، وأثبت الصواب من تاريخ الطبري .

(15/314)


له نوح : ما أدخلك عليّ يا عدوَّ الله ؟ فقال : ألم تقل : " ادخل وإن كان الشيطان معك " ؟ قال : اخرج عنّي يا عدوّ الله ! فقال : ما لك بدٌّ من أن تحملني ! فكان ، فيما يزعمون ، في ظهر الفلك ، فلما اطمأن نوح في الفلك ، وأدخل فيه من آمن به ، وكان ذلك في الشهر . . . . (1) من السنة التي دخل فيها نوح بعد ست مائة سنة من عمره ، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر ، فلما دخل وحمل معه من حمل ، تحرك ينابيع الغوط الأكبر ، (2) وفتح أبواب السماء ، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) ، [ سورة القمر : 11 - 12] . فدخل نوح ومن معه الفلك ، وغطاه عليه وعلى من معه بطَبَقه ، (3) فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون ليلة ، ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة ، وكثر الماء واشتد وارتفع ، يقول الله لمحمد : ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) ، [سورة القمر : 13] ، و " الدسر " ، المسامير ، مسامير الحديد فجعلت الفلك تجري به ، وبمن معه في موج كالجبال ، ونادي نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك ، وكان في معزلٍ حين رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى ، فقال : (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) ، وكان شقيًّا قد أضمر كفرًا .(قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ، وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من الأمطار إذا كانت ، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد. قال نوح : (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) ، وكثر الماء حتى طغى ، وارتفع فوق الجبال ، كما تزعم أهل التوراة ، بخمسة عشر ذراعًا ، فباد ما على وجه الأرض من الخلق ، من كل شيء فيه الروح أو شجر ، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك ، وإلا عُوج بن عُنُق فيما يزعم أهل الكتاب ، فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليالٍ. (4)
18139 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان قال ابن حميد ، قال سلمة ، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران ، قال : سمعته يقول : لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس ، أمر أن يمسح ذنب الفيل ، فمسحه ، فخرج منه خنزيران ، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك ، فلما آذته ، أمر أن يأمر الأسد يعطس ، فعطس ، فخرج من منخريه هِرّان يأكلان عنه الفأر.
18140 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : لما كان نوح في السفينة ، قرض الفأر حبالَ السفينة ، فشكا نوح ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سِنَّوران. وكان في السفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربه ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران
18141 - حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال ، حدثنا الأسود بن عامر قال ، أخبرنا سفيان بن سعيد ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، بنحوه. (5)
__________
(1) سقط من المخطوطة والمطبوعة عدد الشهر الذي ذكره ، وساق الكلام سياقًا واحدًا ، فوضعت النقط دلالة على هذا السقط ، ولكن هكذا جاء أيضًا في التاريخ .
(2) " الغوط " ( بفتح فسكون ) و " الغائط " ، المتسع من الأرض من طمأنينة ، وهو هنا : عمق الأرض الأبعد .
(3) " الطبق " ، غطاء كل شيء . وكان في المطبوعة : " بطبقة " ، وهو خطأ .
(4) الأثر : 18138 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 93 ، 94 .
(5) الأثر : 18141 - " إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني ، السعدي ، شيخ الطبري ، كان من الحفاظ ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 148 " . " والأسود بن عامر ، شاذان " ، ثقة ، مضى برقم : 13927 .

(15/315)


فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)

18142 - حدثت عن المسيب بن أبي روق ، عن الضحاك ، قال : قال سليمان القراسي : عمل نوح السفينة في أربع مائة سنة ، وأنبت الساج أربعين سنة ، حتى كان طوله أربع مائة ذراع ، والذراع إلى المنكب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَليهِ عَذابٌ مُقيمٌ 39 حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه : (فسوف تعلمون) ، أيها القوم ، إذا جاء أمر الله ، من الهالك ، (من يأتيه عذاب يخزيه) ، يقول : الذي يأتيه عذابُ الله منا ومنكم يهينه ويذله (2) (ويحل عليه عذاب مقيم) ، يقول : وينزل به في الآخرة ، مع ذلك ، عذابٌ دائم لا انقطاع له ، مقيم عليه أبدًا. (3)
* * *
وقوله : (حتى إذا جاء أمرُنا) ، يقول : " ويصنع نوح الفلك " (حتى إذا
__________
(1) الأثر : 18142 - " المسيب " ، هو " المسيب بن شريك التميمي " ، متروك سلف برقم : 16806 . " وسليمان القراسي " ، لم أعرف من يكون .وكان في المخطوطة والمطبوعة : " المسيب بن أبي روق " ، وهو خطأ صرف وسيأتي على الصواب برقم : 18173 .قلت : وهذه الأخبار الآنفة ، كلها رجم من رجم أصحاب الكتب السالفة ، لا خير فيها ، إلا أنهم ربما أثبتوها في كتبهم ، لأنه كان هكذا يروى ، ولكن ما من أحد من أهل العلم يعدها حجة على شيء ، أو مظنة اعتقاد بصحتها .
(2) انظر تفسير " الخزى " فيما سلف من فهارس اللغة ( خزى ) .
(3) انظر تفسير " عذاب مقيم " فيما سلف 10 : 293 / 14 : 174 ، 340 .

(15/317)


جاء أمرنا ) الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم.
* * *
وقوله : (وفار التنور) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : معناه : انبجس الماء من وجه الأرض ( وفار التنور) ، وهو وجه الأرض.
*ذكر من قال ذلك :
18143 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : (وفار التنور) ، قال : (التنور) ، وجه الأرض . قال : قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض ، فاركب أنت ومن معك . قال : والعرب تسمى وجه الأرض : " تنور الأرض " .
18144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن العوام ، عن الضحاك ، بنحوه.
18145 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا الشيباني ، عن عكرمة ، في قوله : (وفار التنور) ، قال : وجه الأرض
18146 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن عكرمة : (وفار التنور) ، قال : وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون : هو تنويرُ الصبح ، من قولهم : " نوَّرَ الصبح تنويرًا " .
*ذكر من قال ذلك :
18147 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عباس مولى أبي جحيفة ، عن أبي جحيفة ، عن

(15/318)


علي رضى الله عنه قوله : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، قال : هو تنوير الصبح.
18148 - حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن زياد مولى أبي جحيفة ، عن أبي جحيفة ، عن علي في قوله : (وفار التنور) ، قال : تنوير الصبح.
18149 - حدثنا حماد بن يعقوب ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن مولى أبي جحيفة أراه قد سماه عن أبي جحيفة ، عن علي : (وفار التنور) قال : تنوير الصبح.
18150 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا هشيم ، عن ابن إسحاق ، عن رجل من قريش ، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه : (وفار التنور) ، قال : طلع الفجر.
* * *
18151 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن رجل قد سمّاه ، عن علي بن أبي طالب قوله : (وفار التنور) ، قال : إذا طلع الفجر.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها بالماء. وقال : " التنور " أشرف الأرض.
*ذكر من قال ذلك :
18152 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، كنا نحدّث أنه أعلى الأرض وأشرَفُها ، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه
18153 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال ، سمعت قتادة قوله : (وفار التنور) قال : أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه.
* * *

(15/319)


وقال آخرون : هو التنور الذي يُخْتَبز فيه.
*ذكر قال ذلك :
18154 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، قال : إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ ، فإنه هلاك قومك.
18155 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي محمد ، عن الحسن قال : كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى نوح . قال : فقيل له : إذا رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ وأصحابك.
18156 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وفار التنور) ، قال : حين انبجس الماء ، وأمر نوحٌ أن يركب هو ومن معه في الفلك.
18157 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وفار التنور) ، قال : انبجس الماء منه ، آيةً ، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
18158 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال : آيةً ، أن يركب أهله ومن معه في السفينة.
18159 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة.
18160 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن ليث ، عن مجاهد قال ، نبع الماء في التنور ، فعلمت به امرأته فأخبرته قال ، وكان ذلك في ناحية الكُوفة.

(15/320)


18161 - . . .. قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا علي بن ثابت ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي : أنه كان يحلف بالله ، ما فار التّنُّور إلا من ناحية الكوفة.
18162 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن النضر أبي عمر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (وفار التنور) ، قال : فار التنُّور بالهند.
18163 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (وفار التنور) ، كان آيةً لنوح ، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ الهلاكُ والغرق.
* * *
وكان ابن عباس يقول في معنى " فار " نبع.
18164 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وفار التنور) ، قال : نبع.
* * *
قال أبو جعفر : و " فوران الماء " سَوْرَة دفعته ، يقال منه : " فار الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا وفَوَرَانًا " ، (1) وذلك إذا سارت دفعته.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله : (التنور) ، قول من قال : " هو التنور الذي يخبز فيه " ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به ، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.
* * *
(قلنا) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا أن نعذبهم به ، وفار التنور
__________
(1) قوله : " وفؤورا " ، حذفها من المطبوعة ، وهي ثابتة في المخطوطة .

(15/321)


الذي جعلنا فورَانه بالماء آيةَ مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه (احمل فيها) ، يعني في الفلك(من كل زوجين اثنين) ، يقول : من كل ذكر وأنثى ، كما : -
18165 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (من كل زوجين اثنين) ، قال : ذكر وأنثى من كل صنف.
18166 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18167 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (من كل زوجين اثنين ) ، فالواحد " زوج " ، و " الزوجين " ذكر وأنثى من كل صنف.
18168 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (من كل زوجين اثنين) ، قال : ذكر وأنثى من كل صنف.
18169 - . . . . قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18170 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، يقول : من كل صنف اثنين.
18171 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (من كل زوجين اثنين) ، يعني بالزوجين اثنين : ذكر أو أنثى.
* * *
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ، " الزوجان " ، في كلام العرب : الاثنان. قال ، ويقال : " عليه زوجَا نِعال " ، إذا كانت عليه

(15/322)


نعلان ، ولا يقال : " عليه زوجُ نعال " ، وكذلك : " عنده زوجا حمام " ، و " عليه زوجَا قيود " . وقال : ألا تسمع إلى قوله : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) [سورة النجم : 45] ، فإنما هما اثنان. (1)
* * *
وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله : (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، قال : فجعل " الزوجين " ، " الضربين " ، الذكور والإناث. قال : وزعم يونس أن قول الشاعر : (2)
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَغْدُو عَلَى كُلِّ غِرَّة... فَتُخْطِئُ فِيهَا مَرَّةً وَتُصِيبُ (3)
يعني به الذئب. قال : فهذا أشذّ من ذلك.
* * *
وقال آخر منهم : " الزوج " ، اللون . قال : وكل ضرب يدعى " لونًا " ، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك :
وَكُلُّ زَوْجٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يَلْبَسُهُ... أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوًّا بِذَاكَ مَعَا (4)
ويقول لبيد :
وَذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المقَانِبُ صَوْتَهُ... وَزَيَّنَهُ أَزْوَاجُ نَوْرٍ مُشَرَّبِ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الزوجين " فيما سلف 12 : 183 ، 184 .
(2) لم أعرف قائله .
(3) اللسان ( مرأ ) ، ويعني أنه سمى الذئب " امرءا " ، جعله إنسانا ، فهذا شذوذه .
(4) ديوانه : 86 ، اللسان ( زوج ) ، من قصيدته في " هوذة بن علي الحنفي " ، وهو " أبو قدامة " ، وقبله : مَنْ يَلْقَ هَوْذَةَ يَسْجُدْ غَيْرَ مُتَّئِبٍ ... إذا تَعَصَّبَ فَوْقَ التَّاجِ أوْ وَضَعَا
لَهُ أَكَالِيلُ بِالْيَاقُوتِ زَيَّنَها ... صُوَّاغُها ، لاَ تَرَى عَيْبًا ولَا طَبَعَا
.
(5) ديوانه : قصيدة 9 ، البيت : 25 ، يصف غيثًا تبرجت به الأرض ، يقول قبله : وَغَيْثٍ بِدَكْدَاكٍ يَزِينُ وِهَادَهُ ... نَبَاتٌ كوَشْي العَبْقَرِيِّ المُخَلَّبِ
أَرَبَّتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَطْفَاءَ جَوْنَةٍ ... هَتُوفٍ مَتَى يُنْزِفُ لَهَا الوَبْلُ تَسْكُبِ
بِذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المَقَانِبَ صَوْبُهُ ... وَزَيَّنَهُ أَطْرَافُ نَبْتٍ مُشَرَّبِ
هذه رواية الديوان ، وروى أيضًا : " ألوان نور مشرب " . و " الدكداك " ما ارتفع واستوى من الأرض ، و " الوهاد " ، ما اطمأن من الأرض ، و " المخلب " ، المخطط ، يصف النبت وزهره ، كأنه برود مخططة منشورة على الربى والوهاد . و " أربت " ، أقامت ، و " الوطفاء " السحابة الدانية من الأرض ، و " الجونة " ، السوداء ، وذلك لكثرة مائها ، و " هتوف " ، يهتف رعدها ويصوت . و " أنزف الشيء " ، أذهبه . يقول : أقامت عليه هذه السحابة الكثيرة الماء ترعد ، فلما ذهب الوبل ، جاءت بمطر سكب . و " البهجة " ، زهو النبات ، و " كن " ، منع وستر ، و " المقانب " ، جماعة الخيل . و " الصوب " المطر . و " مشرب " أشرب ألوانًا من حمرة وصفرة وخضرة . يقول : جاء المطر فاستتروا به لطوله وارتفاعه . وأما رواية أبي جعفر ، فمعناها : أن المقانب منعته أن يرعاه أحد سواهم ، فلم يسمع به صوت .

(15/323)


وذكر أن الحسن قال في قوله : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [سورة الذاريات : 49] : السماء زوج ، والأرض زوج ، والشتاء زوج ، والصيف زوج ، والليل زوج ، والنهار زوج ، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء.
* * *
وقوله : (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، يقول : واحمل أهلك أيضًا في الفلك ، يعني ب " الأهل " ، ولده ونساءه وأزواجه (1) (إلا من سبق عليه القول) ، يقول : إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع مَنْ أُهْلِكُ من قومك.
* * *
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله.
فقال بعضهم : هو بعض نساء نوح.
*ذكر من قال ذلك :
18172 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، قال : العذاب ، هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف 8 : 192 .
(2) في المطبوعة : " من الغابرين " ، غير ما في المخطوطة وهو صواب محض .

(15/324)


وقال آخرون : بل هو ابنه الذي غرق.
*ذكر من قال ذلك :
18173 - حدثت عن المسيب ، عن أبي روق. عن الضحاك في قوله : (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، قال : ابنه ، غرق فيمن غرق.
* * *
وقوله : (ومن آمن) ، يقول : واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك يقول الله : (وما آمن معه إلا قليل) ، يقول : وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل.
* * *
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك ، فقال بعضهم في ذلك : كانوا ثمانية أنفس.
*ذكر من قال ذلك :
18174 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) ، قال : ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه ، ونساؤهم ، فجميعهم ثمانية.
18175 - حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : (وما آمن معه إلا قليل) ، قال : نوح ، وثلاثة بنيه ، وأربع كنائنه.
18176 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح ، فهم ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه : يافث ، وسام ، وحام ، وأصاب حام زوجته في السفينة ، فدعا نوحٌ أن يغيّر نُطْفته ، فجاء بالسُّودان.
* * *

(15/325)


وقال آخرون : بل كانوا سبعة أنفس.
*ذكر من قال ذلك :
18177 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش : (وما آمن معه إلا قليل) ، قال : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن له ، وثلاثة بنين.
* * *
وقال آخرون : كانوا عشرة سوى نسائهم.
*ذكر من قال ذلك :
18178 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله به ، وكانوا قليلا كما قال الله ، فحمل بنيه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، ونساءهم ، وستة أناسي ممن كان آمن ، فكانوا عشرة نفر ، بنوح وبنيه وأزواجهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل كانوا ثمانين نفسًا.
*ذكر من قال ذلك :
18179 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا.
18180 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، كان بعضهم يقول : كانوا ثمانين يعني " القليل " الذي قال الله : (وما آمن معه إلا قليل).
18181 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال ، حدثني أبو نهيك قال :
__________
(1) الأثر : 18178 - سلف مختصرًا برقم 14792 ، وانظر التعليق عليه هناك .

(15/326)


وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)

سمعت ابن عباس يقول : كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله : (وما آمن معه إلا قليل) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحُدّ عددهم بمقدار ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ، فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله ، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله ، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال نوح : اركبوا في الفلك ، " بسم الله مجراها ومرساها " .
* * *
وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه ، وهو قوله : (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) فحملهم نوح فيها " وقال " لهم ، " اركبوا فيها " . فاستغني بدلالة قوله : (وقال اركبوا فيها) ، عن حمله إياهم فيها ، فتُرك ذكره.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من " أجرى " و " أرسى " ، وكان فيه وجهان من الإعراب :

(15/327)


أحدهما : الرفع بمعنى : بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون " المجرى " و " المرسى " مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله : (بسم الله).
والآخر : النصب ، بمعنى : بسم الله عند إجرائها وإرسائها ، أو وقت إجرائها وإرسائها فيكون قوله : (بسم الله) ، كلامًا مكتفيًا بنفسه ، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله : " بسم الله " ، ثم يكون " المجرى " و " المرسى " منصوبين على ما نصبت العرب قولهم : " الحمد لله سِرارَك و إهلالك " ، يعنون الهلال أوّله وآخره ، كأنهم قالوا : " الحمد لله أوّل الهلال وآخره " ، ومسموع منهم أيضا : " الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك " . (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : ( بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، بفتح الميم من " مجراها " ، وضمها من " مرساها " ، فجعلوا " مجراها " مصدرًا من " جري يجري مَجْرَى " ، و " مرساها " من " أرسَى يُرْسي إرساء " . (2)
وإذا قرئ ذلك كذلك ، كانَ في إعرابهما من الوجهين ، نحو الذي فيهما إذا قرئا : (مُجراها ومُرساها) ، بضم الميم فيهما ، على ما بيَّنتُ.
* * *
وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك : (بِسْمِ اللهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا ) ، بضم الميم فيهما ، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا كذلك ، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب ، غير أن أحدهما الخفضُ ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب ، لأن معنى الكلام على هذه القراءة : بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها ف " المجرى " نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا ، وهو الوجه الثاني ، لأنه يحسن دخول الألف واللام في " المجري " و " المرسي " ، كقولك : " بسم الله
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن ، بعد ذلك : " يريدون : ما بين إهلالك إلى سرارك " .
(2) انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف 13 : 293 .

(15/328)


المجريها والمرسيها " ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال ، إذ كان فيهما معنى النكرة ، وإن كانا مضافين إلى المعرفة.
* * *
وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك : ( مَجْرَاهَا ومَرْسَاهَا) ، بفتح الميم فيهما جميعا ، من " جرى " و " رسا " ، كأنه وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها ، وجعل كلتا الصفتين للفلك ، كما قال عنترة :
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً... تَرْسُو إذَا نَفَسُ الجبَانِ تَطَلّعُ (1)
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ : (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا) ، بفتح الميم(وَمُرْسَاهَا) ، بضم الميم ، بمعنى : بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي.
وإنما اخترت الفتح في ميم " مجراها " لقرب ذلك من قوله : (وهي تَجْري بهم في موج كالجبال) ، ولم يقل : " تُجْرَى بهم " . ومن قرأ : (بسم الله مُجْراها) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ : " وهي تُجْرى بهم " . وفي إجماعهم على قراءة(تَجْرِي) ، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في(مجراها) فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في(مرساها) ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها.
ومعنى قوله(مجراها) ، مسيرها (ومرساها) ، وقفها ، من وقَفَها الله وأرساها.
* * *
__________
(1) ديوانه : 89 من أبيات ، يقول قبله ، يذكر الغراب ، ويتشاءم به . إنَّ الَّذِينَ نَعَبْتَ لِي بِفِرَاقِهِمْ ... قَدْ أَسْهَرُوا لَيْلَ التِّمَامِ وأوْجَعُوا
وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي ... لا يُنْجِنِي مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذَلِكَ حُرَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و " نفس عارفة " ، حاملة الشدائد صبور ، إذا حملت على أمر احتملته ، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة . و " ترسو " ، تثبت . و " تطلع " ، تنزو متلفتة إلى مهرب ، أو ناصر ، من الجزع والرعب .

(15/329)


وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعًا.
18182 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18183 - . . .. قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، قال : حين يركبون ويجرون ويرسون.
18184 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون.
18185 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، قال : بسم الله حين يجرون وحين يرسون.
18186 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، في قوله : (اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) قال : إذا أراد أن ترسي قال : " بسم الله " فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال " بسم الله " فجرت.
* * *
وقوله : (إن ربي لغفور رحيم) ، يقول : إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه ، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) ، ( رحم ) .

(15/330)


وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (وهي تجري بهم) ، والفلك تجري بنوح ومن معه فيها (في موج كالجبال ونادى نوح ابنه) ، يام (وكان في معزل) ، عنه ، لم يركب معه الفلك : (يا بني اركب معنا) ، الفلك (ولا تكن مع الكافرين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة خوفًا عليه من الغرق : (ساوي إلى جبل يعصمني من الماء) يقول : سأصير إلى جبل أتحصّن به من الماء ، (1) فيمنعني منه أن يغرقني.
* * *
ويعني بقوله : (يعصمني) يمنعني ، مثل " عصام القربة " ، الذي يشدُّ به رأسها ، فيمنع الماء أن يسيل منها. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف 13 : 477 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " يعصم " فيما سلف 10 : 472 ، تعليق : 2 / 15 : 73 .

(15/331)


وقوله : (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) ، يقول : لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك ، إلا من رحمنا فأنقذنا منه ، فإنه الذي يمنع من شاء من خلقه ويعصم.
* * *
ف " من " في موضع رفع ، لأن معنى الكلام : لا عاصم يَعصم اليوم من أمر الله إلا الله.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في موضع " من " في هذا الموضع.
فقال بعض نحويي الكوفة : هو في موضع نصب ، لأن المعصوم بخلاف العاصم ، والمرحوم معصوم . قال : كأن نصبه بمنزلة قوله : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) [ سورة النساء : 157] ، قال : ومن استجاز : (اتِّباعُ الظَّنِّ) ، والرفع في قوله : (1)
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ... إِلا الْيَعَافِيرُ وَإِلا العِيسُ (2)
لم يجز له الرفع في " من " ، لأن الذي قال : " إلا اليعافير " ، جعل أنيس البرِّ ، اليعافير وما أشبهها. وكذلك قوله : (إلا اتباع الظن) ، يقول علمهم ظنٌّ. قال : وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول : " المعصوم " هو " عاصم " في حال ، ولكن لو جعلت " العاصم " في تأويل " معصوم " ، [كأنك قلت] : " لا معصوم اليوم من أمر الله " ، (3) لجاز رفع " من " . قال : ولا ينكر أن يخرج " المفعول " على " فاعل " ، ألا ترى قوله : ( مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) ، [سورة الطارق : 6] ، معناه ، والله
__________
(1) هو جران العود .
(2) سلف البيت وتخريجه فيما مضى 9 : 203 .
(3) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء ، وهو نص كلامه .

(15/332)


أعلم : مدفوق وقوله : ( فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) ، معناها : مرضية ؟ قال الشاعر : (1)
دَعِ الْمَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي (2)
ومعناه : المكسوُّ.
* * *
وقال بعض نحويّي البصرة : (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) ، على : " لكن من رحم " ، ويجوز أن يكون على : لا ذا عصمة : أي : معصوم ، ويكون(إلا من رحم) ، رفعًا بدلا من " العاصم " .
* * *
قال أبو جعفر : ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء ، لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه ، ما وُجِد إلى ذلك سبيل.
ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل " عاصمًا " في معنى " معصوم " ، ولا أن نجعل " إلا " بمعنى " لكن " ، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا ، وهو ما قلنا من أنَّ معنى ذلك : قال نوح : لا عاصم اليوم من أمر الله ، إلا من رحمَنا فأنجانا من عذابه ، كما يقال : " لا مُنجي اليوم من عذاب الله إلا الله " " ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد " .
__________
(1) هو الحطيئة .
(2) ديوانه : 54 ، وطبقات فحول الشعراء : 98 ، واللسان ( طعم ) ، ( كسا ) ، ومعاني القرآن للفراء ، وغيرها كثير ، في خبره المشهور لما ذم الزبرقان ، واستعدى عليه عمر بن الخطاب ، وقال عمر لحسان : أهجاه ؟ قال : لا ، ولكنه ذرق عليه ! وقد فسرته على أن " الطاعم " و " الكاسي " ، على النسب ، أي : ذو الطعام ، يشتهيه ويستجيده من شرهه وذو الكسوة ، يتخيرها ويتأنق فيها ، لا هم له في المكارم . ولذلك قال الزبرقان لعمر : أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس ! ! ومثل هذا قول عبد الرحمن بن حسان : إنِّي رأَيْتُ مِنَ المَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَن تَلْبَسُوا حُرَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
.

(15/333)


وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم.
* * *
وقوله : (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) ، يقول : وحال بين نوح وابنه موجُ الماء فغرق ، (1) فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم نوح صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) }
قال أبو جعفر : يقول الله تعالى ذكره : وقال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق : (يا أرض ابلعي ماءك) ، أي : تشرَّبي.
* * *
من قول القائل : " بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه " ، أو بَلَعَه يَبْلَعُه " ، إذا ازدَردَه. (2)
* * *
(ويا سماء أقلعي) ، يقول : أقلعي عن المطر ، أمسكي (وغيض الماء) ، ذهبت به الأرض ونَشِفته ، (وقضي الأمر) ، يقول : قُضِي أمر الله ، فمضى بهلاك قوم نوح (3) (واستوت على الجوديّ) ، يعني الفلك " استوت " : أرست " على الجودي " ، وهو جبل ، فيما ذكر بناحية الموصل أو الجزيرة ،
__________
(1) انظر تفسير " حال " فيما سلف 13 : 472 .
(2) الذي في المعاجم " بلع " ( بفتح فكسر ) ، أما " بلع " ( بفتحتين ) ، فقد ذكرها ابن القطاع في كتاب الأفعال 1 : 85 وفرق بينهما وقال : " بَلِعَ الطعام بَلْعًا ، وبَلَعَ الماء والربق بَلْعًا " ، وذكر أيضا ابن القوطية في كتاب الأفعال : 281 ، مثل ذلك .
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة ( قضى ) .

(15/334)


(وقيل بعدًا للقوم الظالمين) ، يقول : قال الله : أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح. (1)
* * *
18187 - حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال ، حدثنا المحاربي ، عن عثمان بن مطر ، عن عبد العزيز بن عبد الغفور ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة ، فصام هو وجميع من معه ، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر ، فانتهى ذلك إلى المحرم ، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء ، فصام نوح ، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله . (2)
18188 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كانت السفينة أعلاها للطير ، ووسطها للناس ، وفي أسفلها السباع ، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا ، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب ، وأرست على الجوديّ يوم عاشوراء ، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا ، وقد رفعه الله من الغرق ، ثم جاءت اليمن ، ثم رجعت. (3)
__________
(1) انظر تفسير " استوى " فيما سلف ص : 18 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 18187 - " عباد بن يعقوب الأسدي " ، شيخ الطبري ، ثقة في الحديث ، شيعي الرأي ، مضى برقم : 5475 . " والمحاربي " ، هو " عبد الرحمن بن محمد المحاربي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى مرارًا . " وعثمان بن مطر الشيباني " ، ضعيف منكر الحديث ، متروك . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 169 .وأما " عبد العزيز بن عبد الغفور " ، فهذا اسم مقلوب ، وإنما هو " عبد الغفور بن عبد العزيز " ويقال : " عبد الغفار بن عبد العزيز " ويروى عنه " عثمان بن مطر " . وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث ، ومضى برقم : 14776 . ولكن العجب أن أبا جعفر رواه في تاريخه مقلوبًا أيضًا .وأبوه " عبد العزيز الشامي " ، لم أجد له ذكرًا ، كما أسلفت في رقم : 14776 ، وأخشى أن يكون هذا الإسناد : " عن أبيه ، عن أبيه " ، كما سلف .وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا ، ووقع فيه الخلط في اسم " عبد الغفور " جزاء ما خلط في أحاديثه ومناكيره .ورواه أبو جعفر في تاريخه أيضًا 1 : 96 .
(3) الأثر : 18188 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 96 .

(15/335)


18189 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، قال : هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم ، فقال لمن معه : من كان منكم اليوم صائما فليتم صومه ، ومن كان مفطرًا فليصم. (1)
18190 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : [ما] كان زَمَن نوحٍ شبر من الأرض ، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. (2)
18191 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنَّها يعني الفُلك استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب ، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرت على الجودي شهرًا ، وأهبط بهم في عشر [خَلَوْن] من المحرم يوم عاشوراء . (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) ، قال أهل التأويل.
* * *
ذكر من قال ذلك :
18192 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وغيض السماء) ، قال : نقص (وقضي الأمر) ، قال : هلاك قوم نوح
18193 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله. -
18194 حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) الأثر : 18189 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 96 .
(2) الأثر : 18190 - كان في المخطوطة : " قال : كان زمن نوح شبر عن الأرض لإنسان يدعيه " ، وكان في المطبوعة : " كان في زمن نوح شبر عن الأرض لا إنسان يدعيه " فزاد ، وأساء القراءة ، وأفسد الكلام . والصواب من تاريخ الطبري 1 : 96 . وقوله : " إلا إنسان يدعيه " ، أي : يدعى أن الماء لم يعم الأرض كلها .
(3) الأثر : 18191 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 96 ، والزيادة بين القوسين منه .

(15/336)


عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله. قال : قال ابن جريج(وغيض الماء) ، نَشِفَتهُ الأرض. (1)
18195 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (يا سماء أقلعي) ، يقول : أمسكي(وغيض الماء) ، يقول : ذهب الماء.
18196 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وغيض الماء) ، والغُيوض ذهاب الماء (واستوت على الجودي).
18197 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واستوت على الجودي) ، قال : جبل بالجزيرة ، تشامخت الجبال من الغَرَق ، وتواضع هو لله فلم يغرق ، فأرسيتْ عليه.
18198 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واستوت على الجودي) ، قال : الجودي جبل بالجزيرة ، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت ، وتواضع هو لله فلم يغرق ، وأرسيت سفينة نوح عليه
18199 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18200 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (واستوت على الجودي) ، يقول : على الجبل ؛ واسمه " الجودي "
18201 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان : (واستوت على الجودي) ، قال : جبل بالجزيرة ، شمخت الجبال ، وتواضعَ
__________
(1) " نشفت الأرض الماء ، نشفًا " ( بفتح النون وكسر الشين ، في الفعل) ، شربته .

(15/337)


حين أرادت أن ترفأ عليه سفينة نوح. (1)
18202 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (واستوت على الجودي) ، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة وآية.
18203 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : (واستوت على الجودي) ، هو جبل بالموصل.
18204 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن نوحًا بعث الغراب لينظر إلى الماء ، فوجد جيفة فوقع عليها ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، فأعْطيت الطوقَ الذي في عنقها ، وخضابَ رجليها.
18205 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما أراد الله أن يكفّ ذلك يعني الطوفان أرسل ريحًا على وجه الأرض ، فسكن الماء ، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر ، وَأبوابُ السماء . (2) يقول الله تعالى : (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) ، إلى : (بعدًا للقوم الظالمين) ، فجعل ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي ، فيما يزعم أهل التوراة ، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه ، في أول يوم من الشهر العاشر ، رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا ، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسلَ الغراب لينظر له ما فعل الماءُ ، فلم يرجع إليه. فأرسل
__________
(1) " رفأ السفينة يرفؤها " ، أدناها من الشط ، فعل متعد ، و " أرفأت السفينة نفسها " ، لازم ، ولكن هكذا جاء في المخطوطة " أرادت أن ترفأ " ، وعندي أنه جائز أن يقال : " رفأت السفينة نفسها " ، لازما .
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " الغمر الأكبر " ، وأنا أرجح أنه خطأ محض ، وأن الصواب : " الغوط الأكبر " ، وبهذا اللفظ رواه صاحب اللسان في مادة ( غوط ) . وقد سبق تفسير " الغوط الأكبر " في الأثر رقم : 18138 ص : 315 ، تعليق : 2 .

(15/338)


وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)

الحمامةَ ، فرجعت إليه ، ولم يجد لرجليها موضعًا ، فبسط يده للحمامة ، فأخذها . ثم مكث سبعة أيام ، ثم أرسلها لتنظر له ، فرجعت حين أمست ، وفي فيها ورَق زيتونة ، فعلم نوح أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام ، ثم أرسلها فلم ترجع ، فعلم نوح أن الأرض قد برَزَت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأوّل من سنة اثنتين ، برز وجه الأرض ، فظهر اليبس ، وكشف نوح غطاء الفلك ، ورأى وجه الأرض. وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في سبع وعشرين ليلة منه قيل لنوح : ( اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
18206 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : تزعُم أناسٌ أن من غرق من الولدان مع آبائهم ، وليس كذلك ، إنما الولدان بمنزلة الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب ، ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم ، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ، ثم مصيرهم إلى النار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ونادى نوح ربه فقال : ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي ، وقد هلك ابني ، وابني من أهلي (1) (وإن وعدك الحقُّ) ، الذي لا خلف له (وأنت أحكم الحاكم) ، بالحق ، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني ، من أنْ تنجّي لي أهلي ، وترجع إليَّ ابني ، كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف ص . . . ، تعليق : . . . ، والمراجع هناك .

(15/339)


18207 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وأنت أحكم الحاكمين) ، قال : أحكم الحاكمين بالحق.
* * *

(15/340)


قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) }
قال أبو جعفر : يقول الله تعالى ذكره : قال الله يا نوح إن الذي غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (ليس من أهلك) .
فقال بعضهم : معناه : ليس من ولدك ، هو من غيرك. وقالوا : كان ذلك من حِنْثٍ. (1)
*ذكر من قال ذلك :
18208 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : (إنه ليس من أهلك) ، قال : لم يكن ابنه.
18209 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر : (ونادى نوح ابنه) ، قال : ابن امرأته.
18210 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم ، [عن] الحسن قال : لا والله ، ما هو بابنه. (2)
__________
(1) " الحنث " (بكسر الحاء وسكون النون ) ، الذنب والمعصية . وفي الحديث " يكثر فيهم أولاد الحنث " ، أي : أولاد الزنا . ويروى " الخبث " ( بالخاء مضمومة والثاء ) ، من " الخبث " ، وهو الفساد والفجور . وفي الحديث : " إذا كثر الخبث كان كذا وكذا " ، أي : الفسق والفجور . وفي الحديث " أنه أتى برجل مخدج سقيم ، وجد مع أمة يخبث بها " ، أي : يزني بها . ويقال : " هو ابن خبثة " ، لابن الزنية ، ولد لغير رشدة .
(2) الأثر : 18210 - كان في المطبوعة : " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن " ، وهو كلام لا معنى له ، وخاصة بعد تصرفه في نص المخطوطة ، لأنه لم يفهم معنى هذا الإسناد ، إذ كان فيها : " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن " ، وهذا أيضًا فاسد ، يصلحه ما زدته بين القوسين ، فإن " ابن علية " يروي عن " سعيد بن أبي عروبة " ، و " ابن أبي عروبة " روى عن " الحسن البصري " .

(15/340)


18211 - . . . . قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر : (ونادى نوح ابنه) ، قال : هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه ، كان ابن امرأته.
18212 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن عوف ، ومنصور ، عن الحسن في قوله : (إنه ليس من أهلك) ، قال : لم يكن ابنه. وكان يقرؤها : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (1)
18213 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كنت عند الحسن فقال : " نادى نوح ابنه " ، لعمْر الله ما هو ابنه ! قال : قلت : يا أبا سعيد يقول : (ونادى نوح ابنه) ، وتقول : ليس بابنه ؟ قال : أفرأيت قوله : (إنه ليس من أهلك) ؟ قال : قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك ، (2) ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال : إن أهل الكتاب يكذبون.
18214 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سمعت الحسن يقرأ هذه الآية : (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ، فقال عند ذلك : والله ما كان ابنه . ثم قرأ هذه الآية : (فَخَانَتَاهُمَا) ، [ سورة التحريم : 10] قال سعيد : فذكرت ذلك لقتادة ، قال : ما كان ينبغي له أن يحلف!
18215 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، قال : تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.
__________
(1) الأثر : 18212 - انظر ما سيأتي رقم : 18246 .
(2) في المخطوطة : " إنه ليس من أهلي " ، وفوقها حرف ( ط ) دلالة على الخطأ .

(15/341)


18216 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
18217 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد مثله.
18218 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
قال ابن جريج في قوله : (ونادى نوح ابنه) ، قال : ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه
18219 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، عن أبي جعفر : (إنه ليس من أهلك) ، قال : لو كان من أهله لنجا. (1)
18220 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، سمع عبيد بن عمير يقول : نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ، من أجل ابن نوح.
18221 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن قال : لا والله ما هو بابنه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : (ليس من أهلك) الذين وعدتك أن أنجيهم.
*ذكر من قال ذلك :
18222 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان ، عن
__________
(1) الأثر : 18219 - " ثوير " ، هو " ثوير بن أبي فاختة " ، ضعيف ، مضى مرارًا ، آخرها برقم : 9833 . وكان في المطبوعة : " ثور " ، والصواب من المخطوطة .

(15/342)


سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : (ونادى نوح ابنه) ، قال : هو ابنه.
18223 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان قال ، حدثنا أبو عامر ، عن الضحاك قال : قال ابن عباس : هو ابنه ، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ.
18224 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي عامر الهمدانيّ ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس قال ، ما بغت امرأة نبي قط. قال : وقوله : (إنه ليس من أهلك) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
18225 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة وغيره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : هو ابنه : غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف : (إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ) ، والخيانة تكون على غير بابٍ.
18226 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، كان عكرمة يقول : كان ابنه ، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل ، فمن ثم قيل له : (إنه ليس من أهلك).
18227 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قتة قال : سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى : (فَخَانَتَاهُمَا) ، [سورة التحريم : 10] ، قال : أما إنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل ، على الأضياف. ثم قرأ : (إنه عملٌ خير صالح) قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُّهني : أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كانَ ابن نوح ، إن الله لا يكذب! قال : (ونادى نوح

(15/343)


ابنه) ، قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرَأة نبيٍّ قط.
18228 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير قال : قال الله ، وهو الصادق ، وهو ابنه : (ونادى نوح ابنه).
18229 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبن يمان ، عن سعيد ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن شداد ، عن ابن عباس قال : ما بَغَت امرأة نبي قط.
18230 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال : سألت أبا بشر عن قوله : (إنه ليس من أهلك) ، قال : ليس من أهل دينك ، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم قال يعقوب : قال هشيم : كان عامة ما كان يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير.
18231 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن يعقوب بن قيس قال : أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال : يا أبا عبد الله ، الذي ذكر الله في كتابه " ابن نوح " أبنُه هو ؟ قال : نعم ، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى ، فقال : (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ، قال : ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ، لمعصية نبي الله.
18232 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير : أنه جاء إليه رجل فسأله . فقال : أرأيتك ابن نُوح أبنه ؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال : لا إله إلا الله ، يحدِّث الله محمدًا : (ونادى نوح ابنه) وتقول ليس منه ؟ ولكن خالفه في العمل ، فليس منه من لم يؤمن.
18233 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن أبي هارون الغنوي ، عن عكرمة في قوله : (ونادى نوح ابنه) ، قال : أشهد أنه ابنه ، قال الله :

(15/344)


(ونادى نوح ابنه).
18234 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه.
18235 - حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال ، قال بزيع : سأل رجل الضحاك عن ابن نوح ، فقال : ألا تعجبون إلى هذا الأحمق ! يسألني عن ابن نوح ، وهو ابن نوح كما قال الله : قال نوح لابنه. (1)
18236 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ : (ونادى نوح ابنه) ، وقوله : (ليس من أهلك) ، قال : يقول : ليس هو من أهلك. قال : يقول : ليس هو من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك (إنه عمل غير صالح) ، قال : يقول كان عمله في شرك.
18237 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك قال ، هو والله ابنه لصُلْبه.
18238 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (ليس من أهلك) ، قال : ليس من أهل دينك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيه ، وكان ابنه لصلبه.
18239 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) الأثر : 18235 - " فضالة بن الفضل بن فضالة التميمي الطهوي الكوفي " ، شيخ الطبري ، صدوق ربما أخطأ . مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 / 2 / 79 .
و " بزيع " هو اللحام ، أبو حازم ، وهو " بزيع بن عبد الله " سمع الضحاك . كان أبو نعيم يتكلم فيه ، وضعفه النسائي وغيره . وقال ابن عدي : " إنما أنكروا عليه ما يحكيه عن الضحاك من التفسير ولا يتابع عليه " . مترجم في الكبير 1 / 2 / 130 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 420 ، ولسان الميزان 2 : 12 ، وميزان الاعتدال 1 : 143 . وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة في آخر الخبر : " كما قال الله ، قال نوح لابنه " ، والآية : " ونادى نوح ابنه " ، وأخشى أن يكون أراد : " قال نوح لابنه : يا بني اركب معنا " .

(15/345)


معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) ، يقول : ليس ممن وعدناه النجاة.
18240 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إنه ليس من أهلك) ، يقول : ليس من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك (إنه عمل غير صالح) ، يقول : كان عمله في شرك.
18241 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون ، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه ، ولد على فراشه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم ، لأنه كان لدينك مخالفًا ، وبي كافرًا وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال : (ونادى نوح ابنه) ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله : (إنه ليس من أهلك) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه ، إذ كان قوله : (ليس من أهلك) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا ، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك ، ثم يحذف " الدين " فيقال : (إنه ليس من أهلك) ، كما قيل : (واسأل القرية التي كنا فيها) ، [سورة يوسف : 82] .
* * *
وأما قوله : (إنه عمل غير صالح) ، فإن القراء اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قراء الأمصار : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بتنوين " عمل " ورفع " غير " .
* * *
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح.

(15/346)


*ذكر من قال ذلك :
18242 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : (إنه عمل غير صالح) ، قال : إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح.
18243 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إنه عمل غير صالح) ، أي سوء (1) (فلا تسألن ما ليس لك به علم).
18244 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (إنه عمل غير صالح) ، يقول : سؤالك عما ليس لك به علم.
18245 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن حمزة الزيات ، عن الأعمش ، عن مجاهد قوله : (إنه عمل غير صالح) ، قال : سؤالك إياي ، عمل غير صالح (فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ).
* * *
وقال آخرون : بل معناه : إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه ، عملٌ غير صالح ، أي : أنه لغير رشدة . وقالوا : " الهاء " ، في قوله : " إنه " عائدة على " الابن " .
*ذكر من قال ذلك :
18246 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن أنه قرأ : ( عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، قال : ما هو والله بابنه. (2)
* * *
وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك : (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ،
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب : " أي سؤالك إياي " ، ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة .
(2) الأثر : 18246 - انظر ما سلف رقم : 18212 .

(15/347)


على وجه الخبر عن الفعل الماضي ، وغير منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ، ابنُ عباس.
18247 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قتة ، عن ابن عباس أنه قرأ : (عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) .
* * *
ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما : -
18248 - حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا غندر ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ، قال : كان مخالفًا في النية والعمل.
* * *
قال أبو جعفر : ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار ، إلا بعض المتأخرين ، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب ، فمرة يقول : " عن أم سلمة " ، ومرة يقول : " عن أسماء بنت يزيد " ، ولا نعلم أبنت يزيد [يريد] ؟ (1) ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة.
__________
(1) في المطبوعة : " ولا نعلم لبنت يزيد ، ولا نعلم لشهر . . . " ، وفي المخطوطة مثله ، إلا أن فيها : " أبنت يريد " ، ورأيت أن أبا جعفر أراد ما أثبت ، بهذه الزيادة بين القوسين ، وكأنه يقول : إنه يقول مرة " أم سلمة " ومرة " أسماء بنت يزيد " ، ولا نعلم أهي التي يريد بقوله : " أم سلمة " ، أم غيرها ، وانظر التعليق التالي .

(15/348)


(1)
* * *
__________
(1) . . . حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد ، أو " أم سلمة " ، لم يذكر أبو جعفر إسناده ، وسأفصل القول فيه في هذا الموضع ، فإن أبا جعفر لم يوف الأمر حقه ، ولم يبينه بيانًا شافيًا .
1 - وهذا الحديث ، رواه أحمد في مسنده في ثلاثة مواضع 6 : 454 ، 459 ، 460 ، كلها من طريق : حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن شهر بن حوشب ، عن " أسماء بنت يزيد " ، والطريق الأولى والثالثة ، مطولة ، فيها قراءة آية سورة الزمر : 53
{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلاَ يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
2 - ومن هذه الطريق نفسها ، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص : 226 ، رقم : 1631 ، مقتصرًا على الآية الأولى ، " شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية " .
3 - ورواه أبو داود في سننه 4 : 47 ، من طريقين ، رقم : 3982 ، 3983 . الأولى : حماد ، عن ثابت ، عن شهر ، عن أسماء بنت يزيد .
الثانية : عبد العزيز بن المختار ، عن ثابت ، عن شهر قال : سألت أم سلمة : كيف كان رسول الله يقرأ هذه الآية ؟
4 - ورواه الترمذي في " القراءات " ، من طريق عبد الله بن حفص ، عن ثابت البناني ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة .
وقال : وقد روي هذا الحديث أيضًا عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد .
5 - ورواه أبو نعيم في الحلية 8 : 301 ، من طريق محمد بن ثابت البناني ، عن ثابت البناني ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة . " وقال : حديث مشهور من حديث ثابت " ، وانظر رقم ( 8 ) ، فإن الطيالسي جعله من حديث أم سلمة أم المؤمنين .
6 - ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 249 ، مقتصرًا على آية " سورة الزمر " ، التي ذكرتها في رقم : 1 ، من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر ، عن أسماء بنت يزيد ، ثم قال : " هذا حديث غريب عال ، ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر ، غير هذا الحديث الواحد " .
7 - ورواه أحمد في مسنده 6 : 294 ، 322 ، من طريق هارون النحوي ، عن ثابت البناني ، عن أبيه ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ( وذلك في مسند أم سلمة أم المؤمنين . ( وظني أن أبا جعفر ذهب إلى أن شهرًا دلس في هذا الحديث ، فلا يعلم أأراد " أسماء بنت يزيد الأنصارية " ، أم " أم سلمة " أم المؤمنين ، ولذلك قال بعد : " ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أم سلمة " ، ولا شك أن الطبري عنى هنا " أم سلمة " أم المؤمنين . " وأسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية " ، هي مولاة " شهر بن حوشب " ، وكنيتها " أم سلمة " ، فلذلك صرح باسمها مرة ، وكناها أخرى ، وهذا لا يضر . و " شهر بن حوشب " ، كان أروى الناس عن مولاته " أم سلمة " ، " أسماء بنت يزيد " وقال أحمد : " ما أحسن حديثه " ، ووثقه ، وقال : " روى عن أسماء أحاديث حسانًا " .وقال الترمذي ، بعد أن ساق الخبر ، " وسمعت عبد بن حميد يقول : أسماء بنت يزيد ، هي أم سلمة الأنصارية ، كلا الحديثين عندي واحد . وقال روى شهر بن حوشب غير حديث عنه أم سلمة الأنصارية ، وهي أسماء بنت يزيد . وقد روى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو هذا " وسنذكر حديث عائشة بعد . ومع ذلك ، فرواية شهر بن حوشب ، عن " أم سلمة " أم المؤمنين قد ذكر البخاري في الكبير 2 / 2 / 259 ، فقال : " سمع أم سلمة " ، ولم يزد ، ولم يذكر " أسماء بنت يزيد " ، ومن أجل ذلك خشيت أن يكون البخاري أراد " أم سلمة ، " أسماء بنت يزيد " ، لا أم المؤمنين . وأما ابن أبي حاتم 2 / 1 / 382 فذكر أنه : " روى عن أم سلمة ، وأسماء بنت يزيد " ، ففرق ، ودل التفريق على أنه أراد " أم سلمة " ، أم المؤمنين . صرح الحافظ ابن حجر في ترجمته ، بسماعه عن " أم سلمة " أم المؤمنين . وروايته عن أم المؤمنين جائزة ، فإن " أم سلمة " زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفيت على الصحيح سنة 61 أو سنة : 62 . وشهر بن حوشب عاش ثمانين سنة ، ومات سنة 100 ، ويقال سنة 111 ، أو سنة 112 . فسماعه منها لا ينقضه شيء من شبهة العمر . أما الرواية ، فقد صحح العلماء أنه روى عنها . فرد الطبري روايته بأنه لا يعلم له سماعًا عن أم المؤمنين ، لا يقوم على شيء ، فقد عرف ذلك غيره . بيد أن الحافظ بن حجر ، نقل في ترجمة " شهر بن حوشب " ، فذكر عن صالح بن محمد ، بعد توثيقه شهرًا ، وأنه لم يوقف له على كذب ، ثم قال : " ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في القراءات ، لا يأتي بها غيره " . وقد كان شهر قارئا ، ذكر ذلك الطبري نفسه ، حتى قال أيوب بن أبي حسين : " ما رأيت أحدًا أقرأ لكتاب الله منه " ، فإن يكن في حديث شهر شيء ، فإنما هو غرابة خبره ، وهذا لا يضر إذا صح الإسناد . ولكن يبقى الإشكال من ناحية أخرى ، رواية أحمد من طريق هارون النحوي ، عن ثابت البناني نفسه ( كما في رقم 7 ) ، والذي رواه الطيالسي رقم ( 8 ) من طريق محمد بن ثابت ، عن ثابت ، يضم إليه رقم ( 5 ) من رواية أبي نعيم ، ويضم إليها ، الطريق الثانية من رقم ( 3 ) ، ثم رقم ( 4 ) من رواية الترمذي ، وإن كان قد نقل عن " عبد بن حميد " ، أنهما واحد . كما سلف . ورواية هذه الأخبار كلها تدور على " ثابت البناني ، عن شهر " ، فكأن ثابتًا البناني ، رواه عن شهر عن : أم سلمة أسماء بنت يزيد وعنه عن أم سلمة أم المؤمنين ، فهما حديثان لا شك في ذلك ، لا كما قال " عبد بن حميد " ، ولكن هل روى ذلك أحد عن أم سلمة أم المؤمنين ، غير شهر بن حوشب ؟ لا أدري . فإذا صح أن شهرًا قد انفرد به عن أم المؤمنين ، فهل وقع الخطأ في ترك الفصل بينهما ، من ثابت أم من الذي يليه ؟ لا أدري أيضًا . وإذا كانا حديثًا واحدًا ، فكيف وقع التفريق في المسانيد ، فجعل حديثين ، وكيف وقع هذا التفريق ؟ ولم وقع ؟ ألمجرد الشبهة من قبل الكنية " أم سلمة " ؟ هذا موضع يحتاج إلى تفصيل دقيق . وهذا ، فيما أظن ، هو الذي جعل أبا جعفر الطبري ، يشكك في رواية الخبر ، لاختلاطه ، ولكنه علله بغير علة الاختلاط والاضطراب كما رأيت . * * * وأما حديث عائشة ، الموافق لحديث أم سلمة ، في هذه القراءة ، فقد رواه البخاري في الكبير 1 / 1 / 286 ، 287 ، من طريق إبراهيم بن الزبرقان ، عن أبي روق ، عن محمد بن جحادة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ثم رواه أيضًا منها 1 / 2 / 251 .ورواه الحاكم في المستدرك من هذه الطريق نفسها ، وقال الذهبي تعليقا عليه " إسناده مظلم " . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 155 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه حميد بن الأزرق ، ولم أعرفه . وبقية رجاله ثقات " . والكلام في حديث عائشة يطول ، ففي رواية محمد بن جحادة الإيامي ، عن أبيه ، كلام ليس هذا موضع تحقيقه .

(15/349)


قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، وذلك رفع(عَمَلٌ) بالتنوين ، ورفع(غَيْرُ) ، يعني : إن سؤالك إياي ما تسألنيه في أبنك المخالفِ دينَك ، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك ، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك : (لا تَذَر على الأرض مع الكافرين ديَّارًا) ، ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم (1) عملٌ غير صالح ، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدّم مني القول بأني أفعله ، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير الصالح.
* * *
وقوله : (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره : إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته ، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي ، وليس لك به علم " إني أعظك أن تكون من الجاهلين " في مسألتك إياي عن ذلك.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله : (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ، ما : -
18249 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك ، حتى تسألني ما ليس لك به علم (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين).
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) ، بكسر النون وتخفيفها ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على " الياء " التي هي كناية اسم الله
__________
(1) السياق : " إن سؤالك إياي . . . عمل غير صالح " ، فقوله " عمل " ، خبر " إن " في صدر الجملة .

(15/350)


قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)

[في] : فلا تسألني. (1)
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام : ( فَلا تَسْأَلَنَّ ) ، بتشديد النون وفتحها بمعنى : فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، تخفيفُ النون وكسرها ، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته ، في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه : (قال ربّ إني أعوذ بك) ، أي : أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم ، (2) مما قد استأثرت بعلمه ، وطويت علمه عن خلقك ، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياك ما سألتك في ابني ، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك (أكن من الخاسرين) ، يقول : من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " كناية اسم الله فلا تسألن " وبنون مفردة في آخرها . والصواب ، إن شاء الله ، ما أثبت ، بزيادة " في " ، وزيادة الياء في " تسألني " .
(2) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف 13 : 332 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة ( خسر ) .

(15/352)


قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)

القول في تأويل قوله تعالى : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا نوح ، اهبط من الفلك إلى الأرض (1)
(بسلام منا) ، يقول : بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا (2) (وبركات عليك) ، يقول : وببركات عليك (3) (وعلى أمم ممن معك) ، يقول : وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته ، فقال له : (وأمم) ، يقول : وقرون وجماعة (4) (سنمتعهم) في الحياة في الدنيا ، يقول : نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم (5) (ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، يقول : ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18250 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي : (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
__________
(1) انظر تفسير " الهبوط " فيما سلف 12 : 329 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " السلام " فيما سلف من فهارس اللغة ( سلم ) .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وبركات عليه " ، مرة أخرى ، ولم يفسرها أيضًا ، فإن لم يكن سقط من التفسير شيء ، فالصواب ما أثبت بزيادة الباء ، دلالة على العطف على ما قبله .
(4) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص : 252 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(5) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة ( متع ) .
(6) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص : 256 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/353)


من معك) ، إلى آخر الآية ، قال : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
18251 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي : (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم من معك) ، قال : دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة ، وفي الشرك كل كافر وكافرة. (1)
18252 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قراءةً عن ابن جريج : (وعلى أمم ممن معك) ، يعني : ممن لم يولد. قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة (وأمم سنمتعهم) ، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة. (2)
18253 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه إلا أنه قال : (وأمم سنمتعهم) ، متاع الحياة الدنيا ، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال : ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم ، كالطير والسباع ، ولكن جاء أجلهم مع الغرق.
18254 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم) ، قال : هبطوا والله عنهم راض ، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر ، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك أممًا ، منهم من رحم ، ومنهم من عذب. وقرأ : (وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت.
18255 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ،
__________
(1) في المطبوعة : " دخل في السلام " ، غير ما في المخطوطة ، وأساء .
(2) في المطبوعة " الشقاوة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، هنا وفي سائر المواضع الآتية .

(15/354)


حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) ، الآية ، يقول : بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا ، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة (وأمم سنمتعهم) ، يعني : متاع الحياة الدنيا (ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
18256 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن : أنه كان إذا قرأ " سورة هود " ، فأتى على : (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) ، حتى ختم الآية ، قال الحسن : فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا ، وهلك المتمتعون ! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول : أنجاه الله وهلك المتمتعون.
18257 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال : بعد الرحمة.
18258 - حدثنا العباس بن الوليد قال ، أخبرني أبي قال ، اخبرنا عبد الله بن شوذب قال ، سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن الحسن : أنه أتى على هذه الآية : (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال : فكان ذلك حين بعث الله عادًا ، فأرسل إليهم هودًا ، فصدقه مصدقون ، وكذبه مكذبون ، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه ، وأهلك الله المتمتعين ، ثم بعث الله ثمود ، فبعث إليهم صالحًا ، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون ، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا ، على نحو من هذا.
* * *

(15/355)


تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم : هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه (من أنباء الغيب) ، يقول : هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها (1) (نوحيها إليك) ، يقول : نوحيها إليك نحن ، فنعرفكها (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) ، الوحي الذي نوحيه إليك ، (فاصبر ) ، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته ، وما تلقى من مشركي قومك ، كما صبر نوح (إن العاقبة للمتقين) ، يقول : إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله ، (2) فأدَّى فرائضه ، واجتنب معاصيه ، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم في الآخرة ، والظفر في الدنيا بالطلبة ، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله ، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به ، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة ، وغرَّق المكذبين به فأهلكهم جميعهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18259 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) ، القرآن ، وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه ، لولا ما بيَّن الله في كتابه.
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ) .
(2) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص : 153 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/356)


وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودًا ، فقال لهم : " يا قوم اعبدوا الله " وحده لا شريك له ، دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان.(ما لكم إله غيره) ، يقول : ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره ، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة (إن أنتم إلا مفترون) ، يقول : ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون ، تختلقون الباطل ، لأنه لا إله سواه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه : يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها ، جزاءً وثوابًا (إن أجري إلا على الذي فطرني) ، يقول : إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم ، ودعائكم إلى الله ، إلا على الذي خلقني (2) (أفلا تعقلون) ، يقول : أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم ، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة ، لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا ، وطلبت منكم الأجر والثواب ؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى) .
(2) انظر تفسير " فطر " فيما سلف 11 : 283 ، 284 ، 487 .

(15/357)


وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

18260 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إن أجري إلا على الذي فطرني) ، أي خلقني
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه : (ويا قوم استغفروا ربكم) ، يقول : آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم.
* * *
والاستغفار : هو الإيمان بالله في هذا الموضع ، لأن هودًا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم ، كما قال نوح لقومه : (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) [سورة نوح : 3 : 4]
* * *
وقوله : (ثم توبوا إليه) ، يقول : ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به (يرسل السماء عليكم مدرارا) ، يقول : فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به ، أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه ، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مدرار " فيما سلف 11 : 263 .

(15/358)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18261 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (مدرارا) ، يقول : يتبع بعضها بعضا.
18262 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (يرسل السماء عليكم مدرارًا) قال : يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا.
* * *
وأما قوله : (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، فإن مجاهدًا كان يقول في ذلك ما : -
18263 - حدثني به محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال : شدة إلى شدتكم
18264 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وإسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18265 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد ، فذكر مثله.
18266 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ويزدكم قوة إلى قوّتكم) ، قال : جعل لهم قوة ، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم : (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال : إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين ، فقال هود لهم : إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد ، لأن ذلك من القوة.
* * *

(15/359)


قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)

وقوله : (ولا تتولوا مجرمين) ، يقول : ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله ، والبراءة من الأوثان والأصنام (مجرمين) ، يعني : كافرين بالله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قوم هود لهود ، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول ، فنسلم لك ، ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك (وما نحن بتاركي آلهتنا) ، يقول : وما نحن بتاركي آلهتنا ، يعني : لقولك : أو من أجل قولك.(ما نحن لك بمؤمنين) ، يقول : قالوا : وما نحن لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولى ) ، (جرم ) .

(15/360)


إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي (55) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره ، عن قول قوم هود : أنهم قالوا له ، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه ، وخلع الأوثان والبراءة منها : لا نترك عبادة آلهتنا ، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها ، أنه أصابك منها خبَلٌ من جنونٌ . فقال هود لهم : إني أشهد الله على نفسي

(15/360)


وأشهدكم أيضًا أيها القوم ، أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه (فكيدوني جميعا) ، يقول : فاحتالوا أنتم جميعًا وآلهتكم في ضري ومكروهي (1) (ثم لا تنظرون) ، يقول : ثم لا تؤخرون ذلك ، (2) فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء ؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18267 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : أصابتك الأوثان بجنون.
18268 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : أصابك الأوثان بجنون.
18269 - حدثني المثني قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا سفيان ، عن عيسى ، عن مجاهد : (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : سببتَ آلهتنا وعبتها ، فأجنَّتك.
18270 - . . . . قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، أصابك بعض آلهتنا بسوء ، يعنون الأوثان.
18271 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال : أصابك الأوثان بجنون.
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف 13 : 449 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ص : 151 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/361)


18272 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : تصيبك آلهتنا بالجنون.
18273 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : ما يحملك على ذمّ آلهتنا ، إلا أنه أصابك منها سوء.
18274 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال : إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء.
18275 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عبد الله بن كثير : أصابتك آلهتنا بشر.
18276 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون : نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء ، ولا نحب أن تعتريك ، يقولون : يصيبك منها سوء.
18277 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون : اختلَط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا.
* * *
وقوله : (اعتراك) ، ا " فتعل " ، من " عراني الشيء يعروني " : ، إذا أصابك ، كما قال الشاعر :

(15/362)


إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

(1)
مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }
قال أبو جعفر : يقول : إني على الله الذي هو مالكي ومالككم ، والقيِّم على جميع خلقه ، توكلت من أن تصيبوني ، أنتم وغيركم من الخلق بسوء ، (3) فإنه ليس من شيء يدب على الأرض ، (4) إلا والله مالكه ، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ.
* * *
__________
(1) هو أبو خراش الهذلي .
(2) ديوان الهذليين 2 : 147 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 290 ، من قصيدته التي ذكر فيها فراره من فائد وأصحابه الخزاعيين ، وكان لهم وتر عنده . فلما لقوه فر وعدا ، فذكر ذلك في شعره ، ثم انتهى إلى ذكر رجل كان يتبعه وهو يعدو فقال : أُوائِلُ بالشَّدِّ الذَّلِيقِ ، وَحَثَّنِي ... لَدَى المَتْنِ مَشْبُوحُ الذِّرَاعَينِ خَلْجَمُ
تَذَكَّر ذَخْلاً عِنْدَنَا ، وهو فاتِكٌ ... مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ
يقول : " أوائل بالشد " ، أطلب النجاة بالعدو السريع ، و " الذليق " ، الحديد السريع الشديد ، و " حثني لدى المتن " ، يحثني على عدوى ، رجل من ورائي ، كأنه من قربه قد ركب متني ، " مشبوح الذراعين " ، من صفة هذا الرجل أنه عريض الذراعين ، " خلجم " ، طويل شديد . و " تذكر ذحلا " ، أي ثأرًا ، فكان تذكره للثأر أحفز له على طلب أبي خراش . ثم قال : إنه فاتك من فتاكهم ، لا يرهب ، ويدفعه على ذلك " اجتراء " ، أي جرأة لا تكفها المخافة ، و " مأثم " ، أي طلب الأثام ، وهو المجازاة والعقوبة على إثمي الذي سلف إليهم . و " المأثم " و " الأثام " واحد .
وكان في المطبوعة : " اجترام " ، وفي المخطوطة : " اجترامًا " ، وهما خطأ ، صوابه ما أثبت من ديوانه .
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة ( وكل ) .
(4) انظر تفسير " دابة " فيما سلف ص : 240 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/363)


فإن قال قائل : وكيف قيل : (هو آخذ بناصيتها) ، فخص بالأخذ " الناصية " دون سائر أماكن الجسد.
قيل : لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع ، فتقول : " ما ناصية فلان إلا بيد فلان " ، أي : أنه له مطيع يصرفه كيف شاء . وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه ، جزُّوا ناصيته ، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة. فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم ، والمعنى ما ذكرت.
* * *
وقوله : (إن ربي على صراط مستقيم) ، يقول : إن ربي على طريق الحق ، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به ، (1) كما : -
18278 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إن ربي على صراط مستقيم) ، الحقّ .
18279 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18280 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
18281 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " صراط مستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سرط ) ، ( قوم ) .

(15/364)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه : (فإن تولوا) ، يقول : فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان (1) (فقد أبلغتكم) أيها القوم (ما أرسلت به إليكم) ، وما على الرسول إلا البلاغ (ويستخلف ربي قوما غيركم) ، يهلككم ربي ، ثم يستبدل ربي منكم قومًا غيركم ، (2) يوحِّدونه ويخلصون له العبادة (ولا تضرونه شيئًا ) ، يقول : ولا تقدرون له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم.
* * *
وقد قيل : لا يضره هلاككُم إذا أهلككم ، لا تنقصونه شيئًا ، لأنه سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا.
* * *
(إن ربي على كل شيء حفيظ) ، يقول : إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم . (3)
يقول : هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء.
* * *
__________
(1) كان حق الكلام أن يقول : " فإن أدبرتم معرضين عما أدعوكم إليه " ، فهو خطاب من هود لقومه ، أي : " فإن تتولوا " ، وحذف إحدى التاءين . وكأن هذا سهو من أبي جعفر رحمه الله وغفر له.
(2) انظر تفسير " الاستخلاف " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلف ) .
(3) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف 8 : 562 / 12 : 25 ، 33 .

(15/365)


وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاء قوم هود عذابُنا ، نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه (برحمة منا ) ، يعني : بفضل منه عليهم ونعمة (ونجيناهم من عذاب غليظ) ، يقول : نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ يوم القيامة ، كما نجيناهم في الدنيا من السخطة التي أنزلتها بعادٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وهؤلاء الذين أحللنا بهم نقمتنا وعذابنا ، عادٌ ، جحدوا بأدلة الله وحججه ، (2) وعصوا رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) ، يعني : كلّ مستكبر على الله ، (3) حائد عن الحق ، لا يُذعن له ولا يقبله.
* * *
يقال منه : " عَنَد عن الحق ، فهو يعنِد عُنُودًا " ، و " الرجل عَاند وعَنُود " . ومن ذلك قيل للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ : " عِرْق عاند " : أي ضَارٍ ، (4)
ومنه قول الراجز :
__________
(1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 14 : 576 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الجحد " فيما سلف 11 : 334 / 12 : 476 .
(3) انظر تفسير " الجبار " فيما سلف 10 : 172 .
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 291 ، ففيه زيادة بيان .

(15/366)


وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

(1)
إِنِّي كَبِيرٌ لا أَطِيقُ العُنَّدَا (2)
* * *
18282 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) ، المشرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأتبع عاد قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم القيامة ، مثلها ، لعنةً إلى اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا (3) (ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود) ، يقولُ : أبعدهم الله من الخير. (4)
* * *
يقال : " كفر فلان ربه وكفر بربه " ، " وشكرت لك ، وشكرتك " . (5)
* * *
وقيل إن معنى : (كفروا ربهم) ، كفروا نعمةَ ربهم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) مجاز القرآن 1 : 291 ، البطليوسي : 415 ، الجواليقي : 336 ، اللسان ( عند ) ، وسيأتي في التفسير 29 : 97 ( بولاق) ، وغيرها ، وهي أبيات لشواهد الإكفاء ، يقول : إذَا رَحَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطَا ... إِنِّي كَبِيرٌ لاَ أَطِيقُ العُنَّدَا
وَلاَ أُطِيقُ البَكرَاتِ الشُّرَّدَا
.
(3) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف من فهارس اللغة ( لعن ) .
(4) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص : 335.
(5) انظر ما سلف 3 : 212 ، مثله .

(15/367)


وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا ، فقال لهم : يا قوم ، اعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة ، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة ، ولا تجوز الألوهة إلا له (هو أنشأكم من الأرض) ، يقول : هو ابتدأ خلقكم من الأرض. (1)
* * *
وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض ، فخرج الخطاب لهم ، إذ كان ذلك فعله بمن هم منه.
* * *
(واستعمركم فيها) ، يقول : وجعلكم عُمَّارًا فيها ، فكان المعنى فيه : أسكنكم فيها أيام حياتكم.
* * *
من قولهم : " أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه " ، و " هي له عُمْرَى " . (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الإنشاء " فيما سلف 12 : 156 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) " عمري " ( بضم فسكون ، فراء مفتوحة ) ، مصدر مثل " الرجعي " : و " أعمره الدار " ، جعله يسكنها مدة عمره ، فإذا مات عادت إلى صاحبها . وكان ذلك من فعل الجاهلية ، فأبطله الله بالإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تعمروا ولا ترقبوا " ، فمن أعمر دارًا أو أرقبها ، فهي لورثته من بعده " .

(15/368)


قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)

18283 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (واستعمركم فيها) ، قال : أعمركم فيها
18284 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واستعمركم فيها) ، يقول : أعمركم
* * *
وقوله : (فاستغفروه) ، يقول : اعملوا عملا يكون سببًا لستر الله عليكم ذنوبكم ، وذلك الإيمان به ، وإخلاص العبادة له دون ما سواه ، واتباعُ رسوله صالح (ثم توبوا إليه) ، يقول : ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم ، إلى ما يرضاه ويحبه (إن ربي قريب مجيب) ، يقول : إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة ، مجيبٌ له إذا دعاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لصالح نبيِّهم : (يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا) ، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا ، من أنه مالنا من إله غير الله (1) (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) ، يقول : أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها (وإننا لفي شك مما تدعونَا إليه
__________
(1) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف 4 : 319 .

(15/369)


مريب) ، يعنون أنهم لا يعلمون صحَّة ما يدعوهم إليه من توحيد الله ، وأن الألوهة لا تكون إلا لهُ خالصًا.
* * *
وقوله : (مريب) ، أي يوجب التهمة ، من " أربته فأنا أريبه إرابة " ، إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة ، (1) ومنه قول الهذلي : (2)
كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُه مِنْ غَيْبِ... يَشَمُّ عِطْفِي وَيبُزُّ ثَوْبِي
*كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ* (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف من فهارس اللغة ( ريب) .
(2) هو خالد بن زهير الهذلي
(3) ديوان الهذليين 1 : 165 ، واللسان ( ريب) ( بزز ) ، ( أتى ) ، وغيرها كثير ، وسيأتي في التفسير 22 : 76 ( بولاق ) . وكان خالد بن زهير ، ابن أخت أبي ذؤيب ، وكان رسول أبي ذؤيب إلى صديقته ، فأفسدها عليه ، فكان يشك في أمره ، فقال له خالد : يَا قَوْمِ مَالِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ ... كُنْتُ إذَا أَتَوْتُه من غَيْبِ
" أتوته " ، لغة في " أتيته " ، وقوله : " من غيب " ، من حيث لا يدري ، لأن " الغيب " ، هو الموضع الذي لا يدري ما ورائه . و " يبز ثوبي " ، أي يجذبه إليه ، يريد أن يمسكه حتى يستخرج خبء نفسه ، من طول ارتيابه فيه .

(15/370)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال صالح لقومه من ثمود : (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، يقول : إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته (1) (وآتاني منه رحمة) ، يقول : وآتاني منه النبوة والحكمة
__________
(1) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين) .

(15/370)


وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)

والإسلام
(فمن ينصرني من الله إن عصيته) ، يقول : فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته ، فيخلصني منه (فما تزيدونني ) ، بعذركم الذي تعتذرون به ، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ آباؤكم ، (غير تخسير ) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله ، (1) كما : -
18285 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فما تزيدونني غير تخسير) ، يقول : ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود ، إذ قالوا له : (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) ، وسألوه الآية على ما دعاهم إليه : (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية) ، يقول : حجة وعلامة ، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه (فذروها تأكل في أرض الله) ، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها (ولا تمسوها لسوء) ، يقول : لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر (فيأخذكم عذاب قريب) ، يقول : فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة ( خسر ) .

(15/371)


فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فعقرت ثمود ناقة الله وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه ، استغناءً بدلالة الظاهر عليه ، وهو : " فكذبوه " " فعقروها " فقال لهم صالح : (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) ، يقول : استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام (ذلك وعد غير مكذوب) ، يقول : هذا الأجل الذي أجَّلتكم ، وَعْدٌ من الله ، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونزولَ العذاب بكم (غير مكذوب) ، يقول : لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
* * *
18286 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسُوا الأنطاع والأكسية ، (1) وقيل لهم : إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم ، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني ، ثم تسودَّ في اليوم الثالث . وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا ، وقالوا : " عليكم الفَصيلَ " ؟ فصعد الفصيل القارَة و " القارة " الجبل حتى إذا كان اليوم الثالث ، استقبل القبلة ، وقال : " يا رب أمي ، يا رب أمي " ، ثلاثا. قال : فأرسلت الصيحة عند ذلك.
وكان ابن عباس يقول : لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة.
18287 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) " الأنطاع " جمع " نطع " ( بكسر فسكون ) ، وهو : الجلد والأدم . كانوا يتخذون لأنفسهم منها أكفانًا ، كما سيأتي في آخر الحديث رقم : 18290 ص : 377 .

(15/372)


فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)

معمر ، عن قتادة : (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) ، قال : بقية آجالهم.
18288 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة أن ابن عباس قال : لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما جاء ثمود عذابُنا " نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا " ، يقول : بنعمة وفضل من الله (ومن خزي يومئذ) ، يقول : ونجيناهم من هوان ذلك اليوم ، وذلِّه بذلك العذاب (1) (إن ربك هو القوي) ، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه ، كما أهلك ثمود حين بطَش بها " العزيز " ، فلا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر ، بل يغلب كل شيء ويقهره. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18289 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة ( خزي ) .
(2) انظر تفسير " القوى " فيما سلف 14 : 19 .
وتفسير " العزيز " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) .

(15/373)


معمر ، عن قتادة : (برحمة منا ومن خزي يومئذ) ، قال : نجاه الله برحمة منه ، (1) ونجاه من خزي يومئذ.
18290 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن خارجة قال : قلنا له : حدّثنا حديثَ ثمود . قال : أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود : كانت ثمودُ قومَ صالح ، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعْمَارهم ، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر ، فينهدم ، (2) والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك ، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين ، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها . (3) وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا : يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله ، فدعا صالح ربَّه ، فأخرج لهم الناقة ، فكان شِرْبُها يومًا ، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا ، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء ، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء ، فلم تشرب منه شيئًا ، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك ! فقال لهم ، فقالوا : ما كنا لنفعل ! فقال : إلا تعقروها أنتم ، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [يعقرها] . (4) قالوا : ما علامة ذلك المولود ؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه ! قال : فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ ، أحمر. قال : وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان ، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا ، فجمع بينهما مجلس ، فقال أحدهما لصاحبه : ما يمنعك أن تزوج ابنك ؟ قال : لا أجد له كفؤًا. قال : فإن ابنتي كفؤ له ، وأنا أزوجك. . فزوّجه ، فولد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " برحمة منا " ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(2) " المدر " ، الطين العلك ، لا رمل فيه .
(3) قوله : " وجابوها " ساقطة من المطبوعة . " جابوها " ، خرقوا الصخر وحفروه ، فاتخذوه بيوتا .
(4) الزيادة بين القوسين ، من تاريخ الطبري .

(15/374)


بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فلما قال لهم صالح : " إنما يعقرها مولود فيكم " ، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية ، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا يطوفون في القرية ، فإذا وجدُوا المرأة تمخَضُ ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا قلَّبنه فنظرن ما هو (1) وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة وقلن : " هذا الذي يريد رسول الله صالح " ، فأراد الشرط أن يأخذوه ، فحال جدّاه بينهم وبينه ، وقالا لو أن صالحًا أراد هذا قتلناه ! فكان شرَّ مولود ، وكان يشبُّ في اليوم شباب غيره في الجمعة ، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وفيهم الشيخان ، فقالوا : " استعمل علينا هذا الغلام " (2) لمنزلته وشرَف جديه ، فكانوا تسعة. وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، كان في مسجد يقال له : " مسجد صالح " ، فيه يبيت بالليل ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم ، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه " .
قال حجاج : وقال ابن جريج : لما قال لهم صالح : " إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه " ، قالوا : فكيف تأمرنا ؟ قال : آمركم بقتلهم ! فقتلوهم إلا واحدًا. قال : فلما بلغ ذلك المولود ، قالوا : لو كنا لم نقتل أولادَنا ، لكان لكل رجل منا مثل هذا ، هذا عملُ صالح ! فأتمروا بينهم بقتله ، وقالوا : نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً ، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا ، فنرصده عند مصلاه فنقتله ، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون ، كما نحن ! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه ، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضَخَتهم ، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم ، فإذا هم رضْخٌ ، فرجعوا
__________
(1) في التاريخ : " فإن كان ولدا قتلنه " ، ليس فيه هذا الذي في روايته في التفسير ، وهي أحسن الروايتين إن شاء الله .
(2) في المطبوعة : " تستعمل " ، وأثبت ما في المطبوعة والتاريخ .

(15/375)


يصيحون في القرية : أي عباد الله ، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم ؟ ! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون ، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر.
ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح ، فاختبأ فيه ثمانية ، وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله ، فبيَّتْناهُمْ ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم . قال : فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة ، فقال الشقيُّ لأحدهم : ائتها فاعقرها ! فأتاها ، فتعاظَمَه ذلك ، فأضرب عن ذلك ، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها ، حتى مشوا إليها ، وتطاول فضرب عرقوبيها ، فوقعت تركُضُ ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال : " أدرك الناقةَ فقد عمرت " ! فأقبل ، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه : " يا نبيّ الله ، إنما عقرها فلان ، إنه لا ذنب لنا " ! قال : فانظروا هل تدركون فصيلها ؟ ، فإن أدركتموه ، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ ! فخرجوا يطلبونه ، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب ، أتى جبلا يقال له " القارَة " قصيرًا ، فصعد وذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله إلى الجبل ، فطالَ في السماء حتى ما تَناله الطير. قال : ودخل صالح القرية ، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه ، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً ، ثم رغَا أخرى ، ثم رغا أخرى ، فقال صالح لقومه : لكل رغوة أجلُ يوم ، (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني محمرّة ، واليوم الثالث مسودّة ! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت بالخلوق ، (1) صغيرُهم وكبيرُهم ، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم : " ألا قد مضى يوم من الأجل ، وحضركم العذاب " ! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة ،
__________
(1) " الخلوق " ، طيب يتخذ من الزعفران ، تغلب علبه الحمرة والصفرة .

(15/376)


كأنها خُضِبت بالدماء ، فصاحوا وضجُّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب ، فلما أمسوا صاحُوا بأجمعهم : " ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب " ! فلما أصبحوا اليوم الثالث ، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار ، فصاحوا جميعا : " ألا قد حضركم العذاب " ! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا ، وكان حنوطهم الصَّبر والمقر ، (1) وكانت أكفانهم الأنطاع ، (2) ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض ، (3) فجعلوا يقلبون أبصارهم ، فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة ، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض ، جَشَعًا وفَرَقًا. (4) فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء فيها صوتُ كل صاعقة ، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدُورهم ، فأصبحوا في دارهم جاثمين. (5)
18291 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة ، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله ، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل : ومن هو يا رسول الله ؟ قال : أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أتى على قرية ثمود ، لأصحابه : لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم . وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في القارَة.
قال ابن جريج ، وأخبرني موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أنْ يُصيبكم ما أصابهم.
قال ابن جريج ، قال جابر بن عبد الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى على الحِجْر ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فلا تسألوا رسُولكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية ، فبعث لهم الناقة ، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ ، وتصدر من هذا الفَجّ ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. (6)
__________
(1) " المقر " ( بفتح فكسر ) ، شبيه بالصبر وقيل هو الصبر نفسه ، وهو شجر مر . وكان في المطبوعة : " المغر " بالغين ، وهو خطأ .
(2) انظر تفسير " الأنطاع " فيما سلف ص : 373 تعليق : 1 .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " بالأرض " ، وأثبت ما في التاريخ .
(4) في المطبوعة : " خسفًا وغرقًا " ، غير ما في المخطوطة وفيها " حسما وفرقا " ، الأولى غير منقوطة . وفي التاريخ : " " خشعا وفرقا " ، وضبط " خشعا " بضم الخاء ، وتشديد الشين ، كأنه جمع " خاشع " ، وضبط " فرقا " بضم الفاء والراء ، وهو فاسد من وجوه . والذي أثبته هو الصواب .
و " الجشع " ( بفتحتين ) ، الجزع لفراق الإلف ، والحرص على الحياة . وفي حديث معاذ : " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وفي حديث ابن الخصاصية : " أخاف إذا حضر قتال جشعت نفسي فكرهت الموت " . و " الفرق " ، أشد الفزع .
(5) الأثر : 18290 - " حجاج " ، هو " حجاج بن محمد المصيصي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة . " أبو بكر بن عبد الله " ، لم أعرف من يكون ، فإن يكن هو : " أبا بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي " ، فهو منكر الحديث ، يروي الموضوعات عن الثقات ، ومضى برقم : 14044 ، ذكره حجاج بن محمد ، فقال : " قال لي أبو بكر السبري : عندي سبعون ألف حديث في الحلال والحرام " فقال أحمد : " ليس بشيء ، كان يضع الحديث " ، بل هو أيضًا لم يدرك " شهر بن حوشب " ، فإنه مات سنة 162 ، وله ستون سنة ، وشهر بن حوشب ، مات سنة 100 ، أو بعدها بقليل . وإن يكن " أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني " ، كما ذكر الذهبي في تعليقه عن المستدرك ، فهو أيضًا متروك الحديث ، مضى برقم : 9071 ، ولا أعلم أدرك شهرًا ، أم لا ، فإنه مات سنة 156 . وفي تاريخ الطبري المطبوع " " أبو بكر بن عبد الرحمن " ، وفي بعض نسخه المخطوطة " أبو بكر بن عبد الله " ، مطابقًا لما في التفسير . " وعمرو بن خارجة بن المنتفق الأشعري " ، صحابي ، ذكر العسكري أن شهر بن حوشب ، لا يصح سماعه عنه ، وإنما يروي عنه من طريق " عبد الرحمن بن غنم الأشعري " . وهذا الخبر رواه أبو جعفر الطبري في تاريخه 1 : 116 - 118 . ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 566 ، 567 ، وقال : " هذا حديث جامع لذكر هلاك آل ثمود ، تفرد به شهر بن حوشب ، وليس له إسناد غير هذا ، ولم يستغن عن إخراجه . وله شاهد على سبيل الاختصار بإسناد صحيح ، دل على صحة الحديث الطويل ، على شرط مسلم " . وقال الذهبي في تعليقه عليه : " أبو بكر ، واه ، وهو ابن أبي مريم " . فهذا حديث ضعيف ، لضعف " أبي بكر بن عبد الله ، أيا كان ، وللشك في رواية شهر عن عمرو بن خارجة ، فهو منقطع .
(6) الأثر : 18291 - في هذا الخبر حديث مسند ، حديث ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، رواه أحمد من طرق ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وخرجه أخي رحمه الله في المسند ، انظر رقم : 4561 ، 5225 ، 5342 ، 5404 ، 5441 ، 5645 ، 5705 ، 5931 . وأما سائر ما في الخبر ، فهو مرسل ، وقد مضى من حديث جابر نحوه ، من رقم : 14817 - 14823 ، فانظر التعليق على هذه الآثار هناك . وانظر أيضا مجمع الزوائد 6 : 194 / 7 : 37 ، من حديث جابر الذي رواه أحمد وغيره .

(15/377)


18292 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي ثمود ، وهو عامد إلى تبوك قال : فأمر أصحابه أن يسرعوا السير ، وأن لا ينزلوا به ، ولا يشربوا من مائه ، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال : وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من قوم صالح كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به ، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته ، لميعاد نبي الله صالح الذي وعدهم . وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت ، فيهم شبان وشيوخ ، أبقاهم الله عبرة وآية.
18293 - حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا عبد الله بن واقد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال ، حدثنا أبو الطفيل ، قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك ، (1) نزل الحجر فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيَّهم أن يبعث لهم آية ، فبعث الله لهم الناقة آيةً ، فكانت تَلج عليهم يوم [ورودها من هذا الفجّ ، فتشربُ ماءهم ، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه] ، (2) ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا ، ثم تخرج من ذلك الفجّ. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها ، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعدًا من الله غير مكذوب ، فأهلك الله من كان
__________
(1) في المطبوعة : " غزوة تبوك " ، غير ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في التاريخ .
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة : " تلج عليهم يوم ورودهم الذي كانوا يتروون منه ثم يحلبونها . . . " ، وهو غير مستقيم ، أثبت الصواب من التاريخ ، وفيه " يتزودون " في الموضوعين ، فأصلحتهما جميعًا ، ووضعت نص ما في التاريخ بين قوسين .

(15/379)


وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدًا ، كان في حرم الله ، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله . قالوا : ومن ذلك الرجل يا رسول الله ؟ قال : أبو رِغال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به (الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، قد جثمتهم المنايا ، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم ، (2) كما : -
18294 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 18293 - " إسماعيل بن المتوكل الشامي الحمصي " ، شيخ الطبري ، مترجم في التهذيب . و " محمد بن كثير " ، كأنه " محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي المصيصي ، الصنعاني " ، وهو ضعيف جدا . مضى برقم : 4150 ، 4836 ، ومضى في نحو هذا الإسناد رقم : 9492 . " وعبد الله بن واقد ، أبو رجاء الهروي " ، ثقة لا بأس به ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 191 . " وعبد الله بن عثمان بن خثيم المكي القارئ " ، تابعي ثقة متكلم فيه ، ولكن الصحيح توثيقه ، وروى عن أبي الطفيل . مضى برقم : 4341 ، 5388 . " وأبو الطفيل " ، هو " عامر بن واثلة " ، مضى مرارًا ، صحابي من صغار الصحابة ، كان له يوم مات رسول الله ثماني سنوات ، فهو قد سمع هذا الخبر ممن هو أكبر منه من الصحابة ، ولعله سمعه من جابر بن عبد الله . وهذا الخبر لين الإسناد شيئًا ، وقد رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 118 من هذه الطريق نفسها ، ولم أجده في مكان آخر .
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف 12 : 546 ، 566 .

(15/380)


وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)

(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، يقول : أصبحوا قد هلكوا.
* * *
(كأن لم يغنوا فيها) ، يقول : كأن لم يعيشوا فيها ، ولم يعمروا بها ، كما : -
18295 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (كأن لم يغنوا فيها) ، كأن لم يعيشوا فيها.
18296 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
* * *
وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
وقوله : (ألا إن ثمود كفروا ربهم) ، يقول : ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها (2) (ألا بعدًا لثمود) ، يقول : ألا أبعد الله ثمود ! لنزول العذاب بهم. (3)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ولقد جاءت رسلنا) ، من الملائكة وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل : إن الملكين الآخرين كان
__________
(1) انظر تفسير " غني " فيما سلف 12 : 569 ، 570 / 15 : 56 .
(2) انظر ما سلف ص : 367 .
(3) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص : 335 ، 367 .

(15/381)


ميكائيل وإسرافيل معه (إبراهيم) ، يعني : إبراهيم خليل الله (بالبشرى) ، يعني : بالبشارة. (1)
* * *
واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.
فقال بعضهم : هي البشارة بإسحاق.
وقال بعضهم : هي البشارة بهلاك قوم لوط.
* * *
(قالوا سلاما) ، يقول : فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب " سلامًا " بإعمال " قالوا " فيه ، كأنه قيل : قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
(قال سلام) ، يقول : قال إبراهيم لهم : سلام فرفع " سلامٌ " ، بمعنى : عليكم السلام أو بمعنى : سلام منكم .
* * *
وقد ذكر عن العرب أنها تقول : " سِلْمٌ " بمعنى السلام ، كما قالوا : " حِلٌّ وحلالٌ " ، وحِرْم وحرام " . وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده : (2)
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ... كَمَا اكْتَلَّ بِالَبْرقِ الغَمَامُ الَّلوَائِحُ (3)
__________
(1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف من فهارس اللغة ( بشر ) .
(2) لم أعرف قائله . والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت آخر غير هذا البيت ، شاهدًا على حذف " عليكم " ، وهو قوله : فَقُلْنَا : السَّلامُ ، فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها ... وَمَا كَانَ إلاَّ وَمْؤُها بالحواجِبِ
وأما هذا البيت الذي هنا ، فقد ذكره صاحب اللسان في مادة ( كلل ) ، عن ابن الأعرابي ، فلعل الفراء أنشده في مكان آخر .
(3) اللسان ( كلل ) ، يقال : " انكل السحاب عن البرق ، واكتل " ، أي : لمع به ، و " اللوائح " التي لاح برقها ، أي لمع وظهر .

(15/382)


بمعنى سلام. وقد روي " كما انكلّ " .
* * *
وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك : نحن سِلْمٌ لكم من " المسالمة " التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة ، ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم ، بنحو تسليمهم : عليكم السلام.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، لأن " السلم " قد يكون بمعنى " السلام " على ما وصفت ، و " السلام " بمعنى " السلم " ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء ، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ، ورَدُّ الآخرين عليهم ، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة ، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
وقوله : (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) .
* * *
وأصله " محنوذ " ، صرف من " مفعول " إلى " فعيل " .
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم (1) معنى " المحنوذ " : المشويّ ، قال : ويقال منه : " حَنَذْتُ فرسي " ، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز :
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن .

(15/383)


(1)
*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* (2)
* * *
وقال آخر منهم : " حنذ فرسه " : أي أضمره ، وقال : قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا : أي : عرَّقه.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة : كل ما انشوَى في الأرض ، إذا خَدَدت له فيه ، فدفنته وغممته ، فهو " الحنيذ " و " المحنوذ " . قال : والخيل تُحْنَذ ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال : ويقال : " إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ " ، يعني : أخْفِسْ ، يريد : أقلَّ الماء ، وأكثر النبيذ.
* * *
وأما [أهل ] التأويل ، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره ، وذلك ما : -
18297 - حدثني به المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (بعجل حينذ) ، يقول : نضيج
18298 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (بعجل حينئذ) ، قال : " بعجل " ، (3) حَسِيل
__________
(1) هو العجاج .
(2) ديوانه 9 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 292 ، واللسان ( حنذ ) ، و ( هرج ) ، من رجزه المشهور ، وهذا البيت من أبيات يصف حمار الوحش وأتنه ، لما جاء الصيف ، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال : حَتَّى إِذَا مَا الصَّيْفُ كَانَ أَمَجَا ... وَفَرَعَا مِنْ رَعْىِ مَا تَلَزَّجَا
ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا ... تَذَكَّرَا عَيْنًا رِوًى وَفَلَجَا
و " الأمج " شدة الحر والعطش ، يأخذ بالنفس . و " تلزج الكلأ " تتبعه ، و " الحنذ " ، شدة الحر وإحراقه . و " هرج البعير " تحير وسدر من شدة الحر .
(3) " الحسيل " ( بفتح الحاء وكسر السين ) : ولد البقرة .

(15/384)


البقر ، و " الحنيذ " : المشوي النضيج.
18299 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) إلى(بعجل حنيذ) ، (1) قال : نضيج ، سُخِّن ، أنضج بالحجارة.
18300 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، و " الحنيذ " : النضيج.
18301 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (بعجل حنيذ) ، قال : نضيج. قال : [وقال الكلبي] : و " الحنيذ " : الذي يُحْنَذُ في الأرض. (2)
18302 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر في قوله : (فجاء بعجل حنيذ) ، قال : " الحنيذ " : الذي يقطر ماء ، وقد شوى وقال حفص : " الحنيذ " : مثل حِنَاذ الخيل.
18303 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذبحه ثم شواه في الرَّضْف ، (3) فهو " الحنيذ " حين شواه.
18304 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية : (فجاء بعجل حنيذ) ، قال : المشويّ الذي يقطر.
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة هنا " ولما جاءت رسلنا " ، وهو سهو من الناسخ ، وحق التلاوة ما أثبت . وكذلك جاء سهوًا منه في نص الآية التي يفسرها أبو جعفر ، وصححتها ، ولم أشر إليه هناك .
(2) الذي بين القوسين ليس في المخطوطة ، وقد تركته على حاله ، وإن كنت أشك فيه ، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر ، بعد ناسخ مخطوطتنا .
(3) " الرضف " ( بفتح فسكون ) الحجارة المحماة على النار . و " شواء مرضوف " ، مشوي على الرضفة .

(15/385)


18305 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : " الحنيذ " الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي.
18306 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (بعجل حنيذ) ، قال : نضيج.
18307 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (بعجل حنيذ) ، الذي أنضج بالحجارة.
18308 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان : (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، قال : مشويّ.
18309 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : " حينذ " ، يعني : شُوِي.
18310 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، " الحِناذ " : الإنضاج. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.
* * *
وموضع " أن " في قوله : (أن جاء بعجل حنيذ) نصبٌ بقوله : (فما لبث أن جاء).
* * *
__________
(1) الأثر : 18310 - من خبر الطويل ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 127 . وفيه " التحناذ " ، وكلاهما مما يزاد على معاجم اللغة .

(15/386)


فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به ، والطعام الذي قدّم إليهم ، نكرهم ، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيما ذكر ، كفّوا عن أكله ، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله ، عند إبراهيم ، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ ، وراعه أمرهم ، وأوجس في نفسه منهم خيفة.
* * *
وكان قتادة يقول : كان إنكاره ذلك من أمرهم ، كما : -
18311 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ، ظنوا أنه لم يجئ بخير ، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ.
18312 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرَهم) ، قال : كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ، ظنوا أنه لم يأت بخير ، وأنه يحدّث نفسه بشرّ ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا.
*وقال غيره في ذلك ما : -
18313 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن الأسود بن قيس ، عن جندب بن سفيان قال : لما دخل ضيف إبراهيم عليه

(15/387)


السلام ، قرّب إليهم العجل ، فجعلوا ينكتُون بقِداح في أيديهم من نبْل ، ولا تصل أيديهم إليه ، نكرهم عند ذلك. (1)
* * *
يقال منه : " نكرت الشيء أنكره " ، و " أنكرته أنكره " ، بمعنى واحد ، ومن " نكرت " و " أنكرت " ، قول الأعشى :
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ... مِنَ الحَوَادِثِ ، إلا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا (2)
فجمع اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب :
فَنَكِرْنَهُ ، فَنَفَرْنَ ، وامْتَرَسَتْ بِهِ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 18313 - " الأسود بن قيس العبدي ، البجلي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 7440 .
و " جندب بن سفيان " ، منسوب إلى جده ، وهو : " جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي " ، كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا حزورًا ، كما قال هو ، وهو الذي راهق ، ولم يدرك بعد . مترجم في الإصابة ، وغيره ، وفي التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 220 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 510 .
(2) ديوانه : 72 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 293 ، واللسان ( نكر ) وغيرهما ، وسيأتي في التفسير 29 : 145 ( بولاق ) ، ومما يرويه أبو عبيدة ، أن أبا عمرو بن العلاء قال : " أنا قلت هذا البيت وأستغفر الله " ، فلم يروه ، وأنه أنشد بشارًا هذا البيت وهو يسمعه وقيل له : إنه للأعشى ، فقال : ليس هذا من كلامه . فقلت له : يا سيدي ، ولا عرف القصيدة . ثم قال : أعمى شيطان . وهذه قصة تروى أنا في شك منها .
(3) ديوانه ، ( ديوان الهذليين ) 1 : 8 ، وشرح المفضليات : 867 ، وغيرهما ، يذكر حمر الوحش ، لما شرعت في الماء ، وسمعت حس الصائد ، فقال : فَشَرِبْنَ ثُمَّ سَمِعْنَ حِسًّا دُونَهُ ... شَرَفُ الحِجَابِ ، وَرَيْبَ قَرْعٍ يَقْرَعُ
وَنمِيمَةً مِنْ قَانِصٍ متلبِّبٍ ... في كَفِّهِ جَشْءٌ أَجَشُّ وأَقْطَعُ
يقول : سمعن حس الصائد ، يحجبه ما ارتفع من الحرة وهو " شرف الحجاب " ، ثم يقول : سمعن ما رابهن من قرع القوس وصوت الوتر ، وسمعن نميمة الصائد ، وهو ما ينم عليه من حركته ، و " المتلبب " المحتزم بثوبه . و " الجشء " القضيب الذي تعمل منه القوس . و " أجش " غليظ الصوت . و " الأقطع " جمع " قطع " ( بكسر فسكون ) ، وهو نصل بين النصلين ، صغير . يقول : فلما سمعت ذلك أنكرته فنفرت ، فامترست الأتان بالحمار ، أي دنت منه دنوًا شديدًا ، من شدة ملازمتها له . و " سطعاء " طويلة العنق ، و " هادية " متقدمة ، وهو " هاد " متقدم ، " جرشع " ، منتفخ الجنبين .
وأما رواية " هوجاء هادية " ، فإنه يعني : جريئة متقدمة . .

(15/388)


وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)

وقوله : (وأوجس منهم خيفة) ، يقول : احسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها. (1) (قالوا لا تخف ) ، يقول : قالت الملائكة ، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم : لا تخف منا وكن آمنًا ، فإنا ملائكة ربّك (أرسلنا إلى قوم لوط).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وامرأته) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ ، (2) وهي ابنة عم إبراهيم (قائمة) ، قيل : كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل : كانت قائمة تخدُم الرسل ، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل.
* * *
وقوله : (فضحكت) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله(فضحكت) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.
فقال بعضهم : ضحكت الضحك المعروف ، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما ، تكرمةً لهم ، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.
* ذكر من قال ذلك :
18314 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب ، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه ، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم ، فراغ إلى أهله ، فجاء بعجل سمين ، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف ، فهو " الحنيذ "
__________
(1) انظر تفسير " خيفة " فيما سلف 13 : 353 .
(2) هكذا هنا : " ساروج " ، وفي غيره : " ساروغ " ، وهو الأكثر .

(15/389)


حين شواه. وأتاهم فقعد معهم ، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ) في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون ؟ قالوا : يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن . قال : فإن لهذا ثمنًا! قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوّله ، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول : لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبًا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا ! (1)
* * *
وقال آخرون : بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.
*ذكر من قال ذلك :
18315 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه ، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب ، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)
18316 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب.
* * *
وقال آخرون : بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط.
*ذكر من قال ذلك :
18317 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ،
__________
(1) الأثر : 18314 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 128 .

(15/390)


عن محمد بن قيس ، في قوله : (وامرأته قائمة فضحكت) ، قال : لما جاءت الملائكة ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط.
* * *
وقال آخرون : بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع.
*ذكر من قال ذلك :
18318 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : (فضحكت) ، قال : ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع ، بإبراهيم.
* * *
وقال آخرون : بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
*ذكر من قال ذلك :
18319 - حدثني المثني قال إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم ، راعه هيئتهم وجمالهم ، فسلموا عليه ، وجلسوا إليه ، فقام فأمر بعجل سمين ، فحُنِذَ له ، فقرّب إليهم الطعام (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا : لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشّر به امرأته سارة ، فضحكت وعجبت : كيف يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير! فقالوا : أتعجبين من أمر الله ؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به .
* * *
وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل : إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير ، كأنّ معنى الكلام عنده : وامرأته قائمة ، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت وقالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز ؟
* * *

(15/391)


وقال آخرون : بل معنى قوله : " فضحكت " في هذا الموضع : فحاضت.
*ذكر من قال ذلك :
18320 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن علي بن هارون ، عن عمرو بن الأزهر ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : (فضحكت) ، قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال : وكان إبراهيم ابن مائة سنة. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم ، لما قالوا لإبراهيم : لا تخف ، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم . فلما أمِنَت ضحكت ، فأتبعوها البشارة بإسحاق.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع " ضحكت " ، بمعنى : حاضت ، من ثقة. (2)
* * *
وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول " ضحكت المرأة " ، حاضت . قال : وقد قال :
__________
(1) الأثر : 18320 - " علي بن هارون " ، مضى برقم : 6521 . وكتبت هناك أني أظنه " يزيد بن هارون " ، وهذا ظن خطأ ، دل عليه هذا الإسناد ، فهو هناك أيضًا : " سعيد بن عمرو السكوني ، عن بقية بن الوليد ، عن علي بن هارون " ، ومثل هذا الخطأ لا يكاد يتفق على بعد ما بين الكلامين . والصواب أن " علي بن هارون " مجهول ، فإن " بقية بن الوليد " مشهور بالرواية عن هؤلاء المجهولين ، وكان يحدث بالمناكير عن هؤلاء المجاهيل ، وكان يأخذ عن كل من أدبر وأقبل . فهذا " علي بن هارون " ممن أدبر أو أقبل ! ! وأما " عمرو بن الأزهر العتكي " ، فهو كذاب يضع الحديث ، وكان أبو سعيد الحداد يقول : " كان عمرو بن الأزهر يكذب مجاوبة " ، قيل له : " كيف هذا " ؟ قال : " رجل أسلم ثوبًا إلى حائك ينسجه " ! ! مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 221 ، وتاريخ بغداد 12 : 193 ، وميزان الاعتدال 2 : 281 ، ولسان الميزان 4 : 353 . فهذا خبر هالك من جميع نواحيه .
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية .

(15/392)


" الضحك " ، الحيض ، وقد قال بعضهم : " الضحك " : الثَّغْرُ ، (1) وذكر بيت أبي ذؤيب :
فَجَاءَ بِمِزْجٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ... هُوَ الضَّحْكُ إلا أَنَّهُ عَملُ النَّحْلِ (2)
وذكر أنَّ بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض : (3)
وَضِحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا... كَمِثْل دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا (4)
قال : وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت :
فَأضْحَكَتِ الضِّبَاعُ سُيُوفُ سَعْدٍ... بِقَتْلَى مَا دُفِنَّ وَلا وُدِينَا (5)
وقال : يريد الحيض. قال : وبلحرث بن كعب يقولون : " ضحكت النخلة " ، إذا أخرجت الطَّلع أو البُسْر. وقالوا : " الضَّحك " الطلع. قال : وسمعنا من يحكي : " أضحكت حوضًا " أي ملأته حتى فاض. قال : وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله ، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الضحك العجب " وفي المخطوطة : " العسب " سيئة الكتابة ، كأنه لم يحسن قراءة المخطوطة التي نقل عنها ، والبيت الذي استشهد به دال على صواب ما أثبتناه .
(2) ديوانه ( ديوان الهذليين ) 1 : 42 ، واللسان (ضحك ) ، وغيرهما ، من قصيدة من عجائبه ، ذكر في آخرها الخمر ، وكيف تزودها من أهل مصر وغزة ، وأقبل بها يقطع الأرض ، حتى بات بمزدلفة ( جمع ) ، ومنى ، فقال قبل البيت : فَبَاتَ بِجَمْعٍ ، ثُمَّ تَمَّ إِلَى مِنًى ... فأَصْبَحَ رَأْدًا يَبْتَغِي المِزْجَ بالسَّحْل
وقوله : " رأدًا " ، أي طالبًا ، و " المزج " العسل يمزج بالخمر ، و " السحل " يعني ينقد الدراهم ، يقول : فلما طلب ذلك " المزج " اشترى بماله مزجا أي : عسلًا ، كأنه ثغر حسناء في بياضه وصفائه ورقته . هكذا قالوا ، وفي النفس منه شيء . وأجود منه عندي أن يقال إن " الضحك " في هذا البيت ، هو طلع النخل حين ينشق عما في جوفه ، وهو أبيض شديد البياض والنقاء .
(3) لم أعرف قائله .
(4) اللسان ( ضحك ) .
(5) اللسان (ضحك) ، من قصيدة له مشهورة ، لم أجدها مجموعة في مكان ، ويزعمون أن الضبع تحيض ، إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم . وكان ابن دريد يرد هذا ويقول : من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض ؟

(15/393)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال : معنى قوله : " فضحكت " فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم : (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم : (لا تخف) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط (بإسحاق ) ، ولدًا لها (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، يقول : ومن خلف إسحاق يعقوب ، من ابنها إسحاق.
* * *
و " الوراء " في كلام العرب ، ولد الولد ، وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18321 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عامر قال : (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال : الوراء : ولد الولد.
18322 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ، قال كلّ واحد منهما ، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري ، قال : كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران ، في مسجد عليّ بن زيد ، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال : يا أبا المغيرة من هذا الفتى ؟ قال : ابني من ورائي ،

(15/394)


فقال الحسن : (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب). (1)
18323 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال : ولد الولد هو " الوراء " .
18324 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر في قوله : (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال : " الوراء " ، ولد الولد.
18325 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، مثله.
18326 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال : سمعت الشعبي يقول : ولد الولد : هم الولد من الوَراء.
18327 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال : من هذا معك ؟ قال : هذا ابن ابني. قال : هذا ولدُك من الوراء! قال : فكأنه شقَّ على ذلك الرجل ، فقال ابن عباس : إن الله يقول : (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فولد الولد هم الوراء.
18328 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ضحكت سارَة . وقالت : " عجبًا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا " ! قال لها جبريل : أبشري بولد اسمُه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا ، فذلك قوله : ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) ، [سورة الذاريات : 29] . وقالت : (أألد
__________
(1) الأثر : 18322 - " أبو اليسع " إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة ، مولى الأشعري " ، لم أجده في مكان آخر . والذي وجدته :
" إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان ، مولى الأشعري " مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/351 ، وابن أبي حاتم 1/1/ 164 ، وروى عنه " عمر بن علي بن مقدم " ، ولم يرو عنه " عمرو بن علي الفلاس " ، وإذًا فليس هو هو. فيبقى مجهولًا حتى نجد له ترجمة.

(15/395)


وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) قالوا(أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) ، قالت سارة : ما آية ذلك ؟ قال : فأخذ بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر ، فقال إبراهيم : هُو لله إذا ذبيحًا.
18329 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : (فضحكت ) يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها يقال : ضربت على جبينها : (يا ويلتا أألد وأنا عجوز) ، إلى قوله : (إنه حميد مجيد).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز : (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ ) ، برفع " يعقوب " ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله.(ومن وراء إسحاق يعقوب) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ ، ففيه دلالة على معنى التبشير.
* * *
وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم ، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب ) نصبًا .
* * *
فأما الشامي منهما ، فذكر أنه كان ينحو ب " يعقوب " نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة ، كأنه قال : ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر " وهبنا " عمل فيه " التبشير " وعطف به على موضع " إسحاق " ، إذ كان " إسحاق " وإن كان مخفوضًا ، فانه بمعنى المنصوب بعمل " بشرنا " ، فيه ، كما قال الشاعر : (1)
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمِ... أَوْ مِثْلِ أُسَْرِة مَنْظُورِ بنِ سَيَّارِ...
__________
(1) هو جرير .

(15/396)


أَوْ عَامِرَ بْنَ طُفَيْلٍ فِي مُرَكَّبِهِ... أَوْ حَارِثًا ، يَوْمَ نَادَى القَوْمُ : يَا حَارِ (1)
* * *
وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه ، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم . (2) وقالوا : خطأ أن يقال : " مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد " وأنت عاطف ب " زيد " على " عمرو " ، إلا بتكرير الباء وإعادتها ، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع ، وجاز النصب ، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض ، وذلك إذا قلت : " مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت " . وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم ، بعضُ نحويي البصرة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية ، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا ، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به ، لأن كتاب الله نزلَ بأفصح ألسُن العرب ، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة.
* * *
__________
(1) ديوانه : 312 ، 313 ، ونقائض جرير والأخطل : 144 ، وسيبويه 1 : 48 ، 86 ، والفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية : من جياد قصائده في هجاء الأخطل ، يقول له : لاَ تَفْخَرَنَّ ، فإنَّ اللهَ أنْزَلكُمْ ... يَا خُزْرَ تَغْلِبَ دَارَ الذُّلِّ والعَارِ
مَا فِيكُمُ حَكَمٌ تُرْضَى حُكُومَتُهُ ... لِلمُسْلِمينَ ، ولاَ مُسْتَشْهَدٌ شَارِي
ثم يقول البيتين ، وبينهما بيت ثالث : أوْ مَثْلَ آلِ زُهَيْرٍ ، والقَنا قِصَدٌ ... وَالخَيْلُ في رَهَجٍ مِنْهَا وَإِعْصَارِ
وهو في هذه القصيدة يفخر ببني قيس عيلان بن مضر بن نزار جميعًا ، على بني ربيعة بن نزار ، وهم جذم الأخطل التغلبي . فذكر " بني بدر " ، الفزاريين من قيس عيلان ، و " منظور بن سيار الفزاري " ، و " آل الزهير بن جذيمة " ، العبسيين ، و " عامر بن الطفيل " من بني جعفر بن كلاب ، و " الحارث بن ظالم المري " ، من بني ذبيان ، ثم تابع ذكر سائر قبائل قيس .
(2) " الصفة " يعني حرف الجر ، كما سلف مرارًا ، انظر فهارس المصطلحات .

(15/397)


قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك ، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء
* * *
وقيل : إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. (1)
وأما ابن إسحاق ، فإنه قال في ذلك ما : -
18330 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم ، ابنة تسعين سنة ، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة.
* * *
(يا ويلتا) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء ، فيقولون عند التعجب : " ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله " ! (2)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في : (يا ويلتا) .
فقال بعض نحويي البصرة : هذه ألف حقيقة ، إذا وقفت قلت : " يا ويلتاه " ،
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 18320 .
(2) انظر تفسير " الويل " فيما سلف 2 : 267 - 269 ، 273 .

(15/398)


وهي مثل ألف الندبة ، فلطفت من أن تكون في السكت ، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها ، وأبعد في الصوت . ذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه ، فتكون أكثر وأبين.
* * *
وقال غيره : هذه ألف الندبة ، فإذا وقفت عليها فجائز ، وإن وقفت على الهاء فجائز ، وقال : ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله : (ويَدْعُو الإنْسَانُ) ، [ سورة الإسراء : 11] ، فحذفوا الواو وأثبتوها ، وكذلك : (ما كُنَّا نَبْغِي) ، [ سورة الكهف : 64] ، بالياء ، وغير الياء ؟ قال : وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة ، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم.
* * *
وقوله : (أألد وأنا عجوز) ، تقول : أنى يكون لي ولد (وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا) ، والبعل في هذا الموضع : الزوج ، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها ، كما سموا مالك الشيء " بعله " ، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون " البعل " ، لأن مالك الشيء القيم به ، والنخل البعل ، بماء السمَاء حياتُه. (1)
* * *
وقوله (إن هذا لشيء عجيب) ، يقول : إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب (قالوا أتعجبين من أمر الله) ،
__________
(1) انظر تفسير " البعل " فيما سلف 4 : 526 ، 527 / 9 : 267 ، ولم يذكر فيهما مثل هذا التفصيل في معناه . وهذا من فعله ، دال على طريقته في التأليف .

(15/399)


فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)

يقول الله تعالى ذكره : قالت الرسل لها : أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون ، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك.
* * *
وقوله : (رحمة الله وبركاته عليكم البيت) ، يقول : رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم (1) وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة وقوله : (إنه حَميدٌ مجيد) ، يقول : إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه (2) (مجيد) ، يقول : ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.
* * *
يقال في " فعل " منه : " مجد الرجل يمجد مجادة " إذا صار كذلك ، وإذا أردت أنك مدحته قلت : " مجّدته تمجيدًا " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا ، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء (وجاءته البشرى ) ، بإسحاق ، ظلّ ( يجادلنا في قوم لوط) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18331 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) انظر تفسير " البركات " فيما سلف من فهارس اللغة ( برك ) .
(2) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف 5 : 570 / 9 : 296 .

(15/400)


قوله : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) يقول : ذهب عنه الخوف ، (وجاءته البشرى) ، بإسحاق.
18332 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، بإسحاق ، ويعقوب ولد من صلب إسحاق ، وأمن مما كان يخاف ، قال : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ، [سورة إبراهيم : 39].
* * *
وقد قيل معنى ذلك : وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك :
18333 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وجاءته البشرى) ، قال : حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط ، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (1)
* * *
وقال آخرون : بشّر بإسحاق.
* * *
وأما " الروع " : فهو الخوف ، يقال منه : " راعني كذا يَرُوعني روعًا " إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : " كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن " ؟ ومنه قول عنترة :
مَا رَاعَني إلا حَمُوَلُة أَهْلِهَا... وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (2)
__________
(1) بعد هذا الأثر ما نصه : " قال حدثنا محمد بن ثور ، قال حدثنا معمر ، وقال آخرون . . . " فحذفت هذه الزيادة ، لأنها سبق نظر من الناسخ ، لأنه نقل من أول السطر الذي فوقه ، ثم عاد إلى السياق ولم يتم النقل .
(2) ديوانه : 123 ، من معلقته المشهورة ، وقبله : إنْ كُنْتِ أَزْمْعتِ الفِرَاقَ ، فإنَّما ... زُمَّتْ رِكابُكُمْ بِيَوْمٍ مُظْلِمِ
" الخمخم " ، بقلة لها حب أسود . وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع ، فلما يبس البقل ، سفت حب الخمخم ، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم .

(15/401)


بمعمى : ما أفزعني.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
18334 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الروع " ، الفَرَق.
18335 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18336 - . . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال : الفَرَق.
18337 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال : الفَرَق.
18338 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال : ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله : (يجادلنا في قوم لوط) ، يقول : يخاصمنا. كما : -
18339 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يجادلنا) ، يخاصمنا. (1)
18340 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : (يجادلنا) يكلمنا.
__________
(1) انظر تفسير " المجادلة " فيما سلف ص : 303 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك

(15/402)


وقال : لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا من الكلام جهلٌ ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل : " إبراهيم لا يجادل " ، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله : (يجادلنا) ، يخاصمنا ، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه ، جهلٌ من الكلام ، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك : " وجاءته البشرى يجادل رسلنا " ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف " الرسل " .
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم ، كما : -
18341 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر ، عن سعيد : (يجادلنا في قوم لوط) ، قال : لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم : إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين : قال لهم إبراهيم : أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن ؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن ؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا ؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا ؟ قالوا : لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط ، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه .
18342 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال ، قال الملك لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
18343 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله :
__________
(1) في المطبوعة : " ويطلب منه " ، لم يحسن قراءة المخطوطة لدقة كتابة الكلمة في تجويف باء " يطلب " ، إذ كانت في آخر السطر .

(15/403)


(يجادلنا في قوم لوط) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم ؟ قالوا : لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال ، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم ؟ قالوا : لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.
18344 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يجادلنا في قوم لوط) ، قال : بلغنا أنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين ؟ قالوا : إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال : أربعون ؟ قالوا : وأربعون! قال : ثلاثون ؟ قالوا : ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا : وإن كان فيهم عشرة! قال : ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال ابن عبد الأعلى ، قال محمد بن ثور ، قال معمر : بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك.
18345 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، قال : ما خطبُكم أيها المرسلون ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال ، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين ، فقالوا : لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين ، ثم قالوا : " يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته ، وهو قول الله تعالى ذكره : (يجادلنا في قوم لوط) . فقالت الملائكة : (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنَّه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
18346 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، يعني : إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال : فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين

(15/404)


جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب ، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به : أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم ؟ قالوا : ، لا! قال : أفرأيتم إن كانوا تسعين ؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ثمانين ؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا سبعين ؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ستين ؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كانوا خمسين ؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا ؟ قالوا : لا! قال : فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا ، ( قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ) ، يدفع به عنهم العذاب ( قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) [ سورة العنكبوت : 32] ، (قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
18347 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال إبراهيم : أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين ؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال : وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
18348 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا(لما ذهب عن إبراهيم الروع) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم : أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا ، فيهم مائة رجل ؟ قال : لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال : فأربعين ؟ فثلاثين ؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال : لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل : ( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [سورة الذاريات : 36] ، أي لوطًا وابنتيه ، قال : فحلّ بهم من العذاب ، قال الله عز وجل : ( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة الذاريات : 37] ، وقال : (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط). (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 18348 - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا ، منها : 13108 .
و " أبو المغيرة " ، هو : " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني " ، مضى مرارا ، منها : 13108 .
و " صفوان " هو : " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، مضى مرارًا ، منها : 13108 .
" وأبو المثني " كأنه يعني : مسلم بن المثني الكوفي المؤذن " ، روى عن ابن عمر ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 256 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 195 . وأما " أبو الحبيل الأشجعي " ، فلست أجد من يسمى هكذا ، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ ، فصوابه عندي : " قال حدثنا أبو المثني مسلم ، والحسيل الأشجعي " .
" والحسيل الأشجعي " ، فيما أرجح : " الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي " ، ويقال أيضًا : " حسين " ، روى عن سعد بن أبي وقاص ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 58 . هذا ، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد ، والله أعلم .

(15/405)


والعرب لا تكاد تَتَلقَّى " لمَّا " إذا وليها فعل ماض إلا بماض ، يقولون : " لما قام قمت " ، ولا يكادون يقولون : " لما قام أقوم " . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل " الجدال " " والخصومة " والقتال ، فيقولون في ذلك : " لما لقيته أقاتله " ، بمعنى : جعلت أقاتله.
* * *
وقوله : (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب) ، يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم لبطيء الغضب ، (1) متذلل لربه خاشع له ، منقاد لأمره (منيب) ، رَجَّاع إلى طاعته ، كما : -
18349 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : (أوّاه منيب) ، قال : القانت : الرَّجاع.
* * *
وقد بينا معنى " الأوّاه " فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته. (2)
__________
(1) انظر تفسير " حليم " فيما سلف 11 : 114 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الأواه " فيما سلف 14 : 523 - 536 .

(15/406)


يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم : (يا إبراهيم أعرض عن هذا) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط ، فقالوا : دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه (1) فإنه(قد جاء أمر ربكَ) يقول : قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب ، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) ، يقول : وإن قوم لوط ، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع.
* * *
وقد [مضى] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه. (2)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاءت ملائكتنا لوطًا ، ساءَه مَجيئهم وهو " فعل " من " السوء " (وضاق بهم ) ، بمجيئهم(ذَرْعًا) ، يقول : وضاقت نفسه غما بمجيئهم . وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم ، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة ، وخاف عليهم ، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا ، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه ، ولذلك قال : (هذا يوم عصيب).
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 14 : 425 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق .

(15/407)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك :
18350 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذراعًا) ، يقول : ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه.
* * *
18351 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حذيفة أنه قال : لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها ، وقد قيل لهم ، والله أعلم : لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط . قال : فأتوه فقالوا : إنا مُتَضيِّفوك الليلة ، فانطلق بهم ، فلما مضى ساعةً التفت فقال : أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية ؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم ! قال : فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال ، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته ، انطلقَت فأنذرتهم. (1)
18352 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال ، قال حذيفة ، فذكر نحوه.
18353 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، قال : أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له ، وقال الله للملائكة : إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا : يا لوط ، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال : وما بلغكم من أمرهم ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا ! يقول ذلك أربع مرات ، فشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فدخلوا معه منزله. (2)
18354 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد
__________
(1) الأثر : 18351 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 154 .
(2) الأثر : 18353 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 154 .

(15/408)


قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط ، فأتوها نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها ، وكانت له ابنتان ، اسم الكبرى " ريثا " ، والصغرى " زغرتا " ، (1) فقالوا لها : يا جارية ، هل من منزل ؟ قالت : نعم ، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم ! فَرِقَتْ عليهم من قَوْمها . (2) فأتت أباها فقالت : يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف رجلا فقالوا : خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال ! فجاء بهم ، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، قالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قَطّ ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه. (3)
18355 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة ، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا ، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه ، فقال : (هذا يوم عصيبٌ).
* * *
وأما قوله : (وقال هذا يوم عصيب) ، فإنه يقول : وقال لوط : هذا اليوم يوم شديد شره ، عظيم بلاؤه ،
* * *
يقال منه : عصب يومنا هذا يعصب عصبًا ، ومنه قول عدي بن زيد :
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لمْ أُعَرِّدْ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيب (4)
__________
(1) هكذا في المخطوطة منقوطة نقطًا واضحًا ، على قلة النقط في مواضع منها . وفي التاريخ : " رعزيا " ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى وقت غير هذا .
(2) أي : خافت عليهم .
(3) الأثر : 18354 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 154 ، تام الإسناد ، مطولا .
(4) الأغاني 2 : 111 ، مجاز القرآن 1 : 294 ، اللسان ( سلك ) ، وسيأتي في التفسير 14 : 8 / 18 : 13 ( بولاق ) . من قصيدة له طويلة ، قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر ، يقول للنعمان قبله : سَعَى الأَعْدَاءُ لاَ يَأْلُونَ شَرًّا ... عَلَيَّ وَربِّ مَكَّةَ والصَّلِيبِ
أَرَادُوا كي تُمَهَّلَ عَنْ عَدِيٍّ ... لِيُسْجَنَ أَو يُدَهُدَهَ فِي القَلِيبِ
وَكُنْتُ لِزازَ خَصْمِكَ . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أُعَالِنُهُم وأُبْطِنُ كُلَّ سِرٍّ ... كَمَا بَيْنَ اللِّحَاءِ إِلَى العَسِيبِ
فَفُزْتُ عَلَيْهِمْ لَمّا الْتَقَيْنَا ... بِتَاجِكَ فَوْزَةَ القِدْحِ الأرِيبِ
" دهدهه " ، دحرجه من علو إلى سفل ، و " القليب " ، البئر ، إنما عنى القبر هنا . و " لزاز الخصم " ، الشديد المعاند ذو البأس في الملمات . و " عرد عن خصمه " ، أحجم ونكص . وكان في المطبوعة هنا " أعدد " ، وفي المخطوطة : " أعود " ، والصواب ما أثبت . و " اللحاء " قشر العود ، و " العسيب " جريد النخل ، يقول : سرك كما بين هذين ، يعني خفي لا يرى . و " القدح الأريب " من قداح الميسر ، هو القدح ذو الآراب الكثيرة ، و " الآراب " أعضاء الجذور .

(15/409)


وقول الراجز :
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الأَبْطَالا... عَصْبَ القَوِيِّ السَّلَمَ الطِّوَالا (1)
وقول الآخر :
وَإنَّكَ إنْ لا تُرْضِ بَكْرَ بنَ وَائِلٍ... يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعِرَاقِ عَصِيبِ (2)
وقال كعب بن جعيل :
ومُلَبُّونَ بِالحَضِيضِ فِئامٌ... عَارِفاتٌ مِنْهُ بِيَوْمٍ عَصِيبِ (3)
* * *
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) لم أعرف قائله ، وهو في مجاز القرآن 1 : 294 .
(2) لم أعرف قائله ، وهو في مجاز القرآن 1 : 294 .
(3) لم أجد البيت في مكان آخر ، وفي المطبوعة : " ويلبون " ، وفي المخطوطة مثله ، إلا أن فيه خطأ في النقط وأظن الصواب ما أثبت ، من قولهم : " ألب بالمكان " ، إذا لزمه ولم يفارقه . " والحضيض " ، منخفض من الأرض عند منقطع الجبل. و " فئام " ، جماعات . وكأن هذا البيت من شعره الذي رثى به عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وروى أبياتا منه المصعب الزبيري في نسب قريش ص : 325 ، وكان كعب بن جعيل مداحًا له .

(15/410)


وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)

18356 - حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (عصيب) ، : شديد
18357 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : (هذا يوم عصيب) ، يقول شديد.
18358 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : (هذا يوم عصيب) ، أي يوم بلاء وشدة.
18359 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يوم عصيب) ، شديد.
18360 - حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وقال هذا يوم عصيب) ، أي : يوم شديد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه ، يُرْعَدون مع سرعة المشي ، مما بهم من طلب الفاحشة.
* * *
يقال : " أهْرِعَ الرجل " ، من برد أو غضب أو حمَّى ، إذا أرعد ، " وهو مُهْرَع " ، إذا كان مُعْجلا حريصًا ، كما قال الراجز :

(15/411)


(1)
* بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * (2)
ومنه قول مهلهل :
فجاؤوا يُهْرَعُونَ وهمْ أُسارَى تَقُودُهُمُ على رَغمِ الأُنُوفِ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18361 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (يُهْرَعون إليه) ، قال : يهرولون ، وهو الإسراع في المشي.
18362 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18363 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
18364 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد والمحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال : يسعون إليه.
18365 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : فأتوه يهرعون إليه ، يقول : سراعًا إليه.
18366 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يهرعون إليه) ، قال : يسرعون إليه.
18367 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول : يسرعون المشي إليه.
18368 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 294 .
(3) اللسان ( هرع ) ، ولم أعرف سائر الشعر .

(15/412)


زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال : يهرولون في المشي قال سفيان : (يهرعون إليه) ، يسرعون إليه.
18369 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، قال سفيان بن عيينة في قوله : (يهرعون إليه) ، قال : كأنهم يدفعون.
18370 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية قال ، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز.
18371 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس ، قوله : (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول : مسرعين.
* * *
وقوله : (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، يقول : من قبل مجيئهم إلى لوط ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم ، كما : -
18372 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، قال : يأتون الرجال.
* * *
وقوله : (قال يا قوم هؤلاء بناتي) ، يقول تعالى ذكره : قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه : هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته فانكحوهن فهنّ أطهر لكم ، كما : -
18373 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال : أمرهم لوط بتزويج النساء وقال : (هن أطهر لكم).
18374 - حدثنا محمد قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد.
18375 - حدثنا ابن وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (هؤلاء

(15/413)


بناتي هن أطهر لكم) ، قال : لم تكن بناته ، ولكن كنَّ من أمّته ، وكل نبي أبُو أمَّته.
18376 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال : أمرهم أن يتزوجوا النساء ، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
18377 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا أبو بشر ، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : (هن أطهر لكم) ، قال : ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. (1)
18378 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال : أمرهم أن يتزوجوا النساء ، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه ببناته.
18379 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع ، في قوله : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج حدثني أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج. (2)
18380 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قول لوط : (هؤلاء بناتي هن أطهر كم) ، يعني : نساءهم ، هنّ بَنَاته ، هو نبيّهم وقال في بعض القراءة : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ) ، [سورة الأحزاب : 6] . (3)
__________
(1) لا يظهر لهذه العبارة معنى ، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء ويكون : " ما عرض عليهم بناته نكاحا ولا سفاحا " ، ويكون ابن أبي نجيح أراد أنه أمرهم بأن يتزوجوا النساء من قومهم .
(2) هكذا جاء التكرار في المخطوطة والمطبوعة ، وأخشى أن يكون سقط من الإسناد شيء .
(3) الأثر : 18380 - " محمد بن شبيب الزهراني " ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 114 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 285 .

(15/414)


18381 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وجاءه قومه يهرعون) ، قالوا : أو لم ننهك أن تضيف العالمين ؟ قال : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، إن كنتم فاعلين ، أليس منكم رجل رشيد ؟
18382 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون ، والله أعلم ، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم ، وقالت : إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم ! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء ، فاحشةٌ ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا : أو لم ننهك عن العالمين ؟ أي : ألم نقل لك : لا يقربنَّك أحدٌ ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة ؟ قال : " يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " ، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح.
18383 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (هؤلاء بناتي) ، قال : النساء.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (هن أطهر لكم).
فقرأته عامة القراء برفع : (أَطْهَرُ) ، على أن جعلوا " هن " اسمًا ، " وأطهر " خبره ، كأنه قيل : بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.
* * *
وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك : (هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ ) ، بنصب " أطهر " . (1)
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول : هذا لا يكون ، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.
__________
(1) انظر قراءة عيسى بن عمر ، وما قاله له أبو عمرو بن العلاء ، في طبقات فحول الشعراء ص : 18 .

(15/415)


وكان بعض نحويي الكوفة يقول : من نصبه جعله نكرةً خارجة من المعرفة ، ويكون قوله : " هن " عمادًا للفعل فلا يُعْمِله.
* * *
وقال آخر منهم : مسموع من العرب : " هذا زيد إيَّاه بعينه " ، قال : فقد جعله خبرًا لـ " هذا " مثل قولك : " كان عبد الله إياه بعينه " . قال : وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا ، لأن التقريب ردُّ كلام ، (1) فلم يجتمعا ، لأنه يتناقض ، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود ، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه : " ها أنا ذا حاضر " ، أو : " زيد هو العالم " ، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر ، فلذلك لم يجُزْ.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك ، الرفع : ( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، مع صحته في العربية ، وبعد النصب فيه من الصحة.
* * *
وقوله : (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) ، يقول : فاخشوا الله ، أيها الناس ، واحذروا عقابه ، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها (ولا تخزون في ضيفي) ، يقول : ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. (2)
* * *
و " الضيف " ، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع " ضيفًا " بلفظ واحدٍ. كما قالوا : " رجل عَدْل ، وقوم عَدْل " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقريب " فيما سلف 7 : 149 ، تعليق : 4 ، وص : 150 ، تعليق : 3 ، وهو من اصطلاح الكوفيين . وهو أن تكون " هذا " و " هذه " ، من أخوات " كان " في احتياجهما إلى اسم مرفوع ، وخبر منصوب .
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة ( خزي ) .

(15/416)


قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)

وقوله : (أليس منكم رجل رشيد) ، يقول : أليس منكم رجل ذو رُشد ، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي ، فيحول بينهم وبين ذلك ؟ (1) كما : -
18384 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قوم لوط للوط : (لقد علمت) ، يا لوط(ما لنا في بناتك من حق) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا ، (2) كما : -
18385 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : (قالوا : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) ، أي من أزواج (وإنك تعلم ما نريد).
* * *
وقوله : (وإنك لتعلم ما نريد) ، يقول : قالوا : وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك ، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
*ذكر من قال ذلك :
18386 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الرشد " فيما سلف 13 : 114 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ليس لنا أزواجا " ، والصواب ما أثبت .

(15/417)


قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

السدي : (وإنك لتعلم ما نريد) ، إنا نريد الرجال.
18387 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإنك لتعلم ما نريد) ، أي : إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا ، ولم يردَّهم قوله ، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته ، قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة ، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم : (لو أن لي بكم قوة) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني (أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول : أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم ، (1) لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي وحذف جواب " لو " لدلالة الكلام عليه ، وأن معناه مفهوم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18388 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : قال لوط : (قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول : إلى جُنْد شديد ، لقاتلتكم.
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص : 331 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك ثم انظر ما سيأتي ص : 422 .

(15/418)


18389 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال : العشيرة.
18390 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : (إلى ركن شديد) ، قال : العشيرة.
18391 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن : (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال : إلى ركن من الناس.
18392 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال قوله : (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال : بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم.
18393 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، أي : عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني ، لحلت بينكم وبين هذا.
18394 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) قال : يعني به العشيرة.
18395 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن : أن هذه الآية لما نزلت : (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد !
18396 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن مبارك ، عن الحسن قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله أخي لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، فلأيّ شيء استكان !
18397 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد الرحيم ، عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله

(15/419)


عليه وسلم : رحمة الله على لوط ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، إذ قال لقومه : (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه قال محمد : و " الثروة " ، الكثرة والمنعة. (1)
18398 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله.
18399 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله.
18400 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا سعيد بن تليد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال ، حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزهري قال ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رحم الله لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (2)
__________
(1) الأثر : 18397 - حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رواه من أربع طرق ، من رقم : 18397 - 18399 ، ثم رقم : 18402 . " ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . " وأبو سلمة بن عبد الرحمن " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . وهذا حديث صحيح ، وخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 561 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه بهذه الزيادة ، وإنما اتفق على حديث الزهري عن سعيد ، وأبي عبيدة ، عن أبي هريرة مختصرًا " .
(2) الأثر : 18400 - حديث ابن شهاب الزهري ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رواه من طريقين ، هذا ورقم : 18401 .
" زكريا بن يحيى بن أبان المصري " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 5973 ، 12807 ، وانظر التعليق عليه في الموضوعين . " وسعيد بن تليد " ، هو : " سعيد بن عيسى بن تليد المصري " ثقة ، مضى برقم : 5973 . " وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي " ، ثقة ، مضى برقم : 5973 . " وبكر بن مضر المصري " ، ثقة ، مضى برقم " : 2031 ، 4633 ، 5897 ، 5973 . " وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة . " ويونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة . وهذا إسناد صحيح أيضًا .

(15/420)


18401 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ، فذكر مثله.
18402 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله : (أو آوى إلى ركن شديد) ، قد كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. (1)
18403 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا بن لهيعة ، عن أبي يونس ، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رحم الله لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد . (2)
18404 - . . . . قال ، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (3)
18405 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) الأثر : 18402 - انظر تخريج الأثر رقم : 18397 .
(2) الأثر : 18403 - " أبو يونس " ، هو " سليم بن جبير الدوسي المصري " ، مولى أبي هريرة ، ثقة ، سلف برقم : 6889 . و " ابن لهيعة " ، مضى مرارًا ، ذكر من يضعفه ، ومن يوثقه .
(3) الأثر : 18404 - هذا إسناد صحيح ، ومن هذه الطريق ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 6 : 297 ) .

(15/421)


ذكر لنا أنَّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية أو : أتى على هذه الآية قال : رحم الله لوطًا ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه ، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من قومه.
* * *
يقال : من(آوي إلى ركن شديد) ، " أويت إليك " ، فأنا آوي إليك أوْيًا " ، بمعنى : صرت إليك وانضممت ، (1) كما قال الراجز : (2)
يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ... فِي عَدَدَ طَيْسٍ وَمجْدٍ بَانِ (3)
* * *
وقيل : إن لوطًا لما قال هذه المقالة ، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك.
18406 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : قال لوط : (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا : إنَّ ركنَك لشديد! (4)
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص : 418 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك ، وهذه زيادة في البيان لم يسبق مثلها .
(2) لم أعرف قائله .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 294 ، و " عدد طيس " ، كثير .
(4) الأثر : 18406 - جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 156 ، 157 ، وسيأتي برقم : 18415 .

(15/422)


قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت الملائكة للوط ، لما قال لوط لقومه(لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم : (يا لوط إنا رسل ربك) ، أرسلنا لإهلاكهم ، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه ، فهوّن عليك الأمر(فأسر بأهلك بقطع من الليل) ، يقول : فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. (1)
* * *
يقال منه : " أسرى " و " سرى " ، وذلك إذا سار بليل (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك).
* * *
واختلفت القراءة في قراءة قوله : (فأسر) .
فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين : " فَاسْرِ " ، وصلٌ بغير همز الألف ، من " سرى " .
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة : (فَأَسْرِ) بهمز الألف ، من " أسرى " .
* * *
قال أبو جعفر : والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة ، وهما لغتان مشهورتان في العرب ، معناهما واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القطع " فيما سلف ص : 76 .

(15/423)


وأما قوله : (إلا امرأتك) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة ، وبعض أهل البصرة ، قرأوا بالنصب(إلا امْرَأَتَكَ) ، بتأويل : فأسر بأهلك إلا امرأتك ، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته ، فإنه نهي أن يسري بها ، وأمر بتخليفها مع قومها.
* * *
وقرأ ذلك بعض البصريين : (إلا امْرَأَتُكَ) ، رفعًا بمعنى : ولا يلتفت منكم أحد ، إلا امرأتك فإن لوطًا قد أخرجها معه ، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته ، وأنها التفتت فهلكت لذلك.
* * *
وقوله : (إنه مصيبها ما أصابهم) ، يقول : إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب (إن موعدهم الصبح) ، يقول : إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم : بلى عجِّلوا لهم الهلاك ! فقالوا : (أليس الصبح بقريب) أي عند الصبح نزولُ العذاب بهم ، كما : -
18407 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (أليس الصبح بقريب) ، أي : إنما ينزل بهم من صبح ليلتك هذه ، فامض لما تؤمر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : -
18408 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط ، فلما أتوا لوطًا ، وكان من أمرهم ما ذكر الله ، قال جبريل للوط : يا لوط ، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ، فقال لهم لوط : أهلكوهم الساعة ! فقال له جبريل عليه السلام : (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ؟ فأنزلت على لوط : (أليس الصبح بقريب) ، قال : فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل ، ولا يلتفت منهم أحد إلا

(15/424)


امرأته ، قال : فسار ، فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها ، أدخل جبريل جناحَه فرفعها ، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ الكلاب ، فجعل عاليها سافلَها ، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال : وسمعت امرأة لوط الهَدَّة ، فقالت : واقوماه ! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها. (1)
18409 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية قال : كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال : فلما دخل عليه جبريل ومن معه ، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ ، فانطلقت تسعى إلى قومها ، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا ، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز ، فلما انتهوا إلى لوط ، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل : (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، قال : فقال بيده ، (2) فطمس أعينهم ، فجعلوا يطلبونهم ، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. (3)
18410 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حذيفة قال : لما بَصُرت بهم يعني بالرسل عجوزُ السَّوء امرأتُه ، انطلقت فأنذرتهم ، فقالت : قد تضيَّف لوطًا قوم ، (4) ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا ! قال : ولا أعلمه إلا قالت : ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا ! قال : فأتوه يُهْرعون إليه ، كما قال الله ، فأصْفق لوط البابَ. قال : فجعلوا يعالجونه. قال : فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم ، فأذن له ، فصفقهم بجناحه ، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ . (5)
فأخبروه : (إنا رسل ربك فأسر
__________
(1) الأثر : 18408 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 155 .
(2) " قال بيده " ، أشار بيده وأومأ .
(3) الأثر : 18409 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 155 .
(4) في المطبوعة فقال " إنه تضيف لوطا " ، وفي المخطوطة : " رب تضيف لوط قوم " ، وهو خطأ من الناسخ لا شك فيه وأثبت ما في التاريخ .
(5) في المطبوعة : " في أخبث ليلة ما أتت عليهم . . . " ، كأنه أراد تصويبها ، فأفسدها . والصواب ما في المخطوطة والتاريخ .

(15/425)


بأهلك بقطع من الليل) ، قال : ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته ، ثم سمعت الصوت ، فالتفتت ، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وقوله : (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك ، فقالوا : (أليس الصبح بقريب ) ؟ (1)
18411 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة قال : انطلقت امرأته يعني امرأة لوط حين رأتهم يعني حين رأت الرسل إلى قومها فقالت : إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط ، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا ! فجاؤوا يُهرعون إليه ، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب ، (2) فقال : ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) ، فقالوا : ( أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ، (3) فدخلوا على الملائكة ، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم ، فقالوا : يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا ، كما أنت حتى تصبح ! قال : واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع ، في كل قرية مائة ألف ، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض ، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم ، ثم قلبَهم ، فجعل الله عاليها سافَلها. (4)
18412 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : قال حذيفة : لما دخلوا عليه ، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء ، فأتت قومها فقالت : لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ
__________
(1) الأثر : 18410 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 155 ، ولم ترد فيه الجملة الأخيرة من الخبر .
(2) في المطبوعة : " يزجهم على الباب " والصواب ما في المخطوطة والتاريخ .
(3) تضمين آيات سورة الحجر : 70 ، 71 .
(4) الأثر : 18411 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 155 ، 156 .

(15/426)


أحسنَ وجوهًا منهم ! قال : فجاؤوا يسرعون ، (1) فعاجلَهم إلى لوط ، (2) فقام ملك فلزَّ الباب يقول : فسدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم ، فأذن له ، فضربهم جبريل بجناحه ، فتركهم عميانًا ، فباتوا بشرّ ليلة ، ثم(قالوا إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) ، قال : فبلغنا أنها سمعت صوتًا ، فالتفتت فأصابها حجر ، وهى شاذَّة من القوم معلومٌ مكانها. (3)
18413 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن حذيفة بنحوه ، إلا أنه قال : فعاجلهم لوط. (4)
18414 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، لما قال لوط : (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه ، ففقأ أعينهم ، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون : " النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض " ! فذلك قوله : ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) ، [سورة القمر : 37] . وقالوا للوط : (إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها) ، وَاتبع أدبارَ أهلك (5) يقول : سرْ بهم (وامضوا حيث تؤمرون) فأخرجهم الله إلى
__________
(1) في التاريخ " فجاؤوا يهرعون إليه " .
(2) في المطبوعة : " فعاجلهم لوط " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا في ريب منه ، لأن أبا جعفر لم يرو هذه الجملة في تاريخه ، ولا أدري لم ؟ ولم أشأ أن أغيره ، للخبر الذي يليه ، وهو في التاريخ جمع الإسنادين جميعًا ، وساق هذه الجملة كلها غير هذا السياق .
(3) الأثر : 18412 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 156 ، جمع هذا الإسناد والذي يليه فقال : " . . . حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق جميعًا ، عن معمر . . . " .
(4) الأثر : 18413 - انظر التعليق السالف ، وإن كانت هذه الجملة ، لم ترد في نص روايته في التاريخ .
(5) هذا تضمين للآيات من هذه السورة ، والتي في سورة الحجر : 65 .

(15/427)


الشام. وقال لوط : أهلكوهم الساعة! فقالوا : إنا لم نؤمر إلا بالصُّبح ، أليس الصبح بقريب ؟ فلما أن كان السَّحَر ، خرج لوط وأهله معه امرأته ، (1) فذلك قوله : ( إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ) ، [سورة القمر : 34]. (2)
18415 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول : كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط ، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال ، فلما رأى الله ذلك [منهم] ، (3) بعث الملائكة ليعذبوهم ، فأتوا إبراهيم ، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد ، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي ، قال : أخبروني لم بعثتم ؟ وما خطبكم ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها ، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم : [أرأيتم] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا ؟ (4) قالوا : إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت ؟ (5) قالوا : فإن كان فيها بيت صالح! قال : فلوط وأهل بيته ؟ قالوا : إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف . ومضوا إلى أهل سدوم ، فدخلوا على لوط ، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم ، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل ! (6) فتسامعوا بذلك ، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. (7) فلقيهم لوط فقال : يا قوم
__________
(1) في التاريخ : " وأهله معه إلا امرأته " .
(2) الأثر : 18414 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 ، مع اختلاف ذكرته آنفا . وذكر إسناده تامًا غير مختصر ، إلى ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وهو إسناد دائر في التفسير ، في أوله ، ثم اختصره أبو جعفر بعد .
(3) الزيادة بين القوسين ، من التاريخ .
(4) الزيادة بين القوسين ، من التاريخ .
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " أهل البيت " ، والصواب من التاريخ .
(6) في التاريخ : " لم ذر قومًا " .
(7) في التاريخ : " الجدارات " ، وفي المخطوطة : " الجدرات " ، والذي في التاريخ صالح .

(15/428)


لا تفضحون في ضيفي ، وأنا أزوّجكم بناتي ، فهن أطهر لكم ! فقالوا : لو كنَّا نُريد بناتك ، لقد عرفنا مكانهن! فقال : (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)! فوجد عليه الرسل وقالوا : إن ركنك لشديد ، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ! فمسح أحدهم أعينهم بجناحيه ، فطمس أبصارَهم فقالوا : سُحِرْنا ، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه ! فكان من أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. (1) فأدخل ميكائيل وهو صاحبُ العذاب جناحه حتى بلغ أسفل الأرض ، فقلبها ، ونزلت حجارة من السماء ، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانُوا ، فأهلكهم الله ، ونجّى لوطًا وأهله ، إلا امرأته. (2)
18416 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، وعن أبي بكر بن عبد الله وأبو سفيان ، عن معمر عن قتادة ، عن حذيفة ، دخل حديث بعضهم في بعض قال : كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول : ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا ، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه ، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال : فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له ، فدعاهم إلى الضيافة ، فقالوا : إنَّا مُضيِّفوك الليلة ! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات . فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام ، فمشى معهم ساعةً ، ثم التفت إليهم ، فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله ! (3) فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوا هذه واحدة ! ثم مشى ساعةً ، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم
__________
(1) في المطبوعة وحدها : " في كتابة " .
(2) الأثر : 18415 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 156 ، 157 ، وانظر التعليق على رقم : 18406 .
(3) في المطبوعة : " شر خلق الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(15/429)


واستحيا منهم ، قال : أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية ؟ وما أعلم على وجه الأرض شرًّا منهم ، إن قومي شر خلق الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة ، فقال : احفظوا ، هاتان ثنتان ! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم ، وقال : إن قومي شرُّ خلق الله ، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم ! فقال جبريل للملائكة : احفظوا هذه ثلاثٌ ، قد حُقَّ العذاب! فلما دخلوا ذهبت عجوزُه ، عجُوز السَّوء ، فصعدت فلوحت بثوبها ، فأتاها الفساق يهرعون سراعًا ، قالوا : ما عندك ؟ قالت : ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم ولا أطيب ريحًا منهم ! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب ، (1) فعاجلهم لوط على الباب ، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج ، يناشدهم الله ويقول : (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، فقام الملك فلزَّ الباب يقول : فسَدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم ، فأذن الله له ، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه ، ولجبريل جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين ، ورأسه حُبُك ، مثل المرجان ، (2) وهو اللؤلؤ ، كأنه الثلج ، وقدماه إلى الخضرة فقال : يا لوط ، (إنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أمِطْ ، يا لوط ، من الباب ودعني وإياهم . (3) فتنحى لوط عن الباب ، فخرج عليهم ، فنشر جناحه ، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم ، (4) فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته ، قال : (فأسر بأهلك بقطع من الليل).
18417 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال لوط لقومه : (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له ، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا : (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أي : بشيء تكرهه (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، أي إنما ينزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه ، فامض لما تؤمر.
18418 - . . . . قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه ، (5) فرجعوا عميانًا. قال : يقول الله : ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُم )[سورة القمر : 37].
18419 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (بقطع من الليل) ، قال : بطائفة من الليل.
18420 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (بقطع من الليل) ، بطائفة من الليل.
18421 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس قوله : ( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ، قال : جوف الليل وقوله :
__________
(1) في المطبوعة : " مسارعين إلى الباب " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) هكذا في المطبوعة ، بأنه يعني " حبك الشعر " ، وهو الجعد المتكسر منه ، وفي المخطوطة " حبل حبل " غير منقوطة ، كأنها " حبل ، حبل " ، يعني الذي ينظم في اللؤلؤ كالتاج . أو تقرأ " جثل ، جثل " ، وهو من الشعر الكثير الملتف . والله أعلم .
(3) في المطبوعة : " امض يا لوط " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب المحض . يقال : " ماط عن المكان ، وأماط عنه " ، إذا تنحى . وفي حديث خيبر أنه أخذ الراية فهزها ، فقال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان ، فقال : أنا ! فقال : أمط ! ثم جاء آخر ، فقال : أمط أي : تنح أنت واذهب .
(4) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " شدخ أعينهم " ، كأنه من " شدخت الغرة " ، إذا غشيت الوجه من أصل الناصية إلى الأنف ، في الفرس . هذا ، وإلا فإني لا أدري ما هو ؟ .
(5) " سفع وجهه بيده سفعا " لطمه بكفه مبسوطة .

(15/430)


( وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ) ، يقول : واتبع أدبار أهلك ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) (1) [سورة الحجر : 65] .
وكان مجاهد يقول في ذلك ما : -
18422 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ولا يلتفت منكم أحد) ، قال : لا ينظر وراءَه أحد (إلا امرأتك).
* * *
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ).
* * *
18423 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال في حرف ابن مسعود : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ).
* * *
قال أبو جعفر : وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب.
* * *
__________
(1) الأثر : 18421 - هذا من تفسير آية سورة الحجر : 65 ، ولم يذكره هناك .

(15/432)


فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك ، (جعلنا عاليها)
يعني عالي قريتهم (سافلها وأمطرنا عليها) ، يقول : وأرسلنا عليها (حجارة من سجيل).
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " سجيل " .

(15/432)


فقال بعضهم : هو بالفارسية : سنك ، وكل. (1)
*ذكر من قال ذلك.
18424 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (من سجيل) ، بالفارسية ، أوَّلها حَجَر ، وآخرها طين.
18425 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
18426 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه.
18427 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
18428 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : (حجارة من سجيل) ، قال : فارسية أعربت سنك وكل. (2)
18429 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " السجيل " ، الطين.
18430 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : (من سجيل) قالا من طين.
18431 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد ، عن وهب قال : سجيل بالفارسية : سنك وكل
18432 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 14 ، تعليق : 2 ، ثم ص : 20 .
(2) الأثر : 18428 - انظر الأثر السالف قديمًا ، رقم : 5 .

(15/433)


عن السدي : (حجارة من سجيل) ، أما السجيل فقال ابن عباس : هو بالفارسية : سنك وجل " سنك " ، هو الحجر ، و " جل " ، هو الطين. يقول : أرسلنا عليهم حجارة من طين.
18433 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (حجارة من سجيل) ، قال : طين في حجارة.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما : -
18434 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (حجارة من سجيل) ، قال : السماء الدنيا. قال : والسماء الدنيا اسمها سجيل ، وهي التي أنزل الله على قوم لوط.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول : " السجيل " ، هو من الحجارة الصلب الشديد ، ومن الضرب ، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر : (1)
*ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا* (2)
وقال : بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. (3)
* * *
__________
(1) هو تميم بن أبي مقبل .
(2) مجاز القرآن 1 : 296 ، ومنتهى الطلب : 44 ، والمعاني الكبير : 991 ، واللسان ( سجن ) ، وغيرها ، يقول قبله : وإنَّ فِينَا صَبُوحًا إنْ أَرِبْتَ بِهِ ... جَمْعًا بَهيًّا وَآلافًا ثَمَانِينَا
وَرَجْلةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُض ... ضَرْبًا تَواصَى بِهِ الأبْطَالُ سِجِّينَا
.
(3) يعني بقوله : " بعضهم " ، أي بعض العرب يحول اللام نونًا ، كقول النابغة : بِكُلِّ مُدَجّجٍ كالَّليْثِ يَسْمُو ... عَلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
يريد : رفل هذا تمام كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن ، نقلته للتوضيح . ونسب قريش : 90 .

(15/434)


وقال آخر منهم : هو " فِعّيل " ، من قول القائل : " أسجلته " ، أرسلته فكأنه من ذلك ، أي مرسلةٌ عليهم.
* * *
وقال آخر منهم : بل هو من " سجلت له سجلا " من العطاء ، فكأنه قيل : مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه ، وقالوا أسجله : أهمله.
* * *
وقال بعضهم : هو من " السِّجِلّ " ، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب.
* * *
وقال آخر منهم : بل هو طين يطبخ كما يطبخ الآجرّ ، وينشد بيت الفضل بن عباس :
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا... يَمْلأُ الدَّلْوَ إلَى عَقْدِ الكرَب (1)
فهذا من " سجلت له سَجْلا " ، أعطيته.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون ، وهو أنها حجارة من طين ، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع ، وذلك قوله : ( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) [سورة الذاريات : 33 ، 34]
* * *
__________
(1) معجم الشعراء : 309 واللسان ( سجل ) ، وغيرهما ، وقبله : وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي ... أخْضَرُ الجِلْدَةِ فِي بَيْتِ العَرَبْ
مَنْ يُسَاجِلْنِي . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إِنَّما عَبْدُ مَنَافٍ جَوْهَرٌ ... زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ
وهو : الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ، وأمه آمنة بنت العباس بن عبد المطلب . وكان الفضل آدم شديد الأدمة ، ولذلك قال : " وأنا الأخضر " ، و " الخضرة " في ألوان الناس ، شدة السمرة ، والعرب تصف ألوانها بالسواد ، وتصف العجم بالحمرة . و " الكرب " الحبل الذي يشد على الدلو .

(15/435)


وقد روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول : هي فارسية ونبطية.
18435 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : فارسية ونبطية " سج " ، " إيل " .
* * *
فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بالفارسية " جل " لا " إيل " ، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان " سِجْل " لا " سجيل " ، لأن الحجر بالفارسية يدعى " سج " والطين " جل " ، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا الصواب من القول عندنا في أوّل الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه قال : كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت.
* * *
وأما قوله : (منضود) ، فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما : -
18436 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : (منضود) يقول : مصفوفة.
18437 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة(منضود) يقول : مصفوفة.
* * *
وقال الربيع بن أنس فيه ما : -
18438 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله(منضود) ، قال : نضد بعضه على بعض.
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 13 - 20 .

(15/436)


18439 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله : أما قوله : (منضود) ، فإنها في السماء منضودة : معدَّة ، وهي من عُدَّة الله التي أعَدَّ للظلمة.
* * *
وقال بعضهم : " منضود " ، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال : فذلك نَضَدُه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، وذلك أن قوله : (منضود) من نعت " سجيل " ، لا من نعت " الحجارة " ، وإنما أمطر القوم حجارة من طين ، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض ، فصُيِّر حجارة ، ولم يُمْطَرُوا الطين ، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه.
قال أبو جعفر : وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنزيل بالنصب " منضودةً " ، فيكون من نعت " الحجارة " حينئذ.
* * *
وأما قوله : (مسوَّمة عند ربك) ، فإنه يقول : معلمة عند الله ، أعلمها الله ، (1) و " المسوّمة " من نعت " الحجارة " ، ولذلك نصبت على النعت. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18440 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (مسوّمة) ، قال : معلمة.
18441 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " المسومة " فيما سلف 6 : 251 - 257 / 7 : 184 - 190 .
(2) في المطبوعة : " نصبت ونعت بها " ، وفي المخطوطة : " نصبت وانعت " ، وكأن الصواب ما أثبت .

(15/437)


18442 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18443 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله قال ابن جريج : (مسوّمة ) ، لا تشاكل حجارة الأرض.
18444 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : (مسومة) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من حمرة. (1)
18445 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (مسومة) عليها سيما معلومة . حدّث بعضُ من رآها ، أنها حجارة مطوَّقة عليها أو بها نضحٌ من حمرة ، ليست كحجارتكم.
18446 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : (مسوّمة) ، قال : عليها سيما خطوط.
18447 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (مسومة) قال : " المسومة " ، المختَّمة.
* * *
وأما قوله : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي قريش : وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط ، من مشركي قومك ، يا محمد ، ببعيد أن يمطروها ، إن لم يتوبوا من شركهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة : " يصح من حمرة " ، والصواب ما في المخطوطة . و " النضح " ، ما بقي له أثر ، يقال : " على ثوبه نضح دم " ، وهو اليسير منه ، الباقي أثره .

(15/438)


18448 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبان بن تغلب ، عن مجاهد ، في قوله : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال : أن يصيبهم ما أصاب القوم. (1)
18449 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال : يُرْهِب بها من يشاء.
18450 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18451 - . . . . قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18452 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18453 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول : ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط.
18454 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول : لم يترك منها ظالمًا بعدهم. (2)
18455 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شؤذب ، عن قتادة في قوله : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال : يعني ظالمي هذه الأمة . قال : والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ!
__________
(1) الأثر : 18448 - " سهل بن حماد " ، " أبو عتاب الدلال " ، ثقة لا بأس به . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 103 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 196 .
(2) في المطبوعة : " لم يبرأ منها ظالم " ، وفي المخطوطة : " يبرا منها ظالما " ، ورأيت قراءتها كما أثبتها .

(15/439)


18456 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول : من ظَلَمة العرب ، إن لم يتوبوا فيعذّبوا بها.
18457 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال : يقول : (وما هي من الظالمين ببعيد) ، من ظلمة أمتك ببعيد ، فلا يأمنها منهم ظالم .
* * *
وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم سافلها ، كما : -
18458 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد قال : أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم ، حملهم بمواشيهم وامتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. (1)
18459 - حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد قال : أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط ، ثم أخذهم بالجناح الأيمن ، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم ، ثم رفعها (2)
18460 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، كان يقول : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ) ، قال : لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم ، ففتقها من أركانها ، ثم أدخل جناحه ، ثم حملها على خَوافي جناحه. (3)
18461 - . . . . قال ، حدثنا شبل قال ، فحدثني هذا ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر قال : ولم يسمعه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ،
__________
(1) الأثر : 18458 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 .
(2) الأثر : 18459 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 .
(3) الأثر : 18460 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 .

(15/440)


فحملها على خوافي جناحه بما فيها ، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها. فكان أوّل ما سقط منها شِرَافها. (1) فذلك قول الله : (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، قال مجاهد : فلم يصب قومًا ما أصابهم ، إن الله طمس على أعينهم ، ثم قلب قريتهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. (2)
18462 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال ، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى ، ثم ألوَى بها إلى السماء ، (3) حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم ، (4) ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعهم الحجارة قال قتادة : وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. (5)
18463 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده قال : ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ بعروتها الوسطى ، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم ، ثم دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا . (6) قال : وهي ثلاث قرًى يقال لها " سدوم " ، وهي بين المدينة والشأم. قال : وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر
__________
(1) في المطبوعة : " شرفها " ، وفي المخطوطة والتاريخ " شرافها " ، كأنه على جمع " شريف " ، نحو " صغير " و " صغار " و " كبير " و " كبار " ، وكأن صوابهما " أشرافها " ، لأن " شراف " ، لم يذكر في جموع " شريف " ، ولكني أخشى أن تكون هي " شذانها " كما سيأتي في رقم : 18463 ، تعليق رقم : 6 .
(2) الأثر : 18461 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 ، مختصرًا ، أسقط منه قول مجاهد الآخر .
(3) يقال : " ألوت به العقاب " ، أي أخذته وطارت به .
(4) " ضواغي الكلاب " ، جمع " ضاغية " ، أي التي لها " ضغاء " ، وهو صوت الذليل المقهور إذا استغاث .
(5) الأثر : 18462 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 .
(6) " الشذان " جمع " شاذ " ، وهو الذي خرج من الجماعة ، فشذ عنهم .

(15/441)


لنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف [ثم] يقول (1) سدوم ، يومٌ مَا لكِ! (2)
18464 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، لما أصبحوا يعني قوم لوط نزل جبريل ، فاقتلع الأرض من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ، [حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم ، ثم قلبها فقتلهم] ، (3) فذلك حين يقول : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) [سورة النجم : 53] ، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه ، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض . وهو قول الله : (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، ثم تتبعهم في القرى ، فكان الرجل [يتحدث] ، فيأتيه الحجر فيقتله ، (4) وذلك قول الله تعالى : (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل). (5)
18465 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر وأبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة قال ، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه ، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها ، فضمها في جناحه ، فحواها وطواها في جوف جناحه ، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا ، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ الناس والكلاب ، وكانوا أربعة آلاف ألف ، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً ، دمْدَمَ بعضها على بعض ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها حجارة من سجيل
18466 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن نبي الله صلى الله عليه
__________
(1) الزيادة من تاريخ الطبري . وفي التاريخ : " سدوم يوم هالك " ، وأخشى أن الصواب هو ما في التفسير ، وأن ذاك خطأ .
(2) الأثر : 18463 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 .
(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها من سياق الكلام ، نقلتها من نص الخبر في تاريخ الطبري .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " فكان الرجل يأتيه " ، وأثبت النص من التاريخ .
(5) الأثر : 18464 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 157 ، 158 .

(15/442)


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)

وسلم قال : " بعث الله جبريل عليه السلام إلى المؤتفكة قرية لوط عليه السلام التي كان لوط فيهم ، فاحتملها بجناحه ، ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نُباح كلابها وأصوات دجاجها ، ثم كفأها على وجهها ، ثم أتبعها الله بالحجارة ، يقول الله : (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات ، وكنّ خمس قريات ، " صنعة " و " صعوة " " وعثرة " ، و " دوما " و " سدوم " وسدوم هي القرية العظمى ونجى الله لوطًا ومن معه من أهله ، إلا امرأته كانت فيمن هلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا ، فلما أتاهم قال : (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول : أطيعوه ، وتذللوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه (ما لكم من إله غيره) ، يقول : ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره (ولا تنقصوا المكيال والميزان) ، يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم (إني أراكم بخير) .
* * *
واختلف أهل التأويل في " الخير " الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به.
فقال بعضهم : كان ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه.

(15/443)


*ذكر من قال ذلك :
18467 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال ، حدثنا محمد بن موسى ، عن الذيال بن عمرو ، عن ابن عباس : (إني أراكم بخير) ، قال : رُخْص السعر (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) ، قال : غلاء سعر. (1)
18468 - حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال ، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا صالح بن رستم ، عن الحسن ، وذكر قوم شعيب قال : (إني أراكم بخير) ، قال : رُخْص السعر. (2)
18469 - حدثني محمد بن عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبي عامر الخراز ، عن الحسن في قوله : (إني أراكم بخير) قال : الغني ورُخْص السعر.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك : إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا.
ذكر من قال ذلك : -
18470 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (إني أراكم بخير) ، قال : يعني خير الدنيا وزينتها .
18471 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) الأثر : 18467 - " الذيال بن عمرو " ، هكذا جاء هنا بالذال معجمة ، وقد سلف في رقم : 14445 ، وتعليقي عليه ، وتعليق أخي السيد أحمد رحمه الله ، في ج 12 : 589 ، رقم : 7 ، " الزباء بن عمرو " ، وفي ابن كثير : " الديال " بدال مهملة ، ولم نستطع أن نعرف من يكون . والإسناد هنا ، هو الإسناد هناك نفسه .
(2) الأثر : 18468 - " أحمد بن عمرو البصري " : شيخ الطبري ، مضى برقم : 9875 ، 13928 ، وقد مضى ما قلت فيه ، وقد روى عنه أبو جعفر في تاريخه 1 : 182 / 5 : 32 . وكان في المطبوعة هنا : " أحمد بن علي النصري " ، ولا أدري من أين جاء بهذا التغيير ؟ .

(15/444)


قوله : (إني أراكم بخير) ، أبصر عليهم قِشْرًا من قشر الدنيا وزينتها. (1)
18472 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إني أراكم بخير) ، قال : في دنياكم ، كما قال لله تعالى : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) ، سماه " خيرًا " لأن الناس يسمون المال " خيرًا " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه ، وذلك قوله : (إني أراكم بخير) ، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا ، المال وزينة الحياة الدنيا ، ورخص السعر ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض ، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها.
* * *
وإنما قال ذلك شعيب ، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم ، كثيرة أموالهم ، فقال لهم : لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم ، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم ، (وإني أخاف عليكم) ، بمخالفتكم أمر الله ، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم (عذاب يوم محيط ) ، يقول : أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل " المحيط " نعتًا لليوم ، وهو من نعت " العذاب " ، إذ كان مفهومًا معناه ، وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم : " بعْض جُبَّتك محترقة " . (2)
* * *
__________
(1) " القشر " هو في الأصل ، قشر الشجرة ونحوها ، ثم أستعير للثياب وكل ملبوس ، مما يخلع كما يخلع القشر ، ثم أستعير لما نلبسه من زينة الحياة ثم نخلعه راضين أو كارهين .
(2) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 15 : 93 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .

(15/445)


وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه : أوفوا الناس الكيل والميزان (1) " بالقسط " ، يقول : بالعدل ، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم ، على ما وجب لهم من التمام ، بغير بَخس ولا نقص. (2)
* * *
وقوله : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير ذلك ، (3) كما : -
18473 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا علي بن صالح بن حي قال : بلغني في قوله : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال ، : لا تنقصوهم.
18474 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول : لا تظلموا الناس أشياءهم.
* * *
وقوله : (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول : ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله ، (4) كما : -
18475 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) انظر " إيفاء المكيال والميزان " فيما سلف 12 : 224 ، 555 .
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 15 : 103 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " البخس " فيما سلف ص : 262 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " عثا " فيما سلف 12 : 542 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك . وتفسير " الفساد في الأرض " 12 : 542 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/446)


بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

معمر ، عن قتادة في قوله : (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، قال : لا تسيروا في الأرض.
18476 - وحدثت عن المسيب ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول : لا تسعوا في الأرض مفسدين يعني : نقصان الكيل والميزان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (بقية الله خير لكم) ، ما أبقاه الله لكم ، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط ، فأحلّه لكم ، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان (إن كنتم مؤمنين) ، يقول : إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده ، وحلاله وحرامه.
* * *
وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير مرتضى عند أهل النقل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم معناه : طاعة الله خيرٌ لكم.
*ذكر من قال ذلك :
18477 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (بقية الله خير لكم) ، قال : طاعة الله خير لكم.
18478 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد

(15/447)


بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : (بقية الله) قال : طاعة الله(خير لكم).
18479 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (بقية الله) ، قال : طاعة الله.
18480 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد : (بقية الله خير لكم) ، قال : طاعة الله خير لكم.
18481 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (بقية الله خير لكم) ، قال : طاعة الله.
18482 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : حظكم من ربكم خير لكم.
*ذكر من قال ذلك : -
18483 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، حظكم من ربكم خير لكم.
18484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (بقية الله خير لكم) ، قال : حظكم من الله خير لكم .
* * *
وقال آخرون : معناه : رزق الله خير لكم.
*ذكر من قال ذلك :
18485 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : (بقيت الله) قال رزق الله.
* * *

(15/448)


وقال ابن زيد في قوله ما : -
18486 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، قال : " الهلاك " ، في العذاب ، و " البقية " في الرحمة.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي اخترته ، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان ، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب ، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة ، أولى مع أن قوله : (بقية) ، إنما هي مصدر من قول القائل " بقيت بقية من كذا " ، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى : بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن.
* * *
وقوله : (وما أنا عليكم بحفيظ) ، يقول : وما أنا عليكم ، أيها الناس ، برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم ، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم ؟ (1) وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي ، فقد أبلغتكموها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف ص 365 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/449)


قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قوم شعيب : يا شعيب ، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام (1) (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، من كسر الدراهم وقطعها ، وبخس الناس في الكيل والوزن (إنك لأنت الحليم) ، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى ، (2) (الرشيد) ، يعني : رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان ، (3) كما : -
18487 - حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا حماد بن خالد الخياط قال ، حدثنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم في قول الله : (أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك أنت الحليم الرشيد) (4) قال : كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم (5) أو قال : قطع الدراهم ، الشك من حمّاد. (6)
18488 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع " أصلاتك " ، بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الحليم " فيما سلف ص : 406 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الرشيد " فيما سلف ص : 417 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) جاء في المخطوطة " أصلاتك " بالإفراد ، وهي إحدى القراءتين .
(5) " حذف الشيء " ، قطعه من طرفه ، ومنه " تحذيف الشعر " ، إذا أخذت من نواحيه فسويته .
(6) الأثر : 18487 - " محمود بن خداش الطاقاني " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 187 . " وحماد بن خالد الخياط القرشي " ، ثقة ، كان أميًا لا يكتب ، وكان يقرأ الحديث . مترجم في التهذيب ، والكبير 3 / 1 / 25 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 136 .

(15/450)


أبي مودود قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني أن قوم شعيب عُذِّبوا في قطع الدراهم ، وجدت ذلك في القرآن : (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء). (1)
18489 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي قال : عُذّب قوم شعيب في قطعهم الدراهم فقالوا : (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء).
18490 - . . . . قال ، حدثنا حماد بن خالد الخياط ، عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم في قوله : (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال : كان مما نهاهم عنه حَذْفُ الدراهم.
18491 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال : نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا : إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء ، إن شئنا قطعناها ، وإن شئنا صرفناها ، وإن شئنا طرَحناها!
18492 - . . . . قال وأخبرنا ابن وهب قال ، وأخبرني داود بن قيس المرّي : أنه سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله : (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال زيدٌ : كان من ذلك قطع الدراهم.
* * *
وقوله : (أصلواتك) ، كان الأعمش يقول في تأويلها ما : -
18493 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري عن
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا : " أصلاتك " بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة . وسأردها إلى المخطوطة حيث وجدتها ، وأترك الإفراد حيث أجده ، بلا إشارة إلى ذلك .

(15/451)


الأعمش في قوله : (أصلواتك) قال : قراءتك .
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، وإنما كان شعيب نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك.
فقال بعض البصريين : معنى ذلك : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وليس معناه : تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، لأنه ليس بذا أمرهم.
* * *
وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال. وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي ، كأنه قال : أصلواتك تأمرك بذا ، وتنهانا عن ذا ؟ فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله " تأمرك " ، وأن الثانية منصوبة عطفًا بها على " ما " التي في قوله : (ما يعبد). وإذا كان ذلك كذلك ، كان معنى الكلام : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
* * *
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه(مَا تَشَاء).
* * *
قال أبو جعفر : فمن قرأ ذلك كذلك ، فلا مؤونة فيه ، وكانت " أن " الثانية حينئذ معطوفة على " أن " الأولى.
* * *
وأما قوله لشعيب : (إنك لأنت الحليم الرشيد) فإنهم أعداء الله ، قالوا ذلك له استهزاءً به ، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام.
* * *

(15/452)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

وبما قلنا من ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك : -
18494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، قال : يستهزئون.
18495 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، المستهزئون ، يستهزئون : بأنك لأنت الحليم الرشيد ! (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله ، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام ، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال (ورزقني منه رزقًا حسنًا) ، يعني حلالا طيّبًا.
* * *
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول : وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه ، بل لا أفعل إلا ما آمركم به ، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما : -
18496 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بأنك لأنت " ، والصواب المحض ما في المخطوطة .

(15/453)


(إن أريد إلا الإصلاح) ، يقول : ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم (ما استطعت) ، يقول : ما قدرت على إصلاحه ، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكِّلة ، بخلافكم أمره ، ومعصيتكم رسوله (وما توفيقي إلا بالله) يقول : وما إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله ، فإنه هو المعين على ذلك ، إلا يعنّي عليه لم أصب الحق فيه.
* * *
وقوله : (عليه توكلت) ، يقول : إلى الله أفوض أمري ، فإنه ثقتي ، (1) وعليه اعتمادي في أموري. (2)
* * *
وقوله : (وإليه أنيب) ، وإليه أقبل بالطاعة ، وأرجع بالتوبة ، (3) كما : -
18497 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وإليه أنيب) ، قال : أرجع.
18498 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18499 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال
18500 - . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وإليه أنيب) ، قال : أرجع.
18501 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (وإليه أنيب) ، قال : أرجع.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فإنه ثقتي " ، ولعل الصواب ما أثبت .
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة ( وكل ) .
(3) انظر تفسير " الإنابة " فيما سلف ص : 406 .

(15/454)


وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل شعيب لقومه : (وما قوم لا يخبر منكم شقاقي) ، يقول : لا يحملنكم عداوتي وبغضي ، وفراق الدين الذي أنا عليه ، (1) على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله ، وعبادة الأوثان ، وبخس الناس في المكيال والميزان ، وترك الإنابة والتوبة ، فيصيبكم (مثلُ ما أصاب قوم نوح) ، من الغرق (أو قوم هود) ، من العذاب (أو قوم صالح) ، من الرّجفة (وما قوم لوط) الذين ائتفكت بهم الأرض (منكم ببعيد) ، هلاكهم ، أفلا تتعظون به ، وتعتبرون ؟ يقول : فاعتبروا بهؤلاء ، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ الذي أصابهم. كما : -
18502 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول : لا يحملنكم فراقي ، (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) ، الآية.
18503 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول : لا يحملنكم شقاقي.
18504 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (لا يجر منكم شقاقي) ، قال : عداوتي وبغضائي وفراقي.
18505 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) انظر تفسير " جرم " فيما سلف 9 : 483 - 485 / 10 : 95 .
وتفسير " الشقاق " ، فيما سلف 13 : 433 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/455)


وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)

معمر ، عن قتادة : (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال : إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا يعني قوم نوح وعاد وثمود وصالح. (1)
18506 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال : إنما كانوا حديثي عهد قريب ، بعد نوح وثمود.
* * *
قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يقال : معناه : وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه : (استغفروا ربكم) ، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون ، من عبادة الآلهة والأصنام ، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين (ثم توبوا إليه) ، يقول : ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه (إن ربي رحيم) ، يقول : هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة.(ودود) ، يقول : ذو محبة لمن أناب وتاب إليه ، يودُّه ويحبُّه.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت العبارة في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا أرجح أن الصواب : " يعني قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط " .

(15/456)


قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قوم شعيب لشعيب : (يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول) ، أي : ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به (1) (وأنا لنراك فينا ضعيفًا) .
* * *
ذُكِر أنه كان ضريرًا ، فلذلك قالوا له : (إنا لنراك فينا ضعيفًا).
* * *
*ذكر من قال ذلك :
18507 - حدثني عبد الأعلى بن واصل قال ، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال ، أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال : كان أعمى. (2)
18508 - حدثنا عباس بن أبي طالب قال ، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن سفيان ، عن سعيد ، مثله.
18509 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال ، حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر ، وعبد الملك بن زيد قالوا ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، مثله. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف 14 : 582 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 18507 - " أسد بن زيد الجصاص " ، لم أجد له ذكرا . وإنما يذكرون : " أسيد بن زيد بن نجيح الجمال " ، وهو الذي يروي عن شريك ، ويروي عنه أبو كريب وطبقته من شيوخ أبي جعفر الطبري ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 16 وأبي حاتم 1 / 1 / 318 ، وميزان الاعتدال 1 : 119 . ولكن هذا " الجمال " ، وذاك " الجصاص " ، فلا أدري من يكون هذا الذي ذكره أبو جعفر .
(3) الأثر : 18509 - " عبد الملك بن يزيد " ، هكذا هو في المخطوطة ، كما أثبته ، وفي المطبوعة : " عبد الملك بن زيد " ، غير ما في المخطوطة . ولم أعرف من يكون " عبد الملك بن يزيد " أو " ابن زيد " ، الذي يروي عن شريك ؟

(15/457)


18510 - . . . . قال ، حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح قالا سمعنا شريكًا يقول في قوله : (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال : أعمى.
18511 - حدثنا سعدويه قال ، حدثنا عباد ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، مثله. (1)
18512 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان قوله : (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال : كان ضعيف البصر قال سفيان : وكان يقال له : " خطيب الأنبياء "
18513 - . . . . قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا عباد ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال : كان ضرير البصر.
* * *
وقوله : (ولولا رهطك لرجمناك) ، يقول : يقولون : ولولا أنك في عشيرتك وقومك (لرجمناك) ، يعنون : لسببناك. (2)
* * *
وقال بعضهم : معناه لقتلناك.
*ذكر من قال ذلك :
18514 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (ولولا رهطك لرجمناك) ، قال : قالوا : لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك.
* * *
__________
(1) الأثر : 18511 - " سعدويه ، الضبي الواسطي " ، هو " سعيد بن سليمان " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 611 ، 2168 ، 11996 ، 13809 ( ج 12 : 585 ، تعليق : 1 ) . " وسعدويه " ، يروي عن شريك ، ولكنه يروي أيضًا عن عباد بن العوام ، فروى عن شريك هنا بالواسطة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " لولا أنت في عشيرتك " ، وأرجح أن الصواب ما أثبت .

(15/458)


قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)

وقوله : (وما أنت علينا بعزيز) ، يعنون : ما أنت ممن يكرَّم علينا ، فيعظمُ علينا إذلاله وهوانه ، بل ذلك علينا هيّن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم ، أعزّزتم قومكم ، فكانوا أعزّ عليكم من الله ، واستخففتم بربكم ، فجعلتموه خلف ظهوركم ، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه ، ولا تعظِّمونه حق عظَمته ؟
* * *
يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل : " نَبَذ حاجته وراء ظهره " ، (2) أي : تركها لا يلتفت إليها. و إذا قضاها قيل : " جعلها أمامه ، ونُصْب عينيه " ، ويقال : " ظَهَرتَ بحاجتي " و " جعلتها ظِهْرِيَّة " ، أي : خلف ظهرك ، كما قال الشاعر : (3)
*وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ* (4)
بمعنى : أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) .
(2) انظر تفسير " نبذه وراء ظهره " فيما سلف 1 : 403 ، 404 / 7 : 458 ، 459 ، 463 .
(3) هو أرطاة بن سهية المري .
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 298 ، واللسان ( ظهر ) ، وكان أرطاة يهاجي شبيب بن البرصاء ، وهما جميعًا من بني مرة بن سعد بن ذبيان ، والهجاء بينهما كثير ، وهذا منه . انظر الأغاني 13 : 29 - 44 ( دار الكتب ) ترجمة أرطاة بن سهية والأغاني 12 : 271 - 281 ( ساسي ) ترجمة شبيب بن البرصاء . وصدر البيت : * فَمَنْ مُبْلِغٌ أبْنَاءَ مُرَّة أنَّنَا *

(15/459)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18515 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله ، وصَغُر شأن الله عندهم ، عزَّ ربُّنا وجلَّ.
18516 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال : قَفًا. (1)
18517 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، يقول : عززتم قومكم ، وأظهرْتم بربكم.
18518 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال : لم تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي(واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، يقول : عززتم قومكم وأظهرتم بربكم.
18519 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال : لم تراقبوه في شيء ، إنما تراقبون قومي (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، لا تخافونه
18520 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (أرهطي أعز عليكم من الله) ، قال : أعززتم قومكم ، واغتررتم بربكم ، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال : قال سفيان :
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، ولها معنى ، ولكن الذي في المخطوطة : " قصي " ، وكأنه أراد " قصيا " ، وهذا عندي أحب .

(15/460)


(واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، كما يقول الرجل للرجل : " خلَّفتَ حاجتي خلفَ ظهرك " ، (فاتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، استخففتم بأمره. فإذا أراد الرجل قضاء حاجةِ صاحبه جعلها أمامه بين يديه ، ولم يستخفَّ بها.
18521 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال : " الظهْريّ " ، الفَضْل ، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية ، (1) فضل ، لا يحمل عليها شيئًا ، إلا أن يحتاج إليها. قال : فيقول : إنما ربكم عندكم مثل هذا ، إن احتجتم إليه. وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا فالهاء في قوله : (واتخذتموه) ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب.
*ذكر من قال ذلك :
18522 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال : تركتم ما جاء به شعيب
18523 - . . . . قال ، حدثنا جعفر بن عون ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد قال : نبذوا أمره.
18524 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد : (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال : نبذتم أمره.
18525 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ،
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة : " ظهارية " ، ولكن اللغة على أن جمع " ظهري " ، " ظهاري " ، فزيادة التاء هنا ضعيفة الوجه .

(15/461)


وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

قال : همَّ رهط شعيب بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريًّا.
18526 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال
18527 - . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال : استثناؤهم رهط شعيب ، وتركهم ما جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لقرب قوله : (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، من قوله : (أرهطي أعز عليكم من الله) فكانت الهاء في قوله : (واتخذتموه) ، بأن تكون من ذكر الله ، لقرب جوارها منه ، أشبهَ وأولى.
* * *
وقوله : (إن ربي بما تعملون محيط) ، يقول : إن ربي محيط علمه بعملكم ، (1) فلا يخفى عليه منه شيء ، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ 93 مَن }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه : (ويا قوم اعملوا على مكانتكم) ، يقول : على تمكنكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " محيط " فيما سلف ص : 445 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/462)


يقال منه : " الرجل يعمل على مَكينته ، ومَكِنته " ، أي : على اتئاده ، " ومَكُن الرجل يمكُنُ مَكْنًا ومَكانةً ومَكانًا " . (1)
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله : (على مكانتكم) ، على منازلكم.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه ، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي أعمله (سوف تعلمون) ، أينا الجاني على نفسه ، والمخطئ عليها ، والمصيب في فعله المحسنُ إلى نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه : الذي يأتيه منّا ومنكم ، أيها القوم (عذاب يخزيه) ، يقول : يذله ويهينه (2) (ومن هو كاذب) ، يقول : ويُخزي أيضًا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم (وارتقبوا) ، أي : انتظروا وتفقدوا من الرقبة.
* * *
يقال منه : " رقبت فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً " . (3)
* * *
وقوله : (إني معكم رقيب) ، يقول : إني أيضًا ذو رقبة لذلك العذاب معكم ، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم ؟ (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص 12 : 128 ، 129 ، وهنا زيادة في مصادره لا تجدها في كتب اللغة .
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة ( خزي ) .
(3) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7 : 523 ، 524 / 11 : 239 .
(4) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7 : 523 ، 524 / 11 : 239 .

(15/463)


وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب ، بعذابنا " نجينا شعيبًا " رسولنا ، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم مع شعيب ، من عذابنا الذي بعثنا على قومه (برحمة منا ) ، له ولمن آمن به وأتبعه على ما جاءهم به من عند ربهم وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم ، فأهلكتهم بكفرهم بربهم. (1) وقيل : إن جبريل عليه السلام ، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من أجسامهم (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، على ركبهم ، وصرعى بأفنيتهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه ، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا.
* * *
من قولهم : " غنيت بمكان كذا " ، إذا أقمت به ، (3) ومنه قول النابغة :
__________
(1) انظر تفسير " الصيحة " فيما سلف ص : 380 .
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف ص : 380 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " غني بكذا " فيما سلف 12 : 569 ، 570 / 15 : 56 ، 381 .

(15/464)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)

* * *
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لِي جِيرَةٌ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالِةٍ وتَوَدُّدِ (1)
وكما : -
18528 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح ، قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (كأن لم يغنوا فيها) ، قال يقول : كأن لم يعيشوا فيها.
18529 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
18530 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله.
* * *
وقوله : (ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود) ، يقول تعالى ذكره : ألا أبعد الله مدين من رحمته ، بإحلال نقمته بهم (2) " كما بعدت ثمود " ، يقول : " كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته ، بإنزال سخطه بهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا ، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ. (3) أنها تدل على توحيد الله ، وكذب
__________
(1) مضى البيت وشرحه فيما سلف ص : 56 .
(2) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص : 334 ، 367 ، 381 .
(3) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف ص : 146 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " مبين " فيمل سلف من فهارس اللغة ( بين ) .

(15/465)


كل من ادّعى الربوبية دونه ، وبُطُول قول من أشرك معه في الألوهية غيره (إلى فرعون وملئه) ، يعني إلى أشراف جنده وتُبَّاعه (1) (فاتبعوا أمر فرعون) ، يقول : فكذب فرعون وملأه موسى ، وجحدوا وحدانية الله ، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله ، واتبع ملأ فرعون أمرَ فرعون دون أمر الله ، وأطاعوه في تكذيب موسى ، وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه يقول تعالى ذكره : (وما أمر فرعون برشيد) يعني : أنه لا يُرشد أمر فرعون من قَبِله منه ، في تكذيب موسى ، إلى خير ، (2) ولا يهديه إلا صلاح ، بل يورده نار جهنم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص : 310 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة حذف قوله : " منه " ، فأفسد الكلام إفسادًا .
(3) انظر تفسير " رشيد " فيما سلف ص : 450 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/466)


يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (يقدم ) ، فرعون (قومه يوم القيامة ) ، يقودهم ، فيمضي بهم إلى النار ، حتى يوردهموها ، ويصليهم سعيرها ، (وبئس الورد) ، يقول : وبئس الورد الذي يردونه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18531 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يقدم قومه يوم القيامة) ، قال : فرعون يقدم قومه يوم القيامة ، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار.

(15/466)


وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

18532 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (يقدم قومه يوم القيامة) يقول : يقود قومه " فأوردهم النار " .
18533 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : (يقدم قومه يوم القيامة) ، يقول : أضلهم فأوردهم النار.
18534 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله : (فأوردهم النار) ، قال : " الورد " ، الدُّخول.
18535 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (فأوردهم النار) ، كان ابن عباس يقول : " الورد " في القرآن أربعةُ أوراد : في هود قوله : (وبئس الورد المورود) وفي مريم : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) [سورة مريم : 71] ، وورد في " الأنبياء " : ( حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) ، [سورة الأنبياء : 98] ، وورد في " مريم " أيضًا : ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) [سورة مريم : 72] كان ابن عباس يقول : كل هذا الدخول ، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر : ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) ، [سورة مريم : 86] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) }
قال أبو جعفر : يقول الله تعالى ذكره : وأتبعهم الله في هذه يعني في هذه الدنيا مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر ، لعنتَه (1) (ويوم
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 12 : 447 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/467)


القيامة) ، يقول : وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى ، كما : -
18536 - حدثنا بن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال : لعنةً أخرى.
18537 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال : زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى ، فتلك لعنتان.
18538 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، اللعنةُ في إثر اللعنة.
18539 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال : زيدوا لعنة أخرى ، فتلك لعنتان.
18540 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (في هذه) ، قال : في الدنيا (ويوم القيامة) ، أردفوا بلعنة أخرى ، زيدوها ، فتلك لعنتان.
* * *
وقوله : (بئس الرفد المرفود) ، يقول : بئس العَوْن المُعان ، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. (1)
* * *
وأصل " الرفد " ، العون ، يقال منه : " رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا " بكسر الراء وإذا فتحت ، فهو السَّقي في القدح العظيم ، و " الرَّفد " : القدحُ الضخم ، ومنه قول الأعشى :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أخرى منها " ، وكأن الصواب ما أثبت .

(15/468)


رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ... مَ وَأسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ (1)
ويقال : " رَفد فلان حائطه " ، وذلك إذا أسنده بخشبة ، لئلا يسقط. و " الرَّفد " ، بفتح الراء المصدر. يقال منه : " رَفَده يَرفِده رَفْدًا " ، و " الرِّفْد " ، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان ، وهو " المَرْفَد " .
* * *
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18541 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (بئس الرفد المرفود) ، قال : لعنة الدنيا والآخرة.
18542 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (بئس الرفد المرفود) ، قال : لعنهم الله في الدنيا ، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة.
18543 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، قال : لعنة في الدنيا ، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة .
18544 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) ديوانه : 13 ، من قصيدة طويلة من جياد شعره ، يمدح فيها الأسود بن المنذر اللخمي أخا النعمان بن المنذر ، الملك . وكان الأسود غزا الحليفين أسدًا وذبيان ، ثم أغار على الطف ، فأصاب نعمًا وأسرى وسبيًا من سعد بن ضبيعة ( رهط الأعشى ) ، وكان الأعشى غائبًا ، فلما قدم وجد الحي مباحًا ، فأتاه فأنشده ، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم ، ففعل . يقول : رب رجل كانت له إبل يحلبها في قدح له ولعياله ، فاستقت الإبل ، وذهب ما كان يحلبه الرفد ، فكذلك هرقت ما حلب . " والأقتال " جمع " قتل " ( بكسر فسكون ) . و " القتل " ، القرن من الأعداء ، وهو أيضًا : المثل والنظير ، وقال الأصمعي في شرح البيت وقد نقلت ما سلف من شرح ديوانه : " أقتال " ، أشباه غير أعداء . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أقيال " ، وهو هنا خطأ .

(15/469)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)

(وأتبعوا في هذه لعنه ويوم القمامة بئس الرفد المرفود) ، يقول : ترادفت عليهم اللعنتان من الله ، لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة.
18545 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أصابتهم لعنتان في الدنيا ، رفدت إحداهما الأخرى ، وهو قوله : (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة ، ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها ، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله ، (1) وتكذيبهم رسله (نقصه عليك ) فنخبرك به (2) (منها قائم) ، يقول : منها قائم بنيانه ، بائدٌ أهله هالك ، (3) ومنها قائم بنيانه عامر ، ومنها حصيدٌ بنيانه ، خرابٌ متداعٍ ، قد تعفى أثرُه دارسٌ.
* * *
من قولهم : " زرع حصيد " ، إذا كان قد استؤصل قطعه ، وإنما هو محصود ، ولكنه صرف إلى " فعيل " ، (4) كما قد بينا في نظائره. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) .
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف 9 : 402 / 11 : 399 / 12 : 120 ، 307 ، 406 / 13 : 7 ، 274 .
(3) في المطبوعة " بائد بأهله " ، والصواب من المخطوطة ، وزدت " قائم " قبل قوله : " بنيانه " ، وبذلك تستقيم الجملة وتساوي التي تليها .
(4) انظر تفسير " حصيد " فيما سلف ص : 56 .
(5) انظر ما سلف من فهارس اللغة مباحث العربية والنحو وغيرهما .

(15/470)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18546 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) ، يعني ب " القائم " قُرًى عامرة. و " الحصيد " قرى خامدة.
18547 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (قائم وحصيد) ، قال : " قائم " على عروشها و " حصيد " مستأصَلة.
18548 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (منها قائم) ، يرى مكانه ، (وحصيد) لا يرى له أثر.
18549 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (منها قائم) ، قال : خاوٍ على عروشه(وحصيد) ، ملزقٌ بالأرض.
18550 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن الأعمش : (منها قائم وحصيد) ، قال : خرَّ بنيانه.
18551 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش : (منها قائم وحصيد) ، قال : " الحصيد " ، ما قد خرَّ بنيانه.
18552 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (منها قائم وحصيد) ، منها قائم يرى أثره ، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره.
* * *

(15/471)


وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك ، يا محمد ، بغير استحقاق منهم عقوبتنا ، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا هُمْ في غير موضعها (ولكن ظلموا أنفسهم) ، يقول : ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به ، عقوبتَه وعذابه ، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها ، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) ، يقول : فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ، (1) ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء ، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه (لما جاء أمر ربك) ، يا محمد ، يقول : لما جاء قضاء ربك بعذابهم ، فحقّ عليهم عقابه ، ونزل بهم سَخَطه (وما زادوهم غير تتبيب) ، يقول : وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك.
* * *
يقال منه : " تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا " ، ومنه قولهم للرجل : " تبًّا لك " ، قال جرير :
عَرَادَةُ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ... أَلا تَبًّا لِمَا فَعَلُوا تَبَابًا (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أغني عنه " فيما سلف ص : 215 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) ديوانه : 72 ، من قصيدته المشهورة في هجاء الراعي النميري ، وكان سببها أن " عرادة النميري " ، وهو رواية الراعي كان نديمًا للفرزدق ، فقدم الراعي البصرة ، فدعاه عرادة فأطعمه وسقاه وقال : فضل الفرزدق على جرير ! فأبى . فلما أخذ فيه الشراب ، لم يزل به حتى قال : يا صَاحِبَيَّ دَنا الرَّواحُ فَسِيرَا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جريرَا
فهاج الهجاء بينهما ، فكان مما ذكر به عرادة قوله : أتَانِي عَنْ عَرَادَةَ قَوْلُ سُوءٍ ... فَلاَ وَأَبِي عُرَادَةَ مَا أَصَابَا
وَكَمْ لَكَ يَا عُرَادَةُ مِنْ أُمِّ سُوءٍ ... بَأَرْضِ الطَّلْحِ تَحْتَبِلُ الزَّبابَا
لَبِئْسَ الْكَسْبُ تَكْسِبُهُ نُمَيْرٌ ... إِذَا اسْتَأْنَوْكَ وانْتَظَروا الإِيابَا
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عرابة " ، وهو خطأ صرف .

(15/472)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18553 - حدثني المثني قال ، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال ، حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، عن ابن عمر في قوله : (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال : غير تخسير. (1)
18554 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (غير تتبيب) ، قال : تخسير.
18555 - حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18556 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قتادة : (غير تتبيب) ، يقول : غير تخسير.
18557 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (غير تتبيب) ، قال : غير تخسير.
* * *
__________
(1) الأثر : 18553 - " سعيد بن سلام ، أبو الحسن البصري العطار الثوري الأعور " ، منكر الحديث ، كذاب يحدث عن الثوري ، لا يكتب حديثه ، مترجم في الكبير 2 / 1 / 441 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 31 ، ولسان الميزان 3 : 31 ، وميزان الاعتدال 1 : 382 . " ونسير بن ذعلوق الثوري " ، ثقة ، مضى برقم : 5491 ، 13488 .

(15/473)


وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)

قال أبو جعفر : وهذا الخبر من الله تعالى ذكره ، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا ، فإنه وعيدٌ من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة ، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى رسوله ، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه ، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم ، كما : -
18558 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قال ، اعتذر يعني ربنا جل ثناؤه إلى خلقه فقال : (وما ظلمناهم) ، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم ، (ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم) ، حتى بلغ : (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال : ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وكما أخذت ، أيها الناس ، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب ، على خلافهم أمري ، وتكذيبهم رسلي ، وجحودهم آياتي ، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي ، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله ، وإشراكهم به غيره ، وتكذيبهم رسله (إنَّ أخذه أليم) ، يقول : إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه (أليم) ، يقول : موجع (شديد) الإيجاع.
* * *

(15/474)


وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة ، (1) أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة ، فيحل بهم ما حلَّ بهم من المثُلات ، كما : -
18559 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن بريد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يُمْلي ورُبَّما ، قال : يمهل الظالمَ ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ : (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة). (2)
18560 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله : (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وهذا أمر من الله تحذير . . . " ، والصواب حذف " أمر " ، كذلك فعلت .
(2) الأثر : 18559 - " بريد بن بردة " ، هو " بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري " ، يروي جده " أبي بردة " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 140 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 426 .وقوله " : عن أبيه " ، يعني عن " أبي بردة بن أبي موسى الأشعري " ، وهو جده . وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 267 ) ، ومسلم في صحيحه 15 : 137 ، وابن ماجة في سننه ص : 1332 ، رقم : 4018 ، والترمذي في كتاب التفسير . وإسناد البخاري ومسلم : " بريدة بن أبي بردة ، عن أبيه " ، وإسناد ابن ماجة " بريد بن عبد الله بن أبي بردة ، عن أبي بردة " وعند الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية أيضًا ، وهو إسناد الطبري : بريد بن عبد الله ، عن أبي بردة . وقد ذكر الحافظ ابن حجر ذلك فقال : " كذا وقع لأبي ذر ، ووقع لغيره : " عن أبي بردة " بدل : " عن أبيه " ، وهو صواب ، لأن بريدًا ، هو ابن عبد الله بن أبي بردة ، فأبو بردة جده لا أبوه ، ولكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازًا " ( الفتح 8 : 267 ) . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح غريب ، وقد روى أبو أسامة عن بريد ، نحوه وقال : يعلى . حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن أبي أسامة ، عن بريد بن عبد الله ، عن جده أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه ، وقال : يملى ، ولم يشك فيه " .
وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة : " إن الله يملي وربما أمهل ، قال يمهل " ، زاد " أمهل " ، فحذفتها ، لأنها زيادة لا شك في خطئها .
" أملي له " أخره وأطال مدته . من " الملاوة " ، وهي المدة من الزمن .

(15/475)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) ، (1) وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين ، وما عليه قراء الأمصار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية ، يقول : لعبرة وعظة (2) لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده ، وحجةً عليه لربه ، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه.
* * *
وقيل : بل معنى ذلك : إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، بأن الله سيفي له بوَعْده.
__________
(1) كان في المطبوعة : " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى " وفي المخطوطة : " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى " ، والذي في المخطوطة ، هو نفس التلاوة ، ولذلك جعل الناشر " إذ " مكان " إذا " . ولكني لما رأيت أبا جعفر ذكر خلافه لمصاحف المسلمين وكان في المخطوطة : " إذا " قدرت أنه الذي أثبت ، وهي قراءة شاذة ، رويت عن عاصم الجحدري ، وعن نافع ( انظر القراءات الشاذة ، لابن خالويه : 61 ) . وقرأ عاصم وطلحة بن مصرف : ( وكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ القُرَى ) وقرأ عاصم أيضا : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إِذْ أَخَذَ الْقُرَى ) . فهي ثلاث قراءات عن عاصم الجحدري ، أثبت أشدها خلافا لمصاحف المسلمين ، وما عليه قرأة الأمصار .
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .

(15/476)


*ذكر من قال ذلك :
18561 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (إن في ذلك لآيه لمن خاف عذاب الآخرة) ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة ، كما وفينا للأنبياء : أنا ننصرهم.
* * *
وقوله : (ذلك يوم مجموع له الناس ) ، يقول تعالى ذكره : هذا اليوم يعني يوم القيامة (يوم مجموع له الناس) ، يقول : يحشر الله له الناس من قبورهم ، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب (وذلك يوم مشهود) ، يقول : وهو يوم تَشهده الخلائق ، لا يتخلَّف منهم أحدٌ ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18562 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد في قوله : (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال : يوم القيامة.
18563 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن عكرمة ، مثله.
18564 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف المكي ، عن ابن عباس قال ، " الشاهد " ، محمد ، و " المشهود " ، يوم القيامة. ثم قرأ : (ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود).
18565 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن ابن عباس قال : " الشاهد " ، محمد و " المشهود " ، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية : (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).

(15/477)


وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

18566 - حدثت عن المسيب ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال : ذلك يوم القيامة ، يجتمع فيه الخلق كلهم ، ويشهدُه أهل السماء وأهل الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى ، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه ، فلا يأتي إلا لأجله ذلك ، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يوم يأتي يوم القيامة ، أيها الناس ، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (يوم يأتي).
فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها(يَوْمَ يَأْتِي لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ).

(15/478)


وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف : ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ).
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي : ( يَوْمَ يَأْتِ ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف ، وأنها لغة معروفة لهذيل ، تقول : " مَا أدْرِ مَا تَقول " ، ومنه قول الشاعر : (1)
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا... جُودًا وأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا (2)
* * *
وقيل : (لا تكلم) ، وإنما هي " لا تتكلم " ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.
* * *
وقوله : (فمنهم شقيّ وسعيد) ، يقول : فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها ، شقيٌّ وسعيد وعاد على " النفس " ، وهي في اللفظ واحدة ، بذكر الجميع في قوله : (فمنهم شقي وسعيد).
* * *
يقول : تعالى ذكره : (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير) وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه (وشهيق) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه ، كما قال رؤبة بن العجاج :
حَشْرَجَ فِي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية ، اللسان ( ليق ) ، يقال : " ما يليق بكفه درهم " ( بفتح الياء ) أي : ما يحتبس و " ما يلقيه القراء وهو " ، أي : ما يحبسه .
(3) ديوانه : 106 ، واللسان ( حشرج ) ، وسيأتي في التفسير 29 ، 4 ( بولاق ) ، من طويلته المشهوره ، يصف فيها حمار الوحش ، وبعده : كَأَنَّهُ مُسْتَنْشِقٌ مِن الشَّرَقْ ... خُرًّا من الخَرْدَلِ مَكْرُوهَ النَّشَقْ
و " حشرج " ردد الصوت في حلقه ولم يخرجه . و " السحيل " ، الصوت الذي يدور في صدر الحمار في نهيقه .

(15/479)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18567 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (لهم فيها زفير وشهيق) ، يقول : صوت شديدٌ وصوت ضعيف.
18568 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية في قوله : (لهم فيها زفير وشهيق) ، قال : " الزفير " في الحلق ، و " الشهيق " في الصدر.
18569 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، بنحوه.
18570 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : صوت الكافر في النار صوت الحمار ، أوّله زفير وآخره شهيق
18571 - حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ومحمد بن المثني ، ومحمد بن بشار قالوا ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر عن عمر قال ، لما نزلت هذه الآية : (فمنهم شقيّ وسعيد) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبيّ الله ، فعلام عَمَلُنا ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على شيء قد فُرِغ منه ، يا عمر ، وجرت

(15/480)


به الأقلام ، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له اللفظ لحديث ابن معمر. (1)
* * *
وقوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، يعني تعالى ذكره بقوله : (خالدين فيها) ، لابثين فيها (2) ويعني بقوله : (ما دامت السموات والأرض) ، أبدًا . (3)
* * *
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى أنه دائم أبدًا ، وكذلك يقولون : " هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار " . و " ما سمر ابنا سَمِير " ، و " ما لألأت العُفْرُ بأذنابها " يعنون بذلك كله " أبدا " . فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، والمعنى في ذلك : خالدين فيها أبدًا.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه.
18572 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، قال : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماءُ سماءً.
* * *
ثم قال : (إلا ما شاء ربك) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم : هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار.
__________
(1) الأثر : 15871 " سليمان بن سفيان التميمي " ، ضعيف ، منكر الحديث ، يروي عن الثقات أحاديث مناكير . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 18 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 119 ، وميزان الاعتدال 1 : 415 . وهذا خبر ضعيف الإسناد ، ذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 395 ، عن مسند أبي يعلي ، وذكره الحافظ الذهبي في الميزان ، بإسناده ، عن أبي عامر العقدي . لكن معنى الخبر له شواهد في الصحيح .
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(3) انظر تفسير " ما دام " 10 : 185 / 11 : 74 ، 238 .

(15/481)


*ذكر من قال ذلك :
18573 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال : الله أعلم بثُنَياه. (1)
وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها ، (2) ثم يدخلهم الجنة.
18574 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، والله أعلم بثَنيَّته . (3) ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، يقال لهم : " الجهنَّميُّون " .
18575 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا شيبان بن فروخ قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة ، وتلا هذه الآية : (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) ، إلى قوله : (لما يريد) ، فقال عند ذلك : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَخْرج قومٌ من النار قال قتادة : ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. (4)
18576 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني ثعلبة ، عن أبي سنان في قوله : (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال : استثناء في أهل التوحيد.
18577 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) " الثنيا " ( بضمك فسكون ) و " الثنية " ، على وزن ( فعيلة ) ، و " المثنوية " ، كله الاستثناء .
(2) " سفعته النار والشمس سفعًا " ، لفحته لفحًا يسيرًا ، فغيرت لون بشرته وسودته .
(3) انظر التعليق رقم : 1 .
(4) " أهل حروراء " ، هم الخوارج ، يقولون إن صاحب الكبيرة مخلد في النار ، لأنهم يكفرون أهل الكبائر .

(15/482)


معمر ، عن الضحاك بن مزاحم : (فأما الذين شقوا ففي النار) ، إلى قوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ، فهم الذين استثنى لهم.
18578 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، ثني معاوية ، عن عامر بن جشيب ، عن خالد بن معدان في قوله : ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) ، [سورة النبأ : 23] ، وقوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، أنهما في أهل التوحيد. (1)
* * *
وقال آخرون : الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد ، إلا أنهم قالوا : معنى قوله : (إلا ما شاء ربك) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : (فأما الذين شقوا ففي النار) (إلا ما شاء ربك) ، لا من " الخلود " .
*ذكر من قال ذلك :
18579 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن أبي نضرة ، عن جابر أو : أبي سعيد يعني الخدري أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، قال : هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول : حيث كان في القرآن(خالدين فيها) ، تأتي عليه قال : وسمعت أبا مجلز يقول : هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.
__________
(1) الأثر : 18578 - " عامر بن جشيب الحمصي " ، روى عن أبي أمامة ، وخالد بن معدان ، وغيرهما . ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 319 . وكان في المطبوعة : " جشب " ، وهو خطأ ، والمخطوطة كما أثبت إلا أنها غير منقوطة . وهذا الخبر سيأتي في التفسير 30 : 8 ، 9 ، ( بولاق ) في تفسير سورة " النبأ " .

(15/483)


*ذكر من قال ذلك :
18580 - حدثت عن المسيب عمن ذكره ، عن ابن عباس : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، لا يموتون ، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض ، (إلا ما شاء ربك) ، قال : استثناءُ الله. قال : يأمر النار أن تأكلهم. قال : وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها ، ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا.
18581 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا.
* * *
وقال آخرون : أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة ، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله : (عطاء غير مجذوذ) ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض .قال : ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان.
*ذكر من قال ذلك :
18582 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، فقرأ حتى بلغ : (عطاء غير مجذوذ) ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : (عطاء غير مجذوذ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك : من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار ، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة ، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، (1)
__________
(1) في المطبوعة : " كذا قد بينا " ، وهو كلام غث ، ورطه فيه سوء كتابة الناسخ .

(15/484)


بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك ، كنا قد دخلنا في قول من يقول : " لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن " ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.
* * *
ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك ، سنذكره بعدُ ، ونبينه إن شاء الله . (2) .
* * *
وقوله : (إن ربك فعال لما يريد) ، يقول تعالى ذكره : إن ربك ، يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره ، من الانتقام منه ، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه ، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. (3)
* * *
__________
(1) غاب عني مكانه ، فمن وجده فليثبته .
(2) انظر ما سيأتي ص : 487 - 489 .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ولكنه يفعل ما يشاء ، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه " ، وهو غير مستقيم ، والآفة من الناسخ ، والصواب ما أثبت ، بتقديم " فعله " الأولى .

(15/485)


وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
قال أبو جعفر : واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : (وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا) ، بفتح السين.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) ، بضم السين ، بمعنى : رُزِقوا السعادة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : (سُعِدُوا) ، فيما لم يسمَّ فاعله ، ولم يقل : " أسعدوا " ، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله : " سعده الله " ، بل إنما تقول : " أسعده الله " ؟
قيل ذلك نظير قولهم : " هو مجنون " و " محبوب " ، (1) فيما لم يسمَّ فاعله ، فإذا سموا فاعله قيل : " أجنه الله " ، و " أحبه " ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. (2)
* * *
وتأويل ذلك : وأما الذين سعدوا برحمة الله ، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " هو مجنون ، محبوب " ، والأجود الفصل بالواو .
(2) غاب أيضًا عني مكانه ، فمن وجده فليقيده .

(15/486)


السموات والأرض ، يقول : أبدًا (إلا ما شاء ربك).
* * *
فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : (إلا ما شاء ربك ) ، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا : وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.
*ذكر من قال ذلك :
18583 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الضحاك في قوله : (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال : هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول : خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول : إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : (إلا ما شاء ربك ) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض ، قالوا : وذلك هو الخلود فيها أبدًا.
*ذكر من قال ذلك :
18584 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني ثعلبة ، عن أبي سنان : (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال : ومشيئته خلودهم فيها ، ثم أتبعها فقال : (عطاء غير مجذوذ).
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.
فقال بعضهم في ذلك معنيان :
أحدهما : أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله ، كقولك : " والله لأضربنَّك

(15/487)


إلا أن أرى غير ذلك " ، وعزمُك على ضربه. (1) قال : فكذلك قال : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، ولا يشاؤه ، [وهو أعلم]. (2)
قال : والقول الآخر : أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله ، ومع ما هو أكثر منه ، (3) كان معنى " إلا " ومعنى " الواو " سواء. فمن كان قوله : (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) سوى ما شاء الله من زيادة الخلود ، فيجعل " إلا " مكان " سوى " فيصلح ، وكأنه قال : " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد " . ومثله في الكلام أن تقول : لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [مِنْ قِبَل فلان " ، أفلا ترى أنه في المعنى : لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين ] ؟ (4) قال : وهذا أحبُّ الوجهين إليّ ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. (5) وقد وصل الاستثناء بقوله : (عطاء غير مجذوذ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم.
* * *
وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا : جائز فيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة ، ثم هو خلود الأبد. يقول : فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.
* * *
وقال آخر منهم : جائز أن يكون دوام السموات والأرض ، بمعنى : الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وتستثنى المشيئة من داومها ، لأنَّ أهل
__________
(1) في معاني القرآن للفراء : " وعزيمتك على ضربه " ، وهذا نص كلام الفراء .
(2) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ومع ما هو أكثر منه " ، والصواب من معاني القرآن : " أو مع . . " .
(4) كان في المطبوعة والمخطوطة : " إلا الألفين اللذين قبلهما " ، وليس فيهما بقية ما أثبت ، وهو كلام مبهم ، نقلت سائره ، وزدته بين القوسين من معاني القرآن للفراء ، فهذا نص كلامه .
(5) في المطبوعة : " لا خلف لوعده " ، وفي المخطوطة ؛ " لا مخلف لوعده " ، والصواب من معاني القرآن .

(15/488)


الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا ، لا في الجنة ، فكأنه قال : خالدين في الجنة ، وخالدين في النار ، دوامَ السماء ، والأرض ، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك ، وهو(وأما الذين سعدوا ففي ا لجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، من قدر مُكْثِهم في النار ، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة ، وتكون الآية معناها الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في " إلا " توجيهها إلى معنى الاستثناء ، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام أعني في قوله : (إلا ما شاء ربك) تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام ، فيُوَجَّه إليه.
* * *
وأما قوله : (عطاء غير مجذوذ) ، فإنه يعني : عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.
* * *
من قولهم : " جذذت الشيء أجذّه جذًّا " ، إذا قطعته ، كما قال النابغة : (1)
تَجذُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ... وَيوقِدْنَ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ (2)
__________
(1) في المخطوطة : " كما قال الشاعر النابغة " ، وهي زيادة لا تجدي .
(2) ديوانه : 44 ، واللسان ( حبحب ) ، ( سلق ) ، ( صفح ) ، من قصيدته المشهورة ، يقول فيه قبله ، في صفة سيوف الغسانيين ، وذلك في مدحه عمرو بن الحراث الأعرج : وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
تُوُرِّثْن مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمةٍ ... إلى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
تَقُدُّ السُّلُوقيّ . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه رواية الديوان . و " السلوقي " ، الدروع ، منسوبة إلى " سلوق " ، وهي مدينة . و " الصفاح " حجارة عراض . و " نار الحباحب " ، الشرر الذي يسقط من الزناد . ورواية الديوان : " وتوقد بالصفاح " ، وهما سواء .

(15/489)


يعني بقوله : " تجذ " : تقطع.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18585 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (عطاء غير مجذوذ) ، قال : غير مقطوع.
18586 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (عطاء غير مجذوذ) ، يقول : غير منقطع.
18587 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (عطاء غير مجذوذ) ، يقول : عطاء غير مقطوع.
18588 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (مجذوذ) ، قال : مقطوع.
18589 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (عطاء غير مجذوذ) ، قال : غير مقطوع.
18590 - . . . . قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18591 - .... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، مثله.
18592 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج. عن

(15/490)


ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18593 - . . . . قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قوله : (عطاء غير مجذوذ) ، قال : أما هذه فقد أمضَاها. يقول : عطاء غير منقطع.
18594 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : (عطاء غير مجذوذ) ، غير منزوع منهم.
* * *

(15/491)


فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلا تَك في شك ، يا محمد ، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام ، (1) أنه ضلالٌ وباطلٌ ، وأنه بالله شركٌ (ما يعبد هؤلاء إلا كما يعبد آباؤهم من قبل) ، يقول : إلا كعبادة آبائهم ، من قبل عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا منهم منهاج آبائهم ، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها ، لا عن أمر الله إياهم بذلك ، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها.
ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك ، فقال جل ثناؤه : (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، يعني : حظهم مما وعدتهم أن أوفّيهموه من
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة ( مري ) .

(15/491)


خير أو شر (1) (غير منقوص) ، يقول : لا أنقصهم مما وعدتهم ، بل أتمّم ذلك لهم على التمام والكمال ، (2) كما : -
18595 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال : ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
18596 - حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله إلا أن أبا كريب قال في حديثه : من خيرٍ أو شرّ.
18597 - حدثني المثني قال ، أخبرنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد عن ابن عباس : (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال : ما قُدِّر لهم من الخير والشر.
18598 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : (وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال : ما يصيبهم من خير أو شر.
18599 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال : نصيبهم من العذاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 14 : 39 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
وتفسير " النصيب " فيما سلف 12 : 408 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " النقص " فيما سلف 14 : 132 .

(15/492)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله ، بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره : ولا يحزنك ، يا محمد ، تكذيب هؤلاء المشركين لك ، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته ، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم.
ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال : (ولقد آتينا موسى الكتاب) ، يعني : التوراة ، كما آتيناك الفرقان ، فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى ، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم ، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعض به ، وتكذيب بعض (ولولا كلمة سبقت من ربك) ، يقول تعالى ذكره : ولولا كلمة سبقت ، يا محمد ، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب ، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله (لقضي بينهم) ، يقول : لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق ، بإهلاك الله المكذب به منهم ، وإنجائه المصدق به (وإنهم لفي شك منه مريب) ، يقول : وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله (مريب) ، يقول : يريبهم ، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ ؟ ولكنهم فيه ممترون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مريب " فيما سلف ص : 370 ، تعليق : 1 .

(15/493)


وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) }
قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة : (وَإنَّ) مشددة(كُلا لَمَّا) مشددة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى ذلك :
فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرئ كذلك : وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر : (1)
وَإِنِّي لَمِمَّا أُصْدِرُ الأَمْرَ وَجْهَهُ... إِذَا هُوَ أَعْيى بالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ (2)
ثم تخفف ، كما قرأ بعض القراء : (وَالْبَغْيْ يَعِظُكُمْ) ، [سورة النحل : 90] ، تخفُّ الياء مع الياء. (3) وذكر أن الكسائي أنشده :
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية . في المطبوعة : " لما " و " أعيى بالنبيل " ، وكلاهما خطأ ، صوابه من المخطوطة ومعاني القرآن . وقوله " لمما " هنا ، ليست من باب " لما " التي يذكرها ، إلا في اجتماع الميمات . وذلك أن قوله : " وإن كلا لمما ليوفينهم " ، أصلها : " لمن ما " ، " من " بفتح فسكون ، اسم . وأما التي في البيت فهي " لمن ما " ، " من " حرف جر ، ومعناها معنى " ربما " للتكثير ، وشاهدهم عليه قول أبي حية النميري ( سيبويه 1 : 477 ) : وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَم
.
(3) هكذا في المخطوطة : " تخف " ، وفي المطبوعة : " يخفف " ، وأما الذي في معاني القرآن للفراء ، وهذا نص كلامه : " بحذف الياء " ، وهو الصواب الجيد .

(15/494)


(1)
وَأشْمَتَّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوْا... لدَيْ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا (2)
وقال : يريد " لديَّ يتباشرون بما لقينا " ، فحذف ياء ، لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله : (3)
كأنَّ مِنْ آخِرِها الْقادِمِ... مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخَارِمِ (4)
وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرئ كذلك : وإن كلا شديدًا وحقًّا ، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال : وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك : (وإنّ كلا لمَّا) بالتشديد والتنوين ، (5) ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ فعل " لمَّا " ، كما فعل ذلك في قوله : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) ، [سورة المؤمنون : 44] ، فقرأ " تترى " ، بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : " لمَّا " بالتنوين ، وقرأ آخرون بغير تنوين ، كما قرأ(لمَّا) بغير تنوين من قرأه. وقالوا : أصله من " اللَّمِّ " من قول الله تعالى : ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا ) ، يعني : أكلا شديدًا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرئ كذلك : وإنّ كلا إلا ليوفينهم ، كما يقول القائل : " بالله لمَّا قمتَ عنا ، وبالله إلا قمت عنا " . (6)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية ، وفي المطبوعة والمخطوطة : " وأشمت الأعداء " ، وهو خطأ ، صوابه من معاني القرآن .
(3) لم أعرف قائله .
(4) معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية . وكان في المطبوعة : " من أحرها " ، و " محرم " و " المحارم " ، وهو خطأ . و " المخرم " ، ( بفتح فسكون فكسر ) ، الطريق في الجبل ، وجمعه " مخارم " .
(5) هذه قراءة الزهري ، كما سيأتي ص : 498 .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا " ، وذلك خطأ ، ولا شاهد فيه ، وصوابه من معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية .

(15/495)


قال أبو جعفر : ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه " لمَّا " إلى معنى " إلا " ، في اليمين خاصة . (1) وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال : " قام القوم لمَّا أخاك " بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول " إلا " فيه.
قال أبو جعفر : وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، في فساده ، وهو أنّ " إنّ " إثبات للشيء وتحقيق له ، و " إلا " ، تحقيق أيضًا ، (2) وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها ، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه ، أن تكون " إنّ " بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون " إلا نقضًا " لها. وذلك إن قاله قائل ، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله ، اللهم إلا أن يخفف قارئ " إن " فيجعلها بمعنى " إن " التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك ، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا " لكل " بقوله : ليوفينهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد " إلا " من الفعل ، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب : " ما زيدًا إلا ضربت " ، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه ، إلا أن يرفع رافع " الكل " ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. (3)
* * *
وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين : (وَإنْ كُلا) بتخفيف " إن " ونصب(كُلا لمَّا) مشدّدة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، أسقط " إلا " الثانية ، فأفسد الكلام .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وإلا أيضًا تحقق أيضًا " ، حذفت أولاهما ، لأنه تكرار ولا ريب .
(3) في المطبوعة : " بخروجه " ، والصواب من المخطوطة .

(15/496)


وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك ، أراد " إنّ " الثقيلة فخففها ، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : " كأنْ ثَديَيْه حُقَّان " ، فنصب ب " كأن " ، والنون مخففة من " كأنّ " ، ومنه قول الشاعر : (1)
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ... كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ (2)
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف : (إنْ) ونصب(كُلا) ، وتخفيف(لَمَا).
* * *
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك ، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون " إن " وهو يريد تشديدها ، ويريد ب " ما " التي في " لما " التي تدخل في الكلام صلة ، (3) وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى : وإنّ كلا ليوفينهم .
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإنّ كُلا ليوفينهم ، أي : ليوفين كُلا فيكون نيته في نصب " كل " كانت بقوله : " ليوفينهم " ، فإن كان ذلك أراد ، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : (وَإنَّ) مشددة(كُلا لَمَا) مخففة(لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). ولهذه القراءة وجهان من المعنى :
أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم ، فيوجه " ما " التي في " لما " إلى معنى " من " كما قال جل ثناؤه : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) ، [سورة النساء : 3] ، وإن كان أكثر استعمال العرب
__________
(1) من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها .
(2) سيبويه 1 : 281 ، رفعًا " كأن ثدياه ، وابن الشجري في أماليه 1 : 237 رفعًا 2 : 3 ، نصبا ، والخزانة 4 : 358 ، والعيني ( هامش الخزانة ) 2 : 305 .
(3) " صلة " ، أي : زيادة ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف .

(15/497)


لها في غير بني آدم وينوي باللام التي في " لما " اللام التي تُتَلقَّى بها " إنْ " جوابًا لها ، وباللام التي في قوله : (ليوفينهم) ، لام اليمين ، دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جل ثناؤه : ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) [سورة النساء : 72] ، وكما يقال : " هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه " .
والوجه الآخر : أن يجعل " ما " التي في " لما " بمعنى " ما " التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : (ليوفينهم) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها " إنّ " كررت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها ، كما قال الشاعر : (1)
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أَعِزَّةً... لَبَعْدُ لَقَدْ لاقَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا (2)
وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه : (وإنَّ كُلا) بتشديد " إنَّ " ، و(لمَّا) بتنوينها ، بمعنى : شديدًا وحقًا وجميعًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم ، قراءة من قرأ : " وَإنَّ " بتشديد نونها ، " كُلا لَمَا " بتخفيف " ما " ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) ، بمعنى : وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك ، يا محمد ، قصصهم في هذه السورة ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم ، بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالشديد من العقاب فتكون " ما " بمعنى " مَن " واللام التي فيها جوابًا ل " إنّ " ، واللام في قوله : (ليوفيننم) ، لام قسم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " مصرعي " ، وأثبت ما في معاني القرآن .

(15/498)


فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

وقوله : (إنه بما يعملون خبير) ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، " خبير " ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به ، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستقم أنت ، يا محمد ، على أمر ربك ، والدين الذي ابتعثك به ، والدعاء إليه ، كما أمرك ربك (2) (ومن تاب معك) ، يقول : ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره (ولا تطغوا) ، يقول : ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. (3) (إنه بما تعملون بصير) ، يقول : إن ربكم ، أيها الناس ، بما تعملون من الأعمال كلِّها ، طاعتها ومعصيتها " بصير " ، ذو علم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو لجميعها مبصرٌ. (4) يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله ، أيها الناس ، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون ، وهو لكم بالمرصاد.
* * *
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله : (فاستقم كما أمرت) ، ما : -
18600 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) لنظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة ( خبر ) .
(2) لنظر تفسير " الاستقامة " فيما سلف ص : 187 .
(3) لنظر تفسير " طغى " فيما سلف ص : 34 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) لنظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة ( بصر ) .

(15/499)


وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)

الزبير ، عن سفيان في قوله : (فاستقم كما أمرت) ، قال : استقم على القرآن.
18601 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : (ولا تطغوا) ، قال : الطغيان : خلاف الله ، وركوب معصيته . ذلك " الطغيان " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولا تميلوا ، أيها الناس ، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله ، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم (فتمسكم النار) ، بفعلكم ذلك (1) وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم (2) (ثم لا تنصرون) ، يقول : فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله ، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18602 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يعني : الركون إلى الشرك.
18603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول : لا ترضوا أعمالهم.
18604 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول : لا ترضوا أعمالهم. يقول : " الركون " ، الرضى.
__________
(1) لنظر تفسير " المس " فيما سلف ص : 353 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(2) لنظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .

(15/500)


18605 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال : لا ترضوا أعمالهم (فتمسكم النار).
18606 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال : قال ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا.
18607 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يقول : لا تلحقوا بالشرك ، وهو الذي خرجتم منه.
18608 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، قال : " الركون " ، الإدهان. وقرأ : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) ، [سورة القلم : 9] ، قال : تركنُ إليهم ، ولا تنكر عليهم الذي قالوا ، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال : وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب من أهل الإسلام ، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء من معاصي الله ، ولا يركن إليه فيها.
* * *

(15/501)


وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وأقم الصلاة ) ، يا محمد ، يعني : صَلِّ (طرفي النهار) ، يعني الغداةَ والعشيَّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات العشيّ ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة ، الفجرُ.
فقال بعضهم : عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا : وهما من صلاة العشيّ.
*ذكر من قال ذلك :
18609 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : الفجر ، وصلاتي العشي يعني الظهر والعصر.
18610 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
18611 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : صلاة الفجر ، وصلاة العشي.
18612 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أفلح بن سعيد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : فطرفا النهار : الفجرُ والظهرُ والعصرُ.

(15/502)


18613 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : (طرفي النهار) ، قال : الفجر والظهر والعصر.
18614 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : الفجر والظهر والعصر.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بها صلاة المغرب.
*ذكر من قال ذلك :
18615 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، يقول : صلاة الغداة وصلاة المغرب.
18616 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن عوف ، عن الحسن : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال. صلاة الغداة والمغرب.
18617 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الصبح ، والمغرب.
* * *
وقال آخرون : عني بها : صلاة العصر.
*ذكر من قال ذلك :
18618 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : صلاة الفجر والعصر.
18619 - . . . . قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن أفلح بن سعيد القبائي ، عن محمد بن كعب(أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر و العصر.
18620 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء ،

(15/503)


عن الحسن في قوله : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : صلاة الصبح وصلاة العصر.
18621 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن قال ، قال الله لنبيه : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : (طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18622 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله(أقم الصلاة طرفي النهار) ، يعني صلاة العصر والصبح.
18623 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18624 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن أفلح بن زيد ، عن محمد بن كعب : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر والعصر.
18625 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن الحسن : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال : الغداة والعصر.
* * *
وقال بعضهم : بل عنى بطرفي النهار : الظهر ، والعصر ، وبقوله : (زلفًا من الليل) ، المغر ب ، والعشاء ، والصبح.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : " هي صلاة المغرب " ، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر ، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس . فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا ، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب ، لأنها تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب الشمس ، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ

(15/504)


طلوعها ، وذلك ما لا نعلم قائلا قاله ، إلا من قال : " عنى بذلك صلاة الظهر والعصر " . وذلك قول لا يُخِيلُ فساده ، (1) لأنهما إلى أن يكونا جميعًا من صلاة أحد الطرفين ، أقربُ منهما إلى أن يكونا من صلاة طرفي النهار. وذلك أن " الظهر " لا شك أنها تصلَّى بعد مضي نصف النهار في النصف الثاني منه ، فمحالٌ أن تكون من طرف النهار الأول ، وهي في طرفه الآخر.
فإذا كان لا قائلَ من أهل العلم يقول : " عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس " ، وجب أن يكون غير جائز أن يقال : " عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها " .
وإذا كان ذلك كذلك ، صح ما قلنا في ذلك من القول ، وفسدَ ما خالفه.
* * *
وأما قوله : (وزلفًا من الليل) ، فإنه يعني : ساعاتٍ من الليل.
* * *
وهي جمع " زُلْفة " ، و " الزلفة " ، الساعة ، والمنزلة ، والقربة ، وقيل : إنما سميت " المزدلفة " و " جمع " من ذلك ، لأنها منزلٌ بعد عرفة وقيل سميت بذلك ، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها ، ومنه قول العجاج في صفة بعير :
ناجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وجَفا... طَيَّ اللَّيالِي زُلَفًا فَزُلَفَا (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " لا نحيل فساده " ، وهو كلام فاسد ، وفي المخطوطة غير منقوطة . يقال : " أخال الشيء " ، اشتبه . يقال " هذا الأمر لا يخيل على أحد " ، أي لا يشكل . و " شيء مخيل " ، مشكل . وقد مضى مثله وعلقت عليه في أوائل الكتاب ، في مواضع .
(2) ديوانه : 84 ، مجاز القرآن 1 : 300 ، وسيبويه 1 : 180 ، واللسان ( زلف ) ، ( حقف ) ، ( سما ) ، ( وجف ) وغيرها كثير ، وسيأتي في التفسير 19 : 51 ( بولاق ) . وبعده هناك : سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
" الأين " ، التعب . " وجف " من " الوجيف " ، وهو سرعة السير . و " سماوة الهلال " شخصه ، إذا ارتفع في الأفق شيئًا . و " احقوقف " اعوج .

(15/505)


واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق : (وَزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام.
* * *
وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام كأنه وجَّهه إلى أنه واحدٌ ، وأنه بمنزلة " الحُلُم " .
* * *
وقرأ بعض المكيين : (وَزُلْفًا) ، ضم الزاي وتسكين اللام.
* * *
قال أبو جعفر : وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها : (وزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام ، على معنى جمع " زُلْفة " ، كما تجمع " غُرْفَة غُرف " ، و " حُجْرة حُجر " .
وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك ، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل ، وهي التي عُنِيت عندي بقوله : (وزلفًا من الليل).
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله : (وزلفًا من الليل) ، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :

(15/506)


18626 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (وزلفًا من الليل) ، قال : الساعات من الليل صلاة العتمة.
18627 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
18628 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18629 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (زلفًا من الليل) يقول : صلاة العتمة.
18630 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن عوف ، عن الحسن : (وزلفًا من الليل) ، قال : العشاء.
18631 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء ويقرأ : (وزلفًا من الليل).
18632 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وزلفًا من الليل) ، قال : ساعة من الليل ، صلاة العتمة.
18633 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وزلفًا من الليل) ، قال : العتمة ، وما سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا ، يقول " العشاء " ، ما يقولون إلا " العتمة "
* * *
وقال قوم : الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها زُلَفًا من الليل ، صلاة المغرب والعشاء.
*ذكر من قال ذلك :
18634 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، وابن وكيع ، واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء عن الحسن : (وزلفًا من الليل) ، قال : هما زُلفتان من الليل : صلاة المغرب ، وصلاة العشاء.
18635 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : (وزلفًا من الليل) ، قال : المغرب ، والعشاء.
18636 - حدثني الحسن بن علي ، قال ثنا أبي قال ، حدثنا مبارك ،

(15/507)


عن الحسن ، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، قال : (زلفًا من الليل) : المغرب ، والعشاء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زُلْفَتا الليل ، المغرب والعشاء. "
18637 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان عن منصور عن مجاهد : (وزلفًا من الليل) ، قال : المغرب ، والعشاء.
18638 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
18639 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال : ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
18640 - . . . . قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في القرآن ، قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ )[سورة الإسراء : 78] ، قال : " دلوكها " : إذا زالت عن بطن السماء ، وكان لها في الأرض فيءٌ. وقال : (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة ، والعصر (وزلفًا من الليل) ، المغرب ، والعشاء. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هُما زلفتا الليل ، المغرب والعشاء.
18641 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وزلفًا من الليل) ، قال : يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
18642 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أفلح بن سعيد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : (زلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18643 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن أفلح بن سعيد ، عن محمد بن كعب ، مثله.

(15/508)


18644 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي : (وزلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18645 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم بن سليمان ، عن الحسن قال : زلفتا الليل ، المغرب والعشاء.
18646 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (وزلفًا من الليل) ، قال : المغرب والعشاء.
18647 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عاصم ، عن الحسن : (وزلفًا من الليل) ، قال : المغرب والعشاء.
18648 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وزلفًا من الليل) ، قال : المغرب والعشاء.
18649 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن الحسن : (زلفًا من الليل) ، صلاة المغرب والعشاء.
* * *
وقوله : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، يقول تعالى ذكره : إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه ، يذهب آثام معصية الله ، ويكفّر الذنوب. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع ، اللاتي يذهبن السيئات ، فقال بعضهم : هنّ الصلوات الخمس المكتوبات.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) " الأثام " ، عقوبة الإثم وجزاؤه . وأما " الآثام " فجمع " إثم " ، وهو الذئب .

(15/509)


18650 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد ابن الحضرمي قال ، حدثنا كعب في هذا المسجد ، قال : والذي نفس كعب بيده ، إن الصلوات الخمس لهُنّ الحسنات التي يذهبن السيئات ، كما يغسل الماءُ الدَّرَنَ. (1)
18651 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أفلح قال : سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : هن الصلوات الخمس.
18652 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس.
18653 - . . . . قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : (إن الحسنات) الصلوات.
18654 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة جميعا ، عن عوف ، عن الحسن : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس.
18655 - حدثني زريق بن السَّخت قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (إن الحسنات يذهبن
__________
(1) الأثر : 18650 - " الجريري " ، هو " سعيد بن إياس الجريري " ، سلف مرارًا . و " أبو الورد بن ثمامة بن حزن القشيري " ، ويقال هو : " ثمامة بن حزن " ، تابعي ثقة ، لم يدرك غير واحد من الصحابة ، وكان قليل الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7 / 1 / 164 ، والكنى للبخاري : 79 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 451 في الكنى ، وفي " ثمامة بن حزن القشيري " 1 / 1 / 465 ، ولم يقل هو " أبو الورد " ، فكأنهما عنده رجلان . " وأبو محمد بن الحضرمي " ، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة ، والذي في كتب الرجال : " أبو محمد الحضرمي " ، غلام أبي أيوب الأنصاري ، مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري : 66 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 432 ، ولم يذكروا له رواية عن كعب ، ولكن هذا الخبر يدل على أنه رآه ، وسمع منه ، وروى عنه .

(15/510)


السيئات) ، قال : الصلوات الخمس. (1)
18656 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله تعالى : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس.
18657 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن قال ، الصلوات الخمس.
18658 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس.
18659 - . . . . قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد الجريري قال ، حدثني أبو عثمان ، عن سلمان قال : والذي نفسي بيده ، إن الحسنات التي يمحو الله بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن : الصلواتُ الخمس.
18660 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس.
18661 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مزيدة بن زيد ، عن مسروق : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : الصلوات الخمس. (2)
18662 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، وعبد الله بن أبي زياد القطواني
__________
(1) الأثر : 18655 - " رزيق بن السخت " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 10051 . وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " . . بن الشخب " ، وهو خطأ .
(2) الأثر : 18661 - " مزيدة بن زيد " ، هكذا في المطبوعة ، وفي المخطوطة غير منقوط ، ولم أجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال ، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لم أعرفه .

(15/511)


قالا حدثنا عبد الله بن يزيد قال ، أخبرنا حيوة قال ، أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رحمة الله عليه يقول : جلس عثمان يومًا وجلسنا معه ، فجاء المؤذن ، فدعا عثمان بماءٍ في إناء ، أظنه سيكون فيه قدر مُدٍّ ، (1) فتوضأ ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا ، ثم قال : من توضأ وُضوئي هذا ثم قام فصلَّى صلاة الظهر ، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح ، ثم صَلَّى العصر ، غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ، ثمَّ صلَّى المغرب ، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ، ثم صلّى العشاء ، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ، ثمَّ لعله يبيت ليلته يَتَمَرّغ ، (2) ثم إن قام فتوضأ وصلَّى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء ، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات. (3)
18663 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زرعة
__________
(1) " المد " ( بضم الميم ) ، ضرب من المكاييل ، قيل إنه مقدر بأن يمد الرجل يديه ، فيملأ كفيه طعامًا .
(2) " التمرغ " ، أصله التقلب في التراب . وأراد هنا أنه يبيت يتقلب في فراشه مطمئنًا رخي البال .
(3) الأثر : 18662 - " حيوة " ، هو " حيوة بن شريح " المصري ، الفقيه الزاهد ، ثقة ، مضر مرارًا . " وزهرة بن معبد القرشي التيمي " ، " أبو عقيل " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 5451 ، 5457 . " والحارث " هو : " الحارث بن عبيد " ، " أبو صالح " ، مولى عثمان ، ثقة ، مترجم في تعجيل المنفعة : 78 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 95 . وهذا الخبر صحيح الإسناد ، رواه أحمد في مسنده مطولا رقم : 513 ، واستوفى أخي رحمه الله الكلام عليه هناك . ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 297 ، وابن كثير في تفسيره 4 : 401 / 5 : 289 .
والزيادة التي في المسند وغيره :
" قالوا : هذه الحسَنَات ، فما الباقياتُ يا عُثمان ؟ قال : هن : لا إلَه إلا الله ، وسُبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله " . وستأتي هذه الزيادة منفردة بهذه الأسانيد في تفسير سورة الكهف الآية : 46 / ج 15 : 165 ، 166 .

(15/512)


قال ، حدثنا حيوة قال ، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال : جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد فذكر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال : " وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات " . (1)
18664 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال : سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول ، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد ، ثم ذكر نحو ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال : وهن الحسنات : (إن الحسنات يذهبن السيئات). (2)
18665 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا محمد بن إسماعيل قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جعلت الصلوات كفارات لما بينهن ، فإن الله قال : (إن الحسنات يذهبن السيئات) . (3)
__________
(1) الأثر : 18663 - مكرر الأثر السالف . " وأبو زرعة " ، هو " وهب الله بن راشد المصري " ، مضى مرارًا كثيرة . " والمقاعد " ، بالمدينة ، عند باب الأقبر ، وقيل : هي مساقف حولها . وقيل : هي دكاكين عند دار عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ذكرها ياقوت في معجمه ، ورأيت ذكر " المقاعد " أيضًا في مسند أحمد ، في مسند عثمان : 505 .
(2) الأثر : 18664 - مكرر الأثرين السالفين .
" رشدين بن سعد " ، ضعيف ، مضى مرارًا منها رقم : 19 ، 1938 ، 2176 ، 2195 ، وغيرها . ولكن لهذا الخبر شاهد مما سلف في الصحاح ، يقويه على ضعف رشدين .
(3) الأثر : 18665 - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا . " ومحمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي " ، ضعيف ، يحدث عن أبيه ، ولم يسمع منه شيئًا ، مضى برقم : 5445 . وأبوه : " إسماعيل بن عياش الحمصي " ، ثقة ، متكلم فيه ، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم : 14212 . " وضمضم بن زرعة بن ثوب الحضرمي " ، ثقة ، وضعفه أبو حاتم ، مضى برقم : 5445 ، 14212 . " وشريح بن عبيد بن شريح الحضرمي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 5445 ، 12194 ، 14212 .وهذا خبر ضعيف الإسناد ، من آفة " محمد بن إسماعيل عن أبيه " ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 1 : 299 ، وقال : " وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال أبو حاتم : لم يسمع من أبيه شيئًا ، قلت : وهذا من روايته عن أبيه . وبقية رجاله موثقون " .

(15/513)


18666 - حدثنا ابن سيار القزاز قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي قال ، كنت مع سلمان تحت شجرة ، فأخذ غصنا من أغصانها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه ، ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كنت معه تحت شجرة ، فأخذ غصنًا من أغصانها يابسًا فهزه حتى تحاتَّ ورقُه ، ثم قال : ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان ؟ فقلت : ولم تفعله ؟ فقال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلَّى الصلوات الخمس ، تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق. ثم تلا هذه الآية : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
* * *
وقال آخرون : هو قول : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " .
* ذكر من قال ذلك :
18667 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن
__________
(1) الأثر : 18666 - " حماد " ، هو " حماد بن سلمة " . " وعلي بن يزيد بن جدعان " ، مضى مرارا كلام الأئمة فيه وأنه سيء الحفظ ، ومضى أيضًا توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله روايته . " وأبو عثمان النهدي " ، هو " عبد الرحمن بن مل " ، تابعي ثقة . وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 437 ، 438 ، من طريق عفان عن حماد بنحو لفظ أبي جعفر في روايته ، ومن طريق يزيد عن حماد بلفظ آخر . وسيرويه أبو جعفر بعد ، من طريق قبيصة عن حماد ، برقم : 18677 . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 297 ، 298 ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الأوسط والكبير ، وفي إسناد أحمد : علي بن زيد ، وهو مختلف في الاحتجاج به . وبقية رجاله رجال الصحيح " .

(15/514)


منصور ، عن مجاهد : (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، قولُ من قال في ذلك : " هن الصلوات الخمس " ، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترها عنه أنه قال : " مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بابِ أحَدِكم ، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات ، فماذا يُبقينَ من دَرَنه ؟ " ، (1) وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات ، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها ، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال ، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض.
* * *
وقوله : (ذلك ذكرى للذاكرين) ، يقول تعالى ذكره : هذا الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم ، وتهددت فيه ، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات ، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله ، فيرجُون ثوابه ووعيده ، فيخافون عقابه ، لا من قد طبع على قلبه ، فلا يجيب داعيًا ، ولا يسمع زاجرًا.
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه ، فتاب من ذنبه ذلك.
*ذكر الرواية بذلك :
18668 - حدثنا هناد بن السرى قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود : جاء رجل إلى
__________
(1) هذا الخبر رواه أبو جعفر بغير إسناد ، رواه بنحو هذا اللفظ مالك في الموطأ ص : 174 ، من حديث سعد بن أبي وقاص ، وروى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة ( الفتح : 2 : 9 ) ومسلم في صحيحه 5 : 169 ، 170 .

(15/515)


النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجتُ امرأة في بعض أقطار المدينة ، (1) فأصبت منها ما دون أن أمسَّها ، فأنا هذا ، (2) فاقض فيَّ ما شئت ! فقال عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ! قال : ولم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا . فقام الرجل فانطلق ، فأتبعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه ، فلما أتاه قرأ عليه : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال رجل من القوم : هذا لهُ يا رسول الله خاصَّةً ؟ قال : بل للناس كافة. (3)
18669 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان ، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها ، وفعلت بها كلَّ شي غير أني لم أجامعها . فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) " عالجت امرأة " ، يعني أخذها واستمتع بها ، من " المعالجة " ، وهي الممارسة . وهذا لفظ بليغ موجز . و " أقطار المدينة " ، نواحيها ، وفي رواية مسلم " في أقصى المدينة " .
(2) هذا تعبير عزيز ، فقيده .
(3) الأثر : 186688 - حديث عبد الله بن مسعود ، رواه أبو جعفر من طريقين :
1 - من طريق علقمة ، والأسود ، عن عبد الله بن مسعود ، وذلك برقم : 18668 - 18674 .
2 - من طريق أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود ، رقم : 18676 ، وسأبينها جميعًا ، طريقًا طريقًا ، وكلها طرق صحاح .
" إبراهيم " ، هو " إبراهيم بن يزيد النخعي " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . " والأسود بن يزيد النخعي " ، روى له الجماعة ، وهو خال " إبراهيم بن يزيد النخعي " ، مضى مرارًا . " وعلقمة " ، هو " علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي " ، وهو خال " إبراهيم النخعي " ، لأنه عم خاليه الأسود ، وعبد الرحمن ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . ومن طريق أبي الأحوص ، عن سماك ، عن إبراهيم ، رواه مسلم في صحيحه ( 17 : 80 ) ، وأبو داود في سننه 4 : 223 رقم : 4468 ، والترمذي في كتاب التفسير . وانظر التعليق على الطرق الآتية . ثم انظر التعليق على رقم : 18675 ، في بيان اسم " الرجل " الذي فعل ذلك .

(15/516)


فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه ، فقال عمر : يا رسول الله ، أله خاصَّةً ، أم للناس كافة ؟ قال : لا بل للناس كافة ولفظ الحديث لابن وكيع. (1)
18670 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، أنه سمع إبراهيم بن زيد ، يحدث عن علقمة ، والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وجدت امرأةً في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها ، قَبَّلتها ، ولزمتُها ، (2) ولم أفعل غير ذلك ، فافعل بي ما شئت . فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا . فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ! فأتبعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَره ، فقال : " ردُّوه عليَّ ! فردُّوه ، فقرأ عليه : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، قال : فقال معاذ بن جبل : أله وحده ، يا نبي الله ، أم للناس كافة ؟ فقال : " بل للناس كافة . (3)
18671 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، والأسود ، عن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها كل شيء ، غير أني لم أنكحها ، فاصنع بي ما شئت ! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (4)
__________
(1) الأثر : 18669 - مكرر الذي قبله . ومن طريق وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، رواه أحمد في مسنده رقم : 4250 .
(2) " لزمتها " يعني : عانقتها فأطلت العناق واستوعبته . وهذا الثلاثي بهذا المعنى قلها تجده في كتب اللغة ، وإنما فيها : " التزمه " ، أي : عانقه .
(3) الأثر : 18670 - مكرر الذي قبله . ومن طريق عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، ورواه أحمد في مسنده رقم : 4290 .
(4) الأثر : 18671 - مكرر الذي قبله . ومن طريق أبي عوانة ، عن سماك ، رواه أحمد في مسنده رقم : 4291 ، ولكنه أحاله على الذي قبله . وأبو داود الطيالسي في مسنده ص : 37 ، رقم : 285 .

(15/517)


18672 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب قال ، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود ، عن عبد الله : أن رجلا لقي امرأةً في بعض طرق المدينة ، فأصاب منها ما دون الجماع ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله ، لهذا خاصة ، أو لنا عامة ؟ قال : بل لكم عامة. (1)
18673 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، أنبأني سماك قال ، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله ، عن ابن مسعود : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لقيت امرأة في حُشٍّ بالمدينة ، (2) فأصبت منها ما دون الجماع ، نحوه. (3)
18674 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البغدادي قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن خاله ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (4)
__________
(1) الأثر : 18672 - " الحكم بن عبد الله العجلي " ، " أبو النعمان " ، ثقة حافظ ، مضى برقم : 10185 ، 17013 ، 18033 . ومن هذه الطريق ، رواه مسلم في صحيحه 17 : 80 ، 81 .
(2) " الحش " ، البستان ، عند أهل المدينة ، انظر ما سلف رقم : 3086 .
(3) الأثر : 18673 - لم أعثر عليه في مسند أبي داود الطيالسي ، ومعروف أن المطبوع من هذا المسند ناقص غير تام . وانظر التعليق التالي . وفي المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا أبو المثني " ، والصواب " ابن المثني " ، وهو " محمد بن المثني " شيخ الطبري .
(4) الأثر : 18674 - " عمرو بن الهيثم البغدادي " ، " أبو قطن " ، ثقة ، من ثقات أصحاب شعبة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 268 . ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده برقم : 4325 . وقال أخي السيد أحمد : " خاله ، إما : الأسود بن يزيد النخعي ، وإما عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، فكلاهما خاله ، وإما علقمة بن قيس النخعي ، عم الأسود وعبد الرحمن . وقد روى إبراهيم الحديث عن ثلاثتهم مطولا ومختصرًا ، كما مضى بأسانيد رقم : 3854 ، 4250 ، 4290 ، 4291 " . وقد رواه أحمد برقم : 3584 من طريق سفيان الثوري ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود ، ورواه الترمذي في كتاب التفسير .

(15/518)


18675 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء فُلانُ بن معتِّب رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله دخلت عليّ امرأة ، فنلتُ منها ما ينالُ الرجل من أهله ، إلا أني لم أواقعها ؟ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه ، حتى نزلت هذه الآية : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، الآية ، فدعاه فقرأها عليه. (1)
18676 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، وحدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان جميعًا ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأةٍ شيئًا لا أدري ما بلغ ، غير أنه ما دون الزنا ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، فقال الرجل : ألي هذه يا رسول الله ؟ قال : لمن أخذَ بها من أمتي أو : لمن عمل بها. (2)
__________
(1) الأثر : 18675 - فصل الحافظ بن حجر في الفتح 8 : 268 ، 269 ، القول في اسم هذا الرجل ، فذكر هذا الخبر ، ثم قال : " وأخرجه ابن أبي خيثمة ، لكن قال : إن رجلا من الأنصار يقال له : معتب وقد جاء أن اسمه : كعب بن عمرو ، و : أبو اليسر ( بفتح التحتانية والمهملة ) الأنصاري . أخرجه الترمذي ، والنسائي ، والبزار ، من طريق موسى بن طلحة ، عن أبي اليسر بن عمرو ، أنه أتته امرأة ، وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث " ، الحديث ، وسيأتي برقم : 18684 ، 18685 .
(2) الأثر : 18676 - هذه هي الطريق الثانية ، لحديث عبد الله بن مسعود ، كما أشرت إليه في التعليق على رقم : 18668 . " وأبو عثمان " هو " عبد الرحمن بن مل النهدي " كما سلف مرارًا . وهذا حديث صحيح . ومن هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 2 : 7 ) من طريق يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي . ثم رواه أيضا ( الفتح 8 : 268 ، 269 ) ، من الطريق نفسها ، بلفظ مختلف قليلا . ورواه مسلم في صحيحه 17 : 79 ، 80 ، من طريق يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي ، ثم من طريق محمد بن عبد الأعلى ، عن المعتمر بن سليمان ، عن سليمان التيمي ، وهو أحد طرق أبي جعفر في رواية هذا الخبر ، بلفظ آخر . ورواه أحمد في مسنده برقم : 3653 ، عن يحيى ، عن سليمان التيمي . ثم رواه أيضًا برقم : 4094 ، من الطريق نفسها . ورواه ابن ماجة في سننه ص : 447 ، رقم : 1398 ، و ص 1421 ، رقم : 4254 .
ورواه الترمذي في كتاب التفسير .

(15/519)


18677 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا قبيصة ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : كنت مع سلمان ، فأخذ غصن شجرة يابسة فحتَّه ، وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من توضأ فأحسن الوضوء ، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق ! ثم قال : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
18678 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة ، وحسين الجعفي ، عن زائدة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها ، غير أنْ لم يجامعها ؟ (2) فأنزل الله هذه الآية : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضأ ثم صلّ . قال معاذ : قلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال : بل للمؤمنين عامة. (3)
__________
(1) الأثر : 18677 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم : 18666 ، وقد مضى تخريجه وشرحه هناك .
(2) في المطبوعة : " غير أنه لم يجامعها " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب الجيد .
(3) الأثر : 18678 - حديث معاذ ، يأتي أيضًا برقم : 18682 .
" أبو أسامة " ، هو : " حماد بن اسامة " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . " وحسين الجعفي " ، هو : " حسين بن علي الجعفي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . " وزائدة " ، هو : " زائدة بن قدامة " ، ثقة ، مضى مرارًا . " وعبد الملك بن عمير اللخمي " ، المعروف بالنبطي ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 12573 . " وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارا ، منها رقم : 33 ، 2156 ، 2937 . وهذا إسناد صحيح . رواه أحمد في مسنده 5 : 244 من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي سعيد ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير وفيه رواية أبي سعيد ، عن عبد الملك بن عمير مباشرة . " وأبو سعيد " هو " عبد الرحمن بن عبد الله ، مولى بني هاشم ، ثقة . " وخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 404 ، عن الحافظ الدارقطني ، وسيأتي في التعليق على رقم : 18682 . ورواه الترمذي في كتاب التفسير . ثم سيأتي هذا الخبر موقوفًا على عبد الرحمن بن أبي ليلى برقم : 18679 ، 18680 .

(15/520)


18679 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أن رجلا أصابَ من امرأة ما دون الجماع ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن ذلك ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو : أنزلت(أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية ، فقال معاذ : يا رسول الله ، أله خاصة ، أم للناس عامة ؟ قال : هي للناس عامة.
18680 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير قال : سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
18681 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال ، حدثني عمرو بن الحارث قال ، حدثني عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي قال ، حدثنا سليم بن عامر ، أنه سمع أبا أمامة يقول : إن رجلا أتى رسول الله

(15/521)


صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أقم فيَّ حَدّ الله مرةً واثنتين. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة ، قال : أين هذا القائل : أقم فيَّ حدَّ الله ؟ قال : أنا ذا ! قال : هل أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا ؟ قال : نعم! قال : فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمّك ، فلا تَعُدْ ! وأنزل الله حينئذ على رسوله : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (1)
18682 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني جرير ، عن عبد الملك ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له ، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها ؟ قال : يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنزل الله هذه الآية : (أقم الصلاة طرفي النهار
__________
(1) الأثر : 18681 - " عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي " ، شيخ الطبري ، سلف مرارا ، آخرها رقم : 15379 . " وإسحق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي " ، هو " ابن زبريق " ، ثقة ، تكلموا فيه حسدًا . مضى برقم : 15379 . " وعمرو بن الحارث بن النعمان الزبيدي " ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي : لا تعرف عدالته ، مضى برقم : 15379 . " وعبد الله بن سالم الأشعري الوحاظي " ، وثقه ابن حبان ، مضى برقم : 15379 . " والزبيدي " ، هو " محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي " ، ثقة ، روى له الشيخان ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 15377 . " وسليم بن عامر الكلاعي الحمصي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 12807 . وهذا إسناد حسن ، ولم أجد حديث أبي أمامة مرويا من هذه الطريق ، ولكن الأئمة رووه من طرق أخرى . رواه أحمد في مسنده من طريقين 5 : 251 ، 262 من طريق عكرمة بن عمار اليمامي ، عن شداد بن عبد الله ، عن أبي أمامة . ثم رواه ص : 265 ، من طريق الأوزاعي ، عن أبي عمار شداد ، عن أبي أمامة . ومن الطريق الأولى ، رواه مسلم في صحيحه 17 : 81 ، 82 . ومن الطريق الثانية رواه أبو داود في سننه 4 : 191 ، رقم : 4381 .

(15/522)


وزلفًا من الليل) ، الآية ، فقال معاذ : هي له يا رسول الله خاصة ، أم للمسلمين عامة ؟ قال : بل للمسلمين عامة (1)
18683 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة : أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنه لحاجة ، فأذن له ، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل الرجل يريد أن يُبَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر ، فوجد المرأة جالسةً على غديرٍ ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها ، فصار ذكره مثل الهُدْبة ، فقام نادمًا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات : قال : وتلا عليه : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (2)
18684 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عثمان بن وهب ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال : أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا ، فقلت : إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت ، فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته ، فقال : استر على نفسك وتُبْ واستغفر الله ! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا !! حتى ظننت أنّي من أهل النار ، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ! قال : فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً فنزل جبريل فقال : أين أبو اليسر ؟ فجئت ، فقرأ عليّ : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى : (ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) الأثر : 18682 - هو مكرر الأثر السالف 18678 ، وانظر تخريجه هناك .
(2) الأثر : 18683 - " يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 7472 .

(15/523)


قال إنسان : لهُ يا رسول الله ، خاصةً ، أم للناس عامة ؟ قال : للناس عامة. (1)
18685 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي اليسر قال : لقيت امرأة فالتَزَمْتُها ، غير أني لم أنكحها ، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال : اتق الله ، واستر على نفسك ، ولا تخبرنّ أحدًا ! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه ، فسألته فقال : اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا ! قال : فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته فقال له : هل جهزت غازيًا في أهله ؟ قلت : لا قال : فهل خلفت غازيًا في أهله ؟ قلت : لا فقال لي ، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال : فلما وليت دعاني ، فقرأ عليّ : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، فقال له أصحابه : ألهذا خاصة ، أم للناس عامة ؟ فقال : بل للناس عامة. (2)
18686 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثني سعيد ، عن قتادة : أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله هلكتُ ! فأنزل الله : (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
18687 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) الأثر : 18684 - حديث أبي اليسر الأنصاري ، سيأتي بعده بنحو إسناده . وانظر ما كتبه الحافظ بن حجر في اسمه فيما سلف في التعليق على رقم : 18675 .
" قيس بن الربيع الأسدي " ، سلف مرارًا ، آخرها رقم : 16369 ، وقد وثقه جماعة ، وضعفه آخرون . " وعثمان بن موهب " ، هو " عثمان بن عبد الله بم موهب التميمي " ، ينسب إلى جده ، ثقة . مضى برقم : 17567 . " وموسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 17567 - 17571 . وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير ، وقال : " هذا حديث حسن غريب . وقيس بن الربيع ، ضعفه وكيع وغيره . وروى شريك عن عثمان بن عبد الله هذا الحديث ، مثل رواية قيس بن الربيع " .
(2) الأثر : 18685 - هو مكرر الأثر السالف .

(15/524)


معمر ، عن سليمان التيمي قال : ضرب رجلٌ على كَفَلِ امرأة ، ثم أتى أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما . فكلما سأل رجلا منهما عن كفارة ذلك قال : أمغزية هي [مادا] ؟ (1) قال : نعم قال : لا أدري! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ، فقال : أمغزية هي ؟ قال : نعم! قال : لا أدري! حتى أنزل الله : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات).
18688 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، في قول الله : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، أنّ امرأة دخلت على رجل يبيعُ الدقيق ، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : اتق الله ، ولا تكن امرأةَ غازٍ ! فقال الرجل : هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر ، فقال مثل ما قال عمر. فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا ، فقال له : كذلك ، ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، فأنزل الله : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الصلوات المفروضات (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
18689 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق لتبتاع منه ، فدخل بها البيت ، فلما خلا له قَبَّلها. قال : فسُقِط في يديه ، فانطلق إلى أبي بكر ، فذكر ذلك له ، فقال : أبصر ، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ ! فبينما هم على ذلك ، نزل في ذلك : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) قيل لعطاء : المكتوبة هي ؟ قال : نعم ، هي المكتوبة
__________
(1) في المخطوطة هذا الذي وضعته بين القوسين ، ولم أوفق إلى قراءته أو تبين معناه ، وهما يكن فالسؤال واضح . وقوله : " مغزية " ، فالمغزية هي المرأة التي غزا زوجها وبقيت وحدها في البيت ، ومنه حديث عمر :
" ما بال رجالٍ لا يزال أحدهم كاسرًا وسادَه عند مُغْزِية ، يتحدَّث إليها وتتحدث إليه ! عليكم بالجَنْبة ، فإنها عفافٌ . إنما الناس لحمٌ على وضَمٍ إلاّ ما ذُبَّ عنهُ " .

(15/525)


وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)

فقال ابن جريج ، وقال عبد الله بن كثير : هي المكتوبات.
قال ابن جريج : عن يزيد بن رومان : إن رجلا من بني غنم ، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها ، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه ، ثم جاء إلى عمر رضى الله عنه ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : (أقم الصلاة) ، إلى قوله : (ذلك ذكرى للذاكرين) ، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر ، فذلك قوله : (ذكرى للذاكرين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واصبر ، يا محمد ، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه ، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك ، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره ، فيذهب به ، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة ، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي ، وكفرهم برسلي

(15/526)


(1) من قبلكم.(أولو بقية) ، يقول : ذو بقية من الفهم والعقل ، (2) يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه ، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله ، وعليهم في الكفر به (3) (ينهون عن الفساد في الأرض) ، يقول : ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم ، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به ، في أرضه (4) (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، يقول : لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا يسيرًا ، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ، فنجاهم الله من عذابه ، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه وهم اتباع الأنبياء والرسل.
* * *
ونصب " قليلا " لأن قوله : (إلا قليلا) استثناء منقطع مما قبله ، كما قال : ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ) ، [سورة يونس : 98] . وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
18690 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : اعتذر فقال : (فلولا كان من القرون من قبلكم) ، حتى بلغ : (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله. وقرأ : (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه).
18691 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) ، إلى قوله : (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، قال : يستقلَّهم الله من كل قوم.
__________
(1) انظر تفسير " القرن " فيما سلف 11 : 263 / 15 : 37 .
(2) انظر تفسير " البقية " فيما سلف ص : 447 - 449 .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وعليهم " بإسقاط " ما " ، والأجود إثباتها .
(4) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسد ) .
(5) انظر فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما .

(15/527)


18692 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود قال : سألني بلال عن قول الحسن في القدر ، (1) قال : فقال : سمعت الحسن يقول : (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال : بعث الله هودًا إلى عاد ، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود ، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه الأمم ، فقال : ما أراه إلا كان حسَّن القول في القَدر . (2)
18693 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض (إلا قليلا ممن أنجينا منهم).
* * *
وقوله : (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، يقول تعالى ذكره : واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه.
*ذكر من قال ذلك :
18694 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال : ما أُنْظروا فيه.
18695 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، من دنياهم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا : " في العذر " ، والصواب ما أثبت ، وانظر التعليق التالي .
(2) في المطبوعة وحدها : " في العذر ، والصواب من المخطوطة . ويعني أنه أمر قد فرغ منه ، لقول الله سبحانه لنوح : " وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " ، وذلك قبل أن يكونوا ، وهو قول أهل الإثبات ، من أهل الحق .

(15/528)


وكأنّ هؤلاء وجَّهوا تأويل الكلام : واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم الدنيا ولذاتها ، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك ، وعتَوْا عن أمر الله.
*ذكر من قال ذلك :
18696 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال : في ملكهم وتجبُّرهم ، وتركوا الحق.
18697 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : وتركِهم الحق.
18698 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر تعالى ذكره : أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله ، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله .
* * *
وذلك أن المترف في كلام العرب : هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات ، ومنه قول الراجز :

(15/529)


وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)

(1)
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفينَ الصُّدَّادْ... إلى أمِير المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (2)
* * *
وقوله : (وكانوا مجرمين) ، يقول : وكانوا مكتسبي الكفر بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما كان ربك ، يا محمد ، ليهلك القرى ، التي أهلكها ، التي قَصَّ عليك نبأها ، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم ، غير مسيئين ، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم ، ظلمًا ، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم ، وتكذيبهم رُسُلهم ، وركوبهم السيئات.
* * *
وقد قيل : معنى ذلك : لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله " بظلم " يعني : بشرك (وأهلها مصلحون) ، فيما بينهم لا يتظالمون ، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم ، وإن كانوا مشركين ، إنما يهلكهم إذا تظالموا.
* * *
__________
(1) هو رؤبة .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرح فيما سلف 11 : 223 ، تعليق : 1 . ، " الممتاد " ، الذي نسأله العطاء فيعطي .
(3) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .

(15/530)


وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربك ، يا محمد ، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد ، (1) كما : -
18699 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) ، يقول : لجعلهم مسلمين كلهم.
* * *
وقوله : (ولا يزالون مختلفين) ، يقول تعالى ذكره : ولا يزال النَّاس مختلفين (إلا من رحم ربك).
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " الاختلاف " الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به.
فقال بعضهم : هو الاختلاف في الأديان فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء : ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى ، من بين يهوديّ ونصرانيّ ، ومجوسي ، ونحو ذلك.
وقال قائلو هذه المقالة : استثنى الله من ذلك من رحمهم ، وهم أهل الإيمان.
*ذكر من قال ذلك :
18700 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : اليهود والنصارى والمجوس ، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك
__________
(1) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص : 353 تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(15/531)


18701 - حدثني المثني قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : اليهود والنصارى والمجوس ، (إلا من رحم ربك) ، قال : هم الحنيفية.
18702 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال : قلت للحسن قوله : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، إلا من رحم ربك ، فمن رحم غير مختلفين.
18703 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن ليث ، عن مجاهد : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الباطل (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحقّ.
18704 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الباطل (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحق.
18705 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
18706 - . . . . قال ، حدثنا معلي بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن منصور بن عبد الرحمن قال : سئل الحسن عن هذه الآية : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال : الناس كلهم مختلفون على أديان شتى ، إلا من رحم ربك ، فمن رحم غير مختلف. فقلت له : (ولذلك خلقهم) ؟ فقال : خلق هؤلاء لجنته ، وهؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه.
18707 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الباطل (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحق.

(15/532)


18708 - . . . . قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قوله : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الحقّ وأهل الباطل.(إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحق.
18709 - . . . . قال ، حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
18710 - . . . . قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك : (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحقّ ، ليس فيهم اختلاف.
18711 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : اليهود والنصارى (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل القبلة.
18712 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن ابن عباس : (ولا يزالون مختلفين) قال : أهل الباطل(إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحق.
18713 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال : لا يزالون مختلفين في الهوى.
18714 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة ، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
18715 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال : من جعله على الإسلام.

(15/533)


18716 - . . . . قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا الحسن بن واصل ، عن الحسن : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الباطل ، (إلا من رحم ربك). (1)
18717 - . . . . قال ، حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : أهل الباطل (إلا من رحم ربك) ، قال : أهل الحق.
18718 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا يزالون مختلفين في الرزق ، فهذا فقير وهذا غنى.
*ذكر من قال ذلك :
18719 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، أن الحسن قال : مختلفين في الرزق ، سخر بعضهم لبعض.
* * *
وقال بعضهم : مختلفين في المغفرة والرحمة ، أو كما قال.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك ، بالصواب قولُ من قال : معنى ذلك : " ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى ، إلا من رحم ربك ، فآمن بالله وصدق رسله ، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله ، وتصديق رسله ، وما جاءهم من عند الله " .
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أتبع
__________
(1) الأثر : 18716 - " الحسن بن واصل " ، لم أجد له ذكرًا ، وأخشى أن يكون فيه تحريف . وأن يكون صوابه : " الحسن ، عن واصل " ، وكأنه يعني : " واصل بن عبد الرحمن " " أبا حرة " ، وهو يروي عن الحسن ، مضى برقم : 6385 ، 11496 ، 12616 .

(15/534)


ذلك قوله : (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين) ، ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس ، إنما هو خبرٌ عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار ، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق ، لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم وعَذابهم.
* * *
وأما قوله : (ولذلك خلقهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله :
فقال بعضهم : معناه : وللاختلاف خلقهم.
*ذكر من قال ذلك :
18720 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن : (ولذلك خلقهم) ، قال : للاختلاف.
18721 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا منصور بن عبد الرحمن ، قال : قلت للحسن : (ولذلك خلقهم) ؟ فقال : خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه.
18722 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عليه ، عن منصور ، عن الحسن ، مثله.
18723 - حدثني المثني قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن الحسن. بنحوه.
18724 - . . . . قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، أن الحسن قال في هذه الآية : (ولذلك خلقهم) ، قال : خلق هؤلاء لهذه ، وخلق هؤلاء لهذه.
18725 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا

(15/535)


عوف ، عن الحسن قال : (ولذلك خلقهم) ، قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم.
18726 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولذلك خلقهم) ، قال : خلقهم فريقين : فريقًا يرحم فلا يختلف ، وفريقًا لا يرحم يختلف ، وذلك قوله : ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، [سورة هود : 105].
18727 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء في قوله : (ولا يزالون مختلفين) ، قال : يهود ونصارى ومجوس(إلا من رحم ربك) ، قال : من جعله على الإسلام (ولذلك خلقهم) ، قال : مؤمن وكافر.
18728 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، قال ، حدثنا الأعمش : " ولذلك خلقهم " ، قال : مؤمن وكافر.
18729 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال : سئل مالك عن قول الله : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ، قال : خلقهم ليكونوا فريقين : فريقٌ في الجنة ، وفريقٌ في السعير.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وللرحمة خلقهم.
*ذكر من قال ذلك :
18730 - حدثني أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن ليث ، عن مجاهد : (ولذلك خلقهم) ، قال : للرحمة.
18731 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : (ولذلك خلقهم) ، قال للرحمة.

(15/536)


18732 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، مثله.
18733 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
18734 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : للرحمة خلقهم.
18735 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ولذلك خلقهم) ، قال : للرحمة خلقهم.
18736 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عمن ذكره عن ثابت ، عن الضحاك : (ولذلك خلقهم) ، قال : للرحمة.
18737 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة : (ولذلك خلقهم) ، قال : أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته.
18738 - حدثني سعد بن عبد الله قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك) ، قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه : أحدهما أهل اختلاف وباطل ، والآخر أهل حق ، ثم عقَّب ذلك بقوله : (ولذلك خلقهم) ، فعمّ بقوله : (ولذلك خلقهم) ، صفة الصنفين ، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له.
* * *

(15/537)


فإن قال قائل : فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت ، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم ، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم ، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت ، وإنما معنى الكلام : ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم ، (إلا من رحم ربك) ، فهداه للحقّ ولعلمه ، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر ، والشقي والسعيد خلقهم فمعنى اللام في قوله : (ولذلك خلقهم) بمعنى " على " كقولك للرجل : أكرمتك على برك بي ، وأكرمتك لبرك بي.
* * *
وأما قوله : (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) ، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله ، وخلافهم أمره.
* * *
وقوله : (وتمت كلمة ربك) ، قسم كقول القائل : حلفي لأزورنك ، وبدًا لي لآتينك ، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين.
* * *
وقوله : (من الجنة) ، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم (والناس) ، يعني : وبنى آدم.
* * *
وقيل : إنهم سموا " الجنة " ، لأنهم كانوا على الجنان.
*ذكر من قال ذلك :
18739 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : وإنما سموا " الجنة " أنهم كانوا على الجنان ، والملائكة كلهم " جنة "
18740 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ،

(15/538)


وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)

عن أبي مالك قال : " الجنة " : الملائكة.
* * *
وأما معنى قول أبى مالك هذا : أن إبليس كان من الملائكة ، والجن ذريته ، وأن الملائكة تسمى عنده الجن ، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وكلا نقصّ عليك) ، يا محمد (2) (من أنباء الرسل) ، الذين كانوا قبلك (3) (ما نثبت به فؤادك) ، فلا تجزع من تكذيب من كذبك من قومك ، وردَّ عليك ما جئتهم به ، ولا يضق صدرك ، فتترك بعض ما أنزلتُ إليك من أجل أن قالوا : (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها ، (4) كما : -
18741 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) ، قال : لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم.
* * *
وأختلف أهل العربية في وجه نصب " كلا " .
__________
(1) انظر تفسير " الجن " فيما سلف 1 : 502 - 508 .
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص : 470 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) .
(4) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5 : 354 ، 531 / 7 : 272 ، 237 / 8 : 529 / 13 : 427 .

(15/539)


فقال بعض نحويي البصرة : نصب على معنى : ونقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، كلا ، كأنَّ الكلّ منصوب عنده على المصدر من " نقص " بتأويل : ونقص عليك ذلك كلَّ القصص .
* * *
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال : ذلك غير جائز ، وقال إنما نصبت " كلا " ب " نقصّ " ، لأن " كلا " بنيت على الإضافة ، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال : أراد : كلَّه نقص عليك ، وجعل " ما نثبت " ردًّا على " كلا " ، وقد بينت الصواب من القول في ذلك. (1)
* * *
وأما قوله : (وجاءك في هذه الحق) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله :
فقال بعضهم : معناه : وجاءك في هذه السورة الحق.
*ذكر من قال ذلك :
18742 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن خليد بن جعفر ، عن أبي إياس ، عن أبي موسى : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه السورة.
18743 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة ، عن خليد بن جعفر ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أبي موسى ، مثله.
18744 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني سعيد بن عامر قال ، حدثنا عوف ، عن أبي رجاء ، عن ابن عباس ، في قوله : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه السورة.
18745 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن أبي عوانة ،
__________
(1) انظر ما سلف في حكم " كل " 6 : 210 ، ثم تفسير " كل " فيما سلف ص : 212 ، وفهارس اللغة مادة ( كلل ) .

(15/540)


عن أبي بشر ، عن عمرو العنبري ، عن ابن عباس : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه السورة.
18746 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن رجل من بني العنبر قال : خطبنا ابن عباس فقال : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه السورة.
18747 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ : (وجاءك في هذه الحق) ، قال في هذه السورة.
18748 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن مروان الأصغر ، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر : (وجاءك في هذه الحق) فقال : في هذه السورة
18749 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد : (وجاءك في هذه الحق) قال : في هذه السورة.
18750 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ، في هذه السورة.
18751 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
18752 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
18753 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
18754 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر الرازي ،

(15/541)


عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : هذه السورة.
18755 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، مثله.
18756 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أبو رجاء ، عن الحسن في قوله : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه السورة.
18757 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، بمثله.
18758 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة ، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله.
18759 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد ، مثله.
18760 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وجاءك في هذه الحق) قال : في هذه السورة.
18761 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة [مثله]. (1)
18762 - حدثني المثني قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء قال : سمعت الحسن البصري يقول في قول الله : (وجاءك في هذا الحق) ، قال : يعني في هذه السورة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وجاءك في هذه الدنيا الحق.
*ذكر من قال ذلك :
18763 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن جعفر
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، أرجو أن تكون هي الصواب .

(15/542)


قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة : (وجاءك في هذه الحق) ، قال : في هذه الدنيا.
18764 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة ، عن قتادة : (وجاءك في هذا الحق) ، قال : كان الحسن يقول : في الدنيا .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : وجاءك في هذه السورة الحق ، لإجماع الحجة من أهل التأويل ، على أن ذلك تأويله.
* * *
فإن قال قائل : أو لم يجيء النبي صلى الله عليه وسلم الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة ، فيقال : وجاءك في هذه السورة الحق ؟
قيل له : بلى ، قد جاءه فيها كلِّها.
فإن قال : فما وجه خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله : (وجاءك في هذه الحق) ؟ قيل : إن معنى الكلام : وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن أو إلى ما جاءك من الحق في سائر سور القرآن لا أن معناه : وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن.
* * *
وقوله : (وموعظة) يقول : وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله ، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله (1) (وذكرى للمؤمنين) يقول : وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله ، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف ص : 104 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/543)


وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل ، يا محمد ، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله (اعملوا على مكانتكم) ، يقول : على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه (1) فإنا عاملون ما نحن عاملوه من الأعمال التي أمرنا الله بها وانتظروا ما وعدكم الشيطان ، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا عليكم ، كما : -
18765 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج في قوله : (وانتظروا إنا منتظرون) ، قال : يقول : انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزيّن لكم (إنا منتظرون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولله ، يا محمد ، ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه ، ولم تعلمه ، (2) كل ذلك بيده وبعلمه ، لا يخفى عليه منه شيء ، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك ،
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص : 463 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف 14 : 381 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/544)


وما إليه مصير أمرهم ، من إقامة على الشرك ، أو إقلاعٍ عنه وتوبة (وإليه يرجع الأمر كله) ، يقول : وإلى الله مَعَادُ كل عامل وعمله ، وهو مجازٍ جميعَهم بأعمالهم ، كما : -
18766 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (وإليه يرجع الأمر كله) ، قال : فيقضي بينهم بحكمه بالعدل.
* * *
(فاعبده) ، يقول : فاعبد ربك يا محمد (وتوكل عليه) ، يقول : وفوِّض أمرك إليه ، وثق به وبكفايته ، فإنه كافي من توكل عليه. (1)
* * *
وقوله : (وما ربك بغافل عما تعملون) ، يقول تعالى ذكره : وما ربك ، يا محمد ، بساه عما يعمل هؤلاء المشركون من قومك ، (2) بل هو محيط به ، لا يعزب عنه شيء منه ، وهو لهم بالمرصاد ، فلا يحزنك إعراضهم عنك ، ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ ، وامض لأمر ربّك ، فإنك بأعيننا.
18767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : خاتمة " التوراة " ، خاتمة " هود " (3)
(آخر تفسير سورة هود ، والحمد لله وحده)
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 168 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص : 198 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) الأثر : 18767 - مضى الخبر بتمامه فيما سلف برقم : 13043 ، ومن طريق أخرى بمثله ، رقم : 13042 .

(15/545)


الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)

(1) تفسير سورة يوسف (تفسير السورة التي يذكر فيها يوسف صلى الله عليه وسلم)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(ربِّ يسّر)
القول في تأويل قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) }
قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : (الر تلك آيات الكتاب) ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2)
* * *
وأما قوله : (تلك آيات الكتاب المبين) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : (تلك آيات الكتاب المبين) : بَيَّن حلاله وحرامه ، ورشده وهُداه .
ذكر من قال ذلك :
18768 حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : (الر تلك آيات الكتاب المبين) ، قال : بيَّن حلاله وحرامه. (3)
__________
(1) في المخطوطة بعد هذا ، ما نصه :
" يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها يوسف وهو آخر المجلَّد الثاني عشر الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم " .
(2) انظر ما سلف ص : 9 - 12 .
(3) الأثر : 18768 - " الوليد بن سلمة الفلسطيني الأردني " قاضي الأردن ، كذاب ، يضع الأحاديث على الثقات . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 2 / 6 ، وميزان الاعتدال 3 : 271 ، ولسان الميزان 6 : 222 . و " عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر " ، ضعيف جدًا ، وقال سفيان : كذاب ، قال أحمد : " لم يسمع من أبيه ، ليس بشيء " . مضى برقم : 636 .

(15/546)


18769 حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (الر تلك آيات الكتاب المبين) ، إي والله ، لمبينٌ ، بيَّن الله هداه ورشده. (1)
18770 حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (الر تلك آيات الكتاب المبين) ، قال : بين الله رشده وهداه.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما :
18771 حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ أنه قال في قول الله عز وجل : (الكتاب المبين) قال بيَّن الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبَّر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ; لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه " مبين " ، ولم يخصَّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينًا عمَّا فيه .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " تركيبه " ، وفي المخطوطة : " برليه " واستظهرت الصواب من الذي يليه .
(2) الأثر : 18771 - " الوليد بن سلمة الفلسطيني " ، كذاب ، سلف برقم : 18768 . " وثور بن يزيد الكلاعي " ، ثقة صحيح الحديث ، مضى برقم : 3196 . " وخالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة مضى برقم : 2070 ، 9224. وهذا خبر آفته الوليد بن سلمة .

(15/550)


إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين ، قرآنًا عربيًّا على العرب ، لأن لسانهم وكلامهم عربي ، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه ، وذلك قوله : (لعلكم تعقلون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " نحن نقص عليك " يا محمد ، " أحسن القصص " بوحينا إليك هذا القرآن ، فنخبرك فيه عن الأخبار الماضية ، وأنباء الأمم السالفة والكتب التي أنزلناها في العصور الخالية (1) ( وإن كنت من قبله لمن الغافلين) ، يقول تعالى ذكره : وإن كنت يا محمد من قبل أن نوحيه إليك لمن الغافلين عن ذلك ، لا تعلمه ولا شيئا منه ، (2) كما :
18772 حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (نحن نقص عليك أحسن القصص) من الكتب الماضية وأمور الله السالفة
__________
(1) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص : 539 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص : 545 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(15/551)


في الأمم(وإن كنت من قبله لمن الغافلين).
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسألة أصحابه إياه أن يقصَّ عليهم .
*ذكر الرواية بذلك :
18773 حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي ، عن ابن عباس ، قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ قال : فنزلت : (نحن نقص عليك أحسن القصص) . (1)
18774 حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، قال : قالوا : يا نبي الله ، فذكر مثله .
18775 حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، قال : ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّةً ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا ! فأنزل الله عز وجل : ( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) [سورة الزمر : 23] . ثم ملوا ملَّةً أخرى فقالوا : يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن ! يعنون القصَص ، فأنزل الله : (الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) ، فأرادوا الحديث فدَّلهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصصَ فدلهم على أحسن القصص . (2)
__________
(1) الأثران : 18773 ، 18774 - " أيوب بن سيار ، أبو عبد الرحمن " ، لم أجده بهذه الكنية وإنما ذكروا " أيوب بن سيار الزهري المدني " وكناه البخاري " أبا سيار " ، قال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال ابن حبان : " كان يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل " . مترجم في الكبير 1 / 1 / 417 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 248 ، وميزان الاعتدال 1 : 134 ، ولسان الميزان 1 : 482 ، وكأنه هو . هو نفسه : " أبو عبد الرحمن " ، و " أبو سيار " ، له كنيتان . وقد روى الأول مرفوعًا إلى ابن عباس ، والآخر موقوفًا . ثم انظر حديث عمرو بن قيس الملائي ، مرفوعًا إلى سعد بن أبي وقاص ، برقم : 18776 . فلعل هذا مما قلبه أيوب بن سيار .
(2) الأثر : 18775 - " عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود " ، روى عن أبيه وعمه مرسلا . وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 3 من طريق عون بن عبد الله ، عن ابن مسعود ، فهو مرسل . وذكره الواحدي في أسباب النزول : 203 .

(15/552)


18776 حدثنا محمد بن سعيد العطار ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا خلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، [عن عمرو بن مرة] ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلاه عليهم زمانًا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ! فأنزل الله : (الر تلك آيات الكتاب المبين) ، إلى قوله : (لعلكم تعقلون) ، الآية . قال : ثم تلاه عليهم زمانًا ، فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ! فأنزل الله تعالى( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) [سورة الزمر : 23] ، قال خلاد : وزاد فيه رجل آخر ، قالوا : يا رسول الله أو قال أبو يحيى : ذهبت من كتابي كلمة فأنزل الله : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) [سورة الحديد : 16]. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 18776 - " محمد بن سعيد بن غالب البغدادي ، العطار ، الضرير " ، " أبو يحيى " ، شيخ الطبري . روى عن ابن علية ، وعبد الله بن نمير ، والشافعي ، ووهب بن جرير ، وغيرهم . ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 266 ، وتاريخ بغداد 5 : 306 . " وعمرو بن محمد القرشي العنقزي " ، ثقة ، جائز الحديث ، مضى برقم : 6139 ، 12369 ، 13258 . " وخلاد الصفار " ، هو : " خلاد بن عيسى العبدي " ، ويقال : " خلاد بن مسلم " ، وكنيته " أبو مسلم " . ثقة ، مضى برقم : 3014 . " وعمرو بن قيس الملائي " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة . " وعمرو بن مرة المرادي الجملي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، وهو الذي يروي عن مصعب ابن سعد ، مضى مرارًا كثيرة . وكان اسمه ساقطًا من الإسناد في المخطوطة والمطبوعة ، وزدته بين القوسين ، لأن ابن كثير نقل هذا الخبر في تفسيره 4 : 411 ، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ، وجاء على الصواب كما أثبته ، كما رواه الحاكم وغيره ، كما سترى في التخريج . و " مصعب بن سعد بن أبي وقاص " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، روى عن أبيه ، مضى برقم : 9841 ، 11450 ، 16633 . وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 345 ، من هذه الطريق نفسها ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي ، ولكن الحاكم قال : " حدثنا خلاد بن مسلم " ، فقال الذهبي : " صوابه : خلاد أبو مسلم الصفار ، وأبوه اسمه عيسى " ، وقد رأيت قبل ما ذكر من الاختلاف في اسم أبيه . ونقله عن الحاكم ، الواحدي في أسباب النزول : 203 ، وليس فيهما هذه الزيادة عن خلاد في آخر الحديث .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 3 ، وزاد نسبته إلى إسحاق بن راهوية ، والبزار ، وأبي يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه .

(15/553)


إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن كنت يا محمد ، لمن الغافلين عن نبأ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إذ قال لأبيه يعقوب بن إسحاق : (يا أبت إني رأيت أحدَ عشر كوكبًا) ; يقول : إني رأيت في منامي أحد عشر كوكبًا .
* * *
وقيل : إن رؤيا الأنبياء كانت وحيًا .
18778 حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) ، قال : كانت رؤيا الأنبياء وحيًا.
18779 وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (إني رأيت أحد عشر كوكبًا) ، قال : كانت الرؤيا فيهم وحيًا.
* * *

(15/554)


وذكر أن الأحد العشر الكوكب التي رآها في منامه ساجدةً مع الشمس والقمر ، ما :
18780 - حدثني علي بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر ، قال : أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من يهود يقال له " بستانة اليهودي " ، فقال له : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدةً له ، ما أسماؤها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يجبه بشيء ، ونزل عليه جبرئيل وأخبره بأسمائها .
قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ؟ قال : نعم! فقال : جربان والطارق ، والذيال ، وذو الكنفات ، (1) وقابس ، ووثاب وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضَّروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور " . فقال اليهودي : والله إنها لأسماؤها! (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ذو الكتفين " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما نقله ابن كثير في تفسيره عن هذا الموضع من تفسير الطبري . أما باقي الأسماء ، فإني جهلت ضبطها .
(2) الأثر : 18780 - " الحكم بن ظهير الفزاي " ، متروك ، مضى مرارًا ، برقم : 249 ، 5523 ، 5792 ، 11335 . و " عبد الرحمن بن سابط " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط " تابعي ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11526 . وهو يروي عن جابر مرسلا ، قيل ليحيى بن معين : " سمع عبد الرحمن من سعد بن أبي وقاص ؟ قال : لا . قيل : من أبي أمامة ؟ قال : لا . قيل من جابر قال : لا ، هو مرسل " . وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 4 ، وقال : " أخرج سعيد بن منصور ، والبزار ، وأبو يعلي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وابن حبان في الضعفاء ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم البيهقي معًا في دلائل النبوة ، عن جابر " . ولم أعرف مكان هذا الخبر من المستدرك للحاكم ، ولكن العجب أنه صححه ، فإن هذا الخبر قد تفرد به الحكم بن ظهير ، وهو واهي الحديث متروك ، وحتى قال الجوزجاني : " ساقط لميله وأعاجيب حديثه ، وهو صاحب حديث نجوم يوسف " ، وقد أنكر العقيلي حديثه في تسمية النجوم التي رآها يوسف عليه الصلاة والسلام . انظر تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال 1 : 268 ، وذكر الخبر من طريق ابن حبان بإسناده . وانظر الاختلاف في أسماء النجوم هناك ، وراجع دلائل النبوة لأبي نعيم ، فني لم أجده هناك .

(15/555)


وقوله : ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) يقول : والشمس والقمر رأيتهم في منامي سجودا .
* * *
وقال " ساجدين " والكواكب والشمس والقمر إنما يخبر عنها ب " فاعلة " و " فاعلات " لا بالواو والنون ، [ لأن الواو والنون] إنما هي علامة جمع أسماء ذكور بني آدم ، أو الجن ، أو الملائكة (1) . وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن " السجود " من أفعال من يُجمع أسماء ذكورهم بالياء والنون ، أو الواو والنون ، فأخرج جمع أسمائها مخرج جمع أسماء من يفعل ذلك ، كما قيل : ( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) ، [سورة النمل : 18].
* * *
وقال : " رأيتهم " وقد قيل " : إني رأيت أحد عشر كوكبًا " ، فكرر الفعل ، وذلك على لغة من قال : " كلمت أخاك كلمته " ، توكيدًا للفعل بالتكرير .
* * *
وقد قيل : إن الكواكب الأحد عشر كانت إخوته ، والشمس والقمر أبويه .
* ذكر من قال ذلك :
18781 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبًا) إخوته ، أحد عشر كوكبًا " والشمس والقمر " ، يعني بذلك : أبويه
18782 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شريك ، عن السدي ، في قوله : " إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر " ... الآية ، قال : رأى أبويه وإخوته سجودا له فإذا قيل له : عمن ؟ قال إن كان حقًّا ، فإن ابن عباس فسرَّه.
__________
(1) الذي بين القوسين ، أظنه سقط من الكلام ، لذلك زدته حتى تستقيم العبارة .

(15/556)


18783 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " قال : الكواكب : إخوته ، والشمس والقمر : أبواه.
18784 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " إني رأيت أحد عشر كوكبًا " إخوته " والشمس " ، أمه " والقمر " أبوه.
18785 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد ، قال ، قال سفيان : كان أبويه وإخوته
18786 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، قوله : " إني رأيت أحد عشر كوكبًا " هم إخوة يوسف " والشمس والقمر " ، هما أبواه.
18787 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبًا " الآية ، قال : أبواه وإخوته . قال : فنعاه إخوته ، وكانوا أنبياء ، (1) فقالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى سجد له أبواه! حين بلغهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال " : الكواكب " إخوته ، " والشمس والقمر " ، أبوه وخالته من وجه غير محمودٍ ، فكرهت ذكره.
* * *
__________
(1) هكذا هي المخطوطة ، أيضًا ، أو نحوًا من " نفاه " غير منقوطة ، ولا أدري ما أراد .

(15/557)


قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) }
قال أبو جعفر : يقول جل ذكره قال : يعقوب لابنه يوسف : " يا بنيّ لا تقصص رؤياك " ، هذه ، " على إخوتك " ، فيحسدوك (1) " فيكيدوا لك كيدًا " ، يقول : فيبغوك الغوائل ، ويناصبوك العداوة ، ويطيعوا فيك الشيطان (2) .(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ، يقول : إن الشيطان لآدم وبنيه عدو ، قد أبان لهم عداوته وأظهرها (3) . يقول : فاحذر الشيطان أن يغريَ إخوتك بك بالحسد منهم لك ، إن أنت قصصت عليهم رؤياك .
* * *
وإنما قال يعقوب ذلك ، لأنه قد كان تبين له من أخوته قبلَ ذلك حسدًا ، (4) كما : -
18788 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : نزل يعقوب الشأم ، فكان همُّه يوسف وأخاه ، فحسده إخوته لما رأوا حبَّ أبيه له. ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رآهم له ساجدين ، فحدث بها أباه فقال : (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا ) ، الآية.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول " اللام " في قوله(فيكيدوا لك كيدا) .
فقال بعض نحويي البصرة : معناه : فيتخذوا لك كيدا وليست مثل :
__________
(1) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص : 551 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص : 361 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(4) في المطبوعة : " حسده " بالإضافة ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو جيد جدًا .

(15/558)


وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

(إن كنتم للرؤيا تعبرون) [ سورة : يوسف : 43 ] تلك أرادوا أن يوصل الفعل إليها باللام ، كما يوصل بالباء ، كما تقول : " قدمت له طعامًا " ، تريد قدّمت إليه ، وقال : (يأكلن ما قدمتم لهن) ، [ سورة يوسف : 48 ] ومثله قوله : (قل الله يهدي للحق) [ سورة : يونس : 35 ] قال : وإن شئت كان : ( فيكيدوا لك كيدا) ، في معنى : " فيكيدوك " ، وتجعل اللام مثل : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُون) [ سورة الأعراف : 154] وقد قال " لربهم يرهبون " إنما هو بمكان : " ربَّهم يرهبون " .
* * *
وقال بعضهم : أدخلت اللام في ذلك ، كما تدخل في قولهم : " حمدت لك " و " شكرت لك " ، و " حمدتك " و " شكرتك " . وقال : هذه لام جلبها الفعل ، (1) فكذلك قوله : (فيكيدوا لك كيدا) تقول : فيكيدوك ، أو : يكيدوا لك ، فيقصدوك ، ويقصدوا لك ، قال : " وكيدًا " : توكيدٌ .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل يعقوب لابنه يوسف ، لما قصّ عليه رؤياه : (وكذلك يجتبيك ربك) وهكذا يجتبيك ربك . يقول : كما أراك ربك الكواكب والشمسَ والقمرَ لك سجودًا ، فكذلك يصطفيك ربك ، (2) كما : -
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " هذه لام عليها الفعل " ، والصواب ما أثبت .
(2) انظر تفسير " الاجتباء " فيما سلف 13 : 341 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/559)


18789 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو العنقزي ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة : (وكذلك يجتبيك ربك) ، قال : يصطفيك.
18790 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) ، فاجتباه واصطفاه وعلّمه من عَبْر الأحاديث ، وهو " تأويل الأحاديث " .
* * *
وقوله : (ويعلمك من تأويل الأحاديث) يقول : ويعلمك ربك من علم ما يؤول إليه أحاديثُ الناس ، عما يرونه في منامهم. وذلك تعبير الرؤيا . (1)
* * *
18691 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال : عبارة الرؤيا.
18792 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (ويعلمك من تأويل الأحاديث) ، قال : تأويل الكلام : العلم والكلام. (2)
وكان يوسف أعبرَ الناس ، وقرأ : (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما). [ سورة يوسف : 22].
* * *
وقوله : (ويتم نعمته عليك) باجتبائه إياك ، واخيتاره ، وتعليمه إياك تأويل الأحاديث (وعلى آل يعقوب) يقول : وعلى أهل دين يعقوب ، وملته من ذريته وغيرهم (3) (كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق) ، باتخاذه هذا خليلا وتنجيته من النار ، وفدية هذا بذبح عظيم ، كالذي : -
__________
(1) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف ص : 93 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة : " العلم والحلم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو جائز .
(3) انظر تفسير " الآل " فيما سلف 13 : 85 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/560)


لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)

18793 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن عكرمة ، في قوله : (ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق) قال : فنعمته على إبراهيم أن نجاه من النار ، وعلى إسحاق أنْ نجَّاه من الذَّبح.
* * *
وقوله : (إن ربك عليم حكيم) يقول : ( إن ربك عليم ) بمواضع الفضل ، ومَنْ هو أهلٌ للاجتباء والنعمة " حكيم " في تدبيره خلقه (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (لقد كان في يوسف وإخوته) الأحد عشر(آيات) يعني عبر وذكر (2) (للسائلين) يعني السائلين عن أخبارهم وقصصهم . وإنما أراد جل ثناؤه بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وذلك أنه يقال : إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه ، يعلمه فيها ما لقي يوسف من أَدانيه وإخوته من الحسد ، (3) مع تكرمة الله إيَّاه ، تسليةً له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش . (4) كذلك كان ابن إسحاق يقول :
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " في فهارس اللغة ( علم ) و ( حكم )
(2) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(3) في المطبوعة : " من إخوته وأذايته من الحسد " ، وفي المخطوطة : " من أدانيه وإخوته من الحسد " ، ووضع فوق " أدانيه " " كذا " ، كأنه شك في صحتها ، وهي صواب لا شك فيه ، يعني أقرب الناس إليه . وانظر ما سيلي ، والتعليق عليه .
(4) في المطبوعة : " من أذايته وأقاربه " ، والصواب ما أثبت ، وإنما حمله عليه ما ورط فيه نفسه قبل أسطر . انظر التعليق السالف .

(15/561)


إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)

18794 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف ، وبَغْي إخوته عليه وحسدهم إياه ، حين ذكر رؤياه ، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه وحسده حين أكرمه الله عز وجل بنبوته ، ليأتسي به. (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله : (آيات للسائلين). فقرأته عامة قراء الأمصار " آياتٌ " على الجماع .
* * *
وروي عن مجاهد وابن كثير أنهما قرآ ذلك على التوحيد .
* * *
والذي هو أولى القراءتين بالصواب ، قراءةُ من قرأ ذلك على الجماع ، لإجماع الحجة من القراء عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لقد كان في يوسف وإخوته آيات لمن سأل عن شأنهم حين قال إخوة يوسف (2) (ليوسف وأخوه) من أمه(أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) ، يقولون : ونحن جماعة ذوُو عدد ، أحد عشر رجلا .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ليتأسى به " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) في المطبوعة : " قالوا إخوة يوسف " ، وهو رديء ، وإنما أخطأ قراءة المخطوطة ، وكان الناسخ أراد أن يكتب " قالوا " ، ثم جعلها " قال " .

(15/562)


اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

و " العصبة " من الناس ، هم عشرة فصاعدًا ، قيل : إلى خمسة عشرَ ، ليس لها واحد من لفظها ، كالنَّفر والرهط.
* * *
(إن أبانا لفي ضلال مبين) ، يعنون : إنّ أبانا يعقوب لفي خطأ من فعله ، في إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة ويعني ب " المبين " : أنه خطأٌ يبينُ عن نفسه أنه خطأ لمن تأمله ونظر إليه (1) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
18795 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي : (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) ، قال : يعنون بنيامين . قال : وكانوا عشرة.
18796 - .... قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (إن أبانا لفي ضلال مبين) ، قال : في ضلال من أمرنا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (ونحن عصبة) ، قال : " العصبة " ، الجماعة .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : قال إخوة يوسف بعضهم لبعض : اقتلوا يوسف أو اطرحوه في أرض من الأرض ، يعنون مكانا من الأرض(يخلُ لكم
__________
(1) انظر تفسير " المبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين )

(15/563)


قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)

وجه أبيكم) يعنون : يخلُ لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف ، فإنه قد شغله عنّا ، وصرف وَجهه عنَّا إليه(وتكونوا من بعده قومًا صالحين) ، يعنون أنهم يتوبون من قتلهم يوسف ، وذنبهم الذي يركبونه فيه ، فيكونون بتوبتهم من قتله من بعد هلاك يوسف قومًا صالحين .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
18798 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين) ، قال : تتوبون مما صنعتم ، أو : من صنيعكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال قائل من إخوة يوسف : (لا تقتلوا يوسف) .
* * *
وقيل : إن قائل ذلك " روبيل " ، كان ابن خالة يوسف.
*ذكر من قال ذلك :
18799 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (لا تقتلوا يوسف) ذكر لنا أنه روبيل ، كان أكبر القوم ، وهو ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله.

(15/564)


18800 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (اقتلوا يوسف) ، إلى قوله : (إن كنتم فاعلين) ، قال : ذكر لي ، والله أعلم ، أن الذي قال ذلك منهم " روبيل " ، الأكبر من بني يعقوب ، وكان أقصدهم فيه رأيًا.
18801 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : (لا تقتلوا يوسف) قال : كان أكبر إخوته ، وكان ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قَتْله .
* * *
وقيل : كان قائل ذلك منهم " شمعون " . (1)
*ذكر من قال ذلك :
18802 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف) قال : هو شمعون.
* * *
وقوله : (وألقوه في غيابت الجب) يقول وألقوه في قَعْرِ الجبّ ، حيث يَغيبُ خبره .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة : " غيَابَاتِ الجُبِّ " على الجماع .
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء سائر الأمصار : (غَيابَةِ الجُبِّ) بتوحيد " الغيابة " .
* * *
قال أبو جعفر : وقراءة ذلك بالتوحيد أحبُّ إليّ .
* * *
و " الجبّ " : بئر .
* * *
__________
(1) سيأتي في الأثر رقم : 18831 ، اسم آخر ، وأنه هو قائل ذاك ، وهو : " يهوذا " .

(15/565)


وقيل : إنه اسم بئر ببيت المقدس .
*ذكر من قال ذلك :
18803 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : في : ( غيابة الجب) ، يقول : بئر ببيت المقدس.
18804 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (غيابة الجب) قال : بئر ببيت المقدس.
* * *
والغيابة : كل شيء غيب شيئًا فهو " غيابة " و " الجب " ، البئر غير المطويَّة .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
18805 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في : ( غيابة الجب) ، في بعض نواحيها : في أسفلها.
18806 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وألقوه في غيابة الجب) ، يقول : في بعض نواحيها.
18807 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله (1)
18807 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (وألقوه في غيابة الجب) قال : قالها كبيرهم الذي تخلَّف . قال : و " الجب " ، بئر بالشأم.
__________
(1) الأثر : 18807 - " الحسن بن محمد " ، هو " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، شيخ الطبري . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 36 . و " عبد الوهاب " ، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي " ، مضى مرارًا .

(15/566)


18809 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (ألقو في غيابة الجب) يعني : الركيَّة.
18810 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ ، قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : " الجبّ " : البئر.
* * *
وقوله : (يلتقطه بعض السيارة) يقول : يأخذه بعض مارّة الطريق من المسافرين (1) (إن كنتم فاعلين) ، يقول : إن كنتم فاعلين ما أقول لكم . فذكر أنه التقطه بعض الأعراب .
18811 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (يلتقطه بعض السيارة) ، قال : التقطه ناس من الأعراب.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ : " تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ " بالتاء .
18812 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال حدثنا القاسم ، قال ، حدثني حجاج ، عن هارون ، عن مطر الورّاق ، عن الحسن .
* * *
وكانّ الحسن ذهب في تأنيثه " بعض السيارة " إلى أنَّ فعلَ بعضها فعلُها.
والعرب تفعل ذلك في خبر كان عن مُضافٍ إلى مؤنث ، (2) يكون الخبرُ عن بعضه خبرًا عن جميعه ، وذلك كقول الشاعر : (3)
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (4)
__________
(1) انظر تفسير " السيارة " فيما سلف 11 : 71 - 73 .
(2) في المطبوعة : " عن المضاف إلى مؤنث " ، فأساء بفعله غاية الإساءة .
(3) هو جرير .
(4) سلف البيت وتخريجه وشرحه 11 : 86 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا " أرى " ، والرواية هناك ، وفي ديوانه " رأت " .

(15/567)


قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)

فقال : " أخذن مني " ، وقد ابتدأ الخبر عن " المرّ " ، إذ كان الخبر عن " المرّ " ، خبرًا عن " السنين " ، وكما قال الآخر : (1)
إذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ... فَدَانَتْ لَهُ أهْلُ القُرَى والكَنائِسِ (2)
فقال : " دانت له " ، والخبر عن أهل القرى ، لأن الخبر عنهم كالخبر عن القرى . ومن قال ذلك لم يقل : " فدانت له غلام هند " ، لأن " الغلام " لو ألقي من الكلام لم تدلَّ " هند " عليه ، كما يدل الخبر عن " القرية " على أهلها .
وذلك أنه لو قيل " : فدانت له القرى " ، كان معلومًا أنه خبر عن أهلها. وكذلك " بعض السيارة " ، لو ألقي البعض ، فقيل : تلتقطه السيارة ، علم أنه خبر عن البعض أو الكل ، ودلّ عليه الخبر عن " السيارة " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال إخوة يوسف ، إذ تآمروا بينهم ، وأجمعوا على الفرقة بينه وبين والده يعقوب ، لوالدهم يعقوب : (يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف) فتتركه معنا إذا نحن خرجنا خارج المدينة إلى الصحراء(وإنا له ناصحون) ، نحوطه ونكلؤه (3) .
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية .
(3) انظر تفسير : نصح له " فيما سلف ص : 305 ، تعليق : 2

(15/568)


أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) }
قال أبو جعفر : واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة : " يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ " ، بكسر العين من " يرتع " ، وبالياء في " يرتع ويلعب " ، على معنى : " يفتعل " ، من " الرعي " : " ارتعيت فأنا أرتعي " ، كأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلي : أرسله معنا غدًا يرتَع الإبل ويلعب ، (وإنّا له لحافظون) .
وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة : " أرْسِلهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ " ، بالياء في الحرفين جميعًا ، وتسكين العين ، من قولهم : " رتع فلانٌ في ماله " ، إذا لَهَا فيه ونَعِم وأنفقه في شهواته. ومن ذلك قولهم في مثل من الأمثال : " القَيْدُ والرَّتَعَة " ، (1) ومنه قول القطامي :
أكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِئَةَ الرِّتَاعَا (2)
* * *
وقرأ بعض أهل البصرة : " تَرْتَعْ " بالنون " ونَلْعَبْ " بالنون فيهما جميعًا ، وسكون العين من " نرتع " .
18813 - حدثني أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : كان أبو عمرو يقرأ : " نَرْتَعْ ونَلْعَبْ " بالنون ، قال : فقلت
__________
(1) مثل ذكره الميداني في أمثاله 2 : 39 ، والمفضل الضبي في أمثاله : 62 ، والمفضل ابن سلمة في كتابه الفاخر ص : 170 ، 241 ، واللسان ( رتع ) . وأصله أن عمرو بن الصعق ، أسرته شاكر ، من همدان ، فأحسنوا إليه . وكان فارق قومه نحيفًا ، فهرب من شاكر ، فلما وصل إلى قومه قالوا : أي عمرو ، خرجت من عندنا نحيفًا ، وأنت اليوم بادن ؟ فقال : " القيد والرتعة " ، فأرسلها مثلا . و " الرتعة " الخصب .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 1 : 116 ، تعليق : 1 .

(15/569)


لأبي عمرو : كيف يقولون " نلعب " ، وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذٍ أنبياء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءة في ذلك عندي بالصواب ، قراءةُ من قرأه في الحرفين كليهما بالياء ، وبجزم العين في " يرتع " ، لأن القوم إنما سألوا أباهم إرسال يوسف معهم ، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك ، عما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك ، لا بالخبر عن أنفسهم .
* * *
وبذلك أيضا جاء تأويل أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
18814 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب) ، يقول : يسعى وينشطُ.
18815 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، قال ابن عباس : (يرتع ويلعب) قال : يلهو ، وينشط ويسعى.
18816 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب) ، قال : ينشط ويلهو.
18817 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، بنحوه . (1)
18818 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يرتع ويلعب) ، قال : يسعى ويلهو.
18819 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني هشيم ، عن
__________
(1) الأثر : 18817 - " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، وانظر تفسير هذا الإسناد فيما سلف رقم : 18807 .

(15/570)


جويبر ، عن الضحاك ، قوله : (يرتع ويلعب) ، قال : يتلهَّى ويلعب..
18820 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (يرتع ويلعب) ، قال : يتلهَّى ويلعب.
18821 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (يرتع ويلعب) قال : ينشط ويلعب.
18822 - ... قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدى : (أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب ، ) يلهو.
18823 - قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن شيبان ، عن قتادة : (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب) ، قال : ينشط ويلعب.
18824 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا نعيم بن ضمضم العامري ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، في قوله : (أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب) ، قال : يسعى وينشط. (1)
* * *
وكأن الذين يقرأون ذلك : " يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ " بكسر العين من يرتع ، يتأوّلونه على الوجه الذي : -
18825 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ، ابن زيد في
__________
(1) الأثر : 18824 - " نعيم بن ضمضم العامري " ، لم أجد له ترجمة في غير لسان الميزان 6 : 169 ، قال : " نعيم بن ضمضم ، والضحاك ، بحديث في الوضوء . وضعفه بعضهم . انتهى . وهذا روى عنه سفيان بن عيينة ، وأبو أحمد الزبيري ، وقبيصة بن عقبة ، وعبد الرحمن ابن صالح الكوفي ، وآخرون . وذكر البخاري روايته في ترجمة عمران بن حميري ( ؟ ) ولم يفرده بترجمة . وما عرفت إلى الآن من ضعفه . وقد تقدم في " عمران ، أن ابن حبان سمى أباه جهضما ، ويقال : ضمعج . قلت : وهما خطأ ، فقد أخرج حديثه البزار ، والطبراني ، والحارث بن أبي أسامة في أسانيدهم ، وأبو الشيخ . في كتاب الثواب ، كلهم من رواية عبد العزيز بن أبان ، فقال : عن نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن حميري ، كما وقع عند البخاري " . انتهى ما قاله الحافظ ابن حجر ، وهو جليل الفائدة ، وزادنا الطبري في إسناده أنه العامري "

(15/571)


قوله : " أرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ " قال : يرعى غنمه ، وينظر ويعقل ، فيعرف ما يعرف الرجُل.
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك بما : -
18826 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " نَرْتَعِ " ، بحفظ بعضنا بعضًا ، نتكالأ نتحارس . (1)
18827 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " نَرْتَعِ " قال : يحفظ بعضنا بعضًا ، نتكالأ
18828 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18829 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
18830 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : أرسله معنَا غدًا نلهو ونلعب وننعم ، وننشط في الصحراء ، ونحن حافظُوه من أن يناله شيء يكرهه أو يؤذيه .
__________
(1) " نتكالأ " من قولهم : " كلأه " ، أي حفظه ورعاه وحرسه .

(15/572)


قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لهم : إني ليحزنني أن تذهبوا به معكم إلى الصحراء ، (1) مخافة عليه من الذئب أن يأكله ، وأنتم عنه غافلون لا تشعرون . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال إخوة يوسف لوالدهم يعقوب : لئن أكل يوسف الذئبُ في الصحراء ، ونحن أحد عشر رجلا معه نحفظه وهم العصبة (3) (إنا إذًا لخاسرون) ، يقول : إنا إذًا لعجزة هالكون . (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحزن " فيما سلف ص : 142 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير : " الغفلة " فيما سلف ص : 551 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " العصبة " فيما سلف ص : 562 .
(4) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة ( خسر ) .

(15/573)


فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) }
قال أبو جعفر : وفي الكلام متروكٌ حذف ذكره ، اكتفاءً بما ظهر عما ترك ، وهو " : فأرسله معهم " ، ( فلما ذهبوا به وأجمعوا) ، يقول : وأجمع رأيهم ، (1) وعزموا على(أن يجعلوه في " غيابة الجب " (2) ) . كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الإجماع " فيما سلف ص : 147 ، 148 .
(2) انظر تفسير " غيابة الجب " فيما سلف ص : 565 ، 566 .

(15/573)


18831 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قوله : (إني ليحزنني أن تذهبوا به) ، الآية ، قال ، قال : لن أرسله معكم ، إني أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون(قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنَّا إذًا لخاسرون) ، فأرسله معهم ، فأخرجوه وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه ، فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيمًا ، (1) فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه! يا يعقوب! لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ! فلما كادوا يقتلونه ، قال يهوذا (2) أليس قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلّق بشَفير البئر.
فربطوا يديه ، ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه! ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ ! فقالوا : ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحد عشر كوكبًا تؤنسك ! قال : إني لم أر شيئًا ، فدلوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت. وكان في البئر ماءٌ فسقط فيه ، ثم أوَى إلى صخرة فيها فقام عليها . قال : فلما ألقوه في البئر ، جعل يبكي ، فنادوه ، فظنّ أنها رحمة أدركتهم ، فلبَّاهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه ، فقام يهوذا فمنعهم ، وقال : قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه! وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
* * *
وقوله : (فلما ذهبوا به وأجمعوا) فأدخلت " الواو " في الجواب ، كما قال امرؤ القيس :
__________
(1) انظر ما قلته في " جعل " وأشباهها ، وأنها أفعال استعانة ، لها مكان في التعبير لا يغني مكانها شيء غيرها . انظر ج 11 تعليق : 1 .
(2) انظر ما سلف ص : 565 ، تعليق : 1 في اسم هذا القائل ، وأنه " روبيل " أو " شمعون " ، ولم يذكر هناك " يهوذا " .

(15/574)


فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى... بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفاف عَقَنْقَل (1)
فأدخل الواو في جواب " لما " ، وإنما الكلام : فلما أجزنا ساحة الحي ، انتحى بنا ، وكذلك : (فلما ذهبوا وأجمعوا) ، لأن قوله : " أجمعوا " هو الجواب.
* * *
وقوله : (وأوحينا إليه لتنبِّئنهم بأمرهم) ، يقول : وأوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك( بأمرهم هذا) يقول : بفعلهم هذا الذي فعلوه بك(وهم لا يشعرون) يقول : وهم لا . يعلمون ولا يدرُون (2) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله عز وجل بقوله : (وهم لا يشعرون) .
فقال بعضهم : عنى بذلك : أن الله أوحى إلى يوسف أنّ يوسف سينبئ إخوته بفعلهم به ما فعلوه : من إلقائه في الجب ، وبيعهم إياه ، وسائر ما صنعوا به من صنيعهم ، وإخوته لا يشعرون بوحي الله إليه بذلك .
*ذكر من قال ذلك :
18832 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأوحينا إليه) إلى يوسف.
18833 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا) قال : أوحينا إلى يوسف : لتنبئن إخوتك.
18834 - ...قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم
__________
(1) معلقته المشهورة ، وسيأتي في التفسير 17 : 73 ( بولاق ) ، وكان في المطبوعة : " ذي حقاف " ، وأثبت روايته هذه من المخطوطة .
(2) انظر تفسير " شعر " فيما سلف 12 : 576 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/575)


لا يشعرون) قال : أوحى إلى يوسف وهو في الجبّ أنْ سينبئهم بما صنعوا ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي
18835 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : (وأوحينا إليه) ، قال : إلى يوسف.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وأوحينا إلى يوسف بما إخوته صانعون به ، وإخوته لا يشعرون بإعلام الله إيّاه بذلك .
*ذكر من قال ذلك :
18836 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ، بما أطلع الله عليه يوسف من أمرهم ، وهو في البئر.
18837 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ، قال : أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي.
18838 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه إلا أنه قال : أن سينبئهم .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن يوسف سينبئهم بصنيعهم به ، وهم لا يشعرون أنه يوسف .
*ذكر من قال ذلك :
18839 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : (وهم لا يشعرون) يقول : وهم لا يشعرون أنه يوسف.
18840 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي ، عن أبيه ، قال : سمعت ابن عباس يقول : لما دخل إخوة

(15/576)


وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)

يوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال : جيء بالصُّوَاع ، فوضعه على يده ، ثم نقره فطنَّ ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسف ، يدنيه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب! قال : ثم نقره فطنَّ فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدَمٍ كذب! قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم! قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم : (لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون). (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وجاء إخوة يوسف أباهم ، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ عشاء يبكون.
* * *
وقيل : إن معنى قوله : (نستبق) ننتضل من " السباق " (2) كما : -
18841 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 18840 - " صدقة بن عبادة بن نشيط الأسدي " ، روى عن أبيه عن ابن عباس . روى عنه أبو داود الطيالسي ، وموسى بن إسماعيل ، وغيرهما ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 298 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 433 . /8 وأبوه " عبادة بن نشيط الأسدي " ، روى عن ابن عباس ، روى عنه ابنه صدقة ، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 96 . ولم يذكروا فيه ولا في ابنه جرحًا . ومع ذلك فالخبر عندي غير مستقيم . وكفاه اختلالا أنه مخالف لصريح القرآن ، ولو وافقه لكان أولى به أن يكون قال لهم ذلك ، لما دخلوا عليه فقال لهم : " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون " ، في آخر السورة .
(2) انظر تفسير " الاستباق " فيما سلف 3 : 196 / 10 : 391 .

(15/577)


أسباط ، عن السدي ، قال : أقبلوا على أبيهم عشاء يبكون ، فلما سمع أصواتهم فزع وقال : ما لكم يا بنيّ ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا ! قال : فما فعل يوسف ؟ قالوا : ( يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب) ! فبكى الشيخ وصاح بأعلى صوته ، وقال : أين القميص ؟ فجاءوه بالقميص عليه دمٌ كذب ، فأخذ القميص فطرحه على وجهه ، ثم بكى حتى تخضَّب وجهه من دم القميص.
* * *
وقوله : (وما أنت بمؤمن لنا) ، يقولون : وما أنت بمصدّقنا على قِيلنا : إن يوسف أكله الذئب ، ولو كنا صادقين! كما : -
18842 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وما أنت بمؤمن لنا) قال : بمصدق لنا!
....................................................................................
...................................................................................
...................................................................................
* * *
[ فإن قال قائل : ( ولو كنا صادقين ) وقوله ] : (1) (ولو كنا صادقين) ، إما خبرٌ عنهم أنهم غير صادقين ، فذلك تكذيب منهم أنفسَهم أو خبرٌ منهم عن أبيهم أنه لا يصدِّقهم لو صدَقوه ، فقد علمت أنهم لو صَدَقوا أباهم الخبرَ صَدَّقهم ؟
قيل : ليس معنى ذلك بواحد منهما ، وإنما معنى ذلك : وما أنت بمصدِّق لنا ولو كنا من أهل الصدق الذين لا يُتَّهمون ، لسوء ظنك بنا ، وتُهمَتك لنا.
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام ، وظني أنه سقط من كلام الطبري شيء ، فلذلك وضعت قبله أسطرًا من النقط ، لأني أرى أنه لم يتم تفسير الآية على عادته في كل ما سلف .

(15/578)


وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) ، وسماه الله " كذبًا " لأن الذين جاؤوا بالقميص وهو فيه ، كذَبوا ، فقالوا ليعقوب : " هو دم يوسف " ، ولم يكن دمه ، وإنما كان دم سَخْلةٍ ، (1) فيما قيل .
*ذكر من قال ذلك :
18843 - حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) قال : دم سخلة. (2)
18844 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) قال : دم سخلة ، شاة.
18845 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (بدم كذب) قال : دم سخلة يعني : شاة .
18846 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (بدم كذب) قال : دم سخلةٍ ، شاة.
__________
(1) " السخلة " . ولد الشاة من المعز والضأن ، ذكرًا كان أو أنثى .
(2) الأثر : 18843 - " أحمد بن عبد الصمد بن علي بن عيسى الأنصاري الزرقي " ، " أبو أيوب " ، شيخ الطبري ، مشهور لا بأس به . مترجم في تاريخ بغداد 4 : 270 ، ولسان الميزان 1 : 214 ، وروى عنه الطبري في تاريخه 5 : 22 ، في موضع واحد . وانظر ما سيأتي رقم : 18855 .

(15/579)


18847 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (بدم كذب) قال : كان ذلك الدم كذبًا ، لم يكن دمَ يوسف.
18848 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (بدم كذب) قال : دم سخلة ، شاة.
18849 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : (بدم كذب) قال : بدم سخلة.
18850 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : ذبحوا جديًا من الغنم ، ثم لطَّخوا القميص بدمه ، ثم أقبلوا إلى أبيهم ، فقال يعقوب : إن كان هذا الذئبُ لرحيما! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه ؟ يا بني ، يا يوسف ما فعل بك بنو الإماء!
18851 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) قال : لو أكله السبع لخرق القميص.
18852 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال ، حدثنا أبو خالد ، قال ، حدثنا سفيان بإسناده عن ابن عباس ، مثله إلا أنه قال : لو أكله الذئب لخرَّق القميص.
18853 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) ، قال : لو كان الذئب أكله لخرَّقه.
18854 - حدثني عبيد الله بن أبي زياد قال ، حدثنا عثمان بن عمرو قال ، حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال : جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فجعل

(15/580)


ينظر إليه فيرى أثر الدم ، ولا يرى فيه خَرْقًا ، قال : يا بني ما كنت أعهدُ الذئب حليمًا ؟
18855 - حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري ، قال ، حدثنا أبو عامر العقدي ، عن قرة ، قال : سمعت الحسن يقول : لما جاؤوا بقميص يوسف ، فلم ير يعقوب شقًّا ، قال : يا بني ، والله ما عهدت الذئب حليمًا ؟ (1)
18856 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عمران بن مسلم ، عن الحسن ، قال : لما جاء إخوة يوسف بقميصه إلى أبيهم ، قال : جعل يقلبه فيقول : ما عهدت الذئب حليمًا ؟ أكل ابني ، وأبقى على قميصه !
18857 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) قال : لما أتوا نبيَّ الله يعقوب بقميصه ، قال : ما أرى أثرَ سبع ولا طعْنٍ ، ولا خرْق.
18858 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (بدم كذب) الدم الكذب ، لم يكن دم يوسف.
18859 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبي قال : ذبحوا جديًا ولطخوه من دمه. فلما نظر يعقوب إلى القميص صحيحًا ، عرف أن القوم كذبوه. فقال لهم : إن كان هذا الذئب لحليمًا ، حيث رَحم القميص ولم يرحم ابني ! فعرف أنهم قد كذبوه.
18860 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن سيفان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) قال : لما أتي يعقوب بقميص يوسف ، فلم ير فيه خرقًا ، قال : كذبتم ، لو أكله السبع لخرق قميصه !
__________
(1) الأثر 18855 - " أحمد بن عبد الصمد الأنصاري " ، انظر ما سلف رقم : 18843 .

(15/581)


18861 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق الأزرق ، ويعلى ، عن زكريا ، عن سماك ، عن عامر قال : كان في قميص يوسف ثلاث آيات : حين جاؤوا على قميصه بدم كذب . قال : وقال يعقوب : لو أكله الذئب لخرقَ قميصه.
18862 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد قال ، حدثنا زكريا ، عن سماك ، عن عامر قال : إنه كان يقول : في قميص يوسف ثلاث آيات : حين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرًا ، وحين قُدَّ منْ دُبُر ، وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب.
18863 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عامر قال : كان في قميص يوسف ثلاث آيات : الشقُّ ، والدم ، وألقاه على وجه أبيه فارتدَّ بصيرًا.
18864 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال : لما جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فرأى الدم ولم ير الشق قال : ما عهدت الذئب حليمًا ؟
18865 - ..... قال ، حدثنا حماد بن مسعدة قال ، حدثنا قرة ، عن الحسن ، بمثله .
* * *
*
فإن قال قائل : كيف قيل : (بدم كذب) وقد علمت أنه كان دمًا لا شك فيه ، وإن لم يكن كان دم يوسف ؟
قيل : في ذلك من القول وجهان :
أحدهما : أن يكون قيل(بدم كذب) لأنه كُذِب فيه كما يقال " : الليلة الهلالُ " ، وكما قيل : (فما ربحت تجارتهم ) [ سورة البقرة 16 ]. وذلك قولٌ كان بعض نحويي البصرة يقوله.

(15/582)


والوجه الآخر : وهو أن يقال : هو مصدر بمعنى " مفعول " . وتأويله : وجاؤوا على قميصه بدم مكذوب كما يقال : " ما له عقل ولا معقول " ، و " لا له جَلَد ولا له مجْلود " . والعرب تفعل ذلك كثيرًا ، تضع " مفعولا " في موضع المصدر ، والمصدر في موضع مفعول ، كما قال الراعي :
حَتَّى إذَا لم يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ... لَحْمًا وَلا لِفؤادِهِ مَعْقول (1)
وذلك كان يقوله بعض نحويي الكوفة . (2)
* * *
وقوله : (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا) يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لبنيه الذين أخبروه أن الذئب أكل يوسف مكذبا لهم في خبرهم ذلك : ما الأمر كما تقولون ، ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا) يقول : بل زيَّنت لكم أنفسكم أمرًا في يوسف وحسنته ، ففعلتموه كما : -
18866 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) جمهرة أشعار العرب : 175 ، وغيرها ، من ملحمته المشهورة ، قالها لعبد الملك بن مروان ، وكان بعض عماله على الصدقات ، قد أوقع ببني نمير قوم الراعي ، لأن قيسًا كانت زبيرية الهوى ، فقال : أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّا مَعْشَرٌ ... حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وأصِيلاَ
عَرَبٌ ، نَرَى لِلهِ في أمْوالِنا ... حَقَّ الزَّكاةِ مُنَزَّلاً تنزيلاَ
إنَّ السُّعاةَ عَصَوْكَ يَوْمَ أمْرَتَهُمْ ... وأتَوْا دَواهِيَ ، لو عَلِمْتَ ، وغُولا
ثم يقول له : أخَذُوا العَرِيفَ فَقَطَّعُوا حَيْزُومَهُ ... بِالأصْبَحِيَّةِ قائمًا مَغْلُولاً
حَتَّى إذَا لَمْ يَتْرُكُوا ........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جَاءوا بِصَكِّهِمُ ، وَأَحْدَبَ أَسْأَرَتْ ... مِنْهُ السِّياطُ يَرَاعَةً إجْفِيلا
وهي من جيد الشعر .
(2) هو الفراء في معاني القرآن ، في تفسير هذه الآية .

(15/583)


قال(بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا) ، قال : يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمرًا.
* * *
وقوله : (فصبر جميل) يقول : فصبري على ما فعلتم بي في أمر يوسف صبرٌ جميل أو فهو صبر جميل.
* * *
وقوله(والله المستعان على ما تصفون) يقول : واللهَ أستعين على كفايتي شرّ ما تصفون من الكذب (1) .
* * *
وقيل " : إن الصبر الجميل " ، هو الصبر الذي لا جزع فيه.
*ذكر من قال ذلك :
18867 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فصبر جميل) قال : ليس فيه جزع.
18868 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18869 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18870 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : (فصبر جميل) في غير جزع.
18871 - .... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18872 - ..... قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، قال : سئل رسول الله صلى الله
__________
(1) انظر تفسير " الوصف " فيما سلف 12 : 10 ، 11 ، 152 .

(15/584)


عليه وسلم عن قوله : (فصبر جميل) قال : صبر لا شكوى فيه. قال : من بثّ فلم يصبر. (1)
18873 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله : (فصبر جميل) قال : صبر لا شكوى فيه. (2)
18874 - ... قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (فصبر جميل) : ليس فيه جزع.
18875 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18876 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله : (فصبر جميل) : قال : في غير جزع.
18877 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18878 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بعض أصحابه قال : يقال : ثلاث من الصبر : أن لا تحدِّث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكّي نفسك
قال أخبرنا الثوري ، عن حبيب
__________
(1) الأثر : 18872 - " حبان بن أبي جبلة المصري " ، أحد العشرة الذين بعثهم عمر ، ليفقهوا أهل مصر ، مضى برقم : 2195 ، 10180 . أما " عبد الرحمن بن يحيى " ، فلم أعرف من يكون ، وقد سلف في مثل هذا الإسناد برقم : 10180 ، وظن أخي هناك أنه قد يكون " عبد الرحمن بن زياد بن أنعم " ، ولكن قد اتفق أن يكون في الموضعين ، يكون في الموضعين ، على تباعدهما " عبد الرحمن بن يحيى " ، فهذا مبعد له عن التصحيف والتحريف ، إلا أن يكون هذا أحد الرواة عن حبان ، لم نعرفه . وعسى أن يأتي في التفسير بعد ما يوضحه . ثم انظر أيضًا الإسناد الذي يليه .
(2) الأثر : 18873 - " عبد الرحمن بن يحيى " ، انظر التعليق السابق .

(15/585)


بن أبي ثابت : أن يعقوب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد سقط حاجبَاه ، فكان يرفعهما بخرقةٍ ، فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان ، وكثرة الأحزان! فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : يا يعقوب ، أتشكوني ؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي.
* * *
وقوله : (والله المستعان على ما تصفون) . (1)
18879 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (والله المستعان على ما تصفون ، ) أي على ما تكذبون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الوصف " فيما سلف ص : 584 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .

(15/586)


وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين (1) (فأرسلوا واردهم) وهو الذي يرد المنهل والمنزل ، و " وروده إياه " ، مصيره إليه ودخوله (2) .(فأدلى دلوه) يقول : أرسل دلوه في البئر.
* * *
يقال : " أدليت الدلو في البئر " إذا أرسلتها فيه ، فإذا استقيت فيها قلت : " دلوْتُ أدْلُو دلوًا " .
* * *
وفي الكلام محذوف ، استغنى بدلالة ما ذكر عليه ، فترك ، وذلك : (فأدلى دلوه) فتعلق به يُوسف ، فخرج ، فقال المدلي : (يا بشرى هذا غلام) .
* * *
وبالذي قلنا في ذلك ، جاءت الأخبار عن أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
18880 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) فتعلق يوسف بالحبل ،
__________
(1) انظر تفسير " السيارة " فيما سلف 15 : 567 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الورود " فيما سلف 15 : 466 .

(15/1)


فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه يقال له " بُشرى " : (يا بشرى هذا غلامٌ).
18881 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : (يا بشرى هذا غلام) .
* * *
18882 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فأرسلوا واردهم) يقول : أرسلوا رسولهم ، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام((قال يا بشرى هذا غلام).
* * *
واختلفوا في معنى قوله : : (يا بشرى هذا غلام).
فقال بعضهم : ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه ، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا (1) .
* ذكر من قال ذلك :
18883 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (قال يا بشرى هذا غلام) تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها
18884 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يا بشرى هذا غلام) قال : بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف من فهارس اللغة ( بشر ) .

(15/2)


18885 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (يا بشرى هذا غلام) قال : نادى رجلا من أصحابه يقال له " بشرى " ، فقال : (يا بشرى هذا غلام).
18886 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا خلف بن هشام ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس بن الربيع ، عن السدي ، في قوله : (يا بشرى هذا غلام) قال : كان اسم صاحبه " بشرى " .
18887 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، في قوله : (يا بشرى هذا غلام) قال : اسم الغلام " بشرى " ; قال : " يا بشرى " ، كما تقول " : يا زيد " .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك :
فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة : " يا بُشْرَيَّ " بإثبات ياء الإضافة ، غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم ، في قولهم " : غلامي " و " جاريتي " ، في كل حال ، وذلك من لغة طيئ ، (1) كما قال أبو ذؤيب :
سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ... فَتُخِرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ (2)
* * *
__________
(1) ولغة هذيل أيضًا ، كما قال الأصمعي .
(2) ديوانه ( في ديوان الهذليين ) 1 : 2 ، وشرح المفضليات : 854 ، وغيرهما ، وهي إحدى عجائب أبي ذؤيب ، يقولها في بنيه الذين ماتوا ، سبقه بهم الطاعون في عام واحد ، وكانوا خمسة : أَوْدَى بَنِيَّ ، وأعْقَبُونِي غُصَّةً ... بَعْدَ الرُّقادِ ، وعَبْرةً لا تُقْلِعُ
سَبَقوا هوَيَّ .............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بعَيْشٍ ناصِبٍ ... وَإخالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ
يقول : سبقوني بما اختاروه من الموت والذهاب ، وساروا سيرًا حثيثًا إلى الذي اختاروه ، فتخرمتهم المنية ، فأخذتهم واحدًا بعد واحد . ولكل جنب مصرع لا يخطئه ، فحيث قدر الله له الميتة أدركته .

(15/3)


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : (يا بُشْرَى) بإرسال الياء وترك الإضافة .
وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل :
أحدهما ما قاله السدي ، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه ، كما يقال : " يا زيد " ، و " يا عمرو " ، فيكون " بشرى " في موضع رفع بالنداء.
والآخر : أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه ، فحذف الياء وهو يريدها ، فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة ، كما تفعل العرب في النداء فتقول : " يا نفس اصبري " ، و " يا نفسي اصبري " ، و " يا بُنَيُّ لا تفعل " ، و " يا بُنَيِّ لا تفعل " ، فتفرد وترفع ، وفيه نية الإضافة. وتضيف أحيانًا فتكسر ، كما تقول : " يا غلامِ أقبل " ، و " يا غلامي أقبل " .
* * *
قال أبو جعفر : وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ; لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم كما قال السدي ، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها (1) . وإن كان من التبشير فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت.
وأما التشديد والإضافة في الياء ، فقراءة شاذة ، لا أرى القراءة بها ، وإن كانت لغة معروفة ; لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
* * *
وأما قوله : (وأسروه بضاعة) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم ، وقالوا لهم " : هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر " ; لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فذلك هي ..... " ، والأجود ما أثبت .

(15/4)


18888 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأسرو بضاعة) قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : " إنما استبضعناه " ، خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه. وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه لا يأبَقْ ! حتى وَقَفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني ويُبَشَّر ؟ فاشتراه الملك ، والملك مُسلم.
18889 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه غير أنه قال : خيفة أن يستشركوهم إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر (1) وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
18890 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18891 - .... قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه غير أنه قال : خيفة أن يشاركوهم فيه ، إن علموا بثمنه .
18892 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال : خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضًا : حتى أوقفوه بمصر.
18893 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (وأسروه بضاعة) قال : لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا : " اشتريناه " فيسألونهم الشركة ، فقالا إن سألونا ما هذا ؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء . فذلك قوله : (وأسروه بضاعة) بينهم
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " حتى أوقفوه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وانظر هذه الرواية في رقم : 18892 .

(15/5)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأسرّه التجار بعضهم من بعض .
* ذكر من قال ذلك :
18894 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : (وأسروه بضاعة) قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض.
18895 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : (وأسروه بضاعة) قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أسرُّوا بيعَه .
* ذكر من قال ذلك :
18896 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : (وأسروه بضاعة) قال : أسروا بيعه.
18897 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن مجاهد : (وأسروه بضاعة) قال : قالوا لأهل الماء : إنما هو بضاعة .
* * *
وقال آخرون : إنما عني بقوله : (وأسروه بضاعة) إخوة يوسف ، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم ، قالوا : هو عبدٌ لنا .
* ذكر من قال ذلك :
18898 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وأسروه بضاعة) يعني : إخوة يوسف أسرُّوا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم ، فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه قال : يا بشرى! هذا غلامٌ يباع . فباعه إخوته.

(15/6)


قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب : قولُ من قال : " وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه ، من رفقته السيارة ، أمرَ يوسف أنهم أشتروه ، خيفةً منهم أن يستشركوهم ، وقالوا لهم : هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء وذلك أنه عقيب الخبر عنه ، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه ، أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل (1) .
* * *
وقوله : (والله عليم بما يعملون) يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه ، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه. (2)
* * *
وهذا ، وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه ، يقول : فاصبر ، يا محمد ، على ما نالك في الله ، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا ، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته ، فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم ، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم ، وإذعانهم لك ، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم ، وعلوِّ يوسف عليهم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف 15 : 103 ، 239 .
(2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .
(3) عند هذا الموضع انتهى الجزء الثاني عشر من مخطوطتنا ، وفي آخرها ما نصه : " نجز الجزء الثاني عشر ، بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم يتلوه في أول الجزء الثالث عشر إن شاء الله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } وكان الفراغ منه في شهر رمضان المعظم سنة خمس عشرة وسبعمئة " .
يتلوه الجزء الثالث عشر ، وأوله ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر "

(15/7)


وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (وشروه) به : وباع إخوة يوسف يوسف.
* * *
فأما إذا أراد الخبر عن أنه ابتاعه ، قال : " اشتريته " ، (1) ومنه قول ابن مفرّغ الحميري :
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي... مِنْ قَبْلِ بُرْدٍ كنْتُ هَامَهْ (2)
يقول : " بعت بردًا " ، وهو عبدٌ كان له.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
18899 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الشراء " فيما سلف 14 : 150 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 2 : 341 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(15/8)


مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، أنه كره الشراء والبيع للبدويّ. قال : والعرب تقول : " اشر لي كذا وكذا " ، أي : بع لي كذا وكذا وتلا هذه الآية(وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) يقول : باعوه ، وكان بيعه حرامًا.
18900 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إخوة يوسف أحد عشر رجلا باعوه حين أخرجَه المدلي بدلوه.
18901 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .
18902 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد
18903 - وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18904 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
18905 - .... قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج(وشروه) قال : قال ابن عباس : فبيع بينهم.
18906 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (وشروه بثمن بخس) قال : باعوه.
18907 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
18908 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فباعه إخوته بثمن بخس.
* * *

(15/9)


وقال آخرون : بل عني بقوله : (وشروه بثمن بخس) السيارةَ أنهم باعوا يوسف بثمن بخس .
* ذكر من قال ذلك :
18909 - حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وشروه بثمن بخس) وهم السيارة الذين باعوه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : تأويل ذلك : وشَرى إخوةُ يوسف يوسف بثمن بخس (1) وذلك أن الله عز وجل قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرُّوا شراء يوسف من أصحابهم ، خيفة أن يستشركوهم ، بادّعائهم أنَّه بضاعة. ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلُص لهم دونهم ، واسترخاصًا لثمنه الذي ابتاعوه به ، لأنهم ابتاعوه كما قال جل ثناؤه(بثمن بخس) . ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين ، لم يكن لقيلهم لرفقائهم : " هو بضاعة " ، معنى ولا كان لشرائهم إياه ، وهم فيه من الزاهدين وجهٌ ، إلا أن يكونوا كانوا مغلوبًا على عقولهم ; لأنه محال أن يشتري صحيح العقل ما هو فيه زاهدٌ من غير إكراهِ مكرِهٍ له عليه ، ثم يكذب في أمرِه الناس بأن يقول : " هو بضاعة لم أشتره " ، مع زهده فيه. بل هذا القولُ من قول من هو بسلعته ضنينٌ لنفاستها عنده ، ولما يرجُو من نفيس الثَّمن لها وفضلِ الربح.
* * *
وأما قوله : (بخس) فإنه يعني : نَقْص.
* * *
وهو مصدر من قول القائل : " بخست فلانًا حقه " : إذا ظلمته ، يعني : ظلمه فنقصه عما يجبُ له من الوفاء : " أبخَسُه بَخْسًا " ، ومنه قوله :
__________
(1) في المطبوعة : " وشروا أخوة يوسف . يوسف " ، وهو فاسد ، صوابه من المخطوطة .

(15/10)


( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) [ سورة هود : 85 ] ، وإنما أريد : بثمن مبخوس منقوصٍ ، فوضع " البخس " وهو مصدر مكان " مفعول " ، كما قيل : : (بدم كذب) وإنما هو " بدم مكذوب فيه " (1) .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : قيل(بثمن بخس) لأنه كان حرامًا عليهم .
* ذكر من قال ذلك :
18910 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر عن الضحاك : (وشروه بثمن بخس) قال : " البخس " : الحرام.
__________
(1) انظر تفسير " البخس " فيما سلف 15 : 262 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(15/11)


18911 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن جويبر ، عن الضحاك : : (وشروه بثمن بخس) ، قال : حرام. (1)
18912 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان ثمنه بخسًا ، حرامًا ، لم يحلّ لهم أن يأكلوه .
18913 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (وشروه بثمن بخس) قال : باعوه بثمن بخس ، قال : كان بيعه حرامًا وشراؤه حرامًا.
18914 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : (بثمن بخس) قال : حرام .
18915 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (بثمن بخس) يقول : لم يحلّ لهم أن يأكلوا ثمنَه.
* * *
وقال آخرون : معنى البخس هنا : الظلم .
* ذكر من قال ذلك :
18916 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وشروه بثمن بخس) قال " : البخس " : هو الظلم . وكان بيع يوسف وثمنه حرامًا عليهم
18917 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال قتادة : (وشروه بثمن بخس) قال : ظلم.
* * *
وقال آخرون : عني بالبخس في هذا الموضع : القليل (2) .
* ذكر من قال ذلك :
18918 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن جابر ، عن عكرمة ، قال : " البخس " : القليل.
18919 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن عكرمة ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا الصحيح من القول في ذلك.
* * *
وأما قوله(دراهم معدودة) ، (3) فإنه يعني عز وجل أنهم باعوه بدراهم غير
__________
(1) الأثر : 18911 - في المطبوعة ، أسقط سطرًا كاملًا من المخطوطة ، فساق الخبرين رقم : 18911 ، 18912 ، سياقًا واحدًا هكذا : " ..... على بن عاصم ، عن الحسين بن الفرج " ، ورددته إلى أصله من المخطوطة .
(2) في المخطوطة أسقط " القليل " ، والصواب إثباتها كما فعل ناشر المطبوعة .
(3) انظر تفسير " معدودة " فيما سلف من فهارس اللغة ( عدد ) .

(15/12)


موزونة ، ناقصة غير وافية ، لزهدهم كان فيه.
* * *
وقيل : إنما قيل " معدودة " ليعلم بذلك أنها كانت أقلّ من الأربعين ، لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقلّ من أربعين درهمًا ، لأن أقل أوزانهم وأصغرها كان الأوقية ، وكان وزن الأوقية أربعين درهمًا . قالوا : إنما دلَّ بقوله : (معدودة) على قلة الدراهم التي باعُوه بها.
* * *
فقال بعضهم : كان عشرين درهمًا .
* ذكر من قال ذلك :
18920 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : إن ما اشتري به يوسف عشرون درهمًا.
18921 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله : (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) قال : عشرون درهمًا.
18922 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف البكالي ، في قوله : (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) قال : عشرون درهمًا.
18923 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشاميّ : " بخس دراهم " قال : كانت عشرين درهمًا . (1)
__________
(1) الأثر : 18923 - " نوف الشامي " ، هو نفسه " نوف بن فضالة البكالي " ، وقد سلف مرارًا . وقد غيره في المطبوعة ، وكتب " نوف البكالي " .

(15/13)


18924 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن نوف ، مثله .
18925 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : (بثمن بخس دراهم معدودة) قال : عشرون درهمًا .
18926 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (دراهم معدودة) قال : كانت عشرين درهمًا.
18927 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أنه بيع بعشرين درهمًا (وكانوا فيه من الزاهدين).
18928 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
18929 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي إدريس ، عن عطية ، قال : كانت الدراهم عشرين درهمًا ، اقتسموها درهمين درهمين.
* * *
وقال آخرون : بل كان عددها اثنين وعشرين درهمًا ، أخذ كل واحد من إخوة يوسف ، وهم أحد عشر رجلا درهمين درهمين منها .
* ذكر من قال ذلك :
18930 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (دراهم معدودة) قال : اثنين وعشرين درهمًا.
18931 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (دراهم معدودة) قال :

(15/14)


اثنان وعشرون درهمًا لإخوة يوسف ، [وكان إخوة] أحد عشر رجلا . (1)
18932 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (دراهم معدودة)
18933 - .... قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
18934 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
* * *
وقال آخرون : بل كانت أربعين درهمًا .
* ذكر من قال ذلك :
18935 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن عكرمة : (دراهم معدودة) قال : أربعين درهمًا.
18936 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : باعوه ولم يبلغ ثمنه الذي باعوه به أوقية ، وذلك أن الناس كانوا يتبايعون في ذلك الزمان بالأواقي ، فما قصَّر عن الأوقية فهو عَدد ; يقول الله : (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) أي لم يبلغ الأوقية.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعُوه بدراهم معدودة غير موزونة ، ولم يحدَّ مبلغَ ذلك بوزن ولا عدد ، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد يحتمل أن يكون كان عشرين ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين وأن يكون كان أربعين ، وأقل من ذلك وأكثر ، وأيُّ ذلك كان ، فإنها كانت معدودة
__________
(1) هذه زيادة لا بد منها ، وسقطت من الناسخ ، لأنه كان أسقط صدر الخبر ، ثم كتبه في الهامش ، فلعله نسي بعضه .

(15/15)


غير موزونة ; وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين ، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه . والإيمان بظاهر التنزيل فرضٌ ، وما عَداه فموضوعٌ عنا تكلُّفُ علمه. (1)
* * *
وقوله : (وكانوا فيه من الزاهدين) يقول تعالى ذكره : وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين ، لا يعلمون كرامته على الله ، ولا يعرفون منزلته عنده ، فهم مع ذلك يحبّون أن يحولوا بينه وبين والده ، ليخلو لهم وجهه منه ، ويقطعوه عن القرب منه ، لتكون المنافع التي كانت مصروفة إلى يوسف دونهم ، مصروفةً إليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
18937 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وكانوا فيه من الزاهدين) قال : لم يعلموا بنبوّته ومنزلته من الله.
18938 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : (وجاءت سيارة) فنزلت على الجب ، (فأرسلوا واردهم) فاستقى من الماء فاستخرج يوسف ، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلامًا لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه ، فزهدوا فيه ، فباعوه. وكان بيعه حرامًا ، وباعوه بدراهم معدودة.
18939 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني هشيم ، قال :
__________
(1) هذا من موازين أبي جعفر ، التي فرق ذكرها في كتابه ، ولم يذكرها عند كل موضع .
وهي الحكم بينه وبين من يزعمونه ذهب في تفسيره مذهب الاعتقاد لكثير مما أورده ، مما لم تأت به بينة صحيحة من خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو حجة عقل يجب التسليم لها .

(15/16)


وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)

أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : (وكانوا فيه من الزاهدين) قال إخوته زهدوا ، فلم يعلموا منزلته من الله ونبوته ومكانه.
18940 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : إخوته زهدوا فيه ، لم يعلموا منزلته من الله .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وقال الذي اشترى يوسف من بائعه بمصر .
* * *
وذكر أن اسمه : " قطفير " .
18941 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان اسم الذي اشتراه قطفير. (1)
* * *
وقيل : إن اسمه إطفير بن روحيب ، وهو العزيز ، وكان على خزائن مصر ، وكان الملك يومئذ الريَّان بن الوليد ، رجل من العماليق ، كذلك : -
18942 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق (2) .
* * *
__________
(1) الأثر : 18941 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 172 ، وكان في المخطوطة في الموضعين : " قطيفين " ، وفي التاريخ قبل الخبر " قطين " ، وفي الخبر " قطفير " .
(2) الأثر : 18942 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 172 .

(15/17)


وقيل : إن الذي باعه بمصر كان مالك بن ذعر بن بُويب بن عفقان بن مديان بن إبراهيم ، (1) كذلك : -
18943 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
* * *
(وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته) ، واسمها فيما ذكر ابن إسحاق : راعيل بنت رعائيل.
18944 - حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق.
* * *
(أكرمي مثواه) ، يقول : أكرمي موضع مقامه ، وذلك حيث يَثوِي ويُقيم فيه.
* * *
يقال : " ثوى فلان بمكان كذا " : إذا أقام فيه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
18945 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (أكرمي مثواه) منزلته ، وهي امرأة العزيز .
18946 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) ، قال : منزلته.
__________
(1) في التاريخ 1 : 172 : " دعر " بالدال مهملة ، وكان في المطبوعة هنا " عنقاء " وفي المخطوطة : " عفقا " بغير نون في آخره . وكان في المطبوعة : " ثويب " ، وهي غير منقوطة في المخطوطة ، فتبعت ما في التاريخ .
(2) انظر تفسير " المثوى " فيما سلف 7 : 279 \ 12 : 117 .

(15/18)


18947 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد اشتراه الملك ، والملك مسلم.
* * *
وقوله : (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا) ذكر أن مشتري يوسف قال هذا القول لامرأته ، حين دفعه إليها ، لأنه لم يكن له ولد ، ولم يأت النساء ، فقال لها : أكرميه عسَى أن يكفينا بعض ما نعاني من أمورنا إذا فهم الأمور التي يُكلَّفها وعرفها (أو نتخذه ولدًا) ، يقول : أو نتبنَّاه .
18948 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان إطفير فيما ذكر لي رجلا لا يأتي النساء ، وكانت امرأته راعيل امرأةً حسناء ناعمةً طاعمة ، في مُلك ودُنْيا. (1)
18949 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال لامرأته : (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا) وأبو بكر حين تفرَّس في عمر والتي قالت : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) [سورة القصص : 26] .
18950 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : انطُلِق بيوسف إلى مصر ، فاشتراه العزيز ملك مصر ، فانطلق به إلى بيته فقال لامرأته : (أكرمي مثْواه عسى أن ينفعنا أو نتخذهُ ولدًا).
18951 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته : (أكرمي مثواه) ، والقوم فيه زاهدون وأبو بكر حين تفرَّس في عمر فاستخلفه والمرأة التي قالت : (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْه).
* * *
__________
(1) الأثر : 18948 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 172 ، 173 .

(15/19)


وقوله : (وكذلك مكنَّا ليوسف في الأرض) يقول عز وجل : وكما أنقذنا يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله ، وأخرجناه من الجبّ بعدَ أن ألقي فيه ، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر ، كذلك مكنّا له في الأرض ، فجعلناه على خزائنها . (1)
* * *
وقوله : (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) يقول تعالى ذكره : وكي نعلم يوسف من عبارة الرؤيا ، (2) مكنا له في الأرض ، كما : -
18952 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (من تأويل الأحاديث) قال : عبارة الرؤيا.
18953 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18954 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) قال : تعبير الرؤيا.
18955 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) قال : عبارة الرؤيا.
* * *
وقوله : (والله غالب على أمره) يقول تعالى ذكره : والله مستولٍ على أمر يوسف ، يسوسه ويدبّره ويحوطه.
* * *
و " الهاء " في قوله : (على أمره) عائدة على يوسف.
* * *
وروي عن سعيد بن جبير في معنى " غالب " ، ما : -
__________
(1) انظر تفسير " التمكين " فيما سلف 11 : 63 \ 12 : 315 .
(2) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف 15 : 560 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(15/20)


وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

18956 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن حبير : (والله غالب على أمره) قال : فعالٍ. (1)
* * *
وقوله(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يقول : ولكن أكثر الناس الذين زهدوا في يوسف ، فباعوه بثمن خسيس ، والذين صَار بين أظهرهم من أهل مصر حين بيع فيهم ، لا يعلمون ما الله بيوسف صانع ، وإليه يوسف من أمره صائرٌ .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لما بلغ يوسف أشده ، يقول : ولما بلغ منتهى شدته وقوته في شبابه وحَدِّه ، وذلك فيما بين ثماني عشرة إلى ستين سنة ، وقيل إلى أربعين سنة. (2)
* * *
يقال منه : " مضت أشُدُّ الرجل " : أي شدته ، وهو جمع مثل " الأضُرّ " و " الأشُرّ " ، (3) لم يسمع له بواحد من لفظه. ويجب في القياس أن يكون واحده " شدَّ " ، كما واحد " الأضر " " ضر " ، وواحد " الأشُر " " شر " ، كما قال الشاعر
__________
(1) ممكن أن تقرأ " فعال " مشددة العين من " الفعل " ، ولكني أستجيد أن تقرأها " فعال " الفاء حرف عطف بعده " عال " من " العلو " . أما الأولى ، فإني لا أكاد أرتضيها .
(2) انظر تفسير " الأشد " فيما سلف 12 : 222 .
(3) هكذا جاءني المخطوطة والمطبوعة ، إلا أنه كان في المخطوطة " الأسر " ، و " سر " ، وقد مضى هذان اللفظان أيضا فيما سلف 12 : 222 ، وظننت هناك أنهما محرفتان ، ولكن عجيب أن يظل التحريف هو . هو على بعد المكانين وأخشى أن يكون صواب " الأضر " هو " الأضب " جمع " ضب " ومهما يكن من شيء ، فهذا مما لم أتبينه ولا عرفته ، وفوق كل ذي علم عليم .

(15/21)


: (1)
هَلْ غَيْرُ أَنْ كَثُرَ الأشُرُّ وَأَهْلَكَتْ... حَرْبُ المُلُوكِ أَكَاثِرَ الأَمْوَالِ (2)
وقال حُميد :
وَقَدْ أَتَى لَوْ تُعْتِبُ الْعَوَاذِلُ... بَعْدَ الأشُدّ أَرْبَعٌ كَوَامِلِ (3)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله به في هذا الموضع من " مبلغ الأشد " .
فقال بعضهم : عني به ثلاث وثلاثون سنة .
* ذكر من قال ذلك :
18957 - حدثنا ابن وكيع والحسن بن محمد ، قالا حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولما بلغ أشده) ، قال : ثلاثًا وثلاثين سنة.
18958 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
18959 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
18960 - حدثت عن علي بن الهيثم ، عن بشر بن المفضل ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، قال : سمعت ابن عباس يقول في قوله : (ولما بلغ أشده) قال : بضعًا وثلاثين سنة.
* * *
وقال آخرون : بل عني به عشرون سنة .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) في المطبوعة : " كثر الأشد " ، وفي المخطوطة بالراء ، ولم أجد البيت في غير هذا المكان .
(3) لم أجده في غير هذا المكان . ولا أدري أهي في الرجز " الأشد " أو " الأشر " .

(15/22)


18961 - حدثت عن علي بن المسيب ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : (ولما بلغ أشده) قال : عشرين سنة.
* * *
وروي عن ابن عباس من وجه غير مرضيّ أنه قال : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين . وقد بينت معنى " الأشُدّ " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشدهُ حكمًا وعلمًا و " الأشُدّ " : هو انتهاء قوته وشبابه وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ولا دلالة له في كتاب الله ، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في إجماع الأمة ، على أيّ ذلك كان . وإذا لم يكن ذلك موجودًا من الوجه الذي ذكرت ، فالصوابُ أن يقال فيه كما قال عز وجل ، حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له ، فيسلم لها حينئذ .
* * *
وقوله : (آتيناه حكمًا وعلمًا) يقول تعالى ذكره : أعطيناه حينئذ الفهم والعلم ، (1) كما : -
18962 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (حكمًا وعلمًا) قال : العقل والعلم قبل النبوة.
* * *
وقوله : (وكذلك نجزي المحسنين) يقول تعالى ذكره : وكما جزيت يوسف فآتيته بطاعته إيّاي الحكمَ والعلمَ ، ومكنته في الأرض ، واستنقذته من أيدي إخوته
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف 6 : 538 ، وما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .

(15/23)


الذين أرادوا قتله ، كذلك نجزي من أحسن في عمله ، فأطاعني في أمري ، وانتهى عما نهيته عنه من معاصيّ . (1)
* * *
وهذا ، وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن ، فإن المرادَ به محمدٌ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم . يقول له عز وجل : كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي ، وقاسى من البلاء ما قاسى ، فمكنته في الأرض ، ووطَّأتُ له في البلاد ، فكذلك أفعل بك فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة ، وأمكن لك في الأرض ، وأوتيك الحكم والعلم ، لأنّ ذلك جزائي أهلَ الإحسان في أمري ونهيي.
* * *
18963 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (وكذلك نجزي المحسنين) يقول : المهتدين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجزاء " و " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة ( جزى ) ، ( حسن ) .

(15/24)


وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وراودت امرأة العزيز ، وهي التي كان يوسفُ في بيتها [ يوسفَ ] عن نفسه ، (1) أن يواقعها ، كما : -
18964 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ولما بلغ أشدَّه ، راودته التي هو في بيتها عن نفسه ، امرأة العزيز.
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، لا يستقيم الكلام إلا بها .

(16/24)


18965 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) قال : أحبته.
18966 - .... قال : وحدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : قالت : تعالَهْ.
* * *
وقوله : (وغلقت الأبواب) ، يقول : وغلقت المرأة أبواب البيوت عليها وعلى يوسف ، لما أرادت منه وراودته عليه ، بابًا بعد باب.
* * *
وقوله : (وقالت هيت لك) ، اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأته عامة قرأة الكوفة والبصرة : (هَيْتَ لَكْ) بفتح ، الهاء والتاء ، بمعنى : هلمَّ لك ، وادن وتقرَّب ، كما قال الشاعر لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه : (1)
أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ... أَخَا العِرَاقِ إذَا أَتَيْنَا... أَنَّ العِرَاقَ وَأَهْلَهُ... عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا (2)
يعني : تعال واقرب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوّله من قرأه كذلك :
18967 - حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا أبو الجواب ، قال : حدثنا عمار بن رزيق ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (هيت لك) قال : هلمَّ لك. (3)
__________
(1) لم أعرف الآن قائله .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 305 ، واللسان ( هيت ) ، ( عنق ) . وقوله : " عنق إليك " أي مائلون إليك ، كأنهم لووا أعناقهم إليك شوقًا أو ترقبًا .
(3) الأثر : 18967 - " محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي " ، شيخ الطبري سلف مرارًا .
" أبو الجواب " ، هو " الأحوص بن جواب الضبي " ، روى عن سفيان الثوري ، وسعير ابن الخمس ، وعمار بن رزيق ، وغيرهم . كان ثقة ، وربما وهم . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 59 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 328 .
" وعمار بن رزيق الضبي " ، " أبو الأحوص " ، ثقة مضى برقم : 10191 .

(16/25)


18968 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (هيت لك) قال : هلم لك.
18969 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : (هيت لك) تقول : هلمّ لك.
18970 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ بن حبيش ، أنه كان يقرأ هذا الحرف : (هيتَ لك) نصبًا ، أي : هلم لك.
18971 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس ، قوله : (هيت لك) قال : تقول : هلم لك.
18972 - حدثني أحمد بن سهيل الواسطي ، قال : حدثنا قرة بن عيسى ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ الجزري ، عن عكرمة ، مولى ابن عباس ، في قوله : (هيت لك) قال : هلم لك قال : هي بالحَوْرانية. (1)
18973 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وقالت هيت لك) قال الحسن : يقول : هلم لك.
18974 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن : (هيت لك) يقول بعضهم : هلم لك.
__________
(1) الأثر : 18972 - " أحمد بن سهيل الواسطي " شيخ الطبري . قال الحاكم : " في حديثه بعض المناكير " ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : حدثنا عنه حبيش بن عبد الله النهشلي بواسط . مترجم في ميزان الاعتدال 1 : 48 ، ولسان الميزان 1 : 185 .
وأما " قرة بن عيسى " فلم أجد من يسمى بهذا الاسم . ولكن الذي يروي عن " النضر بن عربي " هو : " بشر بن عبيس بن مرحوم العطار " ، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 1 / 1 / 362 .
وأما " النضر بن عربي الجزري الباهلي " ثقة لا بأس به ، مضى برقم : 1307 ، 5864 ، وكان في المطبوعة " النضر بن علي الجزري " ، غير ما في المخطوطة وأساء .

(16/26)


18975 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وقالت هيت لك) قال : هلم لك وهي بالقبطية.
18976 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن عمرو ، عن الحسن : (هيت لك) قال : كلمة بالسريانية ، أي : عليك.
18977 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : (هيت لك) قال : هلمَّ لك.
18978 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا خلف بن هشام ، قال : حدثنا محبوب ، عن قتادة ، عن الحسن : (هيت لك) قال : هلم لك.
18979 - ... قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زرّ : (هيت لك) ، أي : هلم.
18980 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوري ، قال : بلغني في قوله : (هيت لك) قال : هلم لك.
18981 - حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأ : (هيت لك) وقال : تدعوه إلى نفسها .
18982 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : (هيت لك) قال : لغة عربية ، تدعُوه بها .
18983 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلا أنه قال : لغة بالعربية ، تدعوه بها إلى نفسها .
18984 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء .

(16/27)


18985 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
18986 - حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : (هيت لك) بفتح الهاء والتاء ، وقال : تقول : هلم لك.
18987 - حدثني الحارث قال : قال أبو عبيد : كان الكسائي يحكيها يعني : (هيت لك) قال : وقال : وهي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز ، معناها : " تعال " . قال : وقال أبو عبيدة : سألت شيخًا عالمًا من أهل حوران ، فذكر أنها لغتُهم ، يعرفها.
18988 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (هيت لك) قال : تعال.
18989 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وقالت هيت لك) قال : هلمَّ لك ، إليَّ.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين : " وَقَالَتْ هِئْتُ لَكَ " بكسر الهاء ، وضم التاء ، والهمزة ، بمعنى : تهيَّأت لك ، من قول القائل : " هئت للأمر أهِيء هَيْئَةً " .
وممن روي ذلك عنه ابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وجماعة غيرهما .
18990 - حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحجاج ، عن هارون ، عن أبان العطار ، عن قتادة : أن ابن عباس قرأها كذلك ، مكسور الهاء ، مضمومة التاء . قال أحمد : قال أبو عبيدة : لا أعلمها إلا مهموزة.
18991 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أبان العطار ، عن عاصم ، عن أبي عبد الرحمن السلمي : " هِئْتُ لَكَ " أي : تهيأت لك.

(16/28)


18992 - .... قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، مثله .
18993 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : تهيأت لك.
18994 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : " هِئْتُ لَكَ " قال عكرمة : تهيأت لك .
18995 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم بن بهدلة ، قال : كان أبو وائل يقول : " هِئْتُ لَكَ " : أي تهيأت لك. وكان أبو عمرو بن العلاء والكسائي ينكران هذه القراءة .
18996 - حدثت عن علي بن المغيرة ، قال : قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : شهدت أبا عمرو وسأله أبو أحمد أو أحمد وكان عالما بالقرآن (1) [وكان لألاء ، ثم كبر ، فقعد في بيته ، فكان يؤخذ عنه القرآن ، ويكون مع القضاة ، فسأله] عن قول من قال : " هِئْتُ لَكَ " بكسر الهاء ، وهمز الياء. فقال : أبو عمرو : [سى] (2) إي : باطل ، جعلها ، " فعلت " من " تهيأت " ، فهذا الخندق ، (3) فاستعرض العربَ حتى تنتهي إلى اليمن ، هل تعرف أحدًا يقول : " هئت لك " ؟ (4)
18997 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : لم يكن الكسائي يحكي
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين ، من كتاب أبي عبيدة ، مجاز القرآن 1 : 305 . وقوله " لألاء " ، هو بائع اللؤلؤ ، ويقال أيضًا : " لأء " و لأل " ( بتشديد الهمزة بعد هاء ألف ) على وزن " نجار " .
(2) هكذا رسم الكلمة في المخطوطة ، وف المطبوعة " ينسى " ، وفي مجاز القرآن " بنسى " ، ( بكسر النون ، وسكون الباء ، وكسر السين ، بعدها ياء ) ، وأنا في شك من ذلك كله ، وأخشى أن تكون " بسبس " ( بفتح فسكون ففتح ) و " البسبس " ، الباطل ، و " البسابس " مثله .
(3) " الخندق " ، هو خندق سابور ، حفره من مدينة " هيت " ، يشق طف البادية إلى كاظمة ، مما يلي البصرة ، وجعل عليه المسالح . وشرحه أبو عبيدة في المجاز شرحًا وافيًا ، فراجعه هناك .
(4) الأثر : 18996 - هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 305 - 306 .

(16/29)


" هئت لك " عن العرب.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : " هِيْتَ لَكَ " بكسر الهاء ، وتسكين الياء ، وفتح التاء.
* * *
وقرأه بعض المكيين : " هَيْتُ لَكَ " بفتح الهاء ، وتسكين الياء ، وضم التاء.
* * *
وقرأه بعض البصريين ، وهو عبد الله بن إسحاق : " هَيْتِ لَكَ " بفتح الهاء ، وكسر التاء.
* * *
وقد أنشد بعض الرواة بيتًا لطرفة بن العبد في " هيت " بفتح الهاء ، وضم التاء ، وذلك :
لَيْسَ قَومِي بِالأبْعَدِينَ إذَا مَا... قَالَ دَاعٍ مِنَ الْعَشِيرَةِ هَيْتُ (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءة في ذلك ، قراءة من قرأه : (هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء والتاء ، وتسكين الياء ، لأنها اللغة المعروفة في العرب دون غيرها ، وأنها فيما ذُكِر قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
18998 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال ابن مسعود : قد سمعت القرأة ، فسمعتهم متقاربين ، فاقرءوا كما عُلِّمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنما هو كقول أحدكم : " هلم " و " تعال " . ثم قرأ عبد الله : (هَيْتَ لَكَ) فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إن ناسًا يقرءونها : " هَيْتُ لَكَ " فقال عبد الله : إني أقرؤها كما عُلِّمْت ، أحبُّ إليَّ. (2)
__________
(1) لم أجد البيت في مكان آخر .
(2) الأثر : 18998 - هذا إسناد صحيح ، مر تفسير مثله مرارًا ، وسيأتي من طرق مختصرًا . وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8 : 274 ، 275 ، ) ، مختصرا. ورواه أبو داود أيضًا مختصرا في سننه 4 : 52 ، 53 برقم : 4004 ، 4005 . ورواه أبو جعفر فيما سلف من طرق أخرى ، مختصرًا ، ليس فيه " هيت لك " ، برقم : 48 ، في أول الكتاب . وفصل الحافظ ابن حجر في الفتح ، الكلام فيه بما لا مزيد عليه .

(16/30)


18999 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ هذه الآية : ( وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) قال : فقالوا له : ما كنا نقرؤها إلا " هَيْتُ لَكَ " ، فقال عبد الله : إنّي أقرؤها كما عُلِّمت ، أحبُّ إليّ. (1)
19000 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن منصور ، عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : (هَيْتَ لَكَ) فقال له مسروق : إن ناسًا يقرءونها : " هَيْتُ لَكَ " فقال : دعوني ، فإني أقرأ كما أقرئت أحبُّ إليّ. (2)
19001 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود قال : (هَيْتَ لَكَ) بنصب الهاء ، والتاء ، وبلا همز. (3)
* * *
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى : أنَّ العرب لا تثني " هيت " ولا تجمع ولا تؤنث ، (4) وأنها تصوره في كل حال ، ، وإنّما يتبين العدد بما بعد ، وكذلك التأنيث والتذكير. وقال : تقول للواحد : " هيت لك " ، وللإثنين : " هيت لكما " ، وللجمع : " هيت لكم " ، وللنساء : " هيت لكن " . (5)
* * *
وقوله : (قال معاذ الله) يقول جل ثناؤه : قال يوسف إذ دعته المرأة
__________
(1) الأثر : - 18999 - مكرر الأثر السالف ، مختصرًا .
(2) الأثر : - 19000 - مكرر الأثرين السالفين ، من طريق أخرى صحيحة ، مختصر .
(3) الأثر : 19001 - مختصر الآثار السالفة ، من طريق صحيحة .
(4) في المطبوعة : " هيت لك " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(5) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 305 .

(16/31)


إلى نفسها ، وقالت له : " هلم إلي " : أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه ، واستجير به منه. (1)
* * *
وقوله : (إنه ربي أحسن مثواي) يقول : إن صاحبك وزوجك سيدي ، (2) كما : -
19002 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (معاذ الله إنه ربي) قال : سيدي.
19003 - .... قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح : (إنه ربي) قال : سيدي.
19004 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19005 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19006 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19007 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي) قال : سيدي يعني : زوج المرأة.
19008 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (قال معاذ الله إنه ربي) يعني : إطفير. يقول : إنه سيدي.
* * *
وقوله : (أحسن مثواي) يقول : أحسن منزلتي ، وأكرمني وائتمنني ، فلا أخونه ، (3) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف 15 : 352 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الرب " فيما سلف 1 : 141 ، 142 / 12 : 385 ، 386 ، وغيرهما في فهارس اللغة ( ربب ) .
(3) انظر تفسير " المثوى " فيما سلف ص : 18 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/32)


وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

19009 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : (أحسن مثواي) أمنني على بيته وأهله.
19010 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (أحسن مثواي) فلا أخونه في أهله.
19011 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (أحسن مثواي) قال : يريد يوسف سيدَه زوجَ المرأة.
* * *
وقوله : (إنه لا يفلح الظالمون) يقول : إنه لا يدرك البقاء ، ولا ينجح من ظلم ، (1) ففعل ما ليس له فعله. وهذا الذي تدعوني إليه من الفجور ، ظلم وخيانة لسيدي الذي ائتمنني على منزله ، كما : -
19012 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إنه لا يفلح الظالمون) قال : هذا الذي تدعوني إليه ظلم ، ولا يفلح من عمل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }
قال أبو جعفر : ذكر أنَّ امرأة العزيز لما هَمَّت بيوسف وأرادت مُراودته ، جعلت تذكر له محاسنَ نفسه ، وتشوّقه إلى نفسها ، كما : -
19013 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (ولقد همت به وهم بها) قال : قالت له : يا يوسف ، ما أحسن شعرك!
__________
(1) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 15 : 156 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(16/33)


قال : هو أوَّل ما ينتثر من جسدي . قالت : يا يوسف ، ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله . فلم تزل حتى أطمعته ، فهمَّت به وهم بها ، فدخلا البيت ، وغلَّقت الأبواب ، وذهب ليحلّ سراويله ، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت ، قد عضَّ على إصبعه ، يقول : " يا يوسف لا تواقعها (1) فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق ، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطع أن يدفع عن نفسه. ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النَّمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه " ، فربط سراويله ، وذهب ليخرج يشتدُّ ، (2) فأدركته ، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته ، حتى أخرجته منه وسقط ، وطرحه يوسف واشتدَّ نحو الباب. (3)
19014 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أكبَّت عليه - يعني المرأة - تُطمعه مرة وتخيفه أخرى ، وتدعوه إلى لذّة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها وملكها ، وهو شاب مستقبل يجد من شَبق الرجال ما يجد الرجل ; حتى رَقَّ لها مما يرى من كَلَفها به ، ولم يتخوَّف منها حتى همَّ بها وهمَّت به ، حتى خلوا في بعض بُيوته.
* * *
ومعنى " الهم بالشيء " ، في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعتِه ، ما لم يُواقِع
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تواقعها " بغير " لا " ، وأثبتها من التاريخ .
(2) " اشتد " ، أسرع العدو .
(3) الأثر : 19013 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 173 .

(16/34)


. (1)
* * *
فأما ما كان من هم يوسف بالمرأة وهمها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ، وذلك ما : -
19015 - حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ، وسهل بن موسى الرازي ، قالوا : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، سئل عن همّ يوسف ما بلغ ؟ قال : حَلّ الهِمْيان ، وجلس منها مجلس الخاتن (2) لفظ الحديث لأبي كريب. (3)
19016 - حدثنا أبو كريب ، وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن عيينة ، قال : سمع عبيد الله بن أبي يزيد ابن عباس في(ولقد همت به وهم بها) قال : جلس منها مجلس الخاتن ، وحلّ الهميان.
19017 - حدثنا زياد بن عبد الله الحسَّاني ، وعمرو بن علي ، والحسن بن محمد ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس سئل : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن.
19018 - حدثني زياد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها.
19019 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة : (ولقد همت به وهم بها) قال : استلقت له ، وحلّ ثيابه.
19020 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : (ولقد همت به وهم بها) ،
__________
(1) انظر تفسير " الهم " فيما سلف 9 : 199 / 10 : 100 / 14 : 158 ، ولم يشرحها هناك شرحًا يغني ، وشرحها هنا .
(2) قوله : " مجلس الخاتن " ، هو الذي يختن الفتى أو الفتاة وفي مطبوعة تاريخ الطبري : " مجلس الحائز " ، ولكن ستأتي في مخطوطة التفسير " الخاتن " في كل مكان وسيأتي تفسير " الهميان " في رقم : 19022 ، وفي اللسان أنه " تكة السراويل " .
(3) الأثر : 19015 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 173 ، بهذا الإسناد نفسه .

(16/35)


ما بلغ ؟ قال : استلقت له وجلس بين رجليها ، وحلّ ثيابه أو ثيابها.
19021 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت على قفاها ، وقعد بين رجليها لينزعَ ثيابه.
19022 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سئل ابن عباس ، عن قوله : (ولقد همت به وهم بها) ما بلغ من هم يوسف ؟ قال : حل الهميان يعني السَّراويل .
19023 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : (ولقد همت به وهم بها) قال : حلَّ السراويل حتى أَلْيَتيه (1) واستلقت له.
19024 - حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : (ولقد همت به وهم بها) قال : حلّ سراويله ، حتى وقع على أَلْيَتيه. (2)
19025 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولقد همت به وهم بها) قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته.
__________
(1) في المطبوعة : " حتى التبان " ، وهو سراويل صغير مقدار شبر ، يستر العورة المغلظة ، وليس بشيء . وفي المخطوطة في هذا الموضع " التبن " غير منقوطة ثم في رقم : 19024 فيها : " حتى وقع على التنتين " ، ثم في رقم : 19029 ، فيها أيضًا : " على الثنات " ، وقد جعلها الناشر في جميعها " التبان " برسم واحد ، ورجحت أنا أكتبها " أليتيه " في موضعين و " ألياته " في آخر المواضع ، لأني وجدت الخبر عن مجاهد في القرطبي 9 : 166 " حل السراويل حتى بلغ الأليتين " ، ولو كتبتها كما في القرطبي ، لكان صوابًا ، و " الألية " ( بفتح الهمزة ) ، هي العجيزة للناس وغيرهم ، وهما من الناس " أليتان " ، ويقال : " إنه لذو أليات " ، كأنه جعل كل جزء " ألية " ، ثم جمع على هذا .
(2) انظر التعليق السالف ، وكان في المطبوعة : " على التبان " .

(16/36)


19026 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : (ولقد همت به وهم بها) قال : أمّا همّها به ، فاستلقت له وأما همُّه بها ، فإنه قعد بين رجليها ونزع ثيابه.
19027 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثني حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، قال : قلت لابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها ينزع ثيابه.
19028 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، قالا حلّ السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن.
19029 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد : (ولقد همت به وهم بها) قال : استلقت ، وحلّ ثيابه حتى بلغ ألياته. (1)
19030 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (ولقد همت به وهم بها) قال : أطلق تِكَّة سراويله.
19031 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، قال : شهدت ابن عباس سئل عن هم يوسف ما بلغ ؟ قال : حلّ الهِميان ، وجلس منها مجلس الخاتن.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا ، وهو لله نبيّ ؟
قيل : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك.
__________
(1) " أليات " جمع " ألية " ، وانظر ما سلف ص : 36 ، تعليق رقم : 1 .

(16/37)


فقال بعضهم : كان من ابتلي من الأنبياء بخطيئة ، (1) فإنما ابتلاه الله بها ، ليكون من الله عز وجلّ على وَجَلٍ إذا ذكرها ، فيجد في طاعته إشفاقًا منها ، ولا يتّكل على سعة عفو الله ورحمته.
* * *
وقال آخرون : بل ابتلاهم الله بذلك ، ليعرّفهم موضع نعمته عليهم ، بصفحه عنهم ، وتركه عقوبتَه عليه في الآخرة.
* * *
وقال آخرون : بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رَجاء رحمة الله ، وترك الإياس من عفوه عنهم إذا تابوا.
* * *
وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأوَّلوا القرآن بآرائهم ، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة.
فقال بعضهم : معناه : ولقد همت المرأة بيوسف ، وهمَّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمِّها به مما أرادته من المكروه ، لولا أنّ يوسف رأى برهان ربه ، وكفَّه ذلك عما همّ به من أذاها لا أنها ارتدعت من قِبَل نفسها . قالوا : والشاهد على صحة ذلك قوله : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) قالوا : فالسوء هُو ما كان همَّ به من أذاها ، وهو غير " الفحشاء " .
* * *
وقال آخرون منهم : معنى الكلام : ولقد همت به ، فتناهى الخبرُ عنها. ثم ابتدئ الخبر عن يوسف ، فقيل : " وهم بها يوسف لولا أن رأى برهان ربه " . كأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلى أنَّ يوسف لم يهمّ بها ، وأن الله إنما أخبر أنَّ يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهمَّ بها ، كما قيل : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ) ، [النساء : 83].
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " كان ممن ابتلى ... " ، والصواب ما في المخطوطة .

(16/38)


قال أبو جعفر : ويفسد هذين القولين : أن العرب لا تقدم جواب " لولا " قبلها ، لا تقول : " لقد قمت لولا زيد " ، وهي تريد " : لولا زيد لقد قمت " ، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن ، الذين عنهم يؤخذ تأويله.
* * *
وقال آخرون منهم : بل قد همَّت المرأة بيوسف ، وهم يوسف بالمرأة ، غير أن همَّهما كان تميِيلا منهما بين الفعل والترك ، (1) لا عزمًا ولا إرادة. قالوا : ولا حرج في حديث النفس ، ولا في ذكر القلب ، إذا لم يكن معهما عزْمٌ ولا فعلٌ.
* * *
وأما " البرهان " الذي رآه يوسف ، فترك من أجله مواقعة الخطيئة ، فإن أهل العلم مختلفون فيه.
فقال بعضهم : نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة .
* ذكر من قال ذلك :
19032 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : نودي : يا يوسف ، أتزني ، فتكون كالطير وَقَع ريشه ، فذهب يطير فلا ريش له ؟
19033 - .... قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : لم يُعْطِ على النداء ، (2) حتى رأى برهان
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " تمثيلا منهما " ، وهو خطأ . و " التمييل " الترجيح ، أي الأمرين تأخذ ، وأيهم تدع . يقال : " إني لأميل بين ذينك الأمرين ، وأمايل بينهما ، أيهما أركب ، أو أيهما أفضل " .
(2) في المطبوعة : " لم يتعظ " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صحيح المعنى ، يعني لم يعط المقادة والطاعة وهو كقوله في رقم : 19037 ، " فلم يطع على النداء " ، ثم قوله في رقم 19038 " فلم يعط على النداء شيئا " ، فجاء بها في المطبوعة على الصواب .

(16/39)


ربه ، قال : تمثالَ صورة وجه أبيه قال سفيان : عاضًّا على أصبعه فقال : يا يوسف ، تزني ، فتكون كالطير ذهب ريشه ؟
19034 - حدثني زياد بن عبد الله الحساني ، قال : حدثني محمد بن أبي عدي ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نُودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه ، أو قعد لا ريش له. قال : فلم يُعْطِ على النداء ، (1) فلم يزد على هذا قال ابن جريج : وحدثني غير واحد ، أنه رأى أباه عاضًّا على إصبعه.
19035 - حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : نودي فلم يسمع ، فقيل له : يا ابن يعقوب ، تريد أن تزني ، فتكون كالطير نتف فلا ريش له ؟
19036 - حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا سلمة ، عن طلحة ، عن عمرو الحضرمي ، عن ابن أبي مليكة ، قال : بلغني أنّ يوسف لما جلس بين رجلي المرأة فهو يحلّ هميانه ، نودي : يا يوسف بن يعقوب ، لا تزن ، فإن الطير إذا زنى تناثر ريشه. فأعرض ، ثم نودي فأعرض ، فتمثل له يعقوب عاضًّا على إصبعه ، فقام.
19037 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه ، وبقي لا ريش له ! فلم يطع على النداء ، ففُزِّع.
19038 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن
__________
(1) انظر التعليق السالف ص 39 .

(16/40)


ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب لا تكونَنّ كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه قال : أو قعد لا ريش له فلم يُعْطِ على النداء شيئًا ، حتى رأى برهان ربه ، ففَرِق ففرَّ.
19039 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، أتزني ، فتكون كالطير وقع ريشه ، فذهب يطيرُ فلا ريش له ؟
19040 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة قال : نودي يوسف فقيل : أنت مكتوب في الأنبياء ، تعمل عمل السفهاء ؟
19041 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان . عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : نودي : يُوسفَ بن يعقوب ، تزني ، فتكون كالطير نتف فلا ريش له ؟
* * *
وقال آخرون : " البرهان " الذي رأى يوسف فكفّ عن مواقعة الخطيئة من أجله ، صورة يعقوب عليهما السلام يتوعّده .
* ذكر من قال ذلك :
19042 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى صورةَ أو : تمثالَ وجهِ يعقوب عاضًّا على إصبعه ، فخرجت شهوته من أنامله.

(16/41)


19043 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : مَثَل له يعقوب ، فضرب في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله. (1)
19044 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى تمثال وجه أبيه ، قائلا بكفه هكذا وبسط كفه فخرجت شهوته من أنامله.
19045 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : مَثَل له يعقوب عاضًّا على أصابعه ، فضرب صدره ، فخرجت شهوته من أنامله.
19046 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى صورة يعقوب واضعًا أنملته على فيه ، يتوعَّده ، ففرَّ.
19047 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث ، عن ابن عباس ، في قوله : (ولقد همت به وهم بها) قال : حين رأى يعقوبَ في سقف البيْت ، قال : فنزعت شهوته التي كان يجدها ، حتى خرج يسعى إلى باب البيت ، فتبعته المرأة.
19048 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي عن قرة بن خالد السدوسي ، عن الحسن ، قال : زعموا ، والله
__________
(1) الأثر : 19043 - " عمرو بن محمد العنقزي " ، مضى مرارًا ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عمرو بن العنقزي " ، سقط اسم أبيه .

(16/42)


أعلم ، أن سقف البيت انفرج ، فرأى يعقوبَ عاضًّا على أصابعه.
19049 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى تمثالَ يعقوب عاضًّا على إصبعه يقول : يوسف! يوسف!
19050 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه .
19051 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو العنقزي ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى تمثال وجه يعقوب ، فخرجت شهوته من أنامله.
19052 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : رأى صورةً فيها وجه يعقوب عاضًّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله . فكلُّ ولد يعقوب وُلِدَ له اثنا عشر رجلا إلا يوسف ، فإنه نقص بتلك الشهوة ، ولم يولد له غير أحد عشر.
19053 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره : أن البرهان الذي رأى يوسف ، يعقوبُ.
19054 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عيسى بن المنذر ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا يونس بن يزيد الإيلي ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، مثله .
19055 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : مَثَل له يعقوب.

(16/43)


19056 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
19057 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : يعقوب.
19058 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19059 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19060 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : مَثَل له يعقوب.
19061 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته ، حتى رأى صورةَ يعقوب في الجدُر (1) .
19062 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : مثل له يعقوب.
19063 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكونن كالطير له ريش ، فإذا زنى قَعَد ليس له ريش. فلم يُعْرِض للنداء وقعد ، فرفع رأسه ، فرأى وجهَ يعقوب عاضًّا على إصبعه ، فقام مرعوبًا استحياء من الله ، فذلك قول الله : (لولا أن رأى برهان ربه) ، وجهَ يعقوب.
__________
(1) في المطبوعة : " على الجدار " وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .

(16/44)


19064 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : مثل له يعقوب عاضًّا على أصابعه.
19065 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة ، مثله .
19066 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : مثل له يعقوب ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله.
19067 - .... قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، قال : كان يولد لكل رجل منهم اثنا عشر ابنًا ، إلا يوسف ، ولد له أحد عشر ، من أجل ما خرج من شهوته.
19068 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا : ابن وهب ، قال : قال أبو شريح : سمعت عبيد الله بن أبي جعفر يقول : بلغ من شهوة يوسف أن خرجت من بَنَانه.
19069 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد الخراساني ، قال : سألت محمد بن سيرين ، عن قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : مَثَل له يعقوب عاضًّا على أصابعه يقول : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله ، اسمك في الأنبياء ، وتعمل عمل السفهاء ؟
19070 - حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى يعقوب عاضًّا على إصبعه يقول : يوسف !
19071 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال ، قال قتادة : رأى صورة يعقوب ، فقال : يا يوسف ، تعمل عمل الفجَّار ، وأنت مكتوب في الأنبياء ؟ فاستحيى منه.

(16/45)


19072 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (لولا أن رأى برهان ربه) رأى آية من آيات ربه ، حجزه الله بها عن معصيته. ذكر لنا أنه مثل له يعقوب حتى كلمه ، فعصمه الله ، ونزع كل شهوة كانت في مفاصله.
19073 - .... قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أنه مَثَل له يعقوب وهو عاضٌّ على إصبع من أصابعه.
19074 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت عاضًّا على إصبعه يقول : يا يوسف! يا يوسف ! يعني قوله : (لولا أن رأى برهان ربه).
19075 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ويونس عن الحسن ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت ، عاضًّا على إصبعه.
19076 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح مثله ، وقال عاضًّا على إصبعه يقول : يوسف! يوسف !
19077 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضًّا على إصبعه يقول : يا يوسف ! فذاك حيث كفَّ ، وقام فاندفع.
19078 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم وأبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى صورةً فيها وجه يعقوب عاضًّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من بين أنامله.

(16/46)


19079 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : رأى تمثال وجه أبيه ، فخرجت الشهوة من أنامله.
19080 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى يعني ابن عباد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح : (لولا أن رأى برهان ربه) ، قال : تمثال صورة يعقوب في سقف البيت.
19081 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : رأى يعقوب عاضًّا على يده.
19082 - .... قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) ، قال : يعقوب ، ضرب بيده على صدره ، فخرجت شهوته من أنامله.
19083 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) ، آية من ربه ; يزعمون أنه مَثَلَ له يعقوب ، فاستحيىمنه.
* * *
وقال آخرون : بل البرهان الذي رأى يوسف ، ما أوعد الله عز وجل على الزنا أهله .
* ذكر من قال ذلك :
19084 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي مودود ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال : رفع رأسَه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : ( لا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ) ، (1) [سورة الإسراء : 32].
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : { إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا } ، وهذه آية أخرى ، هي آية نكاح ما نكح الآباء من النساء ، وهي آية المقت " سورة النساء : 22 " ، وزيادة " ومقتًا " سهو من الناسخ ، لا شك في ذلك ، وجاءت على صواب التلاوة في الأثر التالي ، ولكن الناشر زاد " ومقتًا " ، هناك ، فأساء غاية الإساءة .

(16/47)


19085 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مودود ، عن محمد بن كعب ، قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ ، فرأى كتابًا في حائط البيت : ( لا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ).
19086 - .... قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : (لولا أن رأى برهان ربه) قال : لولا ما رأى في القرآن من تعظيم الزنا.
19087 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر ، قال : سمعت القرظي يقول في البرهان الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله : ( إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) الآية ، [سورة الانفطار : 10] ، وقوله : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ) الآية ، [سورة يونس : 61] ، وقوله : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) [سورة الرعد : 33]. قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية رابعة : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا ).
19088 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي : (لولا أن رأى برهان ربه) فقال : ما حرَّم الله عليه من الزنا.
* * *
وقال آخرون : بل رأى تمثال الملك .
* ذكر من قال ذلك :
19089 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) يقول : آيات ربه ، أُرِيَ تمثالَ الملك.
19090 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال :

(16/48)


كان بعض أهل العلم ، فيما بلغني ، يقول : البرهان الذي رأى يوسف فصرف عنه السوءَ والفحشاء ، يعقوبُ عاضًّا على إصبعه ، فلما رآه انكشفَ هاربًا ويقول بعضهم : إنما هو خيال إطفير سيده ، حين دَنا من الباب ، وذلك أنه لما هرب منها واتبعته ، ألفياه لدى الباب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن همِّ يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه ، لولا أن رأى يوسف برهان ربه ، وذلك آيةٌ من الله ، زجرته عن ركوب ما همَّ به يوسف من الفاحشة وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب وجائز أن تكون صورة الملك - وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا ولا حجة للعذر قاطعة بأيِّ ذلك [كان] من أيٍّ . والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى ، والإيمان به ، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.
* * *
وقوله : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) ، يقول تعالى ذكره : كما أرينَا يوسف برهاننا على الزجر عمَّا همّ به من الفاحشة ، كذلك نسبّب له في كلِّ ما عرض له من همٍّ يهمُّ به فيما لا يرضاه ، ما يزجره ويدفعه عنه ; كي نصرف عنه ركوب ما حرَّمنا عليه ، وإتيان الزنا ، لنطهره من دنس ذلك. (1)
* * *
وقوله : (إنه من عبادنا المخلصين) اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة والكوفة( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) بفتح اللام من " المخلصين " ، بتأويل : إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا ، واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 15 : 254 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الفحشاء " فيما سلف 12 : 547 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(16/49)


وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)

وقرأ بعض قرأة البصرة : " إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ " بكسر اللام بمعنى : إن يوسف من عبادنا الذين أخلَصوا توحيدنا وعبادتنا ، فلم يشركوا بنا شيئًا ، ولم يعبدُوا شيئًا غيرنا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بهما جماعة كثيرة من القرأة ، وهما متفقتا المعنى. وذلك أن من أخلصه الله لنفسه فاختاره ، فهو مُخْلِصٌ لله التوحيدَ والعبادة ، ومن أخلص توحيدَ الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئًا ، فهو ممن أخلصه الله ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصوابِ مصيبٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : واستبق يوسف وامرأة العزيز بابَ البيت ، (1) أما يوسف ففرارًا من ركوب الفاحشة لما رأى برهان ربه فزجره عنها ، وأما المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها منه التي راودته عليها ، فأدركته فتعلقت بقميصه ، فجذبته إليها مانعةً له من الخروج من الباب ، ، فقدَّته من دبر يعني : شقته من خلف لا من قدام ، (2) لأن يوسف كان هو الهارب ، وكانت هي الطالبة ، كما : -
19091 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الاستباق " فيما سلف 15 : 577 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الدبر " فيما سلف 14 : 15 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(16/50)


معمر ، عن قتادة : (واستبقا الباب) ، قال : استبق هو والمرأة الباب ، (وقدت قميصه من دبر).
19092 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رأى برهان ربه ، انكشفَ عنها هاربًا ، واتبعته ، فأخذت قميصه من دبر ، فشقَّته عليه.
* * *
وقوله : (وألفيا سيدها لدى الباب) ، يقول جل ثناؤه : وصادفا سيدها (1) وهو زوج المرأة (2) " لدى الباب " ، يعني : عند الباب (3) . كالذي : -
19093 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد : (وألفيا سيدها) ، قال : سيدها : زوجها ، (لدى الباب) ، قال : عند الباب.
19094 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن زيد بن ثابت ، قال " : السيد " ، الزوج.
19095 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وألفيا سيدها لدى الباب) ، أي : عند الباب.
19096 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وألفيا سيدها لدى الباب) ، قال : جالسًا عند الباب وابن عمّها معه ، فلما رأته قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا ؟ إنه راودني عن نفسي ، فدفعته عن نفسي ، فشققت قميصه. قال يوسف : بل هي راودتني عن نفسي ، وفررت منها فأدركتني ، فشقت قميصي. فقال ابن عمها : تِبْيان هذا في القميص ،
__________
(1) انظر تفسير " ألفى " فيما سلف 3 : 306 ، 307 .
(2) انظر تفسير " السيد " فيما سلف 6 : 374 .
(3) انظر تفسير " لدى فيما سلف 6 : 407 .

(16/51)


فإن كان القميص ، قدّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين ، وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فأتي بالقميص ، فوجده قدّ من دبر قال : ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين).
19097 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وألفيا سيدها لدى الباب) ، إطفير ، قائمًا على باب البيت ، فقالت وهابَتْه : (ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) ولطخته مكانها بالسيئة ، فَرَقًا من أن يتهمها صاحبُها على القبيح. فقال هو ، وصَدقه الحديث : (هي راودتني عن نفسي) .
* * *
وقوله : (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا) يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز لزوجها لما ألفياه عند الباب ، فخافت أن يتهمها بالفجور : ما ثواب رجل أرادَ بامرأتك الزنا إلا أن يسجن في السجن ، (1) أو إلا عذاب أليم يقول : موجع.
* * *
وإنما قال : (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) ، لأن قوله : (إلا أن يسجن) ، بمعنى إلا السجن ، فعطف " العذاب " عليه ; وذلك أن " أن " وما عملت فيه بمنزلة الاسم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( جزى ) .

(16/52)


قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يوسف لما قذفته امرأة العزيز بما قذفته من إرادته الفاحشة منها ، مكذِّبًا لها فيما قذفته به ودفعًا لما نسب إليه : ما أنا راودتها عن نفسها ، بل هي راودتني عن نفسي. (1)
* * *
وقد قيل : إن يوسف لم يرد ذكر ذلك ، لو لم تقذفه عند سيدها بما قذفته به.
* ذكر من قال ذلك :
19098 - حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي ، قال : ما كان يوسف يريد أن يذكره ، حتى قالت : ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا) ، الآية ، قال : فغضب فقال : (هي راودتني عن نفسي). (2)
* * *
وأما قوله : (وشهد شاهد من أهلها) فإن أهل العلم اختلفوا في صفة الشاهد.
فقال بعضهم : كان صبيًّا في المهد .
__________
(1) انظر تفسير " المراودة " فيما سلف ص : 24 ، 25 .
(2) الأثر : 19098 - في المطبوعة : " نوف الشيباني " ، وهو خطأ محض ، مأتاه من سوء كتابة المخطوطة ، وإن كانت واضحة بعض الوضوح ، والصواب " نوف الشامي " ، وهو : " نوف ابن فضالة البكالي الحميري ، الشامي " ، انظر ما سلف رقم : 18923 ، والتعليق عليه .

(16/53)


* ذكر من قال ذلك :
19099 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تكلم أربعة في المهد وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليه السلام. (1)
19100 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : عيسى ، وصاحب يوسف ، وصاحب جريج يعني : تكلموا في المهد. (2)
19101 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : صبي.
19102 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : كان في المهد صبيًّا.
19103 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أيوب بن جابر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : صبي. (3)
__________
(1) الأثر : 19099 - " العلاء بن عبد الجبار " ، " أبو الحسن العطار " ، روى عن حماد بن سلمة ، وروى عنه الحميدي ، وابنه عبد الجبار بن العلاء . صالح الحديث . مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 358 .
(2) الأثر : 19100 - " أبو بكر الهذلي " ، كلن يكذب ، متروك الحديث . مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17616 ، 18439 ، ولكن حديث أبي هريرة مطولا رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 6 : 344 - 348 ) ، ومسلم في صحيحه 16 : 106 ، ورواه أحمد في المسند : 8057 ، 8058 بإسناد صحيح ، وانظر شرح أخي رحمه الله .
(3) الأثر : 19103 - " أيوب بن جابر بن سيار اليمامي " ، ضعيف . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 410 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 242 ، وميزان الاعتدال 1 : 132 .

(16/54)


19104 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بمثله .
19105 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان صبيًّا في مهده.
19106 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن هلال بن يساف : (وشهد شاهد من أهلها) قال : صبي في المهد.
19107 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : صبي أنطقه الله . ويقال : ذو رأي برأيه. (1)
19108 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا عفان ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار " ، فذكر فيهم شاهد يوسف (2) .
19109 - حدثت عن الحسين بن الفرج . قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وشهد شاهد من أهلها) يزعمون أنه كان صبيًّا في الدار.
19110 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عمي
__________
(1) قوله : " ذو رأي برأيه " ، أي كان الشاهد رجلا ذا رأي ، قال ذلك برأيه . وانظر الأثر التالي رقم : 19127 .
(2) الأثر : 19108 - حديث حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، حديث طويل ، رواه أحمد في مسنده رقم : 2822 ، 2823 ، 2824 ، 2825 ، وفي آخره : قال " قال ابن عباس : تكلم أربعة صغار ، عيسى بن مريم ، وصاحب جريج ، وشاهد يوسف ، وابن ماشطة فرعون " ، ولم يرفع هذا القول الأخير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإسناده إسناد صحيح .

(16/55)


. قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : كان صبيًّا في المهد.
* * *
وقال آخرون : كان رجلا ذا لحية .
* ذكر من قال ذلك :
19111 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ذا لحية.
19112 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : كان من خاصّة الملك.
19113 - .... وبه قال ، حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، سمع عكرمة يقول : (وشهد شاهد من أهلها) قال : ما كان بصبيّ ، ولكن كان رجلا حكيمًا.
19114 - حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال ، حدثنا عبد الملك بن الصباح ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، وذكره عنده : (وشهد شاهد من أهلها) فقالوا : كان صبيًّا. فقال : إنه ليس بصبي ، ولكنه رجل حكيم (1) .
19115 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : (وشهد شاهد من أهلها) قال : كان رجلا.
19116 - حدثنا ابن بشار ، قال ، حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 19114 - " عبد الملك بن الصباح المسمعي " ، ثقة / مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 354 .

(16/56)


عن منصور ، عن مجاهد : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل.
19117 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل.
19118 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل.
19119 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (وشهد شاهد من أهلها) قال : ذو لحية.
19120 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ابن عمها كان الشاهدَ من أهلها.
19121 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (وشهد شاهد من أهلها) قال : ذو لحية.
19122 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ذو لحية.
19123 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن ابن أبي مليكة : (وشهد شاهد من أهلها) قال : كان من خاصة الملك.
19124 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل حكيم كان من أهلها.
19125 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل حكيم من أهلها.

(16/57)


19126 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : (وشهد شاهد من أهلها) قال : كان رجلا.
19127 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن الحسن ، في قوله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : رجل له رأي أشارَ برأيه.
19128 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وشهد شاهد من أهلها) قال : يقال : إنما كان الشاهد مشيرًا ، رجلا من أهل إطفير ، وكان يستعين برأيه إلا أنه قال : أشهد إن كان قميصه قدّ من قبل لقد صدقت وهو من الكاذبين.
* * *
وقيل : معنى قوله : (وشهد شاهد) : حكم حاكم.
19129 - حدثت بذلك عن الفراء ، عن معلي بن هلال ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد.
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بالشاهد ، القميصَ المقدودَ .
* ذكر من قال ذلك :
19130 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (وشهد شاهد من أهلها) قال : قميصُه مشقوق من دبر ، فتلك الشهادة.
19131 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وشهد شاهد من أهلها) ، قميصُه مشقوق من دبر ، فتلك الشهادة.
19132 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : (وشهد شاهد من أهلها) لم يكن من الإنس.

(16/58)


19133 - .... قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، عن مجاهد : (وشهد شاهد من أهلها) ، قال : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيًا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : كان صبيًّا في المهد للخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنه ذكر من تكلم في المهد. فذكر أنَّ أحدهم صاحب يوسف.
* * *
فأمّا ما قاله مجاهد من أنه القميص المقدود ، فما لا معنى له ; لأن الله تعالى ذكره أخبر عن الشاهد الذي شهد بذلك أنه من أهل المرأة فقال : (وشهد شاهد من أهلها) ، ولا يقال للقميص هو من أهل الرجل ولا المرأة.
* * *
وقوله : (إن كان قميصه قُدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين) ، لأن المطلوب إذا كان هاربًا فإنما يؤتى من قِبل دبره ، فكان معلومًا أن الشق لو كان من قُبُل لم يكن هاربًا مطلوبًا. ولكن كان يكون طالبًا مدفوعًا ، وكان يكون ذلك شهادة على كذبه .
19134 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال : أشهد إن كان قميصه قُدّ من قُبُل لقد صدقت وهو من الكاذبين. وذلك أن الرجل إنما يريد المرأة مقبلا ( وإن كان قميصه قُدّ مِن دُبر فكذبت وهو من الصادقين) وذلك أن الرجل لا يأتي المرأة من دُبر . وقال : إنه لا ينبغي أن يكون في الحقّ إلا ذاك . فلما رأى إطفير قميصَه قدَّ من دُبر عرف أنه من كيدها ، فقال : (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم).
19135 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال يعني : الشاهدُ من أهلها : القميصُ يقضي بينهما ، (إن كان قميصه قدّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدّ من دُبر فكذبت

(16/59)


يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قُد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم).
* * *
قال أبو جعفر : وإنما حذفت " أنَّ " التي تتلقَّى بها " الشهادة " لأنه ذهب بالشهادة إلى معنى " القول " ، كأنه قال : وقال قائل من أهلها : إن كان قميصه كما قيل : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) [سورة النساء : 11] ، لأنه ذهب بالوصية إلى " القول " .
* * *
وقوله : (فلما رأى قميصه قدّ من دبر) ، خبر عن زوج المرأة ، وهو القائل لها : إن هذا الفعل من كيدكن أي : صنيعكن ، يعني من صنيع النساء (1) ( إن كيدكن عظيم ).
* * *
وقيل : إنه خبر عن الشاهد أنه القائلُ ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) }
قال أبو جعفر : وهذا فيما ذكر عن ابن عباس ، خبرٌ من الله تعالى ذكره عن قِيل الشاهد أنه قال للمرأة وليوسف.
* * *
يعني بقوله : (يوسف) يا يوسف (أعرض عن هذا) ، يقول : أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه ، فلا تذكره لأحد ، (2) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف 15 : 558 ، تعليق : 2 والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 15 : 407 ، تعليق : 1 ، والمراجع .

(16/60)


19136 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (يوسف أعرض عن هذا) ، قال : لا تذكره ، (واستغفري) أنت زوجك ، يقول : سليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبتِ ، وأن يصفح عنه فيستره عليك.
* * *
(إنك كنت من الخاطئين) ، يقول : إنك كنت من المذنبين في مراودة يوسف عن نفسه.
* * *
يقال منه : " خَطِئ " في الخطيئة " يخطَأ خِطْأً وخَطَأً " (1) كما قال جل ثناؤه : ( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ) [سورة الإسراء : 31] ، و " الخطأ " في الأمر.
وحكي في " الصواب " أيضًا " الصوابُ " ، و " الصَّوْبُ " ، (2) كما قال : الشاعر : (3)
لَعَمْرُكَ إِنَّمَا خَطَئِي وَصَوْبِي... عَلَيَّ وَإِنَّ مَا أَهْلَكْتُ مَالُ (4)
وينشد بيت أمية :
عِبَادُكَ يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ... بِكَفَّيْكَ الْمَنَايَا وَالْحُتُومُ (5)
__________
(1) انظر تفسير " خطئ " فيما سلف 2 : 110 / 6 : 143 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أيضًا الصواب ، والصوب " ، وكأن الصواب ما أثبت . وأخشى أن يكون : " والخطأ " و " الخطاء " في الأمر ، وحكي في " الصواب ... " ، يعني المقصور و الممدود .
(3) هو أوس بن غلفاء .
(4) نوادر أبي زيد : 47 ، طبقات فحول الشعراء : 140 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 241 ، اللسان ( صوب ) ، من أبيات يقولها لامرأته : أَلا قالَتْ أُمَامَةُ يَوْمَ غُوْلٍ : ... تَقَطَّعَ بِابنِ غَلْفاء الحِبالُ
ذَرِيني إنَّما خَطَئِي وصَوْبي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَإِنْ تَرَنِي أُمَامَة قَلَّ مالِي ... وَأْلَهانِي عَنِ الغَزْوِ ابْتِذَالُ
فَقَدْ ألْهُو مَعَ النَّفَرِ النَّشَاوَى ... لِيَ النَّسَبُ المُوَاصَلُ والخِلالُ
(5) ديوانه : 4 ، واللسان ( خطأ ) ، ( حتم ) ، وقبل البيت : سَلامَكَ رَبَّنا فِي كُلِّ فَجْرٍ ... بَرِيئًا ما تَلِيقُ بِكَ الذًّمُومُ
وبعده : غَدَاةَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ ... ألاَ يَاليْتَ أُمَّكُمُ عَقِيمُ
.

(16/61)


وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)

من خطئ الرجل.
* * *
وقيل : (إنك كنت من الخاطئين) ، لم يقل : من الخاطئات ، لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء ، وإنما قصد به الخبر عمَّن يفعل ذلك فيخطَأ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر ، وشاع من أمرهما فيها ما كان ، فلم ينكتم ، وقلن : ( امرأة العزيز تراود فتاها ) ، (1) عبدها (2) ( عن نفسه ) ، كما : -
19137 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وشاع الحديث في القرية ، وتحدث النساء بأمره وأمرها ، وقلن : (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) ، أي : عبدها.
* * *
وأما " العزيز " فإنه : " الملك " في كلام العرب ، (3) ومنه قول أبي دؤاد :
دُرَّةٌ غَاصَ عَلَيْهَا تَاجِرٌ... جُلِيَتْ عِنْدَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَلِّ (4)
يعني بالعزيز ، الملك ، وهو من " العزّة " . (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المراودة " فيما سلف ص : 53 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الفتى " فيما سلف 8 : 188 .
(3) هذا التفسير من عزيز اللغة ، وليس في المعاجم ، فليقيد في مكانه .
(4) لم أجد البيت في مكان آخر .
(5) انظر تفسير " العزة " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز ) .

(16/62)


وقوله : (قد شغفها حبًّا) ، يقول قد وصل حبُّ يوسف إلى شَغَاف قلبها فدخل تحته ، حتى غلب على قلبها.
* * *
و " شَغَاف القلب " : حجابه وغلافه الذي هو فيه ، وإياه عنى النابغة الذبياني بقوله :
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ دَاخِلٌ... دُخُولَ شَغَافٍ تَبْتَغِيهِ الأصَابِعُ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
19138 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول في قوله : (شغفها حبًّا) قال : دخل حبه تحت الشَّغاف.
19139 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (قد شغفها حبًّا) ، قال : دخل حبه في شَغافها.
19140 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قد شغفها حبًّا) ، قال : دخل حبه في شَغافها.
__________
(1) ديوانه : 38 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 308 ، وغيرهما ، مع اختلاف في روايته ، وقبله : عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ : أَلَمَّا تَصْحُ والشَّيْبُ وَازِعُ ?
و " الأصابع " يعني أصابع الأطباء . وجعله الطبري من " الشغاف " بالفتح ، واللغويون يجعلونه من " الشغاف " ( بضم الشين " ، وهو داء يأخذ تحت الشراسيف من الشق الأيمن . وإذا اتصل بالطحال قتل صاحبه . وهذا أجود الكلاميين .

(16/63)


19141 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قد شغفها حبًّا) ، قال : كان حبه في شَغافها.
19142 - .... قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن بن محمد ، عن شبابة .
19143 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (قد شغفها حبًّا) ، يقول : عَلَّقها حبًّا.
19144 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (قد شغفها حبًّا) ، قال : غَلَبها.
19145 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن أبيه عن أيوب بن عائذ الطائي عن الشعبي : (قد شغفها حبًّا) ، قال : " المشغوف " : المحب ، و " المشعوف " ، (1) المجنون. (2)
19146 - .... وبه قال ، حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب ، عن أبي رجاء والحسن : (قد شغفها حبًّا) ، قال أحدهما : قد بَطَنَها حبًّا. وقال الآخر : قد صَدَقها حبًّا.
19147 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : (قد شغفها حبا) ، قال : قد بطنَها حبًّا قال يعقوب : قال أبو بشر : أهل المدينة يقولون : " قد بَطَنها حبًّا " .
19148 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن
__________
(1) " المشعوف " ، بالعين المهملة ، وكان في المطبوعة بالغين المعجمة ، وهو خطأ . وأراد الشعبي أن يفرق بينهما .
(2) الأثر : 19145 - " أيوب بن عائذ المدلجي الطائي " ، ثقة ، مضى برقم : 10338 ، 10339

(16/64)


الحسن ، قال : سمعته يقول في قوله : (قد شغفها حبا) ، قال : بَطنَها حبًّا . وأهل المدينة يقولون ذلك.
19149 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن قرة ، عن الحسن : (قد شغفها حبًّا) ، قال : قد بَطَن بها حبًّا. (1)
19150 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : (قد شغفها حبًّا) ، قال : بَطَنها حبه.
19151 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . عن الحسن : (قد شغفها حبًّا) ، قال : بطَن بها.
19152 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (قد شغفها حبًّا) ، قال : استبطنها حبها إياه.
19153 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (قد شغفها حبًّا) ، أي : قد عَلَّقها.
19154 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : (قد شغفها حبًّا) ، قال : قد عَلَّقَها حبًّا.
19155 - حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو الحب اللازق بالقلب.
19156 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : (قد شغفها حبًّا) ، يقول : هلكت عليه حبًّا ، و " الشَّغَاف " : شَغَاف القلب.
19157 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا
__________
(1) في المخطوطة : " بطن لها " ، وانظر رقم : 19151 .

(16/65)


أسباط ، عن السدي : (قد شغفها حبًّا) ، قال : و " الشَّغاف " : جلدة على القلب يقال لها " : لسان القلب " ، (1) يقول : دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار بالغين : (قَدْ شَغَفَهَا) ، على معنى ما وصفت من التأويل.
* * *
وقرأ ذلك أبو رجاء : " قَدْ شَعَفَهَا " بالعين. (2)
19158 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن أبي رجاء : " قَدْ شَعَفَهَا " .
19159 - .... قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي الأشهب ، أو عوف عن أبي رجاء : " قَدْ شَعَفَهَا حُبًّا " ، بالعين.
19160 - .... قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا محبوب ، قال : قرأه عوف : " قَدْ شَعَفَهَا " .
19161 - .... قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : " قَدْ شَعَفَهَا حُبًّا " ، وقال : شَعَفَهَا إذا كان هو يحبها.
* * *
ووجَّه هؤلاء معنى الكلام إلى أنَّ الحبَّ قد عمَّها.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : هو من قول القائل :
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة ، وأنا أرجح أن الصواب " لباس القلب " ، لأنهم قالوا في شرح اللفظ : " الشغاف : غلاف القلب ، وهو جلدة دونه كالحجاب ، وسويداؤه " ، وقالوا " هو غشاء القلب " وقال أبو الهيثم : " يقال لحجاب القلب ، وهي شحمة تكون لباسًا للقلب الشغاف " .
(2) هكذا في المخطوطة : " شعفها " ، وظني أن الصواب : " شغف بها ، إذا كان هو يحبها " ، وذلك بالبناء للمجهول ، أما هذا الذي قاله ، فمما لا يعرف .

(16/66)


" قد شُعفَ بها " ، كأنه ذهب بها كل مَذهب ، من " شَعَف الجبال " ، وهي رؤوسها.
* * *
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال : " الشغف " ، شغف الحب و " الشعف " ، شعف الدابة حين تذعر .
19162 - حدثني بذلك الحارث ، عن القاسم ، أنه قال : يروى ذلك عن أبي عوانة ، عن مغيرة عنه .
قال الحارث : قال القاسم ، يذهب إبراهيم إلى أن أصل " الشَّعَف " ، هو الذعر . قال : وكذلك هو كما قال إبراهيم في الأصل ، إلا أن العرب ربما استعارت الكلمة فوضعتها في غير موضعها ; قال امرؤ القيس :
أَتَقْتُلُنِي وَقَدْ شَعَفْتُ فُؤَادَهَا... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَة الرَّجُلُ الطَّالِي (1)
قال : و " شعف المرأة " من الحبّ ، و " شعف المهنوءة " من الذعر ، فشبه لوعة الحب وجَوَاه بذلك.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما : -
19163 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (قد شغفها حبًّا) قال : إن " الشغف " و " الشعف " ، مختلفان ،
__________
(1) ديوانه : 142 ، واللسان " شعف " ، وغيرها ، من قصيدة البارعة ، يقول وقد ذكر صاحبته وبعلها : فَأَصْبحْتُ مَعْشُوقًا وَأَصْبَحَ بَعْلُها ... عَلَيْه القَتامُ سَيِّءَ الظَّنِّ وَالبالِ
يَغِط غَطِيطَ البَكْرِ شُدَّ خِناقُهُ ... لِيَقْتُلَنِي ، والمرْءُ لَيْسَ بقَتَّالِ
أَيَقْتُلَني والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوَالِ
ولَيْسَ بذي رُمْحٍ فَيَطْعُنُني بهِ ... وَلَيْسَ بِذي سَيْفٍ ، ولَيْسَ بِنَبَّالِ
أيقتُلَني أنِّي شعفتُ فُؤَادها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَقَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى ، وإنْ كانَ بَعلَها ... بِأَنَّ الفَتَى يَهْذِي ولَيْسَ بفَعَّال

(16/67)


و " الشعف " ، في البغض و " الشغف " في الحب.
* * *
وهذا الذي قاله ابن زيد لا معنى له ، لأن " الشعف " في كلام العرب بمعنى عموم الحب ، أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندنا من القراءة : (قَدْ شَغَفَهَا) ، بالغين ، لإجماع الحجة من القرأة عليه.
* * *
وقوله : (إنا لنراها في ضلال مبين) ، قلن : إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه ، وغلبة حبه عليها ، لفي خطأ من الفعل ، وجَوْر عن قصد السبيل " مبين " ، لمن تأمله وعلمه أنه ضلال ، وخطأ غير صواب ولا سداد. (1) وإنما كان قيلهنّ ما قلن من ذلك ، وتحدُّثهن بما تحدَّثن به من شأنها وشأن يوسف ، مكرًا منهن ، فيما ذكر ، لتريَهُنَّ يوسف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الضلال " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضلل ) ، ( بين ) .

(16/68)


فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة اللاتي قلن في المدينة ما ذكره الله عز وجل عنهن
* * *
وكان مكرهنَّ ما : -

(16/68)


19164 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (فلما سمعت بمكرهن) ، يقول : بقولهن.
19165 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أظهر النساء ذلك ، من قولهن " : تراود عبدها! " مكرًا بها لتريهن يوسف ، وكان يوصف لهن بحُسنه وجماله ;(فلما سمعت بمكرهن (1) أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ).
19166 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فلما سمعت بمكرهن) : ، أي بحديثهن ، ( أرسلت إليهن) ، يقول : أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدثن بشأنها وشأن يوسف.
* * *
(وأعتدت ) ، " أفعلت " من العتاد ، وهو العدَّة ، (2) ومعناه : أعدّت لهن " متكأ " ، يعني : مجلسًا للطعام ، وما يتكئن عليه من النمارق والوَسائد :
* * *
وهو " مفتعل " من قول القائل : " اتَّكأت " ، يقال : " ألق له مُتَّكأ " ، يعني : ما يتكئ عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19167 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : (وأعتدت لهن متكأ) قال : طعامًا وشرابًا ومتكأ.
19168 - .... قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : يتكئن عليه.
__________
(1) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 15 : 49 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " أعتد " فيما سلف 8 : 103 ، 355 / 9 : 353 ، 392 .

(16/69)


19169 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : مجلسًا.
19170 - .... قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه كان يقرأ : (مُتَّكَآءً) ، ويقول : هو المجلس والطعام. (1)
19171 - .... قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد : من قرأ : " مُتْكَأً " ، خفيفة ، يعني طعامًا. ومن قرأ(مُتَّكَأً) ، يعني المتكأ.
* * *
فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه تأويل هذه الكلمة ، هو معنى الكلمة ، وتأويل " المتكأ " ، وأنها أعدّت للنسوة مجلسًا فيه متكأ وطعام وشراب وأترج . ثم فسر بعضهم " المتكأ " بأنه الطعام على وجه الخبر عن الذي أعدّ من أجله المتكأ وبعضهم عن الخبر عن الأترج. إذ كان في الكلام : ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، لأن السكين إنما تعد للأترج وما أشبهه مما يقطع به وبعضهم على البزماورد.
19172 - حدثني هارون بن حاتم المقرئ ، قال : حدثنا هشيم بن الزبرقان ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : البزماورد.
* * *
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : " المتكأ " : هو النُّمْرُق يتكأ عليه. وقال : زعم قوم أنه الأترج. قال : وهذا أبطل باطل في الأرض ، ولكن عسى أن يكون مع " المتكأ " أترج يأكلونه. (2)
* * *
__________
(1) قراءة الحسن بالمد ، آخره همز ، ذكر هذه القراءة ابن خالويه في شواذ القراءات ص : 63 عن الحسن ، وذكرها أبو حيان في تفسيره 5 : 302 ، ونسبها إلى الحسن وابن هرمز ، وقال : " بالمد والهمز . وهي مفتعل ، من الاتكاء ، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا " : وَأَنْتَ مِنَ الغَوَائِل حَيْثُ تُرْمَى ... ومِنْ ذَمِّ الرِّجالِ بِمُنْتَزَاحِ
أي : بمنتزح ، فأشبع .
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 309 .

(16/70)


وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام قول أبي عبيدة ، ثم قال : والفقهاء أعلم بالتأويل منه . ثم قال : ولعله بعضُ ما ذهب من كلام العرب ، فإنّ الكسائي كان يقول : قد ذهب من كلام العرب شيء كثير انقرض أهله.
* * *
قال أبو جعفر : والقول في أن الفقهاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة ، كما قال أبو عبيد لا شك فيه ، غير أن أبا عبيدة لم يُبْعد من الصواب في هذا القول ، بل القول كما قال : مِن أن مَن قال للمتكأ : هو الأترج ، إنما بيَّن المعدَّ في المجلس الذي فيه المتكأ ، والذي من أجله أعطين السكاكين ، لأن السكاكين معلومٌ أنها لا تعدُّ للمتكأ إلا لتخريقه! (1) ولم يعطين السكاكين لذلك.
* * *
ومما يبين صحة ذلك القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، من أن " المتكأ " هو المجلس .
ثم رُوي عن مجاهد عنه ، ما : -
19173 - حدثني به سليمان بن عبد الجبار ، قال ، حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينًا) ، قال : أعطتهن أترجًّا ، وأعطت كل واحدة منهن سكّينًا.
* * *
فبيّن ابن عباس في رواية مجاهد هذه ، ما أعطت النسوة ، وأعرض عن ذكر بيان معنى " المتكأ " ، إذ كان معلومًا معناه.
* * *
* ذكر من قال في تأويل " المتكأ " ما ذكرنا :
19174 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : التُّرُنْج.
19175 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ،
__________
(1) يقول : إلا إذا أعطين السكاكين لكي يمزقن النمارق والوسائد ، وهي المتكأ .

(16/71)


عن عوف ، قال : حدثت عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " مُتْكًا " مخففة ، ويقول : هو الأترُجّ.
19176 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : " وأعتدت لهن متكأ " ، قال الطعام.
19177 - حدثني يعقوب والحسن بن محمد ، قالا حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : طعامًا.
19178 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
19179 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (وأعتدت لهن مُتَّكأ) ، قال : طعامًا.
19180 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .
19181 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : من قرأ(مُتَّكَأ) فهو الطعام ، ومن قرأها " مُتْكًأ " فخففها ، فهو الأترجّ.
19182 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (متكأ) ، قال : طعامًا
19183 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19184 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد

(16/72)


19185 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19186 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو خالد القرشي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : من قرأ : " مُتْكًا " ، خفيفة ، فهو الأترجّ.
19187 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بنحوه .
19188 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، قال سمعت بعضهم يقول : الأترج .
19189 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وأعتدت لهن متكأ) : ، أي طعامًا.
19190 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
19191 - .... قال : حدثنا يزيد ، عن أبي رجاء ، عن عكرمة ، في قوله : (متكأ) ، قال : طعامًا.
19192 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكًا) ، يعني الأترج.
19193 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وأعتدت لهن متكأ) ، والمتكأ ، الطعام.
19194 - .... قال : حدثنا جرير عن ليث ، عن مجاهد : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : الطعام.

(16/73)


19195 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وأعتدت لهن متكأ) ، قال : طعامًا.
19196 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (مُتَّكَأً) ، فهو كل شيء يجزّ بالسكين.
* * *
قال أبو جعفر : قال الله تعالى ذكره ، مخبرًا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي تحدَّثن بشأنها في المدينة : (وآتت كل واحدة منهن سكينًا) ، يعني بذلك جل ثناؤه : وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتي حضرنها ، سكينًا لتقطع به من الطعام ما تقطع به. وذلك ما ذكرت أنَّها آتتهن إما من الأترج ، وإما من البزماورد ، أو غير ذلك مما يقطع بالسكين ، كما : -
19197 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وآتت كل واحدة منهن سكينًا) ، وأترجًّا يأكلنه.
19198 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : (وآتت كل واحدة منهن سكينًا) ، قال : أعطتهن أترجًّا ، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا.
19199 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وآتت كل واحدة منهن سكينًا) ، ليحتززن به من طعامهنّ.
19200 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وآتت كل واحدة منهن سكينا) ، وأعطتهن تُرنجًا وعسلا فكن يحززن الترنج بالسكين ، ويأكلن بالعسل.
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الكلمة بيانُ صحة ما قلنا واخترنا في قوله

(16/74)


(1) (وأعتدت لهن متكأ) . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوةَ السكاكينَ ، وترك ما لَهُ آتتهن السكاكين ، إذ كان معلومًا أن السكاكين لا تدفع إلى من دعي إلى مجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها. فاستغني بفهم السامع بذكر إيتائها صواحباتها السكاكين ، عن ذكر ما له آتتهن ذلك. فكذلك استغني بذكر اعتدادها لهنّ المتكأ ، عن ذكر ما يعتدُّ له المتكأ مما يحضر المجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء ; لفهم السامعين بالمراد من ذلك ، ودلالة قوله : (وأعتدت لهن متكأ) ، عليه . فأما نفس " المتكأ " فهو ما وصفنا خاصةً دون غيره.
* * *
وقوله : (وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه) ، يقول تعالى ذكره : وقالت امرأة العزيز ليوسف : (اخرج عليهن) ، فخرج عليهن يوسف (فلما رأينه أكبرنه) ، يقول جل ثناؤه : فلما رأين يوسف أعظمنه وأجللْنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19201 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال ، حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (أكبرنه) ، أعظمنه.
19202 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
19203 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح . قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
__________
(1) في المطبوعة : " وأخبرنا في قوله " ، لم يحسن قراءة المخطوطة .

(16/75)


19204 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلما رأينه أكبرنه) : ، أي : أعظمنه.
19205 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وقالت اخرج عليهن) ، ليوسف (فلما رأينه أكبرنه) : ، عظَّمنه.
19206 - حدثنا إسماعيل بن سيف العجلي ، قال : حدثنا علي بن عابس ، قال : سمعت السدي يقول في قوله : (فلما رأينه أكبرنه) ، قال : أعظمنه. (1)
19207 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (اخرج عليهن) ، فخرج ، فلما رأينه أعظمنه وبُهِتن.
19208 - حدثنا إسماعيل بن سيف . قال : حدثنا عبد الصمد بن علي الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده ، في قوله : (فلما رأينه أكبرنه) ، قال : حِضْن. (2)
19209 - حدثنا علي بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : (فلما رأينه أكبرنه) ، يقول : أعظمنه.
19210 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أعني القول الذي روي عن عبد الصمد ، عن أبيه ، عن جده ، في معنى(أكبرنه) ، أنه حِضْن إن لم يكن عَنَى به أنهن حضن من إجلالهن يوسف وإعظامهن لما كان الله قسم له من البهاء والجمال ، ولما يجد من مثل ذلك النساءُ عند معاينتهن إياه فقولٌ لا معنى له. لأن
__________
(1) الأثر : 19206 - " إسماعيل بن سيف العجلي " ، شيخ برقم الطبري مضى : 3843 ، وذكر أخي هناك أنه لم يجد له ترجمة ، وظنه " إسماعيل بن سيف ، أبو إسحاق " ، بل قطع بذلك . والله أعلم .
و " علي بن عابس الأسدي " ، ضعيف ، مضى برقم : 11233 .
(2) الأثر : 19208 - " إسماعيل بن سيف العجلي " ، انظر رقم : 19206
و " عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي " ، كان أميرًا بمكة ، وذكره العقيلي في الضعفاء . مترجم في ميزان الاعتدال 2 : 132 ، ولسان الميزان 4 : 21 .

(16/76)


تأويل ذلك : فلما رأين يوسف أكبرنه ، فالهاء التي في " أكبرنه " ، من ذكر يوسف ، ولا شك أن من المحال أن يحضنَ يوسف. ولكن الخبر ، إن كان صحيحًا عن ابن عباس على ما روي ، فخليقٌ أن يكون كان معناه في ذلك أنهن حضن لِمَا أكبرن من حسن يوسف وجماله في أنفسهن ، ووجدن ما يجد النساء من مثل ذلك.
* * *
وقد زعم بعض الرواة أن بعض الناس أنشده في " أكبرن " بمعنى حضن ، بيتًا لا أحسب أنَّ له أصلا لأنه ليس بالمعروف عند الرواة ، وذلك :
نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلا... نَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارَا (1)
وزعم أن معناه : إذا حضن (2) .
* * *
وقوله : (وقطعن أيديهن) ، اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : معناه : أنهن حَززن بالسكين في أيديهن ، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترُجّ .
* ذكر من قال ذلك :
19211 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وقطعن أيديهن) ، حزًّا حزًّا بالسكين.
19212 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وقطعن أيديهن) ، قال : حزًّا حزًّا بالسكاكين.
__________
(1) لسان العرب ( كبر ) .
(2) ذكر أبو منصور الأزهري ، عن أبي الهيثم أنه قال : " سألت رجلا من طيئ فقلت : يا أخا طيئ ، ألك زوجة ؟ قال : لا والله ما تزوجت ، وقد وعدت في ابنة عم لي . قلت : ما سنها ؟ قال : قد أكبرت أو : كبرت قلت : ما أكبرت ؟ قال : حاضت " . قال : الأزهري : " وإن صحت هذه اللفظة في اللغة بمعنى الحيض ، فلها مخرج حسن . وذلك أن المرأة أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغر إلى حد الكبر ، فقيل لها : أكبرت ، أي : حاضت فدخلت في حد الكبر الموجب عليها الأمر والنهي .

(16/77)


19213 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
19214 - .... قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وقطعن أيديهن) ، قال : حزًّا حزًّا بالسكين.
19215 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (وقطعن أيديهن) قال : جعل النسوة يحززن أيديهن ، يحسبن أنهن يقطعن الأترج.
19216 - حدثنا إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا علي بن عابس ، قال : سمعت السدي يقول : كانت في أيديهن سكاكين مع الأترج ، فقطعن أيديهنّ ، وسالت الدماء ، فقلن : نحن نلومك على حبّ هذا الرجل ، ونحن قد قطعنا أيدينا وسالت الدماء !
19217 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : جعلن يحززن أيديهن بالسكين ، ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الترنج ، قد ذهبت عقولهن مما رأين!
19218 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وقطعن أيديهن) ، وحززن أيديهن.
19219 - حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : جعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج.
19220 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وقطعن أيديهن) ، قال : جعلن يحززن أيديهن ، ولا يشعرن بذلك.

(16/78)


19221 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت ليوسف : ( اخرج عليهن ) ، فخرج عليهن ( فلما رأينه أكبرنه ) ، وغلبت عقولهن عجبًا حين رأينه ، فجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن ، ما يعقلن شيئًا مما يصنعن (وقلن حاش لله ما هذا بشرًا).
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهن قطعن أيديهن حتى أبنَّها ، وهن لا يشعرن.
* ذكر من قال ذلك :
19222 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قطعن أيديهن حتى ألقينَها.
19223 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (وقطعن أيديهن) ، قال : قطعن أيديهن حتى ألقينها.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عنهن أنهن قطَّعن أيديهن وهن لا يشعرن لإعظام يوسف ، وجائز أن يكون ذلك قطعًا بإبانة وجائز أن يكون كان قطع حزّ وخدش ولا قول في ذلك أصوب من التسليم لظاهر التنزيل.
* * *
19224 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن. (1)
__________
(1) الآثار 19224 - 19227 - حديث موقوف صحيح الإسناد ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 17 من طرق وبألفاظ مختلفة ، وخرجه الهيثمي بهذا اللفظ ، في مجمع الزوائد 8 : 203 . وبغير هذا اللفظ مطولا . وقال : " رواه الطبراني موقوفًا ، ورجاله رجال الصحيح " ثم ذكر هذا المختصر ، فقال : رواه الطبراني ، والظاهر أنه وهم " . وذلك أن نص الأول المطول : " أعطى يوسف وأمه ثلثي حسن الناس " .

(16/79)


19225 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، مثله .
19226 - .... وبه عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : قسم ليوسف وأمه ثلث الحسن.
19227 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الخلق.
19228 - حدثني أحمد بن ثابت ، وعبد الله بن محمد الرازيّان ، قالا حدثنا عفان ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أعطي يوسف وأمه شَطْرَ الحسن (1) .
19229 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي معاذ ، عن يونس ، عن الحسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطي يوسف وأمه ثلث
__________
(1) الأثر : 19228 - " أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي " ، " فرخويه " ، شيخ الطبري كذاب ، مضى برقم : 2055 .
و " عبد الله بن محمد الرازي " ، شيخ الطبري ، لم أعرفه ، وفي التاريخ : " حدثني عبد الله بن محمد ، وأحمد بن ثابت الشيان .. " ، ولا أدري ما هذا ؟
و " عفان " ، هو " عفان بن مسلم الصفار " ، ثقة من شيوخ أحمد والبخاري ، مضى برقم : 5392 ، أخرج له الجماعة .
و " حماد بن سلمة " ، ثقة ، مضى مرارًا .
و " ثابت " هو " ثابت بن أسلم الناني " تابعي ثقة ، مضى مرارًا .
وهذا خبر صحيح الإسناد ، ولا يضره كذب " أحمد بن ثابت " ، فالثقات قد رووه ، رواه أحمد في مسنده 3 : 286 ، عن عفان نفسه ، بهذا اللفظ .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 570 ، من طريق محمد بن إسحاق الصغاني ، ومحمد بن غالب بن حرب ، وإسحاق بن الحسن بن ميمون ، جميعًا عن عفان بن مسلم . بمثله ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
ورواه الطبري في تاريخه من هذا الطريق نفسه 1 : 173 .

(16/80)


حُسن أهل الدنيا ، وأعطي الناس الثلثين أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين ، وأعطي الناس الثلث.
19230 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ربيعة الجرشي ، قال : قسم الحسن نصفين ، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن ، والنصف الآخر بين سائر الخلق.
19231 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ربيعة الجرشي ، قال : قسم الحسن نصفين : فقسم ليوسف وأمه النصف ، والنصف لسائر الناس.
19232 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ربيعة الجرشي ، قال : قسم الحسن نصفين ، فجعل ليوسف وسارَة النصف ، وجعل لسائر الخلق نصف. (1)
19233 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عيسى بن يزيد ، عن الحسن : أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا ، وأعطي الناس الثلثين.
* * *
وقوله : (وقلن حاش لله) ، اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الكوفيين : (حَاشَ لِلّهِ) بفتح الشين وحذف الياء.
* * *
وقرأه بعض البصريين بإثبات الياء " حَاشَى لله " .
* * *
__________
(1) الآثار : 19230 - 19232 - " ربيعة الجرشي " ، مختلف في اسم أبيه ، وفي صحبته . فقيل في اسم أبيه " ربيعة بن عمرو " ، و " ربيعة بن الغاز " ، انظر ترجمته في الإصابة ، والكبير للبخاري 2 / 1 / 256 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 472 ، وابن سعد في الطبقات 7 / 2 / 150 ، وقال : " وفي بعض الحديث أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عنه ، قال : وكان ثقة ، وقتل يوم مرج راهط في ذي الحجة سنة 64 " .

(16/81)


وفيه لغات لم يقرأ بها : " حَاشَى اللهِ " ، كما قال الشاعر : (1)
حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ إِنَّ بِهِ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ (2)
* * *
وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بهذه اللغة : " حَشَى اللهَ " ، و " حاشْ اللهَ " ، (3) بتسكين الشين والألف ، يجمع بين الساكنين.
* * *
وأما القراءة فإنما هي بإحدى اللغتين الأوليين ، فمن قرأ : (حَاشَ لله) بفتح الشين وإسقاط الياء ، فإنه أراد لغة من قال : " حاشى لله " ، بإثبات الياء ، ولكنه حذف الياء لكثرتها على ألسن العرب ، كما حذفت العرب الألف من قولهم : " لا أب لغيرك " ، و " لا أب لشانيك " ، وهم يعنون : " لا أبا لغيرك " . و " لا أبا لشانيك " .
* * *
__________
(1) هو الجميح ، منقد بن الطماح الأسدي ، ونسب لسبرة بن عمرو الأسدي .
(2) المفضليات 718 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 310 ، والخزانة 2 : 150 ، والعيني ( بهامش الخزانة ) 4 : 129 ، واللسان ( حشى ) في موضعين ، بروايتين ، وهو من شعر له هجا فيه بني رواحه بن قطيعة بن عبس ، ويستثنى منهم عمرو بن عبد الله أبا ثوبان ، يقول : وَبَنُو رَوَاحَةَ يَنْظُرُونَ إذَا ... نَظَرَ النَّدِيُّ بِآنُفٍ خُثْمِ
حَاشَا أبِي ثَوْبَانَ إنّ أبَا ... ثَوْبَان لَيْسَ بِبُكْمَةٍ فَدْمِ
عَمْرُو بنَ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وخلط في الشعر أبو عبيدة وغيره ، وفي المخطوطة " أبي ثروان " ، وفي اللسان في أحد الموضعين " أبي مروان " ، كأنه نقل محرف عن رواية " ثروان " ، إن صحت ، رواه المفضل " حاشى أبا ثوبان " بالنصب .
و " الندى " المجلس ، واراد أهله . و " الآنف " جمع " أنف " ، " الخثم " جمع " أخثم " ، وهو الأنف العظيم الكثير اللحم ، ليس برقيق ولا أشم ، وهو ذم .
و " البكمة " ، الأبكم ، و " الفدم " العيي الثقيل الفهم . و " الملحاة " مصدر ميمي من " لحوت الرجل ولحيته " ، إذا ألححت عليه باللائمة ، وكأنه يعني المشاغبة .
(3) في المطبوعة ، أسقط " حشى الله " ، وأثبتها منها .

(16/82)


وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يزعم أن لقولهم : " حاشى لله " ، موضعين في الكلام :
أحدهما : التنزيه.
والآخر : الاستثناء. وهو في هذا الموضع عندنا بمعنى التنزيه لله ، كأنه قيل : معاذ الله.
* * *
قال أبو جعفر : وأما القول في قراءة ذلك. فإنه يقال : للقارئ الخيار في قراءته بأي القراءتين شاء ، إن شاء بقراءة الكوفيين ، وإن شاء بقراءة البصريين ، وهو : (حَاشَ لله) و " حَاشَى لله " ، لأنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، وما عدا ذلك فلغات لا تجوز القراءة بها ، لأنا لا نعلم قارئًا قرأ بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19234 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وقلن حاش لله) ، قال : معاذ الله.
19235 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (حاش لله) ، معاذ الله.
19236 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وقلن حاش لله) : معاذ الله.
19237 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (حاش لله) : معاذ الله.
19238 - .... قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن عمرو ، عن الحسن : (حاش لله) : معاذ الله.

(16/83)


19239 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقوله : (ما هذا بشرًا) ، يقول : قلن ما هذا بشرًا ، لأنهن لم يرين في حسن صورته من البشر أحدًا ، فقلن : لو كان من البشر ، لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر ، ولكنه من الملائكة لا من البشر ، كما : -
19240 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وقلن حاش لله ما هذا بشرا) : ما هكذا تكون البشر!
* * *
وبهذه القراءة قرأ عامة قرأة الأمصار . وقد : -
19241 - حدثت عن يحيى بن زياد الفراء ، قال : حدثني دعامة بن رجاء التيمي وكان غَزَّاءً (1) عن أبي الحويرث الحنفي أنه قرأ : " ما هذا بِشِرًى " ، أي ما هذا بمشتري. (2)
* * *
يريد بذلك أنهن أنكرن أن يكون مثلُه مستعبدًا يشترى ويُبَاع.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه القراءة لا أستجيز القراءة بها ، لإجماع قرأة الأمصار على خلافها. وقد بينا أن ما أجمعت عليه ، فغير جائز خلافُها فيه.
* * *
وأما " نصب " البشر ، فمن لغة أهل الحجاز إذا أسقطوا " الباء " من الخبر نصبوه ، فقالوا : " ما عمرو قائمًا " . وأما أهل نجد ، فإن من لغتهم رفعه ، يقولون : " ما عمرو قائم " ; ومنه قول بعضهم حيث يقول :
__________
(1) كان في المطبوعة : " غرا " ، والصواب ما أثبت ، وهو كذلك في معاني القرآن .
(2) الأثر : 19241 - هو في معاني القرآن للفراء في تفسير الآية .

(16/84)


قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

(1)
لَشَتَّانَ مَا أَنْوِي وَيَنْوِي بَنُو أَبِي... جَمِيعًا ، فَمَا هَذَانِ مُسْتَوِيَانِ... تَمَنَّوْا لِيَ المَوْتَ الَّذِي يَشْعَبُ الفَتَى... وَكُلُّ فَتًى وَالمَوْتُ يَلْتَقِيَانِ (2)
وأما القرآن ، فجاء بالنصب في كل ذلك ، لأنه نزل بلغة أهل الحجاز.
* * *
وقوله : (إن هذا إلا مَلَك كريمٌ) ، يقول : قلن ما هذا إلا ملك من الملائكة ، كما : -
19242 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إن هذا إلا ملك كريم) ، قال : قلن : ملك من الملائكة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه ، وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وعُزوب الفهم وَلَهًا ، ألِهتُنّ حتى قطعتن أيديكن ، (3) هو الذي لمتنني في حبي إياه ، وشغف فؤادي به ، فقلتنّ : قد شغف امرأة العزيز فتاها حُبًّا ، إنا لنراها في ضلال مبين! ثم أقرّت لهن بأنها قد راودته عن نفسه ،
__________
(1) لم أعرف قائله .
(2) رواهما الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية .
(3) في المطبوعة : " وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتن .. " ، وأثبت الصواب من المخطوطة . و " عزوب الفهم " ، ذهابه . يقال : " عزب عنه حلمه يعزب عزوبًا " ، ذهب . وقوله : " ألهتن " من " أله يأله ألهًا " ، إذا تحير ، وأصله " وله ، يوله ، ولهًا " ، بمعنى واحد ، وإنما قلبت الواو همزة .

(16/85)


وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حق (1) فقالت : (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) ، مما راودته عليه من ذلك (2) كما : -
19243 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قالت : (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) : ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بَدَا له.
19244 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فاستعصم) ، أي : فاستعصى.
19245 - حدثني علي بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (فاستعصم) ، يقول : فامتنع.
* * *
وقوله : (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين) ، تقول : ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه ( ليسجنن ) ، تقول : ليحبسن (3) وليكونًا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن ، ولأهينَنَّه (4)
* * *
والوقف على قوله : " ليسجنن " ، بالنون ، لأنها مشددة ، كما قيل : (لَيُبَطِّئَنَّ) ، [سورة النساء : 72]
* * *
وأما قوله : (وليكونًا) فإن الوقف عليه بالألف ، لأنها النون الخفيفة ، وهي شبيهةُ نون الإعراب في الأسماء في قول القائل : " رأيت رجلا عندك " ، فإذا وقف على " الرجل " قيل : " رأيتُ رجلا " ، فصارت النون ألفًا. فكذلك ذلك في : " وليكونًا " ، ومثله قوله : ( لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ ) ، [سورة العلق : 15 ، 16] الوقف عليه بالألف لما ذكرت ; ومنه قول الأعشي :
__________
(1) انظر تفسير " المراودة " فيما سلف ص : 62 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " العصمة " فيما سلف 15 : 331 ، تعليق 2 : ، ولمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " السجن " فما سلف ص : 52 . "
(4) انظر تفسير " الصغار " فيما سلف 14 : 200 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/86)


قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)

وَصَلِّ عَلَى حَينِ العَشَيَّاتِ والضُّحَى... وَلا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا (1)
وإنما هو : " فاعبدن " ، ولكن إذا وقف عليه كان الوقف بالألف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) }
قال أبو جعفر : وهذا الخبر من الله يدلُّ على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه ، وتوعَّدته بالسّجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه ، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ; لأنها لو لم تكن عاودته وتوعَّدته بذلك ، كان محالا أن يقول : (ربّ السجن أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه) ، وهو لا يدعَى إلى شيء ، ولا يخوَّف بحبس.
* * *
و " السجن " هو الحبس نفسه ، وهو بيت الحَبْس.
* * *
وبكسر السين قرأه قرأة الأمصار كلها. والعرب تضع الأماكن المشتقة من الأفعال مواضع الأفعال (2) . فتقول : " طلعت الشمس مطلعًا ، وغربت مغربًا " ،
__________
(1) ديوانه : 103 ، وغيره كثير ، قاله عند إقباله على الإسلام ، ثم مات ميتة جاهلية والخبر مشهور ، ورواية ديوانه : وَذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَنْسُكَنَّهُ ... وَلا تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا
وَصَلِّ عَلَى حِينِ العَشِيَّاتِ والضُّحَى ... وَلا تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فاحْمَدا
وهي أجود الروايتين .
(2) " الأفعال " يعني " المصادر " ، وانظر ما سلف من فهارس المصطلحات .

(16/87)


فيجعلونها ، وهي أسماء ، خلفًا من المصادر ، فكذلك " السجن " ، فإذا فتحت السين من " السَّجن " كان مصدرًا صحيحًا.
* * *
وقد ذكر عن بعض المتقدمين أنه يقرأه : " السَّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ " ، بفتح السين . ولا أستجيز القراءة بذلك ، لإجماع الحجة من القرأة على خلافها.
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : قال يوسف : يا رب ، الحبس في السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه من معصيتك ، ويراودنني عليه من الفاحشة ، كما : -
19246 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : (قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه) : من الزنا.
19247 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف ، وأضاف إلى ربه ، واستغاثه على ما نزل به (1) ( رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه) ، أي : السجن أحبّ إليّ من أن آتي ما تكره.
* * *
وقوله : (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) ، يقول : وإن لم تدفع عني ، يا رب ، فعلهن الذي يفعلن بي ، في مراودتهن إياي على أنفسهن (2) " أصب إليهن " ، يقول : أمِلْ إليهن ، وأتابعهن على ما يُرِدن مني ويهوَيْن.
* * *
من قول القائل : " صَبا فلان إلى كذا " ، ومنه قول الشاعر :
__________
(1) في المخطوطة : " وأحاف إلى ربه واستغاثه " ، والصواب في الأولى ما في المطبوعة ، وفي المطبوعة " استعانه " ، فأثبت ما في المخطوطة . " أضاف إلى ربه " ، خاف وأشفق ، فلجأ إليه مستجيرًا به .
(2) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف ص : 49 ، تعليق 1 : ، والمراجع هناك .
وتفسير " الكيد " فيما سلف ص : 60 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/88)


(1)
إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي... وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19248 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (أصب إليهن) ، يقول : أتابعهن.
19249 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإلا تصرف عني كيدهن) ، أي : ما أتخوَّف منهن ( أصب إليهن).
19250 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ، قال : إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن منّي ولا عندي.
* * *
وقوله : (وأكن من الجاهلين) ، يقول : وأكن بصبوتي إليهن ، من الذين جهلوا حقك ، وخالفوا أمرك ونهيك ، (3) كما : -
19251 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وأكن من الجاهلين) ، أي : جاهلا إذا ركبت معصيتك.
* * *
__________
(1) هو يزيد بن ضبة الثقفي " .
(2) الأغاني 7 : 102 ( دار الكتب ) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 311 ، من أبيات له هو مطلعها ، وبعده : وهِنْدٌ غَادَةٌ غَيْدَا ... ءُ مِنْ جُرْثُومَةٍ غُلْبِ
وَمَا إنْ وَجَدَ النَّاسُ ... مِنَ الأدْوَاءِ كالحُبِّ
.
(3) انظر تفسير " الجهل " فيما سلف 13 : 332 ، تعليق : 1 ، 2 ، والمراجع هناك .

(16/89)


فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) }
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وما وجه قوله : (فاستجاب له ربه) ، ولا مسألةَ تقدَّمت من يوسف لربّه ، ولا دعا بصَرْف كيدهنَّ عنه ، وإنما أخبر ربه أن السجن أحب إليه من معصيته ؟
قيل : إن في إخباره بذلك شكايةً منه إلى ربه مما لقي منهنَّ ، وفي قوله : (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) ، معنى دعاءٍ ومسألةٍ منه ربَّه صرفَ كيدهِنَّ ، ولذلك قال الله تعالى ذكره : (فاستجاب له ربه) ، وذلك كقول القائل لآخر : " إن لا تزرني أهنك " ، فيجيبه الآخر : " إذن أزورَك " ، لأن في قوله : " إن لا تزرني أهنك " ، معنى الأمر بالزيارة.
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : فاستجاب الله ليوسف دعاءه ، فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصواحباتها من معصية الله ، كما : -
19252 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) ، أي : نجاه من أن يركب المعصية فيهن ، وقد نزل به بعض ما حَذر منهنَّ.
* * *
وقوله : (إنه هو السميع) ، دعاءَ يوسف حين دعاه بصرف كيد النسوة عنه ، ودعاءَ كل داع من خلقه (العليم) ، بمطلبه وحاجته ، وما يصلحه ، وبحاجة جميع خلقه وما يُصْلحهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السميع " و " العليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .

(16/90)


ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم بدا للعزيز ، زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه.
* * *
وقيل : " بدا لهم " ، ، وهو واحد ، لأنه لم يذكر باسمه ويقصد بعينه ، وذلك نظير قوله : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) ، [سورة آل عمران : 173] ، وقيل : إن قائل ذلك كان واحدًا.
* * *
وقيل : معنى قوله : (ثم بدا لهم) في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقًا ، ورأوا أن يسجنوه(من بعد ما رأوا الآيات) ببراءته مما قذفته به امرأة العزيز.
* * *
وتلك " الآيات " ، كانت قدَّ القميص من دُبُر ، وخمشًا في الوجه ، وقَطْعَ أيديهن ، كما : -
19253 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن نصر بن عوف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات) ، قال : كان من الآيات : قدٌّ في القميص ، وخمشٌ في الوجه. (1)
19254 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وابن نمير ، عن [نصر] ، عن عكرمة ، مثله. (2)
__________
(1) الأثر : 19253 - " نصر بن عوف " ، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك ، والذي عندي أنه " نضر بن عربي الباهلي " ، فهو الذي يروي عن عكرمة ، ويروي عنه وكيع ، وقد سلف مرارًا وانظر رقم : 1307 ، 5864 ، وسلف التحريف في اسمه كثيرًا .
(2) الأثر : 19254 - " نصر بن عوف " ، انظر التعليق السالف ، هو " نضر بن عربي " .

(16/91)


19255 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات) ، قال : قدُّ القميص من دبر.
19256 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (من بعد ما رأوا الآيات) ، قال : قدُّ القميص من دبر.
19257 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
19258 - .... قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19259 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (من بعد ما رأوا الآيات) ، قال : " الآيات " : حزُّهن أيديهن ، وقدُّ القميص.
19260 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قدُّ القميص من دبر.
19261 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه) ، ببراءته مما اتهم به ، من شق قميصه من دُبر (ليسجننه حتى حين).
19262 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (من بعد ما رأوا الآيات) ، القميصُ ، وقطع الأيدي.
* * *
وقوله : (ليسجننه حتى حين) ، يقول : ليسجننه إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحين " فيما سلف 1 : 540 / 12 : 359 .

(16/92)


وجعل الله ذلك الحبس ليوسف ، فيما ذكر ، عقوبةً له من همِّه بالمرأة ، وكفارة لخطيئته .
19263 - حدثت عن يحيى بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (ليسجننه حتى حين) ، عثر يوسف عليه السلام ثلاثَ عثرات : حين همَّ بها فسجن. وحين قال : (اذكرني عند ربك) ، فلبث في السجن بضع سنين ، وأنساه الشيطان ذكر ربه. وقال لهم : (إنكم لسارقون) ، فقالوا : ( إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل).
* * *
وذكر أن سبب حبسه في السجن ، كان شكوى امرأة العزيز إلى زوجها أمرَه وأمرَها ، كما : -
19264 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) ، قال : قالت المرأة لزوجها : إن هذا العبدَ العبرانيَّ قد فضحني في الناس ، يعتذر إليهم ، ويخبرهم أني راودته عن نفسه ، ولست أطيق أن أعتذر بعذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستَني. فذلك قول الله تعالى : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول هذه " اللام " في : (ليسجننه) .
فقال بعض البصريين : دخلت ههنا ، لأنه موضع يقع فيه " أيّ " ، فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه دخلته النون ، لأن النون تكون في الاستفهام ، تقول : " بدا لهم أيّهم يأخذنّ " ، أي : استبان لهم.
* * *
وأنكر ذلك بعض أهل العربية فقال : هذا يمين ، وليس قوله : " هل تقومن " بيمين ، و " لتقومن " ، لا يكون إلا يمينًا.
* * *

(16/93)


وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)

وقال بعض نحويي الكوفة : " بدا لهم " ، بمعنى " : القول " ، و " القول " يأتي بكل الكلام ، بالقسم وبالاستفهام ، فلذلك جاز : " بدا لهم قام زيد " ، و " بدا لهم ليقومن " .
* * *
وقيل : إن " الحين " في هذا الموضع معنِيٌّ به سبع سنين.
* ذكر من قال ذلك :
19265 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن داود ، عن عكرمة : (ليسجننه حتى حين) ، قال : سبع سنين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ودخل مع يوسف السجن فتيان فدل بذلك على متروكٍ قد ترك من الكلام ، وهو : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) ، فسجنوه وأدخلوه السجن ودخل معه فتيان ، فاستغنَى بدليل قوله : (ودخل معه السجن فتيان) ، على إدخالهم يوسف السجن ، من ذكره.
* * *
وكان الفتيان ، فيما ذكر ، (1) غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر ، أحدهما صاحبُ شرابه ، والآخر صاحبُ طعامه ، كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الفتى " فيما سلف 8 : 188 / 16 : 62 .

(16/94)


19266 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فطرح في السجن يعني يوسف ( ودخل معه السجن فتيان ) ، غلامان كانا للملك الأكبر الرّيان بن الوليد ، كان أحدهما على شرابه ، والآخر على بعض أمره ، في سَخْطَةٍ سخطها عليهما ، اسم أحدهما " مجلث " والآخر " نبو " ، و " نبو " الذي كان على الشراب.
19267 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ودخل معه السجن فتيان) ، قال : كان أحدهما خبازًا للملك على طعامه ، وكان الآخر ساقيه على شرابِه.
* * *
وكان سبب حبس الملك الفتيين فيما ذكر ، ما : -
19268 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : إن الملك غضب على خبَّازه ، بلغه أنه يريد أن يسمّه ، فحبسه وحبس صاحب شرابه ، ظنَّ أنه مالأه على ذلك. فحبسهما جميعًا ; فذلك قول الله : ( ودخل معه السجن فتيان ).
* * *
وقوله : (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرًا) ، ذكر أن يوسف صلوات الله عليه لما أدخل السجن ، قال لمن فيه من المحبَّسين ، وسألوه عن عمله : إني أعبُرُ الرؤيا : فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه : تعال فلنجربه ، كما : -
19269 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما دخل يوسف السجن قال : أنا أعبُرُ الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلمَّ نجرّب هذا العبد العبرانيّ فتراءَيَا له ! فسألاه ، (1) من غير أن يكونا رأيا شيئًا . فقال الخباز : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير
__________
(1) في المطبوعة : " نتراءى له " ، والصواب من المخطوطة ، والتاريخ .

(16/95)


منه ؟ وقال الآخر : إني أراني أعصر خمرًا ؟ (1)
19270 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئًا ، وإنما كانا تحالما ليجرِّبا علمه.
* * *
وقال قوم : إنما سأله الفَتَيان عن رؤيا كانا رأياها على صحةٍ وحقيقةٍ ، وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها .
* ذكر من قال ذلك :
19271 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رأى الفتيان يوسف ، قالا والله ، يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك.
19272 - .... قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك : أنشدكما الله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحدٌ قط إلا دخل عليَّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ، ثم لقد أحبني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ، ثم لقد أحبتني زوجةُ صاحبي هذا فدخل عليَّ بحبها إياي بلاء ، فلا تحباني بارك الله فيكما ! قال : فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان ، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله. وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا ، فرأى " مجلث " أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه ، ورأى " نبو " أنه يعصر خمرًا ، فاستفتياه فيها ، وقالا له : (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) ، إن فعلت.
* * *
وعني بقوله : (أعصر خمرًا) ، أي : إني أرى في نومي أني أعصر عنبًا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه .
19273 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي سلمة الصائغ ، عن
__________
(1) الأثر : 19269 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 176 .

(16/96)


إبراهيم بن بشير الأنصاري ، عن محمد بن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود : " إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا. (1)
* * *
وذكر أن ذلك من لغة أهل عمان ، وأنهم يسمون العنب خمرًا .
* ذكر من قال ذلك :
19274 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (إني أراني أعصر خمرًا) ، يقول : أعصر عنبًا ، وهو بلغة أهل عمان ، يسمون العنب خمرًا.
19275 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ; وثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : (إني أراني أعصر خمرًا) ، قال : عنبًا ، أرضُ كذا وكذا يدعُون العنب " خمرًا " .
19276 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : (إني أراني أعصر خمرًا) ، قال : عنبًا.
19277 - حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب ، (2) فنبتت ، فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ ، ثم سقيتهن الملك ، فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمرًا.
* * *
وقوله : (وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا
__________
(1) الأثر : 19273 - " أبو سلمة الصائغ " هو " راشد ، أبو سلمة الصائغ الفزاري " ، روى عن الشعبي ، وزيد الأحمسي ، وغيرهما . مترجم في الكبير 2 / 1 / 272 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 485 ، ولم يذكرا فيه جرحًا .
و " إبراهيم بن بشير الأنصاري " ، روى عن ابن الحنفية ، مترجم في الكبير 1 / 1 / 274 زابن أبي حاتم 1 / 1 / 89 .
وهذا الخبر ، ذكره البخاري في ترجمة " إبراهيم بن بشير " .
(2) " الحبلة " ( بفتح الحاء والباء ) ، القضيب من شجر الأعناب ، يغرس فينبت .

(16/97)


بتأويله) ، يقول تعالى ذكره : وقال الآخر من الفَتيين : إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزًا ; يقول : أحمل على رأسي فوضعت " فوق " مكان " على " (1) (تأكل الطير منه) ، يعني : من الخبز.
* * *
وقوله : (نبئنا بتأويله) ، يقول : أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنَّا رأيناه في منامنا ، ويرجع إليه ، (2) كما : -
19278 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (نبئنا بتأويله) ، قال : به قال الحارث ، قال أبو عبيد : يعني مجاهد أن " تأويل الشيء " ، هو الشيء . قال : ومنه : " تأويل الرؤيا " ، إنما هو الشيء الذي تؤول إليه.
* * *
وقوله : (إنا نراك من المحسنين) اختلف أهل التأويل في معنى " الإحسان " الذي وصف به الفتيان يوسف. (3)
فقال بعضهم : هو أنه كان يعود مريضهم ، ويعزي حزينهم ، وإذا احتاج منهم إنسان جَمَع له .
* ذكر من قال ذلك :
19279 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : كنت جالسًا معه ببلخ ، فسئل عن قوله : (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) ، قال : قيل له : ما كان إحسان يوسف ؟ قال : كان إذا مرض إنسان قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق أوْسَع له.
__________
(1) انظر تفسير " فوق " فيما سلف 13 : 430 .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) .
وتفسير " التأويل " فيما سلف ص : 20 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة ( حسن ) .

(16/98)


19280 - حدثنا إسحاق ، عن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : سأل رجل الضحاك عن قوله : (إنا نراك من المحسنين) ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن قامَ عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق عليه المكان وسَّع له.
19281 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن قتادة ، قوله : (إنا نراك من المحسنين) ، قال : بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم ، ويعزِّي حزينهم ، ويجتهد لربه . وقال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم ، واشتد بلاؤهم ، فطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجَروا ، إن لهذا أجرًا ، إن لهذا ثوابًا. فقالوا : يا فتى ، بارك الله فيك ، ما أحسن وجهك ، وأحسن خلقك ، لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحبُّ أنَّا كنا في غير هذا منذ حبسنا ، لما تخبرنا من الأجر والكفَّارة والطَّهارة ، فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ، ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله. وكانت عليه محبَّة. وقال له عامل السجن : يا فتى ، والله لو استطعت لخلَّيت سبيلك ، ولكن سأحسن جِوارك ، وأحسن إسارك ، فكن في أيِّ بيوت السجن شئت.
19282 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن خلف الأشجعي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في : (إنا نراك من المحسنين) ، قال : كان يوسع للرجل في مجلسه ، ويتعاهد المرضى.
* * *
وقال آخرون : معناه : (إنا نراك من المحسنين) ، إذا نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه.
* ذكر من قال ذلك :
19283 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : استفتياه في رؤياهما ، وقالا له : (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) ، إن فعلت.

(16/99)


قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)

* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة.
* * *
فإن قال قائل : وما وجهُ الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت ، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ، ليست من الخبَر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ، ويحسن إلى من احتاج في شيء ، وإنما يقال للرجل : " نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم " ، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم ، لا بغيره ؟
قيل : إن وجه ذلك أنهما قالا له : نبئنا بتأويل رؤيانا محسنًا إلينا في إخبارك إيانا بذلك ، كما نراك تحسن في سائر أفعالك : ( إنا نراك من المحسنين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (قال) يوسف للفتيين اللذين استعبراه الرؤيا : (لا يأتيكما) ، أيها الفتيان في منامكما (طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله) ، في يقظتكما (قبل أن يأتيكما).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :

(16/100)


19284 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : قال يوسف لهما : (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، في النوم (إلا نبأتكما بتأويله) ، في اليقظة.
19285 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف لهما : (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، يقول : في نومكما (إلا نبأتكما بتأويله).
* * *
ويعنى بقوله(بتأويله) : ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه.
* * *
وقوله : (ذلكما مما علمني ربي) ، يقول : هذا الذي أذكر أني أعلمه من تعبير الرؤيا ، مما علمني ربى فعلمته (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) وجاء الخبر مبتدأ ، أي : تركت ملة قوم ، والمعنى : ما ملت ، وإنما ابتدأ بذلك ، لأن في الابتداء الدليل على معناه.
* * *
وقوله : (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) ، يقول : إني برئت من ملة من لا يصدق بالله ، ويقرّ بوحدانيته (1) (وهم بالآخرة هم كافرون) ، يقول : وهم مع تركهم الإيمان بوحدانية الله ، لا يقرّون بالمعاد والبعث ، ولا بثواب ولا عقاب.
* * *
وكُررت " هم " مرتين ، فقيل : (وهم بالآخرة هم كافرون) ، لما دخل بينهما قوله : (بالآخرة) ، فصارت " هم " الأولى كالملغاة ، وصار الاعتماد على الثانية ، كما قيل : ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) [سورة النمل : 2/ سورة لقمان : 4 ] ، وكما قيل : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) [سورة المؤمنون : 35]
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملة " فيما سلف 12 : 561 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(16/101)


فإن قال قائل : ما وجه هذا الخبر ومعناه من يوسف ؟ وأين جوابه الفتيين عما سألاه من تعبير رؤياهما ، من هذا الكلام ؟
قيل له : إن يوسف كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما ، لما علم من مكروه ذلك على أحدهما ، فأعرض عن ذكره ، وأخذ في غيره ، ليعرضا عن مسألته الجوابَ عما سألاه من ذلك.
* * *
وبنحو ذلك قال أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك :
19286 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : (إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله) . ، قال : فكره العبارة لهما ، وأخبرهما بشيء لم يسألاه عنه ليريهما أن عنده علمًا . وكان الملك إذا أراد قتل إنسان ، صنع له طعامًا معلومًا ، فأرسل به إليه ، فقال يوسف : (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، إلى قوله : (تشكرون) . ، فلم يدَعَاه ، فعدل بهما ، وكره العبارة لهما. فلم يدعاه حتى يعبر لهما ، فعدل بهما وقال : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) ، إلى قوله : (يعلمون) ، فلم يدعاه حتى عبر لهما ، فقال : (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) . قالا ما رأينا شيئًا ، إنما كنا نلعب ! قال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
* * *
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن جريج ، فقوله : (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، في اليقظة لا في النوم ، . وإنما أعلمهما على هذا القول أنَّ عنده علم ما يؤول إليه أمر الطعام الذي يأتيهما من عند الملك ومن عند غيره ، لأنه قد علم النوعَ الذي إذا أتاهما كان علامةً لقتل من أتاه ذلك منهما ، والنوع الذي إذا أتاه كان علامة لغير ذلك ، فأخبرهما أنه عنده علم ذلك .
* * *

(16/102)


وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ، واتبعت دينهم لا دين أهل الشرك(ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) ، يقول : ما جاز لنا أن نجعل لله شريكًا في عبادته وطاعته ، بل الذي علينا إفراده بالألُوهة والعبادة(ذلك من فضل الله علينا) ، يقول : اتباعي ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب على الإسلام ، وتركي ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ، من فضل الله الذي تفضّلَ به علينا ، فأنعم إذ أكرمنا به (وعلى الناس) ، يقول : وذلك أيضًا من فضل الله على الناس ، إذ أرسلنا إليهم دعاةً إلى توحيده وطاعته(ولكن أكثر الناس لا يشكرون) ، يقول : ولكن من يكفر بالله لا يشكر ذلك من فضله عليه ، لأنه لا يعلم من أنعم به عليه ولا يعرف المتفضِّل به .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19287 - حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (ذلك من فضل الله علينا) ، أن جعلنا أنبياء(وعلى الناس) ، يقول : أن بعثنا إليهم رسلا.
19288 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،

(16/103)


يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)

قوله : (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس) ، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : يا رُبَّ شاكرٍ نعمةِ غيرِ منعم عليه لا يدري ، وربّ حامل فقه غيرِ فقيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) }
قال أبو جعفر : ذكر أن يوسف صلوات الله عليه قال هذا القول للفتيين اللذين دخلا معه السجن ، لأن أحدهما كان مشركًا ، فدعاه بهذا القول إلى الإسلام وترك عبادة الآلهة والأوثان ، فقال : (يا صاحبي السجن) ، يعني : يا من هو في السجن ، وجعلهما " صاحبيه " لكونهما فيه ، كما قال الله تعالى لسكان الجنة : فَـ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) وكذلك قال لأهل النار ، وسماهم " أصحابها " لكونهم فيها . (1)
* * *
وقوله : (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) ، يقول : أعبادة أرباب شتى متفرقين وآلهة لا تنفع ولا تضر ، خيرٌ أم عبادة المعبود الواحد الذي لا ثاني له في قدرته وسلطانه ، الذي قهر كل شي فذلله وسخره ، فأطاعه طوعًا وكرهًا . (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19289 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) انظر تفسير " الصاحب " ، فيما سلف من فهارس اللغة ( صحب ) .
(2) انظر تفسير " القهار " فيما سلف 13 : 42 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/104)


مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)

قوله : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون) إلى قوله : (لا يعلمون) ، لما عرف نبيُّ الله يوسف أن أحدهما مقتولٌ ، دعاهما إلى حظّهما من ربهما ، وإلى نصيبهما من آخرتهما.
19290 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يا صاحبي السجن) يوسفُ يقوله.
19291 - ... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19292 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم دعاهما إلى الله وإلى الإسلام ، فقال : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) ، أي : خيرٌ أن تعبدوا إلهًا واحدًا ، أو آلهة متفرقة لا تغني عنكم شيئا ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) }
قال أبو جعفر : يعنى بقوله : (ما تعبدون من دونه) ، ما تعبدون من دون الله .
وقال : (ما تعبدون) وقد ابتدأ الخطاب بخطاب اثنين فقال : (يا صاحبي السجن) لأنه قصد المخاطب به ، ومن هو على الشرك بالله مقيمٌ من أهل مصر ، فقال للمخاطَب بذلك : ما تعبد أنتَ ومن هو على مثل ما أنت عليه من عبادة الأوثان(إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) ، وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة أربابًا ،

(16/105)


شركًا منهم ، وتشبيهًا لها في أسمائها التي سمَّوها بها بالله ، تعالى عن أن يكون له مثل أو شبيه(ما أنزل الله بها من سلطان) ، يقول : سموها بأسماء لم يأذن لهم بتسميتها ، ولا وضع لهم على أن تلك الأسماء أسماؤها ، دلالةً ولا حجةً ، ولكنها اختلاق منهم لها وافتراء . (1)
* * *
وقوله : (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) ، يقول : وهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميعُ خلقه ، إلا الله الذي له الألوهة والعبادة خالصةً دون كل ما سواه من الأشياء ، كما : -
19293 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا أياه) ، قال : أسَّسَ الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له.
* * *
وقوله : (ذلك الدين القيم) ، يقول : هذا الذي دعوتكما إليه من البراءة من عبادة ما سوى الله من الأوثان ، وأن تخلصا العبادة لله الواحد القهار ، هو الدِّين القويم الذي لا اعوجاج فيه ، والحقُّ الذي لا شك فيه (2) (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، يقول : ولكن أهل الشرك بالله يجهلون ذلك ، فلا يعلمون حقيقته .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف 15 : 465 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " القيم " فيما سلف 14 : 237 .

(16/106)


يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه ، مخبرًا عن قِيل يوسف للذين دخلا معه السجن : (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) ، هو الذي رأى أنه يعصر خمرًا ، فيسقي ربَّه يعني سيده ، وهو ملكهم (1) " خمرا " ، يقول : يكون صاحب شرابه .
* * *
19294 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (فيسقي ربه خمرًا) ، قال : سيده.
* * *
وأما الآخر ، وهو الذي رأى أن على رأسه خبزًا تأكل الطير منه " فيصلب فتأكل الطير من رأسه " ، فذكر أنه لما عبَر ما أخبراه به أنهما رأياه في منامهما ، قالا له : ما رأينا شيئًا ! فقال لهما : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) يقول : فُرغ من الأمر الذي فيه استفتيتما ، (2) ووجب حُكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به . (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل العلم .
*ذكر من قال ذلك :
19295 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : قال اللذان دخلا السجن
__________
(1) انظر تفسير " الرب " فيما سلف ص : 32 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 15 : 151 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الاستفتاء " فيما سلف 9 : 253 ، 430 .

(16/107)


على يوسف : ما رأينا شيئًا ! فقال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
19296 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ، قال : لما قالا ما قالا أخبرهما ، فقالا ما رأينا شيئا ! فقال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
19297 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، في الفتيين اللذين أتيا يوسف والرؤيا ، إنما كانا تحالما ليجرّباه ، فلما أوَّل رؤياهما قالا إنما كنا نلعب ! قال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
19298 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئًا ، إنما كانا تحالما ليجرّبا علمه ، فقال أحدهما : إني أراني أعصر عنبًا! وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه ؟( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين )! قال : ( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه). فلما عبَّر ، قالا ما رأينا شيئًا! قال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ، على ما عبَّر يوسف.
19299 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال : لمجلث : أما أنت فتصلب فتأكل الطير من رأسك. وقال لنبو : أما أنت فتردُّ على عملك ، فيرضى عنك صاحبك ، (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) أو كما قال.
19300 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج........... فيه تستفتيان. (1)
__________
(1) هذا خبر سقط منه شيء كثير ، فوضعت النقط مكان السقط .

(16/108)


وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

19301 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ، عند قولهما : ما رأينا رؤيا إنما كنا نلعب ! قال : قد وقعت الرؤيا على ما أوَّلتُ.
19302 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (الذي فيه تستفتيان) ، فذكر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يوسف للذي علم أنه ناج من صاحبيه اللذين استعبراه الرؤيا : (1) (اذكرني عند ربك) يقول : اذكرني عند سيدك ، (2) وأخبره بمظلمتي ، وأني محبوس بغير جُرْم ، كما : -
19303 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، قال يعني لنبو(اذكرني عند ربك) : أي اذكر للملك الأعظم مظلمتي وحبسي في غير شيء ، قال : أفعل.
19304 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : (اذكرني عند ربك) قال للذي نجا من صاحبي السجن ، يوسف يقول : اذكرني عند الملك.
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظنن ) .
(2) انظر تفسير " الرب " فيما سلف ص : 107 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/109)


19305 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
19306 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أسباط : (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، قال : عند ملك الأرض.
19307 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (اذكرني عند ربك) ، يعني بذلك الملك.
19308 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، الذي نجا من صاحبي السجن ، يقول يوسف : اذكرني للملك.
19309 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي : أنه لما انتهى به إلى باب السجن ، قال له صاحبٌ له : حاجتَك أوصني بحاجتك ! قال : حاجتي أن تذكرني عند ربك سوى الربِّ ، قال يوسف. (1)
* * *
وكان قتادة يوجِّه معنى " الظن " في هذا الموضع ، إلى " الظنِّ " ، الذي هو خلاف اليقين .
19310 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، وإنما عبارة الرؤيا بالظن ، فيحقُّ الله ما يشاءُ ويُبْطِل ما يشاء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن تذكرني عند ربك ، ينوي الرب الذي ملك يوسف " ، غير ما في المخطوطة ، وأثبت ما فيها ، إلا أنه كان هنا " أن تذكرني عند رب " بغير كاف ، والصواب ما أثبت .

(16/110)


قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله قتادة ، من أن عبارة الرؤيا ظن ، فإن ذلك كذلك من غير الأنبياء . فأما الأنبياء فغير جائز منها أن تخبر بخبر عن أمر أنه كائنٌ ثم لا يكون ، أو أنه غير كائن ثم يكون ، مع شهادتها على حقيقة ما أخبرت عنه أنه كائن أو غير كائن ، لأن ذلك لو جاز عليها في أخبارها ، لم يُؤمَن مثل ذلك في كل أخبارها. وإذا لم يؤمن ذلك في أخبارها ، سقطت حُجَّتها على من أرسلت إليه . فإذا كان ذلك كذلك ، كان غير جائزٍ عليها أن تخبر بخبرٍ إلا وهو حق وصدق . فمعلومٌ ، إذ كان الأمر على ما وصفت ، أن يوسف لم يقطع الشهادة على ما أخبر الفتيين اللذين استعبراه أنه كائن ، فيقول لأحدهما : (أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) ، ثم يؤكد ذلك بقوله : (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ، عند قولهما : ( لم تر شيئا) ، إلا وهو على يقين أن ما أخبرهما بحدوثه وكونه ، أنه كائن لا محالة لا شك فيه. وليقينه بكون ذلك ، قال للناجي منهما : (اذكرني عند ربك) . فبيِّنٌ إذًا بذلك فسادُ القول الذي قاله قتادة في معنى قوله : (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) .
* * *
وقوله : (فأنساه الشيطان ذكر ربه) وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن غفلة عَرَضت ليوسف من قبل الشيطان ، نسي لها ذكر ربه الذي لو به استغاث لأسرع بما هو فيه خلاصه ، ولكنه زلَّ بها فأطال من أجلها في السجن حبسَه ، وأوجع لها عقوبته ، كما : -
19311 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، عن بسطام بن مسلم ، عن مالك بن دينار قال : لما قال يوسف للساقي : (اذكرني عند ربك) ، قال : قيل : يا يوسف ، اتخذت من دوني وكيلا ؟ لأطيلن حبسك! فبكى يوسف وقال : يا ربّ ، أنسى قلبي كثرة البلوى ، فقلت كلمة ، فويل لإخوتي.

(16/111)


19312 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أنه يعني يوسف قال الكلمة التي قال ، ما لبث في السجن طول ما لبث.
19313 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله يوسف لولا كلمته ما لبث في السجن طولَ ما لبث يعني قوله : (اذكرني عند ربك) ، قال : ثم يبكي الحسن فيقول : نحن إذا نزل بنا أمرٌ فزعنا إلى الناس .
19314 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : لولا كلمة يوسُف ، ما لبث في السجن طولَ ما لبث .
19315 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو لم يقل يوسف يعني الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث يعني حيث يبتغي الفرج من عند غير الله. (1)
19316 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو لم يستعن يوسف على ربّه ، ما لبث في السجن طول ما لبث. .
__________
(1) الأثر : 19315 - " إبراهيم بن يزيد الخوزي القرشي " ، متروك منكر الحديث ، ليس بثقة ، كان يتهم بالكذب . مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17313 .
فهذا خبر ضعيف الإسناد جدًا ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 39 ، مطولا ، قال : " رواه الطبراني ، وفيه إبراهيم بن يزيد القرشي المكي ، وهو متروك " . ورواه الطبري في تاريخه 1 : 177 .
أما سائر الأخبار قبله وبعده ، فهي مرسلة لا حجة في شيء منها .

(16/112)


19317 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لولا أنّ يوسف استشفع على ربه ، ما لبث في السجن طول ما لبث ، ولكن إنما عوقب باستشفاعه على ربّه .
19318 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قال له : (اذكرني عند ربك) ، قال : فلم يذكره حتى رأى الملك الرؤيا ، وذلك أن يوسف أنساه الشيطان ذكرَ ربه ، وأمره بذكر الملك وابتغاء الفرج من عنده ، فلبث في السجن بضع سنين) بقوله : (اذكرني عند ربك).
19319 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه غير أنه قال : فلبث في السجن بضع سنين ، عقوبةً لقوله : (اذكرني عند ربك).
19320 - ... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو ، سواء .
19321 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث المثنى ، عن أبي حذيفة .
* * *
وكان محمد بن إسحاق يقول : إنما أنسى الشيطانُ الساقي ذكر أمر يوسف لملكهم .
19322 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما خرج يعني الذي ظنّ أنه ناج منهما رُدّ على ما كان عليه ، ورضي عنه صاحبه ، فأنساه الشيطان ذكر ذلك للملك الذي أمره يوسف أن يذكره ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين . يقول جل ثناؤه : فلبث يوسف في السجن ، لقيله للناجي من صاحبي السجن من القيل : " اذكرني عند سيدك " ، بضع سنين ، عقوبةً له من الله بذلك.
* * *

(16/113)


واختلف أهل التأويل في قدر " البضع " الذي لبث يوسف في السجن.
فقال بعضهم : هو سبع سنين .
*ذكر من قال ذلك :
19323 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد أبو عثمة قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : لبث يوسف في السجن سبعَ سنين. (1)
19324 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلبث في السجن بضع سنين) ، قال : سبع سنين.
19325 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا عمران أبو الهذيل الصنعاني قال : سمعت وهبًا يقول : أصاب أيُّوب البلاء سبع سنين ، وترك في السجن يوسف سبع سنين ، وعذب بختنصر ، فحُوِّل في السباع سبع سنين. (2)
19326 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : زعموا أنها يعني " البضع " سبع سنين ، كما لبث يوسف.
* * *
وقال آخرون : " البضع " ، ما بين الثلاث إلى التسع .
*ذكر من قال ذلك :
19327 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال
__________
(1) الأثر : 19323 - " محمد ، أبو عثمة " ، هو : " محمد بن خالد بن عثمة " ، سلف مرارًا ، آخرها رقم : 10142 ، وانظر رقم : 5314 ، 5483 ، ورواية محمد بن بشار عنه ، وروايته هو عن " سعيد بن بشير " ، عن قتادة .
(2) الأثر : 19325 - " عمران أبو الهذيل الصنعاني " ، هو : " عمران بن عبد الرحمن بن مرثد " ، " أبو الهذيل " ثقة سمع وهب بن منبه ، وزياد بن فيروز ، والقاسم بن تنخسره . مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 301 .
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 177 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " يجول في السباع " والمخطوطة غير منقوطة . والصواب من التاريخ ، وعنى بقوله " حول في السباع " . أي : مسخ سبعًا من السباع .

(16/114)


قال : سمعت قتادة يقول : " البضع " ، ما بين الثلاث إلى التسع.
19328 - حدثنا وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد : (بضع سنين) ، قال : ما بين الثلاث إلى التسع.
* * *
وقال آخرون : بل هو ما دون العشر .
*ذكر من قال ذلك :
19329 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : (بضع سنين) ، دون العشرة.
* * *
وزعم الفراء أن " البضع " لا يذكر إلا مع " عشر " ، ومع " العشرين " إلى التسعين ، وهو " نَيِّفٌ " ما بين الثلاثة إلى التسعة . (1) وقال : كذلك رأيت العرب تفعل. ولا يقولون : " بضع ومئة " (2) ولا " بضع وألف " ، وإذا كانت للذكران قيل : " بضع " .
* * *
قال أبو جعفر : -
والصواب في " البضع " من الثلاث إلى التسع ، إلى العشر ، ولا يكون دون الثلاث. وكذلك ما زاد على العقد إلى المئة ، وما زاد على المئة فلا يكون فيه " بضع " .
* * *
__________
(1) الأثر : 19327 - : " ابن بشار " ، هو " محمد بن بشار " مضى مرارًا . و " سلمان " هو " وسليمان بن داود بن الجارود " ، أبو داود الطيالسي الإمام المشهور ، مضى مرارًا .
و " أبو هلال " هو " محمد بن سليم الراسبي " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 15351 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة " سمعت أبا قتادة " ، وهو خطأ ، فإن أبا هلال الراسبي ، يروي عن " قتادة " .
(2) هذه عبارة غير واضحة . وقد نقل صاحب اللسان عن ابن بري قال : " وحكى عن الفراء في قوله : " بضع سنين " ، أن " البضع " لا يذكر إلا مع العشر والعشرين إلى التسعين . ولا يقال فيما بعد ذلك يعني أنه يقال : مئة ونيف " . اللسان ( بضع ) .

(16/115)


وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) }
قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : وقال ملك مصر : إني أرى في المنام سبع بقرات سمانٍ يأكلهن سبعٌ من البقر عجاف . (1) وقال : " إني أرى " ، ولم يذكر أنه رأى في منامه ولا في غيره ، لتعارف العرب بينها في كلامها إذا قال القائل منهم : " أرى أني أفعل كذا وكذا " ، أنه خبر عن رؤيته ذلك في منامه ، وإن لم يذكر النوم . وأخرج الخبر جلّ ثناؤه على ما قد جرى به استعمال العرب ذلك بينهم .
* * *
(وسبع سنبلات خضر) ، يقول : وأرى سبع سُنْبلات خضر في منامي (وأخر) يقول : وسبعًا أخر من السنبل(يابسات يا أيها الملأ) ، (2) يقول : يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي (3) (أفتوني في رؤياي) ، فاعبروها ، (إن كنتم للرؤيا) عَبَرَةً . (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) لم يفسر " العجاف " في هذه الآية ، وسيفسرها فيما بعد في الآيات التالية .
(2) انظر تفسير " السنبلة " فيما سلف 5 : 512 - 515 .
(3) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف 15 : 466 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) " عبرة " جمع " عابر " ، وهو الذي يعبر الرؤيا ، ويفسرها .

(16/116)


19330 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي قال ، إن الله أرى الملك في منامه رؤيا هالته ، فرأى سبع بقرات سمانٍ يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، فجمع السحرة والكهنة والحُزَاة والقافة ، (1) فقصَّها عليهم ، فقالوا : ( أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين). (2)
19331 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم إن الملك الريان بن الوليد رأى رؤياه التي رأى فهالته ، وعرف أنها رؤيا واقعة ، ولم يدر ما تأويلها ، فقال للملأ حوله من أهل مملكته : (إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) إلى قوله : (بعالمين).
* * *
__________
(1) " الحزأة " جمع " حاز " ، وهو المتكهن ، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه ، ويقال للذي ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره ، فربما أصاب : " الحزاء " . وجاء في تاريخ الطبري " الحازة والقافة " ، كأنه جمع آخرها على غير القياس . وفي جمعه أيضًا " الحوازي " .
و " القافة " جمع " قائف " ، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها ، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه .
(2) الأثر : 19330 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 177 ، مطولا .

(16/117)


قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال الملأ الذين سألهم ملك مصر عن تعبير رؤياه : رؤياك هذه " أضغاث أحلام " ، يعنون أنها أخلاطٌ ، رؤيا كاذبةٌ لا حقيقة لها .
* * *
وهي جمع " ضغث " ، و " الضغث " أصله الحزمة من الحشيش ، يشبه بها الأحلام المختلطة التي لا تأويل لها و " الأحلام " ، جمع حلم ، وهو ما لم

(16/117)


يصدق من الرؤيا ، ومن " الأضْغَاث " قول ابن مقبل :
خَوْدٌ كَأَنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ... أضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شَمَالٍ (1)
ومنه قول الآخر : (2)
يَحْمِي ذِمَارَ جَنِينٍ قَلَّ مَانِعُهُ... طَاوٍ كَضِغْثِ الخَلا فِي البَطْنِ مُكْتَمِن (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (أضغاث أحلام) يقول : مشتبهة.
19333 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (أضغاث أحلام) ، كاذبة.
19334 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، لما قصّ الملك رؤياه التي رأى على أصحابه ، قالوا : ( أضغاث أحلام) ، أي فعل الأحلام.
19335 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أضغاث أحلام) ، قال : أخلاط أحلام(وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين).
19336 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك قال ، " أضغاث أحلام " ، كاذبة.
__________
(1) لم أجده في غير هذا المكان . و " الخود " ، الفتاة الناعمة الشابة . و " الشمال " هي الريح المعروفة ، وهي الباردة . وما أطيب ما وصف ابن مقبل وما أبصره !
(2) لم أعرف قائله .
(3) هذا بيت لم أجده ، ولا أحسن تفسيره مفردًا .

(16/118)


وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)

19337 - ... قال ، حدثني المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " قالوا أضغاث " قال : كذب.
19338 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (أضغاث أحلام) ، هي الأحلام الكاذبة.
* * *
وقوله : (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) ، يقول : وما نحن بما تئول إليه الأحلام الكاذبة بعالمين . (1)
* * *
والباء الأولى التي في " التأويل " من صلة " العالمين " ، والتي في " العالمين " " الباء " التي تدخل في الخبر مع " ما " التي بمعنى الجحد ورفع " أضغاث أحلام " ، لأن معنى الكلام : ليس هذه الرؤيا بشيء ، إنما هي أضغاث أحلام .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال الذي نجا من القتل من صاحبي السجن اللذين استعبرا يوسف الرؤيا(وادّكر) ، يقول : وتذكر ما كان نسي من أمر يوسف ، وذِكْرَ حاجته للملك التي كان سأله عند تعبيره رؤياه أن يذكرها
__________
(1) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف ص : 98 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/119)


له بقوله : (اذكرني عند ربك)(بعد أمة) ، يعني بعد حين ، كالذي : -
19339 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس : (وادّكر بعد أمة) ، قال : بعد حين (1) .
19340 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، مثله .
19341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، مثله .
19342 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش : (وادّكر بعد أمة) ، بعد حين.
19343 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين قال : (وادّكر بعد أمة) ، قال : بعد حين.
19344 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس مثله .
19345 - ....قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وادّكر بعد أمة) ، يقول : بعد حين.
19346 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (وادّكر بعد أمة) ، قال : ذكر بعد حين.
19347 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : (وادكر بعد أمة) بعد حين.
__________
(1) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف .... ، تعليق : ..... ، والمراجع هناك .

(16/120)


19348 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، مثله .
19349 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، مثله .
19350 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وادّكر بعد أمة) ، بعد حين.
19351 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن كثير : (بعد أمة) : بعد حين قال ابن جريج : وقال ابن عباس : (بعد أمة) ، بعد سنين.
19352 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وادّكر بعد أمة) ، قال : بعد حين.
19353 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة : (وادّكر بعد أمة) ، أي : بعد حقبة من الدهر.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا التأويل على قراءة من قرأ : (بَعْدَ أُمَّةٍ) بضم الألف وتشديد الميم ، وهي قراءة القرأة في أمصار الإسلام .
* * *
وقد روي عن جماعة من المتقدمين أنهم قرءوا ذلك : " بَعْدَ أَمَةٍ " بفتح الألف ، وتخفيف الميم وفتحها بمعنى : بعد نسيان .
* * *
وذكر بعضهم أن العرب تقول من ذلك : " أمِهَ الرجل يأمَهُ أمَهًا " ، إذا نسي .
* * *
وكذلك تأوّله من قرأ ذلك كذلك .

(16/121)


ذكر من قال ذلك :
19354 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : " بَعْدَ أمَهٍ " ويفسّرها ، بعد نسيان.
19355 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا بهز بن أسد ، عن همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأ : " بَعْدَ أَمَهٍ " يقول : بعد نسيان.
19356 - حدثني أبو غسان مالك بن الخليل اليحمدي قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن أبي هارون الغنوي ، عن عكرمة أنه قرأ : " بَعْدَ أَمَهٍ " ، و " الأمه " : النسيان. (1)
19357 - حدثني يعقوب ، وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن علية ، قال ، حدثنا أبو هارون الغنوي ، عن عكرمة ، مثله .
19358 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، قال هارون ، وحدثني أبو هارون الغنوي ، عن عكرمة : " بَعْدَ أَمَهٍ " ، بعد نسيان.
19359 - ... قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة : " وَادَّكَرَ بَعْدَ أًمًهٍ " : بعد نسيان.
19360 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس : أي بعد نسيان.
19361 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " وادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " قال : من بعد نسيانه.
19362 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد
__________
(1) الأثر : 19356 - " مالك بن الخليل اليحمدي الأزدي " ، " أبو غسان " ، شيخ الطبري ، روى عنه النسائي وغيره ، مترجم في التهذيب .

(16/122)


بن زيد ، عن عبد الكريم أبي أمية المعلم ، عن مجاهد : أنه قرأ : " وادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " .
19363 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَةٍ) قال : بعد نسيان.
19364 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " يقول : بعد نسيان.
* * *
وقد ذكر فيها قراءة ثالثة ، وهي ما : -
19365 - حدثني به المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن حميد قال ، قرأ مجاهد : " وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمْهٍ " ، مجزومة الميم مخففة.
* * *
وكأنّ قارئ ذلك كذلك أراد به المصدرَ من قولهم : " أمه يأمَهُ أمْهًا " ، وتأويل هذه القراءة ، نظير تأويل من فتح الألف والميم .
* * *
وقوله : (أنا أنبئكم بتأويله) يقول : أنا أخبركم بتأويله (1) (فأرسلون) ، يقول : فأطلقوني ، أمضي لآتيكم بتأويله من عند العالم به .
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره استغناء بما ظهر عما ترك ، وذلك : " فأرسلوه ، فأتى يوسف ، فقال له " : يا يوسف ، يا أيها الصديق ، (2) كما : -
19366 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال الملك للملأ حوله : (إني أرى سبع بقرات سمان) ، الآية ، وقالوا له ما قال ،
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة
وتفسيره " التأويل " فيما سلف ص : 119 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الصديق " فيما سلف 8 : 530 - 532 / 10 : 485 .

(16/123)


وسمع نبو من ذلك ما سمع ومسألته عن تأويلها ، (1) ذكر يوسف وما كان عبَرَ له ولصاحبه ، وما جاء من ذلك على ما قال من قوله ، قال : (أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) ، يقول الله : (وادّكر بعد أمة) ، أي حقبة من الدهر ، فأتاه فقال : يا يوسف ، إن الملك قد رأى كذا وكذا ، فقصّ عليه الرؤيا ، فقال فيها يوسف ما ذكر الله لنا في الكتاب ، فجاءهم مثلَ فلق الصبح تأويلُها ، فخرج نبوا من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك ، وأخبره بما قال.
* * *
وقيل : إن الذي نجا منهما إنما قال : " أرسلوني " ، لأن السجن لم يكن في المدينة .
* ذكر من قال ذلك :
19367 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) ، قال ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة ، فانطلق الساقي إلى يوسف ، فقال : (أفتنا في سبع بقرات سمان) الآيات.
* * *
قوله : (أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) ، فإن معناه : أفتنا في سبع بقرات سمان رُئين في المنام ، يأكلهن سبعٌ منها عجاف وفي سبع سنبلات خضر رئين أيضًا ، وسبع أخر منهن يابسات . فأما " السمان من البقر " ، فإنها السنون المخصبة ، كما : -
19368 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) ، قال : أما السمان فسنون منها مخصبة ، وأما السبع العجاف ، فسنون مجدبة لا تنبت شيئًا.
19369 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " سمع " بغير " واو " ، والصواب إثباتها .

(16/124)


قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)

(أفتنا في سبع بقرات سمان) ، فالسمان المخاصيب ، والبقرات العجاف : هي السنون المحُول الجُدُوب.
* * *
قوله : (وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) ، أما(الخضر) فهن السنون المخاصيب وأما(اليابسات) فهن الجدوب المحول.
و " العِجاف " جمع " عَجِف " وهي المهازيل.
* * *
وقوله : (لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) ، يقول : كي أرجع إلى الناس فأخبرهم (لعلهم يعلمون) يقول : ليعلموا تأويل ما سألتك عنه من الرؤيا .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يوسف لسائله عن رؤيا الملك : (تزرعون سبع سنين دأبًا) يقول : تزرعون هذه السبع السنين ، كما كنتم تزرعون سائر السنين قبلها على عادتكم فيما مضى .
* * *
و " الدأب " ، العادة ، (1) ومن ذلك قول امرئ القيس :
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا... وَجَارَتِها أُمِّ الرَّبَابِ بِمأْسَلِ (2)
يعني كعادتك منها .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف 6 : 224 ، 225 / 14 : 19 .
(2) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 6 : 225 .

(16/125)


ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)

وقوله : (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون) ، وهذا مشورة أشار بها نبي الله صلى الله عليه وسلم على القوم ، ورأيٌ رآه لهم صلاحًا ، يأمرهم باستبقاء طعامهم ، كما : -
19370 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال لهم نبيّ الله يوسف : (تزرعون سبع سنين دأبًا) الآية ، فإنما أراد نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم البقاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) }
قال أبو جعفر : يقول : ثم يجيء من بعد السنين السبع التي تزرعون فيها دأبًا ، سنون سبع شداد ، يقول : جدوب قحطة(يأكلن ما قدمتم لهن) ، يقول : يؤكل فيهنّ ما قدمتم في إعداد ما أعددتم لهن في السنين السبعة الخصبة من الطعام والأقوات .
* * *
وقال جل ثناؤه : (يأكلن) ، فوصف السنين بأنهن( يأكلهن) ، وإنما المعنى : أن أهل تلك الناحية يأكلون فيهن ، كما قيل : (1)
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ (2)
__________
(1) هو عبد الله بن عبد الأعلى بن أبي عمرة .
(2) الأخبار الطوال : 333 ، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي : 225 ، تاريخ ابن كثير 9 : 206 ، وغيرها ، يقول : أَيَقْظَانُ أَنْتَ اليَوْمَ أَمْ أَنْتَ حَالِمُ ... وكيف يطيق النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كُنْتَ يَقْظَانَ الغَدَاةَ لَحَرَّقَتْ ... مَحَاجِرَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
بَلَ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... ولَيْلُكَ نَوْمٌ ، وَالرَّدَى لك لاَزِمُ
تُسَرُّ بِمَا يَبْلَى ، وَتُشْغَلُ بِالمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِالأَحْلامِ فِي النَّوْم نَائِمُ
وَسَعْيُكَ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ
فَلا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ يَوْمًا بِسَالِمٍ ... وَلا أَنْتَ فِي الأيْقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمُ
.

(16/126)


فوصف النهار بالسهو والغفلة ، والليل بالنوم ، وإنما يسهى في هذا ويغفل فيه ، وينام في هذا ، لمعرفة المخاطبين بمعناه والمراد منه.
* * *
( إلا قليلا مما تحصنون) ، يقول : إلا يسيرًا مما تحرزونه .
* * *
والإحصان : التصيير في الحصن ، وإنما المراد منه الإحراز .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19371 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : (يأكلن ما قدمتم لهن) ، يقول : يأكلن ما كنتم اتخذتم فيهن من القوت (إلا قليلا مما تحصنون).
19372 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) ، وهنّ الجدوب المحُول (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون).
19373 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) ، وهن الجدوب ، (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) ، مما تدَّخرون.

(16/127)


ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

19374 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : (إلا قليلا مما تحصنون) ، يقول : تخزنون.
19375 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (تحصنون) ، تحرزون.
19376 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) ، قال : مما تَرْفَعون.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال في قوله : (تحصنون) ، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيه ، فإن معانيها متقاربة ، وأصل الكلمة وتأويلها على ما بيَّنت .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) }
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالةً على نبوته وحجة على صدقة ، كما : -
19377 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : ثم زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون).
* * *
ويعني بقوله : (فيه يغاث الناس) ، بالمطر والغيث .
* * *
وبنحو ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :

(16/128)


19378 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) ، قال : فيه يغاثون بالمطر.
19379 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (فيه يغاث الناس) ، قال : بالمطر.
19380 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (ثم يأتي من بعد ذلك عام) ، قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه ، وكان الله قد علمه إياه ، ( عام فيه يغاث الناس) ، بالمطر.
19381 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فيه يغاث الناس) ، بالمطر.
* * *
وأما قوله : (وفيه يعصرون) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك .
*ذكر من قال ذلك :
19382 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (وفيه يعصرون) ، قال : الأعناب والدُّهْن.
19383 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (وفيه يعصرون) ، السمسم دهنًا ، والعنب خمرًا ، والزيتون زيتًا.
19384 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) ، يقول : يصيبهم غيث ، فيعصرون فيه العنب ، ويعصرون فيه الزيت ، ويعصرون من كل الثمرات.
19385 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن

(16/129)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وفيه يعصرون) ، قال : يعصرون أعنابهم.
19386 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : (وفيه يعصرون) ، قال : العنب.
19387 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وفيه يعصرون) ، قال : الزيت.
19388 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : " وفيه يعصرون " قال : كانوا يعصرون الأعناب والثمرات.
19389 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وفيه يعصرون) ، قال : يعصرون الأعناب والزيتون والثمار من الخصب. هذا علم آتاه الله يوسف لم يُسْأل عنه.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : (وفيه يعصرون) ، وفيه يَحْلِبون.
*ذكر من قال ذلك :
19390 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني فضالة ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (وفيه يعصرون) ، قال : فيه يحلبون.
19391 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثنا الفرج بن فضالة ، عن علي بن أبي طلحة قال : كان ابن عباس يقرأ : " وَفِيهِ تَعْصرُونَ " بالتاء ، يعني : تحتلبون.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض قرأة أهل المدينة والبصرة والكوفة : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ، بالياء ، بمعنى ما وصفت ، من قول من قال : عصر الأعناب والأدهان .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : " وَفِيهِ تَعْصِرُونَ " ، بالتاء .

(16/130)


وقرأ بعضهم : " وَفِيهِ يُعْصَرُونَ " ، بمعنى : يمطرون.
وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، لخلافها ما عليه قرأة الأمصار .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك أن لقارئه الخيارَ في قراءته بأي القراءتين الأخريين شاء ، إن شاء بالياء ، ردًّا على الخبر به عن " الناس " ، على معنى : فيه يُغاث الناس وفيه يَعْصرون أعنابهم وأدهانهم وإن شاء بالتاء ، ردًّا على قوله : (إلا قليلا مما تحصنون) ، وخطابًا به لمن خاطبه بقوله : (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) لأنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار باتفاق المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بهما . وذلك أن المخاطبين بذلك كان لا شك أنهم إذا أغيثوا وعَصَروا ، أغيث الناس الذين كانوا بناحيتهم وعصروا. وكذلك كانوا إذا أغيث الناس بناحيتهم وعصروا ، أغيث المخاطبون وعَصَروا ، فهما متفقتا المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بقراءة ذلك .
* * *
وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ، ممن يفسر القرآن برأيه على مَذهب كلام العرب ، (1) يوجه معنى قوله : (وفيه يعصرون) إلى : وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من " العَصَر " و " العُصْرَة " التي بمعنى المنجاة ، (2) من قول أبي زبيد الطائي :
صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ (3)
__________
(1) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى ، فهو قائل ذلك في كتابه مجاز القرآن 1 : 313 ، 314 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة (من العصر والعصر) التي بمعنى المناجاة ، والصواب من مجاز القرآن لأبي عبيدة .
(3) أمالي اليزيدي : 8 ، وجمهرة أشعار العرب : 138 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 313 واللسان ( نجد ) و ( عصر ) ، وغيرها ، من قصيدة رثى بها أخاه اللجلاج ، وكان مات عطشًا في طريق مكة . يقول قبله ، وهو من جيد الشعر : كُلَّ مَيْتٍ قَدِ اغْتَفَرَتُ فَلاَ أَجْـ ... ـزَعُ مِنْ وَالِدٍ وَلاَ مَوْلُودِ
غَيْرَ أَنَّ اللّجْلاجَ هَدَّ جَنَاحِي ... يَوْمَ فَارَقْتُهُ بِأَعْلَى الصَّعِيدِ
فِي ضَرِيحٍ عَلَيْهِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ ... مِنْ تُرَابٍ وَجَنْدَلٍ مَنْضودِ
عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ صَدٍ حَرَّ ... انَ يَدْعُو باللَّيْلِ غَيْرَ مَعُودِ
و " المنجود " المكروب ، والمقهور ، والهالك ، كله جيد .

(16/131)


أي المقهور. ومن قول لبيد :
فَبَاتَ وَأَسْرَى الْقَوْمُ آخِرَ لَيْلِهِمْ... وَمَا كَانَ وقافًا بِغَيْرِ مُعَصَّرِ (1)
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين .
* * *
وأما القول الذي رَوَى الفرج بن فضالة ، عن علي بن أبي طلحة ، (2) فقولٌ لا معنى له ، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب ، وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس.
* * *
__________
(1) ديوانه ، القصيدة 14 ، بيت رقم : 12 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 295 ، 314 ، واللسان ( عصر ) ، و غيرها ، من قصيدة ذكر فيها من هلك من قومه ، وهذا البيت من ذكر قيس بن جزء ابن خالد بن جعفر ، وكان خرج غازيًا فظفر ، فلما رجع مات فجأه على ظهر فرسه ، بات على فرسه ربيئة لأصحابه ، وعليه الدرع ، فهرأه البرد فقتله . ففي ذلك يقول لبيد : وقيسُ بن جَزْءٍ يَوْمَ نَادَى صِحَابَهُ ... فَعَاجُوا عَلَيْهِ مِنْ سَوَاهِمَ ضمَّرِ
طَوَتْهُ المَنَايَا فَوْقَ جَرْدَاءَ شَطْبَةٍ ... تَدِفُّ دَفِيفَ الطَّائحِ المُتَمَطِّرِ
فَبَات ........................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول : نادى صحابه ، فعطفوا عليه خيلا قد لوحها السفر وهزلها ، وقد أخذته يد الموت وهو على ظهر فرسه الجرداء الطويلة ، " تدف " ، أي تطير طيرانًا كما يفعل الطائر وهو قريب من وجه الأرض ، و " الرائح المتمطر " ، وهو الطائر الذي يؤوب إلى فراخه ، طائرًا في المطر ، هاربًا منه ، فذلك أسرع له .
يقول : فبات عليها هلكًا ، وسار أصحابه ، ولم يتأخر عنهم إلا لأمر أصابه . ورواية الديوان : " بدار معصر " ، وذكر الرواية الأخرى .
(2) انظر رقم : 19391 .

(16/132)


وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلى يوسف ، الذي قال : (أنا أنبئكم بتأويله فارسلون) فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك ، وقال الملك : ائتوني بالذي عبَر رؤياي هذه . كالذي : -
19392 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فخرج نبو من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك حتى أتى الملك ، فأخبره بما قال ، فلما أخبره بما في نفسه كمثل النهار ، (1) وعرف أن الذي قال كائن كما قال ، قال : " ائتوني به " .
19393 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لما أتى الملك رسوله قال : " ائتوني به " .
* * *
وقوله : (فلما جاءه الرسول) ، يقول : فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك (قال ارجع إلى ربك) ، يقول : قال يوسف للرسول : ارجع إلى سيدك (2) (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) ؟ وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابةَ الملك ، حتى يعرف صحّة أمره عندهم مما كانوا قرفوه به من شأن النساء ، (3) فقال للرسول : سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، والمرأة التي سجنت بسببها ؟ كما : -
__________
(1) في المطبوعة : " بمثل النهار " ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة ، والصواب ما أثبت .
(2) انظر تفسير " الرب " فيما سلف ص : 107 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) في المطبوعة : " قذفوه " ، وأثبت الصواب من المخطوطة . " قرفه بالشيء " ، اتهمه به .

(16/133)


19394 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) ، والمرأة التي سجنت بسبب أمرها ، عما كان من ذلك.
19395 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لما أتى الملك رسوله فأخبره ، قال : ( ائتوني به) ، فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك ، أبى يوسف الخروجَ معه (وقال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) الآية . قال السدي ، قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلمَ الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجَةٌ ! يقول : هذا الذي راود امرأته.
19396 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل ، عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة ! لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليَّ لخرجت سريعًا ، إن كان لحليمًا ذا أناة! (1)
19397 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم جاءني الداعي لأجبته ، إذ جاءه الرسول فقال : ( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) الآية . (2)
__________
(1) الأثر : 19396 - هذا حديث ضعيف الإسناد ، لإبهام الرجل الذي حدث عن أبي الزناد .
(2) الأثر : 19397 - حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق ، هذا ، والذي يليه ، ورقم : 19401 ، 19402 .
و " محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 12822 ، وغيرها قبله وبعده .
ومن طريق محمد بن عمرو ، ورواه أحمد في مسند أبي هريرة ، ونقله بإسناده ولفظه ابن كثير في تفسيره 4 : 448 ، قال : " حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة " . ولم أوفق لاستخراجه من المسند ، لطول مسند أبي هريرة .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 40 ، وقال : " قلت : له حديث في الصحيح غير هذا - رواه أحمد ، وفيه محمد بن عمرو ، وهو حسن الحديث " .

(16/134)


19398 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله . (1)
19399 - حدثنا زكريا بن أبان المصريّ قال ، حدثنا سعيد بن تليد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال ، حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي . (2)
19400 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله (3) .
19401 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان بن مسلم قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 19398 - مكرر الذي قبله .
" سليمان بن بلال التيمي " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11503 .
(2) الأثر : 19399 - : زكريا بن أبان المصري " ، هو " زكريا بن يحيى بن أبان المصري " ، شيخ الطبري ، وسلف برقم : 5973 ، 12803 ، وانظر ما كتبته عن الشك في أمره هناك . وكان في المطبوعة : " المقرئ " ، فكان " المصري " ، لم يحسن قراءة المخطوطة .
وهذا الخبر صحيح الإسناد ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 277 ) ، عن سعيد بن تليد ، بمثله مطولا ، وانظر التعليق التالي .
(3) الأثر : 19400 - هذه طريق أخرى للأثر السالف .
ومن هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه مطولا ( الفتح 6 : 293 - 295 ) ، واستقصى الحافظ شرحه وتخريجه هناك .
ورواه مسلم في صحيحه مطولا 2 : 183 / 15 : 122 ، 123 .

(16/135)


حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ هذه الآية : (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت أنا ، لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العُذر . (1)
19402 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ومحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قرأ : (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) ، الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو بعث إليَّ لأسرعت في الإجابة ، وما ابتغيت العذر. (2)
19403 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم بشيء حتى أشترط أن يخرجُوني.
ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم البابَ ، ولكنه أراد أن يكون له العذر. (3)
19404 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة) ، أراد نبيُّ الله عليه السلام أن لا يخرج حتى يكون له العذر.
19405 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الأثر : 19401 - من هذه الطريق رواه أحمد في مسنده ، وانظر التعليق على رقم : 19397 .
(2) الأثر : 19042 - هو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، كما بينته في رقم : 19397 .
(3) الأثر : 19403 - هذا حديث مرسل .

(16/136)


قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

ابن جريج ، قوله : (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) ، قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن.
* * *
وقوله : (إن ربي بكيدهن عليم) ، يقول : إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهن وأفعالهن التي فعلن ، بي ويفعلن بغيري من الناس ، لا يخفى عليه ذلك كله ، وهو من ورَاء جزائهن على ذلك . (1)
* * *
وقيل : إن معنى ذلك : إن سيدي إطفير العزيز ، زوج المرأة التي راودتني عن نفسي ، ذو علم ببراءتي مما قرفتني به من السوء. (2)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) }
قال أبو جعفر : وفي هذا الكلام متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : " فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته ، فدعا الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز " فقال لهن : (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) ، كالذي : -
19406 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فلما
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص : 88 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .
(2) في المطبوعة : " قذفتني به " ، والصواب من المخطوطة : أي : اتهمتني به .

(16/137)


جاء الرسول الملك من عند يوسف بما أرسله إليه ، جمع النسوة وقال : ( ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) ؟
* * *
ويعني بقوله : (ما خطبكن) ، ما كان أمركن ، وما كان شأنكن( إذ راودتن يوسف عن نفسه) (1) فأجبنه فقلن : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق) ، (2) تقول : الآن تبين الحق وانكشف فظهر ، (أنا راودته عن نفسه) وإن يوسف لمن الصادقين في قوله : (هي راودتني عن نفسي) .
* * *
وبمثل ما قلنا في معنى : (الآن حصحص الحق) ، قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19407 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (الآن حصحص الحق) ، قال : تبيّن.
19408 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (الآن حصحص الحق) ، تبيّن.
19409 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19410 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
__________
(1) انظر تفسير " المراودة " فيما سلف ص : 86 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " حاش الله " فيما سلف ص : 81 - 84 .

(16/138)


19412 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (الآن حصحص الحق) ، الآن تبين الحق.
19413 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : (الآن حصحص الحق) ، قال : تبيّن.
19415 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (الآن حصحص الحق) قال : تبين.
19416 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، مثله .
19417 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
19418 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قالت راعيل امرأة إطفير العزيز : (الآن حصحص الحق) ، أي : الآن برز الحق وتبيَّن (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) ، فيما كان قال يوسف مما ادّعَت عليه.
19419 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : قال الملك : ائتوني بهن! فقال : (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) ، ولكن امرأة العزيز أخبرتنا أنها راودته عن نفسه ، ودخل معها البيت وحلّ سراويله ، ثم شدَّه بعد ذلك ، ، فلا تدري ما بدا له .
فقالت امرأة العزيز : (الآن حصحص الحق).
19420 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (الآن حصحص الحق) ، تبين.
* * *

(16/139)


ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)

وأصل حَصحص : " حصَّ " ، ولكن قيل : " حصحص " ، كما قيل : (فَكُبْكِبُوا) ، [ سورة الشعراء : 94 ] ، في " كبوا " ، وقيل : " كفكف " في " كف " ، و " ذرذر " في " ذرّ " . (1) وأصل " الحص " : استئصال الشيء ، يقال منه : " حَصَّ شعره " ، إذا استأصله جزًّا . وإنما أريد في هذا الموضع بقوله : ( حصحص الحق ) ، (2) ذهب الباطل والكذب فانقطع ، وتبين الحق فظهر .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، هذا الفعل الذي فعلتُه ، من ردّي رسول الملك إليه ، وتركي إجابته والخروج إليه ، ومسألتي إيّاه أن يسأل النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن عن شأنهن إذ قطعن أيديهن ، إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته " بالغيب " ، يقول : لم أركب منها فاحشةً في حال غيبته عني . (3) وإذا لم يركب ذلك بمغيبه ، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيدًا من ركوبه ، كما : -
19421 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، يقول يوسف : (ذلك ليعلم) ، إطفير سيده (أني لم أخنه بالغيب) ، أني لم أكن لأخالفه إلى أهله من حيث لا يعلمه.
__________
(1) في المخطوطة : " وردرد " ، في : رد ، وكأن الصواب ما في المطبوعة . و " الذرذرة " ، تفريقك الشيء وتبديدك إياه . و " ذر الشيء " ، بدده .
(2) في المطبوعة : أسقط قوله : " بقوله " .
(3) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة ( غيب ) .

(16/140)


19422 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، يوسف يقوله.
19423 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) يوسف يقوله : لم أخن سيِّدي.
19424 - ....قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال يوسف يقوله.
19425 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال : هذا قول يوسف.
19426 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال هو يوسف ، لم يخن العزيز في امرأته.
19427 - حدِثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " ، هو يوسف يقول : لم أخن الملك بالغيب.
* * *
وقوله : (وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين) ، يقول : فعلت ذلك ليعلم سيدي أني لم أخنه بالغيب ( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) ، يقول : وأن الله لا يسدّد صنيع من خان الأمانات ، ولا يرشد فعالهم في خيانتهموها . (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
وتفسير " الكيد " فيما سلف ص : 137 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .

(16/141)


واتصل قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، بقول امرأة العزيز : (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) ، لمعرفة السامعين لمعناه ، كاتصال قول الله : (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) ، بقول المرأة : (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) ، [ سورة النمل : 34 ] وذلك أن قوله : (وكذلك يفعلون) ، خبر مبتدأ ، وكذلك قول فرعون لأصحابه في " سورة الأعراف " ، (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) ، وهو متصل بقول الملأ(يُريدُ أن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ) [ سورة الأعراف : 110 ] . (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 13 : 20 .

(16/142)


وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) }
قال أبو جعفر : يقول يوسف صلوات الله عليه : وما أبرئ نفسي من الخطأ والزلل فأزكيها(إن النفس لأمارة بالسوء) ، يقول : إن النفوسَ نفوسَ العباد ، تأمرهم بما تهواه ، وإن كان هواها في غير ما فيه رضا الله(إلا ما رحم ربي) يقول : إلا أن يرحم ربي من شاء من خلقه ، فينجيه من اتباع هواها وطاعتها فيما تأمرُه به من السوء (إن ربي غفور رحيم) .
* * *
و " ما " في قوله : (إلا ما رحم ربي) ، في موضع نصب ، وذلك أنه استثناء منقطع عما قبله ، كقوله : (ولا هُمْ يُنْقَذُونَ إلا رَحْمَةً مِنَّا) [ سورة يس : 43 ، 44 ] بمعنى : إلا أن يرحموا . و " أن " ، إذا كانت في معنى المصدر ، تضارع " ما " .
* * *

(16/142)


ويعني بقوله : (إن ربي غفور رحيم) ، أن الله ذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه ، بتركه عقوبته عليها وفضيحته بها " رحيم " ، به بعد توبته ، أن يعذبه عليها .
* * *
وذُكر أن يوسف قال هذا القول ، من أجل أن يوسف لما قال : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال ملك من الملائكة : ولا يومَ هممت بها! فقال يوسفُ حينئذ : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) .
* * *
وقد قيل : إن القائل ليوسف : " ولا يومَ هممت بها ، فحللت سراويلك " ! هو امرأة العزيز ، فأجابها يوسف بهذا الجواب .
* * *
وقيل : إن يوسف قال ذلك ابتداءً من قبل نفسه .
* * *
*ذكر من قال ذلك :
19428 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حَاشَ لله ، ما علمنا عليه من سوء! قالت امرأة العزيز : ( الآن حصحص الحق) الآية . قال يوسف : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال فقال له جبريل : ولا يوم هممت بما هممت! فقال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19429 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة ، قال لهن : أنتن راودتن يوسف عن نفسه ؟ ثم ذكر سائر الحديث ، مثل حديث أبي كريب ، عن وكيع.
19430 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو قال ، أخبرنا إسرائيل

(16/143)


عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع فرعون النسوة ، (1) قال : أنتن راودتن يوسف عن نفسه ؟ ثم ذكر نحوه غير أنه قال : فغمزه جبريل ، فقال : ولا حين هممت بها! فقال يوسف : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19431 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير قال : لما قال يوسف : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب). قال جبريل ، أو مَلَك : ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19432 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه إلا أنه قال : قال له المَلَك : ولا حين هممت بها ؟ ولم يقل : " أو جبريل " ، ثم ذكر سائر الحديث مثله.
19433 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، وأحمد بن بشير ، عن مسعر ، عن أبى حصين ، عن سعيد بن جبير : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال فقال له الملك أو : جبريل : ولا حين هممت بها ؟ فقال يوسف : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19434 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال : لما قال يوسف : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال له جبريل : ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19435 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، بمثله .
19436 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو قال ، أخبرنا مسعر ،
__________
(1) في المطبوعة : " لما جمع الملك " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(16/144)


عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، مثل حديث ابن وكيع ، عن محمد بن بشر وأحمد بن بشير سواءً .
19437 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، وزيد بن حباب ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال له جبريل : اذكر همَّك ! فقال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19438 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن الحسن : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قال جبريل : يا يوسف اذكر همك ! قال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19439 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال : هذا قول يوسف قال : فقال له جبريل : ولا حين حللت سراويلك ؟ قال فقال يوسف : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) ، الآية.
19440 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، بنحوه .
19441 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ذُكر لنا أن الملك الذي كان مع يوسف ، قال له : اذكر ما هممت به. قال نبي الله : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
19442 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : بلغني أن الملك قال له حين قال ما قال : أتذكر همك ؟ فقال : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي).
19443 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال الملك ،

(16/145)


وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)

وطَعَن في جنبه : يا يوسف ، ولا حين هممت ؟ قال : فقال : (وما أبرئ نفسي).
* * *
*ذكر من قال : قائل ذلك له المرأة.
19444 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) ، قال : قاله يوسف حين جيء به ، ليعلم العزيز أنه لم يخنه بالغيب في أهله ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. فقالت امرأة العزيز : يا يوسف ، ولا يوم حللت سراويلك ؟ فقال يوسف : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
* * *
* ذكر من قال : قائل ذلك يوسف لنفسه ، من غير تذكير مذكّر ذكره ولكنه تذكّر ما كان سلف منه في ذلك .
19445 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) ، هو قول يوسف لمليكه ، حين أراه الله عذره ، فذكر أنه قد همَّ بها وهمت به ، فقال يوسف : (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) }

(16/146)


قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " وقال الملك " ، يعني ملك مصر الأكبر ، وهو فيما ذكر ابن إسحاق : الوليد بن الرّيان .
19446 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عنه.
* * *
حين تبين عذر يوسف ، وعرف أمانته وعلمه ، قال لأصحابه : (ائتوني به أستخلصه لنفسي) ، يقول : أجعله من خُلصائي دون غيري.
* * *
وقوله : (فلما كلمه) ، يقول : فلما كلم الملك يوسفَ ، وعرف براءته وعِظَم أمانته قال له : إنك يا يوسف ، " لدينا مكين أمين " ، أي : متمكن مما أردت ، وعرض لك من حاجة قبلنا ، لرفعة مكانك ومنزلتك ، لدينا أمين على ما أؤتمنت عليه من شيء .
19447 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لما وجد الملك له عذرًا قال : (ائتوني به أستخلصه لنفسي).
19448 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (أستخلصه لنفسي) ، يقول : أتخذه لنفسي.
19449 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال الملك : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي) قال : قال له الملك : إني أريد أن أخلصك لنفسي ، غير أني آنَفُ أن تأكُل معي.
فقال يوسف : أنا أحق أن آنفَ ، أنا ابن إسحاق أو : أنا ابن إسماعيل أبو جعفر شكَّ ، وفي كتابي : ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.
19450 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل بنحوه غير أنه قال : أنا ابن إبراهيم خليل الله ، ابن إسماعيل ذبيح الله.
19451 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا

(16/147)


قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : قال العزيز ليوسف : ما من شيء إلا وأنا أحبُّ أن تشركني فيه ، إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي ، وأن لا يأكل معي عَبْدي ! قال : أتأنف أن آكل معك ؟ فأنا أحق أن آنف منك ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وابن إسحاق الذبيح ، وابن يعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن.
19452 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا سفيان بن عقبة ، عن حمزة الزيات ، عن ابن إسحاق ، عن أبي ميسرة قال : لما رأى العزيز لَبَقَ يوسف وكيسه وظَرْفه ، دعاه فكان يتغدى ويتعشى معه دون غلمانه. فلما كان بينه وبين المرأة ما كان ، قالت له : تُدْنِي هذا! مُرْهُ فليتغدَّ مع الغلمان. قال له : اذهب فتغدَّ مع الغلمان. فقال له يوسف في وجهه : ترغب أن تأكل معي أو تَنْكَف (1) أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : قال يوسف للملك : اجعلني على خزائن أرضك.
* * *
وهي جمع " خِزَانة " .
* * *
و " الألف واللام " دخلتا في " الأرض " خلفًا من الإضافة ، كما قال الشاعر :
__________
(1) يقال : " نكف من الشيء " و " استنكف منه " بمعنى واحد .

(16/148)


(1)
والأَحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ (2)
* * *
وهذا من يوسف صلوات الله عليه ، مسألة منه للملك أن يولّيه أمر طعام بلده وخراجها ، والقيام بأسباب بلده ، ففعل ذلك الملك به ، فيما بلغني ، كما : -
19453 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (اجعلني على خزائن الأرض) ، قال : كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام قال : فأسلم سلطانه كُلَّه إليه ، وجعل القضاء إليه ، أمرُه وقضاؤه نافذٌ.
19454 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي ، في قوله : (اجعلني على خزائن الأرض) ، قال : على حفظ الطعام (3) .
* * *
وقوله : (إني حفيظ عليم) اختلف أهل التأويل في تأويله.
فقال بعضهم : معنى ذلك : إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بما وليتني .
*ذكر من قال ذلك :
19455 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إني حفيظ عليم) ، إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما وليتني . قال : قد فعلت.
19456 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إني حفيظ عليم) ، يقول : حفيظ لما وليت ، عليم بأمره.
__________
(1) هو النابغة الذبياني .
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 5 : 160 /13 : 106 ، وهو : لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا الدَّهُرْ غَيْرَهُم ... مِنَ النَّاسِ ، والأَحْلامُ غيْرُ عَوَازِبِ
(3) الأثر : 19454 - " إبراهيم بن المختار التميمي " ، ممن يتقى حديثه ، وبخاصة من رواية محمد بن حميد عنه ، مضى برقم : 4038 ، 14365 ، 17631 .
و " شيبة الضبي " ، هو " شيبة بن نعامة الضبي " ، " أبو نعامة " ، ضعيف الحديث لا يحتج به ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 143 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 335 ، وميزان الاعتدال 1 : 452 ، ولسان الميزان 3 : 159 .
وانظر الإسناد الآتي رقم : 19457 .

(16/149)


وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)

19457 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي في قوله : (إني حفيظ عليم) يقول : إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني المجاعة. (1)
* * *
وقال آخرون : إني حافظ للحساب ، عليم بالألسن .
*ذكر من قال ذلك :
19458 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن الأشجعي : (إني حفيظ عليم) ، حافظ للحساب ، عليم بالألسن.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندنا بالصواب ، قولُ من قال : معنى ذلك : " إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما أوليتني " ، لأن ذلك عقيب قوله : (اجعلني على خزائن الأرض) ، ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض ، فكان إعلامه بأن عنده خبرةً في ذلك وكفايته إياه ، أشبه من إعلامه حفظه الحساب ، ومعرفته بالألسن . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
__________
(1) الأثر : 19457 - انظر بيانه في التعليق على رقم : 19454 .
(2) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف 15 : 449 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك
وتفسير " عليم " في فهارس اللغة ( علم ) .

(16/150)


قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وهكذا وطَّأنا ليوسف في الأرض (1) يعني أرض مصر (يتبوأ منها حيث يشاء) ، يقول : يتخذ من أرض مصر منزلا حيث يشاء ، بعد الحبس والضيق (2) (نصيب برحمتنا من نشاء) ، من خلقنا ، كما أصبنا يوسف بها ، فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار ، وبعد الإلقاء في الجبّ (ولا نضيع أجر المحسنين) ، يقول : ولا نبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه ، وعمل بما أمره ، وانتهى عما نهاه عنه ، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله . (3)
* * *
وكان تمكين الله ليوسف في الأرض كما : -
19459 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما قال يوسف للملك : (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) قال الملك : قد فعلت ! فولاه فيما يذكرون عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه ، يقول الله : (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) ، الآية. قال : فذكر لي ، والله أعلم أن إطفير هَلَك في تلك الليالي ، وأن الملك الرَّيان بن الوليد ، زوَّج يوسف امرأة إطفير راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيُّها الصديق ، لا تلمني ، فإني كنت امرأة كما ترى حسنًا وجمالا ناعمةً في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنتَ كما جعلك الله في حسنك وهيئتك ، فغلبتني نفسي على ما رأيت . فيزعمون أنه وجدَها عذراء ، فأصابها ، فولدت له رجلين : أفرائيم بن يوسف ، وميشا بن يوسف.
19460 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي
__________
(1) انظر تفسير " التمكين " فيما سلف ص : 20 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " تبوأ " فيما سلف 15 : 198 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الأجر " و " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة ( أجر ) ، ( حسن )

(16/151)


وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)

(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) قال : استعمله الملك على مصر ، وكان صاحب أمرها ، وكان يلي البيعَ والتجارة وأمرَها كله ، فذلك قوله : (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء).
19461 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (يتبوأ منها حيث يشاء) قال : ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا ، يصنع فيها ما يشاء ، فُوِّضَتْ إليه . قال : ولو شاء أن يجعَل فرعون من تحت يديه ، ويجعله فوقه لفعل.
19462 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن مجاهد قال : أسلم الملك الذي كان معه يوسف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولثواب الله في الآخرة( خير للذين آمنوا ) يقول : للذين صدقوا الله ورسوله ، مما أعطى يوسف في الدنيا من تمكينه له في أرض مصر (وكانوا يتقون) ، يقول : وكانوا يتقون الله ، فيخافون عقابه في خلاف أمره واستحلال محارمه ، فيطيعونه في أمره ونهيه .
* * *
* * *

(16/152)


وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم) ، يوسف ، (وهم) ليوسف(منكرون) لا يعرفونه .
* * *
وكان سبب مجيئهم يوسفَ ، فيما ذكر لي ، كما : -
19463 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما اطمأن يوسف في ملكه ، وخرج من البلاء الذي كان فيه ، وخلت السنون المخصبة التي كان أمرهم بالإعداد فيها للسنين التي أخبرهم بها أنها كائنة ، جُهد الناس في كل وجه ، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كل بلدة . وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد ، قد آسى بينهم ، (1) وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرًا واحدًا ، ولا يحمل للرجل الواحد بعيرين ، تقسيطًا بين الناس ، وتوسيعًا عليهم ، (2) فقدم إخوته فيمن قدم عليه من الناس ، يلتمسون الميرة من مصر ، فعرفهم وهم له منكرون ، لما أراد الله أن يبلغ ليوسف عليه السلام فيما أراد. (3)
19464 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : أصاب الناس الجوعُ ، حتى أصاب بلادَ يعقوب التي هو بها ، فبعث بنيه إلى مصر ، وأمسك أخا يوسف بنيامين ; فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون ; فلما نظر إليهم ، قال : أخبروني ما أمركم ، فإني أنكر شأنكم ! قالوا : نحن قوم من أرض الشأم . قال : فما جاء بكم قالوا : جئنا نمتار طعامًا . قال :
__________
(1) في المطبوعة : " أسا بينهم " ، والصواب من المخطوطة . و " آسى بين القوم " ، سوى بينهم ، وجعل كل واحد أسوة لصاحبه ، أي مثله .
(2) " التقسيط " التفريق ، أعطى لكل امرئ قسطًا ، وهو من العدل بينهم .
(3) في المطبوعة : " ما أراد " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .

(16/153)


وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)

كذبتم ، أنتم عيون ، كم أنتم ؟ قالوا : عشرة . قال : أنتم عشرة آلاف ، كل رجل منكم أمير ألف ، فأخبروني خبركم. قالوا : إنّا إخوة بنو رجل صِدِّيق ، وإنا كنا اثنى عشر ، وكان أبونا يحبّ أخًا لنا ، وإنه ذهب معنا البرية فهلك منا فيها ، وكان أحبَّنا إلى أبينا . قال : فإلى من سكن أبوكم بعده ؟ قالوا : إلى أخ لنا أصغر منه . قال : فكيف تخبروني أن أباكم صدِّيق ، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير ؟ ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) ، قال : فضعُوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا. فوضعوا شمعون.
19465 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وهم له منكرون) قال : لا يعرفونه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ (59) }
قال أبو جعفر : يقول : ولما حمَّل يوسف لإخوته أبا عرهم من الطعام ، فأوقر لكل رجل منهم بعيرَه ، قال لهم : (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) كيما أحمل لكم بعيرًا آخر ، فتزدادوا به حمل بعير آخر ، (ألا ترون أني أوفي الكيل) ، (1) فلا أبخسه
__________
(1) انظر تفسير " الإيفاء " فيما سلف 15 : 492 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الكيل " فيما سلف 15 : 446 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/154)


فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)

أحدًا(وأنا خير المنزلين) ، وأنا خير من أنزل ضيفًا على نفسه من الناس بهذه البلدة ، فأنا أضيفكم . كما :
19466 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وأنا خير المنزلين) ، يوسف يقوله : (1) أنا خيرُ من يُضيف بمصر.
19467 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما جهز يوسف فيمن جهَّز من الناس ، حَمَل لكل رجل منهم بعيرًا بعدّتهم ، ثم قال لهم : (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) ، أجعل لكم بعيرًا آخر ، أو كما قال(ألا ترون أني أوفي الكيل) ، أي : لا أبخس الناس شيئًا(وأنا خير المنزلين) : ، أي خير لكم من غيري ، فإنكم إن أتيتم به أكرمت منزلتكم وأحسنت إليكم ، وازددتم به بعيرًا مع عدّتكم ، فإني لا أعطي كلّ رجل منكم إلا بعيرًا(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) ، لا تقربوا بلدي.
19468 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) ، يعني بنيامين ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل يوسف لإخوته : (فإن لم تأتوني به) ، بأخيكم من أبيكم(فلا كيل لكم عندي) ، يقول : فليس لكم عندي طعام أكيله لكم(ولا تقربون) ، يقول : ولا تقربوا بلادي .
__________
(1) في المطبوعة : " يوسف يقول " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب .

(16/155)


قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

وقوله : (ولا تقربون) ، في موضع جزم بالنهي ، و " النون " في موضع نصب ، وكسرت لما حذفت ياؤها ، والكلام : ولا تقربُوني .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال إخوة يوسف ليوسف إذ قال لهم : (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) : (قالوا سنراود عنه أباه) ، ونسأله أن يخليّه معنا حتى نجيء به إليك (1) (وإنا لفاعلون) يعنون بذلك : وإنا لفاعلون ما قلنا لك إنا نفعله من مراودة أبينا عن أخينا منه ولنجتهدنَّ كما : -
19469 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وإنا لفاعلون) ، لنجتهدنّ.
* * *
وقوله : (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) ، يقول تعالى ذكره : وقال يوسف " لفتيانه " ، وهم غلمانه ، (2) كما : -
19470 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وقال لفتيانه) ، أي : لغلمانه.
* * *
(اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) ، يقول : اجعلوا أثمان الطعام التي أخذتموها منهم (3) " في رحالهم " .
__________
(1) انظر تفسير " المراودة " فيما سلف ص : 138 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الفتى " فيما سلف ص : 94 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " البضاعة " فيما سلف ص 4 - 7

(16/156)


و " الرحال " ، جمع " رَحْل " ، وذلك جمع الكثير ، فأما القليل من الجمع منه فهو : " أرْحُل " ، وذلك جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة .
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى " البضاعة " ، قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19471 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) : أي : أوراقهم (1)
19472 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم أمر ببضاعتهم التي أعطاهم بها ما أعطاهم من الطعام ، فجعلت في رحالهم وهم لا يعلمون.
19473 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : وقال لفتيته وهو يكيل لهم : " اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون " إليّ.
* * *
فإن قال قائل : ولأيّةِ علة أمر يوسف فتيانه أن يجعلوا بضاعة إخوته في رحالهم ؟
قيل : يحتمل ذلك أوجهًا :
أحدها : أن يكون خَشي أن لا يكون عند أبيه دراهم ، إذ كانت السَّنة سنة جَدْب وقَحْط ، فيُضِرُّ أخذ ذلك منهم به ، وأحبّ أن يرجع إليه .
أو : أرادَ أن يتسع بها أبوه وإخوته ، مع [قلّة] حاجتهم إليه ، (2) فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب ردّه ، تكرمًا وتفضُّلا.
__________
(1) " الأوراق " جمع " ورق " ( بفتح فكسر ) ، و " ورق " ( بفتحتين ) ، وهو الفضة ، أو المال كله ما كان .
(2) في المخطوطة : " وأراد " ، والصواب " أو " كما في المطبوعة . والذي بين القوسين ليس في المخطوطة أيضًا ، فزدته استظهارًا ، لحاجة المعنى إليه .

(16/157)


فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)

والثالث : وهو أن يكون أراد بذلك أن لا يخلفوه الوعد في الرجوع ، إذا وجدوا في رحالهم ثمن طعام قد قبضوه وملَكهُ عليهم غيرهم ، عوضًا من طعامه ، (1) ويتحرّجوا من إمساكهم ثمن طعام قد قبضوه حتى يؤدُّوه على صاحبه ، فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم( قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل) ، يقول : منع منا الكيل فوق الكيل الذي كِيلَ لنا ، ولم يكل لكل رجُلٍ منّا إلا كيل بعير - (فأرسل معنا أخانا) ، بنيامين يكتلَ لنفسه كيلَ بعير آخر زيادة على كيل أباعِرِنا(وإنا له لحافظون) ، من أن يناله مكروه في سفره .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19474 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا : يا أبانا إن ملك مصر أكرمنا كرامةَ ما لو كان رجل من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته ، وإنه ارتهن شمعون ، وقال : ائتوني بأخيكم هذا
__________
(1) في المطبوعة : " عوضًا من طعامهم " ، وإنما فعل ذلك لأن معنى الكلام خفي عليه .
وهو كلام بلا شك خفي المعنى ، ومعناه : أن هذا الثمن قد ملكه غيرهم ، وغلبهم على ملكه من أعطاهم هذا الطعام عوضًا عن الثمن .

(16/158)


الذي عكف عليه أبوكم بعد أخيكم الذي هلك ، فإن لم تأتوني به فلا تقربوا بلادي . قال يعقوب : (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين) ؟ قال : فقال لهم يعقوب : إذا أتيتم ملك مصر فاقرءوه مني السلام ، وقولوا : إن أبانا يصلِّي عليك ، ويدعو لك بما أوليتنا.
19475 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : خرجوا حتى قدموا على أبيهم ، وكان منزلهم ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالعرَبات من أرض فلسطين بِغَوْرِ الشأم وبعض يقول : بالأولاج من ناحية الشّعب ، أسفل من حِسْمى (1) وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل ، فقالوا : يا أبانا ، قدمنا على خير رجُلٍ ، أنزلنا فأكرم منزلنا ، وكال لنا فأوفانا ولم يبخسنا ، وقد أمرنا أن نأتِيَه بأخ لنا من أبينا ، وقال : إن أنتم لم تفعلوا ، فلا تقربُنِّي ولا تدخلُنّ بلدي. فقال لهم يعقوب : (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) ؟
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (نكتل) .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة ، وبعض أهل مكة والكوفة(نَكْتَلْ) ، بالنون ، بمعنى : نكتل نحن وهو .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة : " يَكْتَلْ " ، بالياء ؛ بمعنى يكتل هو لنفسه ، كما نكتال لأنفسنا .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ . وذلك أنهم إنما أخبروا أباهم أنه منع منهم زيادةَ الكيل على عدد رءوسهم ، فقالوا : (يا أبانا مُنع منا الكيل) ثم
__________
(1) في المخطوطة : " من حسو " ، والصواب ما في المطبوعة .

(16/159)


سألوه أن يرسل معهم أخاهم ليكتال لنفسه ، فهو إذا اكتال لنفسه واكتالوا هم لأنفسهم ، فقد دخل " الأخ " في عددهم . فسواءٌ كان الخبر بذلك عن خاصة نفسه ، أو عن جميعهم بلفظ الجميع ، إذ كان مفهوما معنى الكلام وما أريد به .
* * *

(16/160)


قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال أبوهم يعقوب : هل آمنكم على أخيكم من أبيكم الذي تسألوني أن أرسله معكم إلا كما أمنتكم على أخيه يوسف من قبل ؟ يقول : من قَبْلِه .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (فالله خير حافظا) .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حفِظًا ) ، بمعنى : والله خيركم حفظًا .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض أهل مكة : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ) بالألف على توجيه " الحافظ " إلى أنه تفسير للخير ، كما يقال : " هو خير رجلا " ، والمعنى : فالله خيركم حافظًا ، ثم حذفت " الكاف والميم " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما أهل علمٍ بالقرآن ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وذلك أن من وصف الله بأنه خيرهم حفظًا فقد وصفه بأنه خيرهم حافظًا ، ومن

(16/160)


وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

وصفه بأنه خيرهم حافظًا ، فقد وصفه بأنه خيرهم حفظًا
* * *
(وهو أرحم الراحمين) ، يقول : والله أرحم راحمٍ بخلقه ، يرحم ضعفي على كبر سنِّي ، ووحدتي بفقد ولدي ، فلا يضيعه ، ولكنه يحفظه حتى يردَّه عليَّ لرحمته .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما فتح إخوة يوسف متاعَهم الذي حملوه من مصر من عند يوسف(وجدوا بضاعتهم) ، وذلك ثمن الطعام الذي اكتالوه منه رُدّت إليهم ، (قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا) يعني أنهم قالوا لأبيهم : ماذا نبغي ؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا ! تطييبًا منهم لنفسه بما صُنع بهم في ردِّ بضاعتهم إليهم . (1)
* * *
وإذا وُجِّه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت " ما " استفهامًا في موضع نصب بقوله : (نبغي) .
* * *
وإلى هذا التأويل كان يوجِّهه قتادة .
19476 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله :
__________
(1) في المطبوعة : " ردت إليه " ، والجيد ما أثبت .

(16/161)


=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...