اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 3.و4. مروج الذهب المسعودي

 

مجلد 3. مروج الذهب المسعودي

إني لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المَعَادَ ولكن كان شيطانَا
أشقى مراد إذا عُدت قبائلها ... وأخْسَرُ الناس عند الله ميزانَا
كعاقر الناقة الأول التي جَلَبَتْ ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أنْ سوف يخضبهَا ... قبل المنية أزمانا فأزمانَا
فلاعَفَا الله عنه ماتحمله ... ولا سقى قبر عمران بن حطانَا
لقوله في شقي ظل مجترماً ... ونال ماناله ظلما ًوعدوانَا
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من في العرش رضوانا
بل ضربة من غوي أورثته لظى ... مخلدا قد أتى الرحمن غضبانَا
كأنه لم يرد قصداً بضربته ... إلا ليَصْلَى عذاب الخلد نيرانَا
ولعمران بن حطان ولأبيه حطان أخبار كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان في باب أخبار الخوارج من الأزارقة والأباضية والحمرية والصفرية والنجدية وغيرهم من فرق الخوارج إلى سنة ثمان عشرة وثلثمائة. وكان آخر من خرج منهم ربيعه المعروف بغيرون، فأدخل على المقتدر بالله، بعث به ابن حمدان من كفرتوتا، وقد كان خرج في أي أمه أيضاً المعروف بأبي شعيب.
وقد رثى الناس أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه في ذلك الوقت وإلى هذه الغاية، وذكروا مقتله، وممن رثاه في ذلك الوقت أبو الأسود الدؤلي من أبيات:
ألا أبلغ معاوية بن حَرْب ... فلا قَرت عيونُ الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونأ ... بخير الناس طرا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... ودَللها و من ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حَذَأها ... ومن قرأ المثاني والمبينا
إذا اسقبلت وجه أبي حسين ... رأيت النور فوق الناظرينا
لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حَسبأ ودينا
البرك ومعاوية
وانطلق البركُ الصريمي إلى معاوية فطعنه بخنجر في آليته وهو يصلي فأخذ وأوقف بين يديه، فقال له: ويلك! وما أنت؟ وما خبرك؛ قال: لا تقتلني وأخبره، قال: آنا تبايعنا في هذه الليلة عليك وعلى عليّ وعلى عمرو؛ فإن أردت فأحسبني عندك، فإن كانا قتلا وإلا خليت سبيلي فطلبت قتل عليّ، ولك علي أن أقتله وأن أتيك حتى أضع يدي في يدك، فقال بعض الناس: قتله يومئذ، وقال بعضهم: حسبه حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه.
زادويه وعمرو بن العاص
وانطلق زادويه - وقيل: إنه عمرو بن بكر التميمي - إلى عمرو بن العاص، فوجد خارجة قاضي مصر جالساً على السرير يطعم الناس في مجلس عمرو، وقيل: بل صلى خارجة بالناس الغداة ذلك اليوم، وتخلف عمرو عن الصلاة لعارض، فضربه بالسيف، فدخل عليه عمرو وبه رَمَقٌ، فقال له خارجة: والله ما أراد غيرك، فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة، وأوقف الرجل بين يدي عمرو، فسأله عن خبره؛ فقص عليه القصة وأخبره أن عليا ومعاوية قد قتلا في هذه الليلة، فقال: إن قتلا أو لم يقتلا فلا بد من قتلك، فبكى، فقيل له: أجزعاً من الموت مع هذا الإقدام؟! قال: لا واللّه، ولكن غماً أن يفوز صاحباي بقتل علي ومعاوية ولا أفوز أنا بقتل عمرو، فضربت عنقه وصلب.
وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل:
تِلكم قريش تَمَنانى لتقتلني ... فلا وربك ما بَروا وما ظفروا
فإن هلكت فَرَهْنٌ ذمتي لهم ... بذات وَدْقَيْنِ لا يعفو لها أثر
وكان يكثر من ذكر هذين البيتين:
أشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حًلّ بواديكا
وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه، فإنه قد خرج إلى المسجد، وقد عسر عليه فتح باب داره، وكان من جذوع النخل، فاقتلعه وجعله ناحية، وانحل إزاره، فشدَّه وجعل ينشد هذين البيتين المتقدمين.

وقد كان معاوية دسَ أناسا من أصحابه إلى الكوفة يشيعون موته، وأكْثَرَ الناسُ القول في ذلك حتى بلغ علياً، فقال في مجلسه: قد أكثرتم من نعي معاوية، واللّه ما مات ولا يموت حتى يملك ما تحت قدمي، وإنما أراد ابن أكلة الأكباد أن يعلم ذلك مني، فبعث مَنْ يشيع ذلك فيكم ليعلم ويتيقن ما عندي فيه، وما يكون من أمره في المستقبل من الزمان، ومَر في كلام كثير يذكر فيه أيام معاوية ومن تلاه من يزيد ومروان وبنيه وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب، فارتفع الضجيج، وكثر البكاء والشهيق، فقام قائم من الناس فقال: يا أمير المؤمنين، ولقد وصفت أمورا عظيمة، الله إن ذلك كائن؛ قال علي: والله إن ذلك لكائن، ما كذبت ولا كذبت، فقال آخرون: متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا خُضِبَتْ هذه من هذه، ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه، فأكثر الناسُ من البكاء، فقال: لا تبكوا في وقتكم هذأ فستبكون بعدي طويلا، مكاتب أكثر أهل الكوفة معاوية سِرّاً في أمورهم، واتخذوا عنده الأيادي، فواللّه ما مضت إلا أيام قلائل حتى كان - ذلك، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب - بعد ذكرنا لزهده ولمع من كل أمه - جملاً من أخباره أيضاً في أيام معاوية بن أبي سفيان، والله ولي التوفيق.
ذكر لمع من كلامه وأخباره وزهده
رضوان اللّه عليه
خيار العباد
لم يلبس عليه السلام في أي أمه ثوباً جديدأ، ولا أقتنى ضيعة ولا رَبْعأ، إلا شيئاً كان له بينبع مما تصدق به وحبسه.
والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة؛ وتداول الناس ذلك عنه قولأ وعملا.
وقيل له: مَنْ خيار العباد؟ قال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا وإذا أعطوا شكروا وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أغضبوا غفروا.
وصف الدنيا
وكان يقول: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، الدنيا مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحيه، ومَتْجَر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، ورِبحوا فيها الجنة، ومن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعَتْ نفسها وأهلها، ومثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بعافية؛تحذيراً وترغيباً وتخويفأ، فذمها رجال غبَّ الندامة، وحمدها آخرون غب المكافأة، ذكرتهم فذكروا تصاريفها، وصدقتهم فصدقوا حديثها، فيا أيها الذامُ للدنيا المغتر بغرورها، متى استدامت لك الدنيا؟ بل متى غرتك من نفسها؛ أبمضاجع آبائك من البلى؟ أم بمصارع أمه آتك من الثرى؟ كم قد عللت بكفك ومَرضْتَ بيدك من تبغي له الشفاء وتستوصف له الدواء من الأطباء! لم تنفعه بشفائك، ولم تسعف له بطلبتك، وقد مثلت ذلك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك: غداً لا ينفعك بكاؤك، ولا يغنى عنك أحِبِّاؤك - ولا تسمع في مدح الدنيا أحسن فن هذا.
ومما حفظ من كل أمه في بعض مقاماته في صفة الدنيا أنه قال: ألا إن الدنيا قد ارتحلت مُدْبرة، وإن الآخرة قد دنت مُقْبلة، ولهذه أبناء، ولهذه أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وكونوا من الزاهدين في الدنيا، والراغبين في الآخرة، إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطأ والتراب فراشاً والماء طيباً، وقَوَّضُوا الدنيا تقويضاً، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سَلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الآخرة سارع في المخيرات، ألا وإن للّه عباداً كأنهم يرون أهل الجنة في الجنة منعدين مخلدين، ويرون أهل النار في النار معذبين قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، أنفسهم عفيفة، وحاجتهم خفيفة صبروا أياماً قليلة فصارت لهم العقبى، راحة طويلة، أما الليل فصافُّو أقد أمه م، تجري دموعهم على خدوهم، يَجْأرون إلى ربهم، ويسعون في فكاك رقابهم، وأما النهار فعلماء حكماء بَرَرَة أتقياء، كأنهم القِدَاح بَرَاهم الخوف والعبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض، إن خولطوا فقد خالطهم أمر عظيم من ذكر النار ومن فيها.
وقال لابنه الحسن: يا بني، اسْتَغْنِ عمن شئت تكن نظيرهُ، وسل من شئت تكن حقيره، وأعط من شئت تكن أميره.

ودخل عليه رجل من أصحابه فقال: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت ضعيفاً مُذنباً، أكل رزقي، وأنتظر أجلي، قال: وما تقول في الدنيا؟ قال: وما أقول في دار أولها فم، وآخرها موت، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، حَلالُها حساب، ومراحها عقاب، قال: فأي الخلق أنعم؟ قال: أجساد تحت التراب، قد أمنت من العقاب، وهي تنتظر الثواب.
وصف علي عند معاوية
ودخل ضرار بن ضمرة - وكان من خواصِّ علي - على معاوية وافداً، فقال له: صف لي علياً، قال: أعْفِيِنِي يا أمير المؤمنين، قال معاوية: لا بد من ذلك، فقال: أما إذا كان لا بد من ذلك فإنه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلا، ويحكم عدلاً، يتفجرً العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يعجبه من الطعام ما خشن، ومن اللباس ما قصر.
وكان والله يجيبنا إذا دعوناه، ويعطينا إذا سألناه، وكنا واللّه - على تقريبه لنا وقربه منا - لا نكلمه هيبة له، ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا، يَبْسِم عن ثغر كاللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويرحم المساكين، ويطعم في المَسْغَبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، يكسو العُرَيَان، وينصر اللهفَان، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، وكأني به وقد أرْخَى الليل سُدُولَه، وغارت نجومه، وهو في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُري غيري، إلى تعرضت أم إليَّ تشوفت؟ هيهات هيهات!! لا حان حينك، قد أبنتك ثلاثاً لارَجْعة لي فيك، عمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك يسير، آه من قلَّة الزاد وبعد السفر ووَحْشَة الطريق.
من كل أمه
فقال له معاوية: زدني شيئاً من كل أمه ، فقال ضرار: كان يقول: أعجب ما في الإِنسان قلبه، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سَنَحَ له الرجاء أمَا لَهُ الطمع، وإن مال به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه القنوط قتله الأسف، وإن عَرَضَ له الغضب أشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة فضحه الفقر، وإن أجهده الجوع أقعده الضعف، وإن أفرط به الشبع كَظَّته البِطْنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
فقال له معاوية: زدني كلما وعيته من كل أمه ، قال: هيهات أن أتى على جميع ما سمعته منه، ثم قال: سمعته يوصي كميل بن زياد ذات يوم فقال له: يا كميل ذُب عن المؤمن فإن ظهره حِمى الله، ونفسه كريمة على اللّه، وظالمه خصم اللّه، وأحذركم من ليس له ناصر إلا الله.
قال: وسمعته يقول ذات يوم: إن هذه الدنيا إذا أقبلت على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سَلَبتهم محاسن أنفسهم.
قال: وسمعته يقول: بَطَر الغنى يمنع من عز الصبر.
قال: وسمعته يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة، وسكوته فكرة، وكل أمه حكمة.
وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - بعد أن قتل جعفر بن أي طالب الطيار بُمؤتة من أرضىِ الشام - لا يبعث بعلي في وجه من الوجوه إلا يقول: " رب لاَ تذَرْنِي فرداَ، وأنت خير الوارثين " .
وحمل علي يوم أحد على كردوس من المشركين خشن فكشفهم، فقال جبريل: يا محمد، إن هذه لهي المواساة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جبريل إن عليّاً مني " ، قال جبريل: وأنا منكم، كذلك ذكره إسحاق عن ابن إسرائيل وغيره.
ووقف عَلَى عَلِيٍّ سائل، فقال للحسن: قل أمك تدفع إليه درهماً، فقال: إنما عندنا ستة دراهم للدقيق، فقال علي: لا يكون المؤمن مؤمنَاَ حتى يكون بما في يد الله أوْثَقَ منه بما في يده، ثم أمر للسائل بالستة الدراهم كلها، فما برح علي رضي اللّه عنه حتى مر به رجل يقود بعيراً؛ فاشتراه منه بمائة وأربعين درهماً، وأنسأ أجَلَة ثمانية أيام، فلم يحلَّ أجله حتى مر به رجل والبعير معقول فقال: بكم هذا؟ فقال: بمائتي درهم، فقال: قد أخذته، فوزَنَ له الثمن، فدفع علي منه مائة وأربعين درهما للذي ابتاعه منه، ودخل بالستين الباقية على فاطمة عليها السلام، فسألته: من أين هي؟ فقال: هذه تصديقٌ لما جاء به أبوك صلى الله عليه وسلم: " مَنْ جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " .

وَمَرَّ ابن عباس بقوم ينالون من علي وشبونه، فقال لقائده: أدْنِنِي منهم، فأدناه، فقال: أيكم الساب اللّه؟ قالوا: نعوذ باللّه أن نسب اللّه، فقال: أيكم الساب صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: نعوذ باللّه أن نسب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكم الساب علي بن أبي طالب؟ قالوا: أما هذه فنعم، قال: أشهد لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " من سبني فقد سب الله، ومن سب عليا فقد سبني " فأطْرَقُوا، فلَمَّا ولى قال لقائدة: كيف رأيتهم؟ فقال:
نظروا إليك بأعين مُزوَزَة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال: زدني فداك أبي وامي، فقال:
خُزْرَ العيون مُنَكِّسِي أذقانهم ... نظر الذليل إلى العزير القاهر
قال: زدني فداك أبي وامي، قال: ما عندي مزيد، قال: ولكن عندى:
أحياؤهم تجني على أمواتهم ... والميتون فضيحة للغابر
وصيته يوم موته
وقد ذكر جماعة من أهل النقل عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي أن علياً قال في صبيحة الليلة التي ضربه فيها عبد الرحمن بن مُلْجم، بعد حمد اللّه والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم: كل امرئ ملاقيه ما يفر منه، والأجل تُسَاق النفس إليه، والهرت منه موافاته، كم اطردت الأيام أتحينها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه عز وجلّ إلا إخفاءه، هيهات علم مكنون، أما وصيتي فاللّه لا تشركوا به شيئاً، ومحمداً لا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، حمل كل امرئ منكم مجهوده، وخفف عن الحَمَلةِ رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم، كنا في إعصار ذي رياح تحت ظل غمامة اضمحل راكدها فمحطها من الأرض حيا، وبقي من بعدي جُنَّة جأواء، ساكنة بعد حركة، كاظمة بعد نُطْق، ليعظكم هدوئي وخُفُوتُ أطرافي، إنه أوعظ لكم من نطق البليغ، ودعتكم وداع امرئ مرصد لتلاق، وغدا ترون ويكشف عن ساق، عليكم السلام إلى يوم المرام، كنت بالأمس صاحبكم واليم عِظَةٌ لكم وغداً أفارقكم، إن أفق فأنا ولي دمي، وإن أمت فالقيامة ميعادي، والعفو أقرب للتقوى، ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم والله غفور رحيم.
تزهده في الدنيا
ومن خطبة قبل هذا وتزهده في هذه الدنيا قوله في بعض مقامات وخطبه: إن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع، وإن الآخرة قد أشرفت وأقبلت باطلاع، وإن المضمار اليوم والسباق غداً، ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله فقد حسن عمله وما قَصُرَ أجله، ومن قَصَّر في أيام أجله خسر أجله، ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، و كالنار نام هاربها، ألا إنه مَنْ لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم له الهدى يخزيه الضلال وقد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد وإن أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى وطول الأمل.
وفضائل علي ومقاماته ومناقبه ووصف زهده ونسكه أكثر من أن يأتي عليه كتابنا هذا أو غيره من الكتب، أو يبلغه إسهاب مسهب، أو إطناب مُطْنب، وقد أتينا على جمل من أخباره وزهده وسيره، وأنواع من كل أمه وخطبه في كتابنا المترجم بكتاب حدائق الأذهان، في أخبار آل محمد عليه السلام وفي كتاب مزاهر الأخبار، وطرائف الآثار، للصفوة النورية والذرية الزكية أبواب الرحمة وينابيع الحكمة.
فضائله رضي اللّه عنه
قال المسعودى: و الأشياء التي استحقبها بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفضلَ هي: السبق إلى الإيمان، والهجرة، والنصرة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والقربى منه والقناعة وبذل النفس له، والعلم بالكتاب والتنزيل، والجهاد في سبيل الله، والورع، والزهد، والقضاء، والحكم، والفقه والعلم وكل ذلك لعلي عليه السلام منه النصيبُ الأوفر، والحظ الأكبر، إلى ما ينفرد به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين أصحابه أنت أخي وهو صلى الله عليه وسلم لا ضد له، ولا ند، وقوله صلوات الله عليه: " أنت مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " وقوله عليه الصلاة والسلام: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعَادِ من عاداه " ثم دعاؤه عليه السلام وقد قدم إليه أنس الطائر: اللّهم أدخل إلي أحَبَّ خلقك إليك لأكل معي من هذا الطائر، فدخل عليه علي، إلى آخر الحديث، فهذا وغيره من فضائله وما اجتمع فيه من الخصال مما تفرق في غيره، ولكل فضائل ممن تقدم وتأخر، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، مخبر عن بواطنهم بموافقتها لظواهرهم بالإِيمان، وبذلك نزل اَلتنزيل، وتولى بعضهم بعضاً، فلما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي حدثت أمور تنازع الناس في صحتها منهم، وذلك غير يقين، ولا يقْطَع عليهم بها، واليقين من أمورهم ما تقدم، وما روى مما كان في أحداثهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فغير متيقن، بل هو ممكن، ونحن نعتقد فيهم ما تقدم، واللهّ أعلم بما حدث، واللّه ولي التوفيق.
/ذكر خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهما
ثم بويع الحسنُ بن علي بن أبي طالب بالكوفة بعد وفاة علي أبيه بيومين، في شهر رمضان من سنة أربعين، ووَجه عُمّاله إلي السَّوَاد والجبل.
وَقَتَلَ الحسنُ عبدَ الرحمن بن مُلْجَم، على حسب ما ذكرنا، ودخل معاوية الكوفة بعد صلح الحسن بن علي، لخمس بقين من شهر ربيع الأول في سنة إحدى وأربعين.
وكانت وفاة الحسن - وهو يومئذ ابنُ خمسٍ وخمسين سنة - بالسم.ودُفن بالبقيع مع أمه فاطِمَةَ بنت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق.
ذكر لمع من أخباره وسيره
رضي الله عنه
سم الحسن رضي اللّه عنه
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، قال: دخل الحسين عَلَى عمي الحسن بن علي لما سقي السم، فقام لحاجة الإنسان ثم رَجَع، فقال: لقد سقيت السم على مرار فما سقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أقلبه بعود في يدي، فقال له الحسين: يا أخي، مَنْ سَقَاك. قال: وما تريد بذلك. فإن كان الذي أظنه فاللهّ حسيبه وإن كان غيره فما أحِبُّ أن يؤخذ بي بريء، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى توفي، رضي اللّه عنه.
ذكر الذي سمّه
وذكر أن امرأته جَعْدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السم، وقد كان معاوية دسَّ إليها: إنك إن احتلْتِ في قتل الحسن وَجَّهت إليك بمائة ألف درهم، وزوَّجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سَمّه، فلما مات وَفَى لها معاوية بالمال، وأرسل إليها: إنا - نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه.
وذكر أن الحسن قال عند موته: لقد حَاقَتْ شربته، وبلغ أمنيته والله لا وَفَى لها بما وَعَدَ، ولا صدق فيما قال. وفي فعل جعد يقول النَّجَاشِيُّ الشاعر، وكان من شِيعَةِ عليّ، في شعر له طويل:
جعدُ بَكِّيهِ ولاتسامي ... بَعْدُ بُكاء المُعْوِل الثاكل
لم يُسْبَل الستر على مثله ... في الأرض من حَافٍ وَمِنْ ناعل
كان إذا شبتْ لَهُ ناره ... يرفعها بالسند الغاتل
كيما يراها بائس مُرْمِل ... وفرد قوم ليس بالآهل
يغلي بنيء اللحم، حتى إذا ... أنضجه لم يغل من آكل
أعني الذي أسْلَمَنَا هُلْكه ... للزمن المستحرج الماحل
وفي ذلك يقول اخرمن شِيعَةِ علي رضي اللهّ عنه:
تأَسَّ فكم لك من سَلْوَة ... تُفَرِّجُ عنك غليل ا لْحَزَنْ
بموت النَّبيّ، وقتل ا لْوَصِيِّ، ... وقتل ا لْحُسَيْن، وسم الْحَسَنْ

قال المسعودي رحمه اللهّ: ووجدت في كتاب الأخبار لأبي الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن صالح بن علي بن عطية الأصم قال: حدثنا عبد الرحمن بن العباس الهاشمي، عن أبي عون صاحب الدولة، عن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس، عن أبيه، عن جده، عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبل علي بن أبي طالب، فلما رآه أَسْفَرَ في وجهه، فقلت: يا رسول اللهّ، إنك لتُسْفِر في وجه هذا الغلام، فقال: ياعَمَّ رسول اللّه، واللهِّ اللّهُ أشد حباً له مِنِّي، إنه لم يكن نبيُّ إلا وذريته الباقية بعدي من صُلْبه، وإن ذريتي بعدي من صُلْب هذا، إنه إذا كان يوم القيامة دُعِيَ الناس بأسمائهم واسماء أمهاتهم ستراً من اللّه عليهم، إلا هذا وشيعته فإنهم يُدْعَوْنَ بأسمائهم السماء آبائهم لصحة ولادتهم.
رثاء ابن الحنفية للحسن:
ولما دُفن الحسن رضي اللهّ عنه وقَفَ محمد ابن الحنفيَّةِ أخوه على قبره، فقال: لئن عزت حياتُكَ، لقد هَدَّتْ وَفَاتك، ولنعم الروح روح تضمنه كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمن بدنك، وكيف لا تكون هكذا وأنت عقبة الهدى، وَخَلَفَ أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غَدَتْكَ بالتقوى أكفُّ الحق، وأرضعتك ثُدِيُّ الإيمان، وَرُبِّيتَ في حِجْرِ الِإسلام، فطِبْتَ حيّاً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك، رحمك اللهّ أبا محمد!.
ومن رثاء ابن الحنفية للحسن
ووجدت في وجه آخر من الروايات في أخبار أهل البيت أن محمداً وقف على قبره فقال: أبا محمد، لئن طابت حياتك، لقد فجع مماتك، وكيف لا تكون كذلك وأنت خامس أهل الكساء، وابن محمد المصطفى، وابن علي المرتضى، وابن فاطمة الزهراء، وابن شجرة طُوبَى. ثم أنشأ يقول رضي اللّه عنه:
أأدْهن رأسي أم تطيب مجالسي ... وَخدُّكَ معفور وأنت سليب.
أأشْرَب ماء المزن من غيرمَائِة ... وقد ضمن الأحشاء منك لهيب
سأبكيك ما ناحت حمامة أيْكَةٍ ... وما اخضر في دَوْح الحجاز قضيب
غريب وَأكْنَاف الحجاز تَحُوطه ... ألا كل من تحت التراب غريب
ووجدت في بعض كتب التواريخ في أخبار الحسن ومعاوية أن بخلافة الحسن صَحَّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، " الخلافة بعدي ثلاثين سنة " لأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه تَقَلَّدَهَا سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام، وعمر رضي اللّه عنه عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وعثمان رضي اللّه عنه إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، وعلي رضي اللهّ عنه أربع سنين وسبعة أشهر إلا يوماً، والحسن رضي الله عنه ثمانية أشهر وعشرة أيام، فذلك ثلاثون.
سرور معاوية بموت الحسن
وحدث محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حُمَيد الرَّازي، عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الفضل بن عباس بن ربيعة، قال: وفد عبد اللّه بن العباس على معاوية، قال: فواللّه إني لفي المسجد إذ كبرَ معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجَتْ فاختة بنت قرظ بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف من خوخِة لها، فقالت: سَرَّكَ اللّه يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي بلغك فسررت به؟ قال: موت الحسن بن علي، فقالت: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ثم بكَتْ وقالت: مات سيّد المسلمين، وابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال معاوية: نعما واللّه ما فعلت، إنه كان كذلك أهلاً أن تبكي عليه، ثم بلغ الخبر ابن عباس رضي اللّه عنهما، فراح فدخل على معاوية، قال: علمتُ يا ابن عباس أن الحسن توفي، قال: ألذلك كبرت؟ قال: نعم، قال: أما واللّه ما مَوْتُه بالذي يؤخِّر أجلك، ولا حُفْرَتُه بسَادَةٍ حُفْرَتَكَ، ولئن أصبنا به قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ثم بعده بسيد الأوصياء، فجبر اللّه تلك المصيبة، ورفع تلك العَثْرَة، فقال: وَيْحَكَ يا ابن عباس! ما كلمتك قط إلا وجدتك معداً.

وفي نسخة أنه لما صالح الحسن معاوية كبر معاوية في الخضراء، وكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرضة من خوخة لها، فقالت: سَركَ اللّه يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي بلغك. قال: أتاني البشيرُ بصلح الحسن وانقياده، فَذَكَرَتْ قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن إبني هذا سيد أهل الجنة، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين فالحمد للّه الذي جعل فِئَتِي إحدى الفئتين.
ولما صالح الحسن معاوية لما ناله من أهل الكوفة وما نزل به أشار عمرو بن العاص على معاوية - وذلك بالكوفة - أن يأمر الحسن فيقوم فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية، وقال: ما أريد أن يخطب بالناس، قال عمرو: لكني أريد أن يبدو عيه في الناس بأنه يتكلم في أمور لا يدْرِي ما هي، ولم يزل به حتى أطاعه؟ فخرج معاوية فخطب الناس، وأمر رجلاً أن ينادي بالحسن بن علي، فقام إليه، فقال: قم يا حسن فكلم الناسَ، فقام فتشهد في بديهته، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله هداكم بأولنا، وَحَقَنَ دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دُوَلٌ، قال اللّه عزّ وجل لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل إن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون، إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " ثم قال في كلامه ذلك: يا أهل الكوفة، لو لم تُذْهَلْ نفسي عنكم إلا لثلاث خصال لذُهِلت: مَقْتَلكم لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني، وإني قد بايعت معاوية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وقد كان أهل الكوفة انتهبوا سُرَادق الحسن وَرَحْله، وطعنوا بالخنجر في جوفه، فلما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح.
خطبة للحسن
وقد كان عليّ رضي اللّه عنه وكرم اللّه وجهه اعتلَّ، فأمر ابنه الحسن رضي اللّه عنه أن يصلى بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر فحمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال: إن اللّه لم يبعث نبيّاً إلا اختار له نقيباً وَرَهْطاً وبيتاً، فو الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عَمَله مثله، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.
خطبة أخرى
ومن خطب الحسن رضي اللهّ عنه في أيامه في بعض مقاماته أنه قال: نحن حزب اللهّ المفلحون، وَعِتْرَة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خَلَّفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني كتاب اللّه، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خَلْفِه، والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإنَّ طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة اللهّ والرسول وأولي الأمر مقرونة فإن تنازعتم في شيء فَردُّوه إلى اللّه والرسول... ولو رَعُّوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم وأحذركم الِإصغاء لهتاف الشيطان إنه لكم عدو مبين، فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما تراءت الفئتان نَكَصَ على عقيبه وقال: إني بريء منكم إني أرى مالا ترون " فتلقون للرماِح أزرا، وللسيوف جزرا، وللعمد خطأ، وللسهام غَرَضاً، ثم لا ينفع. نفساَ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أوكسبت في إيمانها خيراً، واللهّ أعلم.
ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان
وبويع معاوية في شوال سنة إحدى وأربعين، ببيت المقدس، فكانت أيامه تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي في رجب سنة إحدى وستين، وله ثمانون سنة، ودُفن بدمشق بباب الصغير، وقبره يُزِار إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - وعليه بيت مبني يفتح كل يوم اثنين وخميس.
ذكر لمع من أخباره وسيره
ونوادر من بعض أفعاله
مقتل حجر الكندي
وفي سنة ثلاث وخمسين قَتَلَ معاوية حُجْرَبن عدي الكِنْدِيَّ، وهو أولى من قتلصبراً في الِإسلام: حملة زياد من الكوفة ومعه تسعةُ نَفَرِ من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها، فلما صار على أميال من الكَوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول، ولا عقب له من غيرها:
تَرَفَعْ أيها القمر المنير ... لعلك أن ترى حُجْراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله، كَذَا زَعَمَ الأمير

وَيَصْلبه عَلَى بَابَيْ دمشق ... وتأكل من مَحَاسِنِه النسور
تخيرت الخبائر بعد حُجْر ... وَطَابَ لها الخورنق والسَّدِير
ألا يا حجرحجربني عدي ... تلقتك السلامة وَالسرُور
أخاف عليك ما أردى عليا ... وَشَيْخاً في دمشق له زئير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم يُنْحَركما نحر البَعِير
فإن تهلك فكل عَمِيد قَوْم ... إلى هُلْكٍ من الدُّنْيَا يَصِير
ولما صار إلى مرج عفراء على اثني عشر ميلاً من دمشق تقدَّم البريد بأخبارهم إلى معاوية، فبعث برجل أعْوَر، فلما أشرف على حُجْر وأصحابه قال رجل منهم: إن صدق الزَّجْر فإنه سيقتل مِنَّا النصف وينجو الباقون، فقيل له: وكيف ذلك. قال: أما ترون الرجل المقبل مُصَاباً بإحدى عينيه، فلما وصل إليهم قال لحجر: إن أمير المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب وقتل أصحابك، إلا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرؤوا منه، فقال حُجْر وجماعة ممن كان معه: إن الصبر على حد السيف لأيْسَرُ علينا مما تَدْعُونَا إليه، ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيه أحَبُّ إلينا من دخول النار، وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي، فلما قُدِّمَ حجر ليُقْتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فجعل يطول في صلاته، فقيل له: أجَزَعاً من الموت؟ فقال: لا، ولكني ما تطهرت للصلاة قط إلا صليت، وما صليت قط أخَفَّ من هذه، وكيف لا أجزع، وإني لأرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً وكَفَناً منشوراً، ثم تقدم فنحر، وألحق به من وافقه على قوله من أصحابه، وقيل: إن قتلهم كان في سنة خمسين.
عدي بن حاتم ومعاوية
وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات؟ يعني أولاك، قال: قتلوا مع علي، قال: ما أنصفك عَليّ قتل أولادك وبَقَّى أولاده، فقال عدي: ما أنْصَفْتَ عليّاً إذ قتل وبقيت بعده، فقال معاوية: أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن، فقال عدي: واللهّ إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنيَنَّ إليك من الشر شبراً، وإن حَزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهْوَنُ علينا من أن نسمع المساءة في علي، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف، هذه كلمات حكم فاكتبوها، وأقبل على عديّ محدثاً له كأنه ما خاطبه بشيء.
بين عمرو بن عثمان وأسامة عند معاوية
وذكر أن معاوية بن أبي سفيان تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في أرض، فقال عمرو؟ لأسامة: كأنك تنكرني، فقال أسامة: ما يسرني نسبك بولائي، فقام مروان بن الحكم فجلس إلى جانب عمرو بن عثمان، وقام الحسن فجلس إلى جانب أسامة، فقام سعيد بن العاص فجلس إلى جانب مروان، فقام الحسين فجلس إلى جانب الحسن، وقام عبد اللّه بن عامر فجلس إلى جانب سعيد، فقام عبد اللّه بن جعفر فجلس إلى جانب الحسين، وقام عبد الرحمن بن الحكم فجلس إلى جانب ابن عامر، فقام عبد اللّه بن العباس فجلس إلى جانب ابن جعفر، فلما رأى ذلك معاوية قال: لا تعجلوا، أنا كنت شاهداً إذا أقطعها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، أسَامَةَ، فقام الهاشميون فخرجوا ظاهرين، وأقبل الأمويون عليه فقالوا: ألا كنت أصلحت بيننا قال: دعوني فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي، وإن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بَلْوَى، وتمثل بأبيات امرىء القيس المتقدمة في هذا الكتاب في أخبار عمر رضي اللّه عنه، وأولها:
الحرب أول ما تكون فتية ... تدنو بزينتها لكل جهول
ثم قال: ما في القلوب يشب الحروب، والأمر الكبير يدفعه الأمر الصغير، وتمثل:
قد يَلحق الصغير بالجليل ... وإنما القرم من الأفِيل
وتسحق النَّخْل منَ الفسيل
إلحاق زياد بأبي سفيان

قال المسعودي: ولما هَم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان أبيه - وذلك في سنة أربع وأربعين - شهد عنده زيادة بن أسماء الحرمازي ومالك بن ربيعة السلولي والمنفر بن الزبير بن العوام أن أبا سفيان أخبر أنه ابنه، وأن أبا سفيان قال لعلي عليه السلام حين ذكر زياد عند عمر بن الخطاب:
أما واللّه لولا خَوْف شخص ... يراني يا عليُّ من الأعادي
لبين أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المجمجم عن زياد
ولكني أخاف صُرُوف كف ... لها نقم وَنَفْي عن بلادي
فقد طالت محاولتي ثقيفَاًَ ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد
ثم زاد يقيناً إلى ذلك شهادة أبي مريم السلولي، وكان أخْبَرَ الناس ببدءِ الأمر وذلك أنه جمع بين أبي سفيان وسُمية أم زياد في الجاهلية على زنا، وكانت سُمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحارث بن كَلَحَةَ، وكانت تنزل بالموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا.
وكان سبب ادعاء معاوية له فيما ذكر أبو عبيدة معمر بن المثَّنى أن علياً كان وَلأَه فارس حين أخرج منها سهل بن حُنَيف، فضرب زياد ببعضهم بعضاً حتى غلب عليها، وما زال يتنقل في كُوَرِهَا حتى صلح أمر فارس، ثم وَلاه على أصطخبَ،. وكان معاوية يتهدد، ثم أخذ بُسْر بن أرطاة عبيد اللهّ وسالماً ولديه وكتب إليه يقسم ليقتلنهما إن لمِ يراجع ويدخل في طاعة معاوية وكتب معاوية إلى بُسْر ألا يعرض لأبْنيْ زياد، وكتب إلى زياد أن يدخل في طاعته وَيَرُدَّه إلى عمله، فقدم زياد على معاوية، فصالحه على مال وحلي، ودعاه معاوية إلى أن يستحلفه، فأبى زياد ذلك، وكان المغيرة بن شعبه قال لزياد قبل قدومه على معاوية: أرْم بالغرض الأقصَى، ودع عنك الفُضُولَ، فإن هذا الأمر لا يمد إليه أحد يداً إلا الحسن بن علي وقد بايع لمعاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فقال زياد: فأشِرْ علي، قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله، وَتَصِلَ حبلك بحبله، وأن تعير الناس منك أذناً صًمّاء، فقال زياد: يا ابن شعبة، أأغْرس عوداً في غير منبِته ولا مَدَرَة فتحييه ولا عِرْقَ فيسقيه؟ ثم إن زياداً عزم على قبول الدعوى وأخذ برَأْي ابن شعبة، وأرسلت إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية، فأتاها فأذنت له وكَشَفَتْ عن شعرها بين يديه، وقالت: أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم، ثم أخرجه معاوية إلى المسجد، وجمع الناس، فقام أبو مريم السلولىِ فقال: أشهد أن أبا سفيان قَدِمَ علينا بالطائف وأنا خمَار في الجاهلية، فقال: ابغني بغياً، فأتيته وقلت له: لم أجد إلا جارية الحارث بن كَلَدَة سُمية، فقال: ائتني بها علىِ ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلاً يا أبا مريم، إنما بعثت شاهداَ ولم تبعث شاتماً، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إلَيَّ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت، واللّه لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً، فلم ألبث أن خرج عَلَيَ يمسح جبينه، فقلت: مَهْ يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم، لولا استرخاء من ثديها وذفر من فيها، فقام زياد فقال: أيها الناس، هذا الشاهد قد ذكر ما سمعتم، ولست أدري حق ذلك من باطله، وإنما كان عبيد ربيباً مبروراً أو ليَاً مشكوراً، والشهود أعلم بما قالوا، فقام يونس بن عبيد أخو صفية بنت عبيد بن أسد بن علافي الثقفي - وكانت صفية مولاة سُمَيَّة - فقال: يا معاوية، قضى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضيت أنت أن الولد للعاهر وأن الحجر للفراش، مُخَالَفَةً لكتاب اللّه تعالى، وانصرافاً عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان، فقال معاوية: واللهّ يا يونس لتنتهين أو لأطيرن بك طيرة بطيئاً وقوعها، فقال يونس: هل إلا إلى اللّه ثم أقع؟ قال: نعم وأستغفر اللّه، فقال عبد الرحمن بن أمّ الحكم في ذلك ويقال: إنه ليزيد بن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن حَرْب ... مُغَلْغَلًةَ عن الرجل اليماني
أتغضب أن يُقال: أبُوكَ عَف ... وترضى أن يُقال: أبُوكَ زاني؟
فأشهد أن رِحْمَكَ من زياد ... كَرِحْم الذيل من ولد الأتان

وفي زياد وإخوته يقول خالد النجاري:
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بَكْرَةَ عندي من أعجب العَجَب
إن لاجالاً ثلاثة خلقوا ... من رِحْم أنثى مخالذي النسبَ
ذا قُرَشِيّ فيما يقول، وَذَا ... مَوْلى، وهذا بِزَعْمِهِ عَرَبِي
بين معاوية وعبد اللّه بن هاشم المرقال
ولما قتل علي كرم اللّه وجهه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص المِرْقَال وولده عبد اللهّ بن هاشم إحَنٌ، فلما استعمل معاوية زياداً على العراق كتب إليه، أما بعد: فانظر عبداللّه بن هاشم عتبة، فشدَّ يده إلى عنقه، ثم أبعث به إلي فحمله زياد من البصرة مُقَيَّداً مغلولاً إلى دمشق، وقد كان زياد طَرَقَه بالليل في منزله بالبصرة، فأدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا. قال: لا، قال: هذا الذي يقول أبوه يوم صِفَين:
إني شَرَبْتُ النَّفس لما اعْتَلا ... وأكثَرَ اللوم وما أقلاَّ
أعْوَر يبغي أهْلَهُ محلاّ ... قدعالج الحياة حتى مَلاَّ
لا بُدَّ أن يَغُلَّ أو يُفَلا ... أشلُّهم بذي الكُعُوب شَلا
لا خَيْرَ عندي ... في كَرِيم وَلَّى
فقال عمرو متمثلاً:
وقد يَنْبُتُ المَرْعَى على دمَنِ الثّرَى ... وتبقى حزَازَاتُ النفوس كما هيا
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب أوداجه على أسباجه، ولا ترده إلى أهل العراق، فإنه لا يصبر عن النفاق، وهم أهلِ غدر وشقاق، وحزب إبليس ليوم هيجاء، وإن له هَوى سَيرديه يه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فقال عبد اللّه: يا عمرو، إن أقتل فرجل أسْلَمه قومه، وأدركَه يومُه، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بسمال النطاف، وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء، والنعجة القَوْدَاء، لا تدفع يد لامس، فقال: عمرو، أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شَذْقَم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين، فقال عبد اللّه: أما واللهّ يا ابن العاص إنك لبَطِر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غَشُوم إذا وليت، هيابة إذا لقيت، تهدر كما يهد العَوْدُ المنكوس المقيد بين مجرى الشول لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشده، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقُوا كباراً، لهم أيد شداد، وألسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل، فقال عمرو: أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب أطلاؤه، كأنما انطبق عليه صمد، فقال عبد اللّه: يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالَتَكَ فوجدنا لسانك كذوباً غادراً، خلوتَ بأقوام لا يعرفونك، وجُنْدٍ لا يسامونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولا ضطرب فخذاك اضطراب القَعُودِ الذي أثقله حمله، فقال معاوية: أيهاً عنكما، وأمر بإطلاق عبد اللّه، فقال عمرو لمعاوية:
أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتَنِي ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علياً يوم حزَ الغَلاَصم
فلم ينثنِ حتى جرت من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم
وهذا ابنه، والمرء يُشْبه شيخه ... ويوشك أن تقرع به سن نادم
فقال عبد اللّه يجيبه:
مُعَاوِيَ إن المرء عمراً أبَتْ له ... ضغينةُ صدرٍ غِشُّها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند، وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا منعت عنه عهود المسالم
وقد كان منا يوم صِفَينَ نفرة ... عليك جناها هاشم وابن هاشم
قضى ما انقضى منها، وليس الذي مضى ... ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم
فإن تَعْفُ عني تعف عن ذي قرابة ... وإن تَرَ قتلي تستحل محارمي
فقال معاوية:

أرى العفو عن عُلْيَا قريش وسيلةً ... إلى اللّه في يوم العصيب القماطر
ولست أرى قَتْلِي الغَدَاةَ ابن هَاشمٍ ... بإدراك ثأري في لؤي وعامر
بل العفو عنه بعد ما بان جُرْمُه ... وزلَتْ به إحدى الجدود العوائر
فكان أبوه يوم صفين جمرة ... علينا فأردته رِماح نهابِر
وحضر عبد اللّه بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد اللهّ: يا أمير المؤمنين، أما الجود فابتذال المال، والعطية قبل السؤال، وأما النجدة فالجراءة على الأقوام، والصبر عند أزورار الأقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين، والإصلاح للمال، والمحاماة عن الجار.
بين معاوية ومحمد بن أبي بكر
ولما صرف علي رضي الله عنه قيْسَ بن سعد بن عُبَادةَ عن مصر وَجَّه مكانه محمد بن أبي بكر، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتاباً فيه: من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن اللّه بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه، ولا ضعف في قوته، ولاحاجة - به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غويّاً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فانتخبه بعلمه، واصطفاه برسالته، وائتمنه على وحيه، وبعثه رسولاً ومبشراً ونذيراً ووكيلاً فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسَلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب: صدقه بالغيب المكتوم، أثره على كل حميم، وَوَقَاه بنفسه كل هَوْل، وحارب حَرْبه، وسالم سِلْمَه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقاً لا نظير له فيمن اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تُسَاميه وأنت أنت، وهو هو، أصدق الناس نية، وأفضل الناس ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم: أخوه الشاري بنفسه يوم موته، وعمه سيد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذاب عن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وعن حَوْزَته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تَبْغِيانِ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم الغَوَائل، وتجهدان في إطفاء نور اللّه، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلَبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك، وعليه خَلَفْته، والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي - مع فضله المبين القديم - أنصاره الذين معه وهم الذين. ذكرهم اللّه بفضلهم، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، وهم معه كتائب وعصائب، يَروْنَ الحق في اتباعه، والشقاء في خلافه، فكيف - يا لك الويل! - تَعْدِلُه نفسك بعده وهو وارث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ووصيه وأبو ولده: أول الناس له أتباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسره، ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتَّعْ في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وَهَى، ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمِنْتَ كَيده، ويئست من رَوْحه؟ فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى.

فكتب إليه معاوية: من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. أما بعده: فقد أتاني كتابُكَ تذكر فيه ما اللّه أهْلًه في عظمته وقدرته وسلطانه، وما اصطفى به رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، مع كلام كثير لك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب، وقديم سوابقه، وقرابته إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومُوَاساته إياه في كل هَوْل وخوف، فكان احتجاجك عليَ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحَقه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار اللهّ لنبيه عليه الصلاة والسلام، ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبْلَجَ حجته، وقبضه اللهّ إليه صلوات اللّه عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حَقَه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتَّسقا، ثم إنهما دَعَوَاه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهمَّا به الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسَلّم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يُطْلِعانه على سرهما، حتى قبضهما الله، ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه مُنَاكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازي أو تساوي مَنْ يَزِنُ الجبال بحلمه، لا يلين عن قَسْرٍ قناته، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد مِهَاده، وبنى لملكه وسادة، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدَ به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك، والسلام على من أناب.
من معاوية إلى علي
ومما كتب به معاوية إلى عليّ: أما بعد، فلو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضُنَا على بعض، وإنا وإن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها مانَرُمّ به مامضى، ونُصلح به مابقي، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من القتال إلا ما أخاف، وقد واللهّ رَقّت الأجناد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل يستذل به عزيز، ويسترق به حر، والسلام.
جواب علي لمعاوية
فكتب إليه عليّ كرم اللّه وجهه: من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضُنَا على بعض، وأنا وإياك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعدُ، فأما طلبك مني الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست بأمضى على للشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحْرَصَ من أهل العراق على الأخرى، وأما قولك نحن بنو عبد مناف فكذلك نحن، وليس أمية كهاشم، ولا حَرْب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المُبْطِل كالمحقّ، وفي أيدينا فضل النبوة التي قَتَلْنَا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام.
بين سعد ومعاوية

وحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن أبي مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قال: لما حج معاوية طاف بالبيصَ ومعه سعد، فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندرَة، فأجلسه معه على سريره، ووَقَعَ معاوية في علي وشَرَعَ في سَبَّه، فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي، واللهّ لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن - يكون لي ما طلعت عليه الشمس، واللّه لأن أكون صهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لي من الولد ما لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، والله لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لي ما قاله يوم خيبر " لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللهّ ورسوله ليس بِفَرَّار، يفتح اللهّ على يديه " أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، واللهّ لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قال له في غزوة تبوك: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت، ثم نهض " .
ووجدت في وجه آخر من الروايات، وذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار، عنِ ابن عائشة وغيره، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرَطَ له معاوية، وقال له: اقعد حتى تسمع جواب ما قلت، ما كُنْتَ عندي قَطُّ الأم منك الآن، فهلا نصرته، ولك قعدت عن بيعته؟ فإني لو سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت، فقال سعد: واللّه إني لأحق بموضعك منك، فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة، قال النوفلي: وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري:
سائل قريشاً يها إن كنت ذا عَمَه ... مَنْ كان أثْبَتَهَا في الدين أوْتَادَا
من كان أقدمها سلما، وأكثرها ... علما، وأطهرها أهلا وأولادا
من وحَّدَ اللّه إذ كانت مكذبة ... تدعو مع اللّه أوثاناً وأندادا
من كان يُقْدِم في الهيجاء إن نكلوا ... عنها، وإن بَخِلوا في أزمة جادا
من كان أعدلها حكماً، وأقسطها ... حلماً، وأصدقها وعداً وإيعادا
إن يَصْدَقوك فلم يَعدوا أبا حسن ... إن أنت لم تلق للأبرار حسادا
إن أنت لم تلق من تَيْمٍ أخا صَلَف ... ومن عدي لحق اللّه جُحَّادا
أو من بني عامر، أو من بني أسد ... رَهْط العبيد ذوي جهل وأوغادا
أورهط سعد، وسعد كان قد علموا ... عن مستقيم صراط اللّه صَدَّادا
قوم تَدَاعَوْا زنيما ثم سادهُمُ ... لولا خمول بني زهر لما سادا
وكان سعد وأسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر ومحمد بن سلمة ممن قعد عن علي بن أبي طالب، وأبوا أن يبايعوه هم غيرهم ممن ذكرنا من القُعَّاد وفلك أنهم قالوا: إنها فتنة، ومنهم من قال لعلي: أعْطِنا سيوفاً نقاتل بها معك، فإذا ضربنا بها المؤمنين لم تعمل فيهم ونَبَتْ عن أجسامهم، وإذا ضربنا بها الكافرين سَرَتْ في أبدانهم، فأعرض عنهم عليّ، وقال: ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.
بين معاوية وأبي الطفيل الكناني
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من الأخباريين أن الأمر لما أفضى إلى معاوية أتاه أبو الطفيل الكناني فقال له معاوية: كيف وَجدُك على خليلك أبي الحسن. قال: كوجد أم موسى على موسى، وأشكو إلى الله التقصير، فقال معاوية، أكنت فيمن حضر قتل عثمان؟ قال: لا، ولكني فيمن حضر فلم ينصره، قال: فما منعك من ذلك وقد كانت نصرته عليك واجبة؟ قال: منعني ما منعك إذ تربص به ريب المنون وأنت بالشأم، قال: أو ما ترى طلبي بدمه نصرة له؟ قال بلى، ولكنك وإياه كما قال الجعدي.
لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا
ودخل على معاوية ضرار بن الخطاب فقال له: كيف حزنك على أبي الحسن؟ قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.
بين معاوية وقيس بن سعد

ومما جرى بين معاوية وبين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عاملاً لعلي على مصر فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، إن ظفر أحَبُّ الفريقين إليك عَزَلَك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نَكَلَ بك وقتلك، وقد كان أبوك أوْتَرَ قوسه، ورمى غَرَضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصِلَ، فخذله قومه، وأدركه يومُه، ثم مات بحوران طريداً.
فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرهاً، وخرجت منه طوعاً، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، وقد كان أبي أوتَرَ قوسه، ورمى غرضه، فشعب به من لم يبلغ عقبه، ولا شق غُبَاره، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت، وأعداء الدين الذي فيه دخلت.
ودخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية، فقال لهم معاوية: يا معشر الآنصار، بِمَ تطلبون ما قبلي؟ فواللّه لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليَّ، ولضللتم حَدِّي يومِ صِفِّينَ حتى رأيت المنايا تلظَّى في أسنتكم، وهجوتمونى في أسلافي بأشد من وقع الأسنة، حتى إذا أقام اللهّ ما حاولتم ميله قلتم: ارْعَ فينا وصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، هيهات يأبى الحقِينُ العذرة، فقال قيس: نطلب قبلك بالإسلامِ الكافي به اللّه، لا بما تمتّ به إليك الأحزاب، وأم عداوتنا لك فلو شِئْت كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله، ويثبت حقه، وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا، وأما فَلُّنَا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعَتَهُ طاعة للّه، وأما وصية رسول اللّه بنا فمن آمن به رعاها بعده، وأما قولك يأبى الحقين العذرة فليس دون اللهّ يد تحجزك منا يا معاوية، فقال معاوية يموه : أرفعوا حوائجكم.
من مناقب قيس بن سعد
وقد كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل إلى علي بالموضوع العظيم، وبلغ من خوفه اللهّ وطاعته إياه أنه كان يصلي فلما أهوى للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوق، فمال عن الثعبان برأسه، وسجد إلى جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئاً، حتى فرغ، ثم أخذ الثعبان فرمي به، كذلك ذكر الحسن بن علي بن عبد اللّه بن المغيرة عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية ذات يوم: قد أعياني أن أعلم أجَبَانٌ أنت أم شجاع، لأني أراك تتقدم حتى أقول: أراد القتال، ثم تتأخر حتى أقول: أراد الفرار، فقال له معاوية: واللّه ما أتقدم حتى أرى التقدم غما، ولا أتأخر حتى التأخر حَزْماً، كما قال القَطَامي.
العباس بن ربيعة
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى عن أبي الأغرّ التيمي، قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر بي العباس بن ربيعة مغفراً بالسلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما شُعْلَتَا نار أو عينا أرْقَم، وبيده صفيحة له يمانية يقِّلبها، والمنايا تلوح في شَفْرتها، وهو على فرس صَعْب، فبينا هو يبعثه ويمنعه ويلين من عريكته إذ هتف به هاتف يقال له عَرَار بن أدهم من أهل الشام يا عباس، هلم إلى النزال، قال: فالنزول إذاً، فإنه آيا من الحياة، فنزل إليه الشامي وهو يقول:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُلُ
وثنى العباس وركه وهو يقول:
اللّه يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكُمُ أن لا تخبونا

ثم عصر فضلات درعه في محزمه يريد منطقته ودفع فرسه إلى غلام له أسود كأني والله أنظر إلى فلافل شعره، ثم زحف كل واحد منهما إلى صاحبه، وكف الفريقان أعنة الخيول ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامَتِهِ، إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى ثَنْدُؤتَه، ثم عاد لمحاولته، وقد أخرج له مفتق الدرع، فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره، فخر الشامي لوجهه، فكبر الناس تكبيرة ارتَختْ لها الأرض من تحتهم، وانساب العباس في الناس، فإذا. قائل يقول من ورائي: " قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين " الآية فالتفتُّ فإذا بعلي رضي اللّه عنه، فقال: يا ابن الأغرّ، من المبارز لعدونا؟ قلت: ابن أخيكم العباس بن ربيعة، قال وإنه لهو العباس. قلت: نعم، فقال: يا عباس، ألم أنْهَكَ وعبدَ اللّه بن عباس أن تحلا بمركز أو تبارزا أحداً. قال: إن ذلك كما قلت، قال علي: فما عَدَا مما بَدَا. قال: أفأدعى إلى البراز فلا اجيب؟ قال: طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوك، وتغيظَ واستطار، ثم تطامن وسكن ورفع يديه مبتهلاً، فقال: اللهم اشكر للعباس مقامه، واغفر ذنبه، اللهم إني قد غفرت له فاغفر له، وتأسف معاوية على عَرَار بن أدهم، وقال: متى ينطق فحل بمثله أبطل دمه! لاها اللهّ، ألا رجل يشري نفسه يطلب بدم عَرَار، فانتدب له رجلان من لخم من أهل البأس ومن صناديد الشام، فقال: أذهبا فأيكما قتل العباس فله مائة أوقية من التبر ومثلها من اللُّجَين وبعددهما من برود اليمن، فأتَيَاه فدعَوَاه إلى البراز، وصاحا بين الصفين: يا عباس يا عباس، ابرز إلى الداعي، فقال: إن لي سيداً أريد أن أؤامره، فأتى علياً وهو في جناح الميمنة يحرض الناس، فأخبره الخبر، فقال علي: واللهّ لَوَدَّ معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضِرْمَةٍ إلا طعن في بطنه إطفاء لنور اللّه " ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " أما واللّه ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم سوم الخسف حتى تعفو الآثار، ثم قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله، ووثب على فرس العباس، وقصد اللخميين، فلم يشكا أنه العباس، فقالا له: أذن لك صاحبك. فتحرج أن يقول نعم، فقال: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير " .
وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعده، فبرز له أحدهما فما أخطأه، ثم برز له الاخر فألحقه بالأول، ثم أقبل وهو يقول " الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد لي، ونما الخبر إلى معاوية فقال: قبح اللّه اللجاج إنه لعقور ما ركبته قط إلا خذلت، فقال عمرو بن العاص: المخذول واللهّ اللخميان، والمغرور من غررته، لا أنت المخذول، قال: اسكت أيها الرجل فليس هذا من شأنك، قال: وإن لم يكن، رحم اللّه اللخميين، ولا أراه يفعل، قال: ذلك واللهّ أضْيقُ لحجتك، وأخْسَرُ لصفقتك، قال: قد علمت ذلك، ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده، فقال معاوية: مصر واللهّ أعمتك، ولولا مصر لالذيتك بصيراً، ثم ضحك معاوية ضحكاً ذهب به كل مذهب، قال: مِمَّ تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك اللّه سنك. قال: أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت علياً، وإبدائك سوأتَكَ، أما واللهّ يا عمرو لقد واقعت المنايا، ورأيتَ الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبى ابن أبي طالب في قتلك إلا تكرماً، فقال عمرو: أما واللّه إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحْوَلَّتْ عيناك وبَدَا سَحْرك وبَدَا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أودع.
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن معاوية برز في بعض أيام صفين أمام الناس وكَرَّ على ميسرة علي، وكان علي فيها في ذلك الوقت يعبىء الناس، فغير على لأْمته وجواده، وخرج بلأمة بعض أصحابه، وصَمدَ له معاوية، فلما تدانيا أثْبَته معاوية فغمز برجليه على جواده وعلي - وراءه، حتى فاته ودخل في مَصَافّ أهل الشام، فأصاب عليٌّ رجلا من مصافهم دونه، ثم رجع وهو يقول:

يا لهفَ نفسي فَاتَنِي معاويه ... فوق طمِرٍّ كالعقاب الضابيَهْ
وقدم عمروبن العاص من مصر على معاوية في بعض الأيام، فلما رآه معاوية قال:
يموتُ الصالحونَ وأنت ... حيي تخطاكَ المنايا لاتموتُ
فأجابه عمرو:
فلسْتُ بميتٍ مادمت حيّاً ... ولست بميت حتى تموت
وذكر أن معاوية لما نظر إلى معسكر أهل العراق - وقد. أشرفت وأخذت الرجال مراتبها من الصفوف - ونظر إلى عليّ على فرس أشْقَرَ حاسر الرأس يرتَبُ الصفوف كأنه يغرسهم في الأرض غرساً فيثبتون كأنهم بنيان مرصوص، قال لعمرو: يا أبا عبد اللّه، أما تنظر إلى ابن أبي طالب وما هو عليه. فقال له عمرو: مَنْ طلب عظيماً خاطر بعظيم.
بسر بن أرطاة:
وقد كان معاوية في سنة أربعين بعث بُسْرَ بن أرطاة في ثلاث آلاف حتى قَدِم المدينة وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحَّى، وجاء بُسْر حتى صعد المنبر وتهدَّد أهل المدينة بالقتل، فأجابوه إلى بيعة معاوية، وبلغ الخبر علياً فأنفذ حارثة بن قدامة السعدي في الذين ووهب بن مسعود في الذين، ومضى بُسْر إلى مكة، ثم سار إلى اليمن، وكان عبيد اللّه بن العباس بها، فخرج عنها ولحق بعده واستخلف عليها عبد اللّه بن عبد المَدَان الحارثي، وخلف ابنيه عبد الرحمن وقُثَم عند أمهما جويرية بنت قارظ الكناني، فقتلهما بُسْر وقتل معهما خالا لهما من ثقيف وقد كان بُسْربن أرْطَاةَ العامري - عامر بن لؤي بن غالب - قَتَلَ بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خُزَاعة وغيرهم، وكذلك بالجرف قتل بها خلقاً كثيراً من رجال هَمْدَان، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً من الأبناء، ولم يبلغه عن أحد أنه يمالىء علياً أو يهواه إلا قتله، ونما إليه خبر حارثة بن قدامة السعدي فهرب، وظفر حارثة بابن أخي بُسْر مع أربعين من أهل بيته، فقتلهم، وكانت جويرية أمُّ ابني عبيد اللهّ بن العباس اللذين قتلهما بُسْرٌ تدور حول البيت ناشرة سَعْرها وهي من أجمل النساء وهي تِقول ترثيهما:
هامن أحَسَّ من ابنَىِّ اللذين هما ... كالدرتين تَشظّى عنهما الصدف
هامن أحَسَّ من ابنيَّ للذين هما ... سمعي وقلبي، فعقلي اليوم مختطَفُ
هامن أحَسَّ من ابنيَّ اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
نبئت بُسْراً، وما صَدَّقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا
أنحى على وَدِجَيْ ابني مرهفة ... مشحوذة، وكذاك الإثم يُقْتَرف
بين معاوية وعمرو بن العاص ووردان
وذكر الواقدي قال: دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية بعد ما كبر ودق ومعه مولاه وَرْدَانُ، فأخذا في الحديث، وليس عندهما غير وردان، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما بقي مما تستلذه. فقال: أما النساء فلا أربَ لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيها الين، وأما الطعام فقد أكلت من لينه وطيبه حتى ما أدري أيها ألذ وأطيب، وأما الطِّيبُ فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب، فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بنيَّ وبني بنيَّ يدورون حولي، فما بقي منك يا عمرو؟ قال: مال أغرسه فأصيب من ثمرته ومن غلًته، فالتفَتَ معاوية إلى وَرْدَانَ فقال: ما بقي منك يا وَرْدَانَ؟ قال: صنيعة كريمة سنية أعلقها في أعناق قوم ذوي فضل وأخطار لا يكافئونني بها حتى ألقى الله تعالى وتكون لعقبي في أعقابهم بعدي، فقال معاوية: تَبّاً لمجلسنا سائر هذا اليوم، إن هذا العبد غلبني وغلبك.
وفاة عمرو بن العاص:
وفي سنة ثلاث وأربعين مات عمرو بن العاص بن وائل بن سَهْم بن سعيد بن سعد بمصر، وله تسعون سنة، وكانت ولايته مصر عشر سنين وأربعة أشهر، ولما حضرته الوفاة قال: اللهم لا براءة لي فأعتذر، ولا قوة لي فأنتصر، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا، اللهم هذه يدي إلى ذقني، ثم قال: خُنُوا لي في الأرض خَدّاً، وسُنُّوا علي التراب سنّاً، ثم وضع أصبعه في فيه حتى مات، وصَلّى عليه ابنه عبد اللهّ يوم الفطر، فبدأ بالصلاة عليه قبل صلاة العيد، ثم صلى بالناس بعد ذلك صلاة العيد، وكان أبوه من المستهزئين، وفيه نزلتَ " إن شانئك هو الأبتر " .

وولى معاوية ابنه عبد اللّه بن عمرو ما كان لأبيه.
تركته
وخلف عمرو من العَيْنِ ثلثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الوَرِقِ ألف درهم وغلة مائتي ألف دينار بمصر وضيعته المعروفة بمصر بالوهط قيمتُها عشرة آلاف ألف درهم.
وفيه يقول ابن الزَبِيرِ الأسدي الشاعر من أبيات:
ألم تر أن الدهر أخنتْ صُرُوفُه ... على عمروٍ السهمي تُجْبِى له مصر
فلم يُغْنِ عنه حَزْمه واحتياله ... ولا جمعه لَمَّا أتيح له الدهر
وأمْسَى مقيما بالعَرَاء وضللت ... مكايدة عنه وأمواله الدَّثر
وفي سنة خمس وأربعين وَلّى معاويةُ زيادَ بن أبيه البصرةَ وأعمالها، وقال لما دخلها:
ألا ربَّ مسرورٍ بنا لا نسره ... وآخرمحزون بنا لا نضرة
وقد كان معاوية أغْرَى في هذه السنة سفيان بن عوف العامري، وأمره أن يبلغ الطوانة فأصيب معه خلق من الناس، فعمَّ الناسَ الحزنُ بمن أصيب بأرض الروم، وبلغ معاوية أنّ يزيد ابنه لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال:
أهْوِنْ عَلًيّ بما لاقت جموعهُمُ ... يوم الطوانة من حمَى ومن مُوم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مًرانَ عندي أم كلثوم
أبو أيوب الأنصاري:
فحلف عليه ليغزوَنَ، وأردف به سفيان، فسميت هذه الغزاة غزاة الرادفة، وبلغ الناسُ فيها إلى القسطنطينية، وفيها مات أبو أيوب الأنصاري ودُفن هناك على باب القسطنطينية، واسم أبي أيوب خالد بن زيد، وقد قيل: إن أبا أيوب مات في سنة إحدى وخمسين غازياً مع يزيد، وقد أتينا على خبر هذه الغَزَاة، وما كان من يزيد فيها في الكتاب الأوسط.
المغيرة بن شعبة
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بالكوفة، فهرب منها المغيرة بن شعبة وكان واليها، ثم. عاد إليها فطعن فمات، فمرِّ أعرابي عليه وهو يدفن فقال:
أرَسْمَ ديار للمغيرة تعرف ... عليها دَوِيّ الإنس والجن تعزف
فإن كنت قد لاقيت هامان بعدنا ... وفرعون فاعلم أن ذا العرش مُنْصِفُ
وذكر أن المغيرة ركب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، وهي في دير لها في الحِيرَةِ مترهبة، وهو أمير الكوفة يومئذ، وقد كانت هند عميت، فلما جاء الدير استأذن عليها، فأتتها جاريتها فقالت: هذا المغيرة يستأذن عليك، فقالت للجارية: ألقي إليه أثاثاً، فألقت إليه وسادة من سَعَرٍ، فلما دخل قعد عليها وقال: أنا المغيرة، فقالت له: قد عرفتك عامل المدرة، فما جاء بك؟ قال: أتيتك خاطباً إليك نفسك، قالت: أما والصليب لو أردتني لِدِيِنِ أو جمال ما رجَعْتَ إلا بحاجتك، ولكني أخبرك الذي أردت ذلك له، قاَل: وما هو. قالت: أردت أن تتزوجني حتى تقوم في الموسِم في العرب فتقول: تزوجت ابنة النعمان، قال: ذلك أرَدْتُ، ولكن أخبريني ما كان أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف؟ قالت: كان ينسبهم في إياد، وقد افتخر عند رجلان من ثقيف أحدهما من بني سالم والأخر من بني يسار، فسألهما عن أنسابهما، فانتسب أحدهما إلى هَوَازن والآخر إلى إياد، فقال أبي: ما لحي معد على إياد فضل، فخرجا وأبي يقول:
إن ثقيفاً لم تكن هوازناً ... ولم تناسب عامراً ومازنا
إلا حديثاً وَافَق المحاسنا
فقال المغيرة: أمَّا نحن فمن هوازن وأبوك أعلم، قال: فأخبريني أي العرب كان أحب إلى أبيك. قالت: أطوعهم له، قال: ومن أولئك؟ قالت: بكر بن وائل، قال: فأين بنو تميم. قالت: ما استعنتهم في طاعة، قال: فقيس؟ قالت: ما اقتربوا إليه بما يحب إلا استعقبوه بما يكره، قال: فكيف أطاع فارس. قالت: كانت طاعته إياهم فيما يهوى، فانصرف المغيرة.
ولما هلك المغيرة ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أوَّلَ من جمع له ولاية العراقين البصرة والكوفة. وفي سنه ثمان وأربعين قَبَضَ معاوية فَدكَ من مروان بن الحكم، وقد كان وهبها له قبل ذلك، فاستردها.
وقد كان معاوية حجَّ في سنة خمسين، وأمر بحمل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، من المدينة إلى الشام، فلما حمل كسفت الشمس ورؤيت الكواكب بالنهار، فجزع من ذلك وأعْظَمَه، وردَه، إلى موضعه، وزاد فيه ستة مراقي.
موت زياد.

وفي سنة ثلاث وخمسين هلك زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان، وكان يكنى أبا المغيرة، وقد كان كتب إلى معاوية أنه قد ضبط العراق بيمينه، وشمالُه فارغَةٌ، فجمع له الحجاز مع العراقين، واتصلت ولايته بأهل المدينة، فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَجُّوا إلى اللّه، ولاذوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أيام، لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف، فخرجت في كفه بَثْرَة ثم حَكَّها ثم سرت واسود تْ فصارت آكلة سوداء، فهلك بذلك وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: اثنتين وخمسين، ودُفن بالثوية من أرض الكوفة.
وقد كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لَعْنِ علي، فمن أبى ذلك عرضه على السيف، فذكر عبد الرحمن بن السائب.، قال: حضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالس في الجماعة، وقد خَفَقْتُ، وهو إني رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل، فقلت: ماهذا؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بُعِثْتُ إلى صاحب هذا القصر، فانتبهك فزعاً، فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب من أبيات:
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تأتى له النقاد ذوا لرقبهْ
فأسقط الشق منه ضربة ثبتت ... لما تناول ظلماً صاحبَ الرحبه
يعني بصاحب الرحية علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه! وقد ذهب جماعة إلى أن عليّاً دفن في القصر بالكوفة؟ ويقال: إن زياداً طُعِن في يده، وأنه شاور شريحاً في قطعها، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجْذَمَ، وإن حَم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك: لِمَ قطعتها؟ قلت: بغضاً للقائك، وفراراً من قضائك، فلام الناس شريحاً، فقال لهم: إنه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا أمانة المشورة لوددت أن اللّه قطع يده يوماً ورجله يوماً، وسائر جسده يوماً.
البيعة ليزيد
وفي سنة تسع وخمسين وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها، فكان ممن وفد من أهل العراق الأخنَفُ بن قيس في آخرين من وجوه الناس، فقال معاوية للضحاك بن قيس: إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء اللّه، فإذا فرغت من كلامي فقل في يزيد الذي يحق عليك، وَادْعُ إلى بيعته، فإني قد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد اللّه بن عضاة الأشعري، وثور بن مَعْن السلمي أن يصدقوك في كلامك، وأن يجيبوك إلى الذي دعوتهم إليه، فلما كان من الغد قعد معاوية فأعلم الناس بما رأى من حُسْنِ رِعْيَة يزيد ابنه وهَدْيِه، وأن ذلك دعاه إلى أن يوليه عهده، ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذلك، وحضَ الناس على البيعة ليزيد، وقال لمعاوية: اعزم على ما أردت، ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد اللّه بن عضاة الأشعري وثور بن مَعْن فصدقُوا قوله ثم قال معاوية: أين الأحنف ققال: إن الناس قد أمْسَوْا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان يؤتنف، ويزيد حبيب قريب، فإن توله عهدك فعن غيركبرمُفْن، أو مرض مُضْن، وقد حَلَبْت الدهور، وجَربت الأمور، فاعرف من تُسْنِد إليه عهدك، ومن تولِّيه الأمر من بعدك، وأعصى رأي من يأمرك ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، فقام الضحاك بن قيس مُغْضَباً فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق، وقال: اردد رأيهم في نحورهم، وقام عبد الرحمن بن عثمان فتكلم بنحو كلام الضحاك، ثم قام رجل من الأزد، فأشار إلى معاوية وقال: أنت أمير المؤمنين، فإذا مُتَ فأمير المؤمنين يزيد، فمن أبَى هذا فهذا، وأخذ بقائم سيفه فسلّه، فقال له معاوية: أقعد فأنت من أخطب الناس، فكان معاوية أول من بايع ليزيد ابنه بولاية العهد، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن همام السلولي:
فإن تَاتوا بِرَمْلَةَ أوبهند ... نُبَايعها أميرة مؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى ... نعدُ ثلاثة مُتَنَاسقينا
فيالهفا لَوَانَ لنا أنوفا ... ولكن لانعود كما عنينا
إذا لضربتُمُ حَتَى تعودوا ... بمكه تلعقون بها السَّخِينَا
خشينا الغيظ حَتَى لوشَرِبْنَا ... دماء بني أمية مارَوَينَا

لقد ضاعت رَعِيَّتكُمْ وأنتم ... تَصِيدُونَ الأرانب غافلينا
وأنفذت الكتب ببيعة يزيد إلى الأمصار، وكتب معاوية إلى مروان بن الحكم - وكان عاملَه على المدينة - يعلمه باختياره يزيد، ومبايعته إياه بولاية العهد، ويأمره بمبايعته، وأخذ البيعة له على من قِبَلَه، فلما قرأ مروان ذلك خرج مُغْضَباً في أهل بيته وأخواله من بني كنانة، حتى أتى دمشق فنزلها، ودخل على معاوية يمشي بين السِّمَاطين، حتى إذا كان منه بقدر ما يُسْمعه صَوْتَه سَلّم، وتكلم بكلام كثير يوبخ به معاوية، منه: أقم الأًمور يا ابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان، واعلم أن لك من قومك نُظَرَاء، وأن لك على مناوأتهم وزراء، فقال له معاوية: أنت نظير أمير المؤمنين، وعُدّته في كل شديده وعَضده، والثاني بعد وليِّ عهده، وجعله ولي عهد يزيد، وردَه إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يَفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد بن معاوية.
ذكر جمل من أخلاقه وسياسته
وطرائف من عيون أخباره
قد ذكرنا فيما تقدم جُمَلاً من أخبار معاوية وسيره، فلنذكر الآن في هذا الباب جملاً من أخلاقه وسياسته وأخباره، وغير ذلك مما لحق هذا المعنى إلى وفاته.
من أخلاق معاوية وعاداته
كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات:

كان إذا صلى الفجر جلس للقاصِّ حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم يدخل منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه، فيأذن لخاصة الخاصة. فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراؤه فيكلمونه فيما يريدون من يومهم إلى العشيِّ، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فَضْلة عشائه من جدي بارد أو فرخ أو ما يشبهه، ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد، ثم يخرج فيقول: يا غلام أخرج الكرسي، فيخرج إلى المسجد فيوضع فيسند ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي، ويقوم الأحْرَاسُ فيتقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة ومن لا أحد له، فيقول: ظلمت، فيقول: أعِزُّوهُ، ويقول: عدي علي، فيقول: أبعثوا معه، ويقول: صنع بي، فيقول : انظروا في أمره، حتى إذا لم يبقى أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم، ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله بقاءه؟ فيقول: بنعمة من اللهّ، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج مَنْ لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول آخر: غاب فلان عن أهله، فيقول: تعاهدوهم، أعطوهم، اقضوا حوائجهم، اخدموهم، ثم يؤتى بالغداء، ويحضر الكاتب فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقول له: اجلس على المائدة، فيجلس، فيمد يده فيأكل لقمتين أو ثلاثاً والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر، حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء ويقال للناس: أجيزوا، فينصرون، فيدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع، حتى ينادي بالظهر، فيخرج فيصلي ثم يدخل فيصلي أربع ركعات، ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت وقتَ شتاء أتاهم بزاد. الحاج من الأخْبِصَة اليابسة والخشكنانج والأقراص المعجونه باللبن والسكر ودقيق السميذ والكعك المسمن والفواكه اليابسة والذانجوج وإن كان وقت صيف أتاهم بالفواكه الرطبة، ويخل إليه وزراؤه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقيَّةَ يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي - العصر، ثم يدخل إلى منزله فلا يطمع فيه طامع، حتى إذا كان في آخر أوقات العصر خرج فجلس على سريره ويُؤْذَنُ للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منه مقدار ما ينادي بالمغرب، ولا ينادي له أصحاب الحوائج، ثم يرفع العَشَاء وينادي بالمغرب فيخرج فيصليها ثم يصلي بعدها ؟أربع ركعات يقرأ في كل ركعة خمسين آية يجهر تارة ويخافت أخرى، ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج كي يصلي، ثم يؤذن للخاصة وخاصة الخاصة والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسِيَر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك لاأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم.
وقد كان هًمّ بأخلاقه جماعةٌ بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه للسياسة، ولا التأتَي للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم.
من دهاء معاوية:

وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، آخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك اللهّ! إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه،، وبَرةَ، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل، وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهمِ عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياَ هو الذي قتل عًمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لَعْنَ علي سُنَة، ينشأ عليها الصغير؟ ويهلك عليها الكبير.
من غفلة أهل الشام والعراق
. قال المسعودي: وذكر بعض الأخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: مَنْ أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصاً من لصوص الفتن.
وحكى الجاحظ قال: سمعت رجلاً من العامة وهو حاج وقد ذكر له البيت يقول: إذا أتيته مَنْ يكلّمني. منه ؟ وأنه أخبره صديق له أنه قال له رجل منهم وقد سمعه يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم : ما تقول في محمد هذا؟ أربنا هو؟.
وذكر ثمامة بن أشْرَس قال: كنت ماراً في السوق ببغداد، فإذا أنا برجل عليه الناسُ مجتمعون، فنزلت عن بغلتي، وقلت: لشيء ما هذا الاجتماع، ودخلت بين الناس، وإذا برجل يصف كحلا معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين، فنظرت إليه فإذا عينه الواحدة بَرْشَاء والأخرى مأسوكة، فقلت له: يا هذا، لو كان كحلك كما تقول نفع عينيك!! فقال لي: يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي. إنما اشتكتا بمصر، فقال كلهم: صدق، وذكر أنه ما انفلت من نعالهم إلا بعد كد.
وذكر لي بعض إخواني أن رجلاً من العامة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين لأصحاب الكلام عَلَى جار له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه مُرْجىء قَدَرِيّ ناصبي رافضي، فلما قصهُ عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علَيّ بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري عَلَى أي شيء أحسدك: أعلى علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟.
وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا، فقال لي ذات يوم بعضُهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية، كم تُطْنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان، فقلت له: فما تقول أنت في ذلك؟ قال: من تريد؟ قلت: علي، ما تقول فيه قال: أليس هو أبو فاطمة؟ قلت: ومَنْ كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي عليه لسلام بنت عائشة أخت معاوية، قلت: فما كانت قصة علي. قال: قتل في غَزَاة. حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان عبد اللّه بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام، وكان من قصة مروان ومقتله ما قد ذكر، ونزل عبد اللهّ بن علي الشام، ووجه إلى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة من سائر أجناد الشام فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة، فقال في ذلك إبراهيم بن المهاجر البَجَلِيُّ:
أيها الناس اسمعوا أخبركم ... عجبا زادَ على كل العجب
عجباً من عبد شمس، إنهم ... فتحوا للناس أبواب الكذب
ورثوا أحمد فيما زعموا ... دون عباس بن عبد المطلب
كذبوا واللّه ما نعلمه ... يحرز الميراث إلا من قرب
متطبب في عهد الرشيد

وقد كان ببغداد رجل في أيام هارون الرشيد متطبب يطبب العامة بصفاته وكان دهرياً يظهر أنه من أهل السنة والجماعة ويلعن أهل البدع ويعرف بالسني تنقاد إليه العامة؟ فكان يجتمِع إليه في كل يوم بقوارير الماء خَلْقٌ من الناس، فإذا اجتمعوا وثب قائماَ على قدميه فقال لهم: معاشر المسلمين، قلتم لا ضار ولا نافع إلا اللّه فلأي شيء مصيركم إلي تسألونني عن مضاركم ومنافعكم؟ ألجؤا إلى ربكم وتوكلوا على بارئكم حتى يكون فعلكم مثل قولكم، فيقبل بعضهم على بعض فيقولون: إي واللّه قد صدقَنَا، فكم من مريض لم يعالج حتى مات، ومنهم من كان يتركه حتى يسكن ثم يريه الماء فيصف له الدواء، فيقول: إيمانُكَ ضعيف، ولولا ذلك لتوكلت على اللّه كما أمْرَضَكَ فهو يُبْرِئك، فكان يقتل بقوله هذا خلقاً كثيراً لتزهيده إياهم في معالجة مرضاهم.
من أخلاق العامة
ومن أخلاق العامة أن يسودوا غير السيد، ويفضلوا غير الفضل، ويقولوا بعلم غير العالم، وهم أتباع من سَبَقَ إليهم من غير تمييز بين، الفاضل والمفضول، والفضل والنقصان، ولامعرفة للحق من الباطل عندهم، ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة والحجا، وتفقد العامة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مُرْقِلين إلى، قائد دبٍّ، وضارب بدف على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى مشَعبذ متنمس مخرق، أو مستمعين إلى قاصّ كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب؟ يُنْعَق بهم فيتبعون؟ ويصاح بهم فلا يرتدعون، لا ينكرون منكراً، ولا يعرفون معرفاً، ولا يبالون أن يلحقوا البرَّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر، وقد بين ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فيهم حيث يقول: " الناس إثنان: عالم، ومتعلم، وما عدا ذلك هَمج رَعاع لا يعبأ اللّه بهم " . وكذلك ذكر عن علي وقد سئل عن العامة، فقال هَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأجمع الناس في تسميتهم على أنهم غَوْغَاء، وهم الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا، ثم تدبر تفرقهم في أحوالهم ومذاهبهم، فانظر إلى إجماع مَلَئِهِمْ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام يدعو الخلق إلى اثنتين وعشرين سنة وهو ينزل عليه الوحي ويمليه على أصحابه، فيكتبونه ويُدَوِّنونه ويلتقطونه لفظة لفظة، وكان معاوية في هذه المدة بحيث علم اللّه، ثم كتب له صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهور، فأشادوا بذكره، ورفعوا من منزلته، بأن جعلوه كاتباً للوَحْي، وعَظَّمُوه بهذه الكلمة، وأضافوه إليها، وسلبوها عن غيره، وأسقطوا ذكر سواه، وأصل ذلك العادة والألف وما ولدوا عليه، وما نشؤا فيه، فألفوا وقت التحصيل والبلوغ، وقد عملت العادة عملها، وبلغت مبالغها، وفي العادة قالت الشعراء وتكلم أهل الدراية والأدباء، قال الشاعر:
لاتُهِنَي بعد إذ أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ منْتَزَعَةُ
وقال آخر معاتباً لصاحبه:
ولكِنْ فِطَامُ النفْس أثْقَلُ محملا ... من الصخره الصماء. حين ترومها
وقد قالت حكماء العرب: العادة أملك بالأرب، وقالت حكماء العجم: العادة هي الطبيعة الثانية، وقد صنف أبو عقال الكاتب كتاباً في أخلاق العوامِّ يصف فيه أخلاقهم وشيمهم ومخاطباتهم، وسَمَّاه بالملهِي.
ولولا إني أكره التطويل والخروج عما قصدنا إليه في هذا الكتاب من الِإيجاز لشرحت من نوادر العامة وأخلاقها، وطرائف أفعالها عجائبَ، ولذكرت مراتب الناس في أخلاقهم، وتصرفهم في أحوالها.
فلنرجع الآن إلى أخبار معاوية وسياسته، وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واستدعى به النفوس، حتى آثروه على الأصل والقرابات.
عقيل بن أبي طالب ومعاوية

من ذلك أنه وفد عليه عَقيلُ بن أبي طالب منتجعاً وزائراً، فرحّبَ به معاوية، وسُر بوروده، لاختياره إياه علىِ أخيه، وأوْسَعَه حلماَ واحتمالاً،فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياَ؟ فقال: تركته على ما يحبُّ اللّه ورسوله والفيتك على ما يكره اللّه ورسوله، فقال له معاوية، لولا أنك زائر منتجع جنابَنَا لرددت عليك أيا يزيد جوابَاَ تألم منه، ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه، فوثب عن مجلسه، وأمر له بنزل، وحمل إليه مالاً عظيماً، فلما كان من غد جلس وأرسل إليه فأتاه، فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياً أخاك؟ قال: تركته خيراً لنفسه منك، وأنت خير لي فنه، فقال له معاوية: أنت واللّه كما قال الشاعر:
وإذا عددت فخار آل محرق ... فالمجد منهم في بني عَتَّاب
فحمل المجد من بني هاشم مَنُوطُ فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي، فقال عقيل:
أصبر لحرب أنت جانيها ... لابدأن تصلى بحاميها
وأنت واللّه يا ابن أبي سفيان كما قال الاخر:
وإذا هوازن أقبلت بفَخَارها ... يوماً فخرتهم بآل مجاشع
بالحاملين على الموالي غُرْمَهم ... والضاربين الهام يوم الفازع
وصف بني صوحان
ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفخر؟ فقال معاوية: عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت، فإني لم أجلس لهذا، وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو معرفة بهم، فقال عَقِيل: سل عما بدا لك: فقال: مَيِّزْ لي أصحاب علي، وابدأ بآل صَوْحَان فإنهم مخاريق الكلام، قال: أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق، ويفتق ما رتق، قليل النظير، وأما زيد وعبد اللهّ فإنهما نهران جاريان، يصب فيهما الْخلجان، ويغاث بهما البلدان، رجلاَ جِدً لا لعب معه، وبنو صوحان كما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فإن عندي ... أسوداً تخلس الأسْدَ النفوسا
من صعصعة إلى عقيل:
فاتَصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم، ذكْرُ الله أكبر، وبه يستفتح المستفتحون، وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة؟ أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامُكَ لعدو الله وعدو رسوله، فحمدْتُ اللّه على ذلك، وسألته أن يفيء بك إلى الدرجة العليا، والقضيب الأحمر، والعمود الأسود فإنه عمودٌ مَنْ فارقه الدين الأزهر، ولئن نزعَتْ بك نفسك إلى معاوية طلبَاَ لماله إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة، فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما كان من فضل أو إحسان فبكم وَصَلَ إلينا، فأجَلَّ اللهّ أقداركم، وحمى أخطاركم، وكتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية، وأخطاركم محمية، وآثاركم بدْرِية، وأنتم سلم الله إلى خلقه، ووسيلته إلى طرقه، أيد علية، ووجوه جلية، وأنتم كما قال الشاعر:
فما كان من خير أتوه فإنما ... تَوَارَثَه آباء آبائهم قَبْلُ
وهل ينبت الخطي إلاوشيجه ... وتُغْرَسُ إلا في منابتها النخل
بين علي ووجوه أصحابه

وحدث الهيثم عن أبي عمرو بن يزيد، عن البراء بن يزيد، عن محمد بن عبد اللهّ بن الحارث الطائي ثم أحد بني عفان، قال: لما انصرف علي من الجمل قال لأذنه: مَنْ بالباب من وجوه العرب؟ قال: محمد بن عميربن عطارد التيمي والأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان العبدي، في رجال سماهم، فقال: ائذن لهم، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، فقال لهم: أنتم وجوه العرب عندي، ورؤساء أصحابي، فأشيروا عليَّ في أمر هذا الغلام المترَف - يعني معاوية - فافتنّتْ بهم المَشُورة عليه، فقال صعصعة: إن معاوية أتْرَفَهُ الهوى، وحببت إليه الدنيا، فهانت عليه مصارع الرجال، وابتاع آخرتة بدنياهم، فإن تعمل فيه برأي ترشد وتُصِبْ، إن شاء الله، والتوفيق باللّه وبرسوله وبك يا أمير المؤمنين، والرأي أن ترسل له عيناً من عيونك وثقة من ثقاتك، بكتاب تدعوه إلى بيعتك، فإن أجاب وأناب كأن له مالك وعليه ما عليك، وإلا جاهدته وصبرت لقضاء اللّه حتى يأتيك اليقين، فقال علي: عزمت عليك يا صعصعة إلا كتبت الكتاب بيديك، وتوجهت به إلى معاوية، واجعل صدر الكتاب تحذيراً وتخويفاً، وعجزه استتابة واستنابة ولْيَكن فاتحة الكتاب بسم اللهّ الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية سلام عليك، أما بعد ثم اكتب ما أشرتَ به عليَ، واجعل عنوان الكتاب ألا إلى اللّه تصير الأمور، قال: أعفني من ذلك، قال. عزمت عليك لتفعلَنَ، قال: أفعل، فخرج بالكتاب وتجهز وسار حتى ورد دمشق، فأتى باب معاوية فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - وبالباب أزْفَلة من بني أمية - فأخذته الأيدي والنعال لقوله، وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكثرت الجلبة واللغط، فاتصل ذلك بمعاوية فوجَّه من يكشف الناس عنه، فكشفوا، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال لهم: من هذا الرجل؟ فقالوا: رجل من العرب يقال له صعصعة بن صوحان معه كتاب من علي، فقال: والله لقد بلغني أمره، هذا أحد سهام علي وخُطَباء العرب، ولقد كنت إلى لقائه شَيِّقاً، ائذن له يا غلام، فدخل عليه، فقال: السلام عليك يا ابن أبي سفيان، هذا كتابُ أمير المؤمنين، فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسُلً تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك، ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعاً أم تكلفاً فقال: ممن الرجل؟ قال: من نزار، قال: وما كان نزار؟ قال: كان إذا غزا نكسَ، وإذا لقي افترس، وإذا انصرف احترس، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من ربيعة، قال: وما كان ربيعة. قال: كان يطيل النِّجاد، ويَعُولُ العباد، ويضرب ببقاع الأرض العِمَادَ، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من جَدِيلَةَ، قال: وما كان جديلة؟ قال: كان في الحرب سيفاً قاطعاً، وفي المكرمات غيثاً نافعاً، وفي اللقاء لهباً ساطعاً، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من عبد القيس، قال: وما كان عبد القيس. قال كاد خصيباً خضرماً أبيض وهاباً لضيفه ما يجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب العرق، يقوم للناس مقام الغيثمن السماء، قال: ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجداً ولا فخراً، قال: بلى واللّه يابن أبىِ سفيان، تركت لهم ما لا يصلح إلا بهم، ولهم تركت الأبيض والأحمر، والأصفر والأشقر، والسرير والمنبر، والملك إلى المحشر، وأنًى لا يكون ذلك كذلك وهم مَنَارُ اللّه في الأرض ونجومه في السماء. ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، فقال: صدقت يا ابن صوحان، إن ذلك لكذلك، فعرف صعصعة ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد ويلك يا ابن صوحان! قال: الويل لأهل النار، ذلك لبنى هاشم، قال: قم، فأخْرَجُوهُ، فقال صعصعة:الصدق ينبيء عنك لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل المحاورة، فقال معاوية: لشيء ما سوده قومه، وددت والله إني من صلبه، ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا فلتكن الرجال.
معاوية وجماعة من أصحاب علي

وحدث منصور بن وحشي، عن الحارث بن مسمار البهراني، قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكَوَّاء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيَ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكَوَّاء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار عنيد، لا تراقب اللهّ في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسِعُ الدنيا، ضيق الأخرى، قريب الثرى، بعيد المَرْعَى، تجعل الظلمات نوراَ، والنور ظلمات، فقال معاوية: إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابينَ عن بَيْضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلَّينَ ما حّرم الله، والمحرمِينَ ما أحل اللّه، فقال عبد اللّه بن الكواء: يا ابن أبي سفيان، إن لكل كلام جواب، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حِدَادٍ لا تأخذها في اللّه لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرجه قال: واللّه لا يطلق لك لسان، ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن سفيان فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنَّى يكون الخليفة مَنْ ملك الناس قهراً، ودَانَهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما واللّه. أئا لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلي ولا سيري ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجْلبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فأنى تصلح الخلافة لطليق. فقال معاوية: لولا إني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهمُ حلماً ومغفرة ... والعفوعن قدرةٍ ضَرْبٌ من الكرم
لقتلتكم.
صعصعة بن صوحان عند معاوية يصف له أهل البلاد

وحدث أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: أخبرنا أبو الهيثم يزيد بن رجاء الغَنَوي، قال: أخبرنا الوليد بن البختري، عن أبيه، عن ابن مردوع الكلبي قال: دخل صعصعة بن صوحان العبدي على معاوية فقال له: يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها، فأخبرني عن أهل البصرة، وإياك والحمل على قوم لقوم، قال: البصرة واسطة العرب، ومنتهى الشرف والسؤدد، وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سَرَوَاتُ العرب كدَورَان الرحا على قطبها، قال: فأخبرني عن أهل الكوفة، قال: قبة الإسلام، وذروة الكلام، ومظانُ ذوي الأعلام، إلا أن بها أجلافاً تمنع ذوي الأمر الطاعة، وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة، قال: فأخبرني عن أهل الحجاز، قال: أسرِع الناس إلى فتنة، وأضعفهم عنها، وأقلهم غَنَاء فيها، غير أن لهم ثباتاَ في الدين، وتمسكاً بعروة اليقين، يتبعون الأئمة الأبرار، ويخلعون الفَسَقَةَ الفجار، فقال معاوية: من البررة والفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان، تَرَكَ الخداع مَنْ كشف القناع، عليٌّ وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك، ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب، فقال: أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر، قال: أسد مضر بُسْلانٌ بين غيلين، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها احترست، فقال معاوية: هنالك يا ابن صوحان العز الراسي، فهل في قومك مثل هذا. قال: هذا لأهله دونك يا ابن أبي سفَيان، ومن أحَبّ قوماً حُشِرَ معهم. قال: فأخبرني عن ديار ربيعة ولا يستخفنك الجهل وسابقة الحمية بالتعصب لقومك. قال: واللّه ما أنا عنهم براض، ولكني أقول فيهم وعليهم: هم واللّه أعلام الليل، وأذناب في الدين والميل لن تُغلب رايتها إذا رسخت، خوارج الدين، برازخ اليقين، من نصروه فلج، ومن خذلوه زلج، قال: فأخبرني عن مضر، قال: كنانة العرب، ومعدن العز والحسب، يقذف البحر بها آذِيًه، والبر دريه، ثم أمسك معاوية، فقال له صعصعة: سَلْ يا معاوية وإلا أخبرتك بما تحيد عنه، قال: وما ذاك يا ابن صوحان؟ قال: أهل الشام، قال: فأخبرني عنهم، قال: أطْوَعُ الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عُصَاة الجبار، وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار، فقال معاوية: والله يا ابن صوحان إنك لحاملٌ مُدْيَتَكَ " منذ أزمان، إلا أن حلم ابن أبي سفمِان يرد عنك، فقال صعصعة: بل أمر اللّه وقدرته، إن أمر اللّه كان قدَراً مقدوراً.
وحدث أبو الهيثم قال: حدثني أبو البشير محمد بن بشر الفزاري، عن إبراهيم بن عقيل البصري، قال: قال معاوية يوماً - وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس - : الأرض للهّ، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي، فقال صعصعة:
تُمَنَيكَ نفسك مالايكو ... ن جَهْلاًمعاوي لاتأثم
فقال معاوية: يا صعصعة، تعلّمت الكلام، قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما أحْوَجَكَ إلى أن أذيقك وَبَالَ أمرك! قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، قال: ومن يحول بيني وبينك. قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير، قال: اتسع بطن مَنْ لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع.
من أخبار صعصعة
قال المسعودي: ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني، على إيجاز واختصار.
ومن ذلك خبره مع عبد اللّه بن العباس، وهو ما حدث به المدائني، عن زيد بن طليح الذهلي الشيباني، قال: أخبرني أبي، عن مصقلة بن هبَيْرَة الشيباني، قال: سمعت صعصعة بن صوحان وقد سأله ابن عباس: ما السؤدد فيكم؟ نقال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النَوال، وكف المرء نفسه عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن يكون الناس عندك شَرَعاً، قال: فما المروءة. قال: أخوان اجتمعا فإن لقيا قهراً حارسهما قليل، وصاحبهما جليل، يحتاجان إلى صيانة " مع نزاهة وديانة، قال: فهل تحفظ في ذلك شعراً قال: نعم، أما سمعت قول مرة بن ذُهْل ابن شيبان حيث يقول:
إن السيادة والمروءة عُلِّقَا ... حيث السماء من السِّمَاكِ الأعزل

وإذا تقابل مُجْرِيَانِ لغاية ... عثر الهجين وأسلمته الأرجل
ويَجِي الصريحُ مع العتاق معوداً ... قرب الجياد فلم يجئه الأفكل
في أبيات، فقال له ابن عباس: لو أن رجلاً ضرب آباط إبله مشرقاً ومغرباً لفائدة هذه الأبيات ما عنفته، إنا منك يا ابن صوحان لعلى علم وحكم واستنباط ما قد عفا من أخبار العرب، فمن الحكيم فيكم؟ قال: مَنْ ملك عضبه فلم يعجل، وسعي إليه بحق أو باطل فلم يقبل، ووجد قاتل أبيه وأخيه فصفعِ ولم يقتل، ذلك الحكيم يا ابن عباس، قال: فهل تجد ذلك فيكم كثيراَ. قال: ولا قليلاً، وإنما وصفت لك أقواماً لا تجدهم إلا خاشعين راهبين للّه مريدين ينيلون ولا ينالون، فأما الآخرون فإنهم سبق جهلهم حلمهم، ولا يبالي أحدهم إذا ظفر ببغيته حين الحفيظة ما كان بعد أن يدرك زعمه يقضي بغيته، ولو وتره أبوه لقتل أباه، أو أخوه لقتل أخاه، أما سمعت إلى قول زبان بن عمرو بن زبان، وذلك أن عمراً أباه قتله مالك بن كومة، فأقام زبان زماناً، ثم غزا مالكاً، فأتاه في مائتي فارس صباحاً وهو في أربعين بيتاً فقتله، وقتل أصحابه وقتل عمه فيمن قتل، ويقال: بل كان أخاه، وذلك أنه كان جاورهم، فقيل لزبان في ذلك: قتلت صاحبنا، فقال:
فلو أمي ثَقَفْتُ بحيث كانوا ... لبَل ثيابها علق صبيب
ولو كانت أمية أخت عمرو ... بهذا الماء ظَلَّ لها نحيب
شهرت السيف في الأدنين مني ... ولم تعطف أواصِرَنَا قلوب
فقال له ابن عباس: فمن الفارس فيكم؟ حُدّ لي حداً أسمعه منك فإنك تضع الأشياء مواضعها يا ابن صوحان، قال: الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم على أمله بضرسه، وكانت الحرب أهون عليه من أمسه، ذلك الفارس إذا وقدت الحروب، واشتدت بالأنفس الكروب، وتداعوا للنزال، وتزاحفوا للقتل، وتخالسوا المهج، واقتحموا بالسيوف اللجج، قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان، إنك لسليل أقوام كرام خطباء فصحاء، ما ورثت هذا من كَلاَلة، زدني قال: نعم، الفارسُ كثير الحذر، مدير النظر، يلتفت بقلبه، ولا يدير خرزات صلبه، قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان الوَصْفَ، فهل في مثل هذه الصفة من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جَناب الكلبي يرثي ابنه عمراً حيث يقول:
فارس تكلأ الصحابة منه ... بحسام يمرُمًرّ الحريق
لاتراه لدى الوغى في مجال ... يغفل الطرف، لا، ولافي مضيق
من يراه يَخَلْه في الحرب يوما ... أنه أخرق مضل الطريق
في أبيات، فقال له ابن عباس: فأين أخواك منك يا ابن صوحان؟ صِفْهُمَا لأعرف وزنكم. قال: أما زيد فكما قال أخو غَنِيّ:
فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا سد خلاَّتِ الكرام شُحُوبُ
إذا ما ترا آه الرجال تحفظوا ... فلم ينطقوا العوراء وهو قريب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... إليه، ويدعوه الندى فيجيب
يبيت الندى يا أم عمرو ضَجِيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب
كأن بيوت الحي مالم يكن بها ... بَسَابِسُ مايلفى بهن عَرِيبُ
في أبيات، كان واللّه يا ابن عباس عظيم المروءة، شريف الأخوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش العروة، أليف البدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكراً اللّه طرفَي النهار وزُلَفاًَمن الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا ينافس في الدنيا، وأقل أصحابه من يُنَافس فيها، يطيل السكوت، ويحفظ الكلام، وإن نطق نطق بعُقام، يهرب منه الدُّعَّار الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار، فقال ابن عباس: ما ظنك برجل من أهل الجنة، رحم اللّه زيداً، فأين كان عبد اللّه منه. قال: كان عبد اللّه سيداً شجاعاً، مألفاٍ مطاعاً، خيِره وساع، وشره دفاع، قُلْبي النحيزة، أحوذي الغريزة، لا ينهنهه منهِنة عما أراده، ولا يركب من الأمر إلا عتاده، سماع عدي، وباذل قرى، صعب المَقَادة، جَزْل الرفادة، أخو إخوان، وفتى فتيان، وهو كما قال البرجمي عامر بن سنان:
سِمَامُ عدى، بالنبل يقتل من رمى ... وبالسيف والرمح الرُّدَيْنِيِّ مشغب
مهيب مفيد للنوال مُعَوَّد ... بفعل الندى والمكرمات مجرب

وفي أبيات، فقال له ابن عباس: أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب.
ومن أخبار صعصعة ما حدث به أبو جعفر محمد بن حبيب الهاشمي، عن أبي الهيثم يزيد بن رجاء الغنوي، قال: أخبرني رجل من بني فزارة ثم من بني عدي، قال: وقف رجل من بني فزارة على صعصعة، فأسمعه كلاماً منه: بسطت لسانك يا ابن صوحان على الناس فتهيبوك، أما لئن شِئْتَ لأكونن لك لصاقاً، فلا تنطق إلا حَدَدْتُ لسانك بأذْرَبَ من ظُبَةِ السيف، بعضب قوي، ولسان علي، ثم لا يكون لك في ذلك حلِ ولا ترحال، فقال صعصعة: لو أجد غرضاً منك لرميت، بل أرى شبحاَ ولا أرى مثالاً، إلا مسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أما لو كنت كفؤاً لرميت حصائلك بأذْرَبَ من ذلك السنان، ولرشقتك بنبال تردعك عن النضال، ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام، فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزاري، وقال: أما لو كلف أخو فزارة نَفْسَه نقل الصخور من جبال شمام إلى الهضام، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس، خاب أبوه، ما أجهله!! يستجهل أخا عبد القيس، وقواه المريرة، ثم تمثل:
صُبّتْ عليك ولم تنصبّ من أمَم ... إن الشقاء على الأشْقَيْنَ مصبوب
أبو أيوب وصعصعة
وحدث المبرد، عن الرياشي، عن ربيعة بن عبد اللّه النميري، قال: أخبرني رجل من الأزد، قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري، في يوم النهروان، وقد علا عبد الله بن وهب الراسي، فضربه ضربة على كتفه، فأبان يده، وقال: بُؤْبها إلى النار يا مارق، فقال عبد الله: ستعلم أينا أولى بها صليا، قال: وأبيك إني لأعلم؟ إذ أقبل صعصعة بن صوحان فوقف وقال: أولى بها والله صلياً من ضلَّ في الدنيا عمياً، وصار إلى الآخرة شقيا، أبعدك اللّه! وأنزحك! أما واللهّ: لقد أنذرتك هذه الصرعة بالأمس، فأبيت إلا نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال أمرك، وشَرَكَ أبا أيوب في قتله: ضربه ضربةً بالسيف أبان بها رجله، وأدركه بأخرى في بطنه، وقال: لقد صرت إلى نازلا تطفأ، ولا يبوخ سعيرها، كم احتزا رأسه، وأتَيَا به علياً، فقالا: هذا رأس الفاسق، الناكث، المارق: عبد اللّه بن وهب، فنظر إليه فقَطّبَ، وقال: شَاهَ هذا الوجه! حتى خيل إلينا أنه يبكي، ثم قال: قد كان أخو راسب حافظا لكتاب اللّه، تاركاً لحدود اللّه، ثم قال لهما: اطلبا لي ذا الثدَية، فطُلِبَ فلم يوجد، فرجعا إليه وقالا: ما أصبنا شيئاَ، فقال: واللّه لقد قتل في يومه هذا، وما كذبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا كَذَبْتُ عليه، قوموا بجمعكم فاطلبوه، فقامتَ جماعة من أصحابه، فتفرقوا في القتلى، فأصابوه في دهاس من الأرض، فوقه زهاء مائة قتيل، فآخرجوه يجر برجله، ثم أتى به علي، فقال: اشهدوا أنه ذو الثدية، وقد ذكرنا أخبار ذي الثدية فيما سلف من هذا الكتاب.
من قول علي في ربيعة
ولعلي في ربيعة كلام كثير يمدحهم فيه، ويرثيهم شعراً ومنثوراً، وقد كانوا أنصاره وأعوانه، والركن المنيع من أركانه، فمن بعض ذلك قوله يوم صفين:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمهاحُضَيْنُ تقدما
فيوردها في الصف حتى يعلها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
جزى الله قوماً قاتلوا في لقائه ... لدى الموت قدْماً ما أعز وأكرما
وأطيب أخباراً، وأكرم شيمة، ... إذا كان أصوات الرجال تغمغمما
ربيعَةَ أعْنِي، إنهم أهل نجدة ... وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرما
معاوية وجميل بن كعب
وذكر المدائني أن معاوية أسر جميل بن كعب الثعلبي - وكان من سادات ربيعة وشيعة علي وأنصاره - فلما وقف بين يديه قال: الحمد للهّ الذي أمكنني منك، ألست القائل يوم الجمل:
أصبحتِ الأمة في أمرعَجَبْ ... والملك مجموع غداً لمن غلب
قد قلت قولاً صادقَاَ غيركذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب

قال: لا تقل ذلك فإنها مصيبة، قال معاوية: وأي نعمة أكبر من أن يكون اللة قد أظفرني برجل قد قتل في ساعة واحدة عدة من حمَاة أصحابي؟ اضربوا عنقه، فقال: اللهم أشِهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن قتلني على حُطَام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله، فقال معاوية: قاتلك الله! لقد سببت فأبلغت في السب، ودعوتَ فبالغت في الدعاء، ثم أمر به فآطلق، وتمثل معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر، لم يقل النعمان غيرها، فيما ذكر ابن الكلبي، وهي:
تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفَضْلِهَا
ولقد تُعَاقب في اليسير، وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف فضلهَا ويُخَاف شدة نكلهَا
معاوية عند موته
وذكر لوط بن يحيى وابن دأب والهيثم بن عدي وغيرهم من نَقَلَةِ الأخبار أن معاوية لما احتُضِرَ تمثل:
هو الموت، لامَنْجى من الموت، والذي ... تحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقِل العَثْرة، واعف عن الزلة، وجُدْ بحلمك على جهل من لم يَرْجُ غيرك، ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، وليس لذي خطيئة مهرب، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال: لقد رغب إلى مَنْ لا مرغوب إليه مثله وإني لأرجو أن لا يعذبه اللهّ.
وذكر محمد بن إسحاق وغيره من نقلة الآثار أن معاوية دخل الحمام في بدء علته التي كانت وفاته فيها، فرأى نحول جسمه، فبكى لفنائه وما قد أشرَفَ عليه من الثور الواقع بالخليقة، وقال متمثلاً:
أرى الليالي أسرعت في نقضي ... أخَذْنَ بعضي وتركن بعضي
خنَيْنَ طولي وحَنَيْنَ عرضي ... أقعدنني من بعد طول نهضي
ولما أزف أمرهُ، وحان فراقه، واشتدت علته، وأيس من برئه، أنشأ يقول:
فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة ... ولم أك في اللذات أعشى النواظر
وكنت كذي طمرين عاش بُبلْغَة ... من الدهرحتى زار أهل المقابر
قال المسعودي: ولمعاوية أخباركثيرة مع علي وغيره، وقد أتينا على الغرر من أخباره، وما كان في أيامه في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وغيرهما من كتبنا، مما أفرد للآثار، وهذا باب كبير، والكلام فيه وفي غيره مما تقدم وتأخر في هذا الكتاب كثير، ومَنْ ضَمِنَ الاختصار لم يَجُزْ له الإكثار.
وإنما نذكر في كل باب من هذا الكتاب طُرَفَاَ من كل نوع من العلوم والأخبار، وما انتخبناه من طرائف الآثار؟ ليستدل الناظر فيه بما ذكرنا على المراد مما تركنا ذكره، وقد تقدم وصفه وبسطه فيما سلف من كتبنا.
وإذ تقدم ما ذكرنا، فلنذكر الآن جملاً من فَضْل الصحابة، وغيرهم، عليهم السلام؟ إذ كانوا حجة على مَنْ بعدهم، وقدوة لمن تأخرعنهم، وبالله التأييد.
ذكر الصحابة ومدحهم وعلي والعباس وفضلهما
معاوية وعبد اللّه بن العباس
دخل عبد اللّه بن عباس على معاوية وعنده وُجُوه قريش، فلما سلم وجلس قال له معاوية: إني أريد أن أسألك عن مسائل. قال: سَلْ عما بدا لك، قال: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم اللّه أبا بكر، كان واللّه للقران تالياً، وعن المنكرات ناهياً، وبذنبه عارفاً، ومن اللهّ خائفاً، وعن الشبهات زاجراً، وبالمعروف آمراً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، فَاقَ أصحابه وَرَعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً، فغضب اللّه على مَنْ أبغضه وطعن عليه.
وصف عمر
قال معاوية: أيهاً يا ابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟. قال: رحم اللّه أبا حفص عمر، كان واللّه حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى، الإحسان، ومحل الإيمان، وكَهْفَ الضعفاء، ومَعقلَ الحنفاء، قام بحق اللّه عزّ وجل صابراً محتسباً، حتى أوضح الدين، وفتح البلاد، وأمَّنَ العباد، فأعقب اللّه على مَنْ تَنقّصه اللعنَةَ إلى يوم الدين.
قال: فما تقول في عثمان.
وصف عثمان
قال: رحم أبا عمرو، كان واللّه أكرم الحفَدة، وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهَّاضاً عند كل مكرمة، سًبّاقاً إلى كل منحة، حيياً أبياً وفياً، صاحب جيش العُسْرَة، خَتَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين، إلى يوم الدين.
وصف علي
قال: فما تقول في علي؟

قال: رضي اللّه عن أبي الحسن، كان واللّه عليٌّ عَلَم الهدى، وكهف التقي، ومحل الحجا، وبحر الندى، وطَوْد النهي، وكهف العلا، للورى داعياً إلى المحجَّةِ العظمى، متمسكاً بالعروة الوُثْقَى، خير مَنْ آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من انتعل وسَعَى، وأفصح من تنفس وقرأ، وأكثر من شهد النجوى، سوى الأنبياء والنبي المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد. وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر. وزوج خير النساء فهل يفوقه قاطن بلد. للأسُود قتال، وفي الحروب ختال، لم تر عيني مثله ولن تَرَى، فعلى من انتقصه لعنة اللّه والعباد إلى يوم التناد.
قال: أيها يا ابن عباس، لقد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس..
وصف العباس
قال: رحم اللّه العباس أبا الفَضْل، كان صِنْوَ نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد، وأحلام أجداده الأمجاد، تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسِّقَاية، والمشاعر والتلاوة، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دَبَّ؟.
فقال معاوية: يا ابن عباس، أنا أعلم أنك كلماني في أهل بيتك قال: ولم لا أكون كذلك، وقد قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم،: " اللهم فَقِّهْه في الدين وعلمه التأويل؟.
وصف الصحابة عامة
ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام: يا معاوية، إن اللّه جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خَصَّ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بصحابةٍ آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم اللّه في كتابه فقال: " رحماء بينهم " الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء اللّه، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل اللهّ بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة اللّه العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات اللة ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة للّه أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نُصَحَاء، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها.
فَقَطَعَ عليه معاوية الكلام، وقال: إيها يا ابن عباس، حديثاً في غير هذا.
ذكر أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
وبويع يزيد بن معاوية، فكانت أيامه ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثماني ليال، وأخذ يزيد لابنه معاوية بن يزيد البيعة على الناس قبل موته، ففي ذلك يقول عبد اللّه بن هًمّام السَّلُولي:
تَلَقّفَهَا يَزِيد عن أبيه ... فخُذْهَا يا مُعَاوِيَ عن يزيدا
لقدعلقت بِكُمْ فَتَلَقفُوهَا ... ولاترموا بها الغرض البعيدا
وهلك يزيد بحوَارِينَ من أرض دمشق لسبع عشرة ليلة خلت من صفر سنة أربع وستين، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وفي ذلك يقول رجل من عنزة:
يا أيّها القبر بحوَارِينَا ... ضممت شَر الناس أجمعينا
وقد رَثَاه الأخطل النصراني، فقال من قصيدة:
لعمري لقد دلى إلى اللحد خالد ... جنازة لا نِكْس الفؤاد ولا غمر
مقيم بحوارِينَ ليس يَريِمُهَا ... سقته الغوادي من ثَوِيٍّ ومن قبر
في أبيات.
ذكر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب
عليه السلام ومن قتل معه من أهل بيته وشيعته
أهل الكوفة يدعون الحسين
ولما مات معاوية أرسل أهل الكوفة إلى الحسين بن علي: إنا قد حَبَسْنَا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضرجمعة ولا جماعة بسببك. وطولب الحسين بالبيعة ليزيد بالمدينة فسام التأخير، وخرج يتهادى بين مواليه ويقول:
لا ذَعَرْتُ السوَامَ في فلق ... الصبح مُغِيراً، ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما ... والمنايا ترصُدْنَنِي أن أحِيدا
مسلم بن عقيل يتقدم الحسين إلى الكوفة

ولحق بمكة، فأرسل بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وقال له: سِرْ إلى أهل الكوفة، فإن كان حقّاً ما كتبوا به عرفني حتى ألحق بك، فخرجِ مسلم من مكة في النصف من شهر رمضان حتى قدم الكوفة لخمس خَلَوْن من شوال، والأمير عليها النعمان بن بشير الأنصاري، فنزل على رجل يقال له عَوْسَجة مستتراً، فلما ذاع خبر قدومه بايعه من أهل الكوفة اثنا عشر ألف رجل، وقيل: ثمانية عشر ألفاً، فكتب بالخبر إلى الحسين، وسأله القدوم إليه، فلما هَمَّ الحسين بالخروج إلى العراق أتاه ابن العباس، فقال له: يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهْلُ غدمْر، وإنما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكة فَاشْخَصْ إلى اليمن، فإنها في عُزْلَة، ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وَبث دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم، فإن قَوَوْا على ذلك ونفوه عنها، ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي اللّه بأمره، فإن فيها حصونَاَ وشعاباً، فقال الحسين: يا ابن عمر، إني لأعلم أنك لي ناصح وعليَّ شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب باجتماع أهل المصرعلى بَيْعتي ونُصْرتي، وقد أجمْعت على المسير إليهمِ، قال: إنهم من خَبَرْتَ وجَرَّبت وهم أصحاب أبيك وأخيك وَقَتَلَتُكَ غداَ مع أميرهم، إنك لو قد خرجت فبلغ ابنَ زياد خروجُك استنفرهم إليك، وكان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك، فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك، فواللّه إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، فكان الذي رَدَّ عليه: لأن أقْتَلَ والله بمكان كذا أحَبُّ إلي من أن أستحَل بمكة، فيئس ابن عباس منه، وخرج من عنده، فمر بعبد اللّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا ابن الزبير، وأنشد:
يا لك من قبرَةٍ بمعمر ... خلالَكِ الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شت أن تنقري
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحِجاز.
الحسين وابن الزبير
وبلغ ابن الزبير أنه يريد الخروج إلى الكوفة وهو أثقل الناس عليه، قد غمه مكانه بمكة، لأن الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيء يُؤتَاه أحَبّ إليه من شخوص الحسين عن مكة، فأتاه فقال: أبا عبد اللهّ ما عندك، فواللّه لقد خفت اللهّ في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم واستذلالهم الصالحين من عباد اللّه، فقال حسين: قد عزمْتُ على إتيان الكوفة، فقال: وفَّقَكَ اللّه!! أما لو أن لي بها مثل أنصارك ما عدلْتُ عنها، ثم خاف أن يتهمه فقال: ولو أقمت بمكانك فدعوتَنَا وأهل الحجاز إلى بيعتك أجبناك وكنا إليك سِرَاعا، وكنت أحق بذلك من يزيد وأبي يزيد.
نصيحة أبي بكر بن هشام
ودخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين فقال: يا ابن عمر، إن الرحم يُظَائرني عليك، ولا أدري كيف أنافي النصيحة لك، فقال: يا أبا بكر ما أنت ممن يسْتَغَشُّ ولا يُتَهم، فقل، فقال أبو بكر: كان أبوك اقدم سابقة، وأحسن في الإسلام أثراً، وأشد بأساً، والناس له أرْجى، ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام وهو أعز منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه، حرصاً على الدنيا، وضناً بها، فجرعوه الغيظ، وخالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة اللّه ورضوانه، ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلك كله ورأيته، ثم أنت تريد أن تسير إلى الذين عَدَوْا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومن أعَدُّ منك وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقَاتلك مَنْ وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فاذكر اللّه في نفسك، فقال الحسين: جزاك اللّه خيراً يا ابن عمر، فقد أجهدك رأيك، ومهما يَقْض اللّه يكن، فقال: إنا للّه وعند اللهّ نحتسب يا أبا عبد اللّه، ثم دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي والي مكة وهو يقول:
كم نرى ناصحا ًيقول فَيُعْصى ... وظَنِينِ المغيب يُلْفى نصيحاً
فقال: وما ذاك. فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحت له ورب الكعبة.
يزيد يستعد

واتصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عبيد اللّه بن زياد بتولية الكوفة، فخرج من البصرة مسرعاً حتى قدم الكوفة على الظهْر، فدخَلَهَا في أهله وحشمه وعليه عمامة سوداء قد. تَلَثّم بها، وهو راكب بغلة والناس يتوقعون قدوم الحسين فجعل ابن زياد يسلم على الناس فيقولون: وعليك السلام يا ابن رسول اللّه! قدمْتَ خير مَقْدَم، حتى انتهى إلى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصَّنَ فيه، ثم أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول اللّه ما لي ولك. وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان. فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم، وَحَسَرَ اللِّثَام عن فيه، فعرفه، ففتح له، وتنادى الناس: ابن مَرْجَانَة، وَحَصَبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر، ولما اتصل خبر ابن زياد بمسلم تحوَّل إلى هانىء بن عروة المرادي، ووضع ابن زياد الرَّصَدَ على مسلم حتى علم بموضعه، فَوَجَّه محمد بن الأشعث بن قيس إلى هانىء، فجاءه فسأله عن مسلم، فأنكره، فأغلظ له ابن زياد القول، فقال هانىء: إن لزياد أبيك عندي بلاء حسناً، وأنا أحِبُّ مكافأته به، فهل لك في خير. قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تَشْخَصُ إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق مَنْ هو أحق من حقك وحق صاحبك، فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدنوه منه، فضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشق حاجبه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه، وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الشرط، فجاذبه الرجل، ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانىء بالباب: قتل صاحبنا، فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت إلى جانب مجلسه، وأخرج إليهم ابن زياد شريحاً القاضي، فشهد عندهم أنه حي لم يقتل، فانصرفوا، ولما بلغ مسلماً ما فعل ابن زياد بهانىء، أمر منادياً فنادى يا منصور وكانت شعارهم، فتنادى أهل الكوفة بها، فاجتمع إليه في وقت واحد ثمانية عشر ألف رجل، فَسَارَ إلى ابن زياد، فتحصن منه، فحصروه في القصر فلم يُمْس مسلم ومعه غير مائة رجل، فلما نظر إلى الناس يتفرقون عنه سار نحو أبواب كِنْدَة، فما بلغ الباب إلا ومعه منهم ثلاثة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم أحد، فبقي حائراً لا يدري أين يذهب، ولا يجد أحداً يَدُلُّه على الطريق، فنزل عن فرسه ومشى متلدداً في أزقة الكوفة لا يدري أين يَتَوَجَّه، حتى انتهى إلى باب مولاة للأشعث بن قيس، فاستسقاها ماء فَسَقَتْهُ، ثم سألته عن حاله، فأعلمها بقضيته، فَرَقَّت له وآوَتْهُ، وجاء ابنها فعلم بموضعه، فلما أصبح غدا إلى محمد بن الأشعث فأعلمه.
قتل مسلم بن عقيل
فمضى ابن الأشعث إلى ابن زياد فأعلمه، فقال: انطلق فَأْتِنِي به، وَوَجَّه معه عبد اللهّ بن العباس السُّلمي في سبعين رجلاً، فاقتحموا على مسلم الدار، فثار عليهم بسيفه، وشدَّ عليهمِ فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه الثانية، فَشَدَّ عليهم وأخرجهم أيضاَ، فلما رأوا ذلك عَلَوْا ظهر البيوت فَرَمَوْه بالحجارة، وجعلوا يلهبون النار بأطراف القصب، ثم يلقونها عليه من فوق البيوت، فلما رأى ذلك قال: أكلُّ ما أرى من الأحلاب لقتل مسلم بن عقيل. يا نفس أخرجي إلى الموت الذي ليس عنه محيص، فخرج إليهم مُصْلِتاً سيفه إلى السِّكَّةِ، فقاتلهم، واختلف هو وبكير بن حمران الأحمريّ ضربتين: فضرب بكير فَمَ مسلم فقطع السيف شفته العليا وشرع في السفلى، وضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه، ثم ضربه أخرى على حبل العاتق فكاد يصل إلى جَوْفِه، وهو يزتجز ويقول:
أقسم لا أقْتَلُ إلا حُرّا ... وإنْ رأيت الموت شيئاً مُرَّا
كل امرىء يَوْماً ملاقٍ شَرّاً ... أخَافُ أنْ أكْذَبَ أوْ أغَرَّا
فلما رأوا ذلك منه تقدم إليه محمد بن الأشعث فقال له: فإنك لا تكذب ولا تغر، وأعطاه الأمان، فأمكنهم من نفسه، وحملوه على بَغْلَةٍ وأتوا به ابنَ زيادٍ، وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:
وتَرَكْتَ عَمّكَ أن تُقَاتِلَ دُونه ... فَشَلاً، وَلَوْلا أنت كان مَنِيعَا
وقتلت وَافِدَ آل بيت مُحَمَد ... وسَلَبْتَ أسْيَافاً له ودرُوعَا
مقتل هانىء بن عروة

فلما صار مسلم إلى باب القصر نظر إلى قُلة مبرعة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو الباهلي - وهو أبو قتيبة بن مسلم - أن يسقوه، فَوجة عمرو بن حريث فأتاه بماء في قدح، فلما رفعه إلى فيه امتلأ القدح دماً، فَصَبَّهُ وملأه له الثانية، فلما رفعه إلى فيه سقطت ثناياه فيه وامتلأ دماً، فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم لشربته، ثم ادخل إلى ابن زياد، فلما انقضى كلامه ومسلم يُغْلظ له في الجواب أمر به فأصعد إلى أعلى القصر، ثم دعا الأحمريَّ الذي ضربه مسلم، فقال: كُنْ أنت الذي تضرب عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته، فأصعدوه إلى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهْوَى رأسه إلى الأرض، ثم أتبعوا رأسه جَسَده، ثم أمر بهانىء بن عروة فأخرج إلى السوق، فضرب عنقه صبراً، وهو يصيح: يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحداً فشلاً وخذلاناً، فقال الشاعر: وهو يرثي هانىء بن عروة ومسلم بن عقيل ويذكر لما نالهما:
إذا كُنْتِ لا تدرِين ما الموت فانظري ... إلى هانىء في السوق وابن عَقيل
إلى بَطَلٍ قدهَشّمَ السيف وجهه ... وَآخَر َيَهْوِي في طمارقتيل
أَصابهما أمْرُ الأمير فأصبحا ... أحادِيثَ من يَسْعى بكل سبيل
تَرَىْ جَسَداً قد غَيرَ المَوْتُ لونه ... وَنَضْحَ دم قد سَالَ كل مَسِيل
أيترك أسماء المهايج آمِناً ... وقد طلبته مَذْحجِ بذحُول
فَتىً هو أحيى من فتاة حَيِيَّةٍ ... وأقطع من ذِي شَفْرَتيْنِ صقيل
ثم دعا ابن زياد ببكيربن حمران الذي ضرب عنق مسلم فقال: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبر ويسبح اللّه ويهللِ ويستغفر اللّه، فلما أدنيناه لنضرب عُنقه قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونَا وكذبونا ثم خذلونا وقتلونا، فقلت: الحمد للّه الذي أقادني منك، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً، فقال لي: أوَما يكفيك وَفي خَدْشٍ مني وَفَاءٌ بدمك أيها العبد، قال ابن زياد: أوَفخراً عند الموت. قال: وضربته الثانية فقتلته، ثم أتبعنا رأسه جسده.
وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مَضَيْنَ من ذي الحجة سنة ستين، وهو اليوم الذي ارتحل فيه الحسين من مكة إلى الكوفة، وقيل: يوم الأربعاء يوم عرفة لتِسْع مَضَينَ من ذي الحجة سنة ستين.
ثم أمر ابن زياد بجثة مسلم فصلبت، وحمل رأسه إلى دمشق، وهذا أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم، وأول رأس حمل من رؤوسهم إلى دمشق.
الحسين يقاتل جيش ابن زياد
فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد يا ابن رسول اللّه؟ قال: أريد هذا المصر، فَعَرفَه بقتل مسلم وما كان من خبره، ثم قال: ارجع فإني لم أدَعْ خلفي خيراً أرجوه لك، فَهَمَّ بالرجوع فقال له إخوةُ مسلمٍ: واللّه لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل كلنا، فقال الحسين: لا خير في الحياة بعدكم، ثم سارحتى لقي خيل عبيد اللهّ بن زياد عليها عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فعدل إلى كربلاء - وهو في مقدار خمسمائة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مائة راجل - فلما كثرت العساكر على الحسين أيقن أنه لا محيص له، فقال: اللهم احكم بيننا وبين قوم دَعَوْنَا لينصرونا ثم هم يقتلوننا، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه، وكان الذي تولى قتله رجل من مَذْحِج واحتزرأسه، وانطلق به إلى ابن زياد وهو يرتجز:
أوقر ركابي فِضّة وذَهَبَا ... أنا قتلتُ الملك المحجَّبَا
قتلتُ خَيْرَ الناس آماً وأباً ... وَخَيْرَهُم إذ يُنْسَبُونَ نسبا
من قتل مع الحسين
فبعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس، فدخل إلى يزيد وعنده أبو بَرْزَه الأسلمي، فوضع الرأس بين يديه، فأقبل ينكت القضيب في فيه ويقول:
نُفَلِّقُ هَاماًمن رجالٍ أحِبة ... عَلَيْنَا، وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال لو أبو بَرْزَةْ: ارفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يضع فمه علىِ فمه يلثمه، وكان جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربه وتولَى قتله من أهل الكوفة خاصة، لم يحضرهم شامي، وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين، منهم ابنه علي بن الحسين الأكبر، وكان يرتجز ويقول:
أنا عليُّ بن الحسين بن علي ... نَحْنُ وبيت اللَه أوْلَى بِالنَّبِيّ
تالله لا يَحْكُمُ فِينَا ابن الدَّعِي
وقتل من ولد أخيه الحسن بن علي: عبدُ الله بن الحسن، والقاسم بن الحسن، وأبو بكر بن الحسن، ومن إخوته؟ العباس بن علي، وعبد اللهّ بن علي، وجعفر بن علي، وعثمان بن علي، ومحمد بن علي، ومن ولد جعفر بن أبي طالب: محمد بن عبد اللهّ بن جعفر، وعَوْن بن عبد اللّه بن جعفر، ومن ولد عقيل بن أبي طالب: عبد اللهّ بن عقيل، وعبد اللّه بن مسلم بن عقيل، وذلك لعشر خَلَوْنَ من المحرم سنة إحدى وستين.
وقتل الحسين وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: ابن تسع وخمسين سنة، وقيل غير ذلك.
ووجد بالحسين يوم قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، ضَرَبَ زرعة بن شريك التميمي كفه اليسرى، وطعنه سنان بن أنس النخعي، ثم نزل فاحتز رأسه، وفي ذلك يقول الشاعر:
وَأيُّ رَزِيّة عدلَتْ حُسَيْنا ... غَدَاةَ تبينُه كَفَّا سِنَانِ.
وقتل معه من الأنصار أربعة، وباقي من قتل معه من أصحابه - على ما قدَمنا من العدَّة - من سائر العرب، وفي ذلك يقول مسلم بن قتيبة مَوْلَى بني هاشم:
عَيْنُ جودي بعبرة وَعَوِيل ... وَاندبي إن ندبت آل الرَّسُول
واندبي تِسْعَة لِصُلْبِ علي ... قدأصَيبوا، وخَمْسَة لعقيل
وَابْنَ عَمّ النبي عَوْناً أخاهم ... ليس فيما يَنُوب بِالمَخْذُول
وَسَمِيُّ النبي غُودِرَفيهم ... قدعَلَوْهُ بِصَارِم مَصْقًول
واندبي كَهْلَهُمْ فليس إذا ما ... عُدَّ في الخيركهلهمَ كَالكُهُول
لَعَنَ اللّه حيث كَانَ زياداً ... وابنه وَالعَجُوزَ ذات البُعُول
وأمر عمرو بن سعد أصحابه أن يُوطِئوا خيلَهم الحسينَ، فانتدب لذلك إسحاق بن حيوة الحضرمي في نفر معه، فوطئوه بخيلهم، ودَفَنَ أهل العاضرية - وهم قوم من بني عاضر من بني أسد - الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم، وكان عدَة مَنْ قتل من أصحاب عمرو بن سعد في حرب الحسين عليه السلام ثمانية وثمانين رجلاً.
ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
أسماء ولد علي وأُمهاتهم
الحسن، والحسين، ومُحَسِّن، وأُم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى، أمهم فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومحمد وأمه خَوْلَة بنت آيا الحَنَفِيَّة، وقيل: ابنة جعفر بن قيس بن مَسلَمة الحنفي، وعبيد اللّه، وأبو بكر أمهما ليلى بنت مسعود النهشلي، وعمر، ورقية أمهما تغلبية، ويحيى وأمه أسماء بنت عُمَيْس الخثعمية، وقد قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن جعفرا الطيار استشهد وخلف عليها عَوْناً ومحمداً وعبد اللّه، وأن عقب جعفر منها من عبد اللّه بن جعفر، وأن أبا بكر الصديق تزوجها بعده، وخلف عليها محمداً، ثم تزوجها علي فخلف عليها يحيى، وأنها ابنة العجوز الحرشية التي كانت أكْرَمَ الناس أصهاراً، وقد تقدم فيما سلف من هذا الكتاب تسمية أصهار العجوز الحرشية، وأن أولهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجعفر، والعباس، وعبد اللهّ أُمهم أُم البنين بنت حرام الوحيدية، ورَملةَ وأم الحسن أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي، وأًم كلثوم الصغرى، وزينب الصغرى، وجُمَانة، وميمونة، وخديجة، وفاطمة، وأم الكرام، ونفيسة، وأم سلمة، وأم أبيها.
وقد أتينا على أنساب آل أبي طالب، ومَنْ أعقب منهم ومَصَارعهم، وغير ذلك من أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان.
ذو العقب من أولاد علي

والعقب لعلي من خمسة: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، والعباس، وقد استقصى أنسابهم، وأتى على ذكر مَنْ لا عقب له منهم ومَنْ له العقب، وأنساب غيرهم من قريش من بني هاشم، وغيرهم: الزبير بن بَكَّار في كتابه في أنساب قريش وأحسن من هذا الكتاب في أنساب آل أبي طالب الكتابُ الذي سمع من طاهر بن يحيى العلوي الحسيني بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقد صنف في أنساب آل أبي طالب كتب كثيرة: منها كتاب العباس من ولد العباس بن علي، وكتاب أبي علي الجعفري، وكتاب المهلوس العلوي من ولد موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
رثاء قتيل الطف
وفي قتيل الطف يقول سليمان بن قتة يرثيه على ما ذكره الزبير بن بَكَّار في كتاب أنساب قريش من أبيات:
فإن قتيلَ الطّف من آل هاشم ... أذ لّ رقاباً من قُرَيْش فَذَلَتِ
فإن يُتْبِعُوه عائذ البيت يُصْبِحُوا ... كَعَادٍ تعمت عن هُدَاهَا فَضَفَتِ
ألَم تَر أنَ الأرض أضحت مريضة ... بقَتْل حُسَيْن والبلاد اقْشَعًرّتِ
فلا يُبْعِدُ اللّه الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تَخَلَّتِ
ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره
ونوادر من بعض أفعاله
خروج يزيد لوفود العرب
ولما أفْضى الأمر إلى يزيد بن معاوية دخل منزله، فلم يظهر للناس ثلاثاً، فاجتمع ببابه أشرافُ العرب ووفود البلدان وأمراء الأجناد لتعزيته بأبيه وتهنئته بالأمر، فلما كان في اليوم الرابع خرج أشْعَثَ أغْبَر فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية كان حَبْلاً من حبال اللّه مده الله ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، وكان دون من كان قبله، وخير من بعده، إن يغفر اللّه له فهو أهله، وإن يعذبه فبذنبه، وقد وليتُ الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل بطلب علم، فعلى رِسْلِكم فإن اللّه لو أراد شيئاً كان، أذكروا اللهّ واستغفروه، ثم نزل، ودخل منزله، ثم أذن للناس.
فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يُعَزُّونه، فقام عاصم بن أبي صيفي، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، أصبحت قد رُزِئْتَ خليفة اللّه وأعطيت خلافة اللّه، ومنحت هبة اللهّ، قضى معاوية نحبه، فغفر اللّه له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة، فاحتسب عند اللّه أعظم الرزية، واحمده على أفضل العطية، فقال يزيد، ادن مني يا ابن أبي صيفي، فدنا حتى جلس قريباً منه.
ثم قام عبد اللّه بن مازن فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحَتْ قريش مفجوعة بفَقْد سائِسِها مسرورة بما أحسن اللّه إليها من الخلافة بك، والعُقْبى من بعده، ثم أنشأ يقول:
اللَّه أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عَوْقَهَا
عنك فيأبى اللّه إلاسَوْقَهَا ... إليك حتى قلَدوك طَوْقَهَا
فقال له يزيد: أدن مني يا ابن مازن، فدنا حتى جلس قريباً منه. ثم قام عبد الله بن همام فقال: آجرك اللّه يا أمير المؤمنين على الرزية، وصبرك على المصيبة، وبارك لك في العطية، ومنحك محبة الرعية، مضى معاوية لسبيله غفر اللّه له، وأورده موارد السرور، ووفقك بعده لصالح الأمور، فقد رزئت جليلاً، وأعطيت جزيلاً، جئت بعده للرياسة، ووليت السياسة، أصبت بأعظم المصائب، ومنحت أفضل الرغائب، فاحتسب عند الله أعظم الرزية، وأشكره على أفضل العطية، وأحدِثْ لخالقك حَمْداً، والله يمتعنا بك ويحفظك، ويحفظ بك وعليك، وأنشأ يقول:
أصبر يزيد فقد فارقْتَ ذامقة ... واشكرحِبَاءَ الذي بالملك أصفاكا
أصَبحْتَ لا رزء في الأقوام نَعلمه ... كما رُزِئت ولا عقبى كعقباكا
أعطِيتَ طاعة خلق اللّه كلهم ... وأنت ترعاهم واللّه يرعاكا
وفي معاويَةَ الباقي لناخلفٌ ... إمانًعِيتَ ولانسمع بمَنْعَاكَا
فقال يزيد: ادن مني يا ابن همام، فدنا حتى جلس قريباً منه.

ثم قام الناس يعزونه ويهنئونه بالخلافة، فلما ارتفع عن مجلسه أمر لكل واحد منهم بمال على مقداره في نفسه، ومحله في قومه، وزاد في عطائهم، ورفع مراتبهم، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على ما كان من خبر يزيد وغيبته في حال وفاة أبيه معاوية، ومسيره من ناحية حمص حين بلغه ما بأبيه من العلة، ووروده على ثنية العقاب من أرض دمشق، فأغنى ذلك عن إعادة هذا الخبر في هذا الكتاب.
بين يزيد وعبد الملك
وذكر عدة من الأخباريين وأهل السير أن عبد الملك بن مروان دخل على يزيد، فقال: اريضة لك إلى جانب أرض لي، ولي فيها سَعَة، فأقْطِعْنِيهَا، فقال: يا عبد الملك، إنه لا يتعاظمنِي كبير، ولا أجزع من صغير، فأخبرني عنها وإلا سألت غيرك، فقال: ما بالحجاز أعظم منها قدراً، قال: قد أقطعتك، فشكَرَه عبد الملك ودعا له، فلما ولَى قال يزيد، إن الناس يزعمون أن يصير خليفة، فإن صدقوا فقد صانعناه، وإن كذبوا فقد وصلناه.
فسوق يزيد وعماله
وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقُرُود وفهود ومناذمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
اسْقِنِي شَرْبَةً تُرَوِّي مًشَاشِي ... ثم مِلْ فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عِنْدِي ... ولتسديد مغنمي وجهادي
ثم أمر المغنين فغنوا به.
وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ، وكان قرداً خبيثاً وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذُلّلَتْ لذلك بسرج ولجام ويسابق بها الخيل يوم الحَلْبة، فجاء في بعض الأيام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قَبَاء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشَقَائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان، فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم:
تمسكْ أبا قيس بِفَضْل عِنَانها ... فليس عليها إن سقطت ضَمَانُ
ألا مَنْ رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
وفي يزيد وتملكه وتجبره وانقياد الناس إلى ملكه يقوله الأحْوَص :
ملك تدين له الملوك مُبَارك ... كادت لهيبته الجبالُ تَزُولُ
تُجْبَى له بَلْخ ودِجْلَةُ كلها ... وله الفرات وَمَا سَقَى وَالنيل
وقيل: إن الأحْوَص قال هذا في معاوية بعد وفاته يرثيه:
ماقيل في مقتل الحسين
ولما قتل الحسين بن علي رضي اللّه عنهما بكربلاء وحمل رأسه ابن زياد إلى يزيد خرجت بنت عقيل بن أبي طالب في نساء من قومها حواسر حائرات، لما قد ورد عليهن من قتل السادات، وهي تقول:
ماذا تقولون إنْ قال النبيُ لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأمم؟
بِعتْرَتِي وبأهلي بعد مُفْتَقدِي ... نِصْف أسارى ونصْفٌ ضُرِّجُوا بِدَم
ما كان هذا جزائي إذ نَصَحْتُ لكم ... أن تخْلفوني بشَرٍّ في ذوي رَحِمِي
وفي فعل ابن زياد بالحسين يقول أبو الأسود الدؤلىِ من قصيدة:
أقولُ وذاك من جَزَعٍ وَوَجْد ... أزال اللّه مُلْك بني زِيَاد
وأبْعَدَهُمْ، بما غدرُوا وخَانُوا ... كما بَعُدَتْ ثَمُي وقَوْمُ عَادِ
أهل المدينة وعمال يزيد

ولما شمل الناس جَوْرُ يزيد وعماله، وعمَهم ظلمه، وما ظهر من فسقه: من قتله ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعْدَلَ منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته، أخرج أهلُ المدينة عامله عليهم - وهو عثمان ابن محمد بن أبي سفيان - ومروان بن الحكم، وسائر بني أمية، وذلك عند تنسك ابن الزبير وتألُّهه، وإظهار الدعوة لنفسه، وذلك في سنة ثلاث وستين، وكان إخراجهم لما ذكرنا من بني أًمية وعامل يزيد عن إذن ابن الزبير، فاغتنمها مروان منهم، إذ لم يقبضوا عليهم ويحملوهم إلى ابن الزبير، فحثوا السير نحو الشام، ونمى فعل أهل المدينة ببني أُمية وعامل يزيد إلى يزيد، فسيَّرَ إليهم بالجيوش من أهل الشام عليهم مسلم بن عقبة المري الذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنهم عبيد ليزيد، وسماها نتنة، وقد سماها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، طَيْبة، وقال: مَنْ أخاف المدينة أخاف اللّه فسمى مسلم هذا لعنه اللّه بمجرم ومسرف، لما كان من فعله، ويقال: إن يزيد حين جرد هذا الجيش وعرض عليه أنشأ يقول:
أبْلِغْ أبا بكر إذا الأمْرُ انبرى ... وأشْرَف القومُ على وادي القرى
أجمع السكران من قوم تَرَى
يريد بهذا القول عبد اللهّ بن الزبير، وكان عبد اللّه يكنى بأبى بكر، وكان يُسَمّى يزيد السكران الخمير، وكتب إلى ابن الزبير:
أدعو إلهك في السماء فأنني ... أدعو عليك رجال عكَّ وأشْعر
كيف النجاة أبا خُبَيْبٍ منهُم ... فاحْتَلْ لنفسك قبل أتْي العسكر
وقعة الحرة
ولما انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرَّة وعليهم مُسرف خرج إلى حربه أهلُها عليهم عبد اللّه بن مطيع العدويَ وعبد اللهّ بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس؟ فممن قتل من آل أبي طالب اثنان: عبد اللهّ بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم من غيرآل أبي طالب: الفَضْلُ بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عُتْبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش، ومثلهم من الأنصار، وأربعة آلاف من سائر الناس ممن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف.
وبايع الناس على أنهم عبيدٌ ليزيد، ومَنْ أبى ذلك أمره مُسْرف على السيف، غير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد، وعلي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وفي وقعة الحرة يقول محمد بن أسلم:
فإن تَقْتُلونا يَوْمَ حَرَّة واقم ... فنحنُ على الإسلام أوَّل من قتل
ونحن تركناكُمْ بِبدرٍ أذلة ... وأبْنَا بأسيافٍ لنا منكم تفل
ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مُسْرِف وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سَلْنِي حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قُدِّم إلى السيف إلا شَفَّعه فيه، ثم انصرف عنه، فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي قلت. قال: قلت: اللهم ربَّ السموات السبع وما أقللن، والأرضين السبع وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك في نَحْره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شره، وقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغلام وسَلَفه، فلما أتى به إليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملىء قلبي منه رعباً.
وأما علي بن عبد اللهّ بن العباس فإن أخواله من كندة مَنَعُوه منه، وأًناس من ربيعة كانوا في جيشه، فقال علي في ذلك:
أبي العباسُ قرم بني لؤي ... وأخْوَالي الملوكُ بَنُو وليعه
هُمُ منعوا ذِمَاري يوم جاءت ... كتائبُ مُسْرِفٍ وبني اللّكِيعة
أرادَنِيَ التي لا عزَّ فيها ... فحالت دونه أيدي رَبيعة

ولما نزل بأهل المدينة ما وصفنا من القتل والنهب والرق والسبي وغير ذلك مما عنه أعرضنا من مُسْرفٍ خرج عنها يريد مكة في جيوشه من أهل الشام، ليوقع بابن الزبير وأهل مكة، بأمر يزيد، وذلك في سنة أربع وستين.
فلما انتهى إلى الموضع المعروف بقديد مات مُسْرِفٌ لعنه اللّه! واستخلف على الجيش الحصينُ بن نمير، فسار الحصين حتى أتى مكة وأحاط بها، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام، وكان قد سمى نفسه العائذَ بالبيتِ، وشُهِر بهذا حتى ذكرته الشعراء في أشعارها، من ذلك ما قدمنا من قول سليمان بن قتة.
فإن تُتْبِعُوه عائِذَ البيت تُصبِحُوا ... كَعَادٍ تَعَمَّتْ عن هُدَاهَا فَضَلَّتِ
رمي الكعبة بالمجانيق
ونصب الحصينُ فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرادات على مكة والمسجد من الجبال والفِجَاج، وابنُ الزبير في المسجد، ومعه المختار بن أبي عُبَيد الثقفي. داخلاً في جملته، منضافاً إلى بيعته، منقاد اً إلى إمامته، على، شرائط شَرَطها عليه لا يخالف له رأياً، ولا يعصي له أمراً، فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت، ورمي مع الأحجار بالناروالنفط ومشاقات الكتان وغير ذلك من المحرقات، وانهدمت الكعبة، واحترقت البنية، ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المجانيق أحَدَ عشر رجلاً، وقيل : أكثر من ذلك وذلك يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، قبل وفاة يزيد بأحَدَ عَشَرَ يوماً، واشتد الأمر على أهل مكة وابن الزبير، واتصل الأذى بالأحجار والنار والسيف، ففي ذلك يقول أبو وَجْزَة المدني:
آبنُ نُمَيْرٍ بِئْسَ ما تَوَلّى ... قَدْأحْرَقَ المَقَام وَالْمُصلَى
وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومَثَالبَ كثيرة: من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، - ولَعْن الوصِيَ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق والفجور، وغير ذلك مما قد ورد فيه الوعيد باليأس من غفرانه، كورده فيمن جحد توحيده وخالف رسله، وقد أتينا على الغرر من ذلك فيما تقدم وسلف من كتبنا، والله ولي التوفيق.
ذكر أيام معاوية بن يزيد بن معاوية
ومروان بن الحكم والمختار بن أبي عبيْد وعبد اللّه بن الزبير ولمع من أخبارهم وسيرهم وبعض ما كان في أيامهم
موجز أخبار معاوية بن يزيد
قال المسعودي: وَمَلَكَ معاوية بن يزيد بن معاوية بعد أبيه، فكانت أيامه أربعين يوماً إلى أن مات، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، وكان يكنى بأبي يزيد، وكني حين ولي الخلافة بأبي ليلى، وكانت هنه الكنية للمستضعف من العرب، وفيه يقول الشاعر:
إني أرى فِتْنَةً هَاجَتْ مَزَاجِلُها ... والملكُ بعد أبي لَيْلَى لمن غلبَا
ولما حضرته الوفاة اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: اعْهَدْ إلى من رأيت من أهل بيتك، فقال: واللّه ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرَهَا. وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إني بريء منها متخل عنها، اللهم إني لا أجد نفراً كأهل الشورى فأجعلها إليهم ينصبون لها من يرونه أهلاً لها، فقالت له أمه: ليت إني خرقة حيضة ولم أسمع منك هذا الكلام، فقال لها: وليتني يا أماه خرقة حيض ولم أتقلد هذا الأمر، أتفوز بنو أمية بحلاوتها وأبوءُ بوزرها وَمَنْعِها أهْلَها؟ كلا! إني لبريء منها وقد تنوزع في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه سقي شربة ومنهم من رأى أنه مات حَتْفَ أنفه، ومنهم من رأى أنه طعن، وقبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفن بدمشق، وصَلّى عليه الوليدُ بن عُتْبَة بن أبي سفبان، ليكون الأمر له من بعده، فلما كبر الثانية طعن فسقط ميتاً قبل تمام الصلاة، فقدم عثمان بن عتبة بن أبي سفيان، فقالوا: نبايعك؟ قال: على أن لا أحارب ولا أباشر قتالاً، فأبَوْا ذلك عليه، فصار إلى مكة، ودخل في جملة ابن الزبير.
وزال الأمر عن آل حَرْب فلم يكن فيهم من يرومها، ولا يتشوف نحوها ولايرتجى أحد منهم لها. وبايع أهل العراق عبد الله بن الزبير، فاستعمل على الكوفة عبد اللّه ابن مطيع العدوي.
المختار في الكوفة

ففال المختار بن أبي عبيد الثقفي لابن الزبير: إني لأعرف قوماً لو أن لهم رجلاً له رِفْق وعلم بما يأتي لاستخرج لك منهم جنداً تغلب بهم أهل الشام، فقال: من هم. قال: شيعة بني هاشم بالكوفة، قال: كن أنت ذلك الرجل، فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها، وجعل يُظْهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزَعَ لهم، ويحثُّ على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت الشيعة إليه، وانضافوا إلى جملته، وسار إلىِ قصرالإمارة فأخرج ابن مطيع منه، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه داراَ، واتخذ بستانَاَ انفق عليه أموالاً عظيمة أخرجها من بيت المال، وفرق الأموال على الناس بها تفرقَةً واسعة، وكتب إلى ابن الزبير يعلمه أنه إنما أخرج بن مطيع عن الكوفة لعجزه عن القيام بها، ويسوم ابن الزبيرأن يحسب له بما أنفقه من بيت المال، فأبى ابن الزبير ذلك عليه، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته، وكتب المختار كتاباً إلى علي بن الحسين السجاد يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى علي أن يقبل ذلك منه أو يجيبه عن كتابه، وسبه على رؤُوس الملأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى آل أبي طالب، فلما يئس المختار من علي بن الحسين كتب إلى عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى شيء من ذلك، فإن الذي يحمله على ذلك اجتذابه لقلوب الناس بهم، وتقربه إليهم بمحبتهم، وباطِنُهُ مخالف لظاهره في الميل إليهم، والتَّوَلِّي لهم، والبراءة من أعدائهم، بل هو من أعدائهم لا من أوليائهم، والواجب عليه أن يشهر أمره، ويظهر كذبه، على حسب ما فعل هو وأظهر ما من القول في مسجد رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، فأتى ابن الحنفية ابن عباس فأخبره بذلك، فقال له ابن عباس: لا تفعل، فإنك لا تدري ما أنت عليه من ابن الزبير، فأطاع ابن عباس وسكت عن عيب المختار.
وأشتد أمر المختار بالكوفة، وكثر رجاله، ومال الناسُ إليه، وأقبل يدعو الناس على طبقاتهم ومقاديرهم في أنفسهم وعقولهم، فمنهم من يخاطبه بإمامة محمد ابن الحنفية، ومنهم من يدفعه عن هذا فيخاطبه بأن المَلَكَ يأتيه بالوحي ويخبره بالغيب، وتتبع قتلة الحسين فقتلهم: قتل عمرو بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو الذي تولى حرب الحسين يوم كربلاء وقتله ومن معه، فزاد ميل أهل الكوفة إليه، ومحبتهم له.
حال ابن الزبير
وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة، وقال: إنما بطني شبر، فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا، وأنا العائذ بالبيت، والمستجير بالرب، وكثرت أذيَّتُه لبنى هاشم مع شُحِّه بالدنيا على سائر الناس، ففي ذلك يقول أبو وجزة مولى الزبير:
إنَّ المواليَ أمْسَتْ وهي عاتبة ... على الخليفة تشكو الجوع والحربَا
ماذا علينا وماذا كان يزؤنا ... أي الملوك على ما حولنا غلبا؟
وفيه لِقول بعد مفارقته إياه:
ما زال في سورَةِ الأعراف يقرؤها ... حتى فؤاديَ مثل الخزِّ في اللين
لو كان بطنك شِبراً قد شَبِعْتَ، وقد ... أفضلت فَضْلاً كثيراً للمساكين
إن آمرأً كنتُ مَوْلاَهُ فضيعني ... يرجو الفلاح لعمري حَقُّ مغبُونِ
وفيه يقول أيضاً:
فيا راكباً إمَّا عرضْتَ فبلغَن ... كبيربني العَوَّام إن قيل: مَنْ تَعْنِي
تخبر منْ لاقيت أنك عائذ ... وتكثر قْتلاً بين زمْزَم والرُّكن
وفيه يقول أيضاً الضحاك بن فيروز الديلمي:
تخبرنا أنْ سَوْف تكفيك قبضةٌ ... وبطنُك شِبْرأوأقل من الشبر
وأنت إذا ما نلت شيئاً قَضَمْتَهُ ... كماقضَمَتْ نارُالغضى حَطَبَ السدر
فلو كنت تجزي إذ تبيت بنعمة ... قريباً لردَّتْكَ العطوف على عمرو
ابن الزبير وأخوه عمرو

وذلك أن يزيد بن معاوية كان قد ولى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة فسرَّحَ منها جيشاً إلى مكة لحرب ابنَ الزبير عليه عمرو بن الزبير أخوه، وكان عمرو منحرفاً عن عبد اللّه، فلما تصافّ القوم انهزم رجال عمرو وأسلموه، فظفر به أخوه عبد اللّه، فأقامه للناس بباب المسجد الحرام مجرداً، ولم يزل يضربه بالسياط حتى مات.
ابن الزبير والحسن بن محمد بن الحنفية
وحبس عبد اللّه بن الزبير الحسن بن محمد بن الحنفية في الحبس المعروف بحبس عارم، وهو حبس مُوحِشَ مُظْلم، وأراد قتله، فعمل الحيلة حتى تخلص من السجن، وتعسَّفَ الطريق على الجبال حتى أتى مِنىً وبها أبوه محمد بن الحنفية ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منىً ... من الناس يعلم أنه غيْرُظالم
سميّ نبيّ اللّه وابن وصيِّه ... وفكَّاكُ أغلالٍ وقاضي مغارم
وقد كان ابن الزبيرعمد إلى من بمكة من بني هاشم فحصرهم في الشِّعْبِ، وجمع لهم خَطَباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد، وفىِ القوم محمد بن الحنفية.
ابن الزبير وال بيت الرسول
وحدث النَّوْفَلِي علي بن سليمان، عن فضيل بن عبد الوهاب الكوفي، عن أبي عمران الرازي، عن فطر بن خليفة، عن الديال بن حرملة، قال: كنت فيمن استنفره أبو عبد اللّه الجدلي من أهل الكوفة من قبل المختار، فنقرنا معه في أربعة آلاف فارس، فقال أبو عبد اللّه: هذه خيل عظيمة، وأخاف أن يبلغ ابن الزبير الخبر فيعجل على بني هاشم،فيأتي عليهم، فانتدبوا معي، فانتدبنا معه في ثمانمائة فارس جريدة خيل، فما شعر ابن الزبير إلا والرايات تخفق على رأسه، قال: فجئنا إلى بني هاشم، فإذا هم في الشِّعْب، فاستخرجناهم، فقال لنا ابن الحنفية: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فلما رَأي ابن الزبير تنمر ناله وإقدامنا عليه لاذ بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ اللّه.
وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار، عن ابن عائشة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، قال: كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحَصْره إياهم في الشِّعْبِ وجمعه لهم الحطب لتحريقهم، ويقول: إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذ هم أبوا البيعة فيما سلف، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان.
الكيسانية وقولهم في ابن الحنفية
وخطب ابن الزبير فقال: قد بايعني الناس، ولم يتخلف عن بيعتي إلا هذا الغلام محمد ابن الحنفية، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس، ثم أضرم داره عليه ناراً، فدخل ابن العباس على ابن الحنفية فقال: يا ابن عم، إني لا آمنه عليك فبايعه، فقال: سيمنعه عني حجاب قوي، فجعل ابن عباس ينظر إلى الشمس، ويفكر في كلام ابن الحنفية، وقد كادت الشمس أن تغرب، فوافاهم أبو عبد اللّه الجدلي فيما ذكرنا من الخيل، وقالوا لابن الحنفية: ائذن لنا فيه، فأبى، وخرج إلى أيْلَةَ فأقام بها سنين، ثم قتل ابن الزبير، كذلك حدث عمر بن شبة النميري، عن عطاء بن مسلم، فيما أخبرنا به أبو الحسن المهراني المصري بمصر، وأبو إسحاق الجوهري بالبصرة، وغيرهما، وهؤلاء الذين وردوا إلى ابن الحنفية هم لشيعة الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية، وقد تنازعت الكيسانية بعد قولهم بإمامة محمد بن الحنفية: فمنهم من قطع بموته، ومنهم من زعم أنه لم يمت وأنه حي في جبال رَضْوَى، وقد تنازع كل فريق من هؤلاء أيضاً، وإنما سموا بالكيسانية لإِضافتهم إلى المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي، وكان اسمه كيسان، ويكنى أبا عمرة، وأن علي بن أبي طالب سماه بذلك، ومنهم من رأى أن كيسان أبا عمرة هو غير المختار،. وقد أتينا على أقاويل فرق الكيسانية وغيرهم من فرق الشيعة وطوائف الأمة في كتابنا في المقالات في أصول الديانات وذكرنا قول كل فريق منهم، وما أيدَ به مذهبه، وقول من ذكر منهم أن ابن الحنفية دخل إلى شِعْب رَضْوي في جماعة من أصحابه فلم يُعْرَفْ لهم خبر إلى هذه الغاية.

وقد ذكر جماعة من الأخباريين أن كُثَيِّراً الشاعر كَان كَيْسانياً، ويقول: إن محمد بن الحنفية هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت شراً وجوراً.
وحكى الزبير بن بكار في كتابه أنساب قريش في أنساب آل أبي طالب وأخبارهم منه قال: أخبرني عمي، قال: قال كثير أبياتاً له يذكر ابن الحنفية رضي اللّه عنه، وأولها:
هو المهديُّ خبرناه كَعْب ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
أقر اللهُ عينِي إذ دعاني ... أمين اللّه يلطف في السؤال
وأثنى في هواي عليَ خيراً ... وساءل عن بَنيَّ وكيف حالي
وفيه يقول أيضاً كثير:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
عليُّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فبسط سبط إيمان وبِر ... وسبط غَيّبَته كَرْبلاء
وسبط لاتراه العين حتى ... يقود الخيلَ يتبعها اللواءُ
تغيبَ لايُرَى فيهم زماناً ... برَضْوَي عنده عسل وماءُ
وفيه يقول السيد الحميري، وكان كَيْسانياً:
ألا قل للوصيّ فَدَتْكَ نفسي ... أطَلْتَ بذلك الجبل المقامَا
أضَرَّ بمعشر وَالَوْك منا ... وَسَمَّوْك الخليفة والإِمامَا
وعَادَوْا فيك أهل الأرض طُراً ... مغيبك عنهم سبعين عامَا
وماذاق ابْنُ خَوْلة طعم موت ... ولا وارت له أرضٌ عظاما
لقد أمسى بمردف شِعْب رَضْوَى ... تراجعه الملائكةُ الكلاما
وفيه يقول السيد أيضاً:
يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ... وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المَدَى؟ ... يا ابن الرسول وأنت حيٌّ تُرْزَقُ
وللسيد فيه أشعار كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا.
وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي في كتابه الأخبار مما سمعناه من أبي العباس بن عمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد النوفلي، قال: حدثنا إسماعيل الساحر، وكان راوية السيد الحميري، قال: ما مات السيد إلا على قوله بالكيسانية، وأنكر قوله في القصيدة التي أولها:
تَجَعفَرْتُ باسم الله، واللَّه أكبرُ
قال أبو الحسن علي. بن محمد النوفلي عقيب هذا الخبر: وليسٍ يشبه هذا شعر السيد؟ لأن السيد مع فصاحته وجزالة قوله لا يقول تجَعْفَرْت باسم الله.
وذكر عمر بن شبه النميري، عن مساور بن السائب، أن ابن الزبير خطب أربعين يوماً لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا يمنعني أن أصلي عليه إلا أن تَشَمَخَ رجالٌ بآنافها.
بين ابن عباس وابن الزبير
وذكر سعيد بن جبير أن عبد اللّه بن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني وتبخِّلُنِي. قال ابن عباس: نعم، سمعت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، يقول: ليس المسلم الذي يشبع ويجوع جاره فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم أهْلَ هذا البيت منذ أربعين سنة، وجرى بينهم خطب طويل، فخرج ابن عباس من مكة خوفاً على نفسه، فنزل الطائف، فتوفي هنالك، ذكر هذا الخبر عمر بن شَبَّة النميري، عن سويد بن سعيد، يرفعه إلى سعيد بن جبير فيما حدثنا به المهراني بمصر، والكلابي بالبصرة، وغيرهما، عن عمر بن شَبَّة.
بين ابن الحنفية وابن الزبير
وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار عن الوليد بن هشام المخزومي، قال: خطب ابن الزبير فنال من علي، فبلغ. ذلك ابنه محمد بن الحنفية فجاء حتى وضع له كرسي قدامه، فعلاه، وقال: يا معشر قريش، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور؟ إن عليّاً كان سَهْماً صادقاً

أحَد مرامي اللّه على أعدائه يقتلهم لكفرهم ويُهَوِّعُهم مآكلهم، فثقل عليهم، فرموه بقرفة الأباطيل، وإنا معشر له على ثبج من أمره بنو النخبة من الأنصار، فإن تكن لنا في الأيام دولة ننثر عظامهم ونحسر عن أجسادهم، والأبدان يومئذ بالية، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون، فما بال ابن الحنفية. فقال محمد: يا ابن أم رومان، ومالي لا أتكلم. أليست فاطمة بنت محمد حليلة أبي وأم إخوتي. أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي. أو ليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي. أما واللّه لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد عَظْماً إلا هشمته، وإن نالتني فيه المصائب صبرت.
ابن الزبير ينتقص ابن العباس
حدثنا ابن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني ابن عائشة والعتبي جميعاً عن أبويهما، وألفاظُهُما متقاربة، قالا: خطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة، وينتقصون حَوَارِيّ الرسول وأم المؤمنين عائشة، ما بالهم أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يُعَرَض بابن عباس، فقال ابن عباس: يا غلام، اصمدني صَمْدَه، فقال: يا ابن الزبير:
قد أنصف القارة مَنْ راماها ... إنا إذا ما فِئَة نَلقَاها
نَرُدُّ أولاها على أخراها
أما قولك في المتعة فسل أمك تخبرك، فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك، يريد مُتْعَةَ الحج، وأما قولك أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا ضُرب عليها الحجاب وأما قولك حَوَاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقد لقيتُ أباك فى الزَّحْف وأنا مع إمام هُدى، فأن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا، فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها، فقالت: صدق.
قال المسعودي: وفي هذا الخبر زيادات من ذكر البردة والعوسجة،وقد أتينا على الخبر بتمامه وما قاله الناس في مُتْعَة النساء ومتعة الحج، وتنازعهم في ذلك وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه حرمها عام خيبرولحوم الحمر الأهلية وما ذكر في حديث الربيع بن سَبْرَةَ عن أبيه وقول عمر: كانت في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو تقدمت بالنهي لفعلت بفاعل ذلك كذا وكذا. وما روي عن جابر قال: تمتعنا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر، وغير ذلك من أقاويلهم، في كتابنا المترجم بكتاب الاستبصار وفي كتاب الصفوة وفي كتابنا المترجم بالكتاب الواجب في الفروض اللوازم وما قال الناس في غسل الرجلين، ومسحهما، والمسح على الخفين، وطلاق السنة، وطلاق العدة، وطلاق التعدي، وغير ذلك.
وقد حدث النوفلي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثني منصور بن شيبة، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما قدمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع أمر مَنْ لم يكن معه هدْي أن يحلً، قال: فأحللت، فلبست ثيابي، وتطيبت، وجئت حتى جلست إلى جنب الزبير، فقال: قومي عني، فقلت: ما تخاف. قال: أخاف أن أثِبَ عليك. فهذا الذي أراد ابن عباس.
وقد ذكر هذا الحديث عن أبي عاصم غَيْرُ النوفلي، وقد تنازع الناس في ذلك: فمنهم من رأى أنه عَنَى متعة النساء، ومنهم من رأى أنه أراد متعة الحج، لأن الزبير تزوج أسماء بكراً في الِإسلام، زوجهُ أبو بكر معلناً، فكيف تكون متعة النساء.
بين ابن الزبير والحصين بن نمير

ولما هلك يزيد بن معاوية ووليها معاوية بن يزيد نمي ذلك إلى الحصين بن نمير ومن معه في الجيش من أهل الشام، وهو على حرب ابن الزبير، فهادنوا ابن الزبير، ونزلوا مكة، فلقي الحصين عبد اللهّ في المسجد، فقال له: هل لك يا ابن الزبير أن أحملك إلى الشام وأبايع لك بالخلافة. فقال عبد اللّه رافعاً صوته: أبعد قتل أهل الحرة، لا واللّه حتى أقتل بكل رجل خمسة من أهل الشام، فقال الحصين: مَنْ زعم يا ابن الزبير أنك فى داهية فهو أحمق، أكلمك سراً وتكلمني علانية، أدعوك إلى أن أستخلفك فترفع الحرب وتزعم أنك تقاتلنا، فستعلم أينا المقتول، وانصرف أهل الشام إلى بلادهم مع الحصين، فلما صاروا إلى المدينة جعل أهلها يهتفون بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم بالحَرَّة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهيجَهَا صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الجيش، فقال: يا أهل المدينة، ما هذا الإيعاد الذي توعدوننا؟ إنا واللّه ما دعوناكم إلى كلب لمبايعة رجل منهم، ولا إلى رجل من بلقَين،، ولا إلى رجل من لخم أو جُذَام، ولا غيرهم من العرب والموالي، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش، يعني بني أمية، ثم إلى طاعة يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون، وفضلات الموت. والمنون، فما شئتم، ومضى القوم إلى الشام.
ابن الزبير يبني الكعبة على قواعد إبراهيم
وحمل إلى ابن الزبير من صنعاء الفُسَيْفِسَاء التي كان بناها أبرهة الحبشي في كنيسته التي اتخذها هنالك، ومعها ثلاث أساطين من رخام فيها وَشْيٌ منقوش قد حُشي السندروس وأنواع الألوان من الأصباغ، فمن رآه ظنه ذهباً، وشرع ابن الزبير في بناء الكعبة، وشهد عنده سبعون شيخاً من قريش أن قريشاً حين بنت الكعبة جزت نفقتهم فنقصوا من سَعَة البيت سبعة أذرع من أساس إبراهيم الخليل الذي أسسه هو وإسماعيل عليهما السلام، فبناه ابن الزبير وزاد فيه لأذرع المذكورة، وجعل فيه الفسيفساء والأساطين، وجعل له بابين: باباً يدخل منه، وباباً يخرج منه، فلم يزل البيت على ذلك حتى قتل الحجاج عبد اللّه بن الزبير، وكتب إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بما زاده ابن الزبير في البيت، فأمره عبد الملك بهدمه، ورَدَه إلى ما كان عليه آنفاً من بناء قريش وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل له باباً واحداً، ففعل الحجاج ذلك.
واستوثق الأمر لابن الزبير، وأخذت له البيعة بالشام، وخطب له على سائر منابر الإسلام، إلا منبر طبرية من بلاد الأردن، فإن حسان بن مالك ابن بجدل أبى أن يبايع لابن الزبير، وأرادها لخالد بن يزيد بن معاوية، وكان القيم بأمر بيعة ابن الزبير بمكة عبد اللّه بن مطيع العدوي، ففي ذلك يقول قضاعة الأسدي، وكان بايع لابن الزبير ثم نكث:
دعا ابنُ مطيع للبياع فجئته ... إلى بَيْعة قلبي لهاغيرُالف
فناوَلني خَشْنَاء لمالمستها ... بكفي ليست من أكُفِّ الخلائف
عبيد اللّه بن زياد والخلافة
وهلك يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، وعبيدُ الله بن زياد على البصرة أمير، فخطب الناس وأعلمهم بموتهما، وأن الأمر شورى لم ينصب له أحد، وقال: لا أرْضَ اليوم أوسع من أرضكم، ولا عددَ أكثر من عددكم، ولا مال أكثر من مالكم، في بيت مالكم مائة ألف ألف درهم، ومقاتلتكم ستون ألفاً، وعطاؤهم وعطاء العيال ستون ألف ألف درهم، فانظروا رجلاً ترضونه يقوم بأمركم، ويجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويوزع بينكم أموالكم، فقام إليه أشراف أهلها - ومنهم الأحنف بن قيس التميمي، وقيس بن الهيثم السلمي، ومسمع بن مالك العبدي - فقالوا: ما نعلم ذلك الرجل غيرك أيها الأمير، وأنت أحق مَنْ قام على أمرنا حتى يجتمع الناس على خليفة، فقال: أما لو استعملتم غيري لسمعت وأطعت.
الكوفة لأبى الانقياد له

وقد كان على الكوفة عمرو بن حريث الخزاعي عاملاً لعبيد اللهّ بن زياد، فكتب إليه عبيد الله يحلمه بما دخل فيه أهل البصرة، ويأمره أن يأمر أهل الكوفة بما دخل فيه أهل البصرة، فصعد عمرو بن حريث على المنبر، فخطب الناس وذكر لهم ما دخل فيه أهل البصرة فقام يزيد بن رويم الشيباني فقال: الحمد للهّ الذي أطلق أيماننا، لا حاجة لنا في بني أُمية، ولا في إمارة ابن مرجانة، وهي أم عبيدَ اللّه، وأم أبيه زيادٍ سميةُ على ما ذكرنا آنفاً، إنما البيعة لأهل الحجر - يعني أهل الحجاز - فخلع أهل الكوفة ولاية بني أمية وإمارة ابن زياد وأرادوا أن ينصبوا لهم أميراً إلى أن ينظروا في أمرهم، فقال جماعة: عمرو بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها، فلما هموا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتى دخَلْنَ المسجد الجامع صارخات باكيات مُعْوِلات يندبن الحسين ويقلن: أما رضي عمرو بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمرو، وكان المبرزات في ذلك نساءً همدان، وقد كان علي عليه السلام مائلاً إلى همدان مؤثراً لهم، وهو القائل:
فلو كنت بَوّاباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقال:
عبييْتُ همدان وعَبَّوْا حميرا
ولم يكن بصفين منهم أحد مع معاوية وأهل الشام إلا ناس كانوا بغُوطَةِ دمشق، بقرية تعرف بعين ثرما، فيها منهم قوم إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
ولما اتصل خبر أهل الكوفة بابن الزبير أنفذ إليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي على ما قدمنا آنفاً، فتولى أمرهم حتى وجه المختار في أثره.
تدبير مروان بن الحكم
ونظر مروان بن الحكم في إطباق الناس على مبايعة ابن الزبير، وإجابتهم له، فأراد أن يلحق به وينضاف إلى جملته، فمنعه من ذلك عبيد اللّه بن زياد عند لحاقه بالشام، وقال له: إنك شيخ بني عبد مناف فلا تعجل، فصار مروان إلى الجابية، من أرض الجولان، بين دمشق والأردن، واستمال الضحاك بن قيس الفهري الناس، ورأسهم، وانحاز عن مروان، وأراد دمشق، فسبقه إليها الأشدق، عمرو بن سعيد بن العاص فدخلها وصار الضحاك إلى حوران والبثنة وأظهر الدعوة لابن الزبير، والتقى الأشدق ومروان، فقال الأشدق لمروان: هل لك فيما أقوله لك فهو خير لي ولك. قال مروان: وما هو. قال: أدعو الناس إليك وآخذك لك على أن تكون لي من بعدك، فقال مروان: لا، بل بعد خالد بن يزيد بن معاوية، فرضي الأشدق بذلك، ودعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا، ومضى الأشدق إلى حسان بن مالك بالأردن، - فأرغبه في بيعة مروان، فجنح لها.
البيعة لمروان
وبويع مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمش بن عبد مناف، ويكنى أبا عبد الملك، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان، وذلك بالأردن، وكان أول من بايعه أهلها، وتمت بيعته.
وكان مروان أول مَنْ أخذها بالسيف كرهاً على ما قيل بغير رضا من عصبة من الناس، بل كلٌّ خَوَّفه إلا عدداً يسيراً حملوه على وثوبه عليها، وقد كان غيره ممن سلف أخذها بعدد وأعوان إلا مروان، فإنه أخذها على ماوصفنا! وبايع مروان بعده لخالد بن يزيد، ولعمرو بن سعيد الأشدق بعد خالد، وكان مروان يلقب بخيط باطل، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الحكم أخوه:
لحا اللَّه قَوْماً أمِّرُوا خيط بَاطِل ... على النَّاس يعطي مَنْ يَشَاء ُويمنع
واشترط حسان بن مالك - وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام - على مروان ما كان لهم من الشروط على معاوية، وابنه يزيد، وابنه معاوية بن يزيد: منها أن يفرض لهم لالذي رجل الذين الذين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي، وَصَدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة، فرضي مروان بذلك، فإنقاد إليه، وقال له مالك بن هبيرة اليشكري: إنه ليست لك في أعناقنا بيعة، وليس نقاتل إلا عن عَرَض دنيا؟ فإن تكن لنا على ما كان لنا معاوية ويزيد نصرناك، وإن تكن الأخرى فواللهّ ما قريش عندنا إلا سواء، فأجابه مروان إلى ما سأل!.
لقاء مروان والضحاك بن قيس

وسار مروان نحو الضحاك بن قيس الفهري، وقد انحازت قيس وسائر مضر وغيرهم من نزار إلى الضحاك، ومعه أناس من قُضَاعَة عليهم وائل بن عمرو العدوي، وكانت معه راية عَقَدَهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأبيه، وأظهر الضحاك ومَنْ معه خلافة ابن الزبير، والتقى مروان والضحاك ومن معهما بمرج راهط على أميال من دمشق، فكانتَ بينهم الحروب سجالاً وكَثَرت اليمانية عليهم وبواديها مع مروان فقتل الضحاك بن قيس رئيس جيش ابن الزبير، قتله رجل من تَيْم اللات، وقتل من معه من نزار، وأكثرهم من قيس، مَقْتَلة عظيمة لم ير مثلها قط، وفي ذلك يقول مروان بن الحكم:
لما رأيت الناس صَارُوا حَرْبا ... وَالْمَال لا يُؤْخَذ إلا غَصْبَا
دَعَوْت غَساناً لهم وكلبا ... والسكسكيِّينَ رِجَالاً غُلْبَا
وَالقَيْن تمشي في الحديد نكبا ... وَالأعْوَجِيَّاتُ يَثِبْنَ وَثْبَا
يحملْنَ سَرْوَات ودينا صُلْبَا
وفي ذلك يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم:
أرَى أحاديث أهْل المَرْج قد بلغت ... أهْل الفرات وَأهْل الفيض وَالنيل
وكان زفر بن الحارث العامري، ثم الكلابي، مع الضحاك، فلما أمعن السيفُ في قومه وَلى ومعه رجلان من بني سليم، فقصر فرساهما وغشيتهما اليمانية من خيل مَرْوَان، فقالا له: انج بنفسك فإنا مقتولان، فَوَلّى راكضاً، وَلُحِقَ الرجلان، فقتلا، وفي هذا اليوم يقول زفر بن الحارث الكلابي من أبيات كثيرة:
لَعَمْرِي لقد أبقت وَقِيعَة رَاهِط ... لِمَرْوَانَ صَدْعاً بَيِّناً مُتَنَاكِيَا
فقد ينبت المَرْعَى على دِمَنِ الثّرَى ... وتبقى خَزَازَات النفوس كما هِيَا
أرِينِي سلاحي لا أبَا لَكَ إنني ... أرَى الحرب لا تزداد إلا تَمَادِيَا
أتذهب كلب لِم تَنَلْهَا رماحنا ... وتترك قَتْلَى رَاهِط هي مَاهِيَا
فلم ترمِنَي نبْوَة قبل هذه ... فِرَارِي، وتركي صَاحِبَي وَرَائيا
عَشِيًةَ أغْدُو في الفريقين لا أرَى ... من القوم إلا مَنْ عَلَيَّ ولالِيَا
أيذهب يَومٌ واحد إن أسَأْتُه ... بصالح أيامي وَحُسْنِ بلائيا
أبَعدَ ابن عمرو وابن مَعْن تتابعا ... وَمَقْتَل هَمَّام امَنَّى الأمانيا
وتلاحق الناس ممن حضر الوقعة بأجنادهم من أرض الشام، وكان النعمان بن بشير والياً على حِمْصَ قد خطب لابن الزبير ممالئاً للضحاك، فلما بلغه قتله وهزيمة الزُّبَيْرِية خرج عن حمص هارباً، فسار ليلته جمعاء متحيراً لا يدري أين يأخذ، فأتبعه خالد بن عدي الكُلاَعي فيمن خَفَّ معه من أهل حمص، فلحقه وقتله، وبعث برأسه إلى مروان، وانتهى زُفَر بن الحارث الكلابي في هزيمته إلى قرقيسيا، فغلب عليها، واستقام الشام لمروان، وبَثَّ فيه رجاله وعُمَّاله.
وسار مروان في جنوده من الشام إلى أهل مصر، فحاصرها وخَندقَ عليها خندقاً مما يلي المقبرة، وكانوا زُبَيْرِية عليهم لابن الزبير عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم، وسيد الفسطاط يومئذ وزعيمها أبو رشد بن كريب بن أبرهة بن الصباح، فكان بينهم وبين مروان قتال يسير، وتوافقوا على الصلح، وقتل مروان أكيدر بن الحمام صبراً، وكان فارس مضر، فقال أبو رشد لمروان: إن شئت واللهّ أعَدْنَاهَا جَذَعَة، يعني يوم الدار بالمدينة، فقال مروان: ما أشاء من ذلك شيئاً، وانصرف عنها وقد استعمل عليها ابنه عبد العزيز.
وقدم مروان الشام فنزل الصميرة على ميلين من طبرية من بلاد الأردن، فأحضر حسان بن مالك، وأرغبه وأرهبه، فقام حسان في الناس خطيباً، ودعاهم إلى بيعة عبد الملك بن مروان بعد مروان، وبيعة عبد العزيز بن مروان بعد عبد الملك، فلم يخالفه في ذلك أحد.
موت مروان بن الحكم

وهلك مروان بدمشق في هذه السنة، وهي سنة خمس وستين، وقد تنازع أهل التواريخ وأصحاب السير ومن عُنِيَ بأخبارهم في سبب وفاته: فمنهم من رأى أنه مات مطعوناً، ومنهم من رأى أنه مات حَتْفَ أنْفِهِ ومنهم من رأى أن فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة أم خالد بن يزيد بن معاوية هي التي قتلته، وذلك أن مروان حين أخذ البيعة لنفسه ولخالد بن يزيد بعده وعمروبن سعيد بعد خالد، ثم بَدَا له غير ذلك فجعلها لابنه عبد الملك بعده، ثم لابنه عبد العزيز بعد عبد الملك ودخل عليه خالد بن يزيد فكلَّمه وأغْلَظَ له، فغضب من ذلك وقال: أتكلمني يا ابن الرَّطْبة. وكان مروان قد تزوج بأُمه فاختة ليُذلَه بذلك ويضَع منه، فدخل خالد على أمه فقبح لها تزوجها بمروان، وشكا إليها ما نزل به منه، فقالت: لا يعيبك بعدها؟ فمنهم من رأى أنها وضعت على نَفَسِه وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات، ومنهم من رأى أنها أعدَتْ له لبناً مسموماً فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب، فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه، فحضره عبد الملك وغيره من ولد ة فجعل مروان يشير إلى أم خالد برأسه يخبرهم أنها قتلته، وأم خالد تقول: بأبي وآمي أنت، حتى عند النزع لم تشتغل عني، إنه يوصيكم بي، حتى هلك، فكانت أيامه تسعة أشهر وأياماً قلائل، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل غير ذلك مما سنورده عند ذكرنا للمدة التي ملكت فيها بنو أمية من الأعوام، فيما يرد من هذا الكتاب، إن شاء اللّه تعالى.
ترجمة مروان
وهلك مروان وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد ذكر غير ذلك في سِنِّه، وكان قصيراً أحمر، ومولده لسنتين خَلَتَا، من الهجرة، وهلك بعد أخذ البيعة لولده بثلاث أشهر، وقد ذكر ابن أبي خيثمة في كتابه في التاريخِ أن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي ومروان ابنُ ثمانِ سنين، وكان لمروان عشرونأخاَ وثماني أخوات، وله من الولد أحد عشر ذكراً وثلاث بنات، وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، وعبد اللّه، وأبان، وداود، وعمر، وأم عمر، وعبد الرحمن، وأم عثمان، وعمرو، وأم عمرو، وبشر، ومحمد، ومعاوية، وقد ذكرنا هؤلاء وَمَنْ أعقب منهم ومن لم يعقب.
ولد يزيد بن معاوية
وقد كان يزيد بن معاوية خلف من الولد أكثر مما خلف مروان، وذلك أنه خلف: معاوية، وخالداً، وعبد اللّه الأكبر، وأبا سفيان، وعبد اللّه الأصغر، وعمر، وعاتكة، وعبد الرحمن، وعبد اللّه الذي لقبه الأصغر، وعثمان، وعتبة الأعور، وأبا بكر، ومحمداً، ويزيد، وأم يزيد، وأم عبد الرحمن، ورَمْلَة.
ولد معاوية
وخلف أبوه معاوية بن أبي سفيان من الولد: عبد الرحمن، ويزيد، وعبد الله، وهنداً، ورَمْلَة، وصفية.
ذكر أيام عبد الملك بن مروان
وبُويع عبدُ الملك بن مروان ليلة الأحد غرة شهر رمضان من سنة خمس وستين، ثم بَعَثَ الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبيرومن معه من الناس بمكة، فقتل عبد الله يوم الثلاثاء لعشر مَضَيْنَ من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وكانت ولاية ابن الزبير تسع سنين وعشر ليال، وسنذكر مدة ابن الزبير بعد هذا الموضع من هذا الكتاب عند ذكرنا لجامع مدة ملك بني أمية، ثم هاجت فتنة ابن الأشعث في شعبان من سنة اثنتين وثمانين، ثم توفي عبد الملك بن مروان بدمشق يوم السبت لأربع عشرة مضت من شوال سنة ست وثمانين، وكانت ولايته منذ بويع إلى أن توفي إحدى وعشرين سنة وشهراً ونصفاً، وبَقي بعد عبد الله بن الزبير واجتماع من اجتمع عليه من الناس ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبعِ ليال، وسنذكر ما فعله من وَقت استقامة من استقام له من الناس، وَقُبِض وهو ابن ست وسَتين سنة، وقيل كثر من ذلك، وكان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح وكان الغالب عليه البخل، وكان له إقدام على الدماء، وكان عمَاله على مثل مذهبه، كالحَجاج بالعراق، والمهلَب بخراسان، وهشام بن إسماعيل بالمدينة، وغيرهم، وكان الحجاج من أظلمهم وَأسْفَكِهم للدماء، وسنذكر في هذا الكتاب جوامع من ذكره فيما يلي هذا الباب.
ذكر جمل من أفعاله وسيره
ولمع مما كان في أيامه ونوادر من أخباره
منادمة الشعبي لعبد الملك

ولما أفْضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان تَاقَتْ نفسُه إلى محادثة الرجال والأشراف على أخبار الناس، فلم يجد مَنْ يصلح لمنادمته غير الشَّعْبِي، فلما حُمِل إليه ونادمه وحَظِيَ عنده قال له: يا شعبيُّ لا تساعدني على ما قبح، ولا تردَ علي الخطأ في مجلسي، ولاتكلفني جواب التشميت والتهنئة، ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى، وكلمني بقدر ما أستطعمك واجْعَلْ بدل المدح لي صوابَ الاستماع مني، وأعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدَّثُ فلا يفوتنَكَ منه شيء، وأرِنِي فهمك في طرْفك وسمعك، ولا تجهد نفسك في تَطْرِية جوابي، ولا تَسْتَدْع بذلك الزيادة في كلامي، فإن أسْوَأ الناس حالاً من استكد الملوك بالباطل، وإن أسوأ حالاً منهم من استخف بحقهم، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإِحسان، ويسقط حتى الحرمة ة فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من المنطق في موضعه، وعند إصابته فرصة.
مهب الرياح:
وقال عبد الملك للشعبي يوماً: من أين تهب الريح. قال: لا علم لي يا أمير المؤمنين قال عبد الملك: أما مهبُّ الشمال فمن مطلع بنات نَعْش إلى مطلع الشمس، وأما مهبُّ الصَّبَا فمن مطلع الشمس إلى مطلع سُهَيْل، وأما الجنوب فمن مطلع سًهَيْل إلى مغرب الشمس، وأما الذَبُور فمن مغرب الشمس إلى مطلع بنات نَعْش.
حركة للشيعة
وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة بالكوفة، وتلاقوا بالتلاوم والتنادم حين قتل الحسين فلم يغيثوه، ورأوا أنهم قد أخطؤا خطأ كبيراً، بدعاء الحسين إياهم ولم يجيبوه، ولمقتله إلى جانبهم فلم ينصروه، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلا قتل من قتله أو القتل فيه، ففزعوا إلى خمسة نفر منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي، فعسكروا بالنخيلة، بعد أن كان لهم مع المختار بن أبي عُبَيْدِ الثقفي خَطب طويل بتثبيطه الناسَ عنهم ممن أراد الخروج معهم، ففي ذلك يقول عبد الله بن الأحمر يحرض على الخروج والقتال من أبيات:
صحوت وودعتُ الصبا والغوانيا ... وقلت لأصحابي: أجيبوا المنادِيَا
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى ... وقبل الدعا: لَبَّيْكَ لبيك دَاعياً
في شعر طويل يحث فيه على الخروج، ويرثي الحسين ومَنْ قتل معه، ويلوم شيعته بتخلفهم عنه، ويذكر أنهم قد تابوا إلى اللّه وأنابوا إليه من الكبائر التي ارتكبوها إذ لم ينصروه، ويقول أيضاً في هذا الشعر:
ألا وانع خير الناس جداً ووالداً ... حُسيناً لأهل الدين إن كنت ناعياً
ليَبْكِ حسيناً مُرْمِل ذوخَصَاصة ... عديم وأيتامِ تشَكّى المواليا
فأضحى حسين للرماح دريئة ... وغودرمسلوباً لدى الطَفِّ ثاوياً
فياليتني إذ ذاك كنت شهدته ... فضاربت عند الشانئين الأعاديا
سقى الله قبراً ضُمِّنَ المجد والتقى ... بغربية الطف الغمامَ الغواديا
فيا أمةً تَاهَتْ وصًلتْ سفاهة ... أنيبوا فأرْضُوا الواحد المتعاليا
ثم ساروا يقدمهم مَنْ سَمَّينا من الرؤساء وعبد اللّه بن الأحمر يقول:
خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابسا يحملننا أبطالا
نريد أن نلقي بها الأقيالا ... القاسطين الغدُرَ الضُّلاَّلا
وقد رَفَضْنَا الوُلْدَ والأموالا ... والخَفِرَاتِ البيضَ والحجَالا
نرضى به ذا النعم المفضالا
موقعة عين الوردة

فانتهوا إلى قرقيسياء من شاطىء الفرات وبها زُفَرٌ بن الحارث الكلابي، فأخرج إليهم الأنزال، وساروا من قرقيسياء ليسبقوا إلى عين الوردة، وقد كان عبيد الله بن زياد توجهَ من الشام إلى حربهم في ثلاثين ألفاً، وانفصل على مقدمته من الرقة خمسة أمراء، منهم الحصين بن نمير السكوني، وَشَرَحْبيل بن في الكلاع الحميري، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق الغَنَوِي، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي، حتى إذا صاروا إلى عين الوردة التقي الأقوام، وقد كان قبل ذلك لهم مُنَاوَشَاتٌ في الطلائع، فاستشهد سلمان بن صُرَد الخزاعي، بعد أن قَتَلَ من القوم مقتلة عظيمة، وأبلى وَحَثَ وحَرّض، ورماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله، فأخذ الراية المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من وجوه أصحاب علي رضي اللّه عنه، وكَرَّعلى القوم وهو يقول:
قد علمَتْ ميالة الذوائب ... واضحة اللباتِ والترائبِ
أني غداة الروع والمقانب ... أشجع من ذي لِبدَةٍ مُوَاثب
فقاتل حتى قتل، واستقتل الترابيون، وكسروا أجفان السيوف، وسالت عليهم عساكر أهل الشام بالليل ينادون الجنة الجنة إلى البقية من أصحاب أبي تراب الجنة الجنة إلى الترابية، وأخذ راية الترابيين عبد الله بن سعد بن نفيل، وأتاهم إخوانهم يحثُونَ السير خلفهم من أهل البصرة وأهل المدائن في نحو من خمسمائة فارس عليهم المثنى بن مخرمة، وسعد بن حذيفة، وهم يقولون: أقِلْنَا رَبَّنَا تفريطنا فقد تُبْنَا، فقيل لعبد اللّه بن سعد بن نفيل وهو في القتال: إن إخواننا قد لحقونا من البصرة والمدائن، فقال: ذاك لو جاءوا ونحن أحياء، فكان أول من استشهد في ذلك الوقت ممن لحقهم من أهل المدائن كثير بن عمرو المدني، وطعن سعد بن أبي سعد الحنفي، وعبد اللّه بن الخطل الطائي، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل.
فلما علم من بقي من الترابيين: أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشام انحازوا عنهم، وارتحلوا، وعليهم رفاعة بن شداد البجلي، وتأخر أبو الحويرث العبدي في جابية الناس، وطلب منهم أهل الشام المكافَةَ والمتَاركة، لما رأوا من بأسهم وصبرهم مع قلتهم، فلحق أهل الكوفة بمصرهم، وأهل المدائن والبصرة ببلادهمِ، وسمع من الترابيين في مسيرهم ورجوعهم من عين الورده قائلاً يقول، رافعاً عقيرته :
ياعين بكي ابن الصُّرَدْ ... بكي إذا الليل خَمَدْ
كان إذا البأس نكد ... تخاله فيه أسد
مضى حَمِيداً قد رَشَد ... في طاعة الأعلى الصمد
وقد ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من أصحاب التواريخ والسير مَنْ قتل من الترابيين مع سليمان بن صُرَد الخزاعي على عين الوردة وأسماءهم، فقللهم.
وحكي أبو مخنف في كتابه في أخبار الترابيين بعين الوردة قصيدة عزاها إلى أعشى هَمدانَ طويلة يرثي بها أهل عين وردة من الترابيين ويصف مافعلوه، منها:
توخهَ من دون الثنية سائرا ... إلى ابن زياد في الجموع الكتائب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... واخر مما جَرَّ بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاضلا ... عليهم فحيوهم ببيض قواضب
فجاءهُمُ جمع من الشام بعده ... جموع كموج البحرمن كل جانب
فما بَرِحُوا حتى أبيدت جموعهم ... ولم يَنْجُ منهم ثَمَّ غيرعصائب
وغودرَ أهل الصبر صَرْعى فأصبحوا ... تَعَاوَرُهُمْ رِيحُ الصَّبَا والجنائب
وأضْحى الخزاعيُّ الرئيسُ مجدَّلاً ... كأن لم يقاتل مرة ويحارب
ورأس بني شمخ وفارس قومه ... جميعاً مع التيمي هادي الكتائب
وعمرو بن عمرو بن بشر وخالد ... وبكر وزيد والحليس بن غالب
أبَوْا غيرضرب يَفْلق الهام وقعه ... وطعن بأطراف الأسنة صائب
فيا خير جيش للعراق وأهله ... سُقِيتُمْ روايا كل اسحَمَ ساكب
فلا تبْعَدُوا فرسانَنَا وحُمَاتَنَا ... إذا البيض أبدت عن خِدَام الكواعب
فإن تقتلوا فالقتل أكرم ميتة ... وكل فتى يوماً لإحدى النوائب

وما قتلوا حتى أصابوا عصابة ... محلين حورا كالليوث الضوارب
وقيل: إن وقعة عين الوردة كانت في سنة ست وستين.
وصف القرآن لعلي كرم اللّه وجهه
وفي سنة ست وستين، في أيام عبد الملك بن مروان توفي الحارث الأعور صاحب علي عليه السلام، وهو الذي دخل على علي فقال: يا أمير المؤمنين ألا ترى إلى الناس قد أقبلوا على هذه الأحاديث وتركوا كتاب اللّه؟ قال: وقد فعلوها؟ قال: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ستكون فتنة قلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه. قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخَبَرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جَبّار قَصَمه الله، ومن أراد الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الشًي لا تزيغ عنه العقول، ولا تلتبس به الألْسُنُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يعلم علم مثله، هو الذي لمَّا سَمِعَتْه الجنُّ قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد، من قال به صدََقَ، ومن زال عنه عدا، ومن عمل به أجِرَ، ومن تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور.
مقتل عبيد الله بن زياد
ولما كان من وقعة عين الوردة ما قدمنا سار عبيد الله بن زياد في عساكر الشام يؤمُ العراق، فلما انتهى إلى الموصل وذلك في سنة ست وستين - التقى هو وإبراهيم بن الأشتر النخعي، إبراهيم على خيل العراق من قبل المختار بالخازر، فكانت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها ابن مَرْجَانة عبيد الله بن زياد، والحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وابن حوشب ذي ظلم، وعبد الله بن آيا السلمي، وأبو أشرس، وغالب الباهلي، وأشراف أهل الشام، وذلك أن عمير بن الحباب السلمي كان على ميمنة ابن زياد في ذلك الجيش، وكان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط، فصاح: يا لثارات قيس يا لمضر،يا لنزار، فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في جيشهم من أهل الشام من قحطان، وقد كان عمير كَاتَبَ إبراهيم بن الأشتر سرا قبل ذلك، والتقيا، فتوطآ على ما ذكرنا، وحمل إبراهيم بن الأشتر رأس ابن زياد وغيره إلى المختار، فبعث به المختار إلى عبد اللهّ بن الزبير بمكة.
اضطراب في كل ناحية
وقد كان عبد الملك بن مروان سار في جيوش أهل الشام فنزل بطنان ينتظر ما يكون من أمر ابن زياد، فأتاه خبر مقتله ومقتل من كان معه وهزيمة الجيش بالليل، أتاه في تلك الليلة مقتل حبيش بن دلجة، وكان على الجيش بالمدينة لحرب ابن الزبير، ثم جاءه خبر دخول ناتل بن قيس فلسطين من قبل ابن الزبير ومسير مُصْعَب بن الزبير من المدينة إلى فلسطين، ثم جاءه مسير ملك الروم لاوى بن فلنط ونزوله المصّيصة يريد الشام، ثم جاءه خبر دمشق، وأن عبيدها. وأوباشها ودُعَارها قد خرجوا على أهلها، ونزلوا الجبل، ثم أتاه أن مَنْ في السجن بدمشق فتحوا السجن وخرجوا منه مكابرة، وأنِّ خيل الأعراب أغارت على حمص وبعلبك والبقاع، وغير ذلك مما نمي إليه من المفظعات في تلك الليلة، فلم يُرعبدُ الملك فىِ ليلة قبلها أشد ضحكا، ولا أحسن وجهاً، ولا أبسط لساناً، ولا أثْبَتَ جَنَاناً منه تلك الليلة، تجلداً وسياسة للملوك، وترك إظهار الفَشَل، وبعث بأموال وهدايا إلى ملك الروم، فشغله وهادنه، وسار إلى فلسطين وبها ناتل بن قيس على جيش ابن الزبير، فالتقوا بأجنادين، فقتل ناتل بن قيس وعامة أصحابه، وانهزم الباقون، ونمي خبر قتله وهزيمة الجيش إلى مصعب بن الزبير وهو في الطريق، فولى راجعاً إلى المدينة، ففي ذلك يقول رجل من كلب من المروانية:
قَتَلْنَا بأجنادين سعداً وناتلا ... قصاصاً بما لاقى حبيش ومنذر
ورجع عبد الملك إلى دمشق فنزلها، وسار إبراهيم بن الأشتر فنزل نصيبين، وتحصن منه أهل الجزيرة، ثم استخلف على نصيبين، ولحق بالمختار بالكوفة.
بين مصعب والمختار الثقفي ومقتل المختار

وفي سنة سبع وستين سار مصعب بن الزبير من البصرة، وقد كان أخوه عبد الله بن الزبير أنفذه إلى العراق والياً، فنزل حَرُوراء، والتقى هو والمختار فكانت بينهم حروب عظيمة، وقَتْلٌ فريع، وانهزم المختار، وقد قتل محمد بن الأشعث وابنان له، ودخل قصر الإمارة بالكوفة وتحصن فيه، وجعل يخرج كل يوم لمحاربة مصعب وأصحابه من أهل الكوفة وغيرهم والمختار معه خلق كثير من الشيعة قد سموا الخشبية من الكيسانية وغيرهم، فخرج إليهم ذات يوم وهو على بغلة له شَهْبَاء، فحمل عليه رجل من بني حنيفة يقال له عبد الرحمن بن أسد، فقتله واحْتزرأسه، وتنادوا بقتله، فقطعه أهل الكوفة وأصحاب مصعب أعضاء، وأبى مصعب أن يعطي الأمان لمن بقي في القصر من أصحابه، فحاربوا إلى أن أضَرَّ بهم الجَهْدُ، ثم أمنهم وقتلهم بعد ذلك، فكان ممن قتل مع المختارعبيد اللّه بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وله خبر مع المختار في تخلصه منه ومضيه إلى البصرة وخوفه على نفسه من مصعب إلى أن خرج معه في جيشه، وقد أتينا على خبره وسائر ما أومأنا إليه في كتابنا أخبار الزمان فكان جملة مَنْ أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه، فقتلهم مصعب، وسماهم الخشبية، وتتبع مصعب الشيعَةَ بالقتل بالكوفة وغيرها، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له إحداهما بنت سَمُرَةَ بن جندب الفزاري والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، وقالتا: كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله؟ كان صائم نهاره قائم ليله، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قَتَلَةِ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله وشيعته، فأمكنه اللّه منهم حتى شفي النفوس، فكتب مصعب إلى أخيه عبد اللّه بخبرهما وما قالتاه، فكتب إليه إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما، فعرضهما مصعب على السيف، فرجعت بنت سمرة ولعنتة وتبرأت منه، وقالت: لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت: أشهد أن المختار كافر، وأبت ابنة النعمان بن بشير، وقالت: شهادة أرزقها فأتركها. كلا! إنها موتة ثم الجنة والقدوم على الرسول وأهل بيته، والله لا يكون، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب؟ اللهم أشهد إني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بَيْتِه وشيعته، ثم قدَمها فقتلت صبراً، ففي ذلك يقول الشاعر:
إن من أعجب الأعاجيب عندي ... قَتْلَ بَيْضَاء حرة عُطْبُول
قتلوها ظلماًعلى غير جرم ... إن للّه درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرُّ الذيول
ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر المهلب وقتله لنافع بن الأزرق، وذلك في سنة خمس وستين، ونافع هو الذي تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، إذا كنا أتينا في كتابنا أخبار الزمان على ذكر حروب الخوارج مع المهلب وغيره ممن سلف وخلف، وذكرنا شأن مرداس بن عمرو بن التميمي، وعطية بن الأسي الحنفي، وأبي فديك، وشوذب الشيباني وسويد الشيباني وقطامة الشيباني، والمهذب السكوني، وقَطَرِي بن الفُجَاءة، والضحاك بن قيس الشيباني ووقعة ابن الماحوز الخارجي مع المهلب ومقتله، وظفر المهلب بهم في ذلك اليوم، وخبر عبد ربه وأخبار خوارج اليمن كأبي حمزة المختار بن عوف الأزدي، وابن بيهس الهيصمي، مع ما تقدم من ذكرنا لفرق الخوارج في كتابنا المقالات في أصول الديانات من الأباضية وهم شُرَاة عمان من الأزد وغيرهم من الأزارقة والنجدات والحمرية والجابية والصفرية وغيرهم من فرق الخوارج وبلدانهم من الأرض، مثل بلاد سنجار وتل أعْفَرَ من بلاد ديار ربيعة والسن والبوازيج. والحديقة مما يلي بلاد الموصل، ثم من سكن من الأكراد بلاد أذربيجان وهم المعرفون بالشراة منهم، وأسلم المعروف بابن شادلويه، وقد كان تملك على أعمال ابن أبي الساج من بلاد أذربيجان وأران والبيلقان وأرمينية، ومن سكن منهم بلاد سجستان وجبال هَرَاة وكوهستانة وبوشنج من بلاد خراسان ومن بلاد مكران على ساحل البحر بين بلاد السند وكرمان وأكثرهم صفرية وحمرية، ومنهم ببلاد حمران إصطخر وصاهك بين كرمان وفارس، ومنهم ببلاد تيهرت المغرب، ومنهم ببلاد حضرموت وغيرها من بقاع الأرض.
وفاة عبد اللّه بن العباس

وفي سلطنة عبد الملك مات أبو العباس عبد اللهّ بن العباس بن، عبد المطلب في سنة ثمان وستين، وقيل: في سنه تسع وستين، بالطائف، وأمه لُبَابة بنت الحارث بن حزن، من ولد عامر بن صعصعة، وله إحدى وسبعون سنة، وقيل: إنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقد ذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وكان قد ذهب بصره لبكائه على علي والحسن والحسين، وكانت له وَفْرَة طويلة يخْضُب شَيْبه بالحناء، وهو الذي، يقول:
إن يأخُذ ِاللَّه من عينيَّ نورَهُمَا ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير مدَخل، ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له حين وضع له الماء للطهور في بيت خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل.
وقيل لابن عباس رضي اللّه عنه: ما منع علياً رضي اللّه عنه أن يبعثك مكان أبي موسى في يوم الحكمين. فقال: منعه من ذلك حائل القدر، وقصر ادة، ومحنة الإبتلاء، أما واللّه لو بعثني مكانه لاعترضت مدارج نفسه، ناقضاً لما أبرم ومبرماً لما نقض، أسِفُّ إذا طار، وأطير إذا أسَفَّ، ولكن مضى قدر، وبقي أسف، ومع اليوم غد، وللآخرة خير للمتقين.
وكان لابن عباس من الولد: علي، وهوأبو الخلفاء من بني العباس،، والعباس، ومحمد،والفضل، وعبد الرحمن، وعبيد اللهّ، ولُبَابة، وأمهم زرعة بنت مشرح الكندية، فأما عبيد اللهّ ومحمد والفضلَ فَلا أعْقَاب لهم.
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق
وفي سنة سبعين قَتَلَ عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا شهامة وفصاحة وبلاغة وإقدام، وقد كان بينه وبين عبد الملك محادثات ومكاتبات وخَطْب طويل طلباً للملك، وكان فيما كتب إليه عبد الملك: إنك لتطمع نفسك بالخلافة، ولست لها بأهل، فكتب إليه عمرو: استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة الغدر أورثتك الغفلة، زجرت عما وافقت عليه، وندبت إلى ما تركت سبيله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطالب ما انتقل سلطان ولا ذل عزيز، وعن قريب يتبين مَنْ صريع بغي وأسير غفلة.
وقد كان عبد الملك سار إلى زَفَرَ بن الحارث الكلاني وهو بقرقيسياء وبلاد الرحبة وخلف عمرو بن سعيد بدمشق فبلغه أن عمراً قد دعا الناس إلى بيعته بدمشق، فكَرَّ راجعاً إليها، فامتنع عمرو فيها، فناشده عبد الملك الرحم وقال له: لا تفسد أمر أهل بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة، وفيما صنعت قوة لابن الزبير، ارجع إلى بيتك فإني سأجعل لك العهد، فرضي وصالح، ودخل عبد الملك وعمرو متحيز منه في نحو خمسمائة فارس يزولون معه حيث زال.
وقد تنازع أهل السير في كيفية قتل عبد الملك إياه: فمنهم من رأى أن عبد الملك قال لحاجبه: ويحك!! أتستطيع إذا دخل عمرو أن تُغْلِق الباب؟ قال: نعم، قال: فافعل، وكان عمرو رجلاً عظيم الكِبْر لا يرى أن لأحد عليه فضلاً، ولا يلتفت وراءه إذا مشى إلى أحد، فلما فتح الحاجب الباب دخل عمرو، فأغْلَقَ الحاجب الباب دون أصحابه، ومضى عمرو لا يلتفت، وهو يظن أن أصحابه قد دخلوا معه كما كانوا يدخلون، فعاتبه عبد الملك طويلاً، وقد كان وصي صاحب حرسه أبا الزعيزعة بأن يضرب عنقه، فكلمه عبد الملك وأغلظ له القول، فقال: يا عبد الملك، . أتستطيل عليَّ كأنك ترى لك عليَّ فضلاًَ؟ إن شئت واللهّ نقضت العهد بيني وبينك، ثم نصبت لك الحرب فقال عبد الملك: قد شئت ذلك، فقال: وأنا قد فعلت، فقال عبد الملك: يا أبا الزعيزعة شأنَكَ، فالتفت عمرو إلى أصحابه فلم يرهم في الدار، فدنا من عبد الملك، فقال: ما يدنيك مني. قال: لتمسَّني رحمك، وكانت أم عمرو عمة عبد الملك كانت تحت الحكم بن أبي العاص بن وائل، فضربه أبو الزعيزعة فقتله، فقال له عبد الملك: ارْم برأسه إلى أصحابه، فلما رأوا رأسه تفرقوا، ثم خرج عبد الملك فصعد المنبر وذكر عمراً فوقع فيه، وذكر خلافه وَشِقَاقه، ونزل من المنبر وهو يقول:
أدْنَيْتُهُ مِنِّي لِتَسْكُنَ نفْرَةٌ ... فَأصُولَ صَوْلة حازم مُسْتَمْكن

غضبا ومحماة لديني، إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن
وقيل: إن عمراً خرج من منزله يريد عبد الملك، فعثر بالبساط، فقالت له امرأته نائلة بنت قريص بن وكيعِ بن مسعود: أنْشدتُكَ اللّه أن لا تأتيه، فقال: دعيني عنك فواللّه لو كنت نائماَ ما أيقظني، وخرج وهو مكفر بالدرع، فلما دخل على عبد الملك قام مَنْ هناك من بني أمية، فقال عبد الملك وقد أخذت الأبواب: إني كنت حلفت لئن ملكتك لأشدنك في جامعة، فأتى بجامعة فوضعها في عنقه وشَدَّهَا عليه، فأيقن عمرو أنه قاتله، فقال: أنْشُدُكَ اللّه يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك: يا أبا أمية، مالك جئت في الدرع أللقتال.! فأيقن عمرو بالشر فقال: أنشدك اللّه أن تخرجني إلى الناس في الجامعة، فقال له عبد الملك: وتماكرني أيضاً وأنا أمكر منك؟ تريد أن أخرجك إلى الناس فيمنعوك ويستننقذوك من يدي! وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز - وقد كان قدم من مصر في ذلك اليوم - بقتله إذا خرج! وقد قيل: أمر ابنه الوليد بذلك، فلما دنا منه عبد العزيز ناشده عمرو بالرحم فتركه، فلما رجع عبد الملك. من الصلاة ورآه حَيّاً قال لعبد العزيز: واللّه ما أرَدْتُ قتله إلا من أجلكم ألا لا يجوزها دونكم، ثم أضجعه، فقال له عمرو: أغدر يا ابن الزَّرْقَاء.
فذبحه، ووافى أخو عمرو يحيى بن سعيد إلى الباب بمن معه من رجاله ليكسره، فخرج إليه الوليد وموالي عبد الملك، فاقتتلوا، واختلف الوليد ويحيى؟ فضربه يحيى بالسيف على أليته فانصرع، وألقى رأس عمرو إلى الناس، فلما رأوه تفرقوا من بعد أن ألقي عليهم من أعلى الدار بدَر، الدنانير فاشتغلوا بها عن القتال، وقال عبد الملك: وأبيك لئن كانوا قَتَلُوا الوليد فقد أصابوا بثأرهم، وقد كان الوليد فقد حين ضرب، وذلك أن إبراهيم بن عدي احتمله فأدخله بيت القراطيس في المعمعة، وأتى عبد الملك بيحيي بن سعيد ة واجتمعت الكلمة على عبد الملك، وانقاد الناس إليه!.
وقد قيل في مقتله غير ما ذكرنا، وقد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان وقد ذكرنا شعر أخته فيه - وكانت تحت الوليد بن عبد الملك - فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار المنصور؟ إذ هو الموضع المستحق له دون هذا الموضع لما تغلغل بنا إليه الكلام، وتسلسل بنا القول نحوه.
وأقام عبد الملك بدمشق بقية سنة سبعين، وقد كان مصعب بن الزبير خرج حين صفا له العراق بعد قتل المختار وأصحابه، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بباجميرا مما يلي الجزيرة، يريد الشام لحرب عبد الملك، فبلغه مسير خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن اسيد من مكة إلى البصرة في ولده وعدًة من مواليه ناكثاً لبيعة عبد اللّه بن الزبير، فنزل بعض نواحي البصرة، وأن قوماً قد انضافوا إليه من ربيعة ومضر، ومنهم عبد اللّه بن الوليد، ومالك بن مسمع البكري، وصَفْوَان بن الأهتم التميمي، وصعصعة بن معاوية عم الأحنف، فكانت لهم بالبصرة حروب كانت آخرِاً على خالد بن عبد اللّه؟ فخرج هارباً بابنيه في البر حتى لحقوا بعبد لملك، وانصرف مصعب راجعاً إلى البصرة، وذلك في، سنة إحدى وسبعين، ثم عاد من العراق إلى باجميراً؟ ففي ذلك يقول الشاعر:
أبَيتَ يا مُصْعَبُ إلاَسَيْرَا ... فِي كلِّ يَوْمٍ لَكَ باجميرا

ونزل عبد الملك بن مروان على قرقيسياء، فحاصر بها زُفَرَ بن الحارث العامري الكلابي، وكان يدعو إلى ابن الزبير، فنزل على إمامته وبايعه، وسار عبد الملك فنزل على نصيبين - وفيها يزيد والحبشي مواليا الحارث في ألفي فارس ممن بقي من أصحاب المختار يدعون إلى إمامة محمد بن الحنفية - فحاصرهم، فنزلوا على إمامته، وانضافوا إلى جملته! وخرج مصعب في أهل العراق - وذلك في سنة اثنتين وسبعين - يريد عبد الملك، وَدَلَفَ إليه عبد الملك فيَ عساكر مصر والجزيرة والشام ة فالتقوا بمسكن قرية من أرض العراق على شاطىء دجلة، وعلى مقدمة عبد الملك الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل الشقفي، وقيل: على ساقته، وقد أحْمَدَ أمْرَهً في قيامه بما أهل له، فكاتب عبد الملك رؤساء أهل العراق ممن هم بعسكر مصعب وغيرهم سراً وصار يرغَبهم ويرهِّبهم، فكان فيمن كتب إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي، فلما أتاه كتابه مع الجاسوس اعتقله في رَحْله، وأتى مصعباً بالكتاب قبل أن يَفُضّه ويعلم ما فيه، فقال له مصعب: أقرأته؟ فقال: أعوذ باللّه أن أقرأه حتى يقرأه الأمير، وآتيَ يوم القيامة غادراً قد نقضت بيعته وخلعت طاعته، فلما تأمل مصعب ما فيه وجلى أماناً له وولاية لما شاء من العراق وإقطاعاً وغير ذلك، ثم قال إبراهيم لمصعب: هل أتاك أحد من أشراف العساكر بكتاب فقال مصعب: لا، فقال إبراهيم: واللّه لقد كاتبهم وما كاتبني حتى كاتب غيري ولا امتنعوا عن إيصالها إليك إلا للرضا به والغمر بك، فأطِعْنِي وابدأ بهم،. فأمرهم على السيف، أو استوثق منهم في الحديد، والقَ هذا الرجل، فأبى مصعب ذلك، وتحيَّزَ مَنْ كان في عسكره من ربيعة لقتله ابن زياد بن ظبيان البكرىِ، وكان من سادات ربيعة وزعماء بكر بن وائل، وسار إبراهيم بن الأشتر على مقدمة مصعب في متسرعة الخيل، فلقي خيل عبد الملك ومقدمته عليها أخوه محمد بن مروان، وبلغ عبد الملك ورود إبراهيم ومنازلته محمداً أخاه، فبعث إلى محمد: عزمت عليك أن لا تقاتل في هذا اليوم، وقد كَان مع عبد الملك منجم مقدم، وقد أشار على عبد الملك أن لا تحارب له خيل في ذلك اليوم، فإنه منحوس، وليكن حربه بعد ثلاث فإنه ينصر، فبعث إليه محمد: وأنا أعزم على نفسي لأقاتلن ولا ألتفت إلى زخاريف منحمك، والمحالات من الكذب، فقال عبد الملك للمنجم ولمن حضره: ألا ترون. ثم رفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم إن مُصْعَباً أصبح يدعو إلى أخيه وأصبحت أدعو لنفسي، اللهم فانصر خيرنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالتقى محمد بن مروان وابن الأشتر، ومحمد يرتجز ويقول:
مثلي على مثلك أولى بالسلب ... محجل الرجلين أعرب الذنب
فاقتتلوا حتى غشيهم المساء، فقال عتاب بن وَرْقَاء التميمي، وكان مع ابن الأشتر: يا إبراهيم، إن الناس " قد جُهدُوا فمرهم بالانصراف، حسداً له لإِشرافه على الفتح، فقال له إبراهيم: وكيف ينصرفون وعدوهم بإزائهم؟! فقال عتاب: فمر الميمنة أن تنصرف، فأبى إبراهيم ذلك، فمضى إليهم عتاب فأمرهم بالإِنصراف، فلما زالوا عن مصافهم أكَبَّتْ ميسرة محمد عليهم، واختلط الرجال، وصمدت الفرسان لإِبراهيم، واشتبكت عليه الأسِنَّةُ، فبرى منها عدة رماح، وأسلمه من كان معه، فاقتلع من سرجه ودار به الرجال وازدحموا عليه، فقتل بعد أن أبلى ونكأ فيهم، وقد تنوزع في اخذ رأسه: فمنهم من زعم أن ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير الكندي هو الذي أخذ رأسه، ومنهم من ذكر أن عبيد بن ميسرة مولى بني يشكر ثم من بني رفاعة هو الذي أخذ رأسه، وأتى عبد الملك بجسد إبراهيم فألقي بين يديه، فأخذه مولى الحصين بن نمير، فجمع عليه حطباً وأحرقه بالنار.

وسار عبد الملك في صبيحة تلك الليلة من موضعه حتى نزل بدير الجاثليق من أرض السوداء، وأقبل عبيد اللهّ بن زياد بن ظبيان وعكرمة بن ربعي إلى رايات ربيعة فأضافوا إلى عسكر عبد الملك ودخلوا في طاعته، ثم تَصَافَّ القوم، فأفرد مصعب، وتخلى عنه من كان معه من مصر واليمن، وبقي في سبعة نفر منهم إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه التميمي، وابنه عيسى بن مصعب، فقال لابنه عيسى: يا بني اركب فرسك فانج بنفسك فالحق بمكة بعمك، فأخبره بما صنع بي أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال له: لا واللّه، لا يتحدث نساء قريش إني فررت عنك، ولا أحدثهم عنك أبداً، فقال له مصعب: أما إذ أبيت فتقدم أمامي حتى أحتسبك، فتقدم عيسى فقاتل حتى قتل.
وسأل محمد بن مروان أخاه " عبد الملك أن يؤمن مصعباً، فاستشار عبد الملك من حضره، فقال له علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب: لا تؤمنه، وقال خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: بل أمنه، وارتفع الكلام بين علي وخالد حتى تسابا على مصافهما، فأمر عبد الملك أخاه محمداً أن يمضي إلى مصعب فيؤمنه ويعطيه عنه ما أراد، فمضى محمد فوقف قريباً من مصعب، ثم قال: يا مصعب، هلم إليَ، أنا ابن عمك محمد بن مروان، وقد أمَّنَكَ أمير المؤمنين على نفسك ومالك، وكل ما أحدثت، وأن تنزل أي البلاد شئت، ولو أراد بك غير ذلك لأنزله بك، فأنشدك اللّه في نفسك.
وأقبل رجل من أهل الشام إلى عيسى بن مصعب ليحتزرأسه، فعطف عليه مصعب والرجل غافل، فناداه أهل الشام: ويلك يا فلان الأسد قد أقبل نحوك، ولحقه مصعب فقدّه، وعُرْقِبَ فرسُ مصعب، وبقي راجلاً، فأقبل عليه عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان فاختلفا ضربتين، سبق مصعب بالضربة إلى رأسه وكان مصعب قد أثخن بالجراح، وضربه عبيد الله فقتله، واحتزرأسه، وأتى به عبد الملك، فسجد عبد الملك، وقبض عبيد اللّه بن زياد على قائم سيفه فاجتذبه من غمده حتى أتى على أكثره سلاً ليضرب عبد الملك في حال سجوده، ثم ندم واسترجع، فكان يقول بعد ذلك: ذهب الفَتْكُ من الناس، إذ هممت ولم أفعل فأكون قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكي العرب في ساعة واحدة، وتمثل عبيد اللّه عند مجيئه برأس مصعب:
نعاطي الملوك الحقَّ مَاقَسَطُوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
وقال عبد الملك: متى تلد قريش مثل مصعب؟ وكان قتل مصعب يوم الثلاثاء، لثلاث خلت من جماعي الأولى سنة اثنتين وسبعين، وأمر عبد الملك بمصعب وابنه عيسى فدفنا بدَيْرِ الجاثليق، ودعا عبد الملك أهل العراق إلى بيعته فبايعوه.
وقد كان مسلم بن عمرو الباهلي من صنائع معاوية وابنه يزيد، و في ذلك اليوم في جيش مصعب، فأتى بعد عبد الملك وقد أخذ له منه الأمان، فقيل له: أنت ميت لا ترجو الحياة لما بك من الجراح، فما تصنع بالأمان؟ قال: ليسلم ما لي ويأمن ولدي بعدي، فلما وضع بين يدي عبد الملك قال: قَطَعَ اللّه يَدَ ضاربك كيف لم يجهز عليك. أكفرت صنائع آل حرب معك؟ فأمنه على ماله وولده ومات من ساعته.
وفي مصرع مصعب بدير الجاثليق من أرض العراق، يقول عبد اللهّ بن قيس الرقيات:
قد أوْرَث المصرين عاراً وذلة ... فتيلٌ بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت للّه بكر بن وائل، ... ولا صبرت عند اللقاء تميم
لكنه ضاع الذمار، ولم يكن ... بها مُضَريٌ يوم ذاك كريم
جزى اللَّه بصرياً بذاك ملامة ... وكوفيهم، إن المليم مُلِيم
وفي ذلك يقول شاعر أهل الشام من أبيات:
لعمري لقد أضْجَرَتْ خيلُنَا ... بأكناف دجلة للمصعب
يهزون كل طويل القنا ... ة مُعْتَدِلَ النصل والثعلب
إذا ما منافق أهل العرا ... ق عوتب يوماً فلم يُعْتِب
دلَفْنَا إليه لدى موقف ... قليل التفقُّدِ للغُيَّبِ
وقد كان مصعب ذا حسن، وجمال، وهيئة، وكمال في الصورة، وفيه يقول ابن قيس الرقيات من كلمة:
إنما مصعب شهاب من اللَّه تجلَتْ عن وجهه الظلماء
وقد أتينا على أخبار مصعب، وسُكَيْنة بنت الحسين زوجه، وعائشة بنت طلحة وليلى من نسائه وغير ذلك من أخباره في الكتاب الأوسط.
أربعة رؤوس في مكان واحد

وحدث المنقري، قال: حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثنا مروان ابن معاوية الفزاري، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مسلم النخعي، قال: رأيت رأس الحسين جيء به، فوضع في دار الِإمارة بالكوفة بين يدي عُبَيْد اللّه بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد اللهّ بن زياد قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار قد جيء به فوضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبيرقد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي عبد الملك.
وقد قيلِ في وجه آخر من الروايات، قال الراوي: فرأى عبد الملك مني اضطراباً، فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلْتُ هذه الدار فرأيْتُ رأس الحسين بين يدي ابن زياد في هذا الموضع، ثم دخلتها فرأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار فيه ة ثم دخلتها فرأيت رأس المختار بين يديْ مصعب ابن الزبير، وهذا رأس مصعب بين يديك، فوقاك الله يا أمير المؤمنين، قال: فوثب عبد الملك بن مروان، وأمر بهَدم الطاق الذي على المجلس، ذكر هذا الحديث عن الوليد بن خباب وغيره.
الناس يبايعون عبد الملك
وسار عبد الملك من دير الجاثليق حتى نزل النخيلة بظهر الكوفة، فخرج إليه أهل الكوفة فبايعوه، ووفى للناس بما كان وعدهم به في مكاتبته إياهم سراً، وخلع، وأجاز، وأقْطَعَ، ورتب الناس على قدر مراتبهم، وعمهم ترغيبه، وترهيبه، وولّى على البصرة خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسد وعلى الكوفة بشر بن مروان أخاه، وخلف معه جماعة من أهل الرأي والمشورة من أهل الشام منهم روح بن زِنْبَاع الجُذَامي، وبعث بالحجاج بن يوسف لحرب ابن الزبير بمكة، وسار في بقية أهل الشام إلى دارملكه.
روح بن زنباع وبشر بن مروان
وكان بشر بن مروان أديباً ظريفاً، يحب الشعر والسَّمَرَ والسماع والمعاقرة، وقد كان أخوه عبد الملك قال له: إن روحا عمك الذي لا ينبغي أن تقطع أمراً دونه، لصدقه وغفافه ومناصحته ومحبته لنا أهل البيت، فاحتشم بشر منه، وقال لندمائه: أخاف إن انبسطنا أن يكتب روح إلى أمير المؤمنين بذلك، وإني لأحِبُّ من الأنس والاجتماع ما يحبه مثلي، فقال له بعض ندمائه من أهل العراق بحسن مساعدته ولطيف حيلته: أنا أكفيك أمره حتى ينصرف عنك إلى أمير المؤمنين غير شاكٍ ولا لائم، فسُرَّ بشر، ووعده الجائزة وحسن المكافأة إن هو تأتّى له ما وعد به، وكان روح شديد الغيرة، وكانت له جارية إذا خرج من منزله إلى المسجد أو غيره ختم بابه حتى يعود بعد أن يقفله، فأخذ الفتى دواةً وأتى منزل روح عشياً مختفياً وخرج روح للصلاة، فتوصل الفتى إلى دخول الدهليز في حال خروج روح، وكَمَنَ تحت الدرجة، ولم يزل يحتال ليلته حتى توصل إلى بيت روح، فكتب على حائط في أقرب المواضع من مرقد روح:
يا روح مَنْ لبنيات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي
إن ابن مَرْوَانَ قد حانت مَنِيَّته ... فاحتل لنفسك ياروح بْنَ زنباع
ولا يغرنك أبكار منعمة ... واسمع هديت مقال الناصح الداعي

ورجع إلى مكانه بالدهليز، فبات فيه، فلما أصبح روح خرج إلى الصلاة فتبعه غلمانه، والفتى متنكر في جملتهم مختلط بهم، فلما عاد روح وافتتح باب حجرته تبين الكتابة وقرأها، فراعه ذلك وأنكره، وقال: ما هذا. فواللّه ما يدخل حجرتي إنسي سواي، - ولاحظ لي في. المقام بالعراق ثم نهض إلى بشر، فقال له: يا ابن أخي، أوْصِنِي بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين، قال: أو تريد الشخوص يا عم؟ قال: نعم، قال: ولم؟ هل آنكرت شيئا أو رآيت قبيحاً لا يسعك المقام عليه. قال: لا واللّه، بل جزاك اللّه عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكنْ أمر حَدَثَ، ولا بدَّ لي من الإِنصراف إلى أمير المؤمنين فأقسم عليه أن يخبره، فقال له: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت إلى أيام، قال: ومن أين علمت بذلك. فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل حجرتك غيري وغير جاريتي فلانة، وما كتب ذلك إلا الجن أو الملائكة، فقال له بشر: أقم فإني أرجو أن لا يكون لهذا حقيقة، فلم يَثْنِه شيء، وسار إلى الشام، فأقبل بشر على الشراب والطرب، فلما لقي روح عبد الملك أنكر أمره، وقال: ما إقدامك إلا لحادثة حدثت على بشر، أو لأمر كرهته، فأثنى على بشر، وحمد سيرته، وقال: لا بل لأمر لا يمكنني ذكره حتى تخلو، فقال: عبد الملك لجلسائه : انصرفوا، وخلا بروح، فأخبره بقصته وأنشده الأبيات، فضحك عبد الملك حتى استغرق، وقال: ثقلت على بشر وأصحابه حتى احتالوا لك بما رأيت، فلا تُرَعْ.
عبد اللّه بن الزبير ينعي أخاه مصعباً:
ولما اتصل قتل مصعب بأخيه عبد اللهّ أضرب عن ذكره حتى تحدث بذلك العبيد والإِماء في سكك المدينة ومكة، فصعد المنبر وجبينه يَرْشَح عرقاً، فقال: الحمد للّه ملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزِمن يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ألا إنه لن يذل اللّه من كان الحق معه، ولن يعز من كان أولياء الشيطان حزبه، إنه أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا، وهم قتل مصعب، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذلك إلى كريم الصبر وجميل العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن القتال له شهادة، ويجعل اللّه لنا وله في ذلك الخيرة، أما واللّه إنا لا نموت حتفاً كميتة آل أبي العاص وإنما نموت بعصاً بالرماح، وقتلاً تحت ظلال السيوف، ألا وإن الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يتبدل، فإن تُقْبل الدنيا عليَ لا آخذها أخذ الأشَرِ البطِرِ، وإن تُدْبِرْ. عني لا أبكي عليها بكاء الحزين المهين.
الحجاج في مكة
فأتى الحجاج الطائف، فأقام بها شهوراً، ثم زحف إلى مكة، فحاصر ابن الزبير بها، وكتب إلى عبد الملك: إني قد ظفرت بأبي كبيس، فلما ورد كتابه على عبد الملك بحصار ابن الزبير بمكة والظفر بأبي كبيس كَبَّر عبد الملك فكبر من معه في داره، واتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبروا، واتصل ذلك بأهل الأسواق فكبروا ثم سألوا عن الخبر، فقيل لهم: إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة وظفر بأبي كبيس، فقالوا: لا نرضى حتى يحمله إلينا مكبلاً على رأسه برنس على جمل يمر بنا في الأسواق الترابي الملعون، وكان حصار الحجاج لابن الزبير بمكة هلال في القعدة سنة اثنتين وسبعين، وفيها قتل مصعب وما ذكرنا من قول أهل دمشق في ابن الزبير فذكره عمر بن شبة النميري عن ابن عاصم ومنعِ ابن الزبير الحجاج أن يطوف بالبيت، ووقف الْحَجاجُ بالناس بعرفة محرماًَ في درع ومعفر، وهو من أبناء إحدى وثلاثين سنة، ونَحَر ابن الزبير بمكة، ولم يخرج إلى عرفة بسبب الحجاج، فكانت مدة حصار الحجاج لابن الزبير بمكة خمسين ليلة.
ابن الزبير وأمه أسماء بنت أي بكر

ودخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللهّ عنه وقد بلغت من السِّنِّ مائة سنة لم تَقَعْ لها سن، ولا ابيضَّ لها شعر، ولم ينكر لها عقل، على حسب ما قدمنا من خبرها في هذا الكتاب، فقال: يا أمه، كيف تجدينك ؟قالت: إني لشاكية يا بني، فقال لها: إن في الموت راحة، قالت: لعلك تمنَاه لي، وما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قُتِلْتَ فأحتسبك، وإما ظفِرْتَ فقرَّتْ عيني بك، وأوصى عبد اللّه بما يحتاج من أمره وأمر نساءه إذا سمعن الواعية عليه أن يضممن أمه أسماء إليهن، وكان عروة بن الزبير على رأي عمه عبد الملك بن مروان، وكانت كتُبُ عبد الملك بن مروان إلى الحجاج متصلة يأمره بتعاهد عروة وأن لا يسوءه في نفسه وماله، فخرج عروة إلى الحجاج، ورجع إلى أخيه فقال له: هذا خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن أسيد وعمرو بن عثمان بن عفان يعطيانك أمان عبد الملك على ما أحْدَثْتَ أنت ومن معك، وأن تنزل أي البلاد شئت، لك بذلك عهد اللّه وميثاقه، وغير ذلك من الكلام، فأبى عبد اللّه قبول ذلك، وقالت له أمه أسماء: أيْ بنيَّ، لا تقبل خُطّةً تخاف على نفسك منها مخافة القتل، مت كريماً، وإياك أن تؤسر، أو تعطي بيديك، فقال: يا أمه، إني أخاف أن يمثل بي بعد القتل، فقالت: يا بني، وهل تتألم الشاة من ألم السَّلْخ بعد الذبح؟ ودخلوا على ابن الزبير في المسجد وقت الصلاة، وقد التجأ إلى البيتوهم ينادون: يا ابن ذات النَطَاقَيْنِ، فقال ابن الزبير متمثلاً:
وغيَّرَهَا الواشون إني أحبها ... وتلك شَكَاة ظاهر عنك عارها
ونظر إلى طائفة منهم قد أقبلوا نحوه بالسيوف، فقال لأصحابه: من هؤلاء؟ قالوا: أهل مصر، قتلة عثمان أمير المؤمنين ورَبٌ الكعبة، فحمل عليهم، فضرب رجلاً منهم به أدمة فقدَه، وقال: صبراً يا ابن حام، وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام ومصر، فلم يزل يضرب بهم حتى أخرجهم عن المسجد، ورجع إلى. البيت وهو يقول:
لست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا أبتغي من رَهْبَة الموت سلما
فاستلم الحجر، ثم تكاثروا عليه، فحمل عليهم، وهو يقول:
قد سَنَّ أصحابك ضرب الأعناق ... وقامَتِ الحرب بنا على ساق
فأتاه حجر فصك جبينه فأدماه وأوْضَحَه، فقال:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا اتَقْطُر الدما
فكشفهم عن المسجد، ورجع على من بقي من أصحابه عند البيت، فقال لهم: ألقوا أغماد السيوف، وليصونِ كل رجل منكم سيفه كما يصون وجهه، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد، ولا يسأل رجل منكم: أين عبد اللّه، من يسأل عني فإنني في الرعيل الأول، ثم أنشأ يقول:
يا رب إن جنود الشام قد كثروا ... وهَتَكُوا من حجاب البيت أستارا
يارب إني ضعيف الركن مضْطَهَد ... فابعث إليَّ جنوداً منك أنصارا
وتكاثر أهل الشام عليه ألوفا من كل باب، فحمل عليهم، فشَدِخَ بالحجارة، فانصرع، وأكب عليه موليان له وأحدهما يقول:
العبد يحمي ويحتمي
حتى قتلوا جميعاً، وتفرق من كان معه من أصحابه، وأمر به الحجاج فصلب بمكة، وكان مقتله يوم الثلاثاء، لأربع عشرة ليلة خلت من جمادي الأولي، سنة ثلاث وسبعين.
وكلمت أسماء أمه الحجاج في دفنه، فأبى عليها، فقالت للحجاج: أشهد إني لسمعْتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج من ثقيف كذاب ومُبِير فأما الكذاب فهو المختار، وأما المبير فما أظنك إلا هو " .
وسنذكر لمعاً من أخبار الحجاج فيما يرد من هذا الكتاب، وإن كنا قد أتينا على مبسوطها فيما تقدم من كتبنا.
ولاية الحجاج الحجاز
وأقام الحجاج والياً على مكة والمدينة والحجاز واليمن واليمامة ثلاث سنين، ثم جمع له العراق بعد موت بشر بن مروان بالبصرة.
جابر بن عبد اللّه
ومات جابر بن عبد الله الأنصاري في أيام عبد الملك بالمدينة، وذلك في سنة ثمان وسبعين، وقد ذهب بصره، وهو ابن نيف وتسعين سنة.

وقد كان قدم إلى معاوية بدمشق، فلم يأذن له أياماً، فلما أذن له قال: يا معاوية، أما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يقول: " من حجب ذا فاقة وحاجة حجبه الله يوم القيامة، يوم فاقته وحاجته فغضب معاوية، وقال له: سمعته يقول: إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تَردُوا على الحوِض أفلا صبرت؟ قال: ذكرتني ما نسيت، وخرج فاستوى على راحلته. ومضى فوجه إليه معاوية بستمائة دينار، فردها وكتب إليه:
إني لأخذن القنوع على الغنى ... إذا اجتمعا والماء بالبارد المحض
وأقضي على الأمر نابني ... وفي الناس من يُقْضَى عليه ولا يَقْضِي
وألبس أثواب الحياء، وقد أرى ... مكان الغنى أن لا أهين به عرضي
وقال لرسوله: قل له وار يا ابن آكلة الأكباد لا وجدتَ في صحيفتك حسنة أنا سبيها أبداً.
محمد بن الحنفية
ومات محمد بن علي بن أبي طالب، ابن الحنفية في سنة إحدى وثمانين في أيامه بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه أبَانُ بن عثمان بن عفان بإذن ابنه أبي هاشم، وكان محمد يكنى بأبي القاسم، وقبض وهو ابن خمس وستين سنة وقيل: إنه خرج إلى الطائف هارباً من ابن الزبير فمات بها، وقيل: إنه مات ببلاد أيلة، وقد تنوزع في موضع قبره، وقد قدمنا قول الكيسانية ومن قال منهم إنه بجبل رَضْوَى، وكان له من الولد: الحسن، وأبو هاشم، وعبد اللهّ، وجعفر الأكبر، وحمزة، وعلي؟ لأم ولد وجعفرا الأصغر وعَوْن، أمهما أم جعفر والقاسم، وإبراهيم.
حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا سهل بن عبيد بن عمرو الخابوري قال: كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: إن الحجاج قد قدم بلدنا وقد خِفْتُه فأحبُّ أن لا تجعل له علي سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج: إن محمد بن علي كتب إلي يستعفيني منك، وقد أخرجْتُ يدك عنه، فلم أجعل لك عليه سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فلا تتعرض له، فلقيه في الطواف فعض على شفته، ثم قال: لم يأذن لي فيك أمير المؤمنين، فقال: له محمد ويحك أوَ ما علمت أن للّه تبارك وتعالى في كل يوم وليلة ثلاثمائة وستين لحظة، أو قال نظرة، لعله أن ينظر إليَّ منها بنظرة، أو قال يلحظني بلحظة، فيرحمني فلا يجعل لك عليَّ سلطاناً بيد ولا لسان، قال: فكتب. بها الحجاج إلى عبد الملك، فكتب بها عبد الملك إلى ملك الروم وكان قد توعدَه، فكتب إليه ملك الروم، ليست هذه من سجيتك ولا من سجية آبائك، ما قالها إلا نبي، أو رجل من أهل بيت نبي.
ملك الروم والشعبي
وذكر الشعبي قال: أنفذني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة، حتى استحببت خروجي، فلما أردت الإنصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت. قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إلي رُقْعة، وقيل لي: إذا أديت الرسائل عند وصولك إلى صاحبك أوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك، ونسيت الرقعة فلما صرت في بعض الدار إذ بدأت بالخروج تذكرتها فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك. قلت: نعم، قال لي من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددْتُ، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة. قلت: لا، قال: اقرأها، فلما قرأتها فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف مَلّكُوا غيره، فقلت له: واللّه لو علمتَ ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك، قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك، قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال.
وصف معاوية عبد الملك
وذكر عند معاوية عبد الملك فقال: هو آخذ بثلاث، وتارك لثلاث:

آخذ بقلوب الناس إذ حَدَّث، ويحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر الأمرين إذا خولف، تارك للمُمَارَاة، تارك للغيبة، وتارك لما يعتفر منه. وقال لعبد الملك بعض جلسائه يوماً: أريد الخلوة بك، فلما خلا به قال له عبد الملك: بشرط ثلاث خصال: لا تُطْرِ نفسي عندك فأنا أعلم بها منك، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع منك، ولا تكذبني فلا رأي لمكذب، قال: أتأذن لي في الإنصراف. قال: إذا شئت.
عبد الملك وعامل له قبل هدية
وذكر الهيثم وغيره من الأخباريين أن عبد الملك بلغه عن عامل من عماله أنه قبل الهدايا، فأشخصه إليه، فلما دخل عليه قال له، أقبلت هدية منذ ولّيت. قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ ولّيتك. قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم، ولئن كنت أنلت مُهْدِيها من غير مالك أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه إنك لخائن جائر، وما أتيت أمرٌ لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع، وأمر بصرفه من عمله.
عبد الملك وعمرو بن بلال يصلح بينه وبين زوجته
وحدث المنقري عن الضبي قال: قال الوليد بن إسحاق: قال ابن عباس: كانت عاتكة بنت يزيد بن معاوية - وأمها أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر - تحت عبد الملك بن مروان، فغضبت عليه، فطلب رضاها بكل شيء، فأبَتْ عليه وكانت أحَبَّ الناس إليه، فشكا ذلك إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال رجل من بني أسد كان قد تزوج بنت زنباع الجذامي: مالي عليك إن أرضيتها؟ قال: حكمك، فخرج وجلس ببابها يبكي فقالت له خاصتها: ما لك تبكي أبا حفص؟ قال: فزعت إلى ابنة عمي، فاستأذنوا لي عليها، فأذنت له وبينهما ستر، فقال: عرفْتِ حالي مع أمراء المؤمنين معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، ولم يكن لي غير ابنين فَعَدَا أحدهما على الاخر فقتله، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل المعتدي، قلت له: أنا ولي الدم وقد عفوت، فأبى عَلًي وقال: ما أحب أن أعَوِّد رعيتي هذا، وهو قاتله بالغداة، فأنشدك اللّه إلا ما طلبته منه، فقالت: لا أكلمه، قال: ما أظنك تكسبين شيئاً هو أفضل من إحياء نفس، ولم يزل بها خواصها وخدمها وحاشيتها حتى قالت: علي بثيابي، فلبست، وكان بينها وبين عبد الملك باب، وكانت قد ردمته، فأمرت بفتحه، ثم دخلت فأقبل الخَصِيُ يشتد فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة، قال: ويلك!! ورأيتها. قال: نعم، إذ طلعت وعبد الملك على سريره، فسلمت، فسكت، فقالت: أما واللّه لولا مكان عمرو بن بلال ما أتيتك، الله أنْ عَدَا أحد أبنيه على الاخر فقتله وهو ولي الدم وقد عفا عنه أعزمت لتقتلَنَّه، قال: إي واللّه وهو راغم، فأخذت بيده فأعرض عنها، فأخذت برجله فقبلتها، فقال: هو لك، وتراضَيا بعد أن نكحها ثلاثاً وراح عبد الملك فجلس للخاصة، فدخل عمرو بن بلال، فقال له: يا أبا حفص، ألطفت الحيلة في القيادة، ولك الحكم، فقال: يا أمير المؤمنين، ألف دينار ومزرعة بما فيها من الآلات والرقيق، قال: هي لك، قال: وفرائض لولدي وأهل بيتي، قال: وذلك كله، وبلغ عاتكة. الخبر، فقالت: ويلي على القَوَّاد، إنما خدعني.
الحجاج يصف الفتنة
وكتب عبد الملك إلى الحجاج أن صِفْ لي الفتنَةَ، فكتب إليه: إن الفتنة تشب بالنجوى، وتحصد بالشكوى، وتنتج بالخطب، فكتب إليه: إنك قد أصبت وأحسنت الصفة، فإن أردت أن يستقيم لك مَنْ قبلك فخذهم بالجماعة، وأعطهم عطاء الفرقة، وألصق بهم الحاجة.
وحدثنا المنقري، قال: حدثنا أبو الوليد الصباح بن الوليد قال: حدثنا أبو رياش ضب بن الفاقة، عن مقلس بن سابق الدمشقي ثم السكسكي، أن عبد الملك لما بلغه خلع ابن الأشعث صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق استعجلوا قدري قبل إنقضاء أجلي، اللهم لا تسلطنا على مَنْ هو خير منا، ولا تسلط علينا مَنْ نحن خير منه، اللهم سلط سيف أهل الشام على أهل العراق حتى يبلغ رضاك، فإذا بلغه فلا تجاوز به سخطك.
كتاب من عبد الملك إلى الحجاج لم يفهمه

وكتب عبد الملك إلى الحجاج: أنت عندي سالم، فلم يعرف ما أراد بذلك، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن ذلك، وبعث الكتاب مع رسول فلما ورد على قتيبة وناوله الكتاب ضرط الرسول، فخجل واستحيا، فقرأه قتيبة وأراد أن يقول له أقعد فقال: اضرط، قال: قد فعلت، فاستحيا قتيبة وقال: ما أردت إلا أن أقول لك اقعد فغلطت، فقال: قد غلطت أنا وغلطت أنت، قال قتيبة: ولا سواء، أغلط أنا من فمي وتغلط أنت من استك، أعْلِم الأمير أن سالماً كان عبداً لرجل، وكان عنده أثيراً، وكان يُسْعَى به إليه كثيراً، فقال:
يُدِيرُونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العَيْنِ والأنف سالم
فأراد عبد الملك أنك عندي بمنزلة سالم، فلما أتى الحجاج بالرسالة كتب له عهداً على خراسان.
وقد روي نحو هذا الخبر عن رجل كان في مجلس خالد بن عبد الله القَسْرِي فضرط، فلما حضر الغداء قام ذلك الرجل، فقال له خالد: اقعد، فأبى، فقال له: أقسمت عليك لتضرطن، قال: قد ضرطت، فخجل خالد، واعتذر إليه، وأمر له بمال.
وأهدي إلى عبد الملك أترسه مكللة بالمر والياقوت، فأعجبته، وعنده جماعة من خاصته وأهل خلوته، فقال لرجل من جلسائه اسمه خالد: اغمز منها ترساً، وأراد أن يمتحن صلابته، فقام فغمزه فضرط، فاستضحك عبد الملك، فضحك جلساؤه - ، فقال: كم دية الضرطة. فقال بعضهم: أربعمائة درهم وقطيفة، فأمَرَ له بذلك، فأنشأ رجل من القوم:
أيَضْرُط خالد من غَمْزِترس ... ويحبوه الأمير بها بدورا
فَيَا لَكِ ضَرْطة جلبت غناء ... وَيَا لَكِ ضَرْطة أغْنَت فقيرا
يَودُ الناس لو ضرطوا فنالوا ... من المال الذي أعْطِي عشيرا
ولو نَعْلَم بأنَّ الضَّرْط يغني ... ضَرَطنا أصلحَ اللَّهُ الأميرا
فقال عبد الملك: أعطوه أربعة آلاف درهم، ولا حاجة لنا في ضراطك.
عبد الملك يحج
وحدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي والطُّوسي وغيرهما في كتاب الأخبار المعروف بالموقعيات، عن الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن يزيد عن عُتْبَة بن أبي لهب، قال: حج عبد الملك فيَ بعض أعوامه، فأمر للناس بالعطاء، فخرجت بدرة مكتوب عليها من الصدقة فأبى أهل المدينة من قبولها وقالوا، إنما كان عطاؤنا من الفيء، فقال عبد الملك وهو على المنبر: يا معشر قريش، مَثَلُنَا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة تحت صَفَاة، فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما.، فقالا: إن هذا لمن كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيام كل يوم تخرج إليهما ديناراً، فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه. فنهاه أخوه، وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه، وأخذ فأساً معه ورَصَدَ الحية حتى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها، فثارت الحية فقتلته، ورجعت إلى جحرها، فقام أخوه فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوباً رأسها ليس معها شيء، فقال لها: ما هذه، إني واللّه ما رضيت ما أصابك، ولقد نهيت أخي عن ذلك، فهل لك أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه. قالت الحية: لا، قال: ولم ذلك. قالت: إني لأعلم أن نَفْسَكَ لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبداً وأنا أذكر هذه الشجَّة، وأنشدهم شعر النابغة:
فقالت: أرَى قَبْراً تراه مقابلي ... وَضَرْبَةَ فَأْسٍ فوق رأسي فاقره
فيا معشر قريش، وليكم عمر بن الخطاب فكان فَظّاً غليظَاَ مُضَيِّقاً عليكم، فسمعتم له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليناً كريماً فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا عليكم مسلماً يوم الحرة فقتلتموه، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تُحِبُّوننا أبداً وأنتم. تْذكرون يوم الحرة، ونحن لا نحبكم أبداً ونحن نذكر مقتل عثمان.

وحدث المدائني وابن دأب أن روح بن زنباع جليس عبد الملك رأى منه إعراضاً وجفوة، فقال للوليد بن عبد الملك: أما ترى ما أنا فيه من أمير المؤمنين بإعراضه عني بوجهه حتى لقد فَغَرَتِ السباع بأفواهها نحوي وأهوت بمخالبها إلى وجهي. فقال له الوليد: احْتَلْ له في حديث تضحكهَ به كما احتال مرزبان نديم سابور بن سابور ملك فارس، قال روح: وما كان من خبره جمع الملك. قال الوليد: كان مرزبان هذا من سمَار سابور فظهرت له من سابور جَفْوة، فلما علم ذلك تعلّم نُبَاح الكلاب، وعُوَاء الذئاب، ونهيق الحمير، وزقَاء الديوك، وشَحِيجَ البغال، وصَهِيل الخيل، ومثل هذا، ثم احتال حتى توصَّلَ إلى موضعِ يقرب من مجلس خلوة الملك وفراشه، وأخفى أثره، فلما خلا الملك نبَحَ نُبَاحَ الكلاب فلم يشك الملك أنه كلب، فقال الملك: انظروا ما هذا. فعوى عُواء الذئاب، فنزل الملك عن سريره، فنهق نهيق الحمير، فمضى الملك هارباً، ومضى الغلمان يتبعون الأثر والصوت، فكلما دَنَوْا منه ترك ذلك الصوت وأحدث صوتاً آخر من أصوات البهائم، فأحْجَمُوا عنه، ثم اجتمعوا فاقتحموا عليه فأخرجوه، فلما نظروا إليه قالوا للملك: هذا مرزبان المضحك، فضحك الملك ضحكاً شديداً، وقال له: ويلك!! ما حَملكَ على هذا. قال: إن اللّه مسخني كلباً وذئباً وحماراً وكل خلق لما غضبت علي، فأمر الملك بالخلع عليه، وردَه إلى مرتبته التي كان فيها، وتجدد للملك به سرور، فقال روح للوليد: إذا اطمأن المجلس بأمير المؤمنين فاسألني عن عبد الله بن عمر هل كان يمزح أو يسمع مُزَاحاً؟ قال الوليد أفعل، وكان عمر صاحب سلامة لا يمزح ولا يعرف شيئاً عن المُزَاح فتقدم الوليد وسبقه بالدخول، فتبعه روح، فلما اطمأنَّ بهما مجلس عبد الملك قال الوليد لروح، يا أبا زرعة، هل كان ابن عمر يمزح أو يسمع المُزَاح؟ قال روح: حدثني ابن أبي عتيق أن امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن المخزومية هَجَته فقالت:
ذَهَبَ الإلهُ بما تعيش به ... وقُمِرْتَ عَيْشَك أيَّمَا قَمْرِ
انفَقْتَ مَالَكَ غَيرَمُحْتَشِم ... في كل زانية وفي الخمر
وكان ابن أبي عتيق صاحب غزل وفكاهة، فأخذ هذين البيتين في رقعة وخرج بهذا الشعر فإذا هو بابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، انظر في هذه الرقعة وأشِرْ علي برأيك فيها، فلما قرأها عبد اللّه استرجع، فقال له: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر، قال: أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله يا أبا عبد الرحمن لئن لقيته بناحية لإنيكَنَهُ نَيْكا جيداً، فأخذت ابن عمر أفكل ورعدة واربدّ لونه، وقال: ما لك غضب الله عليك، قال: ما هو إلا ما قلت لك، وافترقا، فلما كان بعد أيام لقيه فأعرض عنه ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني لقيت صاحب البيتين ونكته، فصُعِقَ عبد اللّه بن عمر فلما رأى ما حَلَّ به دَنَا منه وقال له في أذنه: إنها امرأتي فقام ابن عمر فقبل ما بين عينيه وضحك،. وقال: أحسنت فَزِدْها، فضحك عبد الملك حتى فحص برجله، وقال له: قاتلك اللّه يا روح، ما أطْيَبَ حديثك! وَمَدَّ يده إليه، فقام إليه روح فأكًبّ عليه وقَبًلَ أطرافه، وقال: يا أمير المؤمنين، ألذنْب فأعتذر، أم لملالة فأصطبر وأرجو عاقبتها. قال: لا والله ما ذاك لشيء تكًرهه، ثم عاد إلى أحسن حالاته.
عبد الملك الهمذاني وسليمان بن المنصور

وقد حكي مثل هذا عن عبد الملك بن مهلهل الهمذاني، وكان سميراً لسليمان بن منصور، وكان سليمان قد جَفَاه، فأتاه يوماً في قائم الظّهيرة واحتدام الهجيرة فاستأذن، فقال له الحاجب: ليس هذا بوقتِ إذنٍ على الأمير، فقال له: أعلمه بمكاني، فدخل فاستأذن له، فقال له سليمان: - مره يسلم قائماً ويخفف، فخرج الحاجب فأذنَ له وأمره بالتخفيف، فدخل فسلّم قائماً ثم قال: أصلح اللّه الأمير، إني انصرفْتُ بالأمسِ إلى نحو منزلي وقد أمسيت، فبينا أنا في طريقي إذ أذَّنَ مؤذن، فَدَنوْت، ثم صعدت إلى مسجد مغلق فصعدت ثم صعدت ثم صعدت، قال سليمان: فَبَلَغْتَ السماء فكان ماذا. قال: فتقدم إنسان إما كُرْدِي أو طمطماني فأم القوم بكلام ما أفهمه ولُغَة ما أعرفها، فقال: وَيْل لكل زممة زماً مالاً وعده قال: يريد وَيْلِ لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وَعَدده، فإذا خلفه سكران ما يعقل سكراَ، فلما سمع قراءته ضرب بيديه ورجليه وجعل يقول: أير عبكى درليلكا في حر أم قارئك ومصليك، فضحك سليمان حتى تمرغ على فراشه، وقال: ادْنُ مني يا أبا محمد، فأنت أطيب أمة محمد، ثم دعا بخلعة، وقال الزم الباب وَاغْدُ في كل يوم، وعاد إلى أحسن حالاته عنده.
ذكر طرف من أخبار الحجاج وخطبه
وما كان منه في بعض أفعاله
سبب ولوع الحجاج بسفك الدماء
كانت أم الحجاج عند الحارث بن كَلَمَة، فدخل عليها في السحر فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لم بعثت إليَّ بطلاقي. ألشيء رابك مني؟ قال: نعم، دخلت عليك عند السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء فأنت شَرِهَة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قفرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شَظَايَا السِّوَاك، فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثقفي أبو الحجاج، فولدت له الحجاج بن يوسف مشوهاً لا دُبُرَ له، فثقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثَدْيَ أمه أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصوَرَ لهم في صورة الحارث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابن ولد ليوسف من الفارعة، وكان اسمها، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فقال: اذبحوا جَدْياً أسود وأوْلِغُوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تيساً أسود وأوْلِغُوه دمه، ثم اذبحوا له أسْود سالخاً فأولغوه دمه واطْلًوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، قال: ففعلوا به ذلك، فكان بعد لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في بَدْء أمره، هذا، وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكثر لَذّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يُقْدم عليها غيره، ولا سبق إليها سواه.
عبد الملك يولي المهلب قتال الخوارج
حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن داود البصري المنقري، قال: حدثني ابن عائشة وغيره قال: سمعت أبي يقول: لَمَّا غلبت الخوارج على البصرة بعث إليهم عبد الملك جيشاً فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فقال: مَنْ للبصرة والخوارج. فقيل له: ليس لهم إلا المهلب بن أبي صُفْرة، فبعث إلى المهلب، فقال: على أن لي خَرَاجَ ما أجْلَيْتُهم عنه، قال: إذن تشركني في ملكي، قال: فثلثاه، قال: لا، قال: فنصفه، واللّه لا أنقص منه شيئاً، على أن تمدني بالرجال، فإذا أخلَلْت فلا حقِّ، لك عليَ، فجعلوا يقولون: وَلّى عبد الملك على العراق رجلاً ضعيافاً، وجعل يقول: بعثت المهلب حتى يحارب الخوارج فركب دجلة، ثم كتب إلى المهلب إلى عبد الملك: إنه ليس عندي رجال أقاتل بهم، فإما بعثت إلي بالرجال وإما خليْتُ بينهم وبين البصرة، فخرج عبد الملك إلى أصحابه فقال: ويلكم! من للعراق؟ فسكت الناس وقام الحجاج وقال: أنا لها، قال: اجلس، ثم قال: ويلكم!! من للعراق. - فصمتوا، وقام الحجاج وقال: أنا لها، قال: اجلس، ثم قال ويلكم للعراق؟ فصمتوا، وقام الحجاج الثالثة فقال: واللّه أنا لها يا أميرالمؤمنين، قال: أنت

زنبورها فكتب إليه عهده، فلما بلِغ القادسية أمر الجيش أن يقبلوا وأن يروحوا وراءه، ودعا بجمل عليه قَتب، فجلس عليه بغير حشية ولا وطاء، وأخذ الكتاب بيده، ولبس ثياب السفر، وتعمَّمَ بعمامته حتى دخل الكوفة وحده، فجعل ينادي: الصلاةَ جامعةً، وما منهم رجل جالس في مجلسه إلا ومعه العشرون والثلاثون وأكثر من ذلك من أهله ومواليه وصعد المنبر متلثماً متنكباً قَوْسَه، فجلس واضعاً إبهامه على فيه فقال بعضهم لبعض: قوموا حتى نحصبه فدخل محمد بن عمير الدارمي في مواليه، فلما رأى الحجاج جالساً على المنبر لا يجيب ولا ينطق قال: لعن اللّه بني أمية حين يولونَ العراق مثل هذا، لقد ضيع اللّه العراق حيث يكون مثل هذا عليها، ثم ضرب بيده إلى حصباء المسجد ليحصبه، وقال: واللّه لو وجدوا أذَمَّ من هذا لبعثوه إلينا، فلما هَمَّ أن يحصبه قال له بعض أهل بيته: أصلحك اللّه اكْفُفْ عن الرجل حتى نسمع ما يقول، فمن قائل يقول: حُصِرَ الرجل فما يقدر على الكلام، ومن قائل يقول: أعرابي ما أبصر حجته.
خطبة الحجاج مقدمه العراق
فلما غَصَّ المسجد بأهله حَسَرَ اللثام عن وجهه ثم قام، ونَحَّى العمامة عن رأسه، فواللهّ ما حمد اللّه ولا أثْنَى عليه، ولا صلّى على نبيه، وكان أول ما بدأهم به أنْ قال: أنا ابن جَلاَ وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني إني والله لأرى أبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا، وإني أنا صاحبها، كإني أنظر إلى الدماء تَرَقْرَق بين العمائم واللحى:
هذا أوان الحرب فاشتدي زِيَم ... قد لَفَّها الليل بسوَاقٍ حُطَم
ليس بِرَاعي إبل ولاغنم ... ولابجَزّارٍ على ظهر وَضَم
وقال:
قد لَفّها الليل بعُصْلُبِيِّ ... أرْوَعَ خَرَّاجٍ من الدَّوِّيّ
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمَرَتْ عن ساقها فكدوا ... وجَدَّتِ الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وَتَرٌ عُرُدُّ ... مثل ذراع البكرأوأشد
إن أمير المؤمنين نَثَرَ كنانته، فوجدني أمَرهَا طعماً، وأحَدَّها سنانَاَ، وأقواها قداحاً، فإن تستقيموا تستقم لكم الأمور، وإن تأخنوا لي بُنَيَّات الطريق تجدوني لكل مرصد مرصداَ، واللّه لا أقيل لكم عَثْرَةً، ولا أقبل منكم عِذرَة.
يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق، واللهّ ما أغمز كتَغْماز التين ولا يُقَعقع لي بالشَنَان ولقد فُرِرْتُ عن ذكاء، وفُتِّشت عن تجربة واللّه لألحوَنَّكُمْ لحوَ العود، ولأعصبنكم عَصْب السَّلَمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ولأقرعنكم قرع المَرْوَةِ.
يا أهل العراق، طالما سعيتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، وسننتم سنن السوء، وتماديتم في الجهالة، يا عبيد العصا وأولاد الإماء، أنا الحجاج بن يوسف، إني واللهّ لا أعِدُ إلا وفيت، ولا أخْلًقُ إلا وفيَيْتُ، فإياكم وهذه الزَّرَافات والجماعات، وقال وقيل، وما يكون وما هو كائن، وما أنتم وذاك يا بني اللكيعة. لينظر الرجل في أمر نفسه، وليحذر أن يكون من فرائسي.
يا أهل العراق، إنما مثلكمِ كما قال اللّه عز وجل: " كمثل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداَ من كل مكان فكفرت بأنْعُم اللّه فَأذاقَهَا اللّه لباس الجوع والخوف " الآية فأسرعوا واستقيموا، واعتدلوا ولا تميلوا، وشايعوا وبايعوا واخضعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإهذار، ولا منكم الفرار والنفار، إنما هو انتضاء السيف، ثم لا أغمده في شتاء ولا صيف، حتى يقيم اللهّ لأمير المؤمنين أوَدَكم، ويذل له صَعْبكم.
إني نظرت فوجدت الصدق مع البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب مع الفجور، ووجدت الفجور في النار.
ألا وإن أمير المؤمنين أمرني لإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم إلى محاربة عدوكم معِ المهلّب، وقد أمرتكم بذلك، وأجَّلْتُ لكمِ ثلاثاً، وأعطيت اللّه عهداَ يؤاخذني به ويستوفيه مني أن لا أجد أحداَ من بَعْثِ المهلب بعدها إلا ضربْتُ عنقه، وانتهبت ماله، يا غلام اقرأ عليهم كتاب. أمير المؤمنين.
فقال الكاتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى مَنْ بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني إليكم أحمد اللّه الذي لا إله إلا هو.

فقال الحجاج: اسكت يا غلام، ثم قال مغضباً: يا أهل العراق يا أهل النفاق والشقاق ومساوىء الأخلاق، يا أهل الفُرْقة والضلال، يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام؟ أما واللّه لئن بقيت لكم لألحوَنَكُم لحو العود ولأؤدبنكم أدباً سوى هذا الأدب، هذا أدب ابن سمية - وهو صاحب شرطة كان بالعراق - اقرأ يا غلام الكتاب، فلما بلغ السلام قال أهل المسجد: وعلي أمير المؤمنين السلام ورحمة اللّه وبركاته.
ثم نزل، وأمر للناس بأعْطِيَاتهم، والمهلب يومئذ بمهرجان قدق يقاتل ا لأزارقة.
فلما كان اليوم الثالث جلس الحجاج بنفسه يعرض الناس، فمر به عمير بن ضابىء التميمي البرجُمِيُ ثم أحد بني الحدادية وكان من أشراف أهل الكَوفة، وكان من بَعْثِ المهلب، فقال: أصلح اللّه الأمير، ة إني شيخ كبير زَمِنٌ عليل ضعيف، ولي عدة أولاد، فليختر أيهم شاء مكاني، أشدهم ظهراً، وأكرمهم فرساً، وأتمهم أدَاةً، قال الحجاج: لا بأس بشاب مكان شيخ، فلما ولى قال له عنبسة بن سعيد ومالك بن أسماء: أصلح الله الأمير! أتعرف هذا؟ قال: لا، قالا: هو عمير بن ضابىء التميمي الذي وَثَبَ على أمير المؤمنين عثمان وهو مقتول فكسر ضلعاً من أضلاعه، فقال الحجاج: عليَّ به، فقال له: أيها الشيخ، أنت الواثب على أمير المؤمنين عثمان بعد قتله، والكاسر ضلعاً من أضلاعه. فقال له: إنه كان حَبَس أبي شيخاً كبيراً ضعيفاً فلم يُطْلِقه حتى مات في سجنه، فقال الحجاج: أما أمير المؤمنين عثمان فتغزوه بنفسك، وأما الأزارقة فتبعث إليهم بالبُدَلاَء، أو ليس أبوك الذي يقول:
هَمَمْتُ ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت وأوليت البكاء حلائله
أما والله إن في قتلك أيها الشيخ لصَلاحَ المصرين، ثم أقبل يصعٌد بصره إليه ويصوِّبه ويَعَضُّ على لحيته مرة وويسرحها أخرى، ثم أقبل عليه فقال: يا عمير سمعت مقالتي على المنبر. فقال: نعم، قال: واللّه إنه لقبيح بمثلي أن يكون كذاباً، قم إليه يا غلام فاضرب عنقه، ففعل، فلما قتل ركب الناس كل صَعْب وذَلُول، وخرجوا على وجوههم يريدون المهلب، فازدحموا على الجسر حتى سقط بعضُ الناس في الفُرَات، فأتاه صاحب الجسر فقال: أصلح اللّه الأمير! قد سقط بعض الناس في الفرات، قال: ويحك!! ولم ذلك. قال: أهل هذا البعث ازدحموا على الجسر حتى ضاق بهم، قال: انطلق فاعْقِدْ لهم جسرين.
وخرج عبد اللّه. بن الزَّبير الأسدي مذعوراً، حتى إذا كان عند اللجامين لقيه رجل من قومه يقال له إبراهيم، فقال له: ما الخبر؟ فقال ابن الزبير: الشر، قتل عمير من بعث المهلب، وأنشأ يقول:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمرَ أمسى مهلكا متصعبا
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميراً، وإما أن تزور المهلبا
هما خطّتَا خَسْفٍ نجاؤك منهما ... ركوبُكَ حوليا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هو أقربا
وإلا فما الحجاج مغْمِدُ سيفِهِ ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
وخرج الناس هَرَباً إلى السواد، وأرسلوا إلى أهاليهم أن زَوّدونَا ونحن بمكاننا، وقال الحجاج لصاحب الجسر: افتح ولا تَحُل بين أحد وبين الخروج، ووجه العراض إلى المهلب، فما أتت على المهلب عاشرة حتى ازدحموا عليه، فقال: من هذا الذي استعمل على العراق؟ هذا واللّه الذكر من الرجال. فويل والله للعدو إن شاء اللّه تعالى.
خروج ابن الأشعث

وقد كان الحجاج استعمل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على سجستان وبُسْتَ والرخج، فحارب مَنْ هنالك من أمم الترك، وهم أنواع من الترك يقال لهم الغوز والخلج، وحارب مَنْ يلي تلك البلاد من ملوك الهند، مثل رتبيل وغيره وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب مراتب ملوك الهند وغيرهم من ملوك العالم، وذكرنا مملكة كل واحد منهم، والصقع الذي هو به، وذوي السِّمَات منهم، وبينا أن كل ملك يلي هذا الصقع من بلاد الهند يقال له رتبيل فخلع ابن الأشعث طاعة الحجاج، وصار إلى بلاد كرمان، فثنى بخلع عبد الملك، وانقاد إلى طاعته أهْلُ البصرة والجبال مما يلي الكوفة والبصرة وغيرهما، وسار الحجاج إلى البصرة، وسار ابن الأشعث إليه، فكانت له حروب عظيمة، وفي عبد الرحمن بن الأشعث يقول الشاعر:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك يعلمه بخبر ابن الأشعث، فكتب إليه عبد الملك: لعمري لقد خلع طاعة اللهّ بيمينه، وسلطانه بشماله، وخرج من الدين عرياناً، وإني لأرجو أن يكون هلاكه وهلاك أهل بيته واستئصالهم في ذلك على يدي أمير المؤمنين، وما جوابه عندي في خلع الطاعة إلا قول القائل:
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضّرِع الغمر
أظن صروف الدهر والجهل منهم ... ستحملكم مني على مركب وعرِ
ألم تعلموا إني تخاف عَرَامتي ... وأن قَنَاتي لاتلين على الكسر
ودخل ابن الأشعث الكوفة، وكتب الحجاج كتاباً إلى عبد الملك يذكر فيه جيوش ابن الأشعث وكثرتها، ويستنجد عبد الملك ويسأله الأمداد، وقال في كتابه: واغوثاه يا أللّه، واغوثاه يا أللّه، واغوثاه يا أللهّ، فأمده بالجيوس وكتب إليه: يا لبيك، يا لبيك، يا لبيك.
وقائع دير الجماجم وقتل ابن الأشعث
فالتقى الحجاج وابن الأشعث بالموضع المعروف بدير الجماجم، فكانت بينهم وقائع نيف وثمانون وقعة تَفَانى فيها خلق، وذلك في سنة اثنتين وثمانين، وكانت على ابن الأشعث، فمضى حتى أنتهى إلى ملوك الهند، ولم يزل الحجاج يحتال في قتله حتى قتل، وأتى برأسه، فعلا الحجاج منبر الكوفة، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل العراق، إن الشيطان اسْتَبْطَنَكُمْ فخالط اللحم منكم والعظم والأطراف والأعضاء، وجرى منكم مجرى الدمٍ، وأفضى إلى الأضلاع والأمخاخ، فحشا ما هناك شقاقاً واختلافاً ونفاقاً، ثم أربع فيه فعشش، وباض فيه ففرخ، واتخذتموه دليلاً تتابعونه، وقائداً تطاوعونه، ومؤمراً تستأمرونه، ألستم أصحابي بالأهواز حين سعيتم بالغدر بي فاستجمعتم عليَّ وحيث ظننتمِ أن اللّه سيخذل دينه وخلافته، وأقسم باللهّ إني لأراكم بطرفي تتسللون لِوَاذاَ منهزمين، سراعاً مفترقين، كل امرىء منكم عَلَى عنقه السيف رعباً وجبناً، ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية؟ بها كان فَشَلُكم وتخاذلكم، وبراءة اللّه منكم، توليكم على أكتافكم السيوف هاربين ونكوص وليكم عنكم، إذ ولّيتم كِالإبل الشَّواردِ إلى أوطانها لا يسأل الرجل عن بنيه، ولا يلوي امرؤ عَلى أخيه، حتى عضتكم السلاح، وقصفتكم الرماح، ويوم دير الجماجم، بها كانت الملاحم، والمعارك العظائم:
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فما الذي أرجوه منكم يا أهل العراق؟ أم ما الذي أتوقعه؟ ولماذا أستبقيكم. ولأي شيء أدخركم؟ أللفجرات بعد العداوات؟ أم للنزوة بعد النزوِات؟ وما الذي أراقب بكم؟ وما الذي أنتظر فيكم، إن بُعِثتم إلى ثغوركم جبنتم، وإن أمنتم أو خفتم نافقتم، لا تجزون بحسنة، ولا تشكرون نعمة.
يا أهل العراق، هل استنبحكم نابح، أو استشلاكم غاو، أو استخفكم ناكث، أواستنفركم عاص إلا تابعتموه وبايعتموه، وآويتموه وكفيتموه؟!.
يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو دبي كاذب إلا كنتم أنصاره وأشياعه؟!.

يا أهل العراق، لم تنفعكم التجارب وتحفظكم المواعظ وتعظكم الوقائع، هل يقع في صدوركم ما أوقع اللّه بكم عند مصادر الأمور ومواردها يا أهل الشام، أنا لكم كالظّليم الرامح عن فراخه، ينفي عنهن القذى، ويكنفهن من المطر، ويحفظهن من الذئاب، ويحميهن من سائر الدواب، لا يخلص إليهن معه قذى، ولا يُفضِي إليهن ردى، ولا يمسهن أذى.
يا أهل الشام، أنتم العدة والعدد، والجُنَّة في الحرب، إن نحارب حاربتم، أو نجانب جانبتم، وما أنتم وأهل العراق إلا كما قال نابغة بني جعدة:
وإن تداعيهم حظهم ... ولم ترزقوه ولم نكذب
كقول اليهود قتلنا المسيح ... ولم يقتلوه ولم يُصْلَبِ
في أبيات.
من عبد الملك إلى الحجاج
ولما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وإعطائه الأموال بلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سَرَفُكَ في الدماء، وتبذيرك في الأموال، ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحَدٍ من الناس، وقد حكم عليك أمير المؤمنين في الدماء في الخطأ الدية وفي العمد القود، وفي الأموال ردها إلى مواضعها، ثم العمل فيها برأيه، فإنما أمير المؤمنين أمين اللّه، وسيان عنده منع حق وإعطاء باطل، فإن كنت أردت الناس له فما أغناهم عنك، وإن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك عنهم، وسيأتيك من أمير المؤمنين أمران لين وشدة، فلا يؤنسنك إلا الطاعة، ولا يوحشنك إلا المعصية، وظنَّ بأمير المؤمنين كل شيء إلا احتمالك على الخطأ، وإذا أعطاك الظفر على قوم فلا تقتلن جانحاً ولا أسيراً، وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها ... وتطلب رضائي بالذي أنا طالبه
وتخشى الذي يخشاه مِثْلُكَ هارباً ... إلى الله منه ضَيعَ الدَّرَّحالبه
فإن تَرَمني غفلة قُرَشية ... فياربما قد غص بالماء شاربه
وإن تَرَ مني وَثْبَة أمَوِّيَةً ... فهذا وهذا كلّ ذا أنا صاحبه
فلا لا تلمني والحوادث جمة ... فإنك مجزيٌّ بما أنت كاسبه
ولاتَعْد ُمايأتيك مني، وإن تَعُد ... يَقُومُ بها يوما عليك نوادبه
ولاتنقصن للناس حقاًعلمته ... ولاتعطين ماليس للَّه جانبه
وهي أبيات من جيد ما اخترناه من قول عبد الملك.
جواب الحجاج
فلما قرأ الحجاج كتابه كتب: أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سَرَفِي في الدماء، وتبذيري في الأموال، ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هُمْ أهْلُه، وما قضيت حقَّ أهل الطاعة بما استحقوه، فإن كان قتلي أولئك العصاة سرفاً وإعطائي أولئك المطيعين تبذيراً فليسوِّغْنِي أمير المؤمنين ما سلف، وليحدِّ لي فيه حداً انتهي إليه إن شاء اللّه تعالى، ولا قوة إلا باللّه، وواللّه ما علي من عَقْل ولا قَوَد: ما أصبت القوم خطأ فأدِيَهُمْ ولا ظلمتهم فأقاد بهم ولا أعطيتهم إلا لك، ولا قتلت إلا فيك، وأما ما أنا منتظره من أمْرَيْكَ فألينهما عدة وأعظمهما محنة، فقد عبأت للعدة الجلاد، وللمحنة الصبر، وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنا لم أتْبَعْ رضاك وأتَّقِي ... أذاك فيومي لاتزول كواكبه
وما لامرىء بعد الخليفة جُنة ... تقيه من الأمر الذيِ هوكاسبه
أسالم من سالمت من ذي قرابة ... ومَنْ لم تسالمه فإني محاربه
إذا قارف الحجاج منك خطيئة ... فقامت عليه في الصباح نوادبه
إذا أنا لم أدْنِ الشفيق لنصحه ... وأقْصِي الذي تسري إليَّ عقاربه
فمن ذا الذي يرجو نوالي ويتقي ... مُصَاولتي، والدهر جَمٌّ نَوَائِبه؟
فقف بي على حد الرضا لا أجوزه ... مدى الدهر حتى يرجع الدر حالبه
وإلاَ فَدَعنِي والأمور فإنني ... شفيق رفيق أحكمتني تجاربه
وهي أبيات من جيد ما اخترناه من شعر الحجاج.
فلما انتهى كتابه إلى عبد الملك قال: خاف أبو محمد صَوْلتي، ولن أعود لشيء يكرهه.
الحجاج يلتمس محدثاً مؤنساً

وحدث حماد الراوية أن الحجاج سهر ليلة بالكوفة، فقال لحرسي: ائتني بمحدِّثٍ من المسجد، فاعترض رجلاً جسيماً عظيماً، فقال له: أجب الأمير، فانطلق به حتى أدخله إليه، فلم يسلم ولا نطق حتى قال له الحجاج: إيه ما عندك. فلم يتكلم، فقال للحرسي، أخرجه اللّه نفسك، أمرتك أن تأتيني بمحدث فأتيتني بمرعوب قد ذهب فؤاده، فخرج الحجاج ومعه صرة دراهم إلى المسجد، فجعل يناول الناس فيأخذونها، حتى انتهى إلى شيخ، فأعطاه فَنَبَذَها، فأعادها الحجاج فردَّها، ففعل ذلك الحجاج ثلاثَاَ، فدنا منه الحجاج وقال: أنا الحجاج فأخذها، ودخل القصر، وقال للحرمي: ألحقني به، فدخل فسلم بلسان ذلق وقلب شديد، فقال له الحجاج: ممن الرجل؟ فقال: من بني شيبان، قال: ما اسمك. قال سميرة بن الجعد، قال: يا سميرة، هل قرأت القرآن؟ قال: جمعته في صدري فإن عملت به فقد حفظته وإن لم أعمل به ضيعته، قال: فهل يفرض؟ قال: إني لأفرض الصُّلْب وأعرف الاختلاف في الجد، قال: فهل تبصر الفقه؟ قال: إني لأبصر ما أقوم به أهلي وأرشد ذا العمى من قومي، قال: فهل تعرف النجوم؟ قال: إني لأعرف منازل القمر، وما أهتدي به في السفر، قال: فهل تروي الشعر؟ قال: إني لأروي المثل والشاهد، قال: المثل قد عرفناه فما الشاهد. قال: اليوم يكون للعرب من أيامها عليه شاهد من الشعر، فإني أروي ذلك الشاهد، فاتخذه الحجاج سميراً، فلم يك يطلب شيئاً من الحديث إلا وجد عنده منه علماً، وكان يرى رأي الخوارج وكان من أصحاب قَطَريَ بن الفُجَاءة التميمي، والفجاءة أمةً، وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجل من تميم، وكان قَطَرِي يومئذ يحارب المهلب، فبلغ قطريا مكان سميرة من الحجاج، فكتب إليه بأبيات منها:
لشتَّان ما بين ابن جعد وبيننا ... إذا نحن رُحْنَا في الحديد المظاهر
نجاهد فُرْسَانَ المهلّب كلنا ... صَبُورٌ على وقع السيوف البَواتر
وراح يجر الخَزَّ عند أميره ... أميرٌ بتقوى ربه غيرُآمر
أبا الجعد، أين العلم والحلم والنهى ... وميراث آباء كرام العناصِرِ؟
ألم تر أن الموت لا شك نازل ... ولا بدمن بعث الألى في المقابر؟
حفاةً عراةً والثواب لربهم ... فمن بين ذي ربح وآخر خاسر
فإن الذي قد نِلْتَ يَفْنَى، وإنما ... حياتك في الدنيا كوقعة طائر
فَرَاجِع أبا جعد ولاتك مُفْضِياً ... على ظلمة أعشَتْ جميع النواظر
وتُبْ توْبةً تهدي إليك شهادة ... فإنك ذوذنب ولست بكافر
وسِرْ نحونا تَلْقَ الجهاد غنيمة ... تُفدْكَ ابتياعاً رابحاً غير خاسر
هي الغاية القُصوى الرغيب ثوابها ... إذا نال في الدنيا الغِنَى كل تاجر
فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه وأخذ سلاحه، ولحق بقَطَرِي، وطلبهُ الحجاج فلم يقدر عليه، ولم يشعر الحجاج إلا وكتاب قد بدر منه شعر قطري الذي كان كتب به إليه وفي أسفل الكتاب إلى الحجاج أبيات، منها:
فمن مُبْلغ الحجاج أن سميرة ... قلا كلً دين غير دين الخوارج
رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه ... ملاعين تَراكين قَصْدَ المخارج
فأقْبَلْتُ نحو الله باللَّه واثقاً ... وما كُرْبِتِي غير الإِله بفارج
إلى عصبة، أما النهار فإنهم ... هم الأسد أسد الغيل عند التهايج
وأما إذا ما الليل جَنَّ فإنهم ... قيام كأنواع النساء النواشج
يُنَادون للتحكيم، تاللَّه إنهم ... رَأوْا حكم عَمروٍ كالرياح الهوائج
وَحُكْم ابن قيس مثل ذاك فأعصموا ... بحبلٍ شديدِ المتن ليس بناهج
فطرح الحجاج هذا الكتاب إلى عنبسة بن سعيد، فقال: هذا ا سميرنا الشيباني، وهو من الخوارج، ولا نعلم به.
ولأبي الجعد سميرة بن الجعد سمير الحجاج هذا أشعار كثيرة، منها قوله من أبيات:
عجبت لحالات البلاء وللدهر ... وللْحَيْن يأتي المرء من حَيْث لايدري

وللناس يأتون الضلالة بعدما ... أتاهم من الرحمن نور من البدر
وللَهِ لايخفى عليه صنيعنا ... حفيظ علينا في المُقَام وفي السفر
علا فوق عَرْشٍ فوق سَبْع، ودونه ... سماء يرى الأرواح من دونها تجري
وقد قيل: إن هذا الشعر لغيره من الخوارج.
بعض ما اتفق عليه الخوارج وما اختلفوا فيه
ولأصناف من الخوارج أخبار حِسَان من الأزارقة والأباضية وغيرها، وقد أتينا على ذكرها في كتابيْنَا أخبار الزمان والأوسط، وذكرنا ما اتفقت عليه الخوارج واجتمعت عليه من الأصول: من إكفارهم عثمان وعلياً، والخروج على الإمام الجائر، وتكفير مرتكب الكبائر، والبراءة من الحكمين أبي موسى عبد اللّه بن قيس الأشعري وعمرو بن العاص السهميَ، وحكمهما، والبراءة ممن صًوّبَ حكمهما أو رضي به، وإكفار معاوية وناصريهِ ومقلديه ومحبيه، فهذا ما اتفقت عليه الخوارج من الشرَاة والْحَرُورِيَّة، ثم اختلفوا بعد ذلك في مواضع من العبارة عن التوحيد، والوعد والوعيد، والإمامة، وغير ذلك من آرائهم، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر الحكمين أن أول من حَكَّم بصفين عُرْوَة بن أدَية التميمي وقيل: إن أول من حَكِّم بصفين يزيد بن عاصم المحاربي وقيل: إن أول من حَكَّم رجل من بني سعد بن زيد مَنَاة بن تميم، وكان أول من شرى بصفين من المحكمة رجل من بني يشكر، وكان من وجوه ربيعة ممن كان مع علي، فإنه في ذلك اليوم قال: لا حكم إلا للّه، ولا طاعة لمن عَصَى اللّه، وخرج عن الصف، فحمل على أصحاب علي فقَتَلَ منهم رجلاً، ثم حمل على أصحاب معاوية فتحاموه ولم يقدر على قتل أَحد منهم، وكًرعلى أصحاب علي فقتله رجل من هَمْدَان.
ذكر بعض أخبار الخوارج
وقد أتى الهيثم بن عدي وأبو الحسن المدائني وأبو البختري القاضي وغيرهم على أخبار الخوارج وأصنافهم فيما أفردوه من كتبهم، وذكر أصحاب المقالات في الآراء والديانات ما تنازعوا فيه من مذاهبهم عند تباينهم في فروعهم، وما اجتمعوا عليه من أصولهم، وقد أتينا على أكثر ما تنازعوا فيه من مذاهبهم في كتابنا في المقالات في أصول الديانات وذكر من خرج منهم من وقت التحكيم في عصر عصر إلى آخر من خرج منهم بديار ربيعة على بني حَمْدَان، وذلك في سنة ثمان عشرة وثلثمائة، وهو المعروف بعرون، وخرج ببلاد كفرتوثي، وورد إلى نصيبين، فكانت له مع أهلها حرب أسر فيها وقتل منهم خلق عظيم، والمعروف بأبي شعيب خرج في بني مالك وغيرهم من ربيعة، وقد كان أدخل على المقتدر باللّه وقد كان بعد العشرين والثلثمائة للأباضية ببلاد عمان مما يلي بلاد بروى وغيرها حروب وتحكيم وخروج وإمام نصبوه فقتل وقتل من كان معه.
الحجاج وشبيب الخارجي
وفي سنة سبع وسبعين كانت للحجاج حروب مع شبيب الخارجي وولّى عنه الحجاج بعد قتل ذريع كان في أصحابه حتى أحصى عددهم بالقضيب، فدخل الكوفة وتحصن في دار الإمارة ودخل شبيب وأمه وزوجته غَزَالة الكوفَةَ عند الصباح، وقد كانت غزالة نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيهما سورة البقرة وآل عمران، فأتوا الجامع في سبعين رجلاً، فصلوا به الغَدَاةَ، وخرجت غزالة مما كانت أوجبته على نفسها.
فقال الناس بالكوفة في تلك السنة:
وفت الغزالة نَنْرَها ... يارَبِّ لاتغفرلها
وكانت الغزالة من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، وكذلك أم شبيب، وقد كان عبد الملك حين بلغه خبر هرب الحجاج، وتحصنه في دار الإمارة بالكوفة من شبيب بعث من الشام بعساكر كثيرة عليها سفيان بن الأبرد الكلبي لقتال شبيب، فقدم على الحجاج بالكوفة، فخرجوا إلى شبيب، فحاربوه، فانهزم شبيب وقتلت الغزالة وأمه، ومضى شبيب في فوارس من أصحابه، وأتبعه سفيان في أهل الشام، فلحقه بالأهواز، فولّى شبيب، فلما وصل إلى جسر دجيل نَفَر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومِغْفَر، فألقاه في الماء، فقال له بعض أصحابه: أغَرَقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم، فألقاه دجيل ميتاً بشطه، فحمل على البريد إلى الحجاج، فأمر الحجاج بشق بطنه واستخراج قلبه، فاستخرج فإذا هو كالحجر إذا ضربت به الأرض نَبَا عنها، فشق فإذا في داخله قلب صغير كالكرة، فشق فأصيب علقة الدم في داخله.

ابن القرية
وفي سنة اثنتين وثمانين قَتَلَ الحجاج ابن القَرِّيّة لخروجه مع ابن الأشعث وإنشائه الكتُبَ له، ووضعه الصدور والخطب، وكان ابن القِّرَّية من البلاغة والعلم والفصاحة بالموضع الموصوف، وقد أتينا على خبر مقتله، وما كان من كلامه مع الحجاج، وقد كان قتله صبراً، في الكتاب الأوسط، وأن قتله إياه كان بالسيف، وقيل: بل قدم إليه فضربه الحجاج بحربة في نحره فأتى عليه.
وابن القَرِّئة القائل: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر فأما العاقل فإن الدين شريعته، والحلم طبيعته، والرأي الحسن سجيته، إن نطق أصاب، وإن كلم أجاب، وإن سمع العلم وَعَى، وإن سمع الفقه روى، وأما الأحمق فإن تكلم عجل، وإن حُدِّث ذهل، وإن حمل على القبيح حمل، وأما الفاجر فإن استأمنته خانك، وإن صاحبته شانك، وإن استكتم لم يكتم، وإن علم لم يعلم، وإن حدَث لم يصدق، وإن فقه لم يفقه.
ليلى الأخيلية والحجاج
وذكر المدائني أن الحجاج لم يكن يظهر لندمائه منه بشاشة ولاسماحة في الخلق إلا في يوم دخلت عليه ليلى الأخيلية، فقال لها: لقد بلغني أنك مررت بقبر توبة بن الحمير وعدلت عنه، فواللهّ ما وفيت له ولو كان هو بمكانك وأنت بمكانه ما عَدَلَ عنك، قالت: أصلح اللّه الأمير!! لي عذر، قال: وما هو؟ قالت: إني سمعته وهو يقول:
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليَ وقوقي جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صافح
وكان معي نسوة قد سمعن قوله، فكرهت أن أكَذّبه، فاستحسن الحجاج قولها وقضى حوائجها، وانبسط في محادثتها، فلم تُرَ منه بشاشة وأريحية داخلته مثل ذلك اليوم.
وذكر حماد الراوية غير هذا الوجه، وهو أن زوج ليلى حلف عليها وقد اجتازوا بقبر تَوْبَة ليلاً أن تنزل وتأتي قبره وتسلم عليه وتكذبه حيث يقول، وذكر البيتين المتقدمين قال: وأبَتْ أن تفعل، فأقسم عليها زوجُهَا، فنزلت حتى جاءت إلى القبر ودموعها على صدرها كغر السحاب فقالت: السلام عليك يا تَوْبَة، فلم تستتم النداء حتى انفرج القبر عن طائر كالحمامة البيضاء، فضربت صدرها فوقعت ميتة، فأخذوا في جهازها وكفنها، ودفنت إلى جانب قبره.
يعض عادات العرب
وللعرب فيما ذكرنا كلام كثير على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في آرائهم ومذاهبهم في الهام والصدَمَى والصَّفَر وقد كانت العرب تعقل إلى جانب قبر الميت إذا دفن ناقَةً، وتجعل عليه برذعة أو حَشية يسمونها البلية، وقد ضربوا بذلك أمثالهم، وذكره خطباؤهم في خطبهم، فقالوا: البلايا على الوَلاَيَا، وقد كان بعضهم يتطير بالسانح، ويتيامن بالبارح، وبعضهم يضاد هذا، فيتطيّر بالبارح، ويتيامن بالسانح فأهل نجد يتيامنون بالسانح، وأهل التهائم بالضد من ذلك، على حسب ما قدمنا من قول عُبَيْد الراعي فيما سلف من هذا الكتاب.
خطبة لعلي بن أبي طالب يعاتب أصحابه
حدثنا المنقري، قال: حدثنا عبد العزيز بن الخطاب الكوفي، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، قال: لما غلب بُسْر بن أرطاة على اليمن، وكان من قبله لابني عبيد اللّه بن عباس وكان لأهل مكة والمدينة واليمن ما كان، قام علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه خطيباً فحمد اللهّ وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن بسر بن أرطاة قد غلب على اليمن، واللّه ما أرى هؤلاء القوم إلا سيغلبون على ما في أيديكم، وما ذلك يحق في أيديهم، ولكن بطاعتهم واستقامتهم لصاحبهم، ومعصيتكم لي، وتناصرهم وتخاذلكم، وإصلاح بلادهم وإفساد بلادكم، وتالله يا أهل الكوفة لوعدت إني صرفتكم صَرْفَ الدنانير العشرة بواحد، ثم رفع يديه، فقال: اللهم إني قد مللتهم ومَلُّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبْدِلْنِي بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني اللهم عجل عليهم بالغلام الثَّقَفي الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها ويحكم فيها بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنها، ولا يتّجاوز عن مسيئها، قال: وما كان الحجاج ولد يومئذ.
الحجاج يسأل عن النعمة

حدثنا الجوهري، عن سليمان بن أبي شيخ الواسطي، عن محمد بن يزيد عن سفيان بن حسين، قال: سأل الحجاج الجوهريَّ: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش، قال: زدني، قال: الصحة، فإني رأيت السقيم لا ينتفع بعيش، قال: زدني قال: الشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش، قال: زدني قال: الغِنَى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش، قال: زدني، قال: لا أجد مزيداً.
خطبة للحجاج وقد أرجف الناس بموته
حدثنا الجوهري، عن مسلم بن إبراهيم أبي عمرو الفراهيدي، عن الصلت بن دينار، قال: مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة، فلما تماثل من عِلّته صعد المنبر وهو يتثنى على أعواده فقال: إن أهل الشقاق والنفاق نفخ الشيطان في مناخرهم فقالوا: مات الحجاج، ومات الحجاج فَمَه؟ واللهّ ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رضي اللّه الخلود لأحد من خلقه في الدنيا إلا لأهونهم عليه وهو إبليس، واللّه لقد قال العبد الصالح سليمان بن داود: ربِّ اغفر وهَبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فكان ذلك، ثم اضمحلّ فكأنْ لم يكن، يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كإني بكل حي ميتاً، وبكل رطب يابساً، وقد نقل كل امرىء بثياب ظهره إلى حفرته، فخدَّله في الأرض ثلاث أفرع طولاً في ذراعين عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومَضَت من صديده ودمه، وانقلب الحبيبان يقتسم أحدهما صاحبه: حبيبه من ولده يقتسم حبيبه من ماله، أما الذين يعلمون فسيعلمون ما أقول والسلام.
خطبة للحجاج يهدد ويتوعد
حدثنا المنقري، عن مسلم بن إبراهيم أبي عمرو الفراهيدي عن الصلت بن دينار، قال: سمعت الحجاج يقول: قال اللّه تعالى: " فاتقوا اللّه ما استطعتم " فهذه للّه، وفيها مَثْوِية، وقال: " واسمعوا وأطيعوا " وهذه لعبد اللّه وخليفة اللّه ونجيب اللّه عبد الملك، أما واللّه لو أمر الناس أن يدخلوا في هذا الشعب فدخلوا في غيره لكانت دماؤهم لي حلالاً، عذيري من أهل هذه الحمراء، يُلْقِي أحدهم الحجر إلى الأرض ويقول: إلى أن يبلغها يكون فرج اللّه، لأجعلنهم كالرسم الداثر وكالأمس الغابر، عذيري من عبد هُذَيل يقرأ القرآن كأنه رَجَزُ الأعراب، أما واللّه لو أدركته لضربت عنقه، يعني عبد اللّه بن مسعود، عذيرى من سليمان بن داود، يقول لربه رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، كان واللّه فيما علمت عبداً حسوداً بخيلاً
الحجاج وعبد اللّه بن هانىء
وحدثنا المنقري، عن عبيد بن أبي السري، عن محمد بن هشام بن السائب عن أبيه عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوماً لعبد الله بن هانىء وهو رجل من أود حي من اليمن، وكان شريفاً في قومه، " قد شهد مع الحجاج مشاهِدهُ كلها، وشهد معه تحريق البيت، وكان من أنصاره وشيعته: واللهّ ما كافأناك بعد، ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة وكان من فَزَارة أن زوج عبد اللّه بن هانىء ابنتك، فقال: لا واللّه ولا كرامة، فدعا له بالسياط، فقال: أنا أزوجه، فزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية أن زَوِّج عبد اللّه بن هانىء ابنتك، قال: ومن أود؟ واللّه لا أزوجه ولا كرامة، قال: هاتوا السيف، قال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا: زوجه لا يقتلك هذا الفاسق، فزوجه، فقال له الحجاج: يا عبد اللّه، قد زوجتك بنت سيد بني فزارة وابنة سيد همدان وعظيم كهلان، وما أود هنالك، فقال: لا تَقل أصلح اللّه الأمير ذلك، فإن لنا مناقب ما هي لأحد من العرب، قال: وما هي هذه المناقب؟ قال: ما سب أمير المؤمنين عثمان في نادٍ لنا قط، قال: هذه واللّه منقبة، قال وشهد منا صِفّين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً، وما شهدها مع أبي تراب منا إلا رجل واحد، وكان واللّه ما علمته امرأ سوء قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما منا أحد تزوج امرآة تحب أبا تراب ولا تتولاه، قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما منا امرأة إلا نذرت إن قتل الحسين أن تنحر عشر جزائر لها ففعلت، قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما منا رجل عرض عليه شَتْم أبي تراب ولَعْنه إلا فعل، وقال وأزيدكم ابنيه الحسن والحسين وأمهما فاطمة، قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما أحد من العرب له من الملاحة والصباحة مالنا، وضحك، وكان دميماً شديد الأدمة مجدراً في رأسه أعجر مائل الشدْقِ أحْوَل قبيح الوجه وحش المنظر.

الحجاج والشعبي
حدثنا المنقري، عن جعفر بن عمرو الحرضي، عن مجدي بن رجاء قال: سمعت عمران بن مسلمِ بن أبي بكر الهذلي يقول: سمعت الشعبي يقول: أتى بي الحجاج مُوثَقاَ، فلما دخلت عليه استقبلني يزيد بن مسلم فقال: إنا للّه يا شعبي على ما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، بُؤْ للأمير بالشرك وبالنفاق على نفسك فبالْحَرَي أن تنجو منه فلما دخلت عليه استقبلني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما مثلت بين يدي الحجاج قال: وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر؟ قلت: نعم، أصلح اللّه الأمير، أحْزَنَ بنا المبرك، وأجدب بنا الجناب وضاق المسلك، واكتحلنا السهاد، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في فتنة لم نكن فيها بَرَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء، قال: صدق، والله ما بروا بخروجهم علينا، ولا قووا إذ فجروا، أطلقوا عنه، قال الشعبيُّ: ثم احتاج إلى فريضة، فقال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: عبد اللّه، وزيد، وعلي وعثمان، وابن عباس، قال: فماذا قال فيها ابن عباس فقد كان متقياً؟ قلت: جعل الجد أباً، وأعطى الأم الثلث، ولم يعط الأخت شيئاً، قال: فماذا قال فيها عبد اللّه؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت النصف، وأعطى الأم السدس، وأعطى الجد الثلث، قال: فما قال فيها زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأم ثلاثة، وأعطى الأخت سهمين، وأعطى الجد أربعة قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثاً، قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة، أعطى الأخت النصف، وأعطى الأم الثلث، وأعطى الجد السدس، قال: فضرب بيده على أنفه، وقال: إنه المرء لا يرغب عن قوله ثم قال للقاضي: أمِرَّها على مذهب أمير المؤمنين عثمان.
الحجاج يريد الحج
حدثنا المنقري، عن أبي عبد الرحمن العتبي عن أبيه قال: أراد الحجاج الحجِ فخطب الناس وقال: يا أهل العراق، إني قد استعملت عليكم محمداَ، وبه الرغبة عنكم، أما إنكم لا تستأهلونه، وقد أوصيته فيكم بخلاف وصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأنصار، فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، أما إني إذا ولَّيْتُ عنكم أعلم أنكم تقولون: لا أحسن اللّه له في الصحابة، وما منعكم من تعجيله إلا الفراق، وأنا أعجل لكم الجواب، لا أحْسَنَ اللّه عليكم الخلافة، ثم نزل.
عبيد بن أبي المخارق يتولى عملاً ويطلب المشورة
حدثنا العتبي، عن عبد الغني بن محمد بن جعفر، عن الهيثم بن عدي، عن أبي عبد الرحمن الكناني، عن ابن عباس الهمداني، عن عبيد بن أبي المخارق، قال: استعملني الحجاج على الفلوجة فقلت: أههنا دِهْقَان يستعان برأيه؟ فقالوا: جميل بن صهيب، فأرسلت إليه، فجاءني شيخ كبير قد سقطت حاجباه على عينيه، فقال: أزعجتني وأنا شيخ كبير، فقلت: أردت يُمْنَك، وبركتك، ومشورتك فأمر بحاجبيه فرفعا بخرقة حرير، وقال: ما حاجتك. قلت: استعملني الحجاج على الفلوجة وهو ممن لا يؤمن شره، فأشِرْ عَلَيَ، قال: أيما أحب إليك: رضا الحجاج، أو رضا بيت المال، أو رضا نفسك؟ قلت أحب أن أرضي كل هؤلاء وأخاف الحجاج فإنه جبار عنيد، قال: فاحفظ عني أربع خلال، افتح بابك، ولا يكن لك حاجب، فيأتيك الرجل وهو ثقة من لقائك، وهو أجدر أن يخافك عمَالك، وأطل الجلوس لأهل عملك، فإنه قلما أطال عامل الجلوس إلا هِيبَ مكانه، ولا يختلف حكمك بين الناس، وليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا يطمع فيك أحد من أهل عملك، ولا تقبل من أهل عملك هدية، فإن مهديها لا يرضى من ثوابها إلا بأضعافها، مع ما في ذلك من المقالة القبيحة، ثم اسلخ ما بين أقفيتهم إلى عجوب أذنابهم، فيرضوا عنك، ولا يكون للحجاج عليك سبيل.
حدث المنقري، عن يوسف بن موسى القطان، عن جرير، عن المغيرة، عن الربيع بن خالد، قال.: سمعت الحجاج يخطب على المنبر وهو يقول: أخليفة أحدكم في أهله أكْرَمُ عليه أم رسوله في حاجته؟ فقلت: للّه على أن لا أصلي خلفك صلاة أبداً، ولئن رأيت قوماً يجاهدونك لأقاتلنك معهم، فقاتل في دير الجماجم حتى قتل.
الغضبان بن القبعثري

حدث المنقري، عن العتبي، عن أبيه، أن الحجاج وجهَ الغضبان بن القَبَعْثَرَي إلى بلاد كرمان ليأتيه بخبر ابن الأشعث عند خَلْعه، فَفَضَلَ من عنده، فلما صار ببلاد كرمان ضرب خباءه ونزل، فإذا هو بأعرابي قد أقبل عليه فقال: السلام عليك، فقال الغضبان: كلمة مَقُولَة، فقال له الأعرابي: من أين جئت؟ قال: من ورائي، قال: وأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وعلامَ جئت؟ قال: على فرسي، قال: وفيم جئت؟ قال: في ثيابي، قال: أتأذن لي أن أدنوا إليك قال: وراءك أوْسَعً لك، قال: والله ما أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تُعَرض بهما فواللّه لا تفوقهما، قال: أو ليس عندك إلا ما أرى؟ قال: بل هراوة من أرزن أضرب بها رأسك، قال: إن الرمضاء قد أحرقت قَدَمي، بُلْ عليهما يبردان، قال: فكيف ترى فرسي هذا؟ قال: أراه خيراً من آخر شر منه وأرى آخر أفْرَه، قال: قد علمت هذا؟ قال: لو علمته ما سألتني عنه، فتركه الأعرابي، وولّى، ثم دخل على عبد الرحمن بن الأشعث فقال: ما وراءك يا غضبان؟ قال: الشر، تَغَذَ بالحجاج قبل أن يتعشى بك، ثم صعد المنبر فخطب بمعايب الحجاج والبراءة منه، ودخل مع ابن الأشعث في أمره، فلم يلبث إلا قليلاً ثم أسِرَ ابن الأشعث، فأخذ الغضبان فيمن أسِرَ، فلما أدخل على الحجاج قال: يا غضبان، كيف رأيت بلاد كرمان؟ قال: أصلح اللّه الأمير، بلاد ماؤها وَشَل، وثمرها دقل، ولصها بطل، والخيل بها ضعاف، وإن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلوا ضاعوا، قال: ألست صاحب الكلمة الخبيثة تَغَذَ بالحجاج قبل أن يتعشّى بك قال: أصلح اللّه الأمير! ما نفعت من قِيلَتْ له، ولا ضرت من قيلت فيه، قال: لأقطعًنّ يديك ورجليك من خلاف ثم لأصلبنك، قال: لا أرى الأمير أصلحه اللّه يفعل ذلك، فأمر به فَقُيِّدَ وألقي في السجن، فأقام به حتى بنى الحجاج خضراء واسط، فلما استتم بناءها جلس في صحنها، وقال: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: ما بني لخلق قبلك مثلها، قال: فإن فيها مع ذلك عيباً قهل فيكم مخبري به؟ قال: واللّه لا نَرَى بها عيباً، فأمر بإحضار الغضبان، فأتى به يَرْسُف في قيوده، فلما دخل عليه قال له الحجاج: أراك يا غضبان سمينَاَ، قال: أيها الأمير القيد والرتعة، ومن يكن ضَيْفَ الأمير يسمن، قال: فكيف ترى قبتي هذه؟ قال: أرى قبة ما بني لأحد مثلها إلا أنَّ بها عيباً، فإن أمنني الأمير أخبرته به، قال: قُلْ أمناً قال: بنيت في غير بلدك لغير ولدك لاتتمتع به ولاتنعم، فما لما لايتمتع فيه من طيب ولا لذة، قال: ردُّوه فإنه صاحب الكلمة الخبيثة، قال: أصلح الله الأمير! إن الحديدِ قد أكل لحمي وبَرَى عظمي، فقال: احملوه، فلما استقَلّ به الرجال قال: " سُبْحَانَ الذِي سَخّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقْرِنِين " قال: أنْزِلوه، فلما استوى على الأرض قال: " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " قال: جُرُّوه، فلما جَروه قال: " بسم اللّه مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم " قال: أطلقوا عنه.
حدث المنقري، عن عبد اللّه بن محمد بن حفص التميمي، عن الحسين بن عيسى الحنفي، قال: لما هلك بشر بن مروان وولي الحجاج العراق بلغ ذلك أهل العراق، فقام الغضبان بن القَبَعْثَرَي الشيباني بالمسجد الجامع بالكوفة خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الكوفة، إن عبد الملك قد ولّى عليكم مَنْ لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، الظلوم الغشوم، الحجاج، ألا وإن لكم من عبد الملك منزلة بما كان منكم من خذلان مُصْعب وقتله، فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق قاقتلوه، فإن ذلك لا يعدُّ منكم خلعاً، فإنه متى يعلوكم على متن منبركم وصدر سريركم وقاعة قصركم، ثم قتلتموه عُذ خَلْعاً، فأطيعوني وتغدوا به قبل أن يتعشى بكمِ، فقال له أهل الكوفة: جبنت يا غضبان، بل ننتظر سيرته، فإن رأينا منكَراً غيرناه، قال: ستعلمون.

فلما قدم الحجاج الكوفة بلغته مقالته، فأمر به فحبس، فأقام في حبسه ثلاث سنين، حتى ورد على الحجاج كتاب من عبد الملك يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية: عشراً من النجائب، وعشراً من قعد النكاح، وعشراً من ذوات الأحلام؟ فلما نظر إلى الكتاب لم يدرِ ما وصفه له من الجواري، فعرضه على أصحابه فلم يعرفوه، فقال له بعضهم: أصلح الله الأمير! ينبغي أن يعرف هذا مَنْ كان في أوليته بدوياً فله معرفة أهل البدو، ثم غزا فله معرفة أهل الغزو، ثم شرب الشراب فله بَذَاء أهل الشراب، قال: وأين هذا؟ قيل: في حبسك، قال: ومن هو؟ قيل: الغضبان الشيباني، فأحضر، فلما مثل بين يديه قال: أنت القائل لأهل الكوفة يتغدون بي قبل أن أتعشى بهم، قال: أصلح اللّه الأمير! ما نفعت من قالها، ولا ضرت من قيلت فيه، قال: إن أمير المؤمنين كتب إليَ كتابَاَ لم أدر مافيه، فهل عندك شيء منه؟ قال: يقرأعليَّ، فقرىء عليه، فقال: هذا بَيِّن، قال، وما هو؟ قال، أما النجيبة من النساء فالتي عظمت هامتها، وطال عنقها، وبعد ما بين منكبيها وثدييها، واتسعت راحتها، وثخنت ركبتها، فهذه إذا جاءت بالولد جاءت به كالليث العادي وأما قعد النكاح فهنَ ذوات الأعجاز، منكسرات الثدِي كثيرات اللحم، يقرب بعضهنَ من بعض، فأولئك يشفين القَرِم ويروين الظمآن، وأما ذوالت الأحلام فبنات خمس وثلاثين إلى الأربعين، فتلك التي تبسه كما يبس الحالب الناقة فتستخرجه من كل شعر وظفر وعرق؟ قال الحجاج: أخبرني بشر النساء، قال: أصلح اللّه الأمير! شرهن الصغيرة الرقبة، الحديدة الركبة، السريعة الوَثْبة، الواسطة في نساء الحي، التي إذا غضبت غضب لها مائة، وإذا سمعت كلمة قالت: لا والله لا انتهي حتى أقرها قَرَارَهَا، التي في بطنها جارية، وتتبعها جارية، وفي حجرها جارية، قال الحجاج: على هذه لعنة الله ثم قال: ويحك! فأخبرني بخير النساء، قال: خيرهن القريبة القامة من السماء، الكثيرة الأخذ من الأرض، الودود الولود، التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويتبعها غلام، قال: ويحك! فأخبرني بشر الرجال، قال: شرهم السبوط الربوط، المحمود في حرم الحي، الذي إذا سقط لإِحداهن دلو في بئر انحطّ عليه حتى يخرجه فهن يجزينه الخير أو يقلن: عافى اللّه فلاناً، قال: على هذا لعنة اللّه فأخبرني بخير الرجال، قال: خيرهم الذي يقول فيه الشماخ التغلبي:
فتِى ليس بالرًاضِي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتوَلِّج
فتَى يملأ الشَيزَى ويروي سنانَه ... ويضرب في رأس الكمي المدَجَّج
فقال له: حسبك، كما حسبنا عطاءك؟ قال: ثلاث سنين، فأمر له بها وخَلّى سبيله.
وصف البصرة والكوفة
حدث المنقري، عن محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد بن السائب عن أبي عبد اللّه النخعي، قال: لما فرغ الحجاج من دير الجماجم وفد على عبد الملك ومعه أشراف أهل المصريْنِ فأدخلهم عليه، فبينما هم عنده يوماً إذ تذاكروا البلدان، فقال محمد بن عمير بن عطارد: أصلح اللّه الأمير! إن الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة وحرها وعمقها، وسفلت عن الشام ووبائها وبردها، وجاورها الفرات فعذب ماؤها وطاب ثمرها وقال خالد بن صفوان الأهتمي: أصلح اللّه الأمير! نحن أوسعِ منهم برية، وأسرع منهم في السرية، وأكثر منهم قنداً وعاجاً وساجا، ماؤنا صفو وخيرنا عفو لا يخرج من عندنا إلا قائد وسائق وناعق، فقال الحجاج: أصلح اللّه أمير المؤمنين! إني بالبلديْنِ خبير، وقد وطئتهما جميعاً، فقال له: قل فأنت عندنا مصدق، قال: أما البصرة فعجوز شمطاء ذفراء بخراء أوتيت من كل حلى وزينة، وأما الكوفة فشابة حسناء جميلة، لا حلى لها ولا زينة؟ فقال عبد الملك: فضلت الكوفة على البصرة.
الحجاج يصف الدنيا
حدث المنقري عن عمرو بن الحباب الباهلي، عن إسماعيل بن خالد، قال: سمعت الشعبي يقول: سمعت الحجاج يتكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، سمعته يقول: أما بعد فإن اللّه عز وجلّ كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء فلا يغرنكم شاهد الدنيا من غائب الآخرة، فطول الأمل يقصر الأجل.
رسول المهلب إلى الحجاج

حدث المنقري عن سهل بن تمام بن بزيع عن عباد بن حبيب بن المهلب عن أبيه قال: لما قتل المهلّبُ عبد ربه الصغير بكرمان قال: ائتوني برجل له بيان وعقل ومعرفة أوجهه إلى الحجاج برؤوس من قتلنا فدلوه على بشربن مالك الجرشي، فلما دخل على الحجاج قال: ما اسمك؟ قال: بشر بن مالك الجرشي، قال: كيف تركت المهلب؟ قال: تركته صالحاً نال مار رجا وأمن ما خاف، قال: فكيف فاتكم قَطَري؟ قال: كادنا من حيث كدناه، قال: أفلا طلبتموه؟ قال: كان فلا، وكان الجد أهم علينا من الفل، قال: أصبتم، فكيف كان بنو المهلب؟ قال: كانوا أعداء البَيَات حتى يأمنوا، وأصحاب السرُج حتى يردوا، قال: أجل، فأيهم أفضل؟ قال: ذاك إلى أبيهم أيهم شاء أن يستكفيه أمراً كفاه، قال: إني أرى لك عقلاً فقل، هم كالحلقة المستوية لا يدرى أين طرفها، قال: أين هم من أبيهم؟ قال: فَضْلُه عليهم كفضلهم على سائر الناس، قال: كيف كان الجند؟ قال: أرضاهم الحق، وأشبعهم الفضل وكانوا مع وال يقاتل بهم مقاتلة الصعلوك ويسوسهم سياسة الملوك، فله منهم بر الأولاد، ولهم منه شفقة الوالد، قال: هل كنت هَيَّأْت ما أرى؟ قال: لا يعلم الغيب إلا اللّه، قال: فالتفت الحجاج إلى عنبسة فقال: هذا الكلام المطبوع لا الكرم المصنوع.
الحجاج وجرير بن الخطفي
وأخذ الحجاج جرير بن الخَطَفَي، فأراد قتله، فمشي إليه قومه من مضر فقالوا: أصلح اللّه الأمير! لسان مضر وشاعرها، هَبْهُ لنا، فوهَبَه وكانت هند بنت أسماء زوج الحجاج ممن طالب به، فقالت للحجاج: أتأْذن لجرير عليَّ يوماً أستنشده من وراء حجاب؟ فقال لها: نعم، فأمرت بمجلس لها فهيء فجلست فيه والحجاج معها، ثم بعثت إلى جرير، فدخل عليها يسمع كلامها ولا يراها، فقالت: يا ابن الخطفي، أنشدني ما شببت به في النساء، فقال لها: ما شببت بامرأة قط، ولا خلق اللّه شيئاً هو أبغض إلي من النساء، قالت: يا عدو اللّه، وأين قولك:
طرقَتْكَ صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارْجِعِي بسلام
تُجْرِي السواك على أغَر َكأنه ... برد تحدرَمن مُتون غمام
لو كنت صادقة بما حدثتنا ... لوصلت ذاك فكان غيرلمام
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يَرُوم كل مرام
قال: ما قلت هذا، ولكني أنا الذي أقول:
لقدجرّدَ الحجاج للحق سيفه ... ألافاستقيموا، لايميلَنَّ مائل
وما يستوي داعي الضلالة والهدى ... ولا حجةَّ، الخصمين حق وباطل
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
خليليَ لا تستغزرا الدمعَ في هند ... أعيذكما باللّه أن تَجِدَا وَجْدي
ظَمئْتُ إلى شرب الشراب وحسنه ... كذي قربة يرجو هداها وما يجدي
قال لها: ما قلت هذا: ولكني أنا الذي أقول:
ومَنْ يَأْمَنُ الحجاج؟ أما عِقَابه ... فمرٌّ، وأما عَقْدُهُ فَوَثيق
يُسِرُّلك البغضاء كلُّ مُنَافق ... كما كلُّ في بِرٍّ عليك شفيق
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
يا عَاذِلِيً دَعَا الملام وَأقْصِرَا ... طَالَ الهَوَى وأطلتما التفنيدا
إني وَجَدْتُ، ولَوْ أرَدْتُ زيادة ... في الحُبِّ عندي ما وَجَدت مزيداً
فقال: باطل أصلحك اللّه، ولكني أنا الذي أقول:
من سَدّ َمُطَلع النفاق عليهم ... أم من يَصُول كصولة الحجاج؟
أم مَنْ يَغَارعلى النساء حفيظة ... إذلا يثقن بغيرة الأزواج؟
هذا ابن يوسف فافهموا وتفهموا ... بَرِحَ الخفاء وليس حيث يفاجي
فلربَّ ناكث بيعتين تركته ... وخضابُ لحيته دَمُ الأوْدَاج
فقال الحجاج: يا عدو اللّه، تحرض عليَّ النساء؟ فقال: لا والذي أكرمك أيها الأمير، ما فطنت لهذا البيت قبل ساعتي هذه، وما علمت بمكانك، فأقلني جعلني اللّه فداك، قال: قد فعلت، فأمرت له هند بجارية وكسوة، وأوفده الحجاج على عبد الملك.
بين الحجاج وأعشى همدان

ولما انهزم ابن الأشعث بدير الجماجم حلف الحجاج أن لا يُؤتَى بأسيرٍ إلا ضرب عنقه، فأتى با " سْرَى كثيرة، وكان أول من أتي به أعشى همدان الشاعر وهو أول من خلع عبد الملك والحجاج بين يدي ابن الأشعث بسجستان، فقال له الحجاج: إيه أنت القائل!
مَنْ مُبْلغ الحجاج إني ... قد جنيت عليه حَرْبَا
وصفقت في كفِّ امرئ ... جَلْدٍ إذا ما الأمرعُبَّى
أنت الرئيس ابن الرئيس ... وأنت أعلى الناس كعبا
فابعث عطية بالخيو ... ل يكبُّهُنَّ عليه كَبَّا
وانهض هُديت لعله ... يجلوبك الرحمن كَرْبَا
نُبَئْتُ أن بُنيَّ يُو ... سفَ خرمن زَلَقٍ فَتَبا
وهي أبيات، وأنت القائل:
شطت نوى مَنْ دَارُهُ الإِيوان ... إيوان كِسْرَى ذي القرى وَالرَّيحَانْ
من عاشق أمْسَى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكَذَّابَانْ
كَذَّابُهَا الماضي وكَذّاب ثَان ... أمكن ربي من ثقيف هَمْدَانْ
يَوْماً من الليل يسلي ما كَان
وأنت القائل:
وسألتماني المجد أيْنَ محلُّه ... فالمجد بين محمد وسعيد
بين الأشَجِّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولود
قال: لا، ولكني الذي أقول:
أتى الله إلا أن يتمم نَوره ... وَيُطْفِىء َنَورالفقعتين فيخمدا
وينزل ذُلأ بالعراق وأهله ... بما نَقَضوا العهد الوثيق المؤكدا
وما أحْدَثُوا من بدعة وضَلاَلَة ... من القول لم يصعد إلى الله مصعدا
قال: لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلته تأسفاً على أن تكون ظفرت وظهرت، وتحريضاً لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألتك أخبرني عن قولك:
أمكن ربي من ثقيف هَمْدَان ... يَوْماً من الليل يسلي ماكان
فكيف ترى الله أمكن ثفيفاً من هَمْدان، ولم يمكن همدان من ثقيف؟ وعن قولك:
بين الأشَجِّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولُود
والله لا تبخبخ لأحد بعدها، وأمَرَ به فضربت عُنقه.
ولم يزل يؤتى برجل رجل حتى أتى برجل من ابني عامر، وكان من فرسان دير الجماجم مع ابن الأشعث، فقال له: واللّه لأقتلنك شر قتله قال: والله ما ذلك لك، قال: ولمَ؟ قال: لأن اللّه يقول في كتابه العزيز: " فإذا لقيتم الذين كَفَرُوا فَضَرْبَ الرقَاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها " ، وأنت قد قتلت فأثخنت، وأسرت فأوثقت فإما أن تمن علينا أو تفدينا عشائرنا، فقال له الحجاج: أكَفَرْتَ؟ قال: نعم، وغيرْتُ وبَدَّلْتُ، قال خلوا سبيله.
ثم أتي برجل من ثقيف فقال له الحجاج: أكفرت. قال: نعم، قال له الحجاج: لكن هذا الذي خَلْفك لم يكفر، وخَلْفه رجل من السَّكُون فقال السكُوني: أعن نفسي تخادعني؟ بل والله ولو كان شيء أشد من الكفر لبؤت به، فخلّى سبيلهما.
فهذه جمل من أخبار عبد الملك والحجاج، وقد أتينا على مبسوط هذه الأخبار ممّا لم نورده في هذا الكتاب في كتابينا أخبار الزمان والأوسط التالي له الذي كتابُنَا هذا تاليه، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب من أخبار الحجاج لمعاً، على حسب ما قدمنا من الشرط فيما سَلَفَ من هذا الكتاب، وبالله العون والقوة.
ذكر أيام الوليد بن عبد الملك
وبويع الوليد بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وتوفي الوليد بدمشق للنصف من جمادي الآخرة من سنة ست وتسعين؟ فكانت ولايته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين، وهلك وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكان يكنى بأبي العباس.
ذكر لمع من أخباره وسيره
وما كان من الحجاج في أيامه
خلق الوليد وولده

كان الوليد جباراً عنيداً، ظَلُوماً ضلوماً غشوماً، وخلف من الولد أربعة عشر ذكراً، منهم يزيد، وعمرو، وبشر العالم، والعباس، وكان يدعى فارسِ بني مروان لشهامته، فعدل الوليد بالأمر عن ولده بعده أتباعاً لوصية عبد الملك على حسب ما رتبها، وكان نقش خاتمه يا وليد إنك ميت فكان كلما هَم أن يجعل الأمر لولده قلب الفص وقرأ إنك ميت فيقول: لأها الله، لا خالفت ما أمرني به أبي، إني لميت.
بناء مسجد دمشق والمدينة
وفي سنة سبع وثمانين ابتدأ الوليد ببناء المسجد الجامع بدمشق وبناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فأنفق عليهما الأموال الجليلة، وكان المتولي للنفقة على ذلك عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه تعالى.
وحكي عثمان بن مرة الخولاني قال: لما ابتدأ الوليد ببناء مسجد دمشق وجد في حائط المسجد لوحاً من حجارة فيه كتابة باليونانية، فعرض على جماعة من أهل الكتاب، فلم يقدروا على قراءته، فوجهَ به إلى وهب بن منبِه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داود عليهما السلام، فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، إذا زَلَّتَ بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك وانصرف عنك الحبيب، وَوَدّعَكَ القريب، تم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكَظْم، ويحال بينك وبين العمل، وكتب زَمَنَ سليمان بن داود، فأمر الوليد أن يكَتب بالذهب على اللازورد في حائط المسجد، ربُّنَا اللّه، لا نعبد إلا اللّه، أمر ببناء هذا المسجد، وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدُ اللّه الوليدُ أميرُ المؤمنين في ذي الحجة سنة سبع وثمانين، وهذا الكلام مكتوب بالذهب في مسجد دمشق إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
بين الوليد والحجاج
ووفد الحجاج بن يوسف على الوليد، فوجده في بعض نُزَهه، فاستقبله، فلما رآه ترجلَ له، وقَبّلَ يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية، فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضل في غلالة، ثم أذن للحجاج فدخل عليه في حالة تلك وأطال الجلوس عنده، فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فسارَّتِ الوليد ومضت، ثم عادت فسارته ثم انصرفت، فقال الوليد للحجاج: أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد. قال: لا واللّه، قال: بعثتْهَا إليَ ابنةُ عمي أمُّ البنين بنتُ عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلَّح في السلاح وأنت في غلالة، فأرسلتُ إليها إنه الحجاج، فراعها ذلك، وقالت: واللّه ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك، ولا مكايدة عدوك، ولا تُطِعْهن في غير أنفسهن، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن في الأمور فإن رأيهن إلى وهن، وعزمَهُنّ إلى وهنٍ، وأكفف عليهن من أبصارهن بُحجبك، ولا تملكَ الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل الجلوس معهن والخلوة بهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْيَنُ لفضلك، ثم نهض الحجاج فخرج.
بين الحجاج وأم البنين

ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين أحِبُّ أن تأمره غداً بالتسليم عليَّ، فقال: أفعل، فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد، سِرْ إلى أم البنين فسلم عليها، فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين، فقال: لا بد من ذلك، فمضى الحجاج إليها، فحجبته طويلا، ثم أذنت له فأقرته قائماً، ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتَنُّ على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث، أما واللهّ لولا أن اللهّ جعلك أهْوَنَ خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النِّطَاقين، وأول مولود ولد في الإسلام، وأما ابن الأشعث فقد واللهّ والى عليك الهزائم، حتى لُذْتَ بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام وأنت في أضيق من القرن، فأظَلَّتْك رماحهم، وأنجاك كفاحهم وطالما نقض نساء أمير المؤمنين المسك من غدائرهن وبعنَه في الأسواق في أرزاق البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذل من النَّقَدِ، وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه فإن كنَّ ينفرجن عن مثل ما انفرجَتْ به عنك امُّك فما أحَقَّه بالأخذ عنك والقبول منك، وإن كن ينفرجن عن مثل أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مُصْغٍ إلى نصيحتك، قاتل اللّه الشاعر وقد نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:
أسَدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة ... فزعاء تفزع من صفير الصافر
هلا بَرَزْتَ إلى غزالة في الوغى ... بل كَان قلبك في جناحَيْ طائر
ثم قالت لجواريها أخْرِجْنَهُ عني، فدخل إلى الوليد في فَوْره، فقال: له: يا أبا محمد ما كنت فيه. فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض أحَبَ إلي من ظاهرها، فضحك الوليد حتى فحص برجله، ثم قال: يا أبا محمد، إنها بنت عبد العزيز.
ولأم البنين هذه أخبار كثيرة في الجود وغيره، وقد أتينا على ذكرها في غير هذا الكتاب.
موت علي بن الحسين السجاد
وفي سنة خمس وتسعين قبض علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ملك الوليد، ودفن بالمدينة في بقيع الغَرْقَدِ مع عمه الحسن بن علي، وهو ابن سبع وخمسين سنة، ويقال: إنه قبض سنة أربع وتسعين، وكل عقب الحسين من علي بن الحسين هذا وهو السجاد على ما ذكرنا، وذو الثفنات، وزين العابدين.
موت عبد الملك بن مروان
وذكر المدائني قال: دخل الوليد على أبيه عبد الملك عند وفاته، فجعل يبكي عليه وقال: كيف أصبح أمير المؤمنين. فقال عبد الملك:
ومشتغلٍ عنا يريد بنا الردى ... ومستعبرات والعيون سواجم
أشار بالمصراع الأول إلى الوليد، ثم حَوَّل وجهه عنه، وأشار بالمصراع الثاني إلى نسائه، وهن المستعبرات.
وذكر العتبي وغيره من الأخباريين أن عبد الملك لما سأله الوليد عن خبره وهو يجود بنفسه أنشأ يقول:
كما عائد رجلاًوليس يعوده ... إلا لينظر هل يراه يموت
وصية عبد الملك عند موته
وقيل: إن عبد الملك نظر إلى الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه فقال: يا هذا، أحنين الحمامة؟ إذا أنا متُّ فشمر واتزر، والبس جلد نمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا فقال: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنا منك لفي غرور، ثم أقبل على جميع ولده فقال: أوصيكم بتقوى اللّه فإنها عِصْمة باقية، وجُنَة واقية، فالتقوى خير زاد، وأفضل في المعاد، وهي أحصن كهف، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخْذِ بجميل الأمور، وإياكم والبغي والتحاسد، فبهما هلك الملوك الماضون، وذوو العز المكين، يا بني، أخوكم مسلمة نابكم الذي تفترّون عنه، ومَجِنُكم الذي تستجنون به، اصدُروا عن رأيه، وأكرموا الحجاج، فإنه الذي وطّألكمِ هذا الأمر، وكونوا أولاداً أبراراً، وفي الحروب أحراراً، وللمعروف مناراَ، وعليكم السلام.

وسأله بعض شيوخ بني أمية - وقد فرغ من وصية أولاده هذه - قال: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: " ولقد جئتمونا فُرَاس كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " إلى قوله " وما كنتم تزعمون " فكان هذا أخر كلام سمع منه.
فلما قضى سَجَّاه الوليد، ثم صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لم أر مثلها مصيبة، ولا مثلها نعمة، فقدت الخليفة، وتقلدت الخلافة، فإنا للّه وإنا إليه راجعون على المصيبة، والحمد للّه رب العالمين على النعمة، ثم دعا الناس إلى بيعته فبايعوا، ولم يتخلّف عليه أحد.
موت عبيد اللّه بن العباس
ومات في أيام الوليد عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، وذلك في سنة سبع وثمانين، وكان جواداً كريماً، وذكر أن سائلاً وقف عليه فقال له: تصدق مما رزقك الله ة فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه، فقال: وأين أنا من عبيد اللّه، قال له: وأين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال. قال: فيهما جميعاً، قال: إن الحسب في الرجل مروءته وحسن فعله، فإذا فعلت ذلك كنت حسيباً، فأعطاه الذي درهم واعتذر إليه، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفاً أيضاً، فقال: لئن كنت عبيد اللّه إنك لأسمح أهل دهرك، وما إخالك إلا من رَهْطٍ فيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسألك بالله أنت هو؟ قال: نعم، قال: واللّه ما أخطات إلا باعتراض الشك بين جوانحي، وإلا فهذه الصورة الجميلة والهيئة المنيرة لا تكون إلا في نبي أو عترة نبي.
وذكر أن معاوية وصله بخمسمائة ألف درهم، ثم وجه له من يتعرف له خبره، فانصرف إليه فأعلمه أنه قسمها في سُماره وإخوانه حصصاً بالسوية، وأبقى لنفسه مثل نصيب أحدهم، فقال معاوية: إن ذلك ليسوءني وشمرني، فأما الذي يسرني فإن عبد مناف والده، وأما الذي يسوءني فقرابته من أبي تراب دوني.
قال المسعودي: وقد قدمنا خبر مقتل ابني عبيد الله فيما سلف من هذا الكتاب، وهما عبد الرحمن وقُثَم، وما رثتهما به أمهما أمَّ حكيم جويرية بنت قارط بن خالد الكنانية.
عبيد اللّه بن العباس وبسر بن أرطاة
وقد كان عبيد اللّه بن العباس دخل يوماً على معاوية وعنده قاتلُهما بُسْرُ ابن أرْطَاةَ العامري، فقال له عبيد اللّه: أيها الشيخ أنت قاتل الصبيين. قال: نعم، قال: واللّه لوددت أن الأرض أنبتتنى عندك يومئذِ، فقال له بُسْرٌ : فقد أنبتتك الساعة، فقال عبيد اللّه: ألا سيف، فقال بُسْرٌ : هاك سيفي، فلما هوى عبيد اللهّ إلى السيف ليتناوله قبض معاوية ومَنْ حضره على يد عبيد اللهّ قبل أن يقبض على السيف، ثم أقبل معاوية على بُسْرٍ فقال: أخزاك اللّه من شيخ! قد كبرت وذُهِل عقلك، تعمد إلى رجل موتور من بني هاشم فتدفع إليه سَيْفَكَ، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، واللهّ لوتمكن من السيف لبدأ بنا قبلك، قال عبيد اللهّ: ذلك واللّه أردت.
وكان علي عليه السلام - حين أتاه خبر قتل بُسْرٍ لابني عبيد اللّه قُثَمَ وعبد الرحمن - دعا على بسر، فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله، فخرف الشيخ حتى ذًهِل عقله، واشتهر بالسيف فكان لا يفارقه، فجعل له سيف من خشب، وجعل بين يديه زق منفوح يضربه، وكلما تخرق أبدل، فلم يزل يضرب ذلك الزق بذلك السيف، حتى مات ذاهل العقل يلعب بخرئه، وربما كان يتناول منه ثم يقبل على مَنْ يراه فيقول: انظروا كيف يطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد الله، وكان ربما شدت يداه إلى وراء منعاً من ذلك فأنجى ذات يوم في مكانه، ثم أهوى بفيه فتناول منه، فبادروا إلى منعه، فقال: أنتم تمنعونني وعبدُ الرحمن وقثَم يطعمانني، ومات بسر في أيام الوليد بن عبد الملك سنة ست وثمانين.
موت عبد اللّه بن عتبة بن مسعود الهذلي

وفيها مات عبد اللهّ بن عتبة بن مسعود الهذلي، وعتبة مهاجر، وهو أخو عبد اللّه بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح بن مخزوم بن صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن محركة بن الياس بن مضربن نزار، وكانت الرياسة في الجاهلية في صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وكان عبيد اللّه ولد عبد الله بن عتبة من كبار أهل العلم، وذكر ابن أبي خيثمة قال: سمت ابن الأصبهاني يقول: قال سفيان: قال الزهري: كنت آظن إني نلت من العلم، حتى جالست عبيد اللّه بن عبد الله فكأنما هو البحر.
مقتل سعيد بن جبير
وفي سنة أربع وتسعين قَتَلَ الحجاجُ سعيدَ بن جُبَيْرٍ، فذكر عون بن أبي راشد العبدي قال: لما ظفر الحجاج بسعيد بن جبير وأوصل إليه قال له: ما اسمك. قال: اسمي سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير. قال: أبي كان أعلم باسمي منك، قال: لقد شقيت وشقي أبوك، قال له: الغيب إنما يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك، قال: فما قولك في الخلفاء، قال: لست عليهم بوكيل، قال: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك، قال: بل اختر يا شقي لنفسك، فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الاخر بمثلها، فأمر به الحجاج، فأخرج ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على اللّه وحلم الله عنك، فأمر به فذبح، فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي، فذبح واحتز رأسه.
ولم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة حتى وقعت في جوف الأكلة فمات من ذلك، ويروى أنه كان يقول بعد قتل سعيد: يا قوم مالي ولسيعد بن جبير، كلما عزمت على النوم أخذ بحلقي.
بين الوليد وأخيه سليمان
واشتكى الوليد، فبلغه عن أخيه سليمان ثمن لموته لما له من العهد بعده، فكتب إليه الوليد يعتب عليه الذي بلغه، وكتب في آخر كتابه هذه الأبيات:
تمنى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأ وْحَد
لعلَّ الذي يرجو فنائي ويدعي ... به قبل موتي أن يكون هو الردي
فما موت مَنْ قد مات قبلي بضائري ... ولاعيش من قدعاش بعدي بمُخْلِدِي
فقل للذي يرجو خلاف الذي مضى: ... تَزوَدْ لأخْرَى غيرها فكأنْ قَد
منيته تجري لوقت، وَحتفه ... سيلحقه يوماً على غير مَوْعِدِ
فأجابه سليمان: فهمْتُ ما قال أمير المؤمنين، واللهّ لئن كنت تمنيت ذلك لما يخطر بالبال إني لأول لاحِقٍ به ومنعيّ إلى أهله، فعلام أتمنى زوال مدة لا يلبثَ متمنيها إلا بقدر ما يحل السفر بمنزل ثم يظعنون عنه. وقد بلغ أميرَ المؤمنين ما لم يظهر من لفظي، ولا يرى من لحظي، ومتى سمع أمير المؤمنين من أهل النميمة، ومن ليست له روية أوشك أن يسرع في فساد النيات، ويقطع بين ذوي الأرحام والقرابات، وكتب في أسفل الكتاب:
ومن لايغمِّضْ عينه عن صديقه ... وعن بعض مافيه يَمُتْ وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ... يَجِدْهَا ولم يسلم لهُ الدهر صاحب
فكتب إليه الوليد: ما أحسن ما اعتذرت به، وحذوت عليه، وأنت الصادق في المقال، والكامل في الفعال، وما شيء أشبه بك من اعتذارك، ولا أبعد مما قيل فيك، والسلام: وكان الوليد متحنناً على إخوته، مراعياً لسائر ما أوصاه به عبد الملك، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب إليه بوصيته منها:
انفُوا الضغائن عنكُمُ وعليكم ... عند المغيب وفي حضور المشهدِ
فصلح ذات البين طولُ بقائكم ... إن مُدَّ في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهرألَّفَ بينكم ... بتواصل وتراحم وتودُّد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... بمسوَّدٍ منكمِ وغير مسود
إن القداح إذا اجتمعن فَرَامَهَا ... بالكسر ذو حَنقٍ وَبَطْش باليد
عَزَّتْ فلم تكسر، وإن هي بدِّدت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
وصية عبد الملك لأولاده

وكان عبد الملك مواظباً على حث أولاده على اصطناع المعروف، وبعثهم على مكارم الأخلاق، وقال لهم: يا بني عبد الملك، أحسابكم أحسابكم، صونوها ببذل أموالكم، فما يبالي رجل منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى:
تبيتون في المَشْتَى مِلاَء بطونكم ... وجاراتكم غَرْثَى يبتن خمائصا
وما يبالي قوم ما قيل فيهم من المدح بعد قول زهير :
على مكثريهم حَقُّ من يعتريهم ... وعند المقلين السماحةُ والبذُل
حدث عبد اللهّ بن إسحاق بن سلام، عن محمد بن حبيب، قال: صعد الوليد المنبر فسمع صوت ناقوس فقال: ما هذا؟ قيل: البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها مَنْ كان قبلك، فإن يكون أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: مَنْ يجيبة فقال الفرزدق: أنا، فكتب إليه " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلماً.
موت الحجاج
ومات الحجاج في سنة خمس وتسعين، وهو ابن أربع وخمسين له بواسط العراق، وكان تأمُّرُهُ على الناس عشرين سنة، وأحصى من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفاً، ومات وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألف مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء وكان له غير ذلك من العذاب ما أتينا علي وصفه في الكتاب الأوسط.
وذكر أنه ركب يوماً يريد الجمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا، فقيل له: المحبوسون يضجون ويشكون ما هم فيه من البلاء، فالتفت، ناحيتهم وقال: اخسأوا فيها ولا تكلمون فيقال: إنه مات في تلك الجمعة، ولم يركب بعد تلك الركبة.
قال المسعودي: ووجدت في كتاب عيون البلاغات مما اختبر من كلام الحجاج قوله: ما سلبت نعمة إلا بكفرها، ولا نَمَتْ إلا بشكرها. وقد كان الحجاج تزوج إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب - حين أمْلَقَ عبدُ اللّه وافتقر، وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان الخبر في ذلك وتهنئة ابن القَرِّية الحاج بذلك.
موت عبد اللّه بن جعفر
وقد كان عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب من الجود بالموضع المعروف، ولما قل مالُه سمع يوم الجمعة في المسجد الجامع وهو يقول: اللهم إنك قد عودتني عادة فعودتُهَا عبادكَ، فإن قطعتها عني فلا تبقني، فمات في تلك الجمعة، وذلك في أيام عبد الملك بن مروان وصلى عليه أبان بن عثمان بمكة، وقيل: بالمدينة، وهي السنة التي كان بها السيل الجحاف الذي بلغ الركن وذهب بكثير من الحجاج.
وفي هذه السنة كان الطاعون العامُّ بالعراق والشام ومصر والجزيرة والحجاز وهي سنة ثمانين.
وقبض عبد اللّه بن جعفر وهو ابن سبع وستين، وولد بالحبشة حين هاجر جعفر إلى هنالك، وقيل: إن مولده كان في السنة التي قبض فيها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل غير ذلك.

وذكر المبرد والمدائني والعتبي وغيرهم من الأخباريين أن عبد اللّه عوتب على كثرة إفضاله، فقال: إن اللّه تعالى عًوّدني أن يُفْضِل عليَّ، وعودته أن أفضل على عباده، فأكره أن أقطع العادة عنهم فيقطع العادة عني ووفد عبد اللّه على معاوية، بدمشق، فعلم به عمرو بن العاص قبل دخوله دمشق، أخبره بذلك مولىً له كان سار مع ابن جعفر من الحجاز فتقدّمه بمرحلتين إلى دمشق، فدخل عمرو على معاوية وعنده جماعة من قريش من بني هاشم وغيرهم: منهم عبد اللّه بن الحارث بن عبد المطلب، فقال عمرو: قد أتاكم رجل كثير الخلوات بالتمِّني، والطرقات بالتغنِّي، آخذ للسلف، منقاد بالسرف، فغضب عبد الله بن الحارث، وقال لعمرو: كذبت وأهْلُ ذلك أنت، ليس عبد اللّه كما ذكرت، ولكنه لله ذَكُور، ولبلائه شَكُور، وعن الخنانَفُور، ما جد مهذب كريم سيد حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حَصِر ولا هياب، ولا فَحاش ولا سَبَّاب كالهِزَبْر الضِّرْغام، الجريء المقدام، والسيف الصمصام، والحب القمقام، وليس كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب علب جَزَارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، يلوذ منها بذليل، ويأوى، إلى قليل، وليت شعري بأي حسب تتناول. أو بأي قدم تتعرض. غير أنك تعلو بغبر أركانك، وتتكلم بغير لسانك، ولقد كان أبر في الحكم وأبين في الفَضْل، أن يكفَّكَ ابن أبي سفيان عن ولوعك بأعراض قريش وأن يكعمك كعام الضبع في وجارها، ولست لأعراضها بوفي، لأحسابها بكفي، وقد أتيح لك ضَيْغم شَرِس، للأقران مختلس وللأرواح مفترس، فهمَّ عمرو أن يتكلم، فمنعه معاوية من ذلك، وقال عبد اللّه بن الحارث: لا يُبْقِ المرء إلا على نفسه، واللهّ إن لساني لحديد وإن جوابي لعتيد، وإن قولي لسديد، وإن أنصاري لشُهُود، فقام معاوية وتفرق القوم.
ولعبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب أخبار حسان في الجود والكرم وغير ذلك من المناقب، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما كان تزوج الحجاج إليه يبتذل بذلك آل أبي طالب.
كتاب من عبد الملك إلى الحجاج لم يفهمه
وكتب الحجاج إلى عبد الملك يغلظ له أمر الخوارج مع قَطَرِي، فكتب إليه: أما بعد، فإني أحمد إليك السيف، وأوصيك بما أوصى به البكري زيداً، فلم يفهم الحجاج ما عَنَاه عبد الملك، وقال: مَنْ جاء بتفسير ما أوصى به البكري زيداً فله عشرة آلاف درهم، فورد رجل منِ الحجاز يتظلَّم من بعض عماله، فقيل له: أتعلم ما أوصى به البكري زيداَ، قال: نعم، قالوا: فأت الحجاج به ولك عشرة آلاف درهم، فأتاه فأحضره، فقال: أوصاه بأن قال:
أقول لزيد لا تُبَربر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أوقتلي
فإن وَضَعُوا حرباً فًضَعْهَا، وإن أبوا ... فشُبً وَقُودَ الحرب بالحطب الجزل
وإن عًضَتِ الحرب الضّرُوس بنابها ... فعرضة حد السيف مثلك أو مثلي
فقال الحجاج: صدق أمير المؤمنين وصدق البكري.
كتاب من الحجاج إلى المهلب
وكتب إلى المهلب: إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيداً، وأنا أوصيك به وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه، فأتى المهلب بوصيته فإذا فيها: يا بَنِيَّ، كونوا جميعاً ولا تكونوا شَتَّى فتفرقوا، وبروا قبل أن تبروا، فموت في قوة وعزّ، خير من حياة في ذل وعجز، فقال المهلب: صدق البكري والحارث بن كعب.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج: جَنّبنِي دماء آل أبي طالب، فإني رأيت الملك استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم، فكان الحجاج يتجنبها خوفاً من زوال الملك عنهم، لا خوفاً من الخالق عز وجل.
ليلى الأخيلية والحجاج
ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فقالت: أصلح اللّه الأمير، أتيت لإخلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكَلَبِ البرد، وشدة الجَهْد، قال: فأخبريني عن الأرض، قالت: الأرض مقشعرة، والفجاج مغبرة، والمقتر مقل، وذو العيال مختل، والبائس معتل، والناس مُسْنِتُونَ، رَحْمَةَ الله يرجون، قال: أي النساء تختارين تنزلين عندها؟ قالت: سَمِّهن لي، قال: عندي هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، فاختارتها فدخلت عليها، فصَبتْ حليها عليها حتى أثقلها، لاختيارها إياها ودخولها عليها دون مَنْ سواها.
ابن عمر للحجاج يطلب منه أن يوليه

فيمتحنه فيوليه فينجح
حدثنا المنقري قال: حدثنا العتبي، عن أبيه، قال: قدم على الحجاج ابن عم له أعرابي من البادية فنظر إليه يُولِّي الناس، فقال له: أيها الأمير، لم لا توليني بعض هذا الحضر. - فقال الحجاج: هؤلاء يكتبون ويحسبون وأنت لا تحسب ولا تكتب، فغضب الأعرابي وقال: بلى إني واللّه لأحْسَبُ منهم حسباً، وأكتب منهم يداً، فقال له الحجاج: فإن كان تزعم فاقسم ثلاثة دراهم بين أربعة أنفس، فما زال يقول: ثلاثة دراهم بين أربعة، ثلاثة بين أربعة، لكل واحد منهم درهم يبقى الرابع بلا شيء، كم هم أيها الأمير. قال: هم أربعة، قال: نعم أيها الأمير، قد وقفت على الحساب، لكل واحد منهم درهم، وأنا أعطي الرابع منهم درهماً من عندي وضرب بيده إلى تكته فاستخرج منها درهماً، وقال: أيكم الرابع فلاها اللّه ما رأيت كاليوم زوراً مثل حساب هؤلاء الحضريين، فضحك الحجاج ومَنْ معه، وذهب بهم الضحك كل مذهب، ثم قال الحجاج: إن أهل إصبهان كسروا خَرَاجهم ثلاث سنين، كلما أتاهم وال أعجزوه، فلأرمينهم ببدوية هذا وعنجهيته، فأخْلِقْ به أن ينجب، فكتب له عهده على أصبهان، فلما خرج استقبله أهل إصبهان واستبشروا به، وأقبلوا عليه يقبلون يده ورجله، وقد استغمروه، وقالوا: أعرابي بدوي ماذا يكون منه فلما أكثروا عليه قال: أعينوا عَلَى أنفسكم وتقبيلكم أطرافي وأخِّرُوا عني هذه الهيآت، أما يشغلكم ما أخرجني له الأمير. فلما استقر في داره بأصبهان جمع أهلها فقال لهم: ما لكم تَعْصُونَ ربكم وتغضبون أميركم وتنقصون خراجكم. فقال قائلهم: جَوْر مَنْ كان قبلك، وظلم من ظلم، قال: فما الأمر الذي فيه صلاحكم، فقالوا: تؤخرنا بالخراج ثمانية أشهر ونجمعه لك، قال: لكم عشرة وتأتوني بعشرة ضمناء يضمنون، فأتوه بهم، فلما توثقَ منهم أمهلهم، فلما قرب الوقت رآهم غير مكترثين لما يدنو من الأجل، فقال لهم، فلم ينتفع بقوله، فلما طال به ذلك جمع الضمناء وقال لهم: المال، فقالوا: أصابنا من الآفة ما نقض ذلك، فلما رأى ذلك منهم آلى أن لا يفطر - وكان في شهر رمضان - حتى يجمع ماله أو يضرب أعناقهم، ثم قَدَّم أحدهم فضرب عنقه، وكتب عليه فلان بن فلان أدى ما عليه، وجعل رأسه في بدرة وختم عليها، ثم قَدَّم الثاني ففعل به مثل ذلك، فلما رأى القوم الرؤوس تبذر وتجعل في الأكياس بدلاً من البدرِ قالوا: أيها الأمير، توقّفْ علينا حتى نحضر لك المال ففعل، فأَحضروه في أسرع وقت، فبلغ ذلك الحجاج، فقال: إنا معاشر آل محمد - يعنى جَده - ولدنا نجيب، فكيف رأيتم فراستي في الأعرابي. ولم يزل عليها والياً حتى مات الحجاج.
إبراهيم التميمي في سجن الحجاج:
وحبس الحجاج إبراهيم التميمي بواسط، فلما دخل السجن وقف على مكان مشرف ونادى بأعلى صوته: يا أهل بلاء اللّه في عافيته، ويا أهل عافية اللّه في بلائه، أصبروا، فنادوه جميعاً. لبيك، لبيك، ومات في حبس الحجاج، وإنما كان الحجاج طلب إبراهيم النخعي فنجا، ووقع إبراهيم التميمي.
وحكي عن الأعمش قال: قلت لإِبراهيم النخعي: أين كنت حين طلبك الحجاج. فقال: بحيث يقول الشاعر:
عَوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عَوَى ... وَصَوَّتَ إنسان فكذبت أطِير
الحجاج يسأل ابن القرية عن النساء
حدثنا الدمشقي الأموي أحمد بن سعيد وغيره، عن الزبير بن بكار،عن محمد بن سلام الحجمي الجمحي، وحدثنا الفضل بن الحباب الجمحى عن محمد بن سَلاّم قال: سأل الحجاج ابن القَرِّيّة: أيّ النساء أحمد، قال: التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويسعى لها مع الغلمان غلام، قال: فأيّ النساء شَر. قال: الشديدة الأذى الكثيرة الشَّكْوَى، المخالفة لما تهوى، فقال: أيّ النساء أعجب إليك. قال: الشفاء العطبول، المنعاج الكسول، التي لم يَشِنْهَا قصر ولا طول، قال: فأيّ النساء أبغض إليك. قال: الرعينة القصيرة، الباهق الشريرة، قال: فأخبرني عن أفضل النساء مَخْبراً وأطيبهن أعطافاً، قال: أفضل النساء الغَضّة البَضّة، التي أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، اللَّعْسَاء الورهاء، التي لم تذهب طولاً في إنحطاط، ولم تلصق قصراً في

إفراط، الجَعدة الغدائر، السَّبْطَة الضفائر، الضخمة المآكم، الطَّفْلَة البراجم، إذا رأيت أناملها شبهتها بالمداري، وإذا قامت خلتها سارية من السواري، فتلك تهيج المشتاق، وتُحيي العاشق بالعناق.
قال المسعودي: وللوليد بن عبد الملك أخبار حسان لما كان في أيامه من الكوائن والحروب، وكذلك الحجاج، وقد أتينا على كَثير من مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب ما لم نورده في ذَيْنِك الكتابين، كما أن ما ذكرناه في الكتاب الأوسط هو ما لم نورده في كتاب أخبار الزمان والله أعلم.
ذكر أيام سليمان بن عبد الملك
وبويع سليمان بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي كانت فيه وفاة الوليد، وذلك يوم السبت للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وتسعين من الهجرة، وتوفي سليمان بمرج دَابِقٍ من أعمال جند قنسرين يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمس ليالٍ، وهلك وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وقيل: إن وفاة سليمان كانت يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من صفر سنة تسع وتسعين، وإن ولايته سنتان وتسعة أشهر وثمانية عشر يوماً، على حسب ما وجدناه من تباين ما في كتب التواريخ والسِّيَر، وسنذكر جمل أيامهم في باب نُفْرده فيما يرد من هذا الكتاب.
وقد تنوزع في مقدار سِنِّ سليمان: فذكر بعضهم أنه قُبض وهو ابن خمس وأربعين سنة، ومنهم مَنْ زعم أنه كان ابن ثلاث وخمسين، وقد قدمنا قول مَنْ قال: إنه قُبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ووجَدْتُ أكثر شيوخ بني مروان من ولده وولد غيره بدمشق وغيرها يذهبون إلى أنه كان ابْنَ تسع وثلاثين، والله أعلم.
ذكر لمع هن أخباره وسيره
خطبته أول ما ولي الخلافة
ولما أفْضَى الأمر إلى سليمان صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: الحمد لله الذي ماشاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، وما شاء رفع، وما شاء وضع، أيها الناس، إن الدنيا دار غرور وباطل وزينة وتقلُّب بأهلها، تُضْحِك باكيها، وتبكي ضاحكها، وتخْيف آمنها، وتؤمن خائفها، وتثري فقيرها، وتفقر مثريها ميالة بأهلها عباد اللّه، اتخذوا كتاب اللّه إماماً، وارْضُوا به حكماً، واجعلوه لكم هادياً ودليلاً، فإنه ناسخ، ولا ينسخه ما بعده، واعلموا عباد الله أنه ينفي عنكم كيد الشيطان ومطامعه، كما يجلو ضوء الشمس الصبح إذا أسفر، وإدبار الليل إذا عسعس، ثم نزل وأذن للناس بالدخول عليه، وأقر عمال من كان قبله على أعمالهم، وأقر خالد بن عبد اللّه القَسْرِي على مكة.
خالد القسري في مكة
وقد كان خالد أحْدَثَ بمكة أحداثاً: منها أنه أدار الصفوف حول الكعبة، وقد كَاَن قبل ذلك صفوف الناس في الصلاة بخلاف ذلك، وبلغه قول الشاعر:
ياحبذا الموسم من موقف ... وحبذا الكعبة من مسجد
وحبذا اللاتي تزاحمننا ... عند استلام الْحَجَرِ الأسود
فقال خالد: أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبداً، ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف.
كان سليمان أكولاً
وكان سليمان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، وكان يلبس الثياب الرقاق وثياب الوَشْي، وفي أيامه عمل الوشي الجيد باليمن والكوفة والإسكندرية، ولبس الناس جميعاً الوشي جباباً وأردِيَةً وسراويل وعمائم وقلانس، وكان لا يدخل عليه رجل من أهل بيته إلا في الوَشي، وكذلك عُمًاله وأصحابه ومَنْ في داره، وكان لباسه في ركوبه وجلوسه على المنبر، وكان لا يدخل عليه أحد من خدَامه إلا في الوَشي، حتى الطباخ، فإنه كان يدخل إليه في صدره وشي وعلى رأسه طويلة وشي، وأمر أن يكفن في الوشي المثقلة وكان شبعه في كل يوم من الطعام مائة رطل بالعراقي، وكان ربما أتاه الطباخون بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوية وعليه جبه الوشي المثقلة فلنهمه وحرصه على الأكل يُدْخِل يده في كمه حتى يقبض على الدجاجة وهي حارة فيفصلها.

وذكر الأصمعي قال: ذكرت للرشيد نَهَمَ سليمان وتناوله الفراريج بكمه من السفافيد، فقال: قاتلك الله فما أعلمك بأخبارهم، إنه عرضَت عليً جباب بني أمية، فنظرتُ إلى جباب سليمان وإذا كل جبة منها في كمها أثر كأنه أثر دهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث، ثم قال: علىِ بجباب سليمان، فأتي بها، فنظرنا فإذا تلك الآثار فيها ظاهرة، فكساني منها جُبة، فكان الأصمعي ربما يخرج أحياناً فيها فيقول: هذه جُبة سليمان التي كسانيها الرشيد.
وذكر أن سليمان خرج من الحمام ذات يوم اشتدً جوعه، فاستعجل الطعام، ولم يكن فرغ منه، فأمر أن يقدم عليه ما لحق من الشواء، فقدم إليه عشرون خروفَاَ، فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقآقة، ثم قرب بعد ذلك الطعام فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئاً.
وحكي أنه كان يتخذ سلال الحلوى، ويجعل ذلك حول مرقده، فكان إذا قام من نومه يمدُّ يده فلا تقع إلا على سلة يأكل منها.
لبس سليمان فأعجبته نفسه
حدث المنقري، عن العتبي، عن إسحاق بن إبراهيم بن الصباح بن مروان - وكان مولى لبني أمية من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظاً لأخبار بني أمية - قال: لبس سليمان يوم الجمعة في ولايته لباساً شهر به، وتعطر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمُ بواحدة بعد أخرى حتى رضي منها بواحدة، فأرخى من سُدُولها، وأخذ بيده مخصرة، وعلا المنبر ناظراً في عطفيه، وجمع جمعه، وخطب خطبته التي أرادها، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشاب، السيد المهاب، الكريم الوهاب، فتمثلت له جارية من بعض جواريه وكان يتحظّاها، فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين، قالت: أراه مُنَى النفس وقُرة العين، لولا ما قال الشاعر، قال: وما قال الشاعر. قالت: قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غيرأن لا بَقَاء للإِنسان
أنت مَنْ لايَرِيبنامنك شيء ... علم اللَّه غير أنك فإني
ليس فيما بدا لنا منك عيبٌ ... ياسليمان غير أنك فان
فدمعت عيناه وخرج على الناس باكياً، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بالجارية، فقال لها: ما دعاك إلى ما قلت لأمير المؤمنين. قالت: واللّه ما رأيت أمير المؤمنين اليوم ولا دخلت عليه، فأكبره ذلك، ودعا بِقَيِّمَةِ جواريه فصدقتها في قولها، فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم يمكث بعد ذلك إلا مُدَيْحَة حتى توفي.
وكان سليمان يقول: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا ا لْفَارِهَ، ولم يبق لي لذة إلا صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ.
بين سليمان وكاتب الحجاج
وأدخل عليه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج والمستولي عليه، وهو مكبل بالحديد، فلما رآه ازدرَاهُ، فقال: ما رأيت كاليوم قطَ، لعَنَ اللّه رجلاً أجَركَ رَسَنُه، وحكمك في أمره، فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك رأيتني والأمر عني مُدْبر، عليك مُقْبل، ولو رأيتني والأمر مقبل عليً لاستعظمت مني ما استصغرت، ولاستجللت مني ما استحقرت، قال: صدقت فاجلس لا أم لك، فلما استقر به المجلس قال له سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به أتراه يَهْوِي بعدُ في جهنم أم قد استقر فيها، قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، فقد بذل لكم نصحه، وأحْقَنَ دونكم دمه، وأمَّنَ وليكم، وأخاف عدوكم، وإنه يوم القيامة لَعَنْ يمين أبيك عبد الملك، ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت، فصاح سليمان: اخْرُجْ عني إلى لعنة اللهّ، ثم التفت إلى جلسائه فقال: قبحه اللّه، ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المكافأة، أطلقوا سبيله.
بين سليمان وأبي حازم الأعرج

ودخل عليه أبو حازم الأعرج، فقال: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت، قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني كيف القدومُ على اللهّ، قال: أما المحسن فكالغائب يأتي أهله مسروراً، وأما المسيء فكالعبد الأبق يأتي مولاه مَحْزوناً، قال: فأي الأعمال أفضل. قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي القول اعْدَلُ. قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو، قال: فأي الناس أعقل، قال: من عمل بطاعة اللّه، قال: فأي الناس أجهل. قال: من باع آخرته بدنيا غيره، قال: عِظْنِي وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نَزِّه ربك وعَظمه بحيث أن يراك تجتنب ما نهاك عنه ولا يفقدك من حيث أمرك به، فبكى سليمان بكاءً شديداً، فقال له بعض جلسائه، أسرفت ويحك على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت فإن اللّه عز وجل أخَذَ الميثاق على العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه ثم خرج، فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمالٍ، فرده، وقال للرسول: قل له واللّه يا أمير المؤمنين ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي.
بين سليمان وأعرابي
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني الأصمعي، عن شيخ من المَهَالِبَة، قال: دخل أعرابي على سليمان فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فافهمه، فقال له سليمان: إنا نجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غِشّه، وأرجو أن تكون الناصح جَيْباً، المأمون غيباً، فهات، قال: يا أمير المؤمنين، أما إذ أمنتُ بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خَرسَتْ به الألسُنُ من عظتك تأدَيةً لحق اللّه رحق أمانتك، يا أمير المؤمنين، إنه قد تَكَنَّفَك رجال أساءُوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، رضاك بسخط ربهم، خافوك في اللهّ ولم يخافوا اللّه فيك، حَرْب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا، ولْيسوا مسؤولين عما أجترمت، فلا تُصْلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سَلَلْتَ علينا لسانَكَ، وهو أقطع من سيفك، فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لاعليك، فقال سليمان: أما وأبيك يا أعرابي لا تزال العربُ بسلطاننا لأكناف العز مُتَبَوِّئَةً، ولا تزال أيام دولتنا بكل خير مُقْبلة، ولئن ساسكم ولاة غيرنا ليُحْمَدَنَّ منا ما أصبحتم تذمُونَ، فقال الأعرابي: أما إذا رجع الأمر إلى ولد العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وصِنْو أبيه ووارث ما جعله الله له أهلاً فلا، فتغافل سليمان كأنْ لم يسمع شيئاً، وخرج الأعرابي فكان آخر العهد به، هذا الخبر أخبرني به بعض شيوخ ولد العباس بمدينة السلام مدينة أبي جعفر المنصور، وهو ابن ديهة المنصوري، عن أبيه، عن علي بن جعفر النوفلي، عن أبيه، وذلك في سنة ثلثمائة.
سليمان يصف معاوية
وذُكِرَ معاوية بن أبي سفيان في مجلس سليمان، فصلّى على روحه وأرواح من سلف من آبائه، وقال: كان والله هَزْلُه جِدّاً، وجده علماً، واللّه ما رُئي مثل معاوية، كان واللّه غضبه حلماً، وحلمه حكماً، وقيل: إن هذا الكلام لعبد الملك.
خالد القسري في العراق
وكتب سليمان إلى خالد بن عبد اللّه القَسْرِي وهو على العراق في رجل استجار به من قريش، وكان هرب من خالد، أن لا يعرض له، فأتاه بالكتاب فلم يَفُضّه حتى ضربه مائة سوط، ثم قرأه، فقال: هذه نقمة أراد الله أن ينتقم بها منك لتركي قراءة الكتاب، ولو كنت قرأته لأنفذت ما فيه، فخرج القرشي راجعاً إلى سليمان، فسأله الفرزدق وأناس ممن كان بالباب عما صنع خالد، فأخبرهم، فقال الفرزدق في ذلك:
سَلُوا خَالداً لا قدس اللَّه خالدا ... مَتَى وَليت قَسْرٌ قُريْش تَدِينُهَا
أقَبْلَ رسول اللَه أم بَعْدَ عهده ... فأضْحَتْ قًرَيش قد أغثَّ سَمِينُهَا
رَجَوْنَا هُدَاه لاَهَدَى اللَّه سَعْيَه ... وما أمه بالأم يُهدَى جَنِينهَا
فلما بلغ سليمان ذلك وجَّه إلى خالد مَنْ ضربه مائة سوط، فقال الفرزدق في ذلك أبيات:

لعمري لقد صُبّتُ على ظهر خالدٍ ... شآ بِيبُ لَيْسَتْ من سَحَاب ولاقَطْرِ
أتضرب في العصيَان من ليس عاصيا ... وتَعْصِي أمير المؤمنين أخَا قَسْر
فلولا يزيد بن المهلب حَلّقَتُ ... بكفك فَتْخَاء إلى الفرخ في الوَكْرِ
لعمري لقد سارابن شيبة سِيرة ... أرَتك نجومَ الليل مُظَهرَةً تجري
فخذ بيديك الخِزْي حقاً، فإنما ... جُزِيتَ قَصاصاً بالمرجرجة السُّمْرِ
بين سليمان وعمر بن عبد العزيز
وقال سليمان لعمر بن عبد العزيز يوماً وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه، قال: سرور لولا أنه غرور، وحياة لولا أنه موت، وملك لولا أنه هلك، وحسن لولا أنه حزن، ونعيم لولا أنه عذاب أليم، فبكى سليمان من كلامه.
سليمان على الضد من الوليد
وكان سليمان بخلاف الوليد، وعلى الضد منه في الفصاحة االبلاغة، وقد كان الوليد أفسد في أرضٍ لعبد اللّه بن يزيد بن معاوية، فشكا ذلك أخوهُ خالد بن يزيد إلى عبد الملك، فقال له عبد الملك: إن الملوك إذا دخلوا قريه أفسدوها الآية فقال له خالد: " وإذا أردنا أنْ نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " الآية، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تتكلم وبالأمس دخل عليَ فغير في لسانه ولحن في كلامه، فقال: أفعلى الوليد تعَول. قال: إن كان الوليد يلحن فسليمان أخوه، قال خالد: وإن كان عبد اللّه لحاناً فأخوه خالد، فقال الوليد: أتتكلم ولست في العير ولا في النفير، قال خالد: ألم تسمع ما يقول أمير المؤمنين، أنا والله ابن العير والنفير، ولو قلت جُبَيلات وغُنَيْمَات والطائف ورحم اللّه عثمان، قلنا: صدقت، أراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَفَى الحكم بن أبي العاص إلى الطائف فصار راعياً حتى ردَه عثمان.
غضب سليمان على خالد القسري
غضب سليمان على خالد القَسْرِي، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تُذْهِب الحفيظة، وإنك تَجِلُّ عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل ذلك أنا، فعفا عنه.
وذم رجل في مجلس سليمان الكلام، فقال سليمان: إنه من تكلم فأحسن قدر على أن يصمت فيحسن وليس مَنْ صمت فأحسن قدر على أن تكلم فيحسن.
ووقف سليمان على قبر ولده أيوب وبه كان يكنى، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه فحقق رجائي، وآمن خوفي.
بعض الكتاب ينعى سليمان
قال المسعودي: ولما دُفن سليمان سمع بعض كتابه وهو يقول أبياتاً منها:
وما سالم عما قليل بِسَالم ... وإن كَثُرَتْ أحْرَاسه وكَتَائبه
ومَنْ يَكُ ذَا بَأس شديد ومنعة ... فعمَّا قليلٍ يهجر الباب حاجبه
ويصبح بعد الحجَب للناس مقصيا ... رهينة بيت لم تستر جَوَانبه
فما كان إلا الدًفْن حتى تفرقت ... إلى غَيْرِهِ أحْرَاسه ومواكبه
وَاصبَحَ مسروراً به كل كَاشح ... وأسلمه أحْبَابه وأقاربه
فنفسك أكْسِبْهَا السعَادَة جاهداً ... فكل امرىء رَهْن بما هوكاسبه
قال المسعودي: ولسليمان أخبار حسان لما كان في مدة ملكه من الكوائن، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً طلباً للإيجاز، وميلاً إلى الإِختصار، وباللّه التوفيق.
ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز
بن مروان بن الحكم
واستخلف عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، وهو اليوم الذي مات فيه سليمان، وتوفي بدَيْرِ سِمْعَانَ من أعمال حمص مما يلي بلاد قنسرين يوج الجمعة لخمس بَقِينَ من رجب سنة إحدى ومائة، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وقُبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وقبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه الغاية، مُعًظّم يَغْشَاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية، لم يتعرض لنبشه فيما سلف من الزمان كما تعرض لقبور غيره من بني أمية.

وأمه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وقيل: إنهَ قُبض وهو ابن أربعين سنة، وقيل: إحدى وأربعين سنة. وقد تنوزع أيضاً في مقدار مدته في الخلافة، وقد أتينا على المحصَّل من ذلك في باب مقدار المدة من الزمان وما تملكت فيه بنو أمية من الأعوام، فيما يرد من هذا الكتاب.
ذكر لمع من أخباره وسيره وزهده
رضي الله عنه
كيف آلت الخلافة لعمر
لم تكن خلافة عمر في عَهْدٍ تقدم: وكان السبب فيها أن سليمان لما حضرته الوفاة بمرج دابق دعا رجاء بن حَيْوَة ومحمد بن شهاب الزهري ومكحولاً وغيرهم من العلماء ممن كان في عسكره غازياً ونافراً، فكتب وصيته، وأشهدهم عليها، وقال أنا مُتًّ فأذِّنُوا فأذِّنُوا بالصلاة جامعة، ثم أقرؤا هذا الكتاب على الناس، فلما فُرِغ من دَفْنه نودي: الصلاةَ جامعةً، فاجتمع الناس وحضر بنو مروان فاشْرَأبوا للخلافة، وتَشَوَّفُوا نحوها، فقام الزهري فقال: أيها الناس، أرضيتم مَنْ سماه أمير المؤمنين سليمان في وصيته. فقالوا: نعم فقرأ الكتاب فإذا اسم عمر بن عبد العزيز ومِنْ بعده يزيد بن عبد الملك، فقام مكحول فقال: أين عمر بن عبد العزيز. وكان عمر في أواخر الناس، فاسترجع حين دُعِيَ باسمه مرتين أو ثلاثَاَ، فأتاه قوم فأخذوا بيده وعَضُدَيه، فأقاموه، وذهبوا به إلى المنبر فصعد وجلس على المرقاة الثانية، وللمنبر خمس مَرَاقِي، فكان أول من بايعه من الناس يزيد بن عبد الملك، وقام سعيد وهشام فانصرفا. ولم يبايعا، وبايع الناس جميعاً، ثم بايع سعيد وهشام بعد ذلك بيومين.
خلق عمر ودينه
وكان عمر في نهاية النسك والتواضع، فصرف عُمَّال مَنْ كان قبله من بني أمية، واستعمل أصْلَحَ من قدر عليه، فسلك عُمَّاله طريقته، وترك لَعن علي عليه السلام على المنابر، وجعل مكانه ربنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم وقيل: بل جعل مكانه ذلك " إن اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي " الآية، وقيل: بل جعلهما جميعاً، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية.
بين السدي وعمر
ولما استخلف عمر دخل عليه سالم السدي، وكان من خاصته، فقال له عمر: أسًرّكَ ما وَليتُ أم ساءك. فقال: سرني للناس وساءني لك قال: إني أخاف أن أكون قد أوْبَقْتُ نفسي، قال: ما أحْسَنَ حالك إن كنت تخاف، إني أخاف عليك أن لا تخاف، قال: عِظْنِي، قال: أبونا آدم اخرج من الجنة بخطيئة واحدة.
وكتب طاوس إلى عمر: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة.
أول خطبة لعمر
ولما أفضى إليه الأمر كان أولى خطبة خطب الناس بها أن قال: أيها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت وبقيت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله، وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نُضُب المصائب مع كل جَرْعة شَرَق، وفي كل أكلة غَصَص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله.
بين عمر وعامله على المدينة
وكتب إلى عامله بالمدينة أن أقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، فكتب إليه: إن علياً قد وُلدَ له عدة قبائل من قريش ففي أي ولده، فكتب إليه: لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليّ أسود أم بيضاء، إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد عليّ من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تَخَطّتهم حقوقهم، والسلام.
وخطب في بعض مقاماته فقال بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه: أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا إني لست بقاضٍ، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني مُتَّبع، إن الرجل الهارب من الإِمام الظالم ليس بعاصٍ، ولكن الإِمام الظالم هو - العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
تقدير ملك الروم لعمر

وبعث عمر وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، وحَقّ يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسِّرُ عليه، وهو جالس على سرير ملكه، والتاج على رأسه، والبطارقة عن يمينه وشماله، والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوا له، فتلقاهم بجميل، وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غَدٍ أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة، فقال: هل تدرون لماذا دعوتكم. قالوا: لا، قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بَكَوْا، فقال: ألكم تبكون، أو لدينكم، أو له، قالوا: نبكي لأنفسنا ولديننا وله، قال لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم، فإنه قد خرج إلى خيرٍ مما خلف، قد كان يخاف أن يدع طاعة اللّه فلم يكن اللّه ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافة الآخرة، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يُحيى الموتى لظننت أنه يُحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً وظاهراً فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكنى عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدمِهِ فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا.
وصية الأعرج
وكتب عمر إلى أبي حازم المدني الأعرج أن أوصني وأوْجِزْ، فكتب إليه: كأنك يا أمير المؤمنين بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، والسلام.
ووقّعَ إلى عامل من عماله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عَدَ لْتَ، وإما ا عتزلت، والسلام.
زهده بعد الخلافة
وذكر المدائني قال: كان يُشترى لعمر قبل خلافته الحلّة بآلف دينار، فإذا لبسها استخشنها ولم يستحسنها، فلما أتته الخلافة كان يُشترى له قميص بعشرة دراهم فإذا لبسه استلانه.
وخرج مع جماعة من أصحابه فمر بالمقبرة فقال لهم: قِفُوا حتى آتي قبور الأحبةِ فأسلم عليهم، فلما توسَّطها وقف فسلم وتكلم وانصرف إلى أصحابه فقال: ألا تسألوني ماذا قلت لهم وما قيل لي، فقالوا: وماذا قلت يا أمير المؤمنين وما قيل لك. قال: مررت بقبور الأحبة فسلمت عليهم فلم يردوا، ودعوت فلم يجيبوا، فبينا أنا كذلك إذا نوديت: يا عمر، أما تعرفني، أنا الذي غيرت محاسن وجوههم، ومزقت الأكفان عن جلودهم، وقطعت أيديهم، وأبَنْتُ أكفهم عن سواعدهم، ثم بكى حتى كادت نفسه أن تطفأ، فوالله ما مضى بعد ذلك إلا أيام حتى لحق بهم.
وذكر المدائني قال: كنت مطرف إلى عمر: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة، لها يجمع مَنْ لا عقل له، وبها يغتر منْ لا علم له، فكن بها كالمداوي جرحه، واصبر على شدة الدواء، لما تخاف من عاقبة الداء.
بين عمر وعبد له
وذكر بعض الأخباريين أن عمر في عنفوان حداثته جنى عليه عبد له أسود جناية، فبطحه وهمَّ ليضربه، فقال له العبد: يا مولاي، لم تضربني. قال: لأنك جنيت كذا وكذا، قال: فهل جَنَيْتُ أنت جناية قط غضب بها عليك مولاك، قال عمر: نعم، قال: فهل عًجّل عليك العقوبة، قال: اللهم لا، قال العبد: فلم تعجل علي ولم يعجل عليك. فقال له: قم فأنت حرلوجه الله، وكان ذلك سبب توبته.
بين عمر وغلام ورد عليه في وفد الحجاز
وكان عمر يكثر هذا الكلام في دعائه فيقول: يا حليماً لا يَعْجَلُ على مَنْ عصاه.

وذكر جماعة من الأخباريين أن عمر لما ولي الخلافة وفد عليه وفود العرب ووفد عليه وفد الحجاز، فاختار الوفد غلاماً منهم، فقدَموه عليهم ليبدأ بالكلام، فلما ابتدأ الغلام بالكلام وهو أصغر القوم سنآَ قال عمر: مهلاً يا غلام، ليتكلم من هو أسَنُّ منك فهو أولى بالكلام فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريْهِ لسانه وقلبه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظَاَ، وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية، يا أمير المؤمنين، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أسن منك، قال: تكلم يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة قدمنا إليك من بلدنا، نحمد اللّه الذي مَنَّ بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمَّنَنَا اللّه بعدلك مِنْ جورك، فقال: عظنا يا غلام وأوجز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم اللّه عنهم، وطول أملهم، وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنّكَ حلم اللّه عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزلَّ قدمك، فنظر عمر في سن الغلام، فإذا هو قد أتت عليه بِضْعَ عَشْرَةَ سنةً، فأنشأ عمر رحمه الله يقول:
تَعَلّم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّتْ عليه المحافل
قصة جارية عند قاضي المدينة
وقد كان رجل من أهل العراق أتى المدينة في طلب جارية وصفت له قارئة قوَّالة، فسأل عنها فوجدها عند قاضي المدينة، فأتاه وسأله أن يعرضها عليه، فقال: يا عبد اللّه، لقد أبْعَدْتَ الشقّة في طلب هذه الجارية، فما رغبتك فيها، لما رأى من شدة إعجابه بها، قال: إنها تغني فتجيد، فقال القاضي: ما علمت بهذا، فألح عليه في عَرْضها، فعرضت بحضرة مولاها القاضي، فقال لها الفتى: هات، فغنت:
إلى خالد حتى انخْنَ بخالد ... فنعم الفتى يُرْجى ونعم المؤمَّلُ
ففرح القاضي بجاريته وسُر بغنائها، وغشيه من الطرب أمر عظيم حتى أقعدها على فخده، وقال: هات شيئاً بأبي أنت، فغنت:
أروح إلى القصَّاص كل عشية ... أرجِّي ثواب اللَّه في عدَد الخُطا
فزاد الطرب على القاضي، ولم يدر ما يصنع، فأخذ نعله فعلَقَهَا في أذنه، وجثا على ركبتيه، وجعل يأخذ بطرف أذنه والنعل معلقة فيها، وهو يقول: أهدوني إلى البيت الحرام، فإني بَدنة حتى أدْمى أذنه، فلما أمسكت أقبل على الفتى فقال له: يا حبيبي، أنصرف، قد كنا فيها راغبين قبل أن نعلم أنها تقول، فنحن الآن فيها أرغب، فانصرف الفتى، وبلغ ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فقال: قاتله الله لقد استرقّه الطرب، وأمر بصرفه من عمله، فلما صرف قال: نساؤه طوالق لو سمعها عمر لقال اركبوني فإني مطية، فبلغ ذلك عمر فأشخصه وأشخص الجارية، فلما دخلا على عمر قال له: أعِدْ ما قلت، قال: نعم، فأعاد ما قال: فقال للجارية: قولي، فغنت:
كأنْ لم يكن بين ا لْحَجُون إلى الصفا ... إنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكة سامر
بل، نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فما فرغت من هذا الشعر حتى طرب عمر طرباً بيناً، وأقبل يستعيدها، ثلاثاً، وقد بَلّتْ دموعُهُ لحيته، ثم أقبل على القاضي فقال: قد قاربْتَ في يمينك، ارجع إلى عملك راشداً.
بين فتى أموي وجارية لبعض قريش
حدثنا الطوسي والأموي الدمشقي وغيرهما، عن الزبير بن بكار، عن عبد اللّه بن أحمد المديني، قال: كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان، وكان ظريفاً يختلف إلى قَيْنة لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وُجُوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما كان فيهم فتى يَجِدُ بها وَجْدَه، ولا تجد بواحد منهم وَجْدَها بالأموي، فلما أن أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى: أتحسنين أن تقولي:
أحبكُمُ حبا بكل جوارحي ... فهل عندكمِ علم بما لَكُمً عندي

أتجزون بالود المضاعف ... مثله فإن كريماَ مَنْ جَزَى الود بالود
قالت: نعم، وأحسن منه، وقالت:
للذي وَدَّنَا المودَّةُ بالضعف، ... وفَضْلُ البادي به لا يُجَازَى
لو بدا ما بنا لكم ملأ الأر ... ض وأقطار شامها والحجازا
قال: فعجب الفتى من حِذْقها مع حسن جوابها وجودة حفظها فازداد كَلَفَا بها، وقال:
أنت عذر الفتى إذا هتك الستر ... وإن كان يوسفَ المعصوما
فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فاشتراها بعشر حدائق ووهبها له بما يصلحها فأقامت عنده حَوْلاً ثم ماتت، فرثاها، وقضى في حاله تلك نَحْبَه فدفنا معاً، وكان من مَرثَيته لها قولُه:
قد تمنيت جنة الخلد للخلد فادْخِلْتُهَا بلا استئهال
ثم أخرجت إذ تطّمعْتُ بالنعمة منها والموتُ أحمَدُ حال
وقال أشعب الطامع المدني: هذا سيد شهداء أهل الهوى، نحروا على قبره سبعين بَدَنَة، وقال أبو حازم الأعرج المدني: أما محب لله يبلغ هذا.
عمر والخوارج
وقد كان خرج في أيام عمر شوذب الخارجي، وقوي أمره فيمن خرج معه من المحكمة من ربيعة وغيرها، فحدث عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: أرسلني عمر إليهم، وأرسل معي عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان خروجهم بالجزيرة، وكتب عمر معنا إليهم كتابإً، فأتيناهم كتابه ورسالته، فبعثوا معنا رجلين منهم أحدهما من بني شييان والأخر فيه حبشية وهو أحَدُّهما لساناً وعارضة، فقدمنا بهما على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة، فصعدنا إليه إلى غرفة هو فيها ومعه ابنه عبد الملك وكاتبه مُزَاحم، فذكَرنا مكانهما، فقال: فَتَشوهما لئلا يكون معهما حديد، ففعلنا، فلما دخلا قالا: السلام عليك، ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبر إني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا، وما نَقَمتم علينا، فتكلم الذي فيه حبشية فقال: والله ما نقمنا عليك في سيرتك، وإنك تجري بالعدل والإِحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتَنَاه فلست منا ولسنا منك، فقام عمر: وما هو. قال:

رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها المظالم، وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، فتكلم عمر فقال: إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لِدُنْياً، ولكن أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها، وإني سائلكم عن أمور، فباللّه لتصدقنني عنها، أرأيتما أبا بكر وعمر، أليسا من أسلافكم وممن تتولونهما وتشهدون لهما بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أبا بكر حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم و ارتدَّتْ العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري. قال: نعم، قال: فهل علمتم أن عمر حين قام بعد أبي بكر در تلك السبايا إلى أصحابها. قال: نعم، قال: فهل برىء عمر من أبي بكر؟ قالا: لا، قال: أفرأيتم أهل النهروان، أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كَفُّوا أيديهم فلم يسفكوا دماً ولم يخيفوا آمناً ولم يأخذوا مالاً. قالا: نعم، قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع الشيباني وعبد اللّه بن وهب الراسبي وأصحابه استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد اللّه بن حًبّاب بن الأرتِّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صًبّحُوا حيَاً من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يُلقوا الصبيان في قدور الأقِطِ وهي تفور، قالا: قد كان ذلك،. قال: فهل تبرأ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة. قالا: لا، قال: فهل تَبرِّءون أنتم من إحدى الطائفتين، قالا: لا، قال: أرأيتم الدين واحداً أم اثنين. قالا: بل واحداً، قال: فهل يَسَعُكم فيه شيء يعجز عني، قالا: لا، قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر، وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة، وتولى بعضهم بعضاً، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم. أرأيتم لَعْنَ أهل الذنوب فريضةً مفروضةً لا بَدّ منها، فإن كانت كذلك فأخبرني أيها المتكلم متى عَهدُك بلعن فرعون. قال: ما أذكر متى لعنته، قال: ويحك، لم لا تلعن فرعون وهو أخْبَثُ الخلق ويسعني فيما زعمت لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم، ويحكم، إنكم قوم جُهَّال، أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تردُون على الناس ما قَبِلَه منهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، قالا: ما نحن كذلك، قال عمر: بل سوف تقرون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بُعِث إلى الناس وهمِ عَبدَة أوثان فدعاهم إلى خَلْع الأوثان وشهادة أن لا إلهَ إلا اللّه وأن محمداَ رسول اللّه، فمن فعل ذلك حَقَنَ دمه، وأحْرَزَ ماله، ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين، قالا: نعم، قال: أفلستم أنتم تَلْقَوْنَ من يخلع الأوثان ويشهد أن لا إلهَ إلا الله وأن محمداً رسول اللّه فتستحلوا دمه وماله، وتلقون مَنْ ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه، قال الحبشي: ما سمعت كاليوم قَطُّ حُجَّةً أبْيَنَ وأقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنا بريء ممن برىء منك، فقال عمر للشيباني: فأنت ما تقول، قال: ما أحْسَنَ ما قلت، وأبْيَنَ ما وصفت، ولكنني لا افتأت على المسلمين بأمر حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حجتهم، قال: فأنت أعلم، فانصرف، وأقام الحبشي، فأمر له عمر بعطائه، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، ولحق الشيباني بأصحابه فقتل معهم بعد موت عمر رحمه اللّه تعالى.

ولعمر مع الخوارج أخبار غير ما ذكرنا، ومراسلات، ومناظرات، وكذلك لمن سلف من بني أمية وغيرهم من ولاة الأمصار، وقد أتينا على ذكرها وذكر كل من سَمَّتَه الخوارج بأمير المؤمنين وخاطبته بالإِمامة من الأزارقة والأباضية والحمرية والنجدات والخلقية والصفرية وغيرهم من أنواع الحرورية، وذكرنا مواضعهم من الأرض في هذا الوقت مثل مَنْ سكن منهم من بلاد شهرزور وسجستان وإصطخر من بلاد فارس وبلاد كَرْمَان وأذربيجان،و بلاد مكران وجبال عمان وهراة من بلاد خراسان والجزيرة وتاهرت السفلى وغيرها من بقاع الأرض، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وما ذَكَرنا من الرد عليهم في التحكيم، وغير ذلك في كتابنا المترجم بكتاب الانتصار المفرد لفرق الخوارج، وفي كتاب الاستبصار.
بعض شعراء الخوارج
وقد ذكَرنا جماعة من شعرائهم ممن سلف من أئمتهم: من ذلك قول مَصْقَلة بن عتبان الشيباني، وكان من عِلْية الخوارج:
وأبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح إن لم يرع منك قريب
فإنك إن لاتَرْضَ بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
فإن يك منكم كَان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا سويد والبطين وقعنب ... ومنَّا أميرُالمؤمنين شَبيب
غَزَالة ذات النذر منا حميدة ... لها في سهام المسلمين نصيب
ولا صُلْحَ مادامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثَقيفَ خطيبُ
وكذلك ذكرنا أخبار أم شبيب، وما كانت عليه من الاجتهاد في ديانة المحكمة، وفيها يقول الشاعر:
أمُّ شبيب وَلَدَتْ شبيباً ... هل تلد الذئبة إلا ذِيبا
بعض علماء الخوارج
وأخبار علمائهم كاليماني، وله كتب مصنفة في مذاهبهم، وعبد الله بن يزيد الأباضي، وأبى مالك الحضرمي، وقعنب، وغير هؤلاء من علمائهم، وقد كان اليمان بن رباب منعلية علماء الخوارج، وأخوه علي بن رباب من علية علماء الرافضة، هذا مقدَم في أصحابه، وهذا مقدَم في أصحابه، يجتمعان في كل سنة ثلاثة أيام يتناظران فيها، ثم يفترقان، ولا يسلم أحدهما على الاخر ولا يخاطبة، وكذلك كان جعفر بن المبشر من علماء المعتزلة وحُذاقها زهادها، وأخوه حنش بن المبشر من علماء أصحاب الحديث ورؤساء الحشوية بالضد من أخيه جعفر، وطالت بينهما المناظرة والمباغضة والتباين، وآلى كل واحد منهما ألا يخاطب الآخر إلى أن لحق بخالقه، وجعفر بن المبشروجعفربن حرب من علماء البغداديين من المعتزلة، وكان عبد اللّه بن يزيد الأباضي بالكوفة تختلف إليه أصحابه يأخذون منه، وكان خرازاً شريكاً لهشام بن الحكم، وكان هشام مقدّماً في القول بالجسم والقول بالإِمامة على مذهب القطيعية يختلف إليه أصحابه من الرافضة يأخذون عنه، وكلاهما في حانوت واحد، على ما ذكرنا من التضاد في المذهب من التشري والرفض ولم يجر بينهما مُسَابة، ولا خروج عما يوجبه العلم وقضية العقل وموجب الشرع وأحكام النظر والسير.
وذكر أن عبد الله بن يزيد الأباضي قال لهشام بن الحكم في بعض الأيام، تَعْلَم ما بيننا من الموفدة ودوام الشركة، وقد أحببْتُ أن تُنْكِحني ابنتك فاطمة، فقال له هشام: إنها مؤمنة، فأمسك عبد اللّه، ولم يُعَاوده في شيء من ذلك، إلى أن فرَّقَ الموت بينهما.
وكان من أمر هشام مع الرشيد وابن بَرْمَك ما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا.
وذكر عن عمرو بن عُبَيْد أنه يقول: أخذ عمر بن عبد العزيز الخلافة بغير حقها، ولا باستحقاق لها، ثم استحقّها بالعدل حين أخذها.
الفرزدق يرثي عمر
وفي وفاة عمر رضي الله عنه يقول الفرزدق من أبيات يَرْثيه بها:
أقول لًمّا نَعَى النَّاعُون لي عُمَرا ... لقَدْ نَعَيْتُمْ قَوَامَ الحق والدين
قد غيبَ الرَامِسُون اليوم إذْ رَمَسُوا ... بِدَيْرِ سِمْعَان قِسْطَاسَ المَوَازِينِ
لم يُلْهِهِ عمْرَهُ عَيْنٌ يُفَجِّرُهَا ... ولا النخيل ولارَكْضُ البراذين
ولعمررحمة اللّه عليه خطب وأخبار حسان غير ما ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الزهد وغيره، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا، والحمد للّه رب العالمين.

ذكر أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان
ومَلَكَ يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه عمر بن عبد العزيز، وهو يوم الجمعة لخمسٍ بِقين من رجب سنة إحدى ومائة، ويكنى أبا خالد وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربد من أرض البلقاء من أعمال دمشق يوم الجمعة لخمسٍ بَقِين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، فكانت ولايته أربع سنين وشهراً ويومين.
ذكر لمع من أخباره وسيره
وجمل من ما كان في أيامه
حبه سلامة القس
كان الغالِبُ على يزيد بن عبد الملك حُبَ جارية يقال لها سلامة القَسِّ، وكانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فاشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار، فأعجب بها، وغلبت على أمره، وفيها يقول عبد اللّه بن قيس الرقَيَّات :
لقد فتن الدنيا وسلامة القسا ... فلم يتركا للقس عقلاً ولا نفسا
فاحتالت أم سعيد العثمانية جَدَّلُه بشراء جارية يقال لها حَبَابة قد كان في نفس يزيد بن عبد الملك قديماً منها شيء، فغلبت عليه، ووهب سَلاَّمَة لأم سعيد، فَعَذَلَهُ مسلمة بن عبد الملك لما عم الناس من الظلم والجور، باحتجابه وإقباله على الشرب واللهو، وقال له: إنما مات عُمَر أمس، وقد كان من عدله ما قد علمت، فينبغي أن لَظهر للناس العدل، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عُمَّالك في سائر أفعالك وسيرتك، فارتَدَعَ عما كان عليه، فأظهر الإِقلاع والندم، وأقام على ذلك مدة مديدة، فغلظ ذلك على حَبَابة، فبعثت إلى الأحوص الشاعر وَمَعْبد المغني: انظرا ما أنتما صانعان، فقاد الأحوص في أبيات له:
ألا لا تَلُمْهُ اليوم أن يَتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يَتَجلّدَا
إذا كنت لم تعشق ولم تدرما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصّلدِ جَلْمَدَا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنانِ وَفندَا
وغَنَّاه مَعْبد، وأخذته حَبَابة، فلما دخل عليها يزِيِد قالت: يا أمير المؤمنين اسمع مِنِّي صوتاً واحداً ثم افعل ما بَدَا لك، وغنَتْه، فلما فرغ منه جعل يردد قولها:
فما العيش إلا ماتلذوتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشَّنَانِ وَفنداَّ
وعاد بعد ذلك إلى لَهْوِه وَقَصْفِه وَرفَضَ ما كان عليه.
يزيد وحبابة وشعر للفند الزماني
وذكر إسحاق بن إبراهيم المَوْصِلِيُّ قال: حدثني ابن سلام، قال: ذكر يزيد قول الشاعر:
ضَفَحْنَاعن بني ذُهْل ... وَقُلْنَا: القوم إِخْوَانُ
عسى الأيام أن اتَرْجِعْنَ ... قَوْماً كالذي كانوا
فلما صَرَّحَ الشّر ... فَأَمْسى وَهْوَعُرْيَان
مَشَيْنَا مِشْيَة اللّيْثِ ... غَدَا والليث غَضْبَانُ
بِضرْب فِيهِ تَوْهِينٌ ... وَتَخْضِيع وإقران
وَطَعْنًِ كَفَم الزَقِّ ... وَهَى وَالزِّقُّ ملآن
وفي الشر نجاة ... حِينَ لا يُنْجِيك إحْسَانُ
وهو شعر قديم يقال: إنه للفند الزماني في حرب البَسُوس، فقال لحبابة: غنيني به بحياتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا شعر لا أعرف أحداً يغني به إلا الأحول المكي، فقال: نعم، قد كنت سمعت ابن عائشة يعمل فيه ويترك، قالت: إنما أخذه عن فلان بن أبي لهب، وكان حَسَنَ الأداء، فَوَجَّهَ يزيد إلى صاحب مكة: إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان ابن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه واحمله على ما شاء من دَوَابِّ البريد، ففعل، فلما قدم عليه قال: غنّني بشعر الفِنْدِ، فغناه فأجاد وأحسن، وقال: أعدهُ، فأعاده فأجاد وأحسن وأطرب يزيد، فقال له: عَمَّن أخذت هذا الغناء. فقال: يا أمير المؤمنين، أخذته عن أبي، وأخذه أبي عن أبيه، فقال: لو لم تَرِثْ إلا هذا الصوت لكان أبو لهب قد وَرَّثكم خيراً كثيراً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا لهب ماتِ كافراً مؤذياً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أعلم ما تقول، ولكني دخلتني له رقة إذ كان مجيداً للغناء، ووصله وكَساه ورده إلى بلده مكرماً.

وكتب في عهد عمر إلى يزيد: إذا أمكنتك القدرة بالعزة فاذكر قدرة اللّه عليك، وقيل: إن هذا الكلام كتب به عمر إلى بعض عماله، وفيه زيادة - على ما ذكره الزبير بن بكار - وهي: إذا أمكنتك القدرة من ظلم العباد فاذكر قدرة الله عليك بما تأتي إليهم، وأعلم أنك لا تأتي إليهم أمراً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك، وأن اللّه يأخذ للمظلوم من الظالم، ومهما ظلمت من أحد فلا تظلمنَّ من لا ينتصرعليك إلا باللّه تعالى.
موت حبابة وجزع يزيد عليها
واعتلت حبابة فأقام يزيد أياماً لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياماً لا يدفنها جزعاً عليها حتى جيَّفَتْ، فقيل: إن الناس يتحدثون بجزعك، وإن الخلافة تجلُّ عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال:
فإن تَسْلُ عنك النفس أو تدع الهَوَى ... فباليأس تَسْلُو النَّفْسُ لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.
حدث أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسحاق الموصلي، عن أبي الحُويرث الثقفي قال: لما ماتت حَبَابة حزن عليها يزيد بن عبد الملك حزناً شديداً، وضَمَّ إليه جويرية لها كانت تحدثها فكانت تخدمه، فتمثلت الجارية يوماً:
كفى حَزَناً للهائم الصب أن يَرَى ... منازل من يهوى مُعًطّلة فقرا
فبكى حتى كاد أن يموت، ولم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حَبَابة حتى مات.
وكان يزيد ذات يوم في مجلسه وقد غنَّته حبابة وسَلاّمة فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حَبَابة: يا مولاي، فعلى مَنْ تَدعَ الأمة وتدعنا.
وكان أبو حمزة الخارجي إذا ذكَرَ بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبد الملك فقال: أقعد حَبَابة عن يمينه وسَلاَّمة عن يساره، ثم قال: أريد أن أطير، فطار إلى لعنة اللّه وأليم عذابه.
يزيد بن المهلب يخرج على يزيد بن عبد الملك
قال المسعودي: وقد كان يزيد بن المهلَّب بن أبي صًفْرة هرب من سجن عمر بن عبد العزيز، حين أثقل، وذلك في سنة إحدى ومائة، وصار إلى البصرة وعليها عَدِيُّ بن الفَزَاري، فأخذه يزيد بن المهلب، فأوثقه ثم خرج يريد الكوفة مخالفاً على يزيد بن عبد الملك، وحشدت له الأزد أحلافها، وانحاز إليه أهله وخاصته، وعظم أمره، واشتدت شَوْكته فبعث إليه يزيد أخاه مَسْلمة بن عبد الملك، وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، في جيش عظيم، فلما شَارَفَاه رأى يزيد بن المهلب في عسكره اضطرابا، فقال: ما هذا الاضطراب. قيل: جاء مَسْلمة والعباسَ قال: فوالله ما مَسْلمة إلا جرادة صفراء، وما العباس إلا نسطوس بن سطوس، وما أهل الشام إلا طَغَام قد حشدوا ما بين فلاح وزراع ودباغ وسفلة، فأعيروني أكفكم ساعة واحدة تصفعون بها خراطيمهم، فما هي لا غدوة أو روْحَة حتى يحكم اللّه بيننا وبين القوم الظالمين، علي بفرسي، فأتي بفرس أبلق، فركب غير متسلح، فالتقى الجيشان اقتتلوا قتالاً شديداً، وولى أصحاب يزيد عنه، فقتل يزيد في المعركة، وصبر وإخوته أنفسهم، فقتلوا جميعاً، ففي ذلك يقول الشاعر:
كل القبائل بايعوك على الذي ... تَدْعُو إليه طائعين وساروا
حتى إذا حضرا لْوَغَى وجعلتهم ... نُصْبَ الأسنة أسُلَمُوكَ وطاروا
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك وبَعْضُ قتل عارُ
فلما ورد الخبر على يزيد بن عبد الملك استبشر، وأخذ الشعراء جميعاً يهجون آل المهلب، إلا كثيراً، فإنه امتنع من ذلك فقال له يزيد: حَرَّكتك الرحم يا أبا صخر، لأنهم يمانيون، ففي ذلك يقول جرير يمدح يزيد، ويهجو آل المهلب:
يا رُبَّ قوم وقوم حاسدين لكم ... مافيهُم بَدَلٌ منكم ولا حلف
آل المهلّب جَزَّ اللَّه دابرهم ... أمسوا رماداً فلا أصْلٌ ولا طرف
ما نالت الأزد من دعوى مُضِلِّهم ... إلا المعاصم، والأعناق تختطف
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فَقَتًلتهُمْ جنود اللَّه، وانتُسِفوا
وهي طويلة، وفي ذلك يقول جرير أيضاً ليزيد من كلمة:
لقد تركت فلا نَعْدَمْكَ إذ كفروا ... آل المهلب عَظْماً غير مجبور
يا ابن المهلب، إن الناس قد علموا ... أن الخلافة للشُّمِّ المغاوير

صنيع يزيد في آل المهلب
وبعث يزيد هلال بن أحْوَزَ المازني في طلب آل المهلب، وأمره أن لا يلقى منهم من بلغ الحلم إلا ضرب عنقه، فأتبعهم حتى أتى قندابيل من أرض السند وأتى هلال بغلامين من آل المهلب، فقال لأحدهما: أدركت. قال: نعم، ومدَّ عنقه، فكان الآخر أشفق عليه فَعَضَّ شفته لئلا يظهر فضرب عنقه، وأثخن القتل في آل المهلب حتى كاد أن يفتيهم، فذكر أن آل المهلب مكثوا بعد إيقاع هلال بهم عشرين سنة يُولد فيهم الذكور فلا يموت منهم أحد، وفي مدح هلال بن أحْوَزَ وما فعَلَ يقول جرير:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي: لَيْتَ صُبْحك نَوَّرا
أخاف على نفسي ابن أحْوَزَ،إنه ... جلا كل هَمٍّ في النفوس فأسْفَرَا
جعلت بقبر بالحسان ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا
فلم يبق منهم راية تعرفونها ... ولم يبق من آل المهلب عسكرا
وهي أبيات.
بين ابن هبيرة والشعبي وابن سيرين والحسن البصري
وقد كان يزيد بن عبد الملك - حين ولي عمر - بن هبيرة الفزازي العراق، وأضاف إليه خراسان واستقام أمره هنالك - بعث ابن هُبَيْرة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري وعامر بن شرحبيل الشعبي ومحمد بن سيرين، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد بن عبد الملك خليفة اللهّ استخلفه على عباده، وأخذ ميثاقهم بطاعته، وأخذ عَهْدَنا بالسمع والطاعة، وقد وَلإني ما ترون، يكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذه، وأقلده ما تقلّدَه من ذلك، فما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قَوْلاً فيه تقية، فقال عمر: ما تقول يا حسن. فقال الحسن: يا ابن هُبَيْرة خَفِ اللّه في يزيد، ولا تَخَفْ يزيد في اللّه، إن اللّه يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من اللّه، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعَة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة،. إني أحذرك أن تعصي الله، فإنما جعل اللهّ هذا السلطان ناصراً لدين اللهّ وعباده، فلا تتركَنَ دين.اللّه وعباده بسلطان اللّه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وحكي في هذا الخبر أن ابن هبيرة أجازهم، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي: سفسفنا فسفسف لنا.
بين يزيد وأخيه هشام
وذكر أن يزيد بن عبد الملك بلغه أن أخاه هشام بن عبد الملك ينتقصه، ويتمنَّى موته، ويعيب عليه لهوه بالقَيْنات، فكتب إليه يزيد: أما بعد فقد بلغني استثقالك حياتي، واستبطاؤك موتي، ولعمري إنك بعدي لواهي الجناح، أجْذَمُ الكف، وما استوجَبْت منك ما بلغني عنك، فأجابه هشام: أما بعد، فإن أمير المؤمنين متى فَرغ سمعه لقول. أهل الشنآن وأعداء النعم يوشك أن يقدح ذلك في فساد ذات البين، وتقطع الأرحام، وأمير المؤمنين بفضله وما جعله اللهّ أهْلاً له أولى أن يتغمد ذنوب أهْل الذنوب، فأما أنا فمعاذ اللهّ أن أستثقل حياتك أو أستبطىء وفاتك، فكتب إليه يزيد نحن مغتفرون ما كان منك، ومكذِّبون ما بلغنا عنك، فاحفظ وصية عبد الملك إيانا، وقوله لنا في ترك التباغي والتخاذل، وما أمر به وحَضَّ عليه من صلاح ذات البين واجتماع الأهواء، فهوخيرلك، وأمْلَكُ بك، وإني لأكتب إليك وأنا أعلم أنك كما قال الأول :
وإني على أشياء منك تَرِيبني ... قديماً لذوصَفْحٍ على ذاك مُجْمِل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينَكَ، فانظرأي كف تبذل
وإن أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
فلما أتى الكتاب هشاماً ارتحل إليه، فلم يزل في جواره مخافة أهل البغي والسعاية حتى مات يزيد.
وفاة عطاء بن يسار
وممن مات في أيام يزيد بن عبد الملك عطاء بن يَسَار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وذلك في سنة ثلاث ومائة.
موت جماعة من العلماء
وفيها مات مجاهد بن جبر، مولى قيس بن السائب المخزومي، ويكنى أبا الحجاج، وهو ابن أربع وثمانين سنة.

وجابر بن زيد، مولى الأزد، من أهل البصرة، ويكنى أبا الشَّعْثَاء. ويزيد بن الأصم، من أهل الرقة، وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن وَثَّاب الأسدي، مولى بني كنانة كان. وأبو بُردَةَ بن أبي موسى الأشعري، واسمه عامر، كوفي.
وفي سنة أربع ومائة مات وهب بن مُنَبِّه، ويقال: مات سنة عشر ومائة وفي سنة أربع ومائة هذه أيضاً مات طاوس.
وفي سنة خمس ومائة مات عبد اللّه بن جبير، مولى العباس بن عبد المطلب، ويُقال: إنه مولى مولى العباس.
وقيل: إن طاوس بن كَيْسَان - ويكنى أبا عبد الرحمن - مولى بجير الحميري مات بمكة سنة ست ومائة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك.
وفي سنة سبع ومائة مات سليمان بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عَطَاء بن يسار ويكنى أبا أيوب، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، بالمدينة، وقيل: إنه مات في سنة ثمان ومائة.
وفي سنة ثمان ومائة مات القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ومات الحسن بن أبي الحسن البصري، ويكنى أبا سعيد، في سنة عشر ومائة، واسم أبيه يَسَار مولى لامرأة من الأنصار، ومات وله تسع وثمانون سنة وقيل: تسعون سنة، وكان أكبر من محمد بن سيرين، ومات محمد بعده بمائة ليلة في هذه السنة وهو ابن إحدى وثمانين سنة، وقيل: ابن ثمانين.
محمد بن سيرين وإخوته
وكان أولاد سيرين خمسة إخوة: محمد، وسعيد، ويحيى، وخالد، وأنس بن سيرين، وسيرين مولى أنس بن مالك، والخمسة قد رَوَوْا السنن، ونقلت عنهم.
ووجدت أصحاب التواريخ متباينين ومختلفين غير متفقين في وفاة وهب ابن مَنَبِّه، ويكنى أبا عبد اللّه، فمنهم من ذكر وفاته على حسب ماقدَمنا في هذا الباب، ومنهم مَنْ رأى أنه مات سنة عشر ومائة بصنعاء، وكان من الأبناء، وهو ابن تسعين سنة.
وفي سنة خمس عشرة ومائة مات الحكم بن عتبة الكندي، وقيل: إنه مات فيها عَطَاء بن أبي رباح. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة مات أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب الزهريّ، وذكر الواقدي أنه مات سنة أربع وعشرين ومائة.
وليزيد بن عبد الملك أخبار حسان، ولما كان في أيامه من الكوائن والأحداث، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما ذكرنا وفاة من سمينا من أهل العلم ونَقَلَة الآثار وحَمَلَة الأخبار ليكون ذلك زيادة في فاتحة الكتاب، فتكون فوائده عامة، إذ كان الناس في أغراضهم متباينين، وفيما يتيممونه من مآخذ العلم مختلفين، فمنهم طالبُ خَبَر، ومقلد لأثر، ومنهم ذو بحث ونظر، ومنهم صاحب حديث، ومُنقر عن علل، ومُرَاعٍ لوفاة مثل من ذكرنا، فجعلنا فيه لكل في رأي نصيبَاَ، وباللّه التوفيق.
ذكر أيام هشام بن عبد الملك بن مروان
وبويع هشام بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه أخوه يزيد بن عبد الملك، وهو يوم الجمعة بَقِينَ من شوال سنة خمس ومائة، وقُبض يزيد وله يومئذ ثمان وثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة، وتوفي هشام بن عبد الملك بالرُّصَافة من أرض قنسرين يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فكانت ولايته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وإحدى عشرة ليلة.
ذكر لمع من أخباره وسيره
أوصافه وأخلاقه
وكان هشام أحْولَ خشناً فظاً غليضاً، يَجْمَع الأموال، ويعمر الأرض، ويستجيد الخيل، وأقام الحلْبَة فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يُعْرَفْ ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل، واستجاد الكُسَي والفُرَشَ، وعدَدَ الحرب ولأمتها واصطنع الرجال، وقَوَّى الثغور، واتخذ القُنِيّ والبِرَكَ بطريق مكة، وغير ذلك من الآثار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية.
وفي أيامه عُمِل الخز والقُطُف الخز، فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه، ومنعوا ما في أيديهم، فقل الإِفضال، وانقطع الرِّفْدُ، ولم ير زمان أصعب من زمانه.
استشهاد زيد بن علي

وفي أيامه استشهد زيد بن علي بن الحسين بن علي كرم اللّه وجهه، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل بل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقد كان زيد بن علي شَاوَرَ أخاه أبا جعفر بن علي بن الحسين بن علي، فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة، إذ كانوا أهل غَدْر ومَكْر، وقال له: بها قتل جدُّكَ علي، وبها طعن عمك الحسن وبها قتل أبوك الحسين وفيها وفي أعمالها شتمنا أهْلَ البيت، وأخبره بما كان عنده من العلم في مدة ملك بني مروان، وما يتعقبهم من الدولة العباسية، فأبى إلا ما عزم عليه من المطالبة بالحق، فقال له: إني أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوبَ بَكُنَاسة الكوفة وودَّعة أبو جعفر، وأعلمه أنهما لا يلتقيان.
وقد كان زيد دخل على هشام بالرُّصَافَة، فلما مَثَلَ بين يديه لم ير موضعاً يجلس فيه، فجلس حيث انتهى به مجلسه، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه، ولا يصغر دون تقوى اللّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسُكَ في الخلافة، وأنت ابن أمَةٍ، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابً إن أجبتك به، وإن أحببت أمسكت عنه، فقال: بل أجِبْ، قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمَةً لأم إسحاق صلى الله عليهما وسلم، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، فأخرج من صُلْبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:
شَردًهُ الخوف وأ زْرَى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الكفين يشكو الجوى ... تنكثه أطراف مَرْوٍ حِدَاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت خَتْم في رقاب العباد
إن يُحْدِث الله له دولة ... يترك آثارالعدا كالرماد
فمضى عليها إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فحاربه يوسف بن عمر الثقَفِي، فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال، وهو يقول متمثلاً:
أُلذَ الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لا بدَ من واحد ... فَسِيرِي إلى الموت سيراً جميلا
وحال المساء بين الفريقين، فراح زيد مُثْخَناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته، " فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره، فاستخرج النصل، فمات من ساعته، فدفنوه في ساقيه ماء، وجعلوا على قبره! التراب والحشيش، وأجرى الماء على ذلك، وحضر الحجَّامُ مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف متنصحاً، فدلَه على موضع قبره، فاستخرجه يوسف، وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن اصلبهُ عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخَاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أرمَهْدِيّاً على الجذع يصلب
وبَنَى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذَرْوِه في الرياح.
صنيع العباسيين بقبور الأمويين
قال المسعودي: وحكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانىء، قال: خرجت مع عبد اللّه بن علي لنْبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا إلى قبر هشام، فاستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلا خورمة أنفه، فضربه عبد اللّه بن علي ثمانين سوطاً، ثم أحْرَقَه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا صُلْبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين، ثم انتهينا إلى دمشق، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك، فما وَجَدْنا في قبره قليلاً ولا كثيراً، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا فيه إلا عظماً واحداً، ووجدنا مع لحمه خطاً أسود كأنما خط بالرماد في الطول في لحده، ثم اتبعنا قبورهم في جميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.
وإنما ذكرنا هذا الخبر في هذا الموضع لقتل هشام زَيْدَ بن علي، وما نال هشاماً من المُثْلَة بما فعل بسلفه من الإحراق كفعله بزيد بن علي.

وقد ذكر أبو بكر بن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيداً مكث مصلوباً خمسين شهراً عرياناً، فلم ير له أحد عورة، ستراً من اللّه له، وذلك بالكُنَاسة بالكوفة، فلما كان في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك وظهر ابنه يحيى بن زيد بخراسان كتب الوليد إلى عامله بالكوفة: أن أحرق زيداً بخشبته، ففعل ذلك به، وأذرى رماده في الرياح على شاطىء الفرات.
فرق الزيدية من الشيعة
وقد أتينا في كتابنا المقالات، في أصول الديانات على السبب الذي من أجله سميت الزيدية بهذا الاسم، وأن ذلك بخروجهم مع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، هذا، وقد قيل غير ذلك مما قد أتينا عليه فيما سلف من كتبنا، والخلاف بين الزيدية والإمامية، والفرق بين هذين المذهبين، وكذلك غيرهم من فرق الشيعة وغيرهم وقد ذكر جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوَرَّاق وغيره، أن الزيدية كانت في عصرهم ثماني فرق: أولها الفرقة المعروفة بالجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي، وذهبوا إلى أن الإمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين، دون غيرهما، ثم الفرقة الثانية المعروفة بالمرئية، ثم الفرقة الثالثة المعروفة بالأبرقية، ثم الفرقة الرابعة المعروفة باليعقوبية، وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي، ثم الفرقة الخامسة المعروفة بالعقبيَّة، ثم الفرقة السادسة المعروفة بالأبترية، وهم أصحاب كثير الأبتر والحسن بن صالح بن يحيى، ثم الفرقة السابعة المعروفة بالجريرية، وهم أصحاب سليمان بن جرير، ثم الفرقة الثامنة المعروفة باليمانية، وهم أصحاب محمد بن اليمان الكوفي، وقد زاد هؤلاء في المذهب، وفَرعُوا مذاهب على ما سلف من أصولهم، وكذلك فرق أهل الإِمامة فكانوا على ما ذَكَرَ مَنْ سلف من أصحاب الكتب ثلاثاً وثلاثين فرقة، وقد ذكرنا تنازع القطيعية بعد مضي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وما قالت الكيسانية، وما تباينت فيه وغيرها من سائر طوائف الشيعة، وهم ثلاث وسبعون فرقة، دون ما تباينوا فيه من التفريع، وتنازعوا فيه من التأويل، والغُلاَة أيضاً ثمان فرق: المحمدية منهم أربع، والمعتزلة أربع، وهم العلوية، ولولا أن كتابنا هذا كتاب خبر لبسطنا من مذاهبهم ووصفنا من آرائهم ما تقدم قبلنا وحَدَثَ في وقتنا هذا، وما قالوه من دلائل ظهور المنتظر الموعود بظهوره، وما ذهب إليه كل فريق منهم في ذلك من أصحاب الدور والسرو والتشريق، وغيرهم من أهل الإِمامة.
بين هشام ورجل من أهل حمص
وعرض هشام يوماً الجند بحمص، فمربه رجل من أهل حمص على فرس نَفَور، فقال له هشام: ما حملك على أن تربط فرساً نفورا، فقال الحمصي: لا والرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما هو بنَفور، ولكنه أبصر حَولتك فظن أنها عين غزوَان البيطار، فقال له هشام: تنخَ فعليك وعلى فرسك لعنة اللّه، وكان عزوان البيطار نصرانياً ببلاد حمص كأنه هشام في حولته وكشفته.
هشام والأبرش الكلبي وجارية من جواري هشام
وبينما هشام ذات يوم جالساً خالياً وعنده الأبرش الكلبي إذ طلعت وصيفة لهشام عليها حُلّة، فقال للأبرش: مازحها، فقال لها الأبرش هَبي لي حُلّتك، فقالت له: لأنت أطمع من أشْعَب، فقال لها هشام: ومن أشعب؟ فقالت: كان مضحكاً بالمدينة، وحدثته بعض أحاديثه، فضحك هشام، وقال: اكتبوا إلى إبراهيم بن هشام وكان عامله على المدينة في حَمْله إلينا، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلاً، ثم قال: يا أبرش، هشام يكتب إلى بلد رسول صلى الله عليه وسلم ليحمل إليه منه مضحك؟ لاها اللّه، ثم تمثل:
إذا أنت طَاوَعْتَ الهوى قَادكَ الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وأوقف الكتاب.
أمثلة من بخل هشام
وذكر أن هشاماً أهدى له رجل طائرين، فأعجب بهما، فقال له الرجل: جائزتي يا أمير المؤمنين، قال ويلك وما جائزة طائرين؟ قال له: ما شئت، قال: خذ أحدهما، فقصد الرجل لأحسنهما فأخذه، فقال له هشام: وتختار أيضاً؟ قال: نعم واللّه أختار، فقال: دَعْه، وأمر له بدريهمات.

ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماؤه فطافوا به، وبه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون ويقولوَن: بارك اللهّ لأمير المؤمنين، فقال: وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه؟! ثم قال: أدع قيمه، فدعا به، فقال له: اقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل منه أحد شيئاً.
وكتب إليه ابنه سليمان: إن بَغْلَتِي قد عجزت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة، فكتب إليه هشام: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظن أن ذلك من قلّة تعاهدك لعلفها. وضياع العلف، فقم عليها بنفسك، ولعلَّ أمير المؤمنين يرى رأيه في حملانك.
ونظر هشام إلى رجل على برذَوْن طخاري، فقال: من أين لك هذا؟ قال: حَمَلَنِي عليه الجنيد بن عبد الرحمن، قال: وقد كثرت الطخارية حتى ركبها العامة؟ لقد مات عبد الملك وفي مربطه برذون واحد طخاري، فتنافس فيه ولده، حتى ظن مَنْ فاته أن الخلافة فاتته، قال الرجل: فحسدني إياه.
وقد كان أخوه مسلمة مازحة قبل أن يلي الأمر، فقال له: يا هشام، أتؤمل الخلافة وأنتَ جبان بخيل! فقال: واللّه إني عليم حليم.
السواس من بني أمية: وذكر الهيثم بن عديّ والمدائني وغيرهما أن السُّوَاس من بني أمية ثلاثة: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وختمت به أبواب السياسة وحسن السيرة، وأن المنصور كان في أكثر أموره وتدبيره وسياسته متبعاً لهشام بن عبد الملك في أفعاله، لكثرة ما كشفه عن أخبار هشام وسيره.
وقد أتينا على غُرَرِ أخباره وسيره وسياسته، وما حفظ من أشعاره وخطبه، وما كان في أيامه، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وكذلك ذكرنا بَدء الكلام الذي أثار تصنيف الكتاب، المعروف بكتاب الواحدة في مناقب العرب ومَثَالبها مفرعة لا يشاركها فيها غيرها، وما أضيف إلى كل حي من أحياء العرب من قَحْطَان وغيرهم من نِزَار، وما جرى في مجلس هشام في أوقات مختلفة بين الأبْرَش الكلبي والعباس بن الوليد بن عبد الملك وخالد بن مَسْلَمة المخزومي والنضر بن مريم الحميري، وما أورده الحميري من منَاقب قومه من حِمْيَر وكَهْلاَن، وما أورده المخزومي من مَنَاقب قومه من نزار بن معد بن عدنان، وما ذكره كل واحد منهم من المَثَالبِ فيما عدا قومه، وبان عن عشيرته ورَهْطه، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألفه أبو عبيدة معمر بن المُثَنَّى مولى آل تَيْم بن مرة بن كعب بن لُؤَيّ، على لسان مَنْ ذكرنا، وعزاه إلى من وصفنا، أو غيره من الشعوبيه.
ذكر أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك
بن مروان
وبويع الوليد بن يزيد في اليوم الذي توفي فيه هشام، وهو يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، ثم قُتل بالبخراء يوم الخميس لليلتين بَقِيَتا من شهر جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً، وقُتل وهو ابن أربعين سنة، والموضع الذي قُتل فيه دُفن فيه، وهي قرية من قرى دمشق تعرف بالبخراء، على ما ذكرنا، وقد أتينا على خبر مقتله في كتابنا الأوسط.
ذكر لمع من أخباره وسيره
ظهور يحيى بن زيد ومقتله
ظهر في أيام الوليد بن يزيد: يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رض الله عنهم، بالجوزجان من بلاد خراسان، مُنْكِراَ للظلم وما عَئمَ الناسَ من الجور، فسير إليه نَصْرُ بن سيار سَلْمَ بن أحْوَزَ المازني، فقتل يحيى في المعركة بقرية يقال لها أرعونة، ودفن هنالك، وقبره مشهور مَزُورٌ إلى هذه الغاية، وليحيى وقائع كثيرة، وقتل في المعركة بسهم أصابه في صُدْغه، فولّى أصحابه عنه يومئذ، واحتُزً رأسه، فحمل إلى الوليد، وصلب جسده بالجوزجان، فلم يزل مصلوباً إلى أن أخرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية، فقتل أبو مسلم سَلْم بن أحوز، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها في جماعة أصحابه ودفنت هناك، وأظهر أهل خراسان الذياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أمية، ولم يُولَدْ في تلك السنة بخراسان مولود إلا وسمي بيحيى أو بزيْدٍ، لما داخل أهل خراسان من الجزع والحزن عليه.
وكان ظهور يحيى فىِ أخر سنة خمس وعشرين، وقيل: في أول سنة ست وعشرين ومائة، وقد أتينا على أخباره وما كان من حروبه في الكتاب الأوسط، وفي غيره مما سلف من كتبنا، فأغنى ذلك عن إعادته.

وكان يحيى يوم قتل يكثر من التمثل بشعر الخنساء:
نهِينُ النفوس، وَهون النفو ... س يوم الكريهة أوفر لها
لهو الوليد وخلاعته
وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حَمَلَ المغنين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي وَالعَزْف، وفي أيامه كان ابن سُرَيج المغني، وَمَعْبَد، وَالغَريض، وابن عائشة، وابن مُحْرز، وَطُويَس، ودحمان، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه، وعلى الخاص والعام، واتخذ القِيَان، وكان متهتكاً ماجناً خليعاً، وطرب الوليد لليلتين خلتا من ملكه وأرق فأنشأ يقول:
طَال لَيْلِي وَبِتُّ أسقَى السُّلاَفَه ... وأتاني نَعِيُ مَنْ بِالرُّصَافَةْ
وأتاني ببردة وقضيب ... وأتاني بخاتم لِلْخِلافَه
ومن مجونه قوله عند وفاة هشام، وقد أتاه البشير بذلك، وسَلّم عليه بالخلافة، فقال:
إني سمعت، خليلي، ... نحو الرُّصَافة رَنَهْ
أقبلت أسْحَبُ ذَيلِي ... أقول: ما حَالهنه
إذا بنات هشام ... يَنْدُبْنَ وَالدَهنه
يدعون ويلاً وَعَوْلأ ... وَالوَيْلُ حَلَّ بِهنه
أنا المُخَنَثُ حَقّاً ... إن لم أنيكنهنه
وقيل للوليد: ما بقي من لذاتك؟ قال: محادثة الإِخوان في الليالي القُمْر، على الكثبان العَفْر.
الوليد وشراعة بن زيد
وبلغ الوليد عن شراعة بن زيد ورود حسن عشرة وحلاوة مجالسة، فبعث في إحضِاره، فلما أدخل إليه قال: إني ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب ولا سُنَة، قال: ولست من أهلهما، قال: إنما أسألك عن القهوة، قال: سل عن أي ذلك شئت يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول في الشراب؟ قال: عن أية تسأل؟ قال: ما تقول في الماء؟ قال: يشاركني فيه البغل والحمار، قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: خُمَار وَأذىَ، قال: فنبيذ التمر؟ قال: ضُراط كله، قال: فالخمر؟ قال: شقيقة روحي، وأليفه نفسي، قال: فما تقول في السًمَاع؟ قال: يبعث مع التأني على ذكر الأشجان، ويجدِّدُ اللهو على مواقع الأحزان، ويؤنس الخليَ الوحيد، ويَسرُّ العاشق الفريد، ويبرد غليل القلوب، ويثير من خواطر الضمائر خطرة ليست من الملاهي لغيره، يسرع ترقيها في أجزاء الجسد، فتهيج النفس، وتقوي الحس، قال: فأي المجالس أحب إليك؟ قال: ما رأيت فيه السماء من غير أن ينالني فيه أذى، قال: فما تقول في الطعام؟ قال: ليس لصاحب الطعام اختيار ما وجده أكله، فاتخذه الوليد نديماً.
من قوله في الشراب
ومن مليح قوله في الشراب من أبيات:
وَصَفْرَاءَ في الكأس كالزعْفَرَان ... سَبَاهَا لنا التَجْرُمِنْ عسقَلاَن
تُرِيك القَذَاةَ وعرض الإنا ... ء سَتْرٌ لها دون مسَ البَنَان
لها حَبَبٌ كلما صُفِّقَت ... تراها كلمعة بَرْقٍ يماني
ومن مجونه أيضاً على شرابه قوله لساقيه:
آسْقِنِي يا يزيد بالقرقاره ... قَدْ طَرِبْنَا وَحَنَت الزمَارَه
اسقني اسقني، فإن ذنوبي ... قد أحاطت فما لها كَفَّارَه
سمير الوليد يتحدث عنه
وأخبَرَنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، عن محمد بن سلام الجمحي، قال: حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن أبيه، قال: كنت سميراً للوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له: غنني، فغناه:
إني رأيت صبيحة النَحْر ... حُوراً نَفَيْنَ عزيمة الصَّبْر
مثل الكواكب في مطالعها ... عند العشاء أطَفْنَ بالبدْر
وخرجت أبْغِي الأجر محتَسِباً ... فرجعت مَوْقُوراً من الوزْر

فقال له الوليد: أحسنت واللّه يا أميري، أعِدْ بحقِّ عبدِ شمس، فأعاد، فقال: أحسنت واللّه، بحق أمية أعد، فأعاد، فجعل يتخطىّ من أب إلى أب ويأمره بالإِعادة، حتى بلغ نَفْسَه، فقال: أعد بحياتي، فأعاد، فقام إلى ابن عائشة فأكَبَّ عليه ولم يُبْق عضواً من أعضائه إلا قَبَّله، وأهْوَى إلى أيره يقبله، فجعل ابن عائشة يضم ذكره بين فخذيه، فقال الوليد: واللّه لا زلت حتى أقَبِّلَهُ، فأبرأه فقبل رأسه وقال: واطرباه واطرباه، ونزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقى مجرداً إلى أن أتوه بثياب غيرها، ودعا له بألف دينار فدفعت إليه، وحمله على بغلة له وقال: اركبها على بساطي، وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغَضَى.
ورث الوليد الخلاعة عن يزيد أبيه
قال المسعودي: وقد كان ابن عائشة عَنَى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك أباهُ فأطربه، وقيل: إنه ألحد وكفر في طربه، وكان فيما قال لساقيه: اسقنا بالسماء الرابعة، فكأن الوليد بن يزيد قد ورث الطرب في هذا الشعر عن أبيه، والشعر لرجل من قريش، والغناء لابن سريج، وقيل: لمالك، على حسب ما في كتب الأغاني من الخلاف في ذلك مما ذكره إسحاق بن إبراهيم الموصلي في كتابه في الأغاني وإبراهيم بن المهدي المعروف بابن شَكْلة في كتابه في الأغاني أيضاً، وغيرهما ممن صنف في هذا المعنى، والوليد يُدْعَى خليع بني مروان.
فعله بالمصحف وقد استفتح به
وقرأ ذات يوم ماله " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد " فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب، وأقبل يرميه وهو يقول:
أتُوعِدُ كلُّ جبار عنيد ... فها أنَا ذاك جبار عنيد
إذا ماجِئْتَ ربك يوم حَشْر ... فَقُلْ يارب خَرَّقَنِي الوليد
وذكر محمد بن يزيد المبرد النحوي أن الوليد ألحد في شِعْرٍ له ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأن الوحي لم يأته عن ربه، كَذَبَ أخزاه اللّه!! من ذلك الشعر:
تلعبَ بالخلافة هاشمي ... بلاوَحْيٍ أتاه ولا كتاب
فقل للَّهِ يمنعني طعامي، ... وقل للَّهِ يمنعنى شرابي!
فلم يُمْهَلْ بعد قوله هذا إلا أياماً حتى قتل.
وأم الوليد بن يزيد: أًم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثَّقَفِيَّة، ويكنى أبا العباس.
من خواص اليشب
وقد كان حمل إليه جفنة من البلور وقيل: من الحجر المعروف باليشسب وقد ذهب جماعة من الفلاسفة إلى أن مَنْ شَرِبَ فيه الخمر لا يسكر، وقد ذكرنا خاصية ذلك في كتاب القضايا والتجارب وأن من وضع تحت رأسه منه قطعةً أو كان فص خاتمه منه لم ير إلا رؤياً حسنة، فأمر الوليد فملئت خمراً وطلع القمر وهو يشرب وندماؤه معه، فقال: أين القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في البرج الفلإني، فقال له آخر منهم: بل هو في الجفنة وقد كان القمر تبين في شعاع الجوهر وصورته في ذلك الشراب فقال له الوليد: واللّهِ ما تَعَدَّيت ما في نفسي، وطرب طرباً شديداً، وقال: لأصطبحَنَّ، هفت هفته، وهذا كلام فارسي تفسيره لأصطبحن سبعة أسابيِع، فدخل عليه بعض حجابه فقال: يا أمير المؤمنين، إن بالباب جمعاَ من وفود العرب وغيرهم من قريش، والخلافة تجلُّ عن هذه المنزلة، وتبعد عن هذه الحال، فقال: آسقوه، فأبى، فوضع في فمه قمح وجعلوا يسقونه حتى خَرِّما يعقل سكراً.
وقد كان أبوه أراد أن يعهد إليه، فلاستصغاره لسنه عهد إلى أخيه هشام، ثم إلى الوليد من بعده.
وكان الوليد مُغْرىً بالخيل وحبها وجمعها، وإقامة الحَلْبة، وكان السندي فرسه جواد زمانه، وكان يسابق به في أيام هشام، وكان يقصر عن فرس هشام المعروف بالزائد، وربما ضَامَّه، وربما جاء مُصَلِّياً.
مراتب خيل الحلبة
وهاك مراتب السوابق من الخيل إذا جَرَتْ، فأولُها السابقُ، ثم المصَلّي، وذلك أن رأسه عند صَلاَ السابق، ثم الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، والعاشر السُّكَّيت، مشحد، وما جاء بعد ذلك لم يعتد به، والفسكل: الذي يجيء في الحَلبة آخِرَ الخيل.
وأجرى الوليد الخيل بالرصافة، وأقام الحَلبة، وهي يومئذ ألفُ قارِح، ووقف بها ينتظر الزائد، ومعه سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وكان له فيها جواد يُقال له المصباح، فلما طلعت الخيل قال الوليد:

خَيْلِي وَرَبِّ الكَعبة المحرمه ... سبقْنَ أفرَاس الرِّجَال اللُّوَّمَه
كمَا سبقناهم وَحُزنا المكْرُمَه
كذاك كُنَّا في الدُّهُور القدمه ... أهل العُلاَ والرتب المعظّمَه
فأقبل فرس ابن الوليد ويقال له: الوضاح أمام الخيل فلما دنا صرع فارسه، وأقبل المصباح فرسُ سعيدٍ يتلوه وعليه فارسه، وهو فيما يرى سعيد يعد سابقاً، فقال سعيد والوليد يسمع:
نحن سبقنا اليوم خيل اللُّوَّمَه ... وَصَرَفَ اللَّه إلينا المكُرُمَه
كذاك كُنَا في الدُّهُورِ القدمه ... أهل العًلاَ والرًّتَب المعظمة
فضحك الوليد لما سمعه، وخشي أن تسبق فرس سعيد، فركض فرسَهُ حتى ساوى الوضاح، فقذف بنفسه عليه، ودخل سابقاً، فكان الوليد أول من فعل ذلك وَسَنَّه في الحلبة، ثم تلاه في الفعل كذلك المهديّ في أيام المنصور، والهادي في أيام المهدي، ثم عرضت على الوليد الخيل في الحَلَبة الثانية، فمرّ به فرس لسعيد، فقال: لا نسابقك يا أبا عنبسة، وأنت القائل:
نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيل اللومه
فقال سعيد: ليس كذا قلت يا أمير المؤمنين، وإنما قلت:
نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيلا لومه
فضحك الوليد، وضمه إلى نفسه، وقال: لا عدمَتْ قريش أخاً مثلك.
وللوليد بن يزيد أخبار حسان في جمعه الخيولَ في الحلْبَة، فإنه اجتمع له في الحلبة ألف قارع، وجمع بين الفرس المعروف بالزائد والفرس المعروف بالسندي، وكانا قد برزا في الجري على خيول زمانهما، وقد ذكر ذلك جماعة من الأخباريين وأصحاب التواريخ، مثل ابن عفير والأصمعي وأبي عبيدة وجعفر بن سليمان، وقد أتينا على الغُرَر من أخباره في أخبار الخيل، وأخبار الحَلْبَات، وخبر الفرس المعروف بالزائد والسندي وأشقر مروان، وغير ذلك من أخبار من سلف من الأمويين، ومن تأخر، في كتابنا المترجم بالأوسط، وإنما الغرض من هذا الكتاب إيراده جوامع تاريخهم، ولُمَع من أخبارهم وسيرهم، وكذلك أتينا على ذكر ما يستحب من معرفة خلق الخيل وصفاتها من سائر أعضائها وعيوبها وخلقها، والشاب منها والهرم، ووصف ألوانها ودوائرها، وما يستحسن من ذلك، ومقادير أعمارها، ومنتهى بقائها، وتنازع الناس في أعداد هذه الدوائر، والمحودة منها والمذمومة، وَمَنْ رأى أنها ثماني عَشَرَةَ أو أقل من ذلك أو أكثر على حسب ما أدرك من طرق العادات بها والتجارب، ووصف السوابق من الخيل، وغير ذلك مما تكلم الناس به في شأنها وأعرافها، فيما سلف من كتبنا.
وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين
وفي أيام الوليد بن يزيد كانت وفاة أبي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد تنوزع في ذلك: فمن الناس من رأى أن وفاته كانت في أيام هشام، وذلك سنة سبعَ عشرةَ ومائة، ومن الناس من رأى أنه مات في أيام يزيد بن عبد الملك، وهو ابن سبع وخمسين سنة، بالمدينة، ودُفن بالبقيع مع أبيه علي بن الحنسين، وغيره مِنْ سَلَفِه رضي الله عنهم، مما سنورد ذكرهم فيما يرد من هذاالكتاب إن شاء اللّه تعالى، واللهّ ولي التوفيق.
ذكر أيام يزيد وإبراهيم ابني الوليد
ابن عبد الملك بن مروان
ولي يزيد بن الوليد بدمشق ليلة الجمعة لسبع بَقِين من جمادي الآخرة، فبايعه الناس بعد قتل الوليد بن يزيد، وتوفي يزيد بن الوليد بدمشق يوم الأحد هلال ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته من مقتل الوليد بن يزيد إلى أن مات خمسة أشهر وليلتين، وقد كان إبراهيم بن الوليد أخوه قام بالأمر من بعده، فبايعه الناس بدمشق أربعة أشهر، وقيل: شهرين، ثم خُلِعَ، وكانت أيامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط، واختلاف الكلمة، وسقوط الهيبة، وفيه يقول بعض أهل ذلك العصر:
نبايع إبراهيم في كلِّ جمعة ... إلا إن أمْراً أنت وَإليه ضائع
ودُفن يزيد بن الوليد بدمشق بين باب الجابية وباب الصغير، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ويقال: ابن ست وأربعين سنة على الخلاف في ذلك.
ذكرلمع مما كان في أيامهما
وصف يزيد الناقص

كان يزيد بن الوليد أحْوَلَ، وكان يلقب بيزيد الناقص، ولم يكن ناقصاً في جسمه ولا عَقْله، وإنما نَقصَ بعض الجندِ من أرزاقهم، فقالوا: يزيد الناقص، وكان يذهب إلى قول المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة: من التوحيد، والعدل، والوعيد، والأسماء والأحكام وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قول المعتزلة في التوحيد
وتفسير قولهم فيما ذهبوا إليه من الباب الأول وهو باب التوحيد وهو ما اجتمعت عليه المعتزلة من البصريين والبغداديين وغيرهم، وإن كانوا في غير ذلك من فروعهم متباينين، من أن اللّه عز وجل لا كالأشياء وأنه ليس بجسم ولاعَرَضٍ ولاعنصر ولاجزء ولاجوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وأن شيئاً من الحواس لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حَدّ، وأنه الخالق للأشياء المُبْدِع لها لا من شيء، وأنه القديم، وأن ما سواه محدث.
قولهم في العدل
وأما القول بالعدل وهو الأصل الثاني فهو أن اللهّ لا يحبُّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به وَنُهُوا عنه بالقدرة التي جعلها اللّه لهم وركبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد، ولم ينه إلا عما كره، وأنه وليُّ كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم مالا يطيقونه، ولا أراد منهم مالا يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قَبْض ولا بَسْط إلا بقدرة اللّه التي أعطاهم إياها. وهو المالك لها دونهم يُفْنِيها إذا شَاءَ، وَيُبْقِيها إذا شَاءَ، ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطرارياً عن معصيته، ولكان على ذلك قادراً، غير أنه لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة البلوى.
قولهم في الوعيد
أما القول بالوعيد وهو الأصل الثالث فهو أن الله لا يغفر لمرتكب الكبائر إلا بالتوبة، وإنه لصادق في وعده ووعيده، لا مُبَدِّلَ لكلماته.
قولهم في المنزلة بين المنزلتين
وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع فهو أن الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمى فاسقاَ، على حسب ما ورد التوقيف بتسميته، وأجمع أهل الصلاة على فسوقه.
قال المسعودي: وبهذا الباب سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام، مع ما تقدم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار.
قولهم في الأمر بالمعروف
وأما القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس فهو أن ما ذكر على سائر المؤمنين واجب، على حسب استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق.
فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة، ومن أعتقد ما ذكرنا من هذه الأصول الخمسة كان معتزلياً، فإن اعتقد الأكثر أو الأقل لم يستحق اسم الاعتزال، فلا يستحقه إلا باعتقاد هذه الأصول الخمسة، وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم.
الاختلاف في الإِمامة
وقد أتينا على سائر قولهم في أصولهم وفروعهم وأقاويلهم وأقاويل غيرهم من فرق الأمة من الخوارج والمرجئة والرافضة والزيدية والحشوية وغيرهم في كتابنا المقالات في أصول الديانات وأفردنا بذلك كتابنا المترجم بكتاب الإبانة اجتبيناه لأنفسنا، وذكرنا فيه الفرق بين المعتزلة وأهل الإمامة، ومابان به كل فريق منهم عن الآخرة إذ كانت المعتزلة وغيرها من الطوائف تذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة، وذلك أن الله عز وجل لم ينص على رجل بعينه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم و لا اجتمع المسلمون عندهم على رجل بعينه، وأن اختيار ذلك مفوَّضُ إلى الأمة تختار رجلاً منها ينفِّذُ فيها أحكامه، سواء كان قرشياً أو غيره من أهل ملّة الإسلام وأهل العدالة والإِيمان، ولم يراعوا في ذلك النّسَبَ ولا غيره، وواجب على أهل كل عصر أن يفعلوا ذلك.
والذي ذهب إلى أن الإِمامة قد تجوز في قريش وغيرهم من الناس هو المعتزلة بأسرها، وجماعة من الزيدية مثل الحسن بن صالح بن يحيى، ومن قال بقوله، على حسب ما قدمنا من ذكرهم فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار هشام.

ويوافق على هذا القول جميع الخوارج من الأباضية وغيرهم، إلا النجدات من فرق الخوارج، فزعموا أن الإمامة غير واجب نصبها، ووافقهم على هذا القول أناس من المعتزلة ممن تقدم وتأخّر، إلا أنهم قالوا: إن عدلت الأُمة ولم يكن فيها فاسق لم يحتج إلى إمام.
وذهب من قال بهذا القول إلى دلائل ذكروها منها قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: لو أن سالماً حَيٌّ دخلتني فيه الظنون، وذلك حين فَوضَ الأمر إلى أهل الشُورَى، قالوا: وسالم مولى أمرأة من الأنصار، فلو لم يعلم عمر أن الإِمامة جائزة في سائر المؤمنين لم يطلق هذا القول، ولم يتأسف على موت سالم مولى أبي حذيفة.
قالوا: وقد صح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة، منها قوله " اسمعوا واطيعوا ولو لعبد أجْدَعَ " وقد قال اللّه عزّ وجلّ: " إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم " .
وذهب أبو حنيفة، وأكثر المرجئة، وأكثر الزيدية من الجارودية وغيرها، وسائر فرق الشيعة والرافضة والراوندية، إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش فقط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الإمامة في قريش " وقوله عليه السلام: " قَدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها " ولما احتج المهاجرون به على الأنصاو يوم ثقيفة بني ساعدة من أن الإمامة في قريش لأنهم إذا ولوا عدلوا، ولرجوع كثير من الأنصار إلى ذلك.
ولما انفرد به أهل الإِمامة من أن الإِمامة لا تكون إلا نصاً من اللهّ ورسوله على عَيْنِ الإمام واسمه واشتهاره كذلك، وفي سائر الأعصار لا تخلو الناس من حجةٍ للّه فيهم ظاهراً أو باطناً، على حسب استعمالة التقية والخوف على نفسه، واستدلوا بالنص على الإمامة، وبدلائل كثيرة من العقول وجوامع من النصوص في وجوبها، وفي النص عليهم، وفي عصمتهم، من ذلك قوله عز وجل مخبراً عن إبراهيم: " إني جاعلك للناس إماما " ومسالة إبراهيم بقوله: " ومن ذريتي " و إجابة اللهّ له بأنه " لا ينال عهدي الظالمين " .
قالوا: ففيما تلونا دلائل على أن الإمامة نص من اللّه، ولو كان نصها إلى الناس ما كان لمسألة إبراهيم ربه وجه، ولما كان اللة قد أعلمه أنه اختاره، وقوله " لا ينال عهدى الظالمين " دلالة على أن عهده يناله من ليس بظالم.
ووصف هؤلاء الإمام فقالوا: نعت الإمام في نفسه: أن يكَون معصوماً من الذنوب، لأنه إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما يدخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج أن يقام عليه الحد، كما يقيمه هو على غيره، فيحتاج الإِمام إلى إمام، إلى غير نهاية، ولم يؤمن عليه أيضاً أن يكون في الباطن فاسقاً فاجراً كافراً، وأن يكون أعلم الخليقة، لأنه إن لم يكن عالماً لم يؤمن عليه أن يقلب شرائع اللهّ وأحكامه، فيقطع من يجب عليه الحد، ويحد من يجب عليه القطع، ويضع الأحكام في غير المواضع التي وضعها اللهّ، وأن يكون أَشْجَعَ الخلق، لأنهم يرجعون إليه في الحرب، فإن جبن وهرب يكون قد باء بغضب من اللّه، وأن يكون أسْخَى الخلق، لأنه خازن المسلمين وأمينهم، فإن لم يكن سخياً تاقت نفسه إلى أموالهم، وشَرِهَتْ إلى ما في أيديهم، وفي ذلك الوعيد الشديد بالنار، وذكروا خصالاً كثيرة ينال بها أعلى درجات الفضل لا يشاركه فيما أحد، وأن ذلك كله وجد في علي بن أبي طالب وولده رضي اللهّ عنهم من السبق إلى الإِيمان، والهجرة، والقرابة، والحكم بالعدل، والجهاد في سبيل اللّه، والورع، والزهد، وأن اللّه قد أخبر عن بواطنهم وموافقتها لظواهرهم بقوله عز وجل، ووصفه لهم فيما صنعوه من الإِطعام للمسكين واليتيم والأسير، وأن ذلك لوجهه تعالى خالصاً، لا أنهم أبْدَوه بألسنتهم فقط وأخبر عن أمرهم في المنقلَبِ، وحسن المَوئل في المحشر، ثم إخباره عز وجل عما أذهب عنهم من الرجس، وفعل بهم من التطهير، وغير ذلك مما أوردوه دلائل لما قالوه، وأن علياً نص على ابنه الحسن، ثم الحسين، والحسين على علي بن الحسين، وكذلك مَنْ بعده إلى صاحب الوقت الثاني عشر، على حسب ما ذكرنا وسمينا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.
ولأهل الإِمامة من فرق الشيعة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - كلام كثير في الغيبة واستعمال التقية، وما يذكرونه من أبواب الأئمة والأوصياء، لا يسعنا إيراده في هذا الكتاب، إذ كان كتاب خبر، وإنما تغلغل بنا الكلام إلى إيراد لمع من هذه المذاهب والآراء.

وكذلك ما عليه غير أهل الإِمامة من أصحاب الدور والسيرورة، وما يراعونه من الظهور، وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا، وما وصفنا فيها من الأقاويل في الظاهر والباطن والسائر والدائر والوافر، وغير ذلك من أمورهم وأسرارهم.
قال المسعودي: وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة من المعتزلة وغيرهم من أهل دَارَيّا والمِزَّة من غوطة دمشق على الوليد بن يزيد، لما ظهرمن فسقه، وشمل الناس من جوره، فكان من خبرمقتلِ الوليد ما قد ذكرناه فيما سلف من كتبنا مفصلاً، وذكرناه في هذا الكتاب مجملاَ.
أم يزيد أم ولد
وكان يزيد بن الوليد أول من ولي هذا الأمر وأمُهُ أم ولد، وكانت أمه سارية بنت فيروز بن كسرى، وهو الذي يقول في ذلك: أنا ابْنُ كِبسْرى، وأبي مَرْوان وَقَيْصَرٌ جدَي، وجدِّي خَاقَان.
وكان يكنى بأبي خالد، وأم أخيه إبراهيم أم ولد تدعى بدبرة، والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز، لما ذكرناه من الديانة.
ظهور مروان بن محمد الحمار
وفي سنة سبع وعشرين ومائة أقبل مَرْوَان بن محمد بن مروان من الجزيرة فدخل دمشق، وخرج إبراهيم بن الوليد هارباً من دمشق، ثم ظفر به مروان فقتله وصلبه، وقتل مَنْ مالأه ووالاه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد القَسْري، وبدأ أمر بني أمية يؤول إلى ضعف. وذكر اليحصبي عن الخليل بن إبراهيم السبيعي، قال: سمعت ابن الجمحي يقول: قال لي العلاء ابن بنت ذي الكلاع: إنه كان مؤانساً لسليمان بن عبد الملك لا يكاد يفارقه، وكان أمر المُسَودة بخراسان، والمشرق قد بان، ودنا من الجبل، وقرب من العراق، واشتد إرْجَافُ الناس، ونطق العدو بما أحب في بني أمية وأوليائهم، قال العلاء: فإني لَمَعَ سليمان وهو يشرب حذاء رصافة أبيه، وذلك في آخر أيام يزيد الناقص، وعنده حَكَم الوادي، وهو يغنيه بشعر فبعرجيَّ :
إن الحَبِيب تَرَوَّحَتْ أحمَاله ... اصُلاً، فدمعك دائم إِسْبَالهُ
آقْنَ الحَيَاءَ فقد بكيْتَ لِعَوْلَةٍ ... لوكان ينفع باكياً إِعْوَالهُ
يا حبذَا تلك الحمول، وحبَّذَا ... شَخْص هُنَاك، وحبًذَا أمثَالهُ
فأجاد بما شاء، فشرب سليمان بالرطل، وشربنا معه، حتى توسدنا أيدينا، فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي، فقمت إليه مسرعاً، فقلت له: ما شأن الأمير. فقال لي: على رِسْلِكَ، رأيت كإني في مسجد دمشق، وكأن رجلاً في يده خنجر وعليه تاج أرى بصيص ما فيه من جوهر، وهو رافع صوته بهذه الأبيات:
أبَنِي أمية قَدْ دَنَا تَشتيتكم ... وذَهَابُ مُلْكِكُمُ وأن لا يرجع
وينال صفوتَهُ عدو ظالم ... للمحسنين إليه ثمة يفجع
بعد الممات بكل ذكرصالح ... ياوَيْلَهُ من قُبْح ماقديَصْنَعُ
فقلت: بل لا يكون ذلك، وعجبت من حفظه، ولم يكن من أصحاب ذلك، فَوَجَم ساعة ثم قال: يا حميري، بَعِيدُ ما يأتي به الزمان قريبٌ، قال: فما اجتمعنا على شرابٍ بعد ذلك.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان من أمر المُسَوِّدة ومروان بن محمد الجَعْدي ما كان.
سبب زوال ملك الأمويين
وذكر المنقري قال: سئل بعض شيوخ بني أمية وَمُحصَليها عقيب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: ما - كان سبب زوال ملككم، قال: إنا شُغِلْنَا بِلَذَّاتِنَا عن تفقدِ ما كان تَفَقده يلزمنا فَظَلَمْنَا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة مِنَّا، وتحومل على أهل خراجنا، فَتَخَلّوْا عنا، وخربت ضياعنا، فخلَتْ بيوتُ أموالنا، ووثقنا بوزرائنا، فاثَرُوا مرافقهم على منافعنا، وَأَمْضوْا أموراً دوننا أَخْفَوْا علمها عنا، وتأخّرَ عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا، فتظافروا معهم على حربنا، وَطَلَبنَا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوْكَدِ أسباب زوال ملكنا.
ذكر السبب في العصبية بين النزارية واليمانية
الكميت يعرض شعره على الفرزدق

ذكر أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي قال: لما قال الكميت بن زيد الأسدي - من أسد مضر بن نزار - الهاشمياتِ قَدِمَ البصرة ة فأتى الفرزدق فقال: يا أبا فراس، أنا ابن أخيك، قال: ومَنْ أنت. فانتسب له. فقال: صدقت فما حاجتك. قال: نُفِثَ على لساني، وأنت شيخ مضر وشاعرها، وأحببت أن أعرض عليك ما قلت، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان غير ذلك أمرتني بسَتْرِهِ وَسَتَرْتَه عَلَيَّ، فقال: يا ابن أخي، أحسب شعرك على قدر عقلك، فهات ما قلت راشداً، فأنشده:
طَرِبْتُ وَمَا شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولالعباً مِنِّي، وذُو الشيب يَلْعَبُ
قال: بلى فَالعَبْ، فقال:
وَلَمْ يُلْهِنِي دَارٌ، ولا رَسْمُ مَنْزِل ... ولم يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَصَّبُ
قال: فما يُطْرِبك إذاً. قال:
وما أنَا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطيرهَمُّهُ ... أصاح غُرَابٌ أو تَعَرَّض ثعلَبُ
قال: فما أنت وَيْحك، وإلى مَنْ تَسْمُو، فقال:
وَمَا السانحات البَارِحَاتُ عَشِيَّةً ... أمَرَّ سليمُ القَرْنِ أم مَر أعْضب
قال: أما هذا فقد أحسنت فيه، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل وَالنّهى ... وَخيْرِ بني حَوَّاء، وَالخَيْرُ، يطْلَبُ
قال: ومَنْ هم وَيْحك. قال:
إلى النَّفَرِ البِيض الذِينَ بحبهم ... إلى اللَّهِ فيما نابني أتقرب
قال: أرِحْنِي وَيْحك مَنْ هؤلاء، قال:
بني هاشم رَهْطِ النبي، فإنني ... بِهِمْ وَلَهُمْ أرْضَى مِرَاراً وأغْضَبُ
قال: للَّهِ دَرُّك يا بُنَيَّ، أصبت فأحسنت، إذ عدلت عن الزعانف والأوباش، إذاً لا يُصرَّد سهمك، ولا يُكًذّبُ قولك، ثم مَرَّ فيها، فقال: أظهر ثم أظهر وكِدِ الأعداء، فأنت واللّه أشعر مَنْ مضى وأشعر عَنْ بقِيَ.
الكميت يعرض شعره على أبي جعفر محمد بن علي
فحينئذ قدم المدينة، فأتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، فأذن له ليَلاَ وأنشده، فلما بلغ من الميِمية قوله:
وقتيلٍ بالطَّفِّ غُودِرَ منهم ... بين غوغاء أمة وَطَغَام
بكى أبو جعفر، ثم قال: يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك، ولكن لك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذبيت عنا أهْلَ البيت، فخرج من عنده.
ثم يعرضه على عبد اللّه بن الحسن
فأتى عبد الله بن الحسن بن علي، فأنشده، فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة قد أعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشْهَدْتُ لك بذلك شهوداً، وناوله إياه فقال. بأبي أنت وأُمي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا واللهّ ما قلت فيكم شيئاً إلا للّه، وما كنت لاخُذَ على شىِء جعلته للهّ مالا ولا ثمناً، فألح عبد اللّه عليه، وأبى من إعفائه، فأخذ الكميت الكتاب ومضى، فمكث أياماً، ثم جاء إلى عبد اللّه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه إن لي حاجة، قال: وما هي، وكل حاجة لك مَقْضية، قال: كائنة ما كانت، قال: نعم، قال: هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة، ووضع الكتاب بين يديه،فقبله عبد اللّه.
عبد اللّه بن جعفر يثيب الكميت

ونهض عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم، ويقول: يا بني هاشم، هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمَتَ الناسُ عن فضلكم، وعًرّض دَمَه لبني أمية، فأثيبوه بما قدرتم، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، وأعلم النساء بذلك، فكانت المرأة تبعث ما أمكنها، حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها، فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة آلف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال: يا أبا المستهل، أتيناك بجهد المُقِلِّ، ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا لك هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك، فقال: بأبي أنت وآمي، قد أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي إياكم إلا اللهّ ورسوله، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا، فاردده إلى أهله، فجهد به عبد اللّه أن يقبله بكل حيلة، فأبى، فقال: إن أبيت آن تقبل فإني رأيت أن تقول شيئاً تغضب به بين الناس، لعلّ فتنةً تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما تحب، فابتدأ الكميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مضر بن نزار بن مَعَدّ وربيعة بن نزار وإيادٍ وأنمار ابني نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم، ويُطْنُب في وصفهم، وأنهم أفضل من قَحْطَان، فغضب بها بين اليمانية والنزارية فيما ذكرناه وهي قصيدته التي أولها:
ألا حييتِ عَنَّا يا مدِينا ... وَهَلْ نَاسٌ نقول مُسَلّمينا
إلى أن انتهى إلى قوله تصريحاً وتعريضَاَ باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم فيها، وهو قوله:
لنا قمر السماء وكل نجم ... تشير إليه أيدي المهتدين
وجدت الله إذ سمى نزاراً ... وأسْكَنَهُمْ بمكة قاطنينا
لنا جَعَلَ المكَارِمَ خالصاتٍ ... وللناس القَفَا ولنا الجبينا
وما ضربت هجائن من نزار ... فوالج من فُحُول الأعجمينا
وماحملوا الحمير على عِتَاقٍ ... مُطَهَّرَة فيلفوا مُبْلِغينا
وما وجَدت نساء بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
دعبل الخزاعي يرد على الكميت
وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزَاعِي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصَرَّح وعَرَّض بغيرهم، كما فعل الكميت، وذلك في قصيدته التي أولها:
أفيقي من ملامِكِ يَا مِعينا ... كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأربَعِينَا
ألم تحزنكِ آحداث الليالي ... يشيبن الذوائب والقرونا
أحيى الغُرَّ من سَرَوَات قومي ... لقد حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدينا؟؟؟
فإن يَكُ آل إِسرائيل منكم ... وكُنتُم بالأعاجم فَاخِرِينَا
فلا تَنْسَ الخنازير اللَّواتي ... مُسِخْنَ مع القُرُودِ الخَاسِئِينَا
بأيلة والخليج لهم رُسُوم ... " وآثار قدُمْنَ وما مُحِينَا
وَمَا طلبُ الكميت طِلابُ وتْر ... ولكنَّا لنصرتنا هُجِينَا
لقد علمت نِزَارٌ أن قومي ... إلى نصْرِ النبوة فاخِرِينَا
كانت العصبية من دواعي زوال ملك بني أمية
وهي طويلة. ونمى قول الكميت في النزارية واليمإنية، وافتخرت نزار على اليمن، وافتخرت اليمن على نزار، وأدْلى كل فريق بماله من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت العصبية في البدو والحضر فنتج بذلك أمر مَرْوَان بن محمد الجعدي، وتعصبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية، وتغلغل الأمر إلى انتقال الدولة عن بني أمية، ثم ما تلا ذلك من قصة مَعن بن زائدة باليمن، وَقَتْلِهِ أهلها تعصباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار، وَقطْعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة في القِدَم، وفعل عقبة بن سالم بعُمَان والبحرين، وقتله عبد القيس وغيرهم من ربيعة وسائر نزار ممن بأرض البحرين وعُمَان كياداً لمعن، وتعصباً من عقبة بن سالم لقومه من قحطان، وغير ذلك مما تقدم وتأخرمما كان بين نزار وقحطان.
ذكرأيام مروان بن محمد
بن مروان ابن الحكم وهو الجعدي

وبويع مروان بن محمد بن مروان بدمشق يوم الأثنين لأرْبَعَ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من صفر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: إنما دعا إلى نفسه بمدينة حًران من ديار مُضَر، وبويع له بها، وأمه أم ولد يُقال لها ريا، وقيل: طرونة، كانت لمصعب بن الزبير، فصارت بعد مقتله لمحمد بن مروان أبيه، وكان مروان يكنى أبا عبد الملك، واجتمع أهْلُ الشام على بيعته، إلا سليمان بن عبد الملك وغيره من بني أمية، فكانت أيامه منذ بويع بمدينة دمشق من أرض الشام إلى مقتله خمس سنين وعشرة أيام، وقيل: خمس سنين وثلاثة أشهر، وكان مقتله في أول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في المحرم، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في صفر، وقيل غير ذلك مما تنازع فيه أهل التواريخِ والسير على حسب تنازعهم في مقدار ملكه فمنهم من ذهب إلى أن مدَته خمس سِنِينَ وثلاثة أشهر، ومنهم من قال: خمساً وشهرين وعشرة أيام، ومنهم من قال: خمساً وعشرة أيام، وكان مقتله ببوصير قريةٍ من قرى الذيوم بصعيد مصر، وقد تنوزع في مقدار سنه كتنازعهم في مقدار ملكه، فمنهم من زعم أنه قُتل وهو ابن سبعين سنة، ومنهم من قال: ابن تسع وستين، ومنهم من قال: اثنتين وستين، ومنهم من قال: ثمان وخمسين، وإنما نذكر هذا الخلاف من قولهم لئلا يظن ظَانٌ أننا قد أغْفَلْنَا ما ذكروه أو تركنا شيئاً مما وصفوه، مما إليه قصدنا في كتابنا هذا، وإن كنا قد أتينا على مبسوط ما قيل في ذلك، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.
وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب جُمَلاً من كيفية مَقْتَله وأخباره، وجوامع من سيره وحروبه، وما كان من أمر الدولتين في ذلك من الماضية وهي الأموية والمستقبلة في ذلك الزمان وهي العباسية مع إفرادنا باباً نذكر فيه جَوَامِعَ تاريخ ملك االأمويين، وهو الباب المترجم بذكر مقدار المدة من الزمان، وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام، ثم نُعَقَبُ ذلك بلمع من أخبار الدولة العباسية وأخبار أبي مُسْلم، وخلافة أبي العباس السَّفّاح ومَنْ تلا عَصْره من خلفاء بني العباس، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من خلافة أبي إسحاق المتقي للّه إبراهيبم بن المقتدر بالله، إن شاء اللّه تعالى، واللّه ولي التوفيق.
ذكر مقدار المدة من الزمان
وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام
كان جميع مُلك بني أمية إلى أن بويع أبو العباس السَّفَّاح ألف شهر كاملة لا تزيد ولا تنقص لأنهم ملكوا تسعين سنة، وأحد عشرشهراً، وثلاثة عشر يوماً.
قال المسعودي: والناس متباينون في تواريخ أيامهم، والمعَوَّلُ على ما نورده، وهو الصحيح عند أهل البحث وَمَنْ عُنِيَ بأخبار هذا العالم، وهو أن معاوية بن أبي سفيان مَلَك عشرين سنة، ويزيد بن معاوية ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً، ومعاوية بن يزيد شهراً وأحد عشر يوماً، ومروان بن الحكم ثمانية أشهر وخمسة أيام، وعبد الملك بن مروان إحدى وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، والوليد بن عبد الملك تسع سنين وثمانية أشهر ويومين، وسليمان بن عبد الملك سنتين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً، وعمربن عبد العزيز رضي اللّه عنه سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، ويزيد بن عبد الملك أربع سنين وثلاثة عشريوماً، وهشام بن عبد الملك تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام، والوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة وثلاثة أشهر، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك شهرين وعشرة أيام، وأسقطنا أيام إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك كإسقاطنا أيام إبراهيم بن المهدي أن يعد في الخلفاء العباسيين، ومروان بن محمد بن مروان خمس سنين وشهرين وعشرة أيام، إلى أن بويع السفّاح، فتكون الجملة تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشريوماً، يضاف إلى ذلك الثمانية أشهر التي كان مروان يقاتل فيها بني العباس إلى أن قتل، فيصير مُلْكُهم إحدى وتسعين سنة وسبعة أشهروثلاثة عشر يوماً.
يُوضَع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام وتوضع أيام عبد اللّه بن الزبير إلى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، يكون ذلك ألف شهر سواء.
وقد ذكر قوم أن تأويلَ قوله عزّ وجلّ: " لَيْلَةُ القدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألفِ شَهْر " ما ذكرناه من أيامهم.

وقد روى عن ابن عباس أنه قال: واللّه ليملكَنَّ بنو العباس ضعف ما ملكته بنو أمية: باليوم يومين، وبالشهر شهرين، وبالسنة سنتين، وبالخليفة خليفتين.
مدة ملك بني العباس
قال المسعودي: فملك بنو العباس في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانقضى مُلْك بني أمية، فَلِبَنِي العباس من وقت ملكهم إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة مائتا ستة، وذلك أن أبا العباس السفاح بويع له بالخلافة في ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانتهينا من تصنيفنا من هذا الكتاب إلى هذا الموضع في شهرربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في خلافة أبي إسحاق المتَقي لله والله أعلم بما يكون من أمرهم فيما يأتي به الزمان المستقبل بعد هذا الوقت من الأيام. وقد أتينا بحمد اللهّ فيما سلف من كتابينا أخبار الزمان والأوسط على الغُرَرِ من أخبارهم، والنوادر من أسمائهم، والطرائف مما كان في أيامهم وعهودهم، ووصاياهم، ومكاتباتهم، وأخبار الحوادث والخوارج في أيامهم من الأزارقة والأباضية وغيرهم، ومن ظهر من الطالبيين طالبأ بحق أوآمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، فقتل في أيامهم، وكذلك مَنْ تلاهم من بني العباس إلى خلافة المتقي للّه من سنتنا هذه وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة وما ذكرنا في هذا الباب من جوامع التاريخ قد يخالف ما تقدم بسطه باليوم. أو العشرة أو الشهر عند ذكرنا لدولة كل واحد منهم وأيامه وهذا هو المُعَوَّل عليه من تاريخهم وَسِنِيهِمْ، والمفصل من مدتهم، واللّه أعلم، ومنه التوفيق.
ذكر الدوله العباسية ولمع من أخبار مروان
ومقتله وجوامع من حروبه، وسيره
قول الراوندية في الخلافة
قد قدَّمْنَا في الكتاب الأوسط ما ذكرته الراوندية وهم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب، من أهل خراسان وغيرهم من أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قُبِضَ، وأن أحق الناس بالإمامة بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمفُه ووارثة. وعَصَبَته، لقول الله عز وجل: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه " وأن الناس اغتصبوه حقه، وظلموه أمره، إلى أن رَفَهُ اللّه إليهم، وتبرؤا من أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وأجازوا بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإزجاته لها، وذلك لقوله: يا ابن أخي، هَلُمَّ إلى أن أبايعك فلا يختلف عليك اثنان، ولقول داود بن عليّ على منبر الكوفة يوم بويع لأبي العباس: يا أهل الكوفة، لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم يعني أبا العباس السفاح.
من حوار فاطمة الزهراء وأبي بكر الصديق
وقد صنف هؤلاء كتباً في هذا المعنى الذي ادَّعَوْهُ هي متداولة في أيدي أهلها وَمُنْتَحِليها، منها كتاب صَنَفه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو المترجم بكتاب إمامة ولد العباس يحتج فيه لهذا المذهب، ويذكر فعل أبي بكر في فدَكَ وغيرها وقصته مع فاطمة رضي اللّه عنها، ومطالبتها بإرثها من أبيها صلى الله عليه وسلم، واستشهادها ببعلها وابنيها وام أيْمَنَ، وما جري بينها وبين أبي بكر من المخاطبة، وما كثر بينهم من المنازعة، وما قالت، وما قيل لها عن أبيها عليه السلام، من أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء نَرث ولا نورث " وما احتجت به من قوله عز وجل: " وورث سليمان داوُد " على أن النبوة لا تورث، فلم يبق إلا التوارث، و غير ذلك من الخطاب، ولم يصنف الجاحظ هذا الكتاب، ولا استقصى فيه الحَجَاجَ للراوندية، وهم شيعة ولد العباس، لأنه لم يكن مذهبه، ولا كان يعتقده، ولكن فعل ذلك تماجناً وتطربَاَ.
العثمانية للجاحظ
وقد صنف أيضاً كتاباً استقصى فيه الحِجَاجَ عند نفسه، وأيده بالبراهين وَعَضّده بالأدلة فيما تصوره من عقله، وترجمه بكتاب العثمانية، يحل فيه عند نفسه فضائل علي رضي الله عنه ومناقبه، ويحتج فيه لغيره، طلباً لإماتة الحق، ومضادة لأهله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
كتب أخرى للجاحظ

ثم لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب العثمانية حق أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروإنية وأقوال شيعتهم، ورأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، في الانتصار له من علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروإنية، ويؤيد فيه إمامة بني أمية وغيرهم.
ثم صنف كتاباً اخر بكتاب مسائل العثمانية، يذكر فيه ما فاته ذكرأ ونقضه عند نفسه، من فضائل أمير المؤمنين علي ومناقبه فيما ذكرنا.
وقد نقضتُ عليه ما ذكرنا من كتبه ككتاب العثمانية وغيره، وقد نقضها جماعة من متكلمي الشيعة: كأبي عيسى الوراق، والحسن بن موسى النخعي، وغيرهما من الشيعة ممن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعاً ومفترقاً.
وقد نقض على الجاحظ كتاب العثمانية أيضاً رجل من شيوخ المعتزلة البغداديين ورؤسائهم، وأهل الزهد والديانة منهم، ممن يذهب إلى تفضيل علي والقول بإمامة المفضول وهو أبو جعفر محمد بن عبد اللّه الإسكافي وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين، وفيها مات أحمد بن حنبل، وسنذكر وفاة الجاحظ فيما يرد من هذا الكتاب، ووفاة غيره من المعتزلة، وإن كنا قد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا.
رأي الجريإنية في الإمامة
والذي ذهب إليه مَنْ تأخر من الراوندية وانتقل وتحبر عن جملة الكيسانية القائلة بإمامة محمد بن الحنفية وهم الجريإنية أصحاب أبي مسلم عبد الرحمن بن محمد صاحب الدولة العباسية، وكان يلقب بجريان أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد علي بن أبي طالب، وأن محمداً أوصى إلى ابنه أبي هاشم، وأن أبا هاشم أوصى إلى علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، وأن علي بن عبد اللّه أوصى إلى ابنه محمد بن علي، وأن محمداً أوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام المقتول بحران، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس بن عبد الله بن الحارثية المقتول.
أصل أبي مسلم الخراسإني
وقد تنوزع في أمر أبي مسلم: فمن الناس من رأى أنه كان من العرب، ومنهم من رأى أنه كان عبداً فأعتق، وكان من أهل البرس والجامعين من قرية يُقال لها خرطينة، وإليها تضاف الثياب البرسية المعروفة بالخرطينية، وتلك من أعمال الكوفة وسَوَادها، وكان قهرماناً لإدريس بن إبراهيم العجلي، ثم آل أمره ونمت به الأقدار إلى أن أتصل بمحمد بن علي، بإبراهيم بن محمد الإِمام، فأنفذه إبراهيم إلى خُرَاسان، وأمر أهل الدعوة بإطاعته والإنقياد إلى أمره ورأيه، فقوي أمره وظهر سلطانه، وأظهم السواد، وصار زينة في اللباس والأعلام والبنود، وكان أول من سَوَّدَ من أهل خراسان بنيسابور وأظهر ذلك فيهم أسيد بن عبد اللّه، ثم نمى ذلك في الأكثر من المحن والكُوَر بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، وضعف أمر نصر بن سَتار صاحب مروان بن محمد الجعدي على بلاد خراسان، وكانت له مع أبي مسلم حروب أكثر فيها أبو مسلم الحَيَل والمكايد من تفريقه بين اليمإنية والنزارية بخراسان وغير ذلك مما احتال به على عدوه، وقد كان لنصر بن سَيَّار حروب كثيرة مع الكرمإني إلى أن قتل، أتَيْنَا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وذكرنا بدء أخبار الكرمإني جديع بن علي، وما كان بينه وبين سلم بن أحْوَزَ صاحب نصر بن سَيَّار، وما كان من أمر خالد بن بَرْمَك، وقَحْطبة بن شبيب، وغيرهما من الدُّعَاة والمقيمين بخراسان للدعوة العباسية: كسليمان بن كثير، وأبي داود خالد بن إبراهيم، ونظرائهم، وما كان من شعارهم عند إظهار الدعوة، وندائهم حين الحروب: محمد يا منصور، والسبب الذي له ومن أجله أظهروا استعمال السواد دون سائر الألوان.
بين نصر بن سيار ومروان بن محمد الجعدي
وطالت مكاتبة نصر بن سَيَّارٍ مروانَ، وإعلامه بما هو فيه، وإظهار أمر العباسية، وتزايده في كل وقت فكان فيما كتب به إليه إعلامه بحال أبي مسلم وحال مَنْ معه، وأنه كشف عن أمره وبحث عن حاله، فوجده يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس، وضمن كتابه أبياتاً من الشعر، وهي:
أرى بين الرَّمَادِ وميض جَمْر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذْكَى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم تطفؤها تَجْنِ حرباً ... مشمرة يشيب لها الغلام

أقول من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام؟
فإن يَكُ قومنا أضحوا نياماً ... فقل: قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك، ثم قولي: ... على الإسلام والعرب السلام
فلما ورد الكتاب على مروان وَجده مشتغلاً بحروب الخوارج بالجزيرة وغيرها، وما كان من خبره في حروبه مع الضحاك بن قيس الحَرُوري حتى قتله مروان بعد وقائع كثيرة بين كفر توثي ورأس العين، وكان الضحاك خرج من بلاد شهرزور، ونضبت الخوارج بعد قتل الضحاك عليها الحري الشيبإني فلما قتل الحري ولًتِ الخوارج عليها أبا الذلفاء شيبان الشيبإني، وما كان من حروب مروان مع نعيم بن ثابت الجذامي، وكان خرج عليه ببلاد طبرية والأردن من بلاد الشام حتى قتله مروان، وذلك في سنة ثمانية وعشرين ومائة، فلم يدر مروان كيف يصنع في أمر نصر بن سَيَّار وخراسان وإنجازه لما هو فيه من الحروب والفتن، فكتب إليه مروان مجيباً عن كتابه: إن الشاهد يَرَى ما لا يراه الغائب فاحسم الثؤلولَ قَبَلَكَ، فلما ورد الكتاب على نصر قال لخواص أصحابه: أمَّا صاحبكم فقد أعلمكم أن لانَصْرَعنده،
بعض خلال وأعمال مروان بن محمد الجعدي
وأقامَ مروان أكثر أيامه لا يدنو من النساء إلى أن قتل، وبرزت له جارية من جواريه، فقال لها واللّه لادنوت منك، ولا حَللَتُ لك عقدة، وخراسَانُ ترجُفُ وتتضرم بنصر بن سيار، وأبو مجرم قد أخذ منه بالمخنَّق.
وكان مع ما هو فيه يُدِيم قراءة سير الملوك، وأخبارها في حروبها، من الفرس وغيرها من ملوك الأمم.
وَعَذَله بعضُ أوليائه ممن كان يأنس إليه في ترك النساء والطيب وغير ذلك من اللذات، فقال له مروان: يمنعني منهن ما منع أمير المؤمنين عبد الملِك، فقال له الرجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ حَمَل صاحب إفريقية إليه جارية ذات بهاء وكمال، تامة المحاسن، شهية للمتأمِّل، فلما وقَفَتْ بين يديه تأمل حسنها وبيده كتاب ورد من الحجاج وهو بدير الجماجم مُوَاقعاً لابن الأشْعَثِ، فرمى بالكتاب عن يده، وقال لها: أنت واللهّ منية النفس، فقالت الجارية: ما يمنعك يا أمير المؤمنين إذ كنتُ بهذا الوصف؟ قال: يمنعني واللّه منك بَيْتٌ قاله الأخطل:
قوم إذا حَارَبُوا شدوا مَآزِرَهُم ... دونَ النساءِ ولو بَاتَتْ بأطْهَار
أألتذ بالعيش وابن الأشعث مُصَافٌّ لأبي محمد وقد هلكَتْ فيه زعماء العرب؟ لاها الله إداً، ثم أمر بصيانتها، فلما قتل ابن الأشعث كانت أول جارية خلابها.
نصريكتب لابن هبيرة يستنجده
ولما يئس نصر بن سَيَّار من إنجاد مروان كتب إلى يزيد بنٍ عمر هُبَيرة الفَزَاري عامل مروان على العراق يستمدُّه، ويسأله النّصْرَة على عدوه، وضَمّن كتابه أبياتاً من الشعر، وهي:
ابْلِعْ يزيد، وخيرُ القول أَصْدَقُه ... وقدتَبَيَّنْتُ أن لاَ خَيْرَ في الكَذب
بأنَّ أرضَ خُرَاسان رأيتُ بها ... بَيْضاً لَوَ افْرَخ قد حدثت بالعجب
فِرَاخُ عامينِ إلا أنَهَا كبِرَت ... لما يَطِرْنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّعَب
فإنْ يَطِرْنَ ولم يًحْتَلْ لَهُنَّ بها ... يُلْهِبْنَ نيرانَ حرب أيما لهب
فلم يجبه يزيد بن عمر عن كتابه، وتشاغل بدفع فتن العراق.
دعاة إلى طالب الحق بالحجاز
ودخلت خوارج اليمن مكة والمدينة وعليهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة الأزدي، وهما فيمن معهما يدعون إلى عبد الله بن يحيى الكندي، وكان قد سمى نفسه بطالب الحق، وخُوطِبَ بأمير المؤمنين، وكأن أباضِيَّ المذهب من رؤساء الخوارج، وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة.
مروان يجهز لحرب الخوارج

وفي سنة ثلاثين ومائة جَهَّز مروان بن محمد جيشاً مع عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فلقي الخوارج بوادي القرى، فقُتِلَ بلخ، وفَرَّ أبوحمزة في بقيتهم إلى مكة، فلحقه عبد الملك، فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج، وسار عبد الملك في جيش مروان من أهل الشام يريد اليمن، وخرج عبد اللّه بن يحي الكندي الخارجي من صنعاء، فالتقَوْا بناحية الطاثف وأرض جرش، فكانت بينهبم حرب عظيمة قتل فيها عبد اللّه بن يحيى وأكثر من كان معه من الأباضية، ولحق بقية الخوارج ببلاد حضرموت، فأكثرها أباضية إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ولا فرق بينهم وبين من بعُمَانَ من الخوارج في هذا المذهب، وسار عبد الملك في جيش مروان فنزل صنعاء، وذلك في سنة ثلاثين ومائة، وقد كان سليمان بن هشام بن عبد الملك اتصل بالخوارج بالجزيرة خوفاً من مروان، واحتوى عبدُ اللّه بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على بلاد إصْطَخْرَ وغيرها من أرض فارس، إلى أن رفع عنها وصار إلى خراسان، فقبض عليه أبو مسلم، وقد ذكرنا من يقول بإمامته، وينقاد إلى دعوته، في كتابنا " المقالات، في أصول الديانات " في باب تفرق الشيعة ومذاهبهم.
موت نصر بن سيار
وقوي أمر أبي مسلم، وغلب على أكثر خراسان، وضعف أمر نصربن سيار من عدم النَّجْدة، فخرج عن خراسان حتىِ أتى الريَّ، وخرج عنها، فنزل ساوة بين بلاد همذان والري، فمات بها كمداَ.
وقد كان نصر بن سيار لما صار بين الريِّ وخُرَاسان كتب كتاباً إلى مروان يذكر فيه خروِجه عن خراسان، وأن هذا الأمر الذي أزْعَجه سينمو حتى يملأ البلاد، وضمَّن ذلك أبياتاً من الشعر، وهي:
إنا وما نكْتُمُ من أمرنا ... كالثور إذ قُرِّبَ للناخع
أوكالتي يحسبها أهلها ... عَنْراء بكرا ًوَهْيَ في التاسع
كفا نَرفِّيهَا فقد مُزِّقَت ... واتسع الخرق على الراقع
كالثَّوْب إذ أنهج فيه البلى ... أعياعلى في الحيلة الصانع
خديعة مروان للقبض على إبراهيم الإمام
فلم يستتم مروان قراءة هذا الكتاب حتى مثل أصحابه بين يديه ممن كان قد وكل بالطرق رسولاً من خراسان من أبي مسلم إلى إبراهيم بن محمد الإِمام يخبره فيه خبره، وما آل إليه أمره، فلما تأمل مروان كتاب أبي مسلم قال للرسول: لا تُرَعْ، كم دفع لك صاحبك؟ قال: كذا وكذا، قال فهذه عشرة آلاف درهم لك، وإنما دفع اليك شيئاً يسيراً، وامْض بهذ الكتاب إلى إبراهيم، ولا تعلمه بشيء مما جرى، وخذ جوابه فائتِنِي به ففعل الرسول ذلك، فتأمل مروان جواب إبراهيم إلى أبي مسلم بخطه يأمر فيه بالجد والاجتهاد والحيلة على عدوه وغير ذلك من أمره ونَهْيِه، فاحتبس مروان الرسول، وكتب إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء فيسير إلى القرية المعروفة بالكرار والحُمَيْمة ليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقاً، ويبعث به إليه في خيل كثيفة، فوجهَ الوليد إلى عامل البلقاء فأخذ إبراهيم وهو جالس في مسجد القرية فأخذ وهو مُلَفف، وحمل إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه في السجن شهرين، وقد كان جرى بين إبراهيم ومروان خطب طويل حين مَثَلَ بين يديه، وأغلظ له إبراهيم، وأنكر كل ما ذكره له مروان من أمر أبي مسلم، فقال له مروان: يا منافق، اليس هذا كتابك إلى أبي مسلم جواباً عن كتابه اليك، وأخرج إليه الرسول، وقال: أتعرف هذا؟ فلما رأى ذلك إبراهيم أمْسَكَ، وعلم أنه أتى من مَأْمَنِهِ.
مقتل إبراهيم وجماعة معه

واشتد أمر أبي مسلم، وكان في الحبس مع إبراهيم جماعة من بني هاشم وبني أمية: فمن بني أمية عبد اللّه بن عمربن عبد العزيز بن مروان، والعباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان مروان قد خافهما على نفسه وخشي أن يخرجا عليه، ومن بني هاشم: عيسى بن علي، وعبد اللّه بن علي، وعيسى بن موسى، فذكر أبو عبيدة الثعلبي - وكان معهم في الحبس - أنه هَجَمَ عليهم في الحبس وذلك بحران جماعة من موالي مروان من العجم وغيرهم فدخلوا البيت الذي كان فيه أبراهيم والعباس وعبد اللّه، فأقاموا عندهم ساعة، ثم خرجوا وأغلق باب البيت، فلماِ أصبحنا دخلنا عليهم، فوجدناهم قد أتى عليهم، ومعهم غلامان صغيران من خدَمهم كالموتى، فلما رأونا أنسوا بنا، فسألناهم الخبر، فقالا: أما العباس وعبد اللّه فجعل على وجوههما مخاد وقعد فوقهما فاضطربا ثم بردا، وأما إبراهيم فإنهم جعلوا رأسه في جراب كان معهم فيه نورة مسحوقة، فاضطرب ساعة تم خمد.
وكان في الكتاب الذي قرأه مروان من إبراهيم إلى أبي مسلم أبيات من الرجز بعد خطب طويل، منها:
دونك أمراً قد بَدَتْ أشْرَاطه ... إن السبيل واضح صِرَاطُه
لم يَبْقَ إلا السيف واخْتِرَاطُه
وقد ذكر في كيفية قتل إبراهيم الإمام من الوجوه غيرها ما ذكرنا، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك في الكتاب الأوسط، وكذلك ما كان من قَحْطَبة وابن هُبَيْرة على الفرات، وغرق قحطبة فيه، ودخول ابنه الحسن بن قحطبة الكوفة.
موقعة الزاب بين عبد اللّه بن علي ومروان
وسار مروان حتى نزل على الزاب الصغير، وعقد عليه الجسر، وأتاه عبد اللّه بن علي في عساكر أهل خراسان وقوَادهم، وذلك لليلتين خلتا من جمادي الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فالتقى مروان وعبد اللّه بن علي، وقد كَرْدَسَ مروان خيله كراديس الفاً والذين، فكانت على مروان، فانهزم، وقتل وغرق من أصحابه خلق عظيم، فكان فيمن غرق في الزاب من بني أمية ذلك اليوم ثلثمائة رجل، دون من غرق من سائر الناس، وكان فيمن غرق في الزاب في ذلك اليوم من بني أمية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وهو أخو يزيد الناقص، وقد قيل في رواية آخرى: إن مروان كان قد قَتَلَ إبراهيم بن الوليد قبل هذا الوقت وصَلَبه، وكانت هزيمة مروان من الزاب في يوم السبت لإِحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
أهل حران ومروان
ومضى مروان في هزيمته حتى أتى الموصل فمنعه أهلها من الدخول إليها، وأظهروا السواد لما رأوه من توليه الأمر عنه، وأتى حران وكانت داره، وكان مقامه بها وقد كان أهل حران قاتلهم اللّه تعالى حين أزيل لعن أبي تراب يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن المنابر يوم الجمعة امتنعوا من إزالته، وقالوا: لا صلاة إلا بلعن أبي تراب، وأقاموا على ذلك سنة حتى كان من أمر المشرق وظهور المسودة ما كان، وامتنع مروان من ذلك لانحراف الناس عنهم، وخرج مروان في أهله وسائر بني أمية عن حران، وعَبَرَ الفرات، ونزل عبد اللّه بن علي على باب حران، فهدم قصر مروان، وقد كان أنفق عليه عشرة ألاف ألف درهم، واحتوى على خزائن مروان وأمواله، وسار مروان فيمن معه من خواصه وعياله حتى انتهى إلى نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين والأردن فنزل عليه، وسار عبد اللّه بن علي حتى نزل دمشق فحاصرها وفيها يومئذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك في خمسين ألف مقاتل، فوقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ونزار على اليمن فقتل الوليد بن معاوية، وقد قيل: إن أصحاب عبد اللّه بن علي قتلوه.
مقتل مروان

وأتى عبد اللّه بن علي يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، فحملهما إلى أبي العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة، وقَتَلَ عبد اللّه بن علي بدمشق خلقاً كثيراً، ولحق مروان بمصر، ونزل عبد اللّه بن عليّ عَلَى نهر أبي فطرس، فقتل من بني أمية هناك بضعاً وثمانين رجلأ، وذلك في يوم الأربعاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقتل بالبلقاء سليمان بن يزيد بن عبد الملك، وحمل رأسه إلى عبد اللّه بن عليّ، ورحل صالح بن علي في طلب مروان ومعه أبو عوف عبد الملك بن يزيد، وعامر بن إسماعيل المذ حِجي، فلحقوه بمصر وقد نزل بُوصِيرَ، فبايتوه، وهجموا على عسكره وضربوا بالطبول، وكبروا ونادوا: يالثارات إبراهيم، فظن مَنْ في عسكر مروان أن قد أحاط بهم سائر المسوّدة فقتل مروان، وقد اختلف في كيفية قتله في المعركة في تلك الليلة، وكان قتله ليلة الأحد لثلاث بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ولما قَتَلَ عامرُ بن إسماعيل مروانَ وأراد الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساؤه إذا بخادم لمروان. " شاهر السيف يحاول الدخول عليهن، فأخفوا الخادم، فسئل عن أمره، فقال: أمرني مروان إذا هو قُتِل أن أضرب رقاب بناته ونسائه فلا تقتلوني فإنكم واللّه إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا له: انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني، ففعلوا، فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل، فقال: اكشفوا هنا، فكشفوا، فإذا البُرْد وَالقَضِيب ومِخْصَر قد دفنها مروان لئلا تصير إلى بني هاشم، فوجَّه بها عامر ابن إسماعيل إلى عبد اللّه بن علي، فوجهَ بها عبد اللّه إلى أبي العباسَ السفاح، فتداولت ذلك خلفاء بني العباس إلى أيام المقتدر، فيقال: إن البُرْد كان عليه في يوم مقتله، ولست أدري أكل ذلك باق مع المتقي للّه إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في نزوله الرقَّة أم قد ضَيع ذلك.
بنات مروان بين يدي صالح بن علي
ثم وجه عامر بنات مروان وجواريه والأسارى إلى صالح بن علي، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى، فقالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين، حفظ اللّه لك من أمرك ما يحبُّ لك حفظه، وأسعدك في الأمور كلها بخواص نعمه، وَعَمَّك بالعافية في الدنيا والآخرة، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذا لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة ألم يقتل أبوك بالأمس ابْنَ أخي إبراهيمَ بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس الإِمام في محبسه بحران؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين بن علي وصلبه في كُنَاسة الكوفة، وقتل امرأة زيد بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ ألم يقتل عبيد اللّه بن زياد الدعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسينَ بن عليّ عَلَى يدي عمربن سعد مع من قتل بين يديه من أهل بيته؟ ألم يخرج بحُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سَبَايَا حتى ورد بهنَّ على يزيد بن معاوية وقبل مَقْدَمِهِنَ بعث إليه برأس الحسين بن عليّ قد ثقب دماغه على رأس رُمْحٍ يُطَاف به كورَ الشام ومدائنها حتى قدموا به على يزيد بدمشق كأنما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك.؟ ثم أوقف حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم موقف السبي يتصفحهن جنودُ أهل الشام الجُفَاةُ الطَّغْام ويطلبون منه أن يهب لهمِ حُرَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، استخفافا بحقه صلى الله عليه وسلم، وجراءةً على اللّه عز وجل، وكفراَ لأنْعُمِهِ، فما الذي استبقيتم منا أهل البيت؟ لو عدلتم فيه علينا!! قالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين ليسعنا عفوكم إذاً، قال: أما العفو فنعم قد وسعكم، فإن أحببت زوجتك من الفضل بن صالح بن علي، وزوجت أختك من أخيه عبد اللّه بن صالح، فقالت: يا عم أمير المؤمنين، وأيّ أوان عرس هذا؟ بل تلحقنا بحرَّان، قال: فإذاً أفعل ذلك بكُنَّ إن شاء اللّه، فالحقهنَ بحرَّان، فَعَلَتْ أصواتهن عند دخولهن بالبكاء على مروان، وشَقَقْنَ جيوبهن، وَأعْوَلْنَ بالصياح والنحيب، حتى ارتج العسكر بالبكاء منهم على مروان.

فكان مُلك مروان إلى أن بويع أبو العباس السَّفاح خمس سنين وشهرين وعشرة أيام على حسب ما قَدَّمنا ذكره في هذا الكتاب من التنازع في مدة أيامه، ومن وقت أن بويع أبو العباس السًفاح إلى أن قتل ببوصير ثمانية أشهر، فكانت مدة أيامه إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشْهُر وعشرة أيام، وقدمنا ما تنازعوا فيه من مقدار سنة وغير ذلك من أخباره، وقد أتينأ على مبسوط أخباره فيما سلف من كتبنا.
عبد الحميد بن يحيى الكانب
وكان كاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعد صاحب الرسائل والبلاغات، وهو أول من أطال الرسائل، واستعمل التحميدات في فصول الكتب، واستعمل الناسُ ذلك بعده.
وذكر أن مروان قال لكاتبه عبد الحميد حين أيْقَنَ بزوال ملكه: قد احْتَجْتُ أن تصير مع عدوي وتظهر الغدرَ بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حُرَمِي بعد وفاتي، فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرتَ به عليَّ أنْفَعُ الأمرين لك، وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبرحتى يفتح اللّه أو أُقتل معك، وقال:
أسِر وَفَاء ثم أظهر غدره ... فمن لي بعذرٍ يُوسِعَ الناس ظاهره؟
وقد أتينا على خبر أبي الوِرد ومقتله، وخبر بشربن عبد اللّه الواحدي ومقتله، في كتابنا الأوسط، فأغْنى ذلك عن ذكره.
وذكر إسماعيل بن عبد الله القشيري قال: دعإني مروان وقد وافى على الهزيمة إلى حران، فقال: يا أبا هاشم، وما كان يكنيني قبلها، قد ترى ما جاء من الأمر وأنت الموثوق به، ولا مخبأ لِعِطْرٍ بعد عَرُوس، فما الرأي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، علام أجْمَعْت؟، قال: على أن أرتحل بموالي ومَنْ تبعني من الناس حتى أقطع الدَّرْبَ وأميل إلى مدينة في مدن الروم فأنزلها، وأكاتب صاحبها، وأستوثق منه، فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم، وليس هذا عاراً بالملوك، فلا يزال يأتيني من أصحابي الخائفُ والهارب والطامعُ فيكثر مَنْ معي، ولا أزال على ذلك حتى يكشف اللّه أمري وينصرني على عدوي، فلما رأيت ما أجمع عليه وكانَ الرَّأْيَ، ورأيت أثاره في قومي من قحطان وبلاءه عندهم، فقلت: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين من هذا الرأْي، تحكم أهل الشرك في بناتك وحرمك، وهم الروم، ولا وفاء لهم، ولا تدري ما تأتي به الأيام، وأنت إن حدث عليك حادث بأرض النصرإنية ولا يحدث عليك الا خير ضاع مَنْ بعدك، ولكن اقطع الفرات، ثم استنفر أهل الشام جنداً جنداً فإنك في كنف وعزة، ولك في كل جند صنائع، يسيرون معك حتى تأتي مصر، فإنها أكثر أرض اللهّ مالاً وخيلاً ورجالاً، ثم الشام أمامك وإفريقية خلفك، فإن رأيت ما تحبُّ انصرفت إلى الشام، وإن كانت الآخرى مضيت إلى إفريقية قال: صدقت، وأستخير اللّه، فقطع الفرات، واللّه ما قطعه معه من قيس إلا رجلان: ابن حمزة السلمي، وكان أخاه من الرضاعة، والكوثر بن الأسود الغنوي، ولم ينفع مروان تعصبه مع النزارية شيئاً، بل غدروا به وخذلوه، فلما اجتاز ببلاد قنسرين وَخُنَاصرة أوقعت تَنُوخُ القاطنةُ بقنسرين بساقته، ووثب به أهل حمص، وسار إلى دمشق، فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمرو القيسي، والمذحجيون جميعاً، ثم مر بفلسطين فوثب الحكم بن صنعان بن روح بن زنباع، لما رأوا من إدبار الأمر عنه، وعلم مروان أن إسماعيلِ بن عبد اللّه القشيري قد غَشًه في الرأي ولم يمحضه النصيحة، وأنه فرّط في مشورته إياه، إذ شاور رجلاً من قحطان موتوراً متعصباً مع قومه على أضدادهم مننزار، وأن الرأي كان الذي هَمَّ بفعله من قطع الدرب ونزول بعض حُصُون الروم ومكاتبته ملكها إلى أن يرتئي في أمره.

وذكر المدائني والعتبي وغيرهما أن مروان حين نزل على الزاب جَردَ من رجاله، وَمَنِ اختاره من سائر جيشه من أهل الشام والجزيرة وغيرهم، مائة الفِ فارس على مائة الف قارح، فلما كان يوم الوقعة وأشرف عبد اللّه بن عليّ في المسودة، وفي أوائلهم البنود السُّودُ يحملها الرجال على الجمال البُخْت، وقد جعلت أقتابها من خشب الصفصاف والغرب، قال مروان لمن قَرُبَ منه: أما ترون رماحهم كأنها النخل غلظاً. أما ترون إلى أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع من الغمام سود. فبينا هو كذلك إذ طار من أفرجة هنالك قطعة من الغرابيب سود، فاجتمعت على أول رايات عبد اللّه بن عليّ، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود، ومروان ينظر، فتطير من ذلك فقال: أما ترون السواد قد اتصل بالسواد، وكأنَّ الغرابيب كالسحب سواداً، ثم نظر إلى أصحابه المحاربين - وقد استشعروا الجزَعَ والفزع والفَشَل - فقال: إنها لعُدَّة، وما تنفع العدة إذا. انقضت المدة.
ولمروان على الزاب أخبار غير هذه قد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، فأغْنَى ذلك عن إعادة ذكرها، واللّه ولي التوفيق.
ذكر خلافة أبي العباس عبد اللّه بن محمد السّفّاح
وبويع أبو العباس السَّفاح - وهو عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب - ليلَةَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه بويع يوم الأربعاء لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من شهرربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: في النصف من شهر جمادي الآخرة من هذه السنة، وامه رَيْطَة بنت عبيد اللّه بن عبد المَدَان الحارثية، وركب إلى المسجد الجامعِ في يوم الجمعة، فخطب على المنبر قائماً، وكانت بنوأمية تخطب قُعُوداَ، فضجَّ الناسُ وقالوا: أحييت السُّنة يا ابن عَمِّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وعشرين يوماً، ومات بالأنبار في مدينته التي بَنَاهَا، وذلك في يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل: ابن تسع وعشرين سنة، وكانت امه تحت عبد الملك بن مروان، فكان له منها الحجاج بن عبد الملك، فلما توفي عبد الملك تزوجها محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، فولدت منه عبد اللّه بن محمد السفاح، وعبيد اللّه، وداود، وميمونة.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وصية إبراهيم الإمام له

ولما حبس إبراهيم الإمام بحرَّان، وعلم أن لا نجاة له من مروان، أثبت وصيته وجعلها إلى أخيه أبي العباس عبد اللّه بن محمد، وأوصاه بالقيام بالدولة والجدِّ والحركة وأن لا يكون له بعده بالحميمة لُبْثٌ ولا عَرَجَة حتى يتوجَّه إلى الكوفة فإن هذا الإمر صائر إليه لا محالة، وأنه بذلك أتتهمِ الرواية، وأظهره - على أمر الدُّعَاة بخراسان والنُّقَبَاء، ورسم له بذلك رسماَ أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعدَّاه، ودفع الوصية بجميع ذلك إلى سابق الخوارزمي مولاه، وأمره إنْ حَدَث به حَدَثٌ من مروان في ليل أو نهار أن يجدَّ السير إلى الحميمة حتى يدفع وصيته إلى أخيه أبي العباس، فلما قضى إبراهيم نَحْبَه أسرع سابق في السير حتى أتى الحميمة فدفع الوصية إلى أبي العباس ونَعَاه إليه، فأمره أبو العباس بستر الوصية وأن ينعاه، ثم أظهر أبو العباس أهلَ بيته على أمره، ودعا إلى مؤازرته ومكاشفته أخاه أبا جعفر عبد اللهّ بن محمد، وعيسى بن موسى بن محمد ابن أخيه، وعبد اللّه بن علي عمه، وتوجَّه أبو العباس إلى الكوفة مسرعاً، وهؤلاء معه في غيرهم ممن خَفَّ من أهل بيته، فلقيتهم أعرابية على بعض مياه العرب في طريقهم إلى الكوفة، وقد تقدمَ أبو العباس وأخوهُ أبو جعفر وعمه عبد اللهّ بن علي فيمن كان معهم إلى الماء، فقالت الأعرابية: تاللّه ما رأيت وجوهاً مثل هذه ما بين خليفة وخليفة وخارجي، فقال لها أبوجعفر المنصور: كيف قلت يا أمَةَ اللّه. قالت: واللهّ ليلينّهَا هذا، وأشارت إلى السفاح، ولتخلُفَنَّهُ أنت، وليخرجَنَّ عليك هذا، وأشارت إلى عبد اللّه بن علي، فلما انتهوا إلى دومة الجندل لقيهم داود بن علي وموسى بن داود، وهما منصرفان من العراق إلى الحميمة من أرض الشراة، فسأله داود عن مسيره، فأخبره بسببه، وأعلمه بحركة أهل خراسان لهم مع أبي مسلم، وأنه يريد الوثوب بالكوفة، فقال له داود: يا أبا العباس، تَثِبُ بالكوفة ومروان شيخ بني أمية وزعيمهم في أهل الشام والجزيرة مُطِلٌّ على أهل العراق، وابن هُبَيْرة شيخ العرب في جلّة العرب بالعراق، فقال أبو العباس: يا عَمَّاه، من أحب الحياة ذل، وتمثل بقول الأعشى:
فما مَيْتَةٌ إن مُتُّهَا غيرعاجز ... بِعَار،إذا ما غالت النفسَ غُولُهَا
فالتفت داود إلى ابنه موسى، فقال: أيْ بني، صدق ابن عمك، ارجع بنا معه نحيا أعزاء أو نموت كراماً، فعطفا ركابهما معه، وسار أبو العباس حتى دخل الكوفة.
وقد كان أبو سَلَمة حفص بن سليمان - حين بلغه مقتل إبراهيم الإمام - أضْمَرَ الرجوع عما كان عليه من الدعوة العباسية إلى آل أبي طالب.
مقدم السفاح الكوفة
وقدم أبو العباس الكوفة فيمن ذكرنا من أهل بيته سراً، والمسودة مع أبي سلمة بالكوفة، فأنزلهم جميعاً دار الوليد بن سعد في بني أوْدٍ حي من اليمن، وقد ذكرنا مناقب أود وفضائلها فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار الحجاج، وبراءتهم من عليّ والطاهرين من ذريته، ولم أر إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - فيما دُرْتُ من الأرض وتغربت من الممالك رجلاً من أود الا وجدته - إذا استبطنت ما عنده - ناصبياً متولياً لآل مروان وحزبهم.

وأخفى أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه، ووكل بهم وكيلاً، وكان قدوم أبي العباس الكوفة في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفيها جرىَ البريد بالكتب لولد العباس، وقد كان أبو سَلَمة لما قتل إبراهيم الإِمام خاف انتقاض الأمر وفساده عليه، فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد اللّه جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإلى أبي محمد عبد اللّه بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم أجمعين، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه. ليصرف الدعوة إليه، ويجتهد في بيعة أهل خراسان له، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ، فلا تكونَنَّ كوافد عاد، فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفربن محمد فلقيه ليلاً، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة، ودفع إليه كتابه، فقال له أبو عبد اللهّ وما أنا وأبو سَلَمة. وأبو سَلَمة شيعة لغيري، قال: إني رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت، فدعا أبو عبد اللّه بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرف صاحبك بما رأيت، ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول الكميت بن زيد:
أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوءها ... ويا حاطباً في غيرحبلك تحطب
فخرج الرسول من عنده وأتى عبد اللّه بن الحسن فدفع إليه الكتاب فقبله وقرأَه وابتهج به، فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتابُ ركب عبد اللّه حماراً حتى أتى منزل أبي عبد اللّه جعفربن محمد الصادق، فلما راه أبو عبد اللّه أكبر مجيئه، وكان أبو عبد اللّه أسَنِّ من عبد اللهّ، فقال له: يا أبا محمد، أمْرٌ ما أتى بك، قال: نعم وهوأجَلُّ من أن يوصف، فقال: وما هو يا أبا محمد. قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله، وقد تقدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان، فقال له أبو عبد اللّه: يا أبا محمد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك. أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان، وأنت أمرته بلبس السواد. وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وَجَّهت فيهم، وهل تعرف منهم أحداً. فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام، إلى أن قال: إنما يريد القوم ابني محمداً لأنه مهديُّ هذه الأُمة، فقال أبو عبد اللهّ جعفر: واللّه ما هو مهدي هذه الأُمة، ولئن شهر سيفه ليقتلن، فنازعه عبد اللهّ القول، حتى قال له: واللّه ما يمنعك من ذلك الا الحسد، فقال أبوعبد اللّه: واللّه ما هذا نصح مني لك، ولقد كتب اليً أبوسلمة بمثل ما كتب به اليك، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك، ولقد أحرقْتُ كتابه من قبل أن أقرأه، فانصرف عبد اللّه من عند جعفر مغضباً، ولم ينصرف رسول أبي سلمة إليه إلى أن بويع السفاح بالخلافة وذلك أن أبا حميد الطوسي دخل ذات يوم من المعسكر إلى الكوفة فلقي سابقاً الخوارزمي في سوق الكناسِة فقال له: اسابق، قال: سابق فسأله عن إبراهيم الإِمام، فقال: قتله مروان في الحبس، وكان مروان يومئذ بحرَّان، فمال أبو حميد: فإلى مَنِ الوصية، قال: إلى أخيه أبي العباس، قال: وأين هو، قال: معك بالكوفة هو وأخوه وجماعة من عمومته وأهل بيته، قال: مُذْ متى هم هنا، قال: من شهرين، قال: فتمضي بنا إليهم، قال: غداً بيني وبينك الموعد في هذا الموضع، وأراد سابق أن يستأذن أبا العباس في ذلك، فانصرف إلى أبي العباس فأخبره، فلامه إذ لم يأت به معه إليهم، ومضى أبو حميد فأخبر جماعة من قوَّاد خراسان في عساكر أبي سَلَمة بذلك، منهم أبو الجهم وموسى بن كعب، وكان زعيمهم، وغدا سابقٌ إلى الموضع، فلقي أبا حميد، فمضَيَا حتى دخلا على أبي العباس ومن معه فقال: أيكم الإمام، فأشار داود بن علي إلى أبي العباس، وقال: هذا لخيفتكم، فأكبَّ على أطرافه يقبلها، وسَلّم عليه بالخلافة، وأبو سلمة لا يعلم بذلك، وأتاه وجوهُ القواد فبايعوه، وعلم أبو سلمة بذلك فبايعه، ودخلوا إلى الكوفة في أحسن زي، وضربوا له مصافاً، وقُدِّمت الخيول، فركب أبو العباس ومن معه حتى أتوا قصر الإمارة، وذلك في يوم الجمعة لاثنتي عشرَةَ ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب تنازُعَ الناس في أي شهر بويع له من هذه السنة.

ثم دخل المسجد الجامع من دار الإمارة، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر تعظيم الرب ومننه، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهت إليه، ووعَدَ الناس خيراً، ثم سكت، فتكلم عمه داود بن علي وهو على المنبر دون أبي العباس، فقال: إنه واللّه ما كان بينكم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، خليفة الا عليٌّ عليه السلام وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي، ثم نزلا.
ثم خرج أبو العباس إلى عسكر أبي سَلَمة فنزل في حجرته، واستخلف على الكوفة وأرضها عَمَّه داود بن علي، وبعث بعمه عبد اللهّ بن على إلى أبي عون عبد الملك بن يزيد، فسارا معاً إلى مروان، فكان من أمرهم ما قدمنا ذكره من التقائهم على الزاب، وهزيمة مروان بن محمد.
عامر بن إسماعيل قاتل مروان
واتصل بأبي العباس السفاح ما كان من عامر بن إسماعيل وقتله لمروان ببوصير وقيل: إن ابن عم لعامر يِقال له نافع بن عبد الملك كان قتله في تلك الليلة في المعركة وهو لا يعرفه، وإن عامراً لما احتز رأس مروان واحتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة التي كان فيها مروان، فقعد علي فرشه وأكل من طعامه، فخرجت إليه ابنة مروان الكبرى، وتعرف بأم مروان، وكانت أسَنَّهُنَّ، فقالت: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فُرُشه حتى أقعدك عليها فأكلت من طعامه واحتويت على أمره، وحكمت في مملكته، لقادرأن يغيرما بك من نعمة.
بين السفاح وعامر بن إسماعيل
وبلغ السفاح فعلُه وكلامها، فاغتاظ من ذلك، وكتب إليه: ويلك أما كان لك في أدب الله عز وجل ما يزجرك عن أن تأكل من طعام مروان وتقعد على مهاده، وتتمكن من وساده. أما واللّه لولا أن أمير المؤمنين تأول ما فعلت على غير اعتقاد منك لذلك ولا شهوة لمَسَّك من غضبه وأليم أدبه ما يكون لك زجراً، ولغيرك واعظاً، فإذا أتاك كتابُ أمير المؤمنين فتقرب إلى اللّه تعالى بصدقة تطفىء بها غَضَبه، وصلاة تظهربها الاستكانة، وصُمْ ثلاثة أيام، ومُرْ جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك.
رأس مروان بينِ يدي السفاح
ولما أتي أبو العباس برأس مروان ووضع بين يديه سجد فأطل السجود ثم رفع رأسه فقال: الحمد للّه الذي لم يبق ثأري قبلك رهطِك، والحمد للّه الذي أظفرني بك، وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني المرت، قد قتْلتً بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم. وتمثل:
لويشربون دمي لَمْ يُرْوِشاربهم ... ولادماؤهُم للغيظ ترويني
ثم حَوَّلَ وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقوله العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومُنَا أن ينصفونا، فأنْصَفَتْ ... قَوَاطِعُ في أيماننا تقطر الدما
تورثن من أشياخ صدق تقربوا ... بهن إلى يوم الوغى فتقدما
إذا خالطَتْ هام الرجال تركنها ... كَبَيْض نعام في الوغى متحطما
وقالت الشعراء في أمر مروان فأكثرت.

وذكر أبو الخطاب عن أبي جعدة بن هبيرة المخزومي - وكان أحَدَ وزراء مروان وسُمَّاره، وقد كان لما ظهر أمر أبي العباس انضاف إلى جملته وصار في عداد أصحابه وخواصه الذين اتخذهم - أنه كان في ذلك اليوم حاضراً لمجلس أبي العباس ورأسُ مروان بين يديه، وهو يؤمئذ بالحميمة،و أن أبا العباس التفت إلى أصحابه فقال: أيكم يعرف هذا. قال أبو جعدة: فقلت أنا أعرفه، هذا رأس أبي عبد اللّه مروان بن محمد خليفتنا، بالأمس رضي اللّه عنه، قال: فحدقت اليَّ الشيعة فأخذتني بأبصارها، قال لي أبو العباس: في أي سنة كان مولده، قلت: سنة ست وسبعين، فقام وقد تغير لونه غيظاً علي، وتفرق الناس من المجلس، وانصرفْتُ وأنا،نادم على ما كان مِني، وتكلم الناس في ذلك وتحدثوا به، فقلت: هذه زلة واللّه لا تُستقال ولا ينساها القوم أبداً، فأتيت منزلي، فلم أزل باقي يومي أعهد وأوصي، فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت للصلاة، وكان أبو العباس إذا هَم بأمر بعث فيه ليلاً، فلم أزل ساهراً حتى أصبحت، فلما أصبحت ركبت بغلتي واستعرضت بقلبي إلى مَنْ أقصد في أمري، فلم أجد أحداً أوْلى من سليمان بن خالد مولى بني زُهْرَةَ، وكانت له من أبي العباس منزلة عظيمة، وكان من شيعة القوم، فأتيته، فقلت: أذَكَرني أمير المؤمنين البارِحَةَ. فقال: نعم، جرى ذكرك، فقال: هو ابن أختنا، وَفّي لصاحبه، ونحن إن أوليناه خيراً كان لنا أ شْكَرَ، فشكرت ذلك له، وجزيته خيراً، ودعوت له، وانصرفت، فلم أزل آتي أبا العباس على ما كُنْتَ عليه لا أرى الا خيراً، ونُمِيَ الكلام الذي كان في مجلس أبي العباس - حين أتي برأس مروان - فبلغ أبا جعفر وعبدَ اللهّ بن علي، فكتب عبدُ اللهّ بن علي إلى أبي العباس يًعْلمه بما بلغه من كلامي، وأنه ليس هذا يحتمل، وكتب أبو جعفر يخبر بما بلغه من ذلك، ويقول: هو ابن أختنا، ونحن أولى باصطناعه واتخاذ المعروف عنده، وبلغني ما كان منهما فأمسكت، وضرب الدهرضرباته، فبينا أنا ذات يوم عند أبي العباس بعد حين وقد تزايدت حالي عنده وأحْظَإني، فنهض الناس ونهضتُ، فقال لي أبو العباس: على رِسْلِكَ يا ابن هُبَيْرة، اجلس، ونهض ليدخل فقمت لقيامه، فقال: اجلس، فرفع الستر ودخل، وثبتُّ في مجلسي، فأقام مَلِيّاً ثم رفع الستر فخرج في ثوبَيْ وَشْي رادء وجبة، فما رأيت أحسن منه ولا مما عليه قَطُّ، فلما رفع الستر نهضت، فقال: اجلس، فقال: يا ابن هُبَيْرة، إني ذاكر لك أمراً فلا يخرجَنَّ من رأسك إلى أحَدٍ من الناس، ثم قال: قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر وولاية العهد لمن قَتَلَ مروان، وعبد اللّه بن علي عمي هو الذي قتله، لأن ذلك كان بجيشه وأصحابه، وأخي أبو جعفر - مع فضله وعلمه وسنه وإيثاره لأمر اللهّ - كيف يسوغ إخراجه عنه. قال: فأطال في مديح أبي جعفر، فقلت: أصلح اللهّ أمير المؤمنين لا أشير عليك، ولكني أحدثك حديثاً تعتبره، فقال: هاته، فقلت: كنا مع مَسْلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية إذ ورد عليه كتاب عمر بن عبد العزيز بنعي سليمان ومصير الأمر إليه، فبعث إلى فدخلتً عليه، فرمى بالكتاب الي فقرأته، ثم اندفع يبكي، فقلت: أصلح اللّه الأمير لا تَبْكِ على أخيك، ولكن ابْكِ على خروج الخلافة من ولد أبيك إلى ولد عمك، فبكى حتى اخضلتْ لحيته، قال: فلما فرغت من حديثي قال لي أبو العباس: حسبك قد فهمت عنك، ثم قال: إذا شئت فانهض، فما مضيت غيربعيد حتى قال لي: يا ابن هبيرة، فالتفت،راجعاً، فقال لي: امْض، أما إنك قد كافأت هذا، وأدركت بثأرك من هذا، قال: فما أدري من أي الأمرين أعجب، أمن فِطْنته أم من ذكره لما كان،.
وأبوجعدة بن هُبَيْرة هذا هو من ولد جعدة بن هبيرة المخزومي من فاختة ام هانىء بنت أبي طالب، وعليٌ وجعفر وعقيل أخْوَاله، وقد قدمنا خبَرَه فيما سلف من هذا الكتاب.
بين عبد اللّه بن علي وأخيه داود في ولاية عهد السفاح
قال المسعودي: ووجدت في أخبار المدائني، عن محمد بن الأسود، قال: بينما عبد اللّه بن علي يُسَاير أخاه داود بن علي ومعهما عبد اللّه بن الحسن بن الحسن: فقال داود لعبد اللّه: لم لا تأمر ابنيك، بالظهور، فقال عبد اللّه: هيهات لم يَئِنْ لهما بعدُ فالتفت إليه عبد اللهّ بن علي فقال: كأنك تحسب أن ابنيك هما قاتلا مروان، فقال: إن ذلك كذلك، فقال عبد اللّه: هيهات، وتمثل:

سيكفيك المقالةَ مستميت ... خفيف اللحم من أولاد حام
أنا واللّه قاتله.
وقيل لعبد اللّه بن علي: إن عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز يذكر أنه قرأ في بعض الكتب أنه يقتل مروان عَيْنٌ ابن عين، وقد أمَّلَ أن يكون هو، فقال عبد اللّه بن علي: أنا واللّه ذلك، ولي عليه فضل ثلاثة أعين، أنا عبد اللّه بن علي بن عبد اللهّ بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو عمروبن عبد مناف.
فلما صافَّ مروان عبد اللّه بن علي أقبل مروان على رجل إلى جنبه فقال: من الرجل الذي كان يخاصم عندك عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر الأقنى الحديد البصر الحسن الوجه. فقلت: يرزق اللّه البيان من يشاء، قال: إنه لهو، قلت : نعم، قال: من ولد العباس بن عبد المطلب هو، قلت: أجَلْ، فقال مروان: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ويحك، إني ظننت أن الذي يحاربني من ولد أبي طالب وهذا الرجل من ولد العباس واسمه عبد اللّه أتدري لم صيرت الأمر بعدي لابني عبيد اللهّ بعد عبد اللّه ومحمد أكبر من عبد اللّه. قلت: لم. قال: لأنا خُبِّرْنَا أن الأمر صائر بعدي إلى عبد اللّه وعبيد اللّه، فنظرت فإذا عبيد اللّه أقرب إلى عبد اللّه من محمد، فوليته دونه.
قال: وَبَعَثَ مروان بعد أن حدَث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد اللّه ابن عليَ في خِفية: إن الأمر يا ابن عم صائر اليك فاتق اللّه في الحرم، قال: فبعث إليه عبد اللّه: إن الحق لنا في دمك، والحق علينا في حرمك.
زواج السفاح بأم سلمة بنت يعقوب
وذكر مصعب الزبيري عن أبيه قال: كانت ام سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد اللّه بن الوليد بن المغيرة المخزومي عند عبد العزيزبن الوليد بن عبد الملك، فهلك عنها، ثم كانت عند هشام فهلك عنها، فبينا هي ذات يوم جالسة إذ مر بها أبو العباس السفاح، وكان جميلاً وسيماً

فسألت عنه، فنسب لها، فأرسلت له مولاةً لها تعرض عليه أن يتزوجها، وقالت لها: قولي له هذه سبعمائة دينار أوجه بها إليك، وكان معها مال عظيم وجوهر وحشم، فأتته المولاة فعرضت عليه ذلك، فقال: أنا ممْلِقُ لا مال عندي، فدفعت إليه المال، فأنعم لها، وأقبل إلى أخيها فسأله التزويج فزوجه إياها، فأصدقها خمسمائة دينار، وأهدى مائتي دينار، ودخل عليها من ليلته، وإذا هي عَلَى مِنَصَّةٍ، فصعد عليها، فإذا كل عضو منها مكلل بالجواهر فلم يصل إليها، فدعت بعض جواريها فنزلت وغيرت لبسها ولبست ثياباً مصبغة وفرشت له فراشاً عَلَى الأرض دون ذلك، فلم يقدر يصل إليها، فقالت: لا يضرك هذا، كذلك الرجال كان يصيبهما مثل ما أصابك، فلم تزل به حتى وصل إليها من ليلته، وحَظِيت عنده، وحلف أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فولدت منه محمداً ورَيْطَة، وغلبت عليه غلبة شديدة، حتى ما كان يقطع أمراً الاَ بمشورتها وبتأميرها حتى أفضت الخلافة إليه، فلم يكن يدنو إلى النساء غيرها لا إلى حرة ولا إلى أُمة، ووفى لها بما حلف أن لا يغيرها، فلما كان ذات يوم في خلافته خلا به خالد بن صفوان فقال: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وسعة ملكك، وقد مَلَّكْتَ نفسك امرأة واحدة واقتصرت عليها، فإن مرضت ومرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ باستظراف الجواري ومعرفة أخبار حالاتهن والتمتع بما تشتهي منهن فإن منهن يأ أمير المؤمنين الطويلة الغَيْداء، وإن منهن البَضَّة البيضاء، والعتيقة الأدْمَاء، والدقيقة السمراء، والبربرية العَجْزاء، من مولدات المدينة تفتن بمحادثتها، وتلذ بخلوتها، وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن وحسن الحديث منهن. ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء، والسمراء واللعساء، والصفراء العجزاء، والمولدات من البصريات والكوفيات، ذَوَات الالسن العَذبة، والقدود المهذهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المًزَرْفَنَة، والعيون المكحلة، والثدي المحققة وحسن زيهن وزينتهن وشكلهن، لرأيت شيئاً حسناً، وجعل خالد يجيد في الوصف، ويكثرفي الإطناب بحلاوة لفظه وجودة وصفه، فلما فرغ كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد ما صَكَّ مسامعي واللّه قط كلام أحسن مما سمعته منك، فأعِدْ علي كلامك فقد وقع مني موقعاً، فأعاد عليه كلامه خالد أحسن مما ابتدأه، ثم انصرف، وبقي أبو العباس مفكراً فيما سمع منه، فدخلت عليه ام سلمة امرأته، فلما رأته مفكراً مغموماً قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حَدَث أمر تكرهه، أو أتاك خبر فارتَعْتَ له. قال: لم يكن من ذلك شيء، قالت: فما قصتك. فجعل ينزوي عنها، فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد له، فقالت: فما قُلْت لابن الفاعلة. قال لها: سبحان اللهّ ينصحني وتشتمينه. فخرجت من عنده مُغْضَبة، وأرسلت إلى خالد جماعة من النجارية ومعهم الكامر كوبات، وأمرتهم أن لا يتركوا منه عضواً صحيحاً، قال خالد: فانصرفت إلى منزلي، وأنا على السرور بما رأيت من أمير المؤمنين، وإعجابه بما ألقيته إليه، ولم أشك أن صلته ستأتيني، فلم ألبث حتى صار إلى أولئك النجارية وأنا قاعد على باب داري، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوى أيقنت بالجائزة والصلة، حتى وقفوا عَلَيَّ، فسألوا عني، فقلت: ها أنا ذا خالد، فسبق إلى أحدهم بهَرَاوة كانت معه فلما أهْوَى بها الي وَثَبْتُ فدخلت منزلي، وأغلقت الباب عَلَيَ، واستترت، ومكثت أياماً على تلك الحال لا أخرج من منزلي، ووِقع في خَلَدِي إني أوتيت من قبل أم سَلَمة، وطلبني أبو العباس طلباً شديداَ، فلم أشعر ذات يوم الا بقوم قد هجموا

عليَ، وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنت بالموت، فركبت وليس عليَّ لحم ولا دم، فلم أصل إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل، فدخلت عليه فالذيته خالياً، فسكنت بعض السكون، فسلمت فأومأ الي بالجلوس، ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أرخيت، وحركة خلفها، فقال لي: يا خالد، لم أرك منذ ثلاث، قلت: كنت عليلاً يا أمير المؤمنين، قال: ويحك إنك كنت وصفت لي في اخر دَخْلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه، فأعده عليَّ، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضرة من الضر، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة الا كان في جَهْد، فقال: ويحك لم يكن هذا في الحديث، قلت: بلى واللهّ يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافيَ القدرِ يُغْلَى عليهن، قال أبو العباس: برئت من قرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،إن كنت سمعت هذا منك في حديثك، قال: وأخبرتك أن الأربعة من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويسقمنه، قال: ويلك واللّه ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت، قال خالد: بلى واللّه، قال: ويلك وتكذبني. قال: وتريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين، قال: مُرّ في حديثك، قال: وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال، ولكن لاخصي لهنَّ، قال خالد: فسمعت الضحك من وراء الستر، قلت: نعم وأخبرتك أيضاً أن بني مخزوم رَيْحَانَةُ قريش، وأن عندك ريحانة من الرياحين، وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإِماء، قال خالد: فقيل من وراء الستار: صدقت واللّه يا عماه وبَرِرْتَ، بهذا حَدَّثْتَ أمير المؤمنين، ولكنه بدل وغير ونطق عن لسانك، فقال لي أبو العباس: مالك قاتلك اللّه وأخزاك وفعل بك وفعل، قال: فتركته وخرجت وقد أيقنت بالحياة، قال خالد: فما شعرت الا برسل ام سلمة قد صاروا اليَّ ومعهم عشرة الاف درهم وتَخْتٌ وبرذون وغلام.
كان السفاح يحب مسامرة الرجال
ولمِ يكن أحد من الخلفاء يحب مسامرة الرجال مثل أبي العباس السفَّاح وكان كثيراَ ما يقول: إنما العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلاً، فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين، قال: يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفاً، ويروي نقصاً، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم اللّه على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.
السفاح وأبو نخيلة
ودخل عليه أبونخيلة الشاعر، فسلم عليه، وانتسب له، وقال: عبدك يا أمير المؤمنين شاعرك، أفتأذن. لي في إنشادك. فقال له: لعنك اللّه ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بن مروان:
أمَسْلَمَ، إني يا ابن كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك، إن الشكرحَبْلٌ من التقى ... وماكان من أوليته نعمة يقضي
واحييْتَ لي ذِكْرِي وما كان خامل ... ولكنَّ بعض الذكرأنبهُ من بعض
قال: فأنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:
لما رأينا استمسكت يداكا ... كنا اناساً نَرْهَبُ الملاكا
ونركب الأعجاز والأوراكا ... من كل شيء ما خلا الإشراكا
فكلما قد قلت في سواكا ... زُورٌ، وقد كَفَّرَ هذا ذاكا
إنا انتظرنا قبلها أباكا ... ثم انتظرنا بعدها أخاكا
ثم انتظرناك لها إياكا ... فكنت أنت للرجاء ذاكا
قال: فرضي عنه ووَصَله وأجازه.
وكان أبو العباس إذا حضر طعامه أبْسَطَ ما يكون وجهاً، فكان إبراهيم ابن مَخْرَمَةَ الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخرها حتى يحضر طعامه ثم يسأله، فقال له يوماً: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك. قال: يدعوني إلى ذلك التماس النُّجْح لما أسال، قال أبو العباس: إنك لحقيق بالسؤعد لحسن هذه الفِطنَة.
بعض عادات وسياسات السفاح.
وكان إذا تعادى رجلان من أصحابه وبطانته لم يسمع من أحدهما في الآخر شيئاً ولم يقبله، وإن كان القائل عَدْلاً في شهادته، وإذا اصطلح الرجلان لم يقبل شهادة واحد منهما لصاحبه ولا عليه، ويقول: إن الضغينة القديمة تولد العداوة المُمِضَّة، وتحمل على إظهار المسالمة، وتحتها الأفعى التي إذا تمكنت لم تُبْقِ.

وكان في أول أيامه يَظْهَر لندمائه، ثم احتجب عنهم، وذلك لسنة خلت من ملكه، لأمر قد ذكرناه فيما سلف من كتبنا، وكان قعوده من وراء الستارة، على حسب ما ذكرناه فيما سلف من هذا الكتاب في سيرة أردشير بن بابك وأيامه.
وكان يطرب من وراء الستر على حسب ما ذكرنا، ويَصيحُ بالمطرب له من المغنين: أحسنت والله، أعِدْ هذا الصوت.
وكان لا ينصرف عنه أحد من ندمائه ولا من مُطْرِبيه الا بصلة من مال أو كسوة، يقول: لا يكون سرورنا معجلاً، ومكافأة من سرنا وأطربنا. مؤجلاً، وقد سبقه إلى هذا الفعل ملك من الملوك التي للفرس، وهو بَهْرَام جور.
وحضره أبو بكر الهذلي ذات يوم، والسفاح مُقْبِل عليه يحادثه بحديث لأنوشروين في بعض حروبه بالمشرق مع بعض ملوك الأمم، فعصفت الريح فأذْرَت تراباً وقطعاً من الاجر من أعلى السطح إلى المجلس، فجزع من حضر المجلس لوقوع ذلك، وارتاع له، والهذلي شاخص نحو أبي العباس لم يتغير كما تغير غيره، فقال له أبو العباس: للهّ أنت يا أبا بكر، لم أر كاليوم، أما راعَكَ ما راعَنَا ولا أحسست بما ورد علينا، فقال: يا أميرالمؤمنين، ما جعل اللهّ لرجل من قلبين في جَوْفهِ، وإنما جُعل للرجل قلب واحد، فلما غمره السرور بفائدة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، واللّه عز وجل إذا أفرد بكرامته أحداً وأحب أن يبقى له ذكرها جعل تلك الكرامة على لسان نبي أو خليفة، وهذه كرامة خُصِصْت بها فمال إليها ذهني، وشغل بها فكري، فلوا انقلبت الخضراء على الغَبْراء ما احسست بها، ولا وَجَمْتُ لها، إلا بما يلزمني من نفسي لأمير المؤمنين أعزه اللّه تعالى، فقال له السفاح: لئن بقيتُ لك لأرفعنَّ منك وضيعاً لا تُطِيفً به السباع، ولا ينحطُّ عليه العقاب.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وصية عبد الملك للشعبي في فضل الإنصات للملوك.
من النصائح في مخالظة الملوك
وقد حكي عن عبد اللّه بن عياش المنتوف أنه قال: لم تتقرب العامة إلى الملوك بمثل الطاعة، ولا العبيد بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع.
وقد حكي عن روح بن زنباع الجذامي أنه كان يقول: إذا أردْتَ أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإِصغاء إلى حديثه، ولا يتعتب الرجل عندي إذا كان يصغي إلى حديثه، ولا يقدح ما قيل فيه في قلبي لما تقدم له من حسن الاستماع عندي.
وقد حكى عن معاوية أنه كان يقول: يُغْلَب الملك حتى يُرْكَب لشيئين: بالحلم عند سَوْرَته، والأَصغاء إلى حديثه.

ووجدت في سير الملوك من الأعاجم أن شيروَيْةِ بن أبرويز بينا هو في بعض منتزهاته بأرض العراق، وكان لا يسايره أحد من الناس مبتدئاً، وأهل المراتب العالية خَلْفَ ظهره على مراتبهم، فإن التفَتَ يميناً دنا منه صاحب الجيش، وإن التفت شمالاً دنا منه المُوبِذَانُ، فأمر مَنْ دنا منهما بإحضار مَنْ أراد مسامرته، فالتفت في مسيره هذا يميناً، فدنا منه صاحب الجيش، فقال: أين شداد بن جرثمة؟ فأحضر، فسايره، فقال له شيرويه: أفكَرْتُ في حديث جَدِّنَا أردشير بن بابك حين واقع ملك الخزر، فحدثْنِي به إن كنت تحفظه، وكان شداد قد سمع هذا الحديث من أنو شروان، وعرف المكيدة، وكيف كان أردشير أوقعها بملك الخزر، فاستعجم عليه شداد، وأوهمه أنه لا يعرفه، فحدثه شيرويه بالحديث، فأصغى إليه الرجل بجوارحه كلها، وكان مسيرهم على شاطىء نهر، فترك الرجل لإِقباله على شيرويه النَّظَرَ إلى موطىء حافر دابته، فزلّتْ إحدى قوائم الدابة، فمالت بالرجل إلى اليمين، فوقع في الماء، ونفرت الدابة، فابتدرها حاشية الملك وغلمانه فأمالوها عن الرجل، وجذبوه فحملوه على أيديهم حتى أخرجوه فاغتمَّ الملك لذلك، ونزل عن دابته وبسط له هنالك حتى تغذَى في موضعه، ودعا بثياب من خاص كسوته فألقيت على شداد وأكل معه، وقال له: غفلت عن النظر إلى موضع حافر دابتك، فقال: أيها الملك، إن اللّه إذا أنعم على عبد نعمةَ قابلها بمحنة، وعارضها ببلية، وعلى قدر النعم تكون المحن، وإن اللهّ أنعم عليَّ بنعمتين عظيمتين هما إقبال الملك عليَّ بوجهه من بين هذا السواد الأعظم وهذه الفائدة وهي تدبير الحرب حتى حدذَثَ بها عن أردشير حتى إني لو دخلت إلى حيث تطلع الشمس أو تغرب لكنت رابحأ، فلما اجتمعت نعمتان جليلتان في وقت واحد قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك ويُمْن جده لكنت بعرض هلكة، وعلىِ ذلك فلو غرقت حتى ذهبت عن جديد الأرض لكان قد أبقى لي الملكُ ذكراَ مخلداً ما بقي الضياء والظلام والجنوب والصَبا فسُر الملك بذلك، وقال: ما ظننتك بهذا المقدار الذي أنت فيه، فحشا فاه جوهراً ودراً رائقاً ثميناً، واستبطنه حتى غلب على أكثر أمره.
وإنما ذكرنا هذا الخبر من أخبار من سلف منْ ملوك الفرس ليعلم أن أبا بكر الهذلي لم يبتدىء بحال لم يسبقه إليها غيره، ويتقدمه بها سواه.
أحسن المواقع من الملوك
وأحسن المواقع من الملوك الاستماعُ منها، والأخذ عنها، وقد كانت حكماء اليونإنيين تقول: إن الواجب على من أقبل عليه ملك أو ذو رياسة بحديث أن يصرف قلبه كله إلى ذلك، وإن كان يعرف الحديث الذي يسمعه من الملك، كأنه لم يسمعه قط، ويظهر السرور بالفائدة من الملك والاستبشار بحديثه، وإن في ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسني أدبه، فإنه يعطي الملك حقه بحسن الاستماع لحديثه والاستغراب له منه كأنه لم يسمعه، وإظهار السرور والاستفادة منه، فالنفس إلى الفوائد من الملوك والحديت عنهم أشْهَى وأقرب منها إلى فوائد السوقة وما أشبهها.
معاوية وابن شجرة الرهاوي

وقد ذكر جماعة من الأخباريين كابن دأب وغيره نحو هذا المعنى عن معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن شجرة الرهاوي، وهو أن ابن شجرة كان يُسَاير ذات يوم معاوية وكان آنساً به، وإلى حديِثه تائقاً، ومعاوية مقبل عليه يحدثه عن جزعان يوم كان لبني مخزوم وغيرهم من قريش، كان فيه حرب عظيمة فني فيه خلق من الناس، وذلك قبل الإِسلام، وقيل: إن ذلك كان قبل الهجرة، وكانت لأبي سفيان فيه مكرمة وسابقة في الرياسة، وهو أنه لما أشرف الفريقان على الفَنَاء صعد على نَشَزٍ من الأرض ثم صاح بالفريقين، وأشار بكمه، فانصرف الفريقان جميعاَ انقياداً إلى أمره، وكان معاوية مُعْجَباً بهذا الحديث، فبينما هو يحدثه به ويزيد بن شجرة مقبل عليه، وقد استخفتهما لذة المحدث والمستمع إذ صك جبين يزيد بن شجرة حجر عائر فأدماه، فجعلت الدماء تسيل على وجهه ولحيته وثوبه، وغير ذلك، ولم يتغير عما كان عليه من الاستماع، فقال له معاوية: للّه أنت يابن شجرة، أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا دَمٌ يسيل على ثوبك، قال: أعتق ما أملك إن لم يكن حديث أمير المؤمنين الهإني حتى غمر فكري وغَطّى على قلبي، فما شعرت بشيء مما حَدَثَ، حتى نبهني عليه أمير المؤمنين، فقال معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء، وأخرجك عن عطاء أبناء المهاجرين والجماهير ممن حضر معنا بِصِفينَ، ثم أمر له وهو في مسيره بخمسمائة ألف درهم، وزاده في عطائه ألفاً من الدراهم، وجعله بين جلده وثوبه.
تعليق
وقد قال بعض أهل المعرفة والأدب من مصنفي الكتب في هذا المعنى وغيره مما حكيناه عن معاوية وابن شجرة: لئن كان ابن شجرة خَدَعَ معاوية في هذا ومعاوية ممن لا يخادع فما مثله إلا كما قال الأول:
من يَنِكِ العير ينك نياكا
وإن كان قد بلغ من بلادة ابن شجرة، وقلة حسه، ما وصف به نسه فما كان جديرآ بخمسمائة ألف درهم صِلة، وزيادق ألف في عطائه، وما أظن ذلك خفي عن معاوية.
حسن الاستماع
قال المسعودي: وقد قالت الحكماء في هذا وأكثرت، وأمرت بحسن الاستماع والصمت وأطْنَبْتُ، فقالوا: لا تحسن المحادثة إلا بحسن الفهم، وقالوا: تعلم حسن إلاستماع كما تتعلم حسن الكلام، وحسن إلاستماع هو إمهال المحدث حتى ينقضي حديثه.
من أدب الحديث
ومن أدب الحديث وواجباته: أن لا يقتضب اقتضاباً، ولا يهجم عليه، وأن يتوصل إلى إجرائه بما يشاكله، وأن يستنسب له ما يحسن أن يجري في عرضه حتى يكون بعض المفاوضة متعلقاً ببعض، على حسب ما قالوا في المثل: إن الحديث ذو شجون، يريدون بذلك تشعبه وتفرعه عن أصل واحد إلى وجوه من المعانىِ كثيرة، إذ كان العيش كله في الجليس الممتع، وقال رجل: واللّه ما أمَل الحديث، فقال السامع: إنما يمل العتيق لا الحديث.
وقد أكثرت الشعراء من إلاغراق في هذا المعنى، ومن ذلك قول علي بن العباس الرومي:
وسئمت كل مآربي ... فكأنَّ أطيبها غَثِيتُ
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول إبراهيم بن العباس:
إن الزمان وما تَرَيْنَ بِمَفْرِقِي ... صَرَفَ الغواية فانصرفْتُ كريماً
وضَجِرْتُ إلامن لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
وقد ذكر بعض المحدثين من أهل الأدب أن من الأدب عَدَمَ إطالة الحديث من النديم، وأن أحْلَى الحديث وأحْسَنَه موقعاً أن تجتنب منه الأحاديث الطِّوَال ذات المعإني المغلغلة والألفاظ الحَشْوِية التي ينقضي باقتصاصها زمان المجلس، وتتعلق بها النفوس، وتحتسى على أواخرها الكؤوس، فإن ذلك بمجالس القًصَّاص، أشبه منه بمجالس الخواص.
وقد ذكر هذا المعنى فأجاد فيه عبد الله بن المعتز باللهّ، ووصف ذلك من أصحاب الشراب على المعاقرة، فقال:
بين أقْدَاحهم حديث قصير ... هو سحر، وما عَدَاهُ كلام
وكأن السُّقَاةَ بين الندامى ... ألفَات بين السطورقيام
وهذه طريقة مَنْ ذهب ني هذا المعنى إلى استماع الملح.
أول وزير في الدولة العباسية

وكان أول من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العباس أبو سَلَمة حفص بن سليمان الخَلال الهمدإني، مولى لسبيغ، وكان في نفس أبي العباس منه شيء، لأنه كان حاول في رد الأمر عنهم إلى غيرهم، فكتب أبو مسلم إلى السفاح يشير عليه بقتله، ويقول له: قد أحَلَّ اللّه لك دمه، لأنه قد نكث وغير وبدل، فقال السفاح: ما كنت لأفتتح دولتى بقتل، رجل من شيعتي، لاسيما مثل أبي سَلَمة، وهو صاحب هذه الدعوة، وقد عرض نفسه، وبذل مهجته، وأنفق ماله، وناصح إمامه، وجاهد عدوه، وكلمه أبو جعفر أخوه وداود بن علي عمه في ذلك، وقد كان أبو مسلم كَتب إليهما يسألهما أن يشيرا على السفاح بقتله، فقال أبو العباس: ما كنت لأفسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّةٍ كانت منه، وهي خَطْر من خطرات الشيطان، وغفلة من غفلات إلانسان، فقالا له: فينبغي يا أمير المؤمنين أن تحترس منه، فإنا لا نأمنه عليك، فقال: كلا إني لآمنه في ليلي ونهاري وسري وجهري ووحدتي وجماعتي، فلما اتصل هذا القول من أبي العباس بأبي مسلم كبره وأعظمه، وخاف من ناحية أبي سَلَمة يقصده بمكروه، فوجَّه جماعة من ثقات أصحابه في إعمال الحيلة في قتل أبي سَلَمة، وقد كان أبو العباس يأنس بأبي سَلَمة ويسمر عنده، وكان أبو سَلَمة فكهاً ممتعاً أديباً عالماً بالسياسة والتدبير، فيقال: إن أبا سَلمة انصرف ليلة من عند السفاح من مدينته بالأنبار، وليس معه أحد، فوثب عليه أصحاب أبي مسلم فقتلوه، فلما اتصل خبره بالسفاح أنشأ يقول:
إلى النار فليذهب، ومن كان مثله ... على أي شيء فَاتَنَا منه نأسَف
وكان أبو مسلم يقال له: أمين آل محمد، وأبو سَلَمة حفص بن سليمان يدعى وزيرآل محمد، فلما قتل غيلة على ما ذكرنا قال في ذلك الشاعر من أبيات:
إن المساءَة قد تسرُّ، وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أوْدَى، فمن يَشْنَاكَ كان وزيرا
وقد أتينا على خبر مقتله وكيفية أمره في الكتاب الأوسط.
مسامرات السفاح
وكان السفاح يعجبه المحادثة، ومفاخرات العرب من نزار واليمن والمذاكرت بذلك، ولخالد بن صفوان ولغيره من قحطان أخبار حسان، ومفاخرات ومذاكرات ومنادمات ومسامرات مع أبي العباس السفاح قد أتينا على مبسوطها وما أخترناه من غررها في كتابَيْنَا أخبار الزمان والأوسط فأغنى ذلك عن ذكرها.
ومما ذكر من أخباره واستفاض من أسماره، ما ذكره البهلول بن العباس عن الهيثم بن عدي الطائي، عن يزيد الرقاشي، قال: كان السفاح يعجبه مسامرة الرجال، وإني سمرت عنده ذات ليلة، فقال: يا يزيد، أخبرني بأظْرَفِ ما سمعته من الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، وإن كان في بني هاشمِ. قال: ذلك أعجب إلي، قلت: يا أمير المؤمنين، نزل رجل من تَنُوخ بحي من بني، عامر بن صَعْصَعَة، فجعل لا يحط شيئاً من متاعه إلا تمثل بهذا البيت:
لعمرك ما تَبْلَى سرائرعامرٍ ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها
فخرجت إليه جارية من الحي، فحادثته وآنسته، وسألته حتى أنس بها، ثم قالت: ممن أنت مُتِّعْت بك؟! قال: رجل من بني تميم، فقالت: أتعرف الذي يقول:
تميمٌ بِطُرْقِ اللؤم أهْدَى من القطا ... ولو سلكت سُبْلَ المكارم ضَلّتِ
ولوأن برغوثاًعلى ظهر قَمْلة ... يكر على جَمْعَيْ تميم لولتِ
ذبحنا فسمينا فتم ذبيحنا ... وماذبحت يوماً تميم فسمت
أرى الليل يَجْلوه النهار، ولا أرى ... عظام المخازي عن تميم تجلت
فقال: لا واللهّ ما أنا منهم، قالت: فممن أنت؟ قال: من عِجْلٍ، قالت: أتعرف الذي يقول:
أرى الناس يُعْطُونَ الجزيل، وإنما ... عطاء بني عجل ثلاث وأربع
إذا مات عجليٌّ بأرض فإنما ... يشق له منها ذراع وإصبع
قال: لا واللّه ما أنا من عجل، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني يشكر، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا يشكريٌ مَسَّ توبَكَ ثوبه ... فلا تذكرن اللّه حتى تطهرا
قال: لا واللّه ما أنا من يشكر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبد القيس، قالت: أتعرف الذي يقول:

رأيت عبدالقيس لاقت ذلا ... إذا أصابوا بصلا وخلا
ومالحاً مصنعاً قد طلا ... باتوا يسلون النساء سلا
سَلَّ النبيط القَصَبَ المبتلا
قال: لا واللّه ما أنا من عبد القيس، قالت: فممن أنت؟ قال رجل من باهلة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ازدحم الكرام على المعالي ... تنحَّى الباهليُّ عن الزحام
فلو كان الخليفة باهلياً ... لقصرعن مناوأة الكرام
وعِرْضُ الباهلي وإن تَوَقّى ... عليه مثل منديل الطعام
قال: لا واللّه ما أنا من باهلة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني فَزَارَة، قال: أتعرف الذي يقول:
لا تأمننَّ فزاريَاَ خَلَوْت به ... على قَلُوصِكَ، واكْتُبْهَا بأسيار
لا نأمننَ فزارياً على حمر ... بعد الذي امتلَّ أير العير في النار
قوم إذا نزل الأضياف ساحتهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
قال: لا والله ما أنا من فزارة، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من ثقيف، قالت: أتعرف الذي يقول:
أضل الناسبون أبا ثقيف ... فما لهمُ أبٌ إلا الضلال
فإن نُسِبَتْ أو انتسبت ثقيف ... إلى أحد فذاك هوالمحال
خنازيرالحُشًوش فقتِّلوها ... فإن دماءها لكم حلال
قال: لا واللهّ ما أنا من ثقيف، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبس، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا عَبْسِية ولدت غلاماً ... فبشِّرها بلؤم مستفاد
قال: لا واللّه ما أنا من عبس، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من ثعلبة، قالت: أتعرف الذي يقول:
وثعلبة بن قيس شر قوم ... وألأمهم وأغدرهم بجار
قال: لا واللّه ما أنا من ثعلبة، قالت: فممن أنت؟ قاك: رجل من غنيٍّ، قالت أتعرف الذي يقول:
إذا غنَوِية ولدت غلاماً ... فبشرها بخياط مجيد
قال: لا واللّه ما أنا غنيٍّ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني مرة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا مُرِّية خضبت يداها ... فزوجها ولا تأمن زناها
قال: لا واللّه ما أنا من بني مرة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني ضبة، قالت: أتعرف الذي يقول:
لقد زَرِقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كل ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرق
قال: لا واللّه ما أنا من بني ضبة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بجيلة، قالت: أتعرف الذي يقول:
سألناعن بجيلة حين حَلت ... لنخبر أين قرَّبها القرار؟
فماتدري بجيلة حين تُدْعَى ... أقحطان أبوها أم نزار؟
فقد وقَعت بجيلة بين بين ... وقد خلعت كما خلع العذار
قال: لا واللّه ما أنا من بجيلة، قالت: فممن أنت ويحك؟! قال: رجل من بني الأزْدِ، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا أزدية ولدت غلأماً ... فبشرها بملاح مجيد
قال: لا والله ما أنا من الأزد، قالت: فممن أنت ويلك؟! أما تستحي؟! قل الحق، قال: أنا رجل من خُزَاعة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وَجَدْنَا فخرها شرب الخمور
وباعت كعبة الرحمن جهرا ... بزقّ، بئس مفتخر الفخور
قال: لا واللّه ما أنا من خُزَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سليم، قالت: أتعرف الذي يقول:
فما لِسُلَيْم شتَت الله أمرها ... تنيك بأيديها وتَعْيا أيورها
قال: لا واللّه ما أنا من سليم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من لقيط، قالت: أتعرف الذي يقول:
لعمرك ما البحار ولا الذيافي ... بأوسع من فِقَاح بني لقيط
لقيطٌ شرمَنْ ركب المطايا ... وأنذل من يدب على البسيط
ألالعن الإلهُ بني لقيط ... بقايا سبية من قوم لوط
قال: لا واللّه ما أنا من لقيط، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كندة، قالت أتعرف الذي يقول:
إذا ما افتخرالكندي ... ذو البهجة والطُّرهْ
فبالنسج وبالخف ... وبالسدل وبالحفرهْ
فدع كِنْدَةَ للنسج ... فأعلى فخرها عُرَّهْ

قال: لا واللهّ ما أنا كِنْدَةَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من خَثْعَم، قالت: أتعرف الذي يقول:
وَخَثْعَم لو صَفَرْتَ بها صفيراً ... لَطَارَتْ في البلاد مع الجرَاد
قال: لا واللّه ما أنا من خَثْعَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من طيء، قالت: أتعرف الذي يقول:
وماطيء إل نَبِيطٌ تجمَّعَت ... فقالت طيانا كلمة فاستمرت
ولو أن حُرْقوصاً يمدُّ جناحه ... على جبلَيْ طي إذا لاستظلت
قال: لا واللّه ما أنا من طيء، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُزَينة، قالت: أتعرف الذي يقول:
وهل مزينة إلامن قَبَيِّلة ... لايُرْتَجَى كرم فيها ولادين
قال: لا واللّه ما أنا من مُزَينة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من النَّخَع، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا النخع اللئام غدَوْا جميعاً ... تأذّى الناس من وفر الزحام
وما تسمو إلى مجد كريم ... وما هم في الصميم من الكرام
قال: لا واللّه ما أنا من النَّخَع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أوْدٍ، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا نَزَلْتَ بأوْدٍ في ديارهم ... فاعلم بأنك منهم لست بالناجي
لاتركنَنَ إلى كهل ولاحَدَث ... فليس في القوم إلا كل عفّاج
قال: لا واللّه ما أنا من أوْدٍ، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من لخم، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما أنتمى قوم لفخر قديمهم ... تباعَدَ فخرالقوم من لخم أجمعا
قال: لا واللّه ما أنا من لخم، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من جُذَام، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا كأسُ المُدَام أدِيرَيوماً ... لمكرمة تنحَى عن جُذَام
قال: لا واللّه ما أنا من جُذَام، قالت: فممن أنت ويلك؟!! أما تستحي، أكثرت من الكذب!! قال: أنا رجل من تَنوخ، وهو الحق، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا تَنُوخٌ قَطَعَت مَنْهلا ... في طلب الغارات والثار
آبَتْ بِخِزْيٍ من إلهِ العلى ... وشهرة في الأهل والجار
قال: لا واللهّ ما أنا من تَنُوخَ، قالت: فممن أنت ثَكلَتْكَ أُمك؟! قال: أنا رجل من حِمْير، قالت: أتعرف الذي يقول:
نبئْت حِمْير تهجوني، فقلت لهم: ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خُلِقُوا
لأن حِمْير قومٌ لا نصاب لهم ... كالعود بالقاع لا ماء ولا وَرَق
لا يكثروِن وإن طالت حياتُهُم ... ولو يبول عليَهم ثعلب غرقوا
قال: لا واللّه ما أنا من حِمْير: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من يُحَابر، قالت: أتعرف الذي يقول:
ولو صَرَّصَرَّار بأرض يُحَابر ... لماتوا وأضْحَوْا في التراب رميما
قال: لا والله ما أنا من يُحَابر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُشَيْر، قالت: أتعرف الذي يقول:
بني قشير قَتَلْتُ سيدكم ... فاليوم لافِدْيَة ولاقَوَدُ
قال: لا واللهّ ما أنا من قُشَيْر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أمية، قالت: أتعرف الذي يقول:
وَهى من أمية بنيانُهَا ... فهان على اللَّه فقدَانها
وكانت أمية فيما مضى ... جريء على اللَّه سلطانها
فلا آل حرب أطَاعُوا الرَّسُول ... ولم يَتَّقِ اللَه مَرْوانها
قال: لا واللّه ما أنا من بني أمية، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني هاشم، قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عُوعدوا إلى نَخَلاَتِكُم ... فقد صار هذا التمرصاعاً بدرهم
فإن قُلتمُ رَهْطُ النبي محمد ... فإن النصارى رهط عيسى بن مريم
قال: لا والله ما أنا من بني هاشم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من هَمْدَان، قالت: أتعرف الذيى يقول:
إذا هَمْدَانُ دارت يوم حَرْب ... رحاها فَوْقَ هامات الرجال
رأيتهمُ يحثونَ المطايا ... سراعاً هاربين مِنَ القتال
قال: لا والله ما أنا من هَمْدَانَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُضَاعَة، قالت: أتعرف الذي يقول:
لايفخرَنَ قضاعيٌّ بأسرته ... فليس من يَمَنِ محضاً ولامُضَر

مُذَبْذَبين فلا قَحْطَانُ والدهم ... ولا نزار، فَخلوهم إلى سقر
قال: لا والله ما أنا من قُضَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من شيبان، قالت: أتعرف الذي يقول:
شيبان قومٌ لهم عديدٌ ... فكلهم مُقْرِف لئيم
مافيهمُ ماجدٌ حسيب ... ولا نجيب ولا كريم
قال: لا واللّه ما أنا من شَيْبَان، قالت: فممن أنت؟ قالت: رجل من بني نُمَيْر، قالت: أتعرف الذي يقول:
فغضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كِلابَا
فلو وضعت فِقَاحُ بني نُمير ... على خَبَثِ الحديد إذاً لَذَابَا
قال: لا واللهّ ما أنا من نُمير، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَغْلب، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تطلبنَ خؤولة في تغلب ... فالزنج أكْرَمُ منهمُ أخوالا
والتغلبيُّ إذا تنحنح للقرى ... حَكَّ اسْتَه وتمثَّلَ الأمثالا
قال: لا واللّه ما أنا من تغلب، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُجَاشع، قالت: أتعرف الذي يقول:
تبكي المُغِيبَةُ من بنات مُجَاشع ... ولها إذا سُمِعت نهيقُ حمارِ
قال: لا واللّه ما أنا من مُجَاشع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كَلْب، قالت: أتعرف الذي يقول:
فلا تَقْرَبَا كلبا ولا بَاب دارها ... فما يطمع الساري يرى ضوء نارها
قال: لا واللّه ما أنا من كلب، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَيْم، قالت: أتعرف الذي يقول:
تَيْمية مثلُ أنف الذيل مقبلها ... تهدي الرحا ببنان غيرمخدوم
قال: لا والله ما أنا من تَيْم، قالت، فممن أنت؟ قال: رجل من جَرْم، قالت: أتعرف الذي يقول:
تُمَنِّينِي سَوِيقَ الكَرْمِ جَرْم ... وماجَرْم وماذاك السويق؟
فماشربوه لما كَان حِلا ... ولا غَالوْا به في يوم سوق
فلمَّا أنزل التحريمُ فيها ... إذا، لجرمِيُ منها لا يفيق
قال: لا واللّه ما أنا من جَرْم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سُلَيم، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذاسُلَم جئتَهَا لغدائها ... رَجَعْت كما قد جئت غَرثانَ جائعا
قال: لا واللّه ما أنا من سُلَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من الموالي، قالت: أتعرف الذي يقول:
ألا من أراد الفُحْشَ وَاللُّؤْمَ والخنا ... فعند الموالي الجِيدُ وَالطّرَفَان
قال: أخطأتُ نسبي وربِّ الكعبة، أنا رجل من الخوز، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا بارك اللَّه رَبِّي فِيكُمُ أبداً ... يا معشر الخُوزِ، إن الخوز في النار
قال: لا واللّه ما أنا من الخوز، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أولاد حام، قالت: أتعرف الذي يقول:
فلا تنكحَنْ أولاد حام، فإنهم ... مَشَاويبهُ خلق اللَّه حَاشَا ابن أكْوَع
قال: لا واللّه ما أنا من ولد حام، لكني من ولد الشيطان الرجيم، قالت: فلعنك اللهّ ولعن أباك الشيطان معك، أفتعرف الذي يقول:
ألا يا عباد اللَّه هذا عدوكم ... وهذا عدُوُّ الله إبليس فاقتلوا
فقال لها: هذا مقام العائذ بك، قالت: قم فارْحَلْ خاسئاً مذموماً، وإذا نزلْتَ بقوم فلا تنشد فيهم شعراً حتى تعرف مَنْ هم، ولا تتعرض للمباحث عن مساوي الناس، فلكل قوم إساءة وإحسان، إلا رسول رب العالمين، ومن اختاره اللهّ على عباده، وعَصَمه عن عدوه، وأنت كما قال جرير للفرزدق:
وكُنْتَ إذا حَلَلتَ بدار قوم ... رحلْتَ بِخَزْيَةٍ وتركت عَاراً
فقال لها: واللّه لا أنشدت بيت شعر أبداً، فقال السفاح: لئن كُنْت عملتَ هذا الخبر ونظمت فيمن ذكرت هذه الأشعار فلقد أحسنت، وأنت سيد الكاذبين، وإن كان الخبر صدقاً وكنت فيما ذكرته محقاً فإن هذه الجارية العامرية لمن أحْضَرِ الناس جواباً، وأبصرهم بمثالب الناس.
قال المسعودي: وللسفاح أخبار غير هذه وأسمار حسان قد أتينا على مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.
ذكر خلافة أبي جعفر المنصور

وبويع أبوجعفر المنصور عبدُ اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس ابن عبد المطلب وهو بطَرِيقِ مكة، أخَذَ له البيعة عَمُّه عيسى بن علي ثم لعيسى بن موسى من بعده، يوم الأحد لاثنتَيْ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، والمنصور يومئذ ابن إحدى وأربعين سنة، وكان مولده في ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وكانت أُمه أم ولد يقال لها سلامة بربرية، وكانت وفاته يوم السبت لست خَلَوْنَ من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة فكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة إلا تسعة أيام، وهو حاجٌ عند وصوله إلى مكة في الموضع المعروف ببستان بني عامر من جَاّدةِ العراق، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودُفن بمكة مكشوف الوَجْهِ لأنه كان مُحْرِماً، وقيل: إنه مات بالبطحاء عند بئر ميمون، ودُفن بالحجُون، وهو ابن خمس وستين سنة، واللّه أعلم.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
رؤيا أم المنصور
ذكر عن سلامة أُم المنصور أنها قالت: رأيت لما حملت بأبي جعفر المنصور كأنَّ أسداً خرج من قبُلي فأقْعَى وزَار وضرب بذنبه، فأقبلت إليه الأسْدُ من كل ناحيةٍ، فكلما انتهى إليه أسدٌ منها سَجَدَ له.
المنصور ورفيق سفر ضرير شاعر
وحدث علي بن محمد المدائني أن المنصور قال: صحبت رجلاً ضريراً إلى الشام وكان يريد مروان بن محمد بشعر قاله فيه، قال: فسألته أن ينشدني فأنشدني:
ليت شعري أفاح رائحةُ الم ... سك وما إن إخال بالخيف إنسي
حين غابَتْ بنوأمية عنهُ ... والبَهَاليل من بني عبد شمس
خطباءُ على المنابرفُرْسا ... نٌ عليها، وقَالةٌ غير خُرْس
لا يُعابون قائلين، وإن قا ... لوا أصابوا، ولم يقولوا بلبس
وحُلُوم إذا الحلوم اسْتُخِفّت ... ووجوه مثل الدنإنير مُلْس
قال المنصور: فواللهّ ما فرغ من شعره حتى ظننت أن العمى قد أدركَنِي، وكان واللهّ ممتع الحديث حسن الصحبة.
قال: وحججت سنة إحدى وأربعين ومائة، فنزلت على الحمارة في جبلي زَرُود في الرمل أمشي لنذرٍ كان عليَّ، فإذا أنا بالضرير، فأومأت إلى من كان معي أن يتأخروا، فتأخروا، ودنوت منه، فأخذت بيده فسلمت عليه: فقال: من أنت جعلني اللّه فداك فما أثبتك معرفة؟ قلت: رفيقك إلى الشام في أيام بني أمية وأنت متوجه إلى مروان، فسلم عليّ وتنفس وأنشأ يقول:
آمَتْ نساءُ بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعة أيتامُ
نامت جدودهُمُ وأسقط نهمهم ... والنجم يسقط والجدود نيام
خَلَتِ المنابر والأسِرَّةُ منهم ... فعليهمُ حتى الممات سلام
فقلت له: كم كان مروان أعطاك؟ فقال: أغنإني فلا أسال أحداً بعده، فقلت: كم؟ فقال: أربعة ألاف دينار وخلع وحملان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قلت: أتثبتني معرفَةً؟ فقال: أما معرفة الصحبة فقد لعمري وأما معرفة النسب فلا، فقلت: أنا أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، فوقِع عليه الإفكل، وقال: يا أمير المؤمنين اعذر فإن ابن عمك محمداَ صلى الله عليه وسلم قال " حُبِلَت النفوسُ على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها " ، قال أبو جعفر: فهمَمْت واللّه به ثم تذكرت الحرمة والصحبة، فقلت للمسيب: أطلقه فأطلق ثم بدا لي في مُسَامرته رأي، فأمرت بطلبه فكأن البيداء أبادته.
المنصور وأهله يتحدثون عن سير بني أمية

وحدث الربيع قال: اجتمع عند المنصور عيسى بن علي، وعيسى بن موسى، ومحمدبن علي، وصالح بن علي، وقُثَم بن العباس، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن إبراهيم، فذكروا خلفاء بني أمية وسيرهم وتدبيرهم، والسبب الذي به سُلِبُوا عزهم، فقال المنصور: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي ما صنع، وأما سليمان فكانت همته بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد العزيز فكان أعْوَرَ بين عُمْيَان، وكان رجل القوم هشام، ولم تزل بنو أمية ضابطين لما مُهِّدَ لهم من السلطان يحوطونه ويحفظونه، ويصونون ما وهب اللّه لهم منه مع كسبهم معالي الأمور ورفضهم أدإنيها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم قصد الشهوات، وركوب اللذات، من معاصي اللّه عز وجل، جهلاً منهم باستدراجه، وأمْناً منهم لمكره، مع اطّرَاحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم بحق اللهّ تعالى وحق الرياسة، وضعفهم عن السياسة، فسلبهم اللّه العز، وألبسهم الذل، ونَفَى عنهم النعمة، فقال صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد اللّه بن مروان لما دخل أرض النُّوبَةِ هارباً فيمن اتبعه سال ملك النوبة عن حالهم وهيئتهم وما نزل بهم، وكيف كانت سيرتهم، فأخبره بجميع ذلك، فركب إلى عبد اللّه ليسأله عن شيء من أمورهم، والسبب الذي به زالت النعمة عنهم، وكلمُه بكلام سقط عني حفظه، ثم أشْخَصَه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به ليحدثه عن أمره فعل، فأمر المنصور بإحضاره في مجلسه، فلما مَثَلَ بين يديه قال له: يا عبد اللّه قصَّ عليَّ قصتك وقصة ملك النُّوبَة، قال: يا أمير المؤمنين، قدمت إلى النُّوبَةِ، فأقصت بها ثلاثاً، فأتإني ملكها، فقعد على الأرض وقد أعددت له فراشاً له قيمة فقلت له: ما منعك من القعود على فراشنا؟ فقال: لإني ملك، وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه اللهّ، ثم قال: لم تشربوا الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا، قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم والفسادُ محرم عليكم في كتابكم. فقلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا لجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير والذهب وهو محرم عليكم في كتابكم ودينكم، فقلت ذهب منا الملك فانتصرنا بقوم من العجم دَخلُوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منه، فأطرق إلى الأرض يقلب يده مرة وينكت في الأرض أخرى ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا علينا في ديننا، ثم رفع رأسه فقال ليس كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرَّم اللّه، وركبتم ما عنه نُهِيتم، وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم اللّه العز، والبسكم الذلَّ بذنوبكم، وللّه فيكم نقمة لم تبلغ غايتَهَا فيكم، وأنا خائف أن يحلَّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالذي معكم، وإنما حق الضيافة ثلاث، فتزوَّدْ ما احتجْتَ إليه وارحل عن أرضي ففعلت، فتعجب المنصور وأطرق ملياً، فرقَّ له وها بإطلاقه، فأعلمه عيسى بن علي أن في عنقه بيعة له، فأعاده إلى الحبس.
وفاة محمد بن جعفر الطالبي
قال المسعودي: ولعشر سنين خلت من خلافة المنصورتوفي أبوعبد اللّه محمدبن جعفربن محمدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، سنة ثمان وأربعين ومائة، ودفن بالبقيع مع أبيه وجدَه، وله خمس وستون سنة، وقيل: إنه سم، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه مبيد الأمم، ومحيى الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ومحمد بن علي، وجعفربن محمد رضي اللّه عنهم.
وزراء المنصور

واستوزر أبو جعفر المنصورا بْنَ عطية الباهلي، ثم استوزر أبا أيوب الموريإني الخوزي، وكان له بأبي جعفر أسباب: منها أنه كان يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلّب، وقد كان سليمان ضرب المنصور بالسوط في أيام الأمويين، وأراد هتكه، فخلصه كاتبه أبو أيوب من يده، فكان ذلك سبب الاتصال به، فلما استوزره اتُّهِمَ بأشياء منها احْتِجَان الأموال وسوء الذية، فكان على إلايقاع به، وتطاول ذلك، فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به، ثم يخرج سالماً، فقيل: إنه كان معه دهن قد عمل فيه شيئاً من السح يطليه على حاجبيه إذا أراد الدخول على المنصور، فسار في العامة دهن أبي أيوب لما ذكرنا، ثم أوقع به، واستكتب أبان بن صدقة إلى أن مات.
المنصور يسأل عن تدبيرات هشام بن عبد الملك
وذكر لأبي جعفر تدبير هشام في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان ينزل برُصَافة هشام يسأله عن تلك الحرب، فقدم عليه الرجل، فقال له: أنت صاحب هشام، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا، قال: فعل رضي اللّه عنه فيها كذا وكذا، وفعل رحمه اللّه كذا وكذا، فأغاظ ذلك المنصور، فقال له: قم عليك غضب اللّه، تطأ بِساطي وتترحَّم على عدوي، فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي، ومنَّه في رقبتي لا ينزعها إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: كيف قلت: قال: إنه كفإني الطلَبَ، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا عجمي منذ رأيته، أفلا يجب لي أن أذكره إلا بخير وأتبعه بثنائي: فقال: للّه نهضت عنك! أشهد أنك نهيض حرة وغِرَاسُ كريم، ثم أستمع منه، وأمر له بجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذها لحاجة، وما هو إلا أن اتبجَّحَ بحبائك وأتشرف بصلتك، فأخذ الصلة، ققال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجداً وقال لجلسائه بعد خروجه عنه: في مثل هذا تحسن الصَنِيعة، ويُوضع المعروف، وُيجَاد بالمَصُونِ، وأنّه في عسكرنا مثله.
المنصور ومعن بن زائدة
ودخل معن بن زائدة على المنصور، فلما نظر إليه قال: هِيهِ يا معن، تعطي مروان بن أبي حفصة مائة درهم على قوله:
مَعْنُ بن زائدة الذي زيدت به ... شَرَفاً على شَرَفٍ بَنو شَيْبَان
فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله:
مازِلْتَ يومَ الهاشمية مُعْلِناً ... بالسيف دونَ خليفةِ الرحمن
فمَنْعت حَوْزَتَهُ، وكُنت وِقَاءَه ... مِنْ وَقْع كلِّ مُهَنَّدٍ وسِنَان
فقال: أحسنت يا مَعْن، وكان مَعْن مِنْ أصحاب يزيد بن عمر بن هُبَيْرَة، وكان مستتراً حتى كان يوم الهاشمية - وقد كان سَعَت فيه عدة من أهل خراسان - فإنه حضر وهو مُعْتم متلثم، فلما نظر إلى القوم قد وَثَبوا على المنصور تقدم، ثم جعل يضربهم بالسيف قدامه، فلما أفرجوا وتفرق عنه قال: مَنْ أنتَ: فحسر عن وجهه، وقال: أنا طَلَبَتُكَ يا أمير المؤمنين مَعْن بن زائدة، فلما انصرف المنصور آمَنَهُ وحَبَاه وأكرمه وكساه ورتبه.
ودخل مَعْن بن زائدة يوماً على المنصور، فقال له: ما أسْرَعَ الناسَ إلى حسد قومك، فقال: يا أمير المؤمنين.
إن الغَرإنيقَ تَلْقَاها محسّدة ... ولن ترى للئام الناس حُسَّادا
المنصور يقع بين يديه سهم كتب عليه شعر وظلامة

وذكر ابن عياش المنتوف أن المنصور كان جالساً في مجلسه المبني على طاق باب خراسان من مدينته التي بناها وأضافها إلى اسمه، وسماها مدينة المنصور، مُشْرِفا على دجلة، وكانَ قد بنى على كل باب من أبواب المدينة في الاعلى من طاقه المعقود مجلساً يُشرِفُ منه على ما يليه من البلاد من ذلك الوجه، وكانت أربعة أبواب شوارع محدقة وطاقات معقودة، وهي باقية إلى وقتنا هذا الذي هو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، فأول أبوابها باب خراسان، وكان يسمى باب الدولة، لإقبال الدولة العباسية من خُرَاسان، ثم باب الشام، وهو تلقاء الشام، ثم باب الكوفة، وهو تلقاء الكوفة، ثم باب البصرة، وهوتلقاء البصرة، وقد أتينا على كيفية خبربناء تلك المدينة، واختيار المنصور لهذه البقعة بين دجلة والفرات ودُحَيْل والصَّرَاة، وهذه أنهار تأخذ من الفرات، وأخبار بغداد وعلة تسميتها بهذا الاسم، وما قاله الناسُ فىِ ذلك، وخبر القبة الخضراء وسقوطها في هذا العصر، وقصة قبة الحجاج الخضراء التي كان الحجاج بناها بواسط العراف، وبقاؤها إلى ذلك الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، في كتابنا الاوسط الذي كتابُنَا هذا تال له، فبينما المنصور جالس في هذا المجلس مِنْ أعالي باب خُرَاسان إذ جاء سهم عائر حتى سقط بين يديه، فذُعِرَ منه المنصور ذعراً شديداً ثم أخذه فجعل يقلبه فإذا هو مكتوب عليه بين الريشتين:
أتطمع فىِ الحياة إلى التَّنَاد ... وتحسبَ أن مالك مِنْ مَعَادِ
ستسأل عن ذنوبكَ والخطَايَا ... وتُسأل بعد ذاكَ عن العباد
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
أحسنْتَ ظَنَك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء مايأْتي به القدر
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
هي المقاديرُ تجرِي في أعِنَتها ... فاصبرفليس لها صَبْرٌ على حال
يوماً ثُرِ بك خَسِيس القوم ترفعه ... إلى السماء، ويوماً تخفض العالي
وإذا على جانب السهم مكتوب: همذان منها رجل مظلوم في حبسك، فبعث مِنْ فَوْره بعدة مِنْ خاصته، ففتشوا الحبوس والمَطَابِقَ فوجدوا شيخاً في بَنِيَّةٍ من الحبس فيه سراج يسرج وعلى بابه بارية مسبلة، وإذا الشيخ مُوثَقٌ بالحديد متوجه نحو القبلة يردد هذه الآية " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون " فسألوه عن بلده، فقال همذان، فحمل، ووضع بين يدي المنصور، فسأله عن حاله فأخبره أنه رجل من أبناء مدينة همذان، وأرباب نعمها، وأن واليك علينا دخل بلدنا ولي ضَيْعَة في بلدنا تُسَاوي الف الف درهم، فأراد أخذهَا مني، فامتنعت فكبلني في الحديد، وحملني وكتب اليك إني عَاصٍ، فطرحت في هذا المكان، فقال: منذ كم لك في الحبس. قال: منذ أربعة أعوام، فأمر بفَكِّ الحديد عنه، وإلاحسان إليه، وإلاطلاق له، وأنزله أحسن منزل ورده إليه، فقال له: يا شيخ قد رَدَدنا عليك ضيعتك بخراجها ما عشت وعشنا، وأما مدينتك همذان فقد وليناك عليها، وأما الوالي فقد حكمناك فيه، وجعلنا أمره اليك، فجزاه خيرآ، ودعا له بالبقاء، وقال: يا أمير المؤمنين أما الضيعة فقد قبلتها، وأما الولاية فلا أصلح لها، وأما واليك فقد عفوت عنه، فأمر له المنصور بمال جزيل، وبر واسع، واستحلَّه وحمله إلى بلده مكرماً، بعد أن صرف الوالي وعاقبه على ما جنى من انحرافه عن سنة العدل وواضحة الحق، وسال الشيخ مكاتبته في مهماته وأخبار بلده، وإعلامه بما يكون من ولاته على الحرب والخراج، ثم أنشأ المنصور يقول:
من يصحب الدهر لا يأمن تَصَرفه ... يوماً، وللدهر إحلاء وإمرار
لكل شيء وإن دامت سلامته ... إذا انتهى فله لا بدَ إقصار
المنصور يستشير في أمر أبي مسلم
وقال المنصور يوماً لسالم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم. قال: لوكان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا، فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.
وذكر ابن دأب وغيره عن عيسى بن علي قال: ما زال المنصور يشاورنا في جميع أموره حتى امتدحه إبراهيم بن هَرْمَة فقال في قصيدة له:
إذا ما أراد إلامر ناجى ضميره ... فناجى ضميراً غير مختلف العقل

ولم يشرك الأذنين في سرأمره ... إذا انتقضت بإلاصبعين قوى الحبل
ولما أراد المنصور قتل أبىِ مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشورة فيه، فأرقه ذلك، فقال:
تَقسمَني أمران لم أمتحنهما ... بحزم، ولم تعرك قواي الكراكر
وما ساور إلاحشاء مثل دفينة ... من الهم رَدَّتْهَا عليك المصادر
وقد علمت آبناء عدنان أنني ... على مثلها مِقدامة متجاسر
خروج عبد اللهّ بن علي
وقد كان عبد اللّه بن علي خالف على المنصور، ودعا إلى نفسه مَنْ كان معه من أهل الشام وغيرهم، فبايعوه وزعم أن السفاح جعل الخلافة من بعده لمن انتدب لقتل مروان، فلما بلغ المنصور ذلك من فعل عبد اللهّ كتب إليه:
سأجعل نفسي منك حيث جعلتها ... وللدهرأيام لهنّ عواقب
ثم بعث إليه بأبي مسلم، فكانت له معه حروب كثيرة ببلاد نصيبين في الموضع المعروف بدير الاعور، وصبر الفريقان جميعاً شهوراً على حربها، واحتفروا الخنادق، ثم انهزم عبد اللّه بن علي فيمن كان معه، وسار في نفر من خواصه إلى البصرة، وعليها أخوه سليمان بن علي عم المنصور، فظفر أبومسلم بما كان في عسكر عبد اللهّ، فبعث إليه المنصور بيقطين بن موسى لقبض الخزائن، فلما دخل يقطين على أبي مسلم قال: السلام عليك أيها الامير، قال: لا سَلّم اللهّ عليك يا ابن اللَّخْناء، أؤتمن على الدماء ولا أؤتمن على الامور. فقال له: ما أبدى هذا منك أيها الأمير، قال: أرسلك صاحبك لقبض ما في يديَّ من الخزائن، فقال له: امرأته طالق ثلاثا إن كان أمير المؤمنين وَجَهَنِي إليك لغير تهنئتك بالظفر، فاعتنقه أبو مسلم، وأجلسه إلى جانبه، فلما انصرف قال لاصحابه: والله إني لأعلم انه قد طلق زوجته ثلاثا ولكنه وَفّي لصاحبه.
خلاف أبي مسلم للمنصور وقتله

وسار أبو مسلم من الجزيرة وقد أجمع على خلاف المنصور، واجتاز على طريق خراسان متنكباً للعراق يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار يريد المدائن، فنزل برومية المدائن التي بناها كسرى، وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وكتب الى أبي مسلم: إني قد اردت مذاكرتك باشياء لم يحتملها الكتاب، فاقبل فان مقا مَكَ عندنا قليل، فقرا الكتاب ومضى على حاله، فسرح إليه المنصور جرير بن يزيد بن جرير بن عبد اللّه البجيلي، وكان واحد اهل زمانه، وداهية عصره، وكانت المعرفة بينه وبين أبي مسلم قديمة بخراسان، فأتاه فقال: أيها الامير، ضربت الناس عن عرض لأهل هذا البيت، ثم تنصرف على هذه الحالة. ما آمَنْ ان يعيبك من هنَالك ومن ههنا، وان يقال: طلب بثأر قوم ثم نقض بيعتهم، فيخالفك مَنْ تأمن مخالفته إياك، وان الامر لم يبلغ عند خليفتك ما تكره، ولا أرى ان تنصرف على هذه الحال، فاراد ان يجيب إلى الرجوع، فقال له مالك بن الهيثم، لا تفعل، فقال لمالك: ويلك، لقد بليت بإبليس وما بليت بمثل هذا قط، يعني الجريري، فلم يزل به حتى اقبل به على المنصور، وكان أبو مسلم يجد خبره في الكتب السالفة ونعته وانه يقتل بالروم، وكان يكثر من قول ذلك، وانه يقتل بالروم على حسب ما وجد فىِ المَلاحم وانه يميت دولة ويحيي اخرى، فلما دخل على المنصور وقد تلقاه الناس رَحَّبَ به وعانَقَه وقال له: كِدْتَ ان تمضي قبل ان اقضي عليك بما أريد، قال: فقد أتيت يا أمير المؤمنين فأمر بامرك، فامر بالانصراف الى منزله، وانتظر فيه الفرص والغوائل، فركب أبو مسلم الى المنصور مرارا وهو لا يُظْهِر له شيئاً، ثم ركب وقد أظهر له التجنَيَ، فسار أبو مسلم الى عيسى بن موسى، وكان له فيه راي جميل، فسأله الركوب معه الى المنصور ليعذله بحضرته، فأمره ان يتقدمه الى المنصور فانه بالأثر، فتقدم أبو مسلم الى مَضْرب المنصور، وهو على دجلة برومية المدائن، فدخل وجلس تحت الشراع - وقيل الرواق - فأخبر ان المنصور يتوضأ للصلاة، وكان المنصور قد تقدم إلى صاحب حَرَسِه عثمان بن نهيك في عدة فيهم شبيب بن رواح المروروذي وابو حنيفة حَرْبُ بن قيس، وأمرهم أن يقوموا خلف السرير الذي كان وراء ابي مسلم وامرهم انه اذا عاتبه وظهر صوته لا يظهروا، فاذا صفق بيد على يد فليظهروا، وليضربوا عنقه وما ادركوا منه بسيوفهم، وجلس المنصور، فقام ابو مسلم من موضعه ودخل فسلم عليه، فردَّ عليه، واذن له بالجلوس، وحادثه ساعة، ثم اقبل يعاتبه ويقول: فعلت وفعلت، فمال أبو مسلم: ليس يقال هذا لي بعد بَلائي وما كان مني، فقال له: يا ابن الخبيثة وانما فعلت ذلك بِجَدِّنَا وحُظُوظنا، ولو كان مكانك أمة سوداء لأجْزَتْ، ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك، والكاتب إليَّ تخطب اسية بنت علي وتزعمِ انك ابن سليط بن عبد الله بن العباس، لقد ارتَقَيْتَ لا أمَّ لك مُرْتَقىً صعباً، فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال المنصور، وهو اخر ما كلمه به: قتلني اللّه إن لم اقتلك، وذكر له قتله لسليمان بن كثير، ثم صفق بإحدى يديه على الاخرى، فخرج إليه القوم، فَبدرَهُ عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف قطعت نجاد سيف أبي مسلم، وضربه شبيب بن رواح فقطع رجله، واعتورته السيوف، فخلطت اجزاؤه، واتوا عليه، والمنصور يصيح: اضربوا قطع اللّه أيديكم، وقد كان أبو مسلم عند أول ضربة قال: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، قال: لا أبقإني اللّه أبداً إن ابقيتك، وأي عدو أعدى لي منك.
وكان قتله في شعبان من سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها كانت بيعة المنصور، وهزيمة عبد اللّه بن علي، وأعرج أبو مسلم في بساط. ودخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم، فقال: قد كان ههنا آنفاً، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته، ورأي إبراهيم الإمام فيه، فقال له المنصور: يا أنوك خلق اللّه ما أعلم في الأرض عدواً أعْدى لك منه، هاهو ذاك في البساط، فقال عيسى: إنا للّه وإنا إليه راجعون.

ودخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين، ان كنت اخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك اللّه، ها هو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين، عُدِّ هذا اليوم أول خلافتك، وقد كان السفاح هم بقتله برأي المنصورثم رجع عن قتله، وأقبل المنصور علىمن حضره وأبومسلم بين يديه طريحاً فقال:
زعمت أن الدَّيْنَ لا ينقضي ... فا سْتَوْفِ بالكيل أبا مجرم
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرَّفي الحلق من العلقم
ودعا المنصور بنصر بن مالك، وكان على شرطة أبي مسلم، فقال: استشارك أبو مسلم بالمسير إليَّ فنهيته. قال: نعم، ولم. قال: سمعت أخاك إبراهيم الإمام يحدث عن أبيه قال: لا يزال المرء يزداد في عقله اذا ما مَحَضَ النصيحة لمن شاوره، فكنْتُ له كذلك، وأنا الآن لك كذلك.
واضطرب أصحاب أبي مسلم ففرقت فيهم الأموال، وعلموا بقتله، فأمسكوا رَغْبَةً ورَهْبَةً.
خطبة المنصور بعد قتل أبي مسلم
وخطب المنصور الناسَ بعد قتله أبا مسلم فقال: أيها الناس، لاتخرجوا عن أنس الطاعة إلى وَحْشة المعصية، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأئمة، فان من أسرَ غش إمامه أظهر اللهّ سريرته في فَلَتَان لسانه، وسقطات أفعاله، وأبداها اللّه لِإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به، وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نَبْخَسكم حقوقكم، ولم نبخس الدين حقه عليكم، إن من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد، وإن أبا مسلم بأيعَنَا وبايع لنا على إنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لإنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه.
الخرمية الفرقة التي تتولى أبا مسلم
ولما نمي قتل أبي مسلم إلى خُرَاسإن وغيرها من الجبال اضطربت الخرمية، وهي الطائفة التي تدعى بالمسلمية القائلون بأبي مسلم وإمامته، وقد تنازعوا في ذلك بعد وفاته: فمنهم من راى إنه لم يمت ولن يموت حتى يظهر فيملأ الأرض عدلاً، وفرقة قطعت بموته وقالت بإمامة ابنته فاطمة، وهؤلاء يُدْعَوْنَ الفاطمية، واكثر الخرمية في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - الكردكية واللود شاهية وهاتان الفرقتان أعظم الخرمية، ومنهم كان بابك الخرمي الذي خرج على المأمون والمعتصم بالبدين من أرض الران وافر بيجان، وسنأتي على خبره وخبر مقتله في أخبار المعتصم فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء اللّه، وأكثر الخرمية ببلاد خراسان والري واصبهان وأذربيجان وكرج أبي دلف والبرج الموضع المعروف بالرذ والورسنجان ثم ببلا الصيروان والصيمرة واريوجان من بلاد ما سبذان وغيرها من تلك الأمصار، وأكثر هؤلاء في القرى والضياع، وسيكون لهم عند أنفسهم شأن وظهور يراعونه وينتظرونه في المستقبل من الزمان، ويعرفون هؤلاء بخراسان وغيرها بالباطنية، وقد اتينا على مذاهبهم وذكر فرقهم في كتابنا المقالات، في أصول الديانات وان كان قد سبقنا إلى ذلك مؤلفو الكتب في المقالات.
فاجتمعت الخرمية - حين علمت بقتل أبي مسلم - بخراسان، فخرج فيهم رجل يقال له بسنفاد من نيسابور يطلب بدم أبي مسلم فسار في عسكر عظيم من بلاد خراسان إلى الري، فغلب عليها وعلى قومه وما يليها، وقبض على ما كان بالري من خزائن أبي مسلم، فكثر جمع بسنفاد بمن حوله من أهل الجبال وطبرستان، ولما اتصل خبر مسيرهم بالمنصور سَرَّحَ إليه جهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف رجل، وتلاه بالعساكر، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعاً، فقتل بسنفاد، وولى أصحابه، فقتل منهم ستون ألفاً وسبى منهم سبايا وفراري كثيرة، وكان بين خروجه إلى مقتله سبعون ليلة، وذلك في سنة ست وتلاثين ومائة بعد قتل أبي مسلم بأشهر.
ظهور محمد بن عبد اللّه بن الحسن النفس الزكية

وفي سنة خمس واربعين ومائة كان ظهور محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في كثير من الأمصار، وكان يُدْعَى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور، ولم يظهر حتى قَبَضَ المنصور على أبيه عبد اللّه بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم، ولما ظهرمحمد بن عبد اللّه بالمدينة دعا المنصور اسحاق بن مسلم العقيلي، وكان شيخا ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر عليَّ في خارجي خرج علي، قال: صف لي الرجل، قال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو علم وزهد وورع، قال: فمن تبعه، قال: ولد علي وولد جعفر عَقِيل وولد عمر بن الخطاب وولد الزبير بن العوام وسائر قريش وأولاد الأنصار، قال له: صف لي البلد الذي قام به، قال: بلد ليس به زَرْع ولا ضَرْع ولا تجارة واسعة، ففكر ساعة ثم قال: اشحن يا أمير المؤمنين البصرة بالرجال، فقال المنصور في نفسه: قد خَرِق الرجل، أسأله عن خارجي خرج بالمدينة يقول لي اشحن البصرة بالرجال، فقال له: انصرف يا شيخ، ثم لم يكن إلا يسير حتى ورد الخبر ان إبراهيم قد ظهر بالبصرة، فقال المنصور: علي بالعقيلي، فلما دخل عليه أدناه ثم قال له: إني كنت قد شاورتك في أمر خارجي خرج بالمدينة فأشرت على أن أشحن البصرة بالرجال أو كان عندك من البصرة علم. قال: لا، ولكن ذكرت لي خروج رجل أذا خرج مثلُه لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت لي البلد الذي هو فيه فاذا هو ضيق لا يحتمل الجيوش، فقلتُ: إنه رجل سيطلب غيرموضعه، ففكرت في مصر فوجدتها مضبوطة، والشام والكوفة كذلك، وفكرت في البصرة فخفت عليها منه لخلوها، فأشرت بشحنها، فقال له المنصور، أحسنت، وقد خرج بها أخوه، فما الرأي في صاحب المدينة. قال: ترميه بمثله، إذا قال: أنا ابن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، قال هذا: وأنا ابن عمر رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، فقال المنصور لعيسى بن موسى: أما أن تخرج إليه وأقيم أنا أمدُّكَ بالجيوش، وإما ان تكفيني ما أخف ورائي وأخرج أنا إليه، فقال عيسى: بل أقيك بنفسي يا أمير المؤمنين، وأكون الذي يخرج إليه، فاخْرَجَه إليه من الكوفة في أربعة آلاف فارس والذي راجل، وتبعه محمد بن قحطبة في جيش كثيف، فقاتلوا محمدا بالمدينة حتى قتل وهو ابن خمس واربعين سنة، ولما اتصل بإبراهيم قتل اخيه محمد بن عبد اللهّ وهو بالبصرة صعد المنبر فنعاه وتمثل:
أبا لمنازل يا خير الفوارس ... من يُفْجَعْ بمثلك في الدنيا فقد فُجِعَا
اللَّه يعلم أنىِ لوخشيتهم ... وأوْجَسَ القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخَيَّ لهم ... حتى نموت جميعا اونعيش معا
تفرق إخوة محمد بن عبد اللّه في البلاد

" وقد كان تفرق اإوة محمد وولده في البلدان يدعون إلى إمامته ة فكان فيمن توجه ابنه علي بن محمد إلى مصر، فقتل بها، وسار ابنه عبد الله إلى خراسان فهرب لما طلب إلى السند، فقتل هناك، وسار ابنه الحسن إلى اليمن، فحبس فمات في الحبس، وسار أخوه موسى إلى الجزيرة، ومضى أخوه يحيى إلى الري ثم إلى طبرستان، فكان من خبره في أيام الرشيد ما سنورده فيما يرد من هذا الكتاب، ومضى أخوه الحريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس، وبعث المنصور من اغتاله بالسم فيما احتوى عليه من مدن المغرب، وقام ولده إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن مقامه، فَعُرِفَ البلد بهم، فقيل: بلد إدريس بن إدريس، وقد اتينا على خبرهم عند ذكرنا لخبر عبيد اللهّ صاحب المغرب وبنائه المدينة المعروفة بالمَهْدِية، وخبر أبي القاسم ابنه بعده، وانتقالهم من مدينَةَ سلمية من أرض حمص إلى المغرب، في الكتاب الاوسط، ومضى إبراهيم أخوه إلى البصرة وظهر بها، فأجابه أهل فارس والاهواز وغيرهما من الأمصار وسار من البصرة في عساكر كثيرة من الزَّيْدِية وجماعة ممن يذهب إلى قول البغداديين من المعتزلة وغيرهم، ومعه عيسى بن زيدبن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، فسير إليه المنصور عيسى بن موسى وسعيد بن سلم في العساكر، فحارب حتى قتل في الموضع المعروف بباخَمْرى، وذلك على ستة عشر فرسخا من الكوفة من أرض الطفّ، وهو الموضع الذي ذكرته الشعراء ممن رثى إبراهيم، فممن ذكر ذلك دِعْبِلُ بن علي الخزاعي، فقال في قصيدة له أولها:
مدارس أياتٍ خَلَتْ من تلاوة ... ومنزل وَحْيٍ مُقْفِر العرصات
ومنهاقوله فيهم:
قبور بكوفان، وأخرى بطيبة ... وأخرى بفَخٍّ، يا لها صلوات
وأخرى بأرض الجوزجان محلها ... وقبر بباخَمْرَى لدى الغَرَبَاتِ
وقتل معه من الزيدية من شيعته اربعمائة رجل، وقيل: خمسمائة رجل.
وروي بعض الأخباريين عن حماد التركي قال: كان المنصور نازلاً في دَيْرٍ على شاطىء دجلة في الموضع الذي يسمَّى اليوم الخلد، ومدينة السلام، إذ أتى الربيع في وقت الهاجرة، والمنصور نائم في البيت الذي هو فيه، وحماد قاعد على الباب والخريطة بيد الربيع، بخروج محمد بن عبد اللّه فقال: يا حماد افتح الباب، فقلت: الساعة هجع أمير المؤمنين، فقال: افتح ثَكلَتْكَ أمك، قال: فسمع المنصور كلامه،. فنهض يفتح الباب بيده وتناول منه الخريطة، فقرأ ما فيها من الكتب وتلا هذه الأية : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه، ويَسْعَوْنَ في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين " ثم أمر بإحضار الناس والقواد والموالي وأهل بيته وأصحابه، وأمر حماداً التركي بإسراج الخيل، وأمر سليمان بن مجلد بالتقدم، والمسيب بن زهير فأخرج الأقوات ثم خرج فصعد المنبر، فحمد اللهّ واثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
مالي أكَفْكِف عن سعد ويشتمني ... وإن شتمت بني سعد لقد سكنوا
جهلاعلينا وجُبْناً عن عدوهم ... لبئست الخَصْلَتان الجهلُ والجُبُنُ
أما واللّه لقد عجزوا عن أمرٍ قمْنَا له، فما شكروا القائم ولا حمدوا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا، وغبطوا فغمطوا، فماذا تحاول مني، أسقى رنقاً على كدر. كلا واللّه، لان أموت معززاً أحب إلي من أن أحيا مستذلًا، ولئن لم يرض العفو مني ليطلبَنَّ ما لا يوجد عندي، والسعيد من وعظ بغيره، ثم نزل، فقال: يا غلام، قدم، فركب من فوره إلى معسكره، وقال: " اللهم لا تَكِلْنَا إلى خلقك فنضيع، ولا إلى أنفسنا فنعجز فلا تكلنا إلا إليك.
وذكر ان المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال: أراد إبراهيم ان يحرمني هذا وأ شْبَاهَه. وذكر ان المنصور قال يوماً لجلسائه بعد قتل محمد وإبراهيم: تاللّه ما رأيتُ رجلًا أنصح من الحجاج لبني مروان، فقام المسيب بن زهير الضبي فقال: يا أمير المؤمنين ما سبقَنَا الحجاج بأمر تخلّفْنَا عنه، واللّه ما خلق اللّه على جديد الأرض خلقا أعز علينا من نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد أمرتَنَا بقتل أولاده فأطعناك، وفعلنا ذلك، فهل نصحناك أم لا، فقال له المنصور: أجلس لا جلست.

وقد ذكرنا أنه كان قبض على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي رضي اللّه عنه ومحمد وإبراهيم ابني عبد اللّه وعلى كثير من أهل بيته، وذلك في سنة اربعِ واربعين ومائة في مُنْصَرَفِهِ من الحج، فحملوا من المدينة إلى الربَذةِ من جادةِ العراق، وكان ممن حمله مع عبد اللّه بن الحسن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وأبو بكر بن الحسن بن الحسن، وعلي الخير، وأخوه العباس، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن والحسن بن جعفربن الحسن بن الحسن ومعهم محمد بن عبد اللهّ بن عمروبن عثمان بن عفان أخوعبد اللّه بن الحسن بن الحسن لأمه فاطمة ابنة الحسين بن علي وجدتهما فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فجرد المنصور بالربَذَةِ محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان فضربه ألف سوط، وسأله عن ابنَيْ أخيه محمد وإبراهيم، فأنكر ان يعرف مكأنهما، فسألت جدته العثمانية في ذلك الوقت، وارتحل المنصور عن الربذة وهو في قبة، وأوهن القوم بالجهد فحملوا على المحأمل المكشوفة، فمربهم المنصور في قبته على الجمازة فصاح به عبد اللّه بن الحسن: يا أبا جعفرما هكذا فعلنا بكم يوم بدر فصيرهم إلى الكوفة، وحبسوا في سرداب تحت الأرض لا يفرقون بين ضياء النهار وسواد الليل، وخَلّى منهم سليمان وعبد اللهّ ابنَيْ داود بن الحسن بن الحسن وموسى بى عبد اللّه بن الحسن والحسن بن جعفر، وحبس الاخرين ممن ذكرناهم حتى ماتوا، وذلك على شاطىء الفرات بالقرب من قنطرة الكوفة، ومواضعهم بالكوفة تُزَار في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان قد هدم عليهم الموضع، وكانوا يتوضؤن في مواضعهم فاشتدت عليهم الرائحة، فاحتال بعض موإليهم حتى أدخل إليهم شيئا من الغالية فكانوا يدفعون بشمها تلك الروائح المنتنة، وكان الورم يبدو في اقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ ألفؤاد فيموت صاحبه.
وذكر من وجه آخر أنهم لما حبسوا في هذا الموضع أشكل عليهم أوقات الصلاة فجزؤا القرآن خمسة اجزاء، فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كلِّ واحد منهم من حزبه، وكان عدد من بقي منهم خمسة، فمات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جَيَّف، فصعق داود بن الحسن فمات وأتى برأس إبراهيم بن عبد اللهّ فوجه به المنصور مع الربيع إليهم، فوضع الرأس،بين أيديهم وعبد اللّه يصلي، فقال له إدريس، أخوه: أسرع فى صلاتك يا أبا محمد، فالتفت إليه واخذ الرأس فوضعه في حجره وقال له: أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم، واللّه لقد كنت - ما علمتًكَ - من الدين قال اللهّ عز وجل فيهم: " الذين يوفُونَ بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق، والذين يَصِلُون ما أمر اللّه به أن يوصل " إلى اخر الآية فقال له الربيع: كيف أبو القاسم في نفسه، قال: كما قال الشاعر:
فتى كان يحميه من الذل سَيْفه ... ويكفيه أن يأتي الذنًوبَ اجْتِنَابها
ثم التفت إلى الربيع فقال له: قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا أيام، ومن نعيمك أيام، والملتقى يوم القيامة: قال الربيع: فما رأيت المنصور قطُّ أشد انكسارا منه في الوقت الذي بلغته فيه هذه الرسالة، فأخذ هذا المعنى العباس بن الأحنف فقال:
فإن تلحظي حالي وحَالكِ مَرَّةً ... بنظرة عين عن هَوى النفس تحجب
تَرَى كل يوم مَرَّمن بؤس عيشتي ... تمر بيوم من نعيمك يُحْسب

قال المسعودي: ولما أخذ المنصور عبد اللّه بن الحسن وأخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية، فحمد اللهّ واثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل خُرَاسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيرا منا، ان ولد ابن أبي طالب تركناهم والذي لا اله الا هو والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير، فقام فيها علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فما أفلح، وحكم الحكمين، فاختلفت عليه الأمة، وافترقت الكلمة، ثم وَثَبَ عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه، ثم قام بعده الحسن بن علي رضي اللهّ - عنه فواللهّ ما كان برجل، عرضت عليه الأموال فقبلها، ودَسَ إليه معاوية إني أجعلك وليَّ عهدي، فخلعه وانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي رضي اللّه عنه، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرَة السوء، وأشار إلى الكوفة، فوالله ما هي لي بحرب فأحاربها ولا هي لي بسلم فأسالمها، فرق اللهّ بيني وبينها، فخذلوه وابرؤوا أنفسهم منه، فأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي فخدَعه أهل الكوفة وغروه، فلما أظهروه واخرجوه أسلَمُوه، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده اللّه في الخروج، وقال له: لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فأنا نجد في علمنا أن بعض أهل بيتنا يُصْلَبُ بالكُنَاسة، واخشى ان تكون ذلك المصلوب وناشده اللهّ بذلك عمي داود وحَنّره رحمه اللّه غَدْرَ أهل الكوفة. فلم يقبل وتم على خروجه، فقتل وصلب بالكُنَاسة، ثم وثب بنو أمية علينا فأبتزو شرفنا، وأذهبوا عزنا، واللهّ ما كان لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك. كله إلا فيهم وبسبب خروجهم، فنفونا عن البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالسَّرَاة، حتى ابتعثكم اللهّ لنا شيعة وأنصارا، فأحيا اللهّ شرفنا وعزنا بكم، يا أهل خراسان، ودفع بحقكم أهل الباطل وأظهر لنا حقنا، وأصار الينا أمرنا وميراثنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق في قراره، وأظهر اللهّ مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للهّ رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل اللهّ وحكمه العدل وثَبُوا علينا حسدا منهم لنا وبغيا علينا، بما فضلنا اللّه به عليهم، وأكرمنا من خلافته ميراثنا من نبيه، وجبناً من بني أمية، وجراءة علينا، إنىِ واللهّ يا أهل خراسان ما اتيت من هذا الأمر من جهالة ولاعن ظنة ولقد كنت تبلغني عنهم بعض السقم ولقد كنت سميت لهم رجالاًفقلت: قم أنت يا فلان، فخذ معك من المال كذا وكذا، وقم أنت يا فلان فخذ معك من المال كذا وكذا، وحذوت لهم مثالًا يعملون عليه فخرجوا حتى أتوا المدينة فلقوهم فدسوا ذلك المال، فواللّه ما بقي منهم شيخ ولا شاب ولا صغير ولا كبير الا بايعهم لي، فاستحللت به دماءهم، جَلّتْ عند ذلك بنقضهم بيعتي وطلبهم الفتنة والتماسهم الخروج علي، ثم قرأ في درج المنبر وحيل بينهم وبين ما يشتهون، كما فعل بأشياعهم من فبل، أنهم كانوا في شك مريب.
بين المنصور والربيع
قال المسعودي: وقال المنصور للربيع يوماً: اذكر حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تحب الفضل ابني فقال له، ويحك! ان المحبة إنما تقع بأسباب، قال: يا أمير المؤمنين، قد أمكنك اللهّ من أيقاع لسبب، قال: وما ذاك. قال: تُفْضِل عليه، فإنك إذا فعلت ذلك حبك، وإذا أحببته قال: واللّه قد أحببته قبل أيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء، قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير حسانه، وصغر عندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك كحاجة الشفيع العريان.
وقال المنصور يوماً للربيع: ويحك يا ربيع! ما أطيب الدنيا لولا الموت، قال له: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذلك. قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قال: صدقت.
بين المنصور وعمرو بن عبيد

وذكر إسحاق بن الفضل قال: بينا أنا على باب المنصور إذ أتى عمرو بن عبَيْدٍ فنزل عن حماره، وجلس، فخرج إليه الربيع، فقال له: قم أبا عثمان، بأبي أنت وأمي. فلما دخل على أبي جعفر أمر أن تفرش له لبود بقربه، وأجلسه إليه بعد ما سلم، ثم قال: يا أبا عثمان، عِظْنِي بموعظة، فوعظه بمواعظ، فلما اراد النهوض قال: أمرنا لك بعشر آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال أبو جعفر: واللهّ لتأخذَنهَا، قال: لا واللهّ لا آخذها، وكان المهدي حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت. فالتفت عمرو إلى أبي جعفر فمال: مَنْ هذا الفتى، قال. هذا محمد ابني، وهو المهديُّ، وهو وليُّ عهدي، قال: أما واللهّ لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، ولقد سميته باسم ما استحقَّه عملاً. ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه، ثم أقبل عمرا على المهدي فقال: نعم يا أبن أخي، إذا حلف أبوك أحنثه عمك: لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل لك من حاجة يا أبا عثمان. قال: نعم، قال: ما هي. قال: ان لا تبعث إلي حتى أتيك، قال: إذا لا نلتقي، قال: هي حاجتي، فمضى واتبعه المنصور بطرفه، ثم قال:
كلكم يَمْشِي رُوَيْدْ ... كلكم يطلب صيدْ
غير عمرو بن عُبَيْدْ
ودخل عمرو بن عبيد على المنصور بعد ما بايع للمهدي، فقال له: يا أبا عثمان هذا ابن أمير المؤمنين، ووليُّ عهد المسلمين، فقال لى عمرو: يا أمير المؤمنين، أراك قد وطَّدْتَ له الأمور، وهي تصير إليه. وأنت عنه مسؤول، فاستعبر المنصور وقال له: عظني يا عمرو، قال: يا أمير المؤمنين، إن اللّه قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشْتَرِ نفسك منه ببعضها. وان هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يد غيرك لم يصل إليك، فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده، وأنشد:
يا ذا الذي قد غَرَّهُ الأمل ... ودون ما يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى إنما الدنيا وزينتها ... كمنزل الركب حَلًّوا ثُمَّتَ ارتحلوا
حُتُوفها رَصَدٌ،وعيشها نكد ... وصفوها كدر، وملكها دول
تظل تقرع بالروعات ساكنها ... فما يسوغ له لين ولاجذل
كأنه للمنايا والردى غَرَضٌ ... تظل فيه بنات الدهرتنتضل
والنفس هاربة، والموت يَرْصُدُها ... وكل عثرة رِجْل عندها زلل
والمرء يسعى لما يبقى لوارثه ... والقبر وارث ما يسعى له الرجل
موت عمرو بن عبيد
ومات عمرو بن عبيد في أيام المنصور سنة أربع وأربعين ومائة وقيل: سنة خمس وأربعين ومائة ويكنى أبا عثمان، وهو عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، وكان جده باب من سَبْي كابل من رجال السند، وكان شيخ المعتزلة في وقته ومفتيها، وله خُطَب ورسائل، وكلام كثير في العدل والتوحيد وغير ذلك. وقد أتينا على أخباره والغرر من كلامه ومناظراته في كتابنا في المقالات في أصول الديانات.
وفي سنة " إحدى وأربعين ومائة شخص المنصور إلى بيت المقدس فصلّى فيه لنذركان عليه وانصرف.
موت هاشم بن عروة
وفي سنة ست وأربعين ومائة مات هشام بن عروة بن الزبير وهو ابن خمس وثمانين، وكان إذا اسمعه رجل كلاماً قال: أنا أرفع نفسي عنك، ثم نازع علي بن الحسن، فأسرع إليه هشام، فقال له علي: إني أدعوك إلى ما كنت تدعو إليه.
موت أبي حنيفة النعمان وجماعة
وفي سنة خمسين ومائة مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت مولى تَيْم اللات من بكر بن وائل في أيام المنصور ببغداد، توفي وهو ساجد في صلاته، وهو ابن تسعين سنة وفيها مات عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريجْ المكيُّ، مولى خالد بن أسيد، ويكنى أبا الوليد، وهو ابن سبعين سنة وفيها مات محمد بن إسجاق بن يَسَارمولى قيس بن مَخرَمَة من بني المطلب، ويكنى أبا عبد اللهّ، ويقال: مات سنة إحدى، ويقال: سنة اثنتين وخمسين ومائة.
وفي سنة سبع وخمسين مات الأوزاعي، ويكنى أبا عمر عبد الرحمن بن عمرو من أهل الشام، وإنما كان منزله فيهم - أعني الأوزاع - ولم يكن منهم - وذلك بدمشق فأضيف إليهم، وكان من سبي أهل اليمن في آخر أيام المنصور، وله تسعون سنة.

وفي أيام المنصور مات ليث بن أبي سُلَيم الكوفي، مولى عَنْبَسة بن أبي سفيان، سنة ثمان وخمسين ومائة وفي سنة ست وخمسين ومائة مات سًوّار بن عبد اللّه القاضي، وفي سنة أربع وخمسين ومائة مات أبو عمروبن العلاء في أيام المنصور.
مقتل عبد اللّه بن علي، عم المنصور
وطال حبس عبد اللّه بن علي بأمر المنصور، وأقام في محبسه تسع سين، وقيل غير ذلك فلما أرادا المنصور الحجَّ في سنة تسع وأربعين وما حَوَّله من عنده إلى عيسى بن موسى، وأمره بقتله، وان لا يعلم بذلك أحدا، فبعث عيسى بن موسى إلى ابن أبي ليلى وابن شبرمة، فشاورهما في ذلك، فقال ابن أبي ليلى: أمض بما أمرك به أمير المؤمنين، وقال ابن شبرمة: لا تفعل، فأبى أن يقتله، وأظهر لأبي جعفر أنه قتله، وشاع ذلك فكلم بنوعلي المنصور في أخيهم عبد اللّه، فقال لهم: هوعند عيسى بن موسى، فلما قدموا مكة أتوا عيسى بن موسى فسألوه عنه، فقال: قد قتلته، فرجعوا إلى أبي جعفر، فقالوا: زعم عيسى أنه قد قتله، فأظهر أبو جعفر الغضب على عيسى، وقال: يقتل عمي. واللّه لأقتلنه، وكان أبو جعفر أحب ان يكون عيسى قتله فيقتله به فيستريح منهما جميعاً، قال: فدعا به، فقال: لِمَ قتلت عمي، قال: أنت أمرتني بقتله، قال: لم أمرك بذلك، فقال: هذا كتابُكَ إليَّ فيه، قال: لم اكتبه، فلما راى الجدً من المنصور، وتخوف على نفسه قال: هو عندي لم أقتله، قال: ادفعه إلى أبي الازهر المهلب بن أبي عيسى، فدفعه إليه، فلم يزل عنده محبوساً، ثم أمره بقتله، فدخل عليه ومعه جارية له فبدأ بعبد اللّه فخنقه حتى مات، ثم مَدَّهُ عَلَى الفراش، ثم أخذا الجارية ليخنقها فقالت: يا عبد اللّه، قِتْلَةَ غير هذه، فكان أبو الأزهر يقول: ما رحمت أحدا قتلته غيرها، فصرفت وجهي عنها، وأمرت بها فخنقت، ووضعتها معه في الفراش، وأدخلت يدها تحت جنبه ويده تحت جنبها كالمعتنقين، ثم أمرت بالبيت فهدم عليهما، ثم احضرنا القاضي ابن علاثة وغيره فنظروا إلى عبد اللهّ والجارية معتنقين على تلك الحال، ثم أمر به فدفن في مقبرة أبي سويد بباب الشام من بغداد في الجانب الغربي.
قال المسعودي: وذكر عبد اللهّ بن عياش المنتوف قال: قال المنصور يوماً ونحن عنده: اتعرفون جباراً أول اسمه عين قتل جباراً أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد بن العاص، وعبد اللّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال المنصور: أتعرفون خليفة أول اسمه عين قتل جباراً أول اسمه عين، وجبارا أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، قلت: نعم، أنت يا أمير المؤمنين، قتلت عبد الرحمن بن مسلم، وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وعمك عبد اللهّ ابن على سقط عليه البيت، قال: فما ذنبي ان كان سقط عليه البيت، قلت: لا ذنب لك، فتبسم ثم قال: هل تحفظ الأبيات التي قالتها زوجة الوليد ابن عبد الملك اخت عمرو بن سعيد حين قتل عبد الملك أخاها، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، خَرَجَت في اليوم الذي قتل فيه أخوها عمرو وهي حاسرة تنشد:
أيا عين جوعي بالدموع على عمرو ... عَشِيَّةً يُبْتَزُّ الخلافة بالقهر
غدرتم بعمرٍ ويابني خيط باطل ... وكلكُم يبني البيوت على غدْر
وما كان عمرو عاجزا،غيرأنه ... أتته المنأيا بَغْتَةً وَهْوَ لا يدري
كأن بني مروان اذ يقتلونه ... خَشَاشٌ من الطيراجتمعن على صَقْر
لحى اللًه دنيا تعقب النارأهلها ... وتهتك ما بين القرابة من ستر
ألا يا لقومي للوفاء وللغدر ... وللمُغْلِقينَ الباب قَسْراًعلى عمرو
فرُحْنَا وراح الشامتون عَشِيةً ... كأن على أعناقهم فلق الصخر
قال ابن عياش: فقال المنصور: فما الأبيات التي بعث بها عمرو بن سعيد إلى عبد الملك بن مروان. قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين كتب إليه:
يريد ابن مروان أموراً أظنها ... ستحمله مني على مركب صَعْب
لينقض عهداً كان مروان شده ... وأدرك فيه بالقطيعة والكذب
فقدمته قبلي، وقد كنت قبله ... ولولا انقيادي كان كرب من الكرب

وكان الذي اعطيت مروان هفوَة ... غلبت بهارأيا، وَخَطْباً من الخطب
فإن تُنْفِذُ الأمر الذي كان بيننا ... فَقَلْنَا جميعاً بالسُّهَولة والرَّحْب
وإن يُعْطَهَا عَبْدُ العزيز ظلامة ... فأولى بها مِنَّا ومنه بنو حَرْبِ
وفاة المنصور
وكان مولد المنصور في السنة التي مات فيها الحجاج بن يوسف، وهي سنة خمس وتسعين، وكان يقول: ولدت في ذي الحجة، واعذرت في ذي الحجة، ووليتَ الخلافة في ذي الحجة، وأحسب المنية تكون في في الحجة، فكان كما ذكر.
وحدث الفضل بن الربيع قال: كنت مع المنصور في السفر الذي مات فيه فنزل منزلاً من المنازل، فبعث إليَّ وهو في قبة ووجههُ إلى الحائط، فقال لي: ألم أنهكَ ان تَدَعَ العامة يدخلون هذه المنازل فيكتبوا فيها مالا خير فيه. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين، قال: أما ترى على الحائط مكتوباً.
أبا جعفرٍ حانت وفاتكَ، وانقَضَتْ ... سِنُوكَ، وأمرُ اللَّهِ لا بًدَّ نَازِلُ
أباجعفرٍ، هل كاهِنٌ منَجِّم ... يرد ُّقضاء اللهّ، أم أنت جاهل
قال: قلت: واللهّ ما أرى على الحائط شيئاً، وأنه لنقيٌّ أبيض، قال: واللّه، قلت: اللهّ، قال: أنها واللّه إذا نفسي نعيت إلى الرحيل، بادر بي إلى حَرَم ربي وأمنِهِ هارباً من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فرحلنا وقد ثقل، حتى إذا بلغنا بئر ميمون، قلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم قال: الحمد للهّ فتوفي بها.
صفات المنصور
وكان المنصور من الحزم وصواب الرأي وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وكان يعطي الجزيل والخطير ما كان عطاؤه حزماً، ويمنع الحقير اليسير ما كان إعطاؤه تضييعاً، وكان كما قال زياد: لو ان عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقمت عليه قيام مَنْ لا يملك غيره، وخلف أبو جعفر ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وكان مع هذا يضن بماله، وينظر فيما لا ينظر فيه العوام، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرؤوس والأكارع والجلود، وعليه الحطب والتوابل، ومن كرمه أنه وصل عمومته وهم عشرة في يوم واحد بعشرة آلاف درهم، وأسماؤهم: عبد اللّه بن علي، وعبد الصمد بن علي، وإسماعيل بن علي، وعيسى بن علي، وداود بن علي، وصالح بن علي، وسليمان بن علي، وإسحاق بن علي، ومحمدبن علي، ويحيى بن علي، وكان يعمل في بناء مدينة بغداد التي بناها وعرفت به في كل يوم خمسون ألف رجل.
أولاده: وكان له من الولد: المهدي وجعفر، وأمهما أم موسى الحميرية، وتوفي جعفر في حياة أبيه المنصور، وسليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الاصغر، من كردية، وصالح الملقب بالمسكين، وبنت تسمى عالية.
قال المسعودي: وللمنصور أخبار حسان مع الربيع وعبد اللّه بن عياش وجعفربن محمد وعمروبن عبيد وغيرهم، وله خطب ومواعظ وسير وسياسات في الملك، وقد أتينا على أكثرها في كتابنا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً تَدُلُكَ على ما سبق في كتبنا، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر خلافة المهدي
محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس
ويكنى أبا عبد اللّه، وأمه أم موسى بنت منصوربن عبد اللّه بن ذي سهم بن أبي سَرْح، من ولد في رُعَيْنٍ من ملوك حِمْيَر.
أخذا له البيعة بمكة الرَّبيعُ مولاه يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وأتاه بنعي أبيه وبيعته منارةُ مولاه، فأقام يومين بعد ذلك، ثم خطب الناس فنعى أباه ودعا إلى بيعته وبويع بيعة العامة، وكان مولده سنة سبع وعشرين ومائة، وخرج منِ مدينة السلام في سنة تسع وستين ومائة يريد بلاد قرماسين من بلاد الدِّينورِ، وقد وصف له طيب ما سبذان من بلاد السيروان وجرجان، فعدل إلى الموضع المعروف بأرزن والران، فمات بقرية يقال لها ردين ليلة الخميس لسبعِ بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، فكانت خلافته عشرسنين وشهراً وخمس عشر يوماً، وقبض وله ثلاث واربعون سنة، وصلى عليه هرون الرشيد، وكان موسى الهادي غائباً بجرجان، وقيل: أنه مات مسموماً في قطائف أكلها، ولبست حُسنة جاريتُه وغيرها من حَشمه المسوحَ والسواد جزعاً عليه، فقال في ذلك أبو العتاهية :
رحْنَ في الوَشْي وأصبحنَ عليهنَ المسُوحُ

كل نطَّاح وان عاش، له يوماً نَطُوحُ
لستَ بالباقي ولوعُمِّرْتَ ما عُمِّرَنوحُ
فَعَلَى نفسكَ نحْ ان كنت لا بُدَّ تنوحُ
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
المهدي وشريك القاضي
ذكر الفضل بن الربيع قال: دخل شريك القاضي على المهديِّ يوماً: فقال له: لا بد ان تجيبني إلى خَصْلَة من ثلاث خصال قال: وما هن يا أمير المؤمنين. قال: أما ان تلي القضاء، او تحدِّثَ وَلدِي وتعلمهم، او تأكل عندي أكلة، ففكر ثم قال: الأكلة اخفهنّ على نفسي فاحتبسه وقدم إلى الطباخ ان يصلح له الوانا من المخ المعقود بالسكر الطيرزذ والعسل، فلما فرغ من غَذَائه قال له القيم على المطبخ: يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبداً، قال الفضل بن الربيع: فحدثهم واللهّ شريك بعد ذلك، وعَلّم أولادهم، وولي القضاء لهم، ولقد كتب بأرزاقه إلى الجهبذ فضأيقه في النقص، فقال له الجهبذ: انك لم تبع بزاً، قال له شريك: بلى والله لقد. بعت أكبرمن البز، لقد بعت ديني.
المهدي وعمرو بن الربيع يجوعان في طريقهما للصيد
وقال الفضل بن الربيع: خرج المهدي متنزها ومعه عمرو بن ربيع مولاه، وكان شاعراً، فانقطع عن العسكر، والناس في الصيد، وأصاب المهدفيَ جوع شديد، فقال لعمرو: ويحك ا رْتَدْ لي إنساناً نجد عنده ما نأكل، فما زال عمرو يطوف إلى ان وجد صاحب مَبْقَلة وإلى جانبها كوخ له، فصعد إليه فقال له: هل عندك شيء يؤكل. قال: نعم، رقاق من خبن شعير ورثيثة، وهذا البقل والكراث، فقال له المهدي: ان كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، عندي فضلة منه، فقدم إليهما ذلك، فأكلا أكلاً كثيراً، وأمعن المهدي حتى لم يبق فيه فضلة، فقال لعمرو: قل شعراً تصف به ما نحن فيه، فقال عمرو:
إن من يُطْعِمُ الرثيثة بالزيت وخُبن الشعير بالكُرًاث
لحقيقٌ بِصَفْعَةٍ اوبثنتين لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال المهدي: بئس واللّه ما قلت، ولكن أحسن من ذلك:
لحقيقٌ ببدرة اوبثنتين لحسن الصنيع او بثلاث
ووافى العسكر، ولحقته الخزائن والخَدَمُ والمواكب، فأمر لصاحب المبقلة بثلاث بدرٍ دراهم.
ومرة أخرى يجوع المهدي في طريقه للصيد
قال: وعارا به فرسُه مرة أخرى، وقد خرج للصيد، فدفع إلى خِبَاءٍ أعرابي وهو جائع، فقال: يا أعرابي هل عندك قِرىً فإني ضيفك. قال: أراك طريراً جسيماً عميماً، فإن احتملت الموجود قَرَّبْنَا لك ما يحضرنا، قال: هات ما عندك فأخرِج له خبز مَلّةٍ، فأكلها، وقال: طيبة، هات ما عندك، فأخرج إليه لبنا في كرش فسقاه، فشرب، وقال: طيب، هات ما عندك فأخرج له فضلة نبيذ في ركوة، فشرب الأعرابي واحداً وسقاه، فلما شرب قال المهدي: اتدري من أنا. قال: لا واللهّ، قال: أنا من خدم الخاصة: قال: بارك اللّه في موضعك وحَبَاك من كنت، ثم شرب الأعرابي قدحا وسقاه، فلما شرب قال له: يا أعرابي اتدري من أنا، قال: نعم ذكرت انك من خدم الخاصة، قال: لست كذلك قال: أنا أحد قوَّاد المهدي، قال: رَحُبَتْ دارك، وطاب مزارك، ثم شرب الأعرابي قدحا وسقاه، فلما شرب الثالث قال: يا أعرابي، اتدري من أنا. قال: نعم، زعمت انك أحد قُوَّاد المهدي، قال: فلست كذلك قال: فمن أنت؟ قال: أمير المؤمنين بنفسه، فأخذا الأعرابي ركوته فوكاها، فقال له المهدي: اسقنا، قال: لا واللّه لا تشرب منها جرعة فما فوقها، قال: ولم. قال: سقيتك قدحاً فزعمت أنك من خدم الخاصة، فاحتملناها لك، ثم سقيناك أخر فزعمت انك أحد قُوَّاد المهدي فاحتملناها لك، ثم سقيناك الثالث فزعمتَ أنك أمير المؤمنين، ولا والله ما أمنُ ان أسقيك الرابع فتقول: أنك رسول اللّه، فضحك المهدي، واحاطت به الخيل، فنزل إليه أبناء الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي، فلم يكن همه الا النجاة بنفسه، وجعل يشتد في عدْوه فقال له المهدي: لا بأس عليك، وأمر له بصلة جزيلة من مال وكسوة وبزة وآلة، فقال: أشهد انك صادق، ولو ادعيت الرابعة والخامسة لخرجت منها، فضحك المهدي منه حتى كاد ان يقع عن فرسه حين ذكر الرابعة والخامسة، وجعل له رزقاً وألحقه بخواصه.
وزراء المهدي

وكان وزيره أبو عبيد اللّه معاوية بن عبد اللّه الأشعري، وهو جد محمد ابن عبد الوهاب الكاتب وكان كاتبه قبل الخلافة، فقتل المهدي ابناً لأبي عبيد اللّه على الزندقة، فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه فعزله وعاش أبو عبيد اللّه إلى سنة سبعين ومائة، ثم اختص المهدي يعقوب بن داود السلمي، وخرج كتابه على الدواوين: إن أمير المؤمنين قد آخاه، وكان يصل إليه في كل وقت دون الناس كلهم، ثم اتهمه بشيء من أمر الطالبيين، فَهَم بقتله، ثم حبسه فبقي في حبسه إلى أيام الرشيد، فاطلقه الرشيد، وقد قيل في أمره: أنه كان يرى الإمامة في الاكبر من ولد العباس، وإن غير المهدي من عمومته كان أحَق بها منه.
خصال المهدي وأعماله
وكان المهدي محبباً إلى الخاص والعام، لأنه افتتح أمره بالنظر في المظالم، والكف عن القتل، وأمنِ الخائف، وإنصاف المظلوم، وبَسَطَ يده في الإعطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور، وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، سوى ما جباه في أيامه، فلما فرغت بيوت الأموال أتى أبو حارثة النهري خازن بيوت أمواله، فرمى بالمفاتيح بين يديه، وقال: ما معنى مفاتيح البيوت فُرّغ. ففرق المهدي عشرين خادماً في جباية الأموال، فوردت الأموال بعد أيام قلائل فتشاغل أبو حارثة النهري بقبضها وتصحيحها عن الدخول على المهدي ثلاثة أيام فلما دخل عليه قال: ما آخّرَكَ. فقال: الشغل بتصحيح الأموال، فقال: أنت أعرابي احمق، كنت تظن ان الأموال لا تأتينا إذا احتجنا إليها، قال أبو حارثة: ان الحادثة إذا حدثت لم تنتظرك حتى توجِّة في استخراج الأموال وحملها، وقيل: أنه فَرَّقَ في عشرة أيام من صلب ماله عشرة آلاف ألف درهم، فعند ذلك قام شبة بن عقال على رأسه خطيباً فقال: وللمهدي أشباه، فمنها القمر الزاهر، والربيع الباكر، والأسد الخادر، والبحر الزاخر، فأما القمر الزاهر فاشبه منه حسنه وبهاه، وأما الربيع الباكر فأشبه منه طيبه وهواه، وأما الأسد الخادر فأشبه منه غرته ومضاه، وأما البحر الزاخر فاشبه منه جوده وسخاه.
الخيزران وأمراة مروان بن محمد
وكانت الخيزران أم الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أمهات أولاد الخلفاء وغيرهن من بنات بني هاشم، وهي على بساط أرمني وهُنَ على نمارق ارمنية، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهن مرتبة، فبيناهن كذلك إذ دخل خادم لها فقال: بالباب أمراة ذات حسن وجمال في أطمار رثّةٍ تأبى أن تخبر باسمها وشأنها غيركن، وتروم الدخول عليكن، وقد كان المهدي تقدم إلى الخيزران بأن تلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي من آدابها، وخذي من أخلاقها، فأنها عجوز لنا قد ادركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذن لها، فدخلت أمراة ذات بهاء وجمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلمت فأوضحت عن بيان على لسان فقالوا لها: من انت، قالت: أنا مزنة أمراة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما ترَيْنَ، وواللّه ما الأطمار الرثة التي عليَّ الا عارية، وانكم لما غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا لم نأمن مخالطة العامة على ما نحن فيه من الضرر على بادرة إلينا تزيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حجابكم على أية حالة كانت، حتى تاتي دعوة مَنْ له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن على، فقالت لها: لاخَفّف الله عنك يا مزنة، اتذكرين وقد دخَلْتُ عليك بحَرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق

فكلمتك في جُثَّة إبراهيم الإمام، فأنتهرِتِنِي وأمرتِ بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم. فواللهّ لقد كان مروان أرْعى للحق منك، لقد دخلْتُ إليه فحلف أنه ما قتله، وهو كاذب، وخيرني بين ان يدفنه او يدفع الي جثته فاخترت جثته وعَرَضَ عليَّ مالا فلم اقبله، فقالت مزنة: واللّه ما نظن هذه الحالة أدتني إلى ما ترينه إلا بالفعال التي كانت مني، وكإنك استحسنته فحرَّضْتِ الخيزران على فعل مثله، إنما كان يجب ان تحضيها على فعل الخير وترك المقابلة بالشر، لتحرز بذلك نعيمها، وتصون بها دينها، ثم قالت لزينب: يا بنت عم، كيف رأيت صنيع اللهّ بنا في العقوق فأحببت التأسَّيَ بنا، ثم وَلّتْ باكية وكرهت الخيزران أن تخالف زينب فيها فغمزت الخيزران بعض جواريها، فعدلت بها إلى بعض المقاصير، وأمرت بتغيير حالها والاحسان إليها، فلما دخل المهدي عليها - وقد انصرفت زينب وكان من شأنه الاجتماع مع خواص حرمه في كل عشية - قَصَّتْ عليه الخيزران قصتها، وما أمرت به من تغيير حالها، فدعا بالجارية التي ردتها، فقال لها: لما ردَدْتها إلى المقصورة ما الذي سمعتها تقول، قالت: لحقتها في الممر الفلاني وهي تبكي في خروجها مؤتسية وهي تقرأ " وضرب اللّه مثلًا قرية كانت أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغَدا من كل مكان، فكفرت بأنعم اللّه، فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ، ثم قال للخيزران: واللهّ واللّه لو لم تفعلي بها ما فعلت ما كلمتك أبداً، وبكى بكاء كثيراً، وقال: اللهم إني أعوذ بك من زوال النعمة، وانكَرَ فعل زينب، وقال: لولا أنها اكبر نسائنا لحلفت ألا اكلمها، ثم بعث إليها بعض الجواري إلى مقصورتها التي أخليت لها، وقال للجارية: اقرئي عليها السلام مني وقولي لها يا بنت عمر إن أخَوَاتِكِ قد اجتمعن عندي، ولولا إني أغمك لجئناك، فلما سمعت الرسالة علمت مراد المهدي، وقد حضرت زينب بنت سليمان، فجاءت مزنة تسحب اذيالها، فأمرها بالجلوس، ورحَّب بها واستداناها ورفع منزلتها فوق منزلة زينب بنت سليمان بن علي، ثم تفاوضوا أخبار أسلافهم، وأيام الناس، والدول وتنقلها، فما تركت لأحد في المجلس كلاماً، فقال لها المهدي: يا بنت عم، واللّه لولا إني لا احب أن أجعل لقوم أنت منهم من أمرنا شيئا لتزوجتك، ولكن لا شيء أصْوَنُ لك من حجابي، وكونك مع أخوتك في قصري: لك ما لهن، وعليك ما عليهن، إلى ان يأتيك أمر مَنْ له الأمر فيما حكم به على الخلق، ثم اقْطَعَها مثل ما لهن من الاقطاع واخدمها واجازها، فأقامت في قصره إلى أن قبض المهدي وأيام الهدي وصدراً من أيام الرشيد، وماتت في خلافته، لا يفرق بينها وبين نساء بني هاشمِ وخواص حرائرهم وجواريهم فلما قُبِضَتْ جزع الرشيد والحرم جزعاً شديداً.
عبد اللّه بن عمرو بن عتبة يعزي المهدي ويهنئه
وحدثنا الرياشي عن الاصمعي: دخل عبد اللّه بن عمرو بن عتبة على المهدي يعزيه بالمنصور، فقال: أجر اللّه أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك اللّه له فيما خَلّفه فيه، ولا مصيبة أعظم من فقد إمام والد، ولا عُقْبى أجل من خلافة اللّه على أولياء اللهّ، فاقْبَلْ يا أمير المؤمنين من اللّه أفضل العطية، واحتسب عند اللهّ أفضل الرزية.
عتبة الجارية وأبو العتاهية
ولما كثر تَشْبِيبُ أبي العتافية بعتبةجارية الخيزران شكت إلى مولاتها ما يَلْحَقُهَا من الشناعة، ودخل المهديُّ وهي تبكي بين يدي الخيزران، فسألها عن خبرها، فأخبرته، فأمر بإحضار أبي العتاهية، فأدخل إليه، فلما وقف بين يديه قال: أنت القائل في عتبة:
اللّه بيني وبين مولاتي ... أبدت لي الصَدَّ والملامات
ومتى وصلتك حتى تشكو صَدَّها عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين ما قلت ذلك بل أنا الذي أقول:
يا ناق حُثِّي بنا ولاتَهِني ... نفسك فيما ترين راحات
حتى تجيئي بنا إلى ملك ... تَوَجَهُ الله بالمَهاباتِ
يقول للريح كلما عصفتَ: ... هل لك يا ريح في مُبَارَاتي
عليه تاجان فوق مَفْرِقِهِ ... تاج جمال وتاج إ خْبَاتِ
قال: فنكس المهديُ رأسه، ونكت بالقضيب الذي كان في يده ثم رفع رأسه فقال: أنت القائل:

ألا ما لسيدتي مالها ... أدلتْ فأحْمِلَ إدلالها؟
وجارية من جواري الملو ... ك قد أسْكِن الحسنُ سربالها
قال: وما علمك بما حواه سربالها. فأجابه معارضا له فيه:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجررُ أذيالها
فلم تك تَصْلُحُ إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ثم سأله عن أشياء، فأفحم أبو العتاهية في الجواب فأمر المهديُ بجلده نحواً من حد، وأخرج مجلوداً، فلقيته عتبة وهوعلى تلك الحال، فقال:
بَخ بَخ ياعتب من أجلكم ... قدقَتَلَ المهديُّ فيكم قتيلا
فتغرغرت عيناها، وفاض دمعها، وصادفت المهديَّ عند الخيزران، فقال: ما لعتبة تبكي. قالوا له: رأت أبا العتاهية مجلوداً، وقال لها كيت وكيت، فأمر له بخمسين ألف درهم، ففرقها أبو العتاهية على مَنْ كان بالباب، فكتب صاحب الخبر بذلك، فوجَّه إليه: ما حملك على أن أكرمتك بكرامة فقسمتها. قال: ما كنت لأكل ثمن من أحببت، فوجَّهَ إليه بخمسين ألفاً أخرى، وحلف عليه ان لا يفرقها، فأخذاها وانصرف.
من أبي العتاهية إلى المهدي
قال المبرّد: أهدى أبو العتاهية إلى المهديِّ في يوم نوروز او مهرجان برنية صينية فيها ثوب ممسَّك فيه سطران مكتوبان عليه بالغالية :
نفسي بشيءمن الدنيا معلقة ... اللَّه والقائم المهديُّ يكفيها
إني لأيأس منها ثم يُطْمِعني ... فيها احتقارك للدنياوما فيها
فهمَّ أن يدفع إليه عتبه، فقالت له: أمير المؤمنين، مع حرمتي وحقي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار يكتسب بالشعر، فبعث إليه: أما عتبة فلا سبيل لك إليها، وقد أمرنا لك بملء البرنية مالاً، فخرجت عتبة هو يناظر الكتاب، ويقول: إنما أمر لي بدنانير، وهم يقولون: بدراهم، قالت: أما لو كنت عاشقاً لعتبة لشغلت عن العَيْن والوَرِقِ.
من طرف أبي العتاهية:
وكان أبو العتاهية وهو إسماعيل بن القاسم بائع جرار، وكان من سهل الناس لفظاً وأقدرهم على وزن الكلام، وكان حُلْوَ الألفاظ، حتى أنه يتكلمِ بالشعر في جميع حالاته، ويخاطب به جميع أصناف الناس قد جعله شعراً ونثاراً.
وأجتمع أبو نُوَاسٍ وجماعة، فدعا أحدهم بماء فشرب ثم قال:
عَذُبَ الماء وطابا
ثم قال: أجيزوا فترددوا فلم يحضرأحد ما يجانسه في سهولته وقرب مأخذه، حتى جاء أبو العتاهية فقال: فيم أنتم؟ فأعلموه وأنشدوه القسم، فقال:
حبذا الماء شراباً
ومن مختارشعره في عتبة:
باللَّه يا حلوة العينين زوريني ... قبل الممات، وإلا فاستزيريني
هذان أمران، فأختاري أحبهما ... إليك، أولا فداعي الموت يدعوني
إن شئت موتاً فأنت الدَّهْرَ مالكة ... روحي، وان شئت أن أحيا فأحييني
يا عُتْبَ ما أنت إلا بِدْعَة خلقت ... من غيرطين، وخَلْقُ الناس من طين
إني لأعجب من حب يقربني ... ممن يباعدني عنه ويُقصيني
لوكان ينصفني مما كلفت به ... إذا رضيت وكان النصف يرضيني
يا أهل وديَ إني قد لطفت بكم ... في الحب جهدي ولكن لا تُبَالوني
الحمد للَه قد كنا نظنكُمُ ... من أرحم الناس طراً بالمساكين
أما الكثير فلا أرجوه منك، ولو ... أطمعتني في قليل كان يكفيني
ومن مختارشعره فيها قوله:
ألا يا عتب يا قمر الرصافهْ ... ويا ذات الملاحة والنظافة
رُزِقْتِ مودتي، ورزقت عطفي، ... ولم أرزق فديتك منك رَافَهْ
وصرتُ من الهوى دنفاً سقيماً ... صريعاً كالصريع من السُّلافهْ
أظَلُّ إذا رأيتك مستكَيناً ... كأنك قد بعثتِ عَلَي آفه
ومما اخترناه من شعر واستحسنه ذوو الحجا قوله:
ما أغفَلَ الناسَ عن بلائي ... وعن عنائي وعن شقائي
يلومُنِي الناسُ في حبيب ... والناس لا يعرفون دائي
يالهذه نفسي على خليل ... أصبح في كفه شفائي
صيرني حُبّه غريباً ... في غيرأرض، ولاسماء

قد بلغ الجد بي مَدَاه ... فما اصطباري؟ وماعزائي؟
أنت بلائي، وأنت دائي ... وأنت تدْرِينَ ما دَوَائِي
واللَّه ما تُذْكَرِين إلا ... فاضت دموعي على ردائي
تبارك اللَّه، ما دعاكم ... يا أهل وُدِّي إلى جفائي؟
فأنتم الهمُّ في صباحي ... وأنتم الهمُّ في مسائي
إني على مالقيت منكم ... لمعجَبٌ منكم بدائي
شَتَّان ما بينكم وبيني ... في نصح حبي، وفي وفائي
منحتكم صَبْوتي وودي ... فكان ذا منكمُ جزائي
وحدث المبرد محمد بن يزيد أن رَيْطَةَ ابنة أبي العباس السفاح وجَّهت إلى عبد اللّه بن مالك الخزاعي في شراء رقيق للعتق، وأمرت جاريتها عتبة - وكانت لها ثم صارت إلى الخيزران بعدها - ان تحضُرَ ذلك، فأنها لجالسة إذا جاء أبو العتاهية في زي متنسك فقال: جعلني اللّه فداك!! أنا شيخ ضعيف كبير لا يَقْوى على الخدمة، فأن رأيت اعزك اللّه ان تأمري بشرائي وعتقي فعلت مأجورة، فأقبلت على عبد اللهّ فقالت: إني لأرى هيئة جميلة، وضعفاً ظاهراً، ولساناً فصيحاً ورجلاً بليغاً، فاشتره وأعتقه، فقال: نعم، فقال أبو العتاهية: أتأذنين لي أصلحك اللّه في تقبيل يدك شكراً لك على جميل فعلك وما أوليتني فأذنت له، فقَبَّلَ يدها وانصرف، فضحك عبد اللهّ بن مالك، وقال. اتدرين مَنْ هذا. قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية، وإنما احتال عليك حتى قَبَّلَ يدك فَسَتَرَتْ وجهها خجلا، وقالت: سَوأة لك يا أبا العباس، أمثلك يعبث. إنما اغتررنا بكلامك، وقامت فلم تَعُدْ إليه.
ولأبي العتاهية اشعار حسان سنذكرها في أخبار مَنْ يرد من الخلفاء، وسنذكر لمعاً من أخباره وما استحسناه من اشعاره وذكر وفاته ولو لم يكن لأبي العتاهية سوى هذه الأبيات التي أبان فيها عن صدق الإخاء ومحض الوفاء لكان مبرزا على غيره، ممن كان في عصره وهي:
إن أخاك الصدقَ من كَان معك ... ومن يَضُرُّنفسه لينفعك
ومن إذا رَيْبً الزمان صدعك ... شَتَّتَ شمل نفسه كي يجمعك
وهذه الصفه في عصرنا معدومة، ومستحيل وجودها، ومتعذر كونها ومتعسررؤيتها.
محمد المهدي والشرقي بن القطامي

وروى ابن عياش وابن داب ان المنصور كان قد ضم الشَّرْقِي بن القَطَامي إلى المهدي، حين خَلَّفَه بالري، وأمره ان يأخذاه بحفظ أيام العرب، ومكارم الاخلاق، ودراسة الأخبار، وقراءة الأشعار، فقال له المهدي ذات ليلة: يا شرقي أ رِحْ قلبي بشيء يُلْهِيه، قال: نعم أصلح اللهّ الأمير، وذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة مَكِينة، وكأنا لا يُفارِقانه في لهوه وأنسه ومنامه ويقظته، ومُقامه وظعنه وكان لا يقطع أمراً دونهما، ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر بذلك دهراً طويلاً، فبينا هو ذات ليلة في شربه ولهوه إذ غلب عليه الشرابُ فأزال عقله، فدعا بسيفه وأنتضاه، وَشَدَّ عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما، فأخْبِرَ بما كان منه، فأكبَّ على الأرض عاضا لها تاسفاً عليهما وجزعاً لفراقهما، وأمتنع من الطعام والشراب، ثم حلف لا يشرب شراباً يزعج قلبه ما عاش، وواراهما، وبنى على قبريهما قُبَّة، وسَمَّاهما الغريَّيْنِ، وَسَنَ أن لا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه الا سجد لهما، وكانا إذا سَنَّ الملك منهم سُنَّة توارثوها، وَاحيَوْا ذكْرها ولم يميتوها، وجعلوها عليهم حكماً واجباً، وفرضاً لازماً، وأوصى بها الأباء أعْقَابَهُمْ، فغبر الناس بذلك دهراً طويلاً، لا يمر بقبريهما أحد من صغير ولا كبير الا سجد لهما، فصار ذلك سُنَّة لازمة وأمرا كالشريعة والفريضة، وحكم فيمن أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد ان يحكم له بخصلتين يجاب إليهما كائنا ما كانتا. قال: فمرَّ يوماً قَصَار معه كَارة ثياب وفيها مُدَقَته. فقال الموكلون بالغريَّيْنِ للقَصار: اسجد فأبى ان يفعل، فقالوا له: إنك مقتول ان لم تفعل، فأبى، فرفعوه إلى الملك واخبروه بقصته، فقال: ما منعك أن تسجد. قال: سجدت ولكن كَذبوا عليَّ، قال: الباطِلَ قلت، فأحتكم في خصلتين فأنك مُجَابٌ إليهما، وإني قاتلك بعد، قال: لا بد من قتلي بقول هؤلاء عليَّ، قال: لا بد من ذلك قال: أحتكم ان اضرب رقبة الملك بمدقتي هذه، قال له الملك: يا جاهل، لوحكمت على ان أجري على من تخلف وراءك ما يغنيهم كان اصلح لهم، قال: ما أحكم الا بضربةٍ لرقبة الملك، فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هذا الجاهل. قالوا: نرى ان هذه سنة أنت سننتها وأنت أعلم بما في نقض السنن من العار والنار وعظم الاثم، وأيضا انك متى نقضت سنة نقضت أخرى. ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك، فتبطل السنن قال: فارغبوا إلى القَصَار ان يحكم بما شاء ويعفيني من هذه، فإني أجيبه إلى ما شاء اللهّ ولو بلغ حكمه شَطْر مُلْكي، فرغبوا إليه، فقال: ما أحكم إلا بضربةٍ في عنق الملك قال: فلما رأى الملك ذلك وما عزم عليه القَصار قعد له مقعدا عاماً وأحضر القَصَّار فأبدى مُدُقَّته وضرب بها عنق الملك فأوهنه وَخَرِّ مغشيا عليه، فأقام وقيذاً ستة اشهر، وبلغت به العلة إلى ان كان يسقى الماء بالقطر، فلما أفاق وتكلم واكل وشرب واستقَلَّ سأل عن القصَار، فقيل: أنه محبوس، فأمر باحضارَه فحضر، فقال: لقد بقيت لك خصلة فأحكم بها، فأني قاتلك لا محالة إقامة للسنة قال القَصَّار: فاذا كان لا بد من قتلي فإني أحكم ان اضرب الجانب الأخر من رقبة الملك مرة أخرى، فلما سمع ذلك خَرَّ على وجهه من الجزع، وقال: ذهبت نفسي واللّه إذا، ثم قال للقصَار: وَيْلَك! دع عنك مالا ينفعك فأنه لم ينفعك منه ما مضى، وأحكم بغيره وانفذه لك كائناً ما كان، قال: ما أرى حقي الا في ضربةٍ أخرى، فقال الملك لوزرائه: ما ترون. قالوا: تموت على السنة اصلِح لك، قال: ويلكم! ان ضرب الجانب الاخر ما شربت " الماء البارد أبداً لإني أعلم ما قد نالذي، قالوا: فما عندنا حيلة، فلما رأى ما قد اشرف عليه قال للقصَار: أخبرني، ألم أ كُن قد سمعتك تقول يوم أتى بك الموكلون بالغَرِيَّيْنِ انك قد سجدت وأنهم كذبوا عليك، قال: قد كُنت قلت ذلك فلم أصدق، قال: فكنت سجدت. قال: نعم، فوثب الملك من مجلسه وقبل رأسه، وقال: أشهد انك صادق، وأنهم كذبوا عليك، وقد وليتك موضعهم، وجعلت إليك بأسهم، وأمرهم في تأديبهم فضحك المهدي حتى فحص برجليه، وقال: احسنت، وَوَصَلَه.
المهدي ومروان بن أبي حفصة

قال الهيثم بن عدي: كُنت في مجلس المهدي، فأتاه الحاجب فقال: ابن أبي حَفصَة بالباب، فقال: لا تأذن له فأنه منافق كَذاب، فكلمه الحسن بن قَحْطَبة فيه، فأدخله، فقال له المهدي: يا فاسق ألست القائل في معن:
جَبَل تلوذ به نزار كلها ... صَعْبُ الذَّرَى متمنع الأرْكَان
قال: بل أنا الذي أقول فيك يا أمير المؤمنين:
يَا ابن الذي ورث النبيَّ محمداً ... دون الاقَارِب من ذوي الأرْحام
وأنشده الأبيات كلها، فرضي عنه وأجازه.
بين المهدي وسفيان الثوري
وقال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي، واتى سفيان الثوري، فلما دخل عليه سَلّمَ تسليم العامة، ولم يسلم تسليم الخلافة، والربيع قائم على رأسه متكىء على سيفه يرقب أمره، فأقبل المهدي بوَجْهٍ طَلْق وقال له: يا سفيان، تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لواردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الان، أفما تخشى ان نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: ان تحكم فيَ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل ان يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي ان أضرب عنقه، فقال له: اسكت ويلك، ما يريد هذا وأمثاله الا ان نقتلهم فنشقى بسعادتهم، اكتبوا بعهده على قضاء الكوفة، على ان لا يُعْتَرَض عليه في حكم، فكتب عهمه ودفعه إليه، فأخذه وخرج ورمى به في الدجلة وهرب، فطلب في كل بلد، فلم يوجد.
رؤيا المهدي قبيل وفاته
وقال علي بن يقطين: كُنا مع المهدي بما سبذان، فقال لي يوماً: أصبحت جائعا فأتني بأرغِفَةٍ ولحم بارد، ففعلت، فأكل ثم دخل البهو ونام، وكُنَا نحن في الرواق، فأنتبهنا لبكائه، فبادرنا إليه مسرعين، فقال أما رأيتم ما رأيت. قلنا: ما رأينا شيئا، قال: وقف علي رجلٌ لو كان في ألف رجل ماخفي على صوته ولا صورته فقال:
كأني بهذا القصر قد بَادَ أهله ... وَاوْحَشَ منه رَبْعُه وَمَنَازِلُهْ
وصارعميد القوم من بعد بهجة ... وَمُلْكٍ إلى قبرعليه جَنَادِلُهْ
فلم يبق إلاذكْره وحديثه ... تنادي عليه مُعْوِلاتٍ حَلائِلُهْ
قال علي: فما أتت على المهدي بعد رؤياه إلا عشرة أيام حتى توفي.
وفاة زفر بن الهذيل وجماعة من العلماء
قال المسعودي: وكانت وفاة زفر بن الهُذَيْل ألفقيه صاحب أبي حنيفة النعمان بن ثابت سنة ثمان وخمسين ومائة، وفيها كانت بيعة المهديِّ كما قدمناه.
ومات سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري بالبصرة، وكان من تميم، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ويكنى أبا عبد الله، في أيام المهدي، وذلك في سنة احدى وستين ومائة.
ومات ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، ويكنى أبا الحارث، بالكوفة سنة تسع وخمسين ومائة، وذلك في أيام المهدي.
وفي سنة ستين ومائة مات شعبة بن الحجاج، ويكنى أبا بسطام، وهو مولى لبني شقرة من الأزد، وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد اللّه المسعودي، وفي سنة ست وستين ومائة مات حماد بن سَلَمة في أيام المهدي.
قال المسعودي: وللمهدي أخبار حسان، ولما كان في أيامه من الكوائن والحروب وغيرها، قد أتينا على مبسوطه في الكتاب الأوسط، وكذلك مَنْ مات في سُلْطانه من الفقهاء وأصحاب الحديث وغيرهم، وباللّه التوفيق.
ذكر خلافة موسى الهادي
وبويع موسى بن محمد الهادي يوم الخميس لسبع بَقِينَ من المحرم، وهو ابن أربع وعشرين سنة وثلاثة اشهر، صَبِيحَةَ الليلة التي كانت فيها وفاة ولده المهدي، وذلك في سنة تسع وستين ومائة، وتوفي بعيسا باذ نحو مدينة السلام سنة سبعين ومائة، لاثنتي عشرة ليلة بَقِيَتْ من شهر ربيع الأول من هذه السنة، وكانت خلافته سنةً وثلاثة اشهر، وكان يكنى أبا جعفر، وأمه الخيزران بنت عطاء، أم ولد حرشية، وهي أم الرشيد، وأتته البيعة وهو ببلاد طبرستان وجرجان في حرب كانت هناك، فركب البريد وقد أخذا له أخوه هارون البيعة. وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
لما أ تَتْ خَيْر بني هاشم ... خِلافَهُ اللَّه بجرجان
شَمَّرَللحربِ سَرابيلَه ... برأي لا غُمْرولا وَان
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
أوصاف الهادي

كان موسى قاسي القلب، شرس الاخلاق، صعب المرام، كثير الأدب، محباً له، وكان شديداً، شجاعاً بطلاً جوادا، سخياً. حدث يوسف بن إبراهيم الكاتب وكان صاحب إبراهيم بن المهدي، عن إبراهيم، أنه كان واقفاً بين يديه وهو على حمارٍ له ببستانه المعروف به ببغداد إذ قيل له: قد ظفر برجل من الخوارج، فأمر بادْخَاله، فلما قرب منه الخارجي أخذا سيفاً من بعض الحرس، فأقبل يريد موسى، فتنحيت وكلُّ مَنْ معي عنه، وأنه لواقف على حماره ما يتحلحل، فلما أن قرب منه الخارجي صاح موسى: أضربا عنقه، وليس وراءه أحد، فأوهمه، فألتفت الخارجي لينظر، وجمع موسى نفسه ثم ظهر عليه فصرعه، فأخذ السيف من يده، فضرب عنقه، قال: فكان خوفنا منه أكثر من الخارجي، فواللهّ ما انكر علينا تنحيّنا، ولا عَذَلنَا على ذلك، ولم يركب حمارا بعد ذلك اليوم، ولا فارقه سيفه.
بين المهدي وعيسى بن دأب
وكان عيسى بن دأب يجالسه، وكان من أهل الحجاز، وكان أكثر أهل عصره أدباً وعلماً ومعرفة بأخبار الناس، وأيامهم، وكان المهدي يدعو له مُئكأ ولم يكن غيره يطمع منه في ذلك، وكان يقول له: يا عيسى، ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غِبْتَ عني الا ظننت إني لا أرى غيرك.
جريمة غلام سندي
وذكر عيسى بن دأب أنه رفع إلى الهادي أن رجلاً من بلاد المنصورة - من بلاد السند من أشرافهم وأهل الرياسة فيهم من آل الملهب بن أبي صفرة - رَبَّى غلاماً سندياً او هندياً، وان الغلام هَوِيَ مولاته، فراودها عن نفسها فأجابته فدخل مولاه فوجدها معه بجبَّ ذَكَرَ الغلام وخَصَاه، ثم عالجه إلى ان برىء فأقام مدة، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفلٌ والاخر يافع، فغاب الرجل عن منزله وقد أخذا السنديّ الصبيين فصعد بهما إلى أعالي سور الدار إلى ان دخل مولاه فرفع رأسه فأذا هو بابنيه مع الغلام على السور، فقال: يا فلان، عرضت ابنيَّ للهلاك، فقال: دع ذا عنك، واللّه لو لم تَحُبَّ نفسك بحضرتي لارمينَّ بهما، فقال له: اللهّ اللهّ فيَّ وفي ابنيَّ، قال: دع عنك هذا، فواللّه ماهي الا نفسي، وإني لاسمح بها من شربة ماء، واهوى ليرمي بهما، فأسرع مولاه فأخذا مُدْية فجبَّ نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل رمى بالصبيين فتقطعا، وقال: ذاك الذي فعلت لفعلك بي، وقَتْلُ هذين زيادةٌ، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السند بقتل الغلام وتعذيبه بأفظع ما يمكن من العذاب، وأمر باخراج كل سندي في مملكته، فرخص في أيامه حتى كانوا يتداولون بالثمن اليسير.
وزراء الهادي
وكان الهادي قد استوزر الربيع، وضم إليه ما كان لعمر بن بزيع من الزمام ثم إنه ولى عمر بن بزيع الوزارة وديوان الرسائل، وافرد الربيع بالزمام، فمات الربيع في هذه السنة، وقيل: ان الهادي سقاه شربة لأجل جارية كان قد وهبها له المهدي قبل ذلك للربيع، وقيل غير ذلك.
ظهور الحسين بن علي بن الحسين
وظهر في أيامه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهو المقتول بفخ، وذلك على ستة أميال من مكة، يوم التَّرْوِية وكان على الجيش الذي حاربه جماعة من بني هاشم: منهم سليمان بن أبي جعفر، ومحمد بن سليمان بن علي، وموسى بن عيسى، والعباس بن محمد بن علي، في أربعة آلاف فأرس، فقتل الحسين وأكثر مَنْ كان معه، وأقاموا ثلاثة أيام لم يواروا حتى أكلتهم السباع والطير، وكان معه سليمان بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي، فأسِرَ في هذا اليوم وضربت رقبته بمكة صبرا، وقتل معه عبد اللّه بن إسجاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، وأسر الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وضرب عنقه صبرا، وأخذا لعبد اللّه بن الحسن بن علي وللحسين بن علي الأمان، فحبسا عند جعفربن يحى بن خالد بن بَرْمَكٍ، وقتلا بعد ذلك، فسخط الهادي على موسى بن عيسى لقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن وترك المَصِيرِ به إليه ليحكم فيه بما يرى وقبض أموال موسى، وأظهر الذين أتوا بالرأس الاستبشار، فبكى الهادي وزَجَرَهم، وقال: أتيتموني مستبشرين كأنكم أتيتموني برأس رجلٍ من الترك او الديلم، أنه رجل من عِتْرَةِ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ألا إن اقل جزائكم عندي ألا اثيبكم شيئاً.
من مراثي الحسين بن علي صاحب فخ

وفي الحسين بن علي صاحب فَخً، يقول بعض شعراء ذلك العصر من أبيات:
فلأ بكينَّ عَلَ الحسين بِعَوْلَةٍ وعلى الحَسَنْ
وعلى ابن عاتكة الذي ... أ ثْوَوْهُ ليس له كَفَنْ
ترِكُوا بفخّ غُدْوة ... في غيرمنزلة الوطن
كانوا كراماقتلوا ... لاطائشين ولاجُبُنْ
غَسَلوا المذلّةَ عنهمً ... غسل الثياب من الدرَنْ
هُدِيَ العبادُ بجدهم ... فلهم على الناس المِنَنْ
طاعة الهادي لأمه الخيزران
وكان الهادي كثير الطاعة لأمه الخيزران، مجيبا لها فيما تسأل من الحوائج للناس، فكانت المواكب لا تخلو من بابها، ففي ذلك يقول أبو المعافي:
يا خيزران هَنَاكِ ثم هَنَاكِ ... أن العباك يسوسهم إبناك
فكلمتْهُ ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا، فاعتل عليها بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فأني قد ضمنت هذه الحاجَةَ لعبد اللّه بن مالك، فغضب الهادي، وقال: وَيل لابن الفاعلة، قد علمت أنه صاحبها، واللّه لاقضيتها لك، قالت: إذا واللّه لا أسالك حاجة أبداً، قال: إذا واللّه لا أبالي وحميَ وقامت وهي مُغْضبة، فقال: مكانك، فأستوعبي كلامي، واللّه، وإلا نُفِيتُ من قَرَابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قُوَّادى، او من خاصتي، او من خدمي، لاضربنَّ عنقه، ولاقبضَنَّ ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم، أما لك مِغْزَلٌ يَشغلك، او مُصْحَف يذكرك، او بيت يصونك. أياك ثم أياك ان تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولاذمّي، فأنصرفت وما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلو ولا مر بعدها.
أخذا العباسيون ثأر بني هاشم من بني مروان
وذكر ابن دأب، قال: دعاني الهادي في وقت من الليل لم تجْرِ العادة أنه يدعوني في مثله، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي، وقدامه جزء صغيرينظر فيه، فقال لي: يا عيسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني أرقت في هذه الليلة، وتداعت الي الخواطر، واشتملت علي الهموم، وهاج لي ما جرت إليه بنو أمية من بني حَرْب وبني مَرْوان في سَفْك دمائنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا عبد اللّه بن علي قد قتل منهم على نهرأبي فطرس فلاناً وفلاًناً حتى أتيت على تسمية أكثرمن قتل منهم، وهذا عبد الصمد بن علي قد قتل منهم بالحجاز في وقت نحو ما قتل عبد اللّه بن علي، وهو القائل بعد سَفْكه دماءهم:
ولقد شَفَى نَفْسِي وأبرأ سُقْمَهَا ... أخذي بثأري من بني مروان
ومِنَ آل حرب، ليت شيخي شاهد ... سفكي دماء بني أبي سفيان
قال ابن دأب: فسُر واللّه الهادي، وظهرت منه أريحية، فقال: يا عيسى داود بن علي هو ألف القائل ذلك والقاتل لمن ذكرت بالحجاز، ولقد اذكرتنيهما، حتى كإني ما سمعتهما، قلت: يا أمير المؤمنين، وقد قيل: أنهما لعبد الله بن علي قالهما على نهرأبي فطرس، قال: قد قيل ذلك.
بعض فضائل مصر وبعض أخبارها وبعض عيوبها

قال ابن دأب: ثم تغلغل بنا الكلام والحديث إلى أخبار مصر وعيوبها وفضائلها وأخبار نيلها، فقال لي الهادي: فضائلها أكثر، قلت: يا أمير المؤمنين هذه دعوى المصريين لها بغير برهان اوْرَدوه، والبينة على الدعوى، وأهل العراق يأبونَ هذه الدعوى، ويذكرون ان عيوبها أكثر من فضائلها، قال: مثل مإذا. قلت: يا أمير المؤمنين من عيوبها أنها لا تمطر، وإذا أمطرت كرهوا ذلك، وابتهلوا إلى اللّه بالدعاء وقد قال عز وجل: " وهو الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بين يدَي ْرحمته " فهذه رحمة مجللة لهذا الخلق وهم لها كارهون، وهي لهم ضارة غير موافقة لا يزكو عليها زرعهم ولا تخضب عليها أرضهم، ومن عيوبها الريح الجنوبية التي يسمونها المَرِيسَيّةَ، وذلك ان أهل مصر يسمون أعالي الصعيد إلى بلاد النوبة مَرِيس، فإذا هبت الريح المريسية - وهي الجنوبية - ثلاثَةَ عَشَرَ يوماً تباعاً اشترى أهل مصر الأكفان والحنوط وأيقنوا بالوباء القاتل، والبلاء الشامل،.ثمِ من عيوبها اختلاف هوائها، لأنهم في يوم واحد يغيرون ملابسهم مرارا كثيرة، فيلبسون القُمُص مرة، والمبطنات أخرى، والحشو مرة، وذلك لاختلاف جواهر الساعات بها، ولتباين مَهَابِّ الهواء فيها في سائر فصول السنة من الليل والنهار، وهي تمير ولا تمتار، فأذا اجدبوا هلكوا. وأما نيلها نكفاك الذي هو عليه من الخلاف لجميع الأنهار، من الصغار والكبار، وليس بالفرات ولا الدجلة ولا نهر بلخ ولا سيحان ولا جيحان شيء من التماسيح، وهي في نيل مصرضارة بلامنفعة، ومفسدة غير مصلحة، وفي ذلك يقول الشاعر:
أظهرتُ للنيل هِجْراناً ومَقْلِية ... إذ قيل لي إنما التمساح في النيل
فمن رأى النيل رَأي الحين من كَثَبٍ ... فما أرَى النيل إلا في النواقيل
قال: ويحك!! ما النواقيل التي ترى النيل فيها. قلت: القلال والكِيزَان يسمونها بهذا الاسم، قال: وما مراد الشاعر فيما وصف، قال: لأنه لا يتمتع بالماء إلا في الآنية، لخوف مباشرة الماء في النيل من التمساح، لأنه يختطف الناس وسائر الحيوان، قال: ان هذا النهر قد منع هذا النوع من الحيوان مصالح الناس منه، وقد كنت متشوقَا إلى النظر إليها، فلقد زهدتني عنها بوصفك لها.
قال ابن دأب: ثم سالذي الهادي عن مدينة دنقلة، وهي دار مملكة النوبة، كم المسافة بينها وبين اسوان، قلت: قد قيل أربعون يوماً على شاطىء النيل عمائرمتصلة.
بين البصرة والكوفة:
قال ابن دأب: ثم قال لي الهادي: أيها يا ابن دأب، دع عنك ذكر المغرب وأخباره، وهلم بنا إلى ذكر فضائل البصرة والكوفة وما زادت به كل واحدة منهما على الأخرى، قال: ذكر عن عبد الملك بن عمير، أنه قال: قدم علينا الاحنف بن قيس الكوفة مع مصعب بن الزبير، فما رأيت شيخاً قبيحاً إلا ورأيت في وجه الاحنف منه شبهاً، كان صَعْل الرأس، أجْخَى العين، أعْصَف الاذن، باخِقَ العين، ناتىءَ الوجه، مائل الشدْق، متراكب الاسنان، خفيف العارضين، أحْنَف الرِّجْل، ولكنه كان إذا تكلم جَلّى على نفسه، فجعل يفاخرنا ذات يوم بالبصرة ونفاخره بالكوفة، فقلنا الكوفة اغْذَى وأمرا وافسح وأطيب، فقال له رجل: واللهّ ما اشبه الكوفة الا بشابة صبيحة الوجه كريمة الحسب ولا مال لها، فإذا ذكرت ذكرت حاجتها، فكفَّ عنها طالبها، وما أشبه البصرة إلا بعجوز ذات عَوارض موسرة، فإذا ذكرت ذكر يسارها، وذكرت عوارضها، فكَفَّ عنها طالبها، فقال الأحنف: أما البصرة فإن أسفلها قَصَب، وأوسطها خَشَب، وأعلاها رُطَب، نحن أكثر ساجَاً وعاجاً وديباجاً، ونحن أكثر قنداً، ونقداً، واللّه ما أتي البصرة إلا طائعاً، ولا أخرج منها الا كارهاً، قال: فقام إليه شاب من بكربن وائل فقال: يا أبا بحر، بِمَ بلغت في الناس ما بلغت. فواللّه ما أنت بأ جْمَلِهم، ولا بأ شْرَفهم، ولا بأشْجَعِهم، قال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما ذاك، قال: بتركي ما لا يَعْنِيني كما عناك من أمري ما لا ينبغي ان يعنيك.
قال المسعودي: ولابن دأب مع الهادي أخبار حِسَان يطول ذكرها، ويَتّسع علينا شرحها، ولا يتأتى لنا أيراد ذلك في هذا الكتاب، لاشتراطنا فيه على أنفسنا الإختصار والإيجاز بحذف الاسإنيد وترك إعادة الألفاظ.

ولأهل البصرة وأهل الكوفة ومَنْ شرب من دجلة مناظرات كثيرة في مياههم ومنافعها ومضارها، منها ما عاب به أهل الكوفة أهل البصرة، فقالوا: ماؤكم كَدر زَهِك زَفِر، فقال لهم أهل البصرة: من أين يأتي ماءَنا الكدرُوماء البحر صافٍ وماء البطيحة صاف، وهما يمتزجان وسط بلادنا، قال الكوفيون: من طباع الماء العذب الصافي إذا خالط ماء البحر صارا جميعاً إلى الكدورة، وقد يرَوِّق الإنسان ماء أربعين ليلة، فإن جعل شه شيئاً في قارورة أ زْبَدَ وتكدَّر.
وقد افتخر أهل الكوفة بمائهم - الذي هو الفرات - على ماء دجلة، - هو ماء البصرة! فقالوا: ماؤنا أعْذَبُ المياه وأغذاها، وهو أصح للاجسام من ماء دجلة، والفرات خير من النيل، فأما دجلة فأن ماءها يقطع شهوة لرجال، ويذهب بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها، وان لم يتدسم النازلون عليها اصابهم قحول في عظامهم ويبس في جلودهم، وسائر من نزل من العرب على دجلة لا يكادون يسقون خيلهم منها ويسقونها من الأبار والرِّكاء، لاختلاط مياهها - واختلاف أنواعها إذ ليست بماء واحد لمصَبِّ الأنهار إليها كالزابينِ غيرهما، وسبيل المشروب غير المأكول، لان اختلاف الماكل غير ضار، واختلاف الأشربة كالخمر والنبيذ وغيره من الأنبذة إذا شربه الإنسان كان ضاراً، وإذا كان فضيلة مائنا على دجلة فما ظنك بفضيلته على ماء البصرة هو يختلط بماء البحر، ومن الماء المستنقع في أصول القصب الهروي،وقد قال اللهّ تعإلى: " هذا عذب فُرات، وهذا ملح أجاج " والفرات أعذب المياه عذوبة، وإنما اشتق الفرات لكل ماء عذب من ماء الكوفة.
وقد طعن أيضا أهل الكوفة على أهل البصرة، فقالوا: البصرة أسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً، وأبعدها من السماء، وأسرعها غرقاً.
وقد أجاب أهل البصرة أهل الكوفة عما سألوا عنه وعابوهم به، وكذلك من شرب من دجلة، وعابوا أهل الكوفة، وذكروا عيوبها، وما يؤثَرُ عن سكانها من الشح على المأكول والمشروب والغدر وقلة الوفاء.
وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان وكذلك أتينا على خواص الأرض والمياه، وفصول السنة، وانقسام الآقاليم، وما لحق بهذه المعاني، فيما سلف من كتبنا على الشرح والإيضاح، وذكرنا في هذا الكتاب من جميع ذلك لمعاً.
فلنزجع الآن إلى أخبار الهادي ونعدل عن هذا السانح.
رغبة الهادي في خلع الرشيد من ولاية العهد
وقد كان الهادي أرادا ان يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويجعلها لابنه جعفر بن موسى، وحبس يحيى بن خالد البرمكي، وأرادا قتله، فقال له يحيى وكان القيم بأمر الرشيد: يا أمير المؤمنين، أرأيت ان كان ما أسال اللّه ان يُعِيذَنَا منه، وان لا يبلغناه، ويَنْسأ في أجل أمير المؤمنين، أيظن ان الناس يُسَلمون لجعفربنِ أمير المؤمنين الأمر ولم يبلغ الحِنث، ويرضون به لصَلاتهم وحَجِّهم وغزْوهم. قال: ما اظن ذلك، قال: فثأمن أن يسموا إليها جِلُة أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك إلى غيرهم. فتكون قد حملت الناس على النَّكْثِ، وهوَنت عليهم أيمانهم، ولو تركت بيعة أخيك على حالها، وبُويعَ لجعفر بعده كان آكَدَ، فإذا بلغ مبلغ الرجال سألت أخاك أن يقدمه على نفسه، قال: نبهتني واللهّ على أمر لم اكن قد أنتبهت له، ثم عزم بعد ذلك على خَلْعه رضي أم كره، وأمر بالتضييق عليه في الأكثر من أموره، فأشار عليه يحيى أن يستأذنه في الخورج إلى الصَّيْد، وان يطيل التشاغل بذلك، فإن مدة موسى قصيرة على ما أوجبته قضية

المولد، واستأذنه الرشيد، فأذن له، فسار إلى شاطىء الفرات من بلاد الأنبار وهَيْتَ، وتوسط البر مما يلي السماوة، وكتب الهادي إليه يأمره بالقدوم فأكثر الرشيد التعلل، وبسط الهادي لسانه في شتمه، وسنح للهادي الخروج نحو بلاد الحديثة، فمرض هناك، وانصرف وقد ثقل في العلة، فلم يجسر أحد من الناس على الدخول عليه إلاصغار الخدم، ثم أشار إليهم أن يحضروا الخيزران أمه، فصارت عند رأسه، فقال لها: أنا هالك في هذه الليلة، وفيها يلي أخي هارون، وأنت تعلمين ما قضى به أصل مولدي بالري، وقد كنت أمرتك بأشياء ونهيتك عن أخرى، مما اوجبته سياسة الملك، لا موجبات الشرع من برك، ولم اكن بك عاقاً، بل كنت لك صائناً وبرا واصلاً، ثم قضى قابضاً على يدها، واضعاً لها على صدره. وكان مولده بالري: وكذلك مولد هرون الرشيد، فكانت تلك الليلة فيها وفاة الهادي، وولآية الرشيد، ومولد المأمون.
الهادى ورجل ذو ذنوب
ويقال: إن الهادي أوْقَفَ بين يديه رجلاً من أولياء الدولة ذا أجرام كثيرة، فجعل الهادي يذكره ذنوبه، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رَدّ عليك، وإقراري بما ذكرت يوجب ذنباً علي، ولكني أقول:
فإن كُنْتَ تَرْجُو في العُقُوبةِ رَاحَة ... فلا تَزْهَدَنْ عِنْدَ المُعَافاةِ في الأجر
فأطلقه ووصله.
بين الهادي والرشيد
وحدث عدة من الأخباريين من ذوي المعرفة بأخبار الدولة، أن موسى قال لهارون أخيه: كأنى بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت عنه بعيد، ومن دون ذلك خرْطُ القَتَاد، فقال له هارون: يا أمير المؤمنين من تكبر وضع، ومن تواضع رفع، ومن ظلم خذل، وإن وصل الأمر إلي وَصَلْتُ مَنْ قطعت، وبررت من حرمت، وصيرت أولادك أعلى من أولادي، وزوجتهم بناتي، وقضيت بذلك حقَّ الإمام المهدي، فأنجلى عن موسى الغضب، وبان السرور في وجهه، وقال: ذلك الظن بك يا أب جعفر، ادْنُ مني، فقام هارون فقبَّلَ يده، ثم ذهب ليعود إلى مجلسه، فقال موسى: والشيخ الجليل، والملك النبيل، لا جلستَ إلا معي في صدر المجلس، ثم قال: يا خَزاني! احمل إلى أخي الساعة ألف ألف دينار، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفه، فلما أرادا هارون الانصراف قدَمت دابته إلى البساط.
رؤيا المهدي لولديه الهادي والرشيد
قال عمرو الرومي: فسألت الرشيد عن الرؤيا، فقال: قال المهدي: رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيباً، وإلى هارون قضيباً، فأما قضيب موسى فأورَقَ أعلاه قليلاً: وأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره، فقَصَّ الرؤيا على الحكيم بن إسجاق الصيمريّ، وكان يَعْبُرها، فقال له: يملكان جميعاً، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ أخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن الأيام، ودهره احسن الدهور.
قال عمرو الرومي: فلما أفضت الخلافة إلى هارون زَوَّج حمدونة ابنته من جعفربن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى له ما وعده.
حاز الهادي سيف عمرو بن معد يكرب الصمصامة
المهدي موسى الهادي سيف عمرو بن معد يكرب الصمصامة فدعا به موسى بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، وملء مِكْتَل دنإنير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال:
حَازَ صَمْصَأمةَ الزُّبْيَدِي عمروٍ ... مِنْ جَمِيع الأنام مُوسَى الأمين
سَيْفُ عمرو، وكان فِيمَا سَمِعْنَا ... خَيْرَمَا أغْمِدَتْ عَلَيْهِ الجُفُونُ
اوْقَدَتْ فَوْقَهُ الصَّوَاعِقُ نَاراً ... ثُمَّ شَابَتْ فِيهِ الذُّعَافِ المَنُونُ
وَإذا مَا شَهرْتَهُ تَبْهَرُ الشَّمْسَ ... ضِيَاءً فَلَمْ تَكَدْ تَسْتَبِين
وكأن الفرِنْدَ والجوهر الجَا ... رِيَ في صفحتيه ماء مَعِينُ
ما يُبَالي إذا الضريبة حانت ... أشمال سَطَتْ بِهِ أم يمين
وهي أبيات كثيرة، فقال له الهادي: لك السيف والمكتل، فخذهما، ففرق المكتل على الشعراء، وقال: دخلتم معي وَحُرِمْتُمْ من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي فأشترى منه السيف بخمسين ألفاً.

وللهادي أخبار حسان وإن كانت أيامه قَصُرَتْ، وقد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وباللّه التأييد.
ذكر خلافة هارون الرشيد
بويع هارونُ الرشيد بنُ المهديِّ يومَ الجمعة صبيحةَ الليلةِ التي مات فيها الهادي، بمدينة السلام، وذلك لاثنتي عشرة ليلة بقِيَت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، ومات بِطُوسَ بقرية يقال لها سناباذ، يوم السبت لأربع لَيَال خَلَوْنَ من جمادي الاخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فكانت ولآيته ثلاثاً وعشربن سنة وستة اشهر، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً ووليَ الخلافة وهو ابن أحدى وعشرين سنة وشهرين ومات وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة اشهر.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
الرشيد يستوزر يحيى بن خالد البرمكي
ولما افْضَتِ الخلافة إلى الرشيد دعا بيحيى بن خالد فقال له: يا ابَتِ، أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ؤَيُمْنك وحسن تدبيرك، وقد قَلدْتك الأمر، وَدَفَعَ خاتمه إليه، ففي ذلك يقول الموصلي:
ألم ترأن الشمس كانت سَقِيمَةً ... فلما وَلَى هارونُ أشْرَقَ نورها
بيُمْنِ أمين اللَّه هارون ذي الندى ... فَهرُونُ واليها، ويحيى وزيرها
وماتت رَيْطَة بنت أبي العباس السَّفاح لشهور خَلَتْ من أيام الرشيد، وقيل: في آخر أيام الهادي، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، ومشى الرشيد أمام جنازتها، وكانت غلة الخيزران مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، وفيها مات محمد بن سليمان، وقَبَضَ الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفاً وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستَغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم.
محمد بن سليمان وسوار القاضي يعترضهما مجنون
وحكي أن محمد بن سليمان ركب يوماً بالبصرة وسوَار القاضي يسايره في جنازة ابنة عم له، فأعترضه مجنون كان بالبصرة يعرف. برأس النعجة، فقال له: يا محمد، أمن العدل أن تكون نحلتك في كل يوم مائة ألف درهم وأنا اطلب نصف درهم فلا أقدر عليه؟ ثم التفت إلى سَوَّار فقال: إن كان هذا عدلاً فأنا أكفر به، فأسرع إليه غلمان محمد، فكَفّهُمْ عنه، وأمر له بمائة درهم، فلما انصرف محمد وسَوَّار معه اعترضه رأس النعجة فقال له: لقد كرم اللهّ منصبك، وشرف أبوتك، وحَسَّن وجهك، وعظم قدرك، وأرجو أن يكون ذلك لخير يريده اللّه بك، ولان يجمع اللّه لك الدارين، فدنا منه سَوَّار فقال: يا خبيث، ما كان هذا قولك في البداءة، فقال له: سألتك بحق اللّه وبحق الأمير إلاما أخبرتني في أي سورة هذه الآية: " فإن أعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون " قال: في براءة، قال: صدقت، فبرىء اللهّ ورسوله منك، فضحك محمد ابن سليمان حتى كاد يسقط عن دابته.
ولما بنى محمد بن سليمان قصره على بعض الأنهار دخل إليه عبد الصمد بن شيب بن شبة، فقال له محمد: كيف ترى بنائي؟ قال: بنيت أجل بناء، بأطيب فناء، وأوسع فضاء، وأرقِّ هواء، على احسن ماء، بين صراري وحسان وظباء، فقال محمد: بناء كلامك أحْسَنُ من بنائنا، وقيل: أن صاحب الكلام والباني للقصر هو عيسى بن جعفر، على ما حدث به محمد بن زكرياء الغلابي، عن الفضل بن عبد الرحمن بن شبيب بن شبة، وفي هذا القصر يقول ابن أبي عُيَيْنة:
زُرْواديَ القصر، نعم القصر والوادي ... لا بُدَّ من زَوْرَة من غير ميعاد
زره فليس له شبه يُقَاربه ... من منزل حاضرٍ ان شئت أو باد
ترقى قراقيره والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
وفي سنة خمس وسبعين ومائة مات الليث بن سعد، المصري، الفهمي، ويكنى أبا الحارث، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وكان قد حج سنة ثلاث عشرة ومائة وسمع من نافع.
موت شريك النخعي القاضي

وفي سنة خمس وسبعين ومائةَ مات شريك بن عبد اللّه بن سنان النَّخَعِيُّ القاضي، وكان يكنى أبا عبد اللّه، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وكان مولده ببخارى، وليس بشريك بن عبد اللّه بن أبي أنمر الليثي، لان ابن أبي أنمر مات في سنة أربعين ومائة، وإنما ذكرنا ذلك لأنهما يتشابهان في الأباء والأمهات، وبينهما تسع وثلاثون سنة، وكان شريك بن عبد اللهّ النخعي يتولّى القضاء بالكوفة أيام المهديِّ، ثم عزله موسى الهادي، وكان شريك مع فهمه وعلمه ذكياً فطناً، وكان قد جرى بينه وبين مصعب بن عبد اللّه كلام بحضرة المهدي فقال له مصعب: أنت تنتقص أبا بكر وعمرو، فقال: وللّه ما أنتقص صلَّكَ وهو دونهما.
وذُكِرَ معاوية عند شريك بالحلم، فقال: ليس بحليم من سَفِهَ الحقَّ وقاتل عليَّ بن أبي طالب.
وشم من شريك رائحة النبيذ، فقال له أصحاب الحديث: لوكانت هذه الرائحة منا لاستحيينا، فقال: لأنكم أهل الريبة.
موت مالك بن أنس الإمام
ومات في أيام الرشيد أبو عبد اللّه مالك بن انس بن أبي عأمر، الأصبحيُّ، وهو ابن تسعين سنة، وحمل به ثلاث سنين، وذلك في ربيع الأول، وقيل: أنه صلى عليه ابن أبي ذئب، على ما ذكر من التنازع في وفاة ابن أبي ذئب، وذكر الواقديُّ أن مالكاً كان يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمع والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ثم ترك ذلك كله، ثم قيل له فيه، فقال: ليس كل انسان يقدرأن يتكلم بُعذْرِه.
وسعى به إلى جعفربن سليمان، وقيل له: أنه لا يرى أيمان بيعتكم شيئاً فضربه بالسياط، ومُذَ لذلك حتى انخلع كتفأهُ.
وفي السنة التي مات فيها مالك كانت وفاة حَمَّاد بن زيد، وهي سنة تسع وسبعين ومائة.
وفي سنة إحدى وستين ومائة مات عبد الله بن المبارك، المروزي، الفقيه، بهَيْتَ بعد منصرفه من طرسوس.
القاضي أبو يوسف
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة مات أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وهو ابن تسع وستين سنة، وهو رجل من الأنصار، وولي القضاء سنة ست وستين ومائة في أيام خروج الهادي إلى خرْجَان، وأقام على القضاء إلى ان مات خمس عشرة سنة.
قال المسعودي: وقد كانت أم جعفر كتبت مسألة إلى أبي يوسف تستفتيه فيها، فأفتاها بما وافق مرادها على حسب ما أوجبته الشريعة عنده وأداه اجتهاده إليه، فبعثت إليه بحق فضة فيه حقان من فضة في كل حق لون من الطيب، وجام ذهب فيه دراهم، وجام فضة فيه دنإنير، وغلمان وتخوت من ثياب، وحمار وبغل، فقال له بعض من حضره: قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم " من أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " فقال أبو يوسف: تأولت الخبر على ظاهره، والاستحسان قد منع من إمضائه، ذاك إذ كان هدايا الناس التمر واللبن، لا في هذا الوقت وهدايا الناس اليوم العَيْنُ والوَرِقُ وغيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
بين عبد الله بن مصعب الزبيري وموسى بن عبد اللّه بن الحسن الطالبي
بحضرة الرشيد
وذكر الفضل بن الربيع قال: صار إليَ عبدُ اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللهّ بن الزبير، فقال: إن موسى بن عبد اللهّ بن الحسن بن الحسن بن علي قد أراداني على البَيعة له، فجمع الرشيد بينهما، فقال الزبيري لموسى: سعيتم علينا وأردتم نقض دولتنا، فالتفت إليه موسى فقال: ومَنْ أنتم؟ فغلب على الرشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف حتى لا يظهر منه، ثم قال موسى يا أمير المؤمنين، هذا الذي ترى المُشَنع عليَّ خرج واللهّ مع أخي محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسنبن علي عليَّ جدك المنصور، وهو القائل من أبيات:
قوموا ببيعتكم ننْهَضْ بطاعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بني حسن

في شعر طويل، وليس سعايته يا أمير المؤمنين حُبّاً لك، ولا مراعاة لدولتك، ولكن بُغْضاً لنا جميعاً أهل البيت، ولو وجد من ينتصر به علينا جميعاً لكان معه، وقد قال باطلاً وأنا مستحلفه، فأن حلف إني قلت ذلك فدمي لأمير المؤمنين حلال فقال الرشيد احلف له يا عبد اللّه، فلما أراده موسىِ على اليمين تلكأ وامتنع، فقال له الفضل: لم تمنع وقد زعمت آنفأ أنه قال لك ما ذكرته، قال عبد اللّه: فأنا أحلف له، قال موسى: قل تَقَلّدْتُ الحول والقوة دون حول اللّه وقوته إلى حولي وقوتي إن لم يكن ما حكيته عني حقاً، فحلف له، فقال موسى: اللّه اكبر، حدثني أبي عن جدي عن أبيه عن جده عليٍّ عن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم إنه قال " ما حلف أحد بهذه اليمين وهو كاذب إلا عجل اللّه له العقوبة قبل ثلاثة " واللّه ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، وها أنا يا أمير المؤمنين بين يديك وفي قَبْضَتك، فتقدم بالتوكيل علي، فإن مضت ثلاثة أيام ولم يحدث على عبد اللّه بن مصعب حادث فدمي لأمير المؤمنين حلال، فقال الرشيد للفضل: خذ بيد موسى فليكن عندك حتى أنظرفي أمره.
قال الفضل: فواللّه ما صليت العصر من ذلك اليوم حتى سمعتُ الصُّرَاخَ من دار عبد اللهّ بن مصعب، فأمرت من يتعرف خبره، فعرفت إنه قد أصابه الجُذَام، وإنه قد تورَم واسْودَ، فصرت إليه، فواللهّ ما كدت أعرفه لإنه صار كالزِّقِّ العظيم ثم اسودَّ حتى صار كالفحم، فصرت إلى الرشيد فعرفته خبره، فما إنقضى كلامي حتى أتى خبر وفاته، فبادرت بالخروج، وأمرت بتعجيل أمره والفراغ منه، وتوليت الصلاة عليه، فلما دَلّوْه في حفرته لم يستقر فيها حتى انخسفت به وخرجت منه رائحة مفرطة النتن، فرأيت أحمال شوك تمر في الطريق فقلت: علي بذلك الشوك، فأتيت به، فطرح في تلك الوهدة، فما استقر حتى انخسفت ثانية، فقلت عليَّ بألواح ساج، فطرحت على موضع قبره، ثم طرح التراب عليها، وانصرفت إلى الرشيد فعرفته الخبر وما عاينت من الأمر فأكثر التعجب من ذلك، وأمرني بتخلية موسى بن عبد اللّه رضي اللّه عنه، وإن أعطيه ألف دينار، وأحضر الرشيد موسى فقال له: لم عَدَلْت عن اليمين المتعارفة بين الناس؟ قال: لإنا رَوَيْنَا عن جَدِّنا رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " منْ حلف بيمين مَجدَ اللهّ فيها استحيا اللهّ من تعجيل عقوبته. وما من أحد حلف بيمين كاذبة نازع اللّه فيها حَوْلَه وقوته إلا عَجَّلَ اللّه له العقوبة قبل ثلاث " .
وقيل: إن صاحب هذا الخبر هو يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي أخو موسى بن عبد اللّه، ورضوان اللّه عليهم!.
وكان يحيى قد سار إلى الدًيْلَم مستجيراً، فباعه صاحب الدَّيْلَم من عامل الرشيد بمائة ألف درهم، فقتل، رحمه اللّه!.
وقد روي من وجه آخر على حسب تباين النسخ وطرق الرواية في ذلك في كتب الأنساب والتواريخ إن يحيى ألقِيَ في بركة فيها سباع قد جُوِّعت، فأمسكت عن أكله، ولاذَتْ بناحية، وهابت الدُّنُوَّ إليه، فبنى عليه ركن بالجص والحجر وهو حَي.
ظهور محمد بن جعفر، ثم هربه إلى المغرب
وقد كان محمد بن جعفربن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي كرم اللّه وجهه سار إلى مصر، فطُلِبَ، فدخل المغرب، واتصل ببلاد تَهَرْتَ السفلى، واجتمع إليه خلق من الناس، فظهر فيهم بعدل وحسن استقامة، فمات هنالك مسموماً، وقد أتينا على كيفية خبره وما كان من أمره في كتاب حدائق الأذهان، في أخبار أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتفرقهم في البلدان.
الرشيد يحج آخر حجة
وفي سنة ثمانية وثمانين ومائة حجَ الرشيد، وهي آخر حَجَّةٍ حَجهَا، فذكر عن أبي بكر بن عياش وكان من عليه أهل العلم إنه قال وقد اجتاز الرشيد بالكوفة فدب حال منصرفه من هذه الحجة: لا يعود إلى هذه الطريق، ولا خليفة من بني العباس بعده أبداً، فقيل له: أضَرب من الغيب؟ قال: نعم، قيل: بوَحْي؟ قال: نعم، قيل: إليك؟ قال: لا، إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك أخبر عنه علي رضي الله عنه المقتول في هذا الموضع، وأشار إلى الموضع الذي قتل فيه علي بالكوفة، رضي الله عنه
موت الكسائي ومحمد بن الحسن الشيباني

وفي سنة تسع وثمانين ومائة وذلك في أيام الرشيد مات عليُّ بن حمزة الكسائي صاحب القراءات، ويكنى أبا الحسن، وكان قد شَخَصَ مع الرشيد إلى الري فمات بها، وكذلك مات محمد بن الحسن الشيباني القاضي، ويكنى أبا عبد اللّه، ودفن بالري وهو مع الرشيد، وتطير من وفاة محمد بن الحسن لرؤيا كان رأها في نومه.
يحيى بن خالد سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح
وفي هذه السنة كانت وفاة يحيى بن خالد بن بَرْمك.
وفي سنة ثمان وثمانين ومائة كان سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، فحدَّثَ يموت بن المزرع عن الرياشي، قال: سمعت الأصمعي يقول: كنت عند الرشيد، وأتى بعبد الملك بن صالح يَرْفُلُ في قيوده، فلما نظر إليه قال: هيه يا عبد الملك، كأني واللّه أنظر إليك وشؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم، واللّه سَهُل لكم الوَعْر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أزِمَّتَهَا، فخذوا حذركم مني قبل حلول داهية خَبُوط باليد والرجل، فقال له عبد الملك: أفذا أتكلم أم توأما؟ فقال: توأماً، قال: فاتق الله يا أمير المؤمنين فيما وَلاّك وراقبه في رعاياك التي استرعاك، قد سهلت لك واللّه الوعور، وجمعت على خوفك ورجائك الصدور، وكنت كما قال أخو جعفر بن كلاب.
ومقام ضَيِّق فَرَّجْته ... بلسان أو بيان أوجَدَلْ
لو يقوم الذيلُ أو فَيَّاله ... زَلَّ عن مثل مقامي أوزَحل
قال: فأرادا يحيى بن خالد البرمكي أن يضع من مقام عبد الملك عند الرشيد، فقال له: يا عبد الملك، بلغني إنك حَقُود، فقال: أصلح اللّه الوزير!! إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي إنهما لباقيان في قلبي، فالتَفَتَ الرشيد إلى الأصمعي، فقال: يا أصمعي حررها فواللّه ما احتجَّ أحد للحقد بمثل ما احتجّ به عبد الملك، ثم أمر به فردَّ إلى محبسه، ثم التفت إلى الأصمعي، فقال: واللهّ والله يا أصمعيُّ لقد نظرتُ إلى موضع السيف من عنقه مراراً، يمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله.
أهديت للرشيد سمكة فمنعها عنه ابن يختيشوع الطبيب
حدث يوسف بن إبراهيم بن المهدي، قال: حدثني سليمان الخادم الخراساني مولى الرشيد، إنه كان واقفاً على رأس الرشيد بالحِيرَةِ وهو يتغدَّى إذ دخل عون العِبَادِيُّ، وكان صاحب الحيرة، وفي يده صحفة فيها سمكة منعوتة بالسمن فوضعها بين يديه ومعه محبس قد أتخذ لها، فحاول الرشيد أكل شيء منها فمنعه جبريل بن بختيشوع، وأشار جبريل إلى صاحب المائدة أن يشيلها عن المائدة ويعزلها له، ففطن له الرشيد، فلما رفعت المائدة وغسل الرشيد يده وخرج جبريل أمرني الرشيد باتباعه وإن أكبسه في منزله وهو يأكل فأرجع إليه بخبره، ففعلت ما أمرني به وأحسب إن أمري لم يَخْفَ على جبريل فيما تبينت من تحرزه، فإنه صار إلى موضع من دار عون، ودعا بالطعام فأحضر له، وفيه السمكة، فدعا بأقداح ثلاثة، فجعل في واحد منها قطعة من السمك وصب عليها خمراً من خمر طير ناباذ وهي قرية بين الكوفة والقادسية ذات كروم وأشجار ونخل ورياض تخرقها الأنهار من كل القاع من الفرات، شرابها موصوف بالجودة كوصف القطربلي فصبه على السمكة وقال: هذا أكل جبريل، وجعل في قدح آخر قطعة منها، وصَبَّ عليها ماء بثلج شديد البرودة، وقال: هذا أكل أمير المؤمنين أعزه اللّه إن لم يخلط السمك بغيره، وجعل في القَدَح الثالث قطعة من السمكة وجعل قطعاً من اللحم من الوان مختلفة، من شواء ومن حلوى ومن بوارد ويقول، ومن سائر ما قدم إليه من الألوان، من كل واحد منها جزأ يسيراً مثل اللقمة، واللقمتين، وصَبَّ عليها ماء بثلج، وقال:

هذا أكل أمير المؤمنين خلط السمك بغيره، من الطعام ودفع الثلاثة الأقداح إلى صاحب المائدة، وقال: احتفظ بها إلى أن ينتبه أمير المؤمنين أعزه اللّه، ثم أقبل جبريل على السمكة فأكل منها حتى تَضَلّع، وكان كلما عطش دعا بقدح من الخمر الصرف فشربه، ثم نام، فلما انتبه الرشيد من نومه سالذي عما عندي من خبر جبريل، وهل أكل من السمكة شيئا أم لم يأكل، فأخبرته بالخبر، فأمر بإحضار الأقداح الثلاثة فوجد ما في القدح الأول وهو الذي ذكر جبريل إنه أكله وصَبَّ عليه الخمر الصرف قد تفتت وانماع واختلط، ووجد ما في القدح الثاني الذي قال جبريل إنه أكل أمير المؤمنين وصب عليه الماء بالثلج قد ربا وصار على النصف مما كان، ونظر إلى القدح الثالث الذي قال جبريل وهذا أكل أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره قد تغيرت رائحته وحدثت له سُهُوكة شديدة كاد الرشيد أن يتقايأ حين قرب منه، فأمرني بحمل خمسة آلاف دينار إلى جبريل وقال: من يلومني على محبة هذا الرجل الذي يدبرني بهذا التدبير؟ فأوصْلتُ إليه المال.
رؤيا للرشيد يؤمر بالتخلية عن موسى بن جعفر
وذكر عبد اللهّ بن مالك الخزاعي وكان على دار الرشيد وشرطته قال:أاتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه قط، فانتزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك منه فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم، فعرَّفَ الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه، فدخلت، فوجدته قاعداً على فراشه، فسلمت، فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعَفَ الجزع عليَّ ثم قال لي: يا عبد اللّه، أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حَبَشِيّاً قد أتاني ومعه حربة فقال لي: إن تَخَلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهبْ فخلّ عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين أطلق موسى بن جعفر؟ ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى ابن جعفر واعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبَلَنَا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضيَّ إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك قال: فمضيت إلى الحبس لآخرجه، فلما رأني موسى وثب إلي قائماً وظن إني قد أمرت فيه بمكروه. فقلت: لا تخف، وقد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك، وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك: إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت الإنصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مُطْلَق إليك. وأعطيته الثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله، وقلت لقد رأيت من أمرك عجباً، قال: فإني أخبرك: بينما أنا نائم إذ اتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأمي ما أقول؟ فقال: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوْت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يُقْوي على أناته ياذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يُحْصَى عمداً، فرج عني، فكان ما ترى.
إبراهيم بن المهدي يغني لأسود
وذكر حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: قال إبراهيم و المهدي: حججت مع الرشيد، فبينا نحن في الطريق وقد إنفردتُ أسير وحدي وأنا على دابتي، إذ غلبتني عيناي، فسلكَتْ بي الدابة غير الطريق، فانتبهت وأنا على غير الجادَّة، فاشتدَّ بي الحر، فعطشْتُ عطث شديداً، فارتفع لي خباء، فقصدته، فإذا بِقبَّةٍ وبجنبها بئر ماء بقرب مَزْرَعة، وذلك بين مكة والمدينة، ولم أر بها إنسياً، فاطلعت في القبة فإذا أنا بأسود نائم، فأحَسً بي ففتح عينيه كأنهما إجانتا دم، فاستوى جالساً، وإذا هو عظيم الصورة، فقلت: يا أسود، اسقني من هذا الماء،: فقال يا أسود اسْقِنِي من هذا الماء، محاكياً لي، وقال: إن كنت عطشاناً فأنزل واشرب، وكان تحتي برذون خبيث نَفُور، فخشيت أن أنزل عنه فينفر، فضربت رأس البرذون، وما نفعنيِ الغناء قط إلا في ذلك، وذلك إني رفعت عقيرتي وأنا أغني:
كفنونيِ إن مت في دِرْع أروَى ... واستقوا لي من بئرعُرْوةَ ماء
فلها مربع بجنب أجاج ... ومصيف بالقصر قصر قباء
سخنة في الشتاء، باردة في ال ... صيف، بدْز في الليلة الظلماء

فرفع الأسود رأسه إلي، وقال: أيما أحب إليك: إن أسقيك ماء،وحده أو ماء وسويقاً، قلت: الماء والسويق، فآخرج قَعْباً له فصب السويق في القدح فسقاني، وأقبل يضرب بيده على رأسه وصدره، ويقول: واحر صَدْرَاه، وانارات اللهب في فؤادي، يا مولاي زدني وأنا ازيدك، وشربت السويق، ثم قال لي: يا مولاي، إن بينك وبين الطريق أميالاً،ولست أشك إنك تعطش، لكن أملأ قربتي هذه واحملها قدامك، فقلت: افعل قال: فملأ قربته وسار قُداَأمي وهو يحجل في مشيته غير خارج عن الإيقاع، فإذا أمسكت لاستريح أقبل علي فقال: يا مولاي، أما عطشت، فأغنيه النصب، إلى إن أوقفني على الجادة، ثم قال لي: سِرْ رعاك اللّه ولا سلبك ما كساك من هذه النعم، بكلام عجمي معناه هذا الدعاء، ضقت بالقافلة والرشيد كان قد فَقَدَني، وقد بَثَ البُخْتَ والخيل في البر يطلبونني، فسُرَّ بي حين رأني، فأتيته، فقصصت عليه الأمر، فقال: علي بأسود، فما كان إلا هنيهة حتى مثل بين يديه، فقال له: ويلك!! ما حر صدرك، فقال: يا مولاي ميمونة، قال: ومَنْ ميمونة؟ قال: بنت حبشية، قال: ومن حبشية؟ قال: بنت بلال يا مولاي، فأمر من يستفهمه، فإذا الأسود عبد لبني جعفر الطيار، وإذا السوداء التي يهواها لقوم من ولد الحسن بن علي، فأمر الرشيد بابتياعها له، فأبى مواليها أن يقبلوا لها ثمناً، ووهبوها للرشيد، فاشترى الأسود وأعتقه، وزوجه منها، ووهب له من ماله بالمدينة حديقتين وثلثمائة دينار.
ودخل ابن السماك على الرشيد يوماً وبين يديه حمامة تلتقط حباً، فقال له: صفها وأوجز، فقال: كأنما تنظر من ياقوتتين، وتلتقط بدرتين، وتطأ على عقيقتين، وأنشدونا لبعضهم:
هتفت هاتفة آ ... ذَنَها ألف ببين
ذاتُ طَوْقٍ مثل عَ ... طْف السنون أقنى الطرفين
وتراها ناظرة ... نحوك من ياقوتتين
ترجع الأنفاس من ث ... قبين كاللؤلؤتين
وترى مثل الب ... ساتين لها قادمتين
ولها لحيان كالصد ... غين من عرعرتين
ولها ساقان حمرا ... وان متل الوردتين
نسجت فوق جناح ... يها لها برنوستين
وهي طاووسية ال ... لّون بنان المنكبين
تحت ظل من ظلال الأي ... ك صافي الكتفين
فَقَدَتْ إلفاً فناجت ... من تباريح وبين
فَهْيَ تبكيه بلا دم ... ع جمود المقلتين
وهي لاتصبغ عينا ... ها كما تصبغ عيني
بين الرشيد ومعن بن زائدة
ودخل مَعْنُ بن زائدة على الرشَيد وقد كان وجد عليه، فمشى فقارب الخطو فقال له هارون: كبرت واللّه يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين قال: وإن فيك على ذلك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك لجَلْدٌ، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. فرضي عنه وولاه.
قال: وعرض كلامه هذا على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة فقال: وَيْحَ هذا ا! ما ترك لربه شيئاً.
وقال الرشيد يوماً لمعن بن زائدة: إني قد أعددتك لأمر كبير، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعدَ لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفأ مشحوذاً عَلَى عدوك، فإن شئت فقل، وقيل: إن هذا الجواب من كلام يزيد بن مزيد.
بين الرشيد والكسائي

وقال الكسائي : دخلت على الرشيد، فلما قضيت حقَّ التسليم والدعاء وثَبْتُ للقيام، فقال: اقعد، فلم أزل عنده حتى خَفَّ عامة من كان في مجلسه، ولم يبق إلا خاصته، فقال لي: يا عَلِي، ألا تُحِب أن ترى محمداً وعبد اللّه، قلت: ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرنىِ بمعاينة نعمة اللّه عَلَى أمير المؤمنين فيهما، فأمر بإحضارهما، فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هدوء ووقار، وقد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما حتى وقفا عَلَى باب المجلس، فسلما عَلَى أبيهما بالخلافة، ودَعَوَا له بأحسن الدعاء. فأمرهما بالدُّنو منه فدنَوَا فصيَّرَ محمداً عن يمينه وعبد اللّه عن يساره، ثم أمرني ان استقرئهما وأسألهما، ففعلت، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه والخروج منه، فسر بذلك الرشيد حتى تبينته فيه. ثم قال لي: يا عليُّ، كيف ترى مذهبهما وجوابهما. فقلت: يا أمير المؤمنين هما كما قال الشاعر:
أرى قَمَريْ مَجْدٍ وفرعَيْ خلافة ... يزينهما عرق كريم ومحتد
يا أمير المؤمنين هما فرع زكا أصله، وطاب مَغْرِسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، أبوهما أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم، يحكمان بحكمه، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته، فأمتع اللّه أمير المؤمنين بهما، وأنس جميع الأمة ببقائه وبقائهما ثم قلت لهما: هلى ترويان من الشعر شيئاً؟ فقالا: نعم، ثم أنشدني محمد:
وإني لَعف الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكل لايوافقه شكلي
وأجعل مالي دون عِرْضِيَ جنَّة ... لنفسي، ومفضال بما كان من فضل
ثم انشد عبد الله:
بكرت تلومُكَ مَطْلَعَ الفجر ... ولقد تلوم بغير ماتدري
مَلَكَ الأمورعليّ مقتدر ... يُعْطِي إذا ماشاء من يُسْر
ولربَّ مغتبط بمرزئة ... ومفجع بنوائب الدهر
وترى قَنَاتِي حين يغمدها ... عَضُّ الثقاف بطيئَةَ الكسر
فما رأيت أحداً من أولاد الخلفاء وأغصان هذه الشجرة المباركة أذرب السنا ولا أحسن ألفاظاً ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا منهما، ودعوت لهما دعاء كثيراً، وأمنَ الرشيد على دُعَائِي، ثم ضمهما إليه، وجمع يده عليهما، فلم يبسطها حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج، فلما خرجا أقبل عليَّ فقال: كأنك بهما وقد حمَّ القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، شد تشتّتتْ كلمتهما، واختلف أمرهما، وظهر تعاديهما، ثم لم يبرح ذلك بهما حتى تسفك الدماء، وتقتل القتلى، وتهتك ستور النساء، ويتمنى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى، قلت: أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمر رؤي في أصل مولدهما أو لأثر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما، فقال: لا واللهّ إلا بأثر واجب حملته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء.
وصية الرشيد لمؤدب الأمين الأحمر النحوي
قال الأحمر النحوي: بعث إليَ الرشيدُ لتأديب ولده محمد الأمين، فلما دخلت قال: يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصَيَّر َيدك عليه مبسوطَة، وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، اقرئه القرآن، وعرفه الأثار، وَرَوه ِالأشعار، وعلمه السنن، وبصره مواقع الكلام وبدأه، وامنعه الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا إليه، وَرَفْع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها، من غير أن تَخْرُق به فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فَيَسْتَحْلِيَ الفراغ ويألفه، وقوِّمْهُ ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهُمَا فعليك بالشدة والغلظة.
العماني عند الرشيد يحرضه على تجديد العهد للأمين

ويقال: أن العمانيَ الشاعر قام بحضرة الرشيد خطيباً فلم يزل يقرظ محمداً ويُحَرضه على تجديد العهد له، فلما فرغ من كلامه قال له: أبشر يا عماني بولاية العهد له، فقال: إي واللّه يا أمير المؤمنين سُرُور العُشْبِ بالغيث، والمراة البنورِ بالولد، والمريض المدنف بالبرء، لأنه نسيجُ وَحْدِه، وحامي مجده، وشبيه حده، قال: فما تقول في عبد الله؟. قال: مَرْعًى ولا كالسَّعْدَان فتبسم الرشيد وقال: قاتله الله! من أعرابي ما أعرفه بمواضع الرغبة، أما واللهّ إني لأتعرف في عبد الله حَزْمَ المنصور، ونسك المهدي، وعز نفس الهادي، واللهّ لو شاء اللهّ أن أنسبه إلى الرابعة لنسبته إليها.
حرص الرشيد على ولاية عهده
قال الأصمعي: بينما أنا أسامر الرشيد ذات ليلة إذ رأيته قد قلق قلقاً شديداً فكان يقعد مرة ويضطجع مرة ويبكي آخرى ثم أنشا يقول:
قَلِّد أمورعباد الفه ذا ثقة ... موحَّدَ الرأي لا نكس ولا برم
واترك مقالة أقوام ذوي خطل ... لا يفهمون إذا ما معشر فهموا
فلما سمعت منه ذلك علمت أنه يريد أمراً عظيماً، ثم قال لمسرور الخادم: علي بيحيى، فما لبث أن أتاه فقال: يا أبا الفضل، إن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مات في غير وصية والإسلام جَذَع، والإيمان جديد، وكلمة العرب مجتمعة، قد آمنَهَا اللهّ تعالى بعد الخوف، وأعَزَهَا بعد الذل، فما لبث إن ارْتَدَّ عامة العرب على أبي بكر، وكان من خبره ما قد علمت، وأن أبا بكر صير الأمر إلى عمر، فسلّمتِ الأمة له، ورضيت بخلافته، ثم صيرها عمر شُورَى فكان بعده ما قد بلغك من الفتن حتى صارت إلى غير أهلها، وقد عنيت بتصحيح هذا العهد وتصييره إلى مَنْ أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وأمن ضعفه ووَهنه، وهو عبد اللّه، وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه من الإنقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوته يده، ومشاركة النساء والإماء في رأيه، وعبد الله المرضِيُّ الطريقة، الأصيل الرأي، الموثوق به في الأمر العظيم، فإن مِلْتُ إلى عبد اللّه أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا أبالأمر لم أمن تخليطه على الرعية. فأشِرْ عليَّ في هذا الأمر برأيك مشورة يعم فضلها ونفعها، فإنك بحمد اللّه مُبَارك الرأي لطيف النظر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كل زلة مستقالة وكل رأي يتلافى خلا هذا العهد، فإن الخطأ فيه غير مأمون، والزلة فيه لا تستدرك، وللنظر فيه مجلس غير هذا، فعلم الرشيد أنه يريد الخلوة، فأمرني بالتنحي، فقمت وقعدت ناحية بحيث أسمع كلامهما، فما زالا في مناجاة ومناظرة طويلة حتى مضى الليل، وافترقا على إن عقد الأمر لعبد الله بعد محمد.
ودخلت أم جعفر على الرشيد فقالت: ما أنصفت ابنك محمداً حيث وَلّيتْه العراق وأعْرَيته عن العمد والقواد، وصيرت ذلك إلى عبد اللّه دونه، فقال لها: وما أنت وتميز الاعمال واختبار الرجال؟ إني وَلّيت ابنك السِّلْم، وعبد اللّه الحرب، وصاحب الحرب أحْوَجُ إلى الرجال من المسالم، ومع هذا فإنا نتخوف ابنك على عبد اللّه، ولا نتخوف عبد اللّه على إبنك إن بويع.
الرشيد يعلق كتاب العهد في الكعبة
وفي سنة ست وثمانين ومائة خرج الرشيد حاجاً ومعه وَلِيَّا عَهْدِهِ: الأمين والمأمون، وكتب الشرطين بينهما وعَلَّقهما في الكعبة.
وحكي عن ابراهيم الحَجَبيِّ إن الكتاب لما رفع ليعلق بالكعبة وقع، فقلت في نفسي: وقع قبلَ أن يرتفع، إن هذا الأمر سريع إنتقاضه قبل تمامه.
وحكي عن سعيد بن عامر البصري قال: حججت في هذه السنة وقد استعضم الناسُ أمر الشرط والإيمان في الكعبة، فرأيت رجلاً من هُذَيْلٍ يقود بغيره وهو يقول:
وبيعة قد نكثت أيمَانها ... وفتنة قد سُعِّرَت نيرانها
فقلت له: وَيْحك ما تقول؟! قال: أقول إن السيوف سَتُسَل، والفتنة ستقع، والتنازع في الملك سيظهر قلت: وكيف ترى ذلك؟ قال: أما ترى البعير واقفاً والرجلان يتنازعان والغُراأبان قد وقعا على الدَّم والتطخا به، واللّه لا يكون آخر هذا الأمر إلا محاربة وَشَرّاً.

ويروى إن الأمين لمَّا حلفَ للرشيد بما حلفَ له به، وأرادا الخروج من الكعبة رَدَّ جعفر بن يحيى، وقال له: فإن غدرتَ بأخيك خَذَلَك الله حتى فعل ذلك ثلاثاً في كلها يحلف له، وبهذا السبب اضطغنت أم جعفر على جعفر بن يحيى، فكانت أحد من حَرَّض الرشيد على أمره وبعثته على ما نزل به.
قال المسعودي: وفي سنة سبع وثمانين ومائة بايع الرشيد لإبنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، فإذا افضت الخلافة إلى المأمون كان أمره إليه، إن شاء إن يقرّه أقرّه، وإن شاء أن يخلعه خلعه.
وفاة الفضيل بن عياض
وفي هذه السنة وهي سنة سبع وثمانين ومائة توفي الفضَيْلُ بن عياض ويكنى أبا علي، وكان مولده بخراسان، وقدم الكوفة، وسمع من المنصور ابن المعتمر وغيره، ثم تعبد وانتقل إلى مكة فأقام بها إلى أن مات.
حدث سفيان بن عُيَيْنَةَ قال: دعانا الرشيد، فدخلنا عليه ودخل الفضيل أخرنا مقنعاً رأسه بردائه، فقال لي: يا سفيان، أيهم أمير المؤمنين؟ فقلت: هذا، وأومأت إلى الرشيد، فقال له: أنت يا حَسَنَ الوجه، الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك، لقد تَقَلَّدْتَ أمراً عظيماً، فبكى الرشيد، ثم أتى كل رجل منا ببدرة، فكلٌ قبلها إلا الفضيل، فقال له الرشيد: يا أبا علي، إن لم تستحلها فأعطها ذادين، وأشبع بها جائعاً واكْسً بها عرياناً، فاستعفى منها، فلما خرجنا قلت له: يا أبا علي، اخطأت، ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذا بلحيتي ثم قال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي.
موت موسى بن جعفر الطالبي
وقبض موسى بن جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ببغداد مسموماً، لخمس عشرة سنة خلت من ملك الرشيد، سنة ست وثمانين ومائة، وهو ابن أربع وخمسين سنة، وقد ذكرنا في رسالةِ بيان أسماء الأئمة القطعية من الشيعة: أسماءهم، وأسماء أمهاتهم، ومواضع قبورهم، ومقادير أعمارهم، وكم عاش كل واحد منهم مع أبيه ومن أدرك من أجداده رضي الله عنهم.
من شعر العتابي في الرشيد.
ولكلثوم العتابي في الرشيد من أبيات:
إمام لَهُ كَفٌّ يَضُمًّ بَنَانها ... عَصَا الدِّينِ ممنوع مِنَ البر عُودُهَا
وَعَين مُحِيط بالبَرِيّةِ طَرْفُهَا ... سَوَاءٌ عليها قُرْبًهَا وبعيدها
وأسمعَ يقظاناً يبيت مُنَاجِياً ... له في الحشا مُسْتَوْدَعات يكيدها
سَمِيعٌ إذا ناداه مِنْ قَعْرِ كُرْبَةٍ ... مُنَادٍ كَفَتْهً دعوة لا يُعيدها
حدث يموت بن المزرع قال: حدثني خالد عن عمرو بن بحر الجاحظ قال:
العتابي ينال من أبي نواس
كان كلثوم يضع من قدر أبي نُوَاسٍ، فقال له راوية أبي نوَاس يوماً: كيف تضع مِنْ قدر أبي نُوَاس وهو الذي يقول:
إذا نَحْنُ أثنينا عليكَ بِصَالح ... فأنت الذي نُثْنِي وَفَوْقَ الذي نُثْنِي لغيركَ
وإن جَرَتِ الألفاظُ مِنَّا بِمِدْحَة ... لغيرك إنسَاناً فأنت الذي نَعْنِي
قال العتابي: هذا سرقَهُ، قال: ممن؟ قال: من أبي الهذيل الجمحي قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:
وإذا يقال لبعضهم نِعْمَ الفتى ... فإبْنُ المُغِيرَة ذلك النعم
عَقُمَ النسَاءُ فلا يجِئن بمثله ... إن النِّسَاءَبمثله عُقْمُ
قال: فقد أحسن في قوله:
فَتَمَشَّتْ في مفاصلهم ... كَتَمَشِّي البرء في السَّقَم
قال: سرقَةُ أيضاً، قال له: وممن؟ قال: من شَوْسَة الفقعسي، قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:
إذا ماسَقِيمٌ حَلَّ عنها وكَاءَهَا ... تَصَعَّدَفِيهِ بُرْؤُهَ اوَتَصَوّبَا
وإان خَالطَتْ منه الحشا خِلْت أنه ... على سالف الأيام لم يَبْقَ موصبَا
قال: فقد أحسن في قوله:
وما خُلِقَتْ إلا لِبَذْلٍ أكُفُّهُم ... وأقْدَامهُمْ إلا لأعْوَادِ مِنْبِرِ
قال: قد سرقَهُ أيضاً، قال: ممن؟ قال: من مَرْوان بن أبي حفصة، قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:
وماخُلِقَتْ إلا لبَذْلٍ أكُفُّهُم ... وأالسُنُهُمْ إلالتَحْبِير ِمَنْطِق

فيوماً يُبَارُونَ الرِّيَاحَ سَمَاحَة ... ويوماً لِبَذْل الخَاطِبِ المُتَشدق
قال: فسكت الرَّاوية، ولو أتى بشعره كله لقال سرقَهُ.
أبو العتاهية وعتبة
وحدث أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان أبو العتاهية قد أكثر مسألة الرشيد في عُتْبَة، فوعده بتزويجها أانه يسألها في ذلك: فإن أجابت جهزها وأعطاه مالاً عظيماً، ثم إن الرشيد سَنَحَ له شغل استمر به، فَحُجِبَ أبو العتاهية عن الوصول إليه، فدفع إلى مسرور الخادم الكبير ثلاث مراوح، فدخل بها على الرشيد وهو يتبسم، وكانت مجتمعة، فقرأ على واحدة منها مكتوباً:
ولقد تَنَسَّمْتُ الرياحَ لحاجَتِي ... فإذا لها مِنْ رَاحَتَيْهِ شَمِيمُ
فقال: أحسن الخبيث، وإذا على الثانية:
أعْلَقْتُ نفسي من رجائك ماله ... عَنَق يحثُّ إليك بي ورسيم
فقال: قد أجاد، وإذا على الثالثة:
ولربما اسْتَيأسْتُ ثم أقول: لا ... إن الذي ضَمِنَ النجاحَ كريم
فقال: قاتله اللهّ!! ما أحسن ما قال، ثم دعا به، وقال: ضمنت لك يا أبا العتاهية وفي غد نقضي حاجتك إن شاء اللهّ، وبعث إلى عتبة إن لي إليك حاجة فانتظريني الليلة في منزلك، فأكبرت ذلك وأعظمته، وصارت إليه تستعفيه، فحلف أن لا يذكر لها حاجته إلا في منزلها، فلما كان في الليل سار إليها ومعه جماعة من خَوَاصِّ خدمه، فقال لها: لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها، قالت: أنا امتُكَ وأمرك نافذ فيّ ما خلا أمر أبي العتاهية فإني حلفت لأبيك رضي اللّه عنه بكل يمين يحلف بها بر وفاجر وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية كلما انقضت عني حجة وجبت عليَّ أخرى لا أقتصر منها على الكفارة، وكلما أفدت شيئاً تصدقت به إلا ما أصلي فيه، وبكت بين يديه، فَرَقَّ لها ورحمها وانصرف عنها، وغدا عليه أبو العتاهية وهو لا يشك في الظفر بها فقال له الرشيد: واللهّ ما قصَرْتُ في أمرك، ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شُهُودٌ لي بذلك، وشرح له الخبر، قال أبو العتاهية: فلما أخبرني بذلك مكثت ملياً لا أدري أين أنا، ثم قلت: الآن يئست منها إذ رَدَّتكَ، وعلمت إنها لا تجيب أحداً بعدك، فلبس ابو العتاهية الصوف، وقال في ذلك من أبيات:
قَطّعَتُ مِنْكِ حَبَائِلَ الآمال ... وَحَطَطْتُ عن ظَهْرِ المَطِيِّ رِحَالِي
وَوَجَدْتُ بَرْدَ اليأس بَيْنَ جَوَانحِي ... فَغَنِيتُ عن حِلً وعن تَرْحَال
وذكر إنه لما اتصل بالرشيد قول أبي العتاهية في عُتْبة:
ألا إن ظَبْياً للخليفةِ صادني ... ومالي على ضبي الخليفة مِنْ عدوى
غضب الرشيد وقال: أسخر منا فعبث، وأمر بحبسه، فدفعه إلى تنْجَاب صاحب عقوبته، وكان فَظّاً غليظاً، فقال أبو العتاهية:
تَنْجَاب لا تَعْجَل ... علي فليسَ ذَا مِنْ رائهِ
ماخِلْت هذا في مَخَا ... يِل ضَوْ ءِبَرقِ سمَائِهِ
وكان من أشعاره في الحبس بعد ما طال مكثه:
إنما أنت رَحْمَةٌ وَسَلامه ... زادكَ اللَّهُ غِبْطَةً وَكَرَامه
قيل لي: قد رَضِيت عَنَي، فمن لي ... أن أرى لي على رِضَاكَ عَلامه
ْ فقال الرشيد: للّه أبوه! لو رأيته ما حبسته، وإنما سمحت نفسي بحبسه لأنه كان غائباً عني، وأمر بإطلاقه: وأبو العتاهية الذي يقول:
نُرَاعُ لِذِكْرِ الموتِ ساعةَ ذِكْره ... وَنَغْتَرُّ بالدُّنْيَا فَنَلْهُو وَنَلْعَبُ
ونحن بَنُو الدنيا خُلِقْنَا لغيرها ... وماكُنْت فيهِ فهوشَيْءٌ مُحَبَّبُ
وهو الذي يقول أيضاً:
حُتُوفُهَارَصَد، وعيشُهَا رَنَق ... وَكَدًّهَا نكَد، وَمُلْكًهَا دوَلُ
وهو الذي يقول:
المَرْءُ في تأخِيرِ مُدَّتِه ... كالثوب يَبْلَى بعد جِدَّتِهِ
عجباً لمنتبه يُضَيِّعُ ما ... يحتاج فيه ليوم رَقْدَتِهِ
وقال:
لا تأمن الدنيا على غدرها ... كم غَدَرَتْ قَبْلُ بأمثالكا
قد أجْمَعَ الناسُ على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا
إنما أنت مستعير لما سَو ... فَ تردَّنَ، والمُعارُ يُرَدُّ

كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا ... مٍ عليه الانفاس فيها تُعَدَّ
وقال:
حياتك أنفاسٌ تعدُّ، فكلما ... مضى نَفَسٌ منهانقصت به جُزْءَا
يميتًكَ ما يحييك في كل ساعة ... ويحدوك حادٍ ما يريد بك الهزءا
ألا يا موت لم أر منك بدا ... أتيت بما يخيف ولا تُحَابي
كأنك قد هجمت على مَشِيبِي ... كما هجم المشيب على شبابي
نسيت الموت فيما قد نسيت ... كأني لم أجِدْ أحداً يموت
أليس الموت غاية كل حي ... فمالي لا أبادر ما يفوت
وقال:
وعَظَتْكَ أجْدَاثٌ صُمُت ... وبكتك ساكنة خفت
وتكلَمت عن أعظم ... تَبْلَى وعن صور سبت
وأرَتْكَ قبرك في القبو ... ر وانت حَيئٌ لم تمت
ومُشَيِّدٍ داراً ليسكن ظلها ... سكن القبورَ، ودَارَهُ لم يَسْكُنِ
إسحاق الموصلي يغني للرشيد: حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا ذات ليلة عند الرشيد أغنيه إذ طرب لغنائي، وقال: لا تبرحْ، ولم أزل أغنيه حتى نام، فأمسكت، ووضعت العود في حجري،، جلست مكاني، فإذا بشاب صبيح الوجه حسن القَدِّ عليه مقطَّعأت خز وهيئة جميلة، فدخل وسلم وجلس، فجعلت أعجب من دخوله في ذلك الوقت إلى ذلك الموضع بغير استئذان، ثم قلت في نفسي: عسى بعض ولد الرشيد ممن لا نعرفه ولم نره، فضرب بيده إلى العود، فأخذه ووضعه في حجره وجَسَّه، فرأيت أنه جس أحسن خلق اللهّ، ثم أصلحه إصلاحاً ما أدري ما هو، ثم ضرب ضرباً، فما سمعت أذني صوتاً أجود منه، ثم إندفع يغني:
ألا عَلِّلاني قبل إن نتفرَّفا ... وهات اسقني صرفاً شراباً مُرَوَّقاً
فقد كاد ضوء الصبح أن يَفْضَحَ الدجى ... وكاد قميص الليل أن يتمزَّقَا
ثم وضع العود من حجره، وقال: يا عاضَّ بَظْرِ أمه، إذا فنيت فغن هكذا، ثم خرج، فقمت على أثره، فقلت للحاجب: من الفتى الذي خرج الساعة؟ فقال: ما دخل هنا أحد ولا خرج قلت: نعم الساعة مرَّ بين يَدَيَّ فَتًى صفته كيت وكيت، قال: لا واللّه ما دخل أحد ولا خرج فبقيت متعجباً، فبقي متعجبا، وقال: لقد صادَفتَ شيطاناً، ثم قال: أعِدْ عليً الصوت، فأعدته عليه، فطرب طرباً شديداً، وأمر لي بجائزة، وانصرفت.
جماعة المغنين عند الرشيد

وحدث إبراهيم الموصلي قال: جمع الرشيد ذات يومٍ المغنين، فلم يبق أحد من الرؤساء إلا حضر، وكنت فيهم، وحضر معنا مسكين المدني، ويعرف بأبي صدقة، وكان يوقع بالقضيب، مطبوعاً حذذقاً، طيب العشرة، مليح البادرة، فاقترح الرشيد وقد عمل فيه النبيذ صوتاً، فأمر صاحب الستارة ابنَ جامعٍ أن يغنيه، ففعل، فلم يطرب عليه، ثم فعل مثل ذلك بجماعة ممن حضر، فلم يحرك منه أحد، فقال صاحب الستار لمسكين المدني: يأمرك أمير المؤمنين إن كنت تحسن هذا الصوت فغنيه؟ قال إبراهيم: فاندفع فغناه، فأمسكنا جميعاً مُتعجبين من جراءة مِثله على الغناء بحضرتنا في صوت قد قصرنا فيه عن مراد الخليفة، قال إبراهيم: فلما فرغ منه سمعت الرشيد يقول وقد رفع صوته: يا مسكين أعده، فأعاده بقوة ونشاط واجتماع قلب، فأحسن فيه كل الإحسان فقال الرشيد: أحسنت واللّه يا مسكين وأجملت، ورفعت الستارة بيننا وبينه قال مسكين: يا أمير المؤمنين إن لهذا الصوت خبراً عجيباً قال: وما هو؟ قال: كنت عبداً خيّاطاً لبعض آل الزبير، وكان لمولاي عليَّ ضريبة أدفع إليه كل يوم درهمين، فإذا دفعت ضريبتي تصرفت في حوائجي، وكنى مُولَعاً بالغناء محباً له فخطت يوماً قميصاً لبعض الطالبِيِّينَ، فدفع إلي درهمين وتغديت عنده وسقاني أقداحاً، فخرجت وأنا جذلان، فلقيتني سوداء على رقبتها جَرَّة وهي تغني هذا الصوت، فأذهلني عن كل مُهِمٍّ وأنساني كل حاجة، فقلت: بصاحب هذا القبر والمنبر إلا ألقيْتِ عليَّ هذا الصوتَ، فقالت: وحق صاحب هذا القبر والمنبر لا ألقيته عليك! إلا بدرهمين، فأخرجت واللّه يا أمير المؤمنين الدرهمين فدفعتهما إليها فأنزلت الجرة عن عاتقها واندفعت، فما زالت تردده حتى كأنه مكتوب في صدري، ثم انصرفتُ إلى مولاي، فقال لي هَلمَّ خراجك، فقلت: كان وكان، فقال: يا ابن اللخناء. ألم أتقدم إليك إني لا أقبل لك عذراً في حبة تكسرها. وبَطَحَنِي وضربني خمسين جريدة بأشد ضرب يكون وحلق لحيتي ورأسي، فبتُّ يا أمير المؤمنين من أسوأ خلق اللّه حالاً، وأنسيت االصوت مما نالذي فلما أصبحت غدوت نحو الموضع الذي لقيتها فيه وبقيت متحيراً لا أعرف اسمها ولا منزلها، إذ نظرتُ بها مقبلة، فانسيت كل ما نالذي وملت إليها، فقالت: أنسِيت الصوت ورَبِّ الكعبة، فقلت: الأمر كما ذكرت، وعرفتها ما مر بي من حلق الرأس واللحية، فقالت: وحق القبر ومن فيه لا فعلت إلا بدرهمين، فأخرجت جلمي ورهنته على درهمين، فدفعتهما إليها، فأنزلت الجرة عن رأسها واندفعت، فمرت فيه ثم قالت: كأني بك وقد أخذات مكان الآربعة دراهم أربعة ألاف دينار، من الخليفة، ثم إندفعت تغنيه وتوقع على جرتها، فلم تَزَل تردده حتى رسخ في صدري، ثم مضت، وانصرفت إلى مولاي وَجِلاً، فقال: هلم خراجك، فلويت لساني، فقال: يا ابن اللخناء، ألم يكفك ما مر عليك بالأمس، فقلت: إني أعرفك إني اشتريت بخراجي أمس واليوم هذا الصوت، واندفعت أغنيه، فقال لي: ويحك معك هذا الصوت منذ يومين ولم تعلمني، امرأته طالق لو كنت قلته أمس لاعتقتك فأما حلق الرأس واللحية فلا حيلة لي فيهما، وأما خراجك فقد وهبه اللهّ لك إلى إن ينبت شعرك، قال: فضحك الرشيد وقال: ويلك!! ما أدري أيما أحسن: حديثك، أم غناؤك؟ وقد أمرت لك بما ذكرته السوداء، فقبضه وانصرف! والشعر:
قف بالمنازل ساعة فتأمل ... هل بالديار لرائد من منزل؟
ما بالديار من البلى فلقد أرى ... فلسوف أحمل للبلى في محمل
الرشيد يجري حلبة الخيل

واجرى الرشيد الخيل يوماً بالرقة، فلما أرسلت صار إلى مجلسه في صدر الميدان حيث توافى إليه الخيل، فوقف على فرسه وكان في اوائلها سوابق من خيله يقدمها فرسان في عنان واحد لا يتقدم أحدهما صاحبه، فتأملها فقال: فرسي والله، ثم تأمل الأخر فقال: فرس ابني المأمون، قال: فجاءا يحتكان أمام الخيل، وكان فرسه السابق وفرس المأمون الثانية، فسر بذلك، ثم جاء الخيل بعد ذلك، فلما إنقضى المجلس وهَمَّ بالانصراف قال الأصمعي وكان حاضراً وقد تبيَّنَ سرور الرشيد للفضل بن الربيع: يا أبا العباس، هذا يوم من الأيام فأحب أن توصلني إلى أمير المؤمنين، وقام الفضل فقال: يا أمير المؤمنين، هذا الأصمعي يذكر شيئاً من أمر الفرسين يزيد الله به أمير المؤمنين سروراً، قال: هاته، فلما دنا قال: ما عندك يا أصمعي؟ قال: يا أمير المؤمنين، كنت وابنك اليوم في فرسيكما كما قالت الخنساء :
جَارى أباه فأقبلا وهما ... يتنازعان مُلاءَةَ الحُضْر
وهما كأنهما وقد بَرَزا ... صَقْرَان قد حَطا على وكر
برزت صفيحة وجه والده ... ومضى على غُلَوَائِهِ يجري
أولى فأولى أن يقاربه ... لولا جلال السن والكبر
طبق سمك يتكلف ألف درهم
حدث إبراهيم بن المهدي قال: استزرت الرشيد بالرقة، فزارني، وكان يأكل االطعام الحار قبل البارد، فلما وضعت البوارد رأى فيما قرب إليه منها جام قريص مثل قريص السمك، فاستصغر القطع، وقال: لم صَغر طباخك تقطيع السمك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ألسنة السمك، قال: فيشبه أن يكون في هذا الجام مائة لسان، فقال مراقب خادمه: يا أمير المؤمنين، فيها أكئر من مائة وخمسين، فاستحلفه عن مبلغ ثمن السمك، فأخبره إنه قام بأكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده وحلف أن لا يطعم شيئاً دون أن يُحْضِره ألف درهم فلما حضر المال أمر أن يتصدق به. وقال: أرجو أن يكون كفارة لسَرَفِكَ في إنفاقك على جام سمك ألف درهم، ثم ناول الجام بعض خدمه وقال: أخرج من دار أخي، ثم إنظر أول سائل تراه فادفعه إليه، قال إبراهيم: وكان شراء الجام على الرشيد بمائتين وسبعين دينارا، فغمزت بعض خدمي للخروج مع الخادم ليبتاع الجام ممن يصير إليه، وفطن الرشيد فقال له: يا غلام إذا دفعته إلى سائل فقل له يقول لك أمير المؤمنين إحذر أن تبيعه بأقل من مائتي دينار فإنه خير منها، ففعل الخادم ذلك، فوالله ما أمكن خادمي أن يخلصه من السائل إلا بمائتي دينار.
أحسن الأسماء وأسمجها
وقال إبراهيم بن المهدي: كنت أنا والرشيد على ظهر حَرَّاقة وهو يريد نحو الموصل والمدادون يمدون، والشطرنج بين أيدينا، فلما فرغنا قال لي الرشيد: يا إبراهيم ما أحسن الأسماء عندك؟ قلت: اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما الثاني بعده؟ قلت: اسم هرون اسم أمير المؤمنين، قال: فما أسمجها، قلت: إبراهيم، فزارني وقال: ويلك!! أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن جل وعز، قلت بشؤم هذا الإسم لقي ما لقي من نمرود، قال: وإبراهيم ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قلت: لا جَرَمَ لما سمي بهذا الاسم لم يعِشْ، قال: فإبراهيم الإمام، قلت: بحرفة اسمه قتله مروان الجعدي في جراب النورة، وأزيدك يا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد خلع، وإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن قتل، ولم أجد أحداً سمي بهذا الاسم إلا رأيته مقتولاً أو مضروباً أو مطروداً، فما انقضى كلامي حتى سمعت مًلاحاً على بعض الحَرَّاقات يهتف بأعلى صوته: يا إبراهيم يا عاض كذا وكذا من أمه مدَّ، فالتفت إلي الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، أصدقت قولي إن اشأم الأسماء إبراهيم فضحك حتى فحص برجله.
أدب مخاطبة الأمراء

قال: وكنت يوماً عنده فإذا رسول عبد اللّه قد أتى، ومعه أطباق خيزران عليها مناديل، ومعه كتاب، فجعل الرشيد يقرأ الكتاب ويقول: بَرَّه اللّه ووصله فقلت: يا أمير المؤمنين من هذا الشي أطنبت في شكره حتى نشركك في جميل شكره؟ قال: هذا عبد اللّه بن صالح، ثم كشف المنديل، فإذا أطباق بعضها فوق بعض: في أحدها فستق، وفي الأخر بندق، إلى غير ذلك من الفاكهة، فقلت: يا أمير المؤمنين ما في هذا البر ما يستحق به هذا الدعاء، إلا أن يكون في الكتاب شيء قد خفي عليَّ، فنبذه إلي، فإذا فيه: دخلت يا أمير المؤمنين بستاناً لي في داري عمرته بنعمتك، وقد أينعت فواكهه، فأخذت من كل شيء، وصيرته في أطباق قُضْبَان ووجهته إلى أمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه مثل ما وصل إليَ من نوافل بره، قلت: ولا واللّه ما في هذا أيضاً ما يستحق به هذا، فقال: يا غبي أما ترى كيف كنى بالقضبان عن الخيزران إعظاماً لأمنَا رحمها اللّه تعالى.
رجل يتعرض للرشيد بقصة فيثيبه بأربعة ألاف دينار
ويروي إنه وقف رجل من بني أمية للرشيد على الطريق وبيده كتاب كالقصة، فإذا فيه أربعة أبيات، وهي:
يا أمين اللَّه، إني قائل ... قَوْلَ في لب وصدق وحَسَبْ
لكُمُ الفضل علينا، ولنا ... بكُمُ الفضل على كل العرب
عبد شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعدُ لأم ولأب
فصِل الأرحام منا، إنما ... عبدُ شمسٍ عمُّ عبد المطلب
فاستحسن ذلك الرشيد فأمر له لكل بيت بألف دينار، وقال: لو زدتنا لزدناك.
السكر أطيب أو المشان
وكان الرشيد ذات يوم وأبو يوسف القاضي وعبد الوهاب الكوفي في مجلسه، فتذاكروا الرطَبَ، فقال أبو يوسف: السكر أطيب من المشان، وقال عبد الوهاب: المشان أطيب، فقال الرشيد، ليحضر الطعام، ودعا بعدة من بني هاشم كانوا هناك، فاقبلوا جميعاً على السكر، وتركوا المَشَان، فقال الرشيد: قَضَوْا عليك يا أبا عبد الرحمن وهم لا يعلمون، فقال أبو عبد الرحمن: إني لم أر مشان قط أردأ من هذا، فقال له أبو يوسف: هكذا هما إذا اجتمعا.
ودخل عبد الملك بن صالح عَلَى الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب في هذه الليلة بولد وولد له ولد، فعزِّوهَنَ، فلما مثل قال: يا أمير المؤمنين، سرك الله فيما ساءك، وجعل هذه لهذه ثواباً للصابر وجزاء للشاكر.
علة الرشيد
ولما اشتدت علة الرشيد وصار إلى طوس سنة ثلاث وتسعين ومائة هَوَّنَ عليه الأطباء علَّته، فأرسل إلى متطبب فارسي كان هناك، فأراه ماءه مع قوارير شتى، فلما إنتهى إلى قارورته قال: عَرَفُوا صاحب هذا الماء إنه هالك فليوص فإنه لا براء له من هذه العلة، فبكى الرشيد وجعل يردد هذين البيتين:
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لايستطيع دفاع محذور القضا
ماللطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى؟
واشتد ضعفه، وأرْجَفَ الناس بموته، فدعا بحمار ليركبه، فلما صار عليه سقطتَ فخذاه فلم يثبت على السرج، فقال: إنزلوني صدق المرجفون، ثم دعا بأكفان فاختار منها ما أرادا، وأمر بحفر قبر، فلما اطلع فيه قال: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه ثم دعا بأخي رافع، فقال: أزعجتموني حتى تجشّمْتُ هذه الأسفار مع علتي وضعفي، وكان أخو رافع ابن الليث ممن خرج عليه، قال: لأقْتُلَنّكَ قتلة ما قتل مثلها أحد قبلك، ثم أمر ففصل عضوا عضواً، واستأمن من رافع بعد ذلك على المأمون، وقد ذكرنا خبره في غير هذا الكتاب، ثم دعا من كان بعسكره من بني هاشم فقال: إن كل مخلوق ميت، وكل جديد بَال، وقد نزل بي ما ترون وأنا أوصيكم بثلاث: الحفظ لأمانتكم، والنصيحة لأئمتكم، واجتماع كلمتكم وانظروا محمداً وعبد اللّه فمن بغى منهما على صاحبه فردُوهُ عن بغيه وقبحوا له بغيه ونكثه، وأقطع في ذلك اليوم أموالاً كثيرة وضياعاً ورباعاً.
شعر لأبي العتاهية يبكي الرشيد=

مجلد 4. مروج الذهب المسعودي

قال الرياشي: قال الأصمعي: دخلت علىِ الرشيد وهو ينظر في كتاب ودموعُه تنحدر على خَدَّيْه، فظللت قائماً حتى سكن، وحان منه التفاتة فقال: أجلس يا أصمعي، أرأيت ما كان؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أما واللّه لو كان لأمر الدنيا ما رأيت هذا، ورمى بقرطاس فإذا فيه شعر لأبي العتاهية بخط جليل، وهو:
هل أنت مُعتبرٌ بمن خَلِيَت ... منه غَدَاةَ مضى دساكره
وبمن أذلَّ الموت مصرعه ... فتبرأت منه عشائره
وبمن خَلَتْ منه أسِرتُه ... وبمن خلت منه منابره
أين الملوك وأين غيرهُم؟ ... صاروا مصيراً أنت صائره
يا مُؤثر الدنيا بلذته ... والمستعد لمن يفاخره
نَلْ ما بدا لك إن تنال من الدنيا فإن الموت آخره
ثم قال الرشيد: كأني واللّه أخاطَبُ بذلك دون الناس فلم يلبث بعد إلا يسيراً حتى مات.
قال المسعودي: قد ذكرنا جملاً وجوامع من أخبار الرشيد فيما سلف من كتبنا، وفي هذا الكتاب، ولم نذكر فيما سلف من أخبار الرشيد في هذا الكتاب شيئاً من أخبار البرامكة، فلنذكر الأن جملاً من أخبارهم في باب نفرعه له، نذكر فيه السعود من أيامهم والنحوس، وإن كنا قد أتينا على سائر أخبارهم والزُهْر من أيامهم فيما سلف من كتبنا واللّه ولي التوفيق.
ذكر جمل من أخبار البرامكة
وما كان منهم في أيامهم
أسماهم خالد بن برمك
لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جودة رأيه وبأسه وجميع خلاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله ولا الفضل في جوده وبراعته ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحته، ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته، ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه، وفيمن ذكرنا يقول أبو الغول الشاعر:
أولاد يحيى بن خالد وهُم ... أربعة سيد ومتبوع
الخير فيهم إذا سألت بهم ... مُفَرقٌ فيهمُ ومجموع
سبب نكبتهم
ولما أفْضَتِ الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة، فاحتازوا الأموال دونه حتى كان يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه، وكان إيقاعه بهم في سنة سبع وثمانين ومائة، واختلف في سبب ذلك: فقيل احتياز الأموال، وأنهم أطلقوا رجلاً من آل أبي طالب كان في أيديهم، وقيل غير ذلك، واللهّ أعلم.
الفضل بن يحيى يتشاغل بالصيد فيزجره أبوه بأمر الرشيد
ويحكى أنه ورد على الرشيد يوماً كتاب صاحب إلي يد بخراسإن، ويحيى بن خالد بين يديه، يذكر فيه إن الفضل بن يحيى تشاغَلَ بالصيد وادمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به ليحيى، وقال له: يا أبت اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه كتاباً يَرْدَعُه عن مثل هذا، فمدَّ يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى الفضل على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك اللّه يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزيَنُ بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به، والسلام، وكتب في أسفله هذه الأبيات:
أنصَبْ نهاراً في طِلاب العلا ... واصبرعلى فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل بدا مُقْبِلاً ... واستترت فيه وجوه العيوب
فبادِرِ الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم من فَتًى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمرعجيب
ألقَى عليه الليلُ أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفَة ... يسعى بها كل عدو رقيب
والرشيد ينظر إلى ما يكتب يحيى فلما فرغ قال له: أبلغت يا أبت، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن إنصرف عن عمله قال إسجاق بن إبراهيم الموصلي: كنت عند الرشيد يوماً، وأحضر البرامكة الشراب، وأحضر يحيى بن خالد جارية فغنت:
أرِقْتُ حتى كأني أعشق الأرَقَا ... وذُبْتُ حتى كان السقم لي خُلِقَا
وفاض دمعي على قلبي فأغرقه ... يا من رأى غرقاً في الماء محترقا

فقال الرشيد: لمن هذا، فقيل: لخالد بن يزيد الكاتب قال: علي به قال خالد: فأحضرت، فقال للجارية: أعيدي، فأعادت، فقال لي: لمن هذا؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين، فبينا نحن كذلك إذ أقبلت وصيفة معها تفاحة عليها مكتوب بغإلية:
سرورك ألهاك عن مَوْعدِي ... فصيرتُ تفاحتي تَذْكُرَه
فأخذ الرشيد تفاحة آخرى وكتب عليها:
تقاضيت وعدي ولم أنسه ... فتفاحتي هذه معذره
ثم قال له: ياخالد، قل في هذا شيئاً، فقال:
تفأحة خرجت بالدرمن فيها ... أشْهى إليَ من الدنيا وما فيها
بيضاء في حمرة غلت بغالية ... كأنما قطفت من خَد مهديها
جعفر البرمكي عند الأصمعي: حدث الجاحظ عمن أخبره عن أنس بن أبي شيخ، قال: ركب جعفر بن يحيى ذات يوم، وأمر خادماً له أن يحمل معه ألف دينار، وقال له: سأجعل طريقي على الأصمعي، فإذا حدثني فرأيتني ضحكت فأجعلها بين يديه، ونزل جعفر عند الأصمعي، فجعل الأصمعي يحدثه بكل أعجوبة ونادرة تطرب وتضحك، فلم يضحك.، وخرج من عنده، فقال له أنس بن أبي شيخ: رأيت منك عجبَاً، أمرت بألف دينار للأصمعي وقد حركك بكل مضحكة، وليس من عادتك أن ترد إلى بيت مالك ما قد خرج عنه، فقال له: ويحك!! إنه قد وصل إليه من أموالنا مائة ألف درهم قبل هذه المرة، فرأيت في داره حُبّاً مكسوراً وعليه دراعة خَلَق، ومقعداً وسخاً، وكل شيء رأيته عنده رثاً، وأنا أرى إن لسان النعمة أنطق من لسانه، وإن ظهور الصنيعة أمدح وأهجى من مدحه وهجائه، فعلى أي وجه أعطيه إذا كانت الصنيعة لم تظهر عنده ولم تنطق النعمة بالشكر عنه.
وفي الرشيد وجعفر بن يحيى يقول الشَاعر:
ليهن الرشيد خلافاته ... وأمر الذي قد وهى عقده
أضاف إلى بيعة بيعة ... فقام بها جعفر وَحده
بنو بَرْمَكٍ أَّسسوا ملكه ... وَشدوا لوارثه عهْدَهُ
مجلس عند يحيى بن خالد
وقد كان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل الأراء والنحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور، والقدم والحدوث، والإثبات والنفي، والحركة والسكون، والمماسَّة والمباينة، والوجود والعدم، والجر والطفرة، والأجسأم والأعراض، والتعديل والتجريح ونفي الصفات وإثباتها، والاستطاعة والأفعال والكمية والكيفية، والمضاف، والإمامة أنصٌ هي أم اختيار، وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول والفروع، فقولوا الآن في العشق عَلَى غير منازعة، وليورد كل واحد منكم ما سنح له فيه، وخطر إيراده بباله.
حديث لهم عن العشق
فقال علي بن هيثم وكان أماميَّ المذهب من المشهورين من متكلمي الشيعة: أيها الوزير، العشق ثمرة المشاكلة، وهو دليل تَمَازُج الروحين، وهومن بحر اللطافة، ورقة الصنيعة، وصفاء الجوهر وليس يحدُّ لسعته، والزيادة فيه نقصان من الجسد.
وقال أبو مالك الحضرمي، وهو خارجي المذهب وهم الشراة: أيها الوزير، العشق نَفْثُ السحر، وهو أخفى وأحر من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطَّبْعَين، وامتزاج الشكلين، وله نفوذ في القلب كنفوذ صَيَب المُزْنِ في خلل الرمل وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول، وتستكين له الأراء.
وقال الثالث: وهو محمد بن الهذيل العَلاف، وكان معتزليّ المذهب وشيخ البصريين: أيها الوزير، العشق يَختم على النواظر، ويطبع على آلأفئدق، مرتقى في الأجساد، ومسرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متغير الأوهام، لا يصفو له، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل، غير إنه من أريحية تكون في الطبع، وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جَوَاد لا يُصْغِي إلى داعية المنع، ولا يسنح به نازعُ العذل.

وقال الرابع: وهو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الأمامية في وقته وكبير الصنعة في عصره: أيها الوزير، العشق حِبَالةٌ نَصَبَهَا الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا عَلِقَ المحب في شبكتها ونشب في اثنائها فأبعد به أن يقوم سليماً أو يتخلص وشيكاً، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة، وملاءمة في الهمة، له مقتل في صميم الكبد، ومهجة القلب، يعقد اللسان الفصيح، ويترك المالك مملوكاً والسيد خَوَلا حتى يخضع لعبد عبده.
وقال النَّظام إبراهيم بن يَسَار المعتزلي وكان نُظَّار البصريين في عصره: أيها الوزير العشق أرَقُّ من السراب، وأدبُّ من الشراب، وهو من طينة عَطِرَة عجنت في إناء الجلالة، حلو المجتنى ما اقصد، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلأ، وفساداً معضلأ، لا يطمع في إصلاحه، له سحابة غزيرة تهمي على القلوب، فَتُعْشِب شعفا، وَتُثْمر كلفا، وصريعُه دائم اللوعة، ضيق المتنفس، مُشَارف الزمن، طويل الفكر، إذا أجَنَّه الليل أرق، وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى.
ثم قال السادس والسابع والثامن والتاشع والعاشر وَمَنْ يليهم، حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مر دليل عليه.
العشق وعلة وقوعه
قال المسعودي: تنازع الناس ممن تقدم وتآخر في ابتداء وقوع الهوى وكيفيته، وهل ذلك من نظر وسماع، واختيار واضطرار، وما علة وقوعه بعد إن لم يكن، وزواله بعد كونه، وهل ذلك فعل النفس الناطقة أو الجسم وطباعه، فقال بقراط: هو امتزاج النفسين، كما لو امتزج الماء بماء مثله عسر تخليصه بحيلة من الإحتيال، والنفس ألطف من الماء، وَأرَقُّ مسلكاً، فمن أجل ذلك لا تزيله الليإلي، ولا تخلقه الدهور ولا يدفعه دافع دق عن الأوهام مَسْلَكه، وخفىِ عن الأبصار موضعه وحارت العقول عن كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته من القلب، ثم تسير إلى سائر الأعضاء، فتظهر الرِّعدَة في الأطراف، والصفرة في الألوان، واللجلجة في الكلام، والضعف في الرأي والويل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى النقص.
وذهب بعض الأطباء إلى أن العشق طمع يتولد في القلب وينمى وتجتمع إليه مواد من الحرص فإذا قوي زاد بصاحبه الإهتياج واللجاج والتمادي والتفكر والأماني والهيمان والأحزان وضيق الصدر وكثرة الفكر وقلة الطعم وفساد العقل ويبس الدماغ، وذلك إن التمادي في الطمع للدَّم محرق، " فإذا احترق استحال إلى السوْدَاء، فإذا قويت جلبت الفكر فتستعلي الحرارة، وتلتهب الصفراء، ثم تستحيل الصفراء إلى الفساد فتلحق حينئذ بالسوداء، وتصير مادة لها، فتقوى، ومن طبائع السوداء الفكر، فإذا فسد الفكر اختلطت الكيموسات بالفساد، ومع الإختلاط تكون الفدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون ولا يتمٍ فحينئذ يشتد ما به، فيموت أو يقتل نفسه، وربما شهق فتخفى روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظن إنه مات فيقبرونه حَياً، وربما تَنَفَّسَ الصُّعَدَاء فتخفى روحه في تامور قلبه، وينضم القلب ولا ينفرج حتى يموت، وربما ارتاح وتشوق بالنظر، ويرى من يحب فَجْاة، وأنت ترى العاشق إذا سمع ذِكْرَ من يحب كيف يهرب دمه ويَحُولُ لونه.
وقال بعضهم: إن الله خلق كلِ روح مدورة على هيئة الكرة، وجزأها أنصافاً، وجعل في كل جسد نصفأ، فكلُّ جسدٍ لقي الجسد فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه كان بينهما عِشْق ضرورة للمناسبة القديمة. وتفاوت أحوال الناس في ذلك من القوة والضعف على قدر طبائعهم.
ولأهل هذه المقالة خَطْب طويل فيما ذكرنا. وإن النفوس نورية جوهر بسيط نزل من علو إلى هذه الأجساد فسكنها، وإن النفوس تلي بعضا على حسب مجاورتها في عالم النفس في القرب والبعد، وذهب إلى هذا المذهب جماعة ممن يظهر الإسلام، واعتلُّوا بدلائل من القرآن والسنن ودلائل القياس عند أنفسهم. من ذلك قوله عز وجل: " يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " قالوا: فالرجوع إلى الحال لا يكون إلا بعد كون متقدم، ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " .

وذهب إلى هذا القول جماعة من الأعراب، ففي ذلك يقول جميل ابن عبد اللهّ بن مَعْمَر العُذْرِي في بُثَيْنة:
تَعَلّقَ روحي رُوحَهَا قبل خَلْقنا ... وَمِنْ قبل ماكُنا نطَافاً، وفي المهد
فزاد كما زِدْنَا، فأصبح ناميا ... وليس وإن مُتْنَا بمنتقض العهد
ولكنه بَاقٍ على كلَ حالة ... وزائرنا في ظلمة القَبْرِ واللحد
وقال جالينوس: المحبة تقم بين العاقلين لتشاكلهما فى العقل، ولا تقع بين الأحمقين وإن كانا شكلين في الحمق، لأن العقل يجري على ترتيبِ، فيجوز أن يتفق فيه إثنان على طريق واحدة، والحمق لا يجري على ترَتيبٍ، ولا يجوز أن يتفق فيه إثنان.
وَقَسَّمَ بعض العرب الهوى فقال:
ثلأثة أحباب، فحبٌّ عَلأقَةٌوَحُبٌّ تِمِلاق، وَحُبٌّ هو القَتْل
وقال الصوفية من البغداديين: إن اللّه عز وجل إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه، ليشق عليهم سخطه، وَيَسُرَّهم رضاه. فيسبتدل بذلك على قدر طاعة اللّه، إذ كان لا مثل له، ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم، ورازقهم مبتدئاً بالمنِّ عليهم فإذا أوجبوا على أنفسهم طاعة سواه، كان تعالى أحْرَى أن يتبع رضاه.
وللباطنية المتصوفة في هذا كلام كثير وخطب طويل.
وقال أفلاطون: ما أدري ما الهوى، غير إنه جنون إلهي، والهوى لا محمود ولا مذموم.
وكتب بعض ظًرَفاء الكُتَّاب إلى أخ له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الإنقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً.
وللناس ممن خلف وسلف من الفلاسفة والفلكيين والإسلاميين وغيرهم كلام كثير في العشق، وقد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، من الامم الماضية والأجيال الخالية، والممالك الداثرة وإنما خرجنا مما كُنَّا فيه أنفاً من أخبار البرامكة عند ذكرنا العشق، فتغلغل بنا الكلام إلى إيراد لُمَع مما قيل في ذلك.
فلنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أخبارهم، واتسَاق أيامهم، وانتظامها لهم بالسعود، ثم انعكاسها إلى النحوس.
الرشيد يزوج اخته العباسة لجعفر البرمكي

ذكر ذو معرفة بأخبار البرامكة أنه لما بلغ جعفر بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك ويحيى بن خالد والفضل وغيرهم من آل برمك ما بلغوا من الملك، وتناهوا إليه من الرياسة، واستقامت لهم، الأمور، حتى قيل: أن أيامهم عَرُوسٌ وسرور دائم لا يزول، قال الرشيد لجعفر بن يحيى: وَيْحك يا جعفر!! إنه ليس في الأرض طلعة أنا بها آنس، ولا إليها أميل، وأنا بها أشد استمتاعاً وآنساً مني برؤيتك وأن للعباسة أختي مني موقعاً ليس بدون ذلك، وقد نظرت في أمري معكما، فوجدتني لا أصبر عنك ولا عنها، ورأيتني ناقص الحظ والسرور منك يوم أكون معها، وكذاك حكمي منك في يوم كوني معك دونها، وقد رأيت شيئاً يجتمع لي به السرور، وتتكاثف لي به اللذة والآنس، فقال: وفقك اللّه يا أمير المؤمنين! وعزم لك على الرشد في أمورك كلها! قال الرشيد: قد زوجتكما تزويجاً تملك به مجالستها والنًظَرَ إليها والاجتماع بها في مجلس أنا معكما فيه لا سوى ذلك فزوجه الرشيد بعد امتناع كان من جعفر إليه في ذلك، وأشهد له مَنْ حضره من خدمه وخاصة مَواليه، وأخذ الرشيد عليه عهد اللّه ومواثيقه وغليظ أيمانه أنه لا يخلو بها، ولا يجلس معها، ولا يظله وأياها سَقْفُ بيتٍ إلا وأمير المؤمنين الرشيد ثالثهما، فحلف له جعفر على ذلك، ورضي به، وألزمه نفسه، وكانوا يجتمعون على هذه الحالة التي وصفناها وجعفر في ذلك صارف بصره عنها، مزوَرٌّ بوجهه هيبة لأمير المؤمنين، ووفاء بعهده وأيمانه ومواثيقه على ما وافقه الرشيد عليه وعَلِقَتْه العباسة، وأضمرت الاحتيال عليه وكتبت إليه رقعة، فردَ رسولها وشتمه وتهدده، وعادت فعاد لمثل ذلك، فلما استحكم اليأس عليها قصدت لأمه، ولم تكن بالحازمة، فاستمالتها بالهَدايا من نفيس الجواهر والألطاف، وما أشبه ذلك من كثرة المال وألطاف الملوك، حتى إذا ظننت أنها لها في الطاعة كالأمةِ، وفي النصيحة والإشفاق كالوالدة، ألقت إليها طَرَفأ من الأمر الذي تريده، وأعلمتها ما لها في ذلك من حميد العاقبة، وما لإبنها من الفخر والشرف بمصاهرة أمير المؤمنين، وأوهمتها أن هذا الأمر إذا وقع كان به أمان لها ولولدها من زوال النعمة وسقوط مرتبته، فاستجابت لها أم جعفر، ووعدتها بأعمال الحيلة في ذلك، وأنها تلطف لها حتى تجمع بينهما، فأقبلت على جعفر يوماً فقالت له: يا بنيَ، قد وُصفت لي وصيفة في بعض القصورمن تربية الملوك قد بلغت من الأدب والمعرفة والظرْفِ والحلاوة مع الجمال الرائع والقَدِّ البارع والخصال المحمودة ما لم يُرَ مثله، وقد عزمت على اشترائها لك، وقد قرب الأمر بيني وبين مالكها، فاستقبل جعفر كلامها بالقبول، وعلفقت بذلك قلبه، وتطلعت إليها نفسُه، وجعلت تمطله، حتى اشتد شوقه، وقويت شهوته، وهو في ذلك يلح عليها بالتحريك والإقتضاء، فلما علمت أنه قد عجز عن الصبر واشتد به القلق قالت له: أنا مُهْدِيتها إليك ليلة كذا وكذا.

وبعثَتْ إلى العباسة فأعلمتها بذلك، فتأهَبَتْ بمثل ما تتأهب به مثلها وسارت إليها في تلك الليلة، وانصرف جعفرفي تلك الليلة من عند الرشيد، وقد بقيَ في نفسه من الشراب فضلة لما قد عزم عليه، فدخل منزله، وسأل عن الجارية، فخبر بمكانها، فأدخلت على فتى سكران لم يكن بصورتها عالماً، ولا على خَلْقها واقفاً، فقام إليها فواقعها، فلما قضى حاجته منها قالت له: كيف رأيت حيل بنات الملوك، قال: وأي بنات الملوك تعنين، وهو يرى أنها منِ بعض بنات الروم، فقالت له: أنا مولاتك العباسة بنت المهدي، فوثب فزِعاً قد زال عنه سكره ورجع إليه عقله، فأقبل على أمه وقال: لقد بِعْتِنِي بالثمن الرخيص، وحملتني على المركب الوَعْرِ، فانظري ما يؤول إليه حالي، وانصرفت العباسة مشتملة منه على حَمْلٍ، ثم ولدت غلاماً، فوكلت به خادماً من خدمَها يُقال له رياش وحاضنة تسمى برة، فلما خافت ظهور الخبر وانتشاره وجَّهت الصبيَّ والخادم والحاضنة إلى مكة، وأمرتهما بتربيته، وطالت مدة جعفر، وغلب هو وأبوه وأخوته على أمر المملكة، وكانت زبيدةُ أم جعفر زوجُ الرشيد من الرشيد بالمنزلة التي لا يتقدمها أحد من نظرائها، وكان يحيى بن خالد لا يزال يتفقد أمر حرم الرشيد ويمنعهن من خدمة الخدم، فشكت زبيدة إلى الرشيد. فقال ليحيى بن خالد: يا أبت، ما بال أم جعفر تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أمتَّهم أنا في حرمك وتدبير قصرك عندك، فقال: لا واللّه، لا تقبل قولها، قال الرشيد: فلست أعاودك، فازداد يحيى لها منعاً، وعليها في ذلك غِلْظَة، وكان يأمر بقَفْل أبواب الحرم بالليل، ويمضي بالمفاتيح إلى منزله، فبلغ ذلك من أم جعفر كل مبلغ، فدخلت ذات يوم على الرشيد فقالت: يا أمير المؤمنين، ما يحمل يحيى على ما لا يزال يفعله من منعه إياي من خدمي ووضْعه إياي في غيرموضعي، فقال لها الرشيد: يحيى عندي غيرمتهم في حرِمي، فقالت: إن كان كذلك لحفظ ابنه مما ارتكبه، فقال: وما ذاك؟ فَخبرَته بالخبر وقصَت عليه قصة العباسة مع جعفر، فسقط في يده، وقال لها: هل لك على ذلك من دليل أو شاهد؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين الولد؟ قالت: قد كان ههنا، فلما خافت ظهور أمره وَجَّهته إلى مكة، فقال لها: أفيعلم هذا أحد غيرك؟ قالت: ما في قصرك جارية إلا وقد علمت به، فأمسَكَ عن ذلك، وطَوَى عليه كَشْحاً، وأظهر أنه يريد الحج، فخرج هو وجعفر بن يحيي، وكتبت العباسة إلى الخادم والحاضنة أن يخرجا بالصبي إلى اليمن.
فلما صار الرشيد إلى مكة وَكَّلَ مَنْ يثق به بالفحص والبحث عن أمر الصبي والداية والخادم فوجد الأمر صحيحاً، فلما قضى حجه ورجع أضمر في البرامكة على إزالة نعمهم، فأقام ببغداد مُدَيدَة، ثم خرج إلى الأنبار، فلما كان في اليوم الذي عزم فيه على قتل جعفر دعا بالسندي بن شاهك، فأمره بالمضي إلى مدينة السلام والتوكيل بدور البرامكة ودور كُتَّابهم وأبنائهم وقراباتهم، وأن يجعل سراً من حيث لا يكلم به أحداً حتى يصل إلى بغداد، ثم يُفضي بذلك لمن يثق به من أهله وأعوانه، فامتثل السندي ذلك، وقعد الرشيد وجعفر عنده في موضع يعرف في الأنبار بالعمر، فأقاما يومهما بأحسن هيئة وأطيب عيش، فلما انصرف جعفرمن عنده خرج الرشيد حتى ركب مشيعاً له ثم رجع الرشيد فجلس على كرسي، وأمر بما كان بين يديه فرفع فمضى جعفر إلى منزله وفيه فضلة من الشراب، ودعا بأبي زكار المغني الطنبوري وابن أبي شيخ كاتبه ومدَت ستارة، وجلس جواريه خلفها يضربن ويغنين، وأبو زكار يغنيه:
مايريدُ الناس مِنّا ... ما ينام الناس عَنَا
إنما هَمّتهم أن ... يُظهروا ما قد دَفَنَّا

وأمر الرشيد من ساعته ياسراً خادِمَهُ المعروف برخلة فقال له: إني أندبك لأمر ما أرى محمداً ولا القاسم له أهلاً ولا موضعاً، ورأيتك به مستقلاً ناهضاً، فحقق ظني، واحذر أن تخالف أمري فيكون ذلك سبباً لسقوط منزلتك عندي وفساد حالك لديَ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أمرتني أن أدْخِلَ السيف في بطني وآخرجه من ظهري بين يديك لفعلت، فمُرْني بأمرك فإني والله مسرع، فقال: ألست تعرف جعفر بن يحيى البرمكي؟ قال: يا أمير المؤمنين وهل أعرف سواهُ، أو يُنكر مثل جعفر؟ قال: ألم تر تشييعي إياه عند خروجه؟ قال: بلى، قال: فامض الساعة إليه فأتني برأسه على أي حالة تجلى عليها، فأرتج على ياسر الكلام وأخذته رعدحَة ووقف لا يحير جواباً، فقال: يا ياسر، ألم أتقدم إليك بترك الخلاف عليّ؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن الخطب أجل من ذلك، والأمر الذي نَدَبَنِي إليه أمير المؤمنين وددت لو أني كنت مت قبل أن يجري على يدي منه شيء فقال: دع عنك هذا وامض لما قد أمرتك فمضى ياسرٌ حتى دخل على جعفر وهو على حال لهوه، فقال له: إن أمير المؤمنين قد أمرني فيك بكيت وكيت، فقال جعفر: إن أمير المؤمنين يمازحني بأصناف من المزاح فأحسب أن هذا جنس منه، فقال: والله ما رأيته إلا جاداً، قال: فإن يكن الأمر كما قلت فهو إذاً سكران، قال: لا واللهّ ما افتقدت من عقله شيئاً، ولا ظننته شرب نبيذاً في يومه مع ما رأيت من عبادته، قال له: فإن لي عليك حقوقاً لم تجد لها مكافأة في وقت من الأوقات إلا هذا الوقت، قال: تجدني إلى ذلك سريعاً إلا فيما خالف أمير المؤمنين، قال: فارجع إليه فأعلمه أنك قد نفذت ما أمرك به فإن أصبح نادماً كانت حياتي على يديك جارية، وكانت لك عندي نعمة مجددة، وان أصبح على مثل هذا الرأي نفذت ما أمرت به في غد، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: فأصبر معك إلى مضرب أمير المؤمنين حتى أقف بحيث اسمع كلامه ومراجعته أياك، فإذا ابديت عذراً ولم يقنع إلا بمصيرك إليه برأسي خرجت فأخذت رأسي من قرب، قال له: أما هذا فنعم، فمضَيَا جميعاً إلى مضرب الرشيد فدخل إليه ياسر فقال: قد أخذت رأست، يا أمير المؤمنين، وها هو ذا بالحضرة، فقال له: ائتني به وإلا واللهّ قتلتك قبله، فخرج فقال له: أسمعت الكلام، قال: فشأنك وما أمرت به، فأخرج جعفر من كمه منديلاً صغيراً فعصب به عينيه ومَدَّ رقبته فضربها ياسر وأدخل رأسه إلى الرشيد فلما رأى الرأس بين يديه أقبل عليه، وجعل يذكره بذنوبه، ثم قال: يا ياسر ائتني بفلان وبفلان، فلما أتى بهم قال لهم: اضربوا عنق ياسر، فإني لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر.
وقال الاصمعي: وَجَّهَ إلي الرشيدُ في تلك الليلة، فلما أدخلت إليه قال: يا أصمعي، قد قلتُ شعراً فأسمعه، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأنشد:
لو ان جعفر هاب أسباب الردى ... لَنَجَا بمهجته طِمِرمُلْجَمُ
ولكان من حَذَرِ المنون بحيث لا ... يسمو إليه به العُقَابُ القَشْعَمُ
لكنه لما تقارَبَ وقته ... لم يَدْفَع الحَدَثَان عنه مُنجِّمُ
مدة سلطان البرامكة ورثاء الشعراء لهم
قال الأصمعي: ورجعت إلى منزلي فلم أصل إليه حتى تحدث الناس بقتل جعفر، وأصيب على باب قصر علي بن عيسى بن ماهان بخراسان في صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفروأوقع بالبرامكة مكتوب بقلم جليل:
إن المساكين بنو بَرْمَك ... صُبَّتْ عليهم غِيَرُالدهْرِ
إن لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبرساكنُ ذا القصر
قال المسعودي: وكان مدة دولة البرامكة وسلطانهم وأيامهم النضرة الحسنة من استخلاف هارون الرشيد إلى أن قتل جعفر بن يحيى بن خالد ابن بَرْمَكٍ سبع عشرة سنة وسبعة أشهروخمسة عشريوماً، وقد رثتهم الشعراء بمَرَاثٍ كثيرة، وذكرت أيامهم فمن ذلك قول علي بن أبي معاذ:
يا أيهَا المغتَرُّ بالدَّهْرِ ... والدهر ذو صَرْفٍ وذو غدْرِ
لا تامنِ الدَّهْرَ وصَوْلاته ... وكن مِنَ الدهر على حِذْرِ
إن كنت ذا جهل يتصريفه ... فانظر إلى المصلوب بالجسر
فإن فيه عِبْرة،فاعتبر ... يا ذا الحِجَا والعقل والفكْرِ

وخذ من الدنيا صفا عيشها ... وأجر مع الدَّهْرِ كما يَجْرِي
كان وزيرَ القائم المُرْتضى ... وذا الحَجَا والفضل والذكْرِ
وكانت الدنيا بأقطَارِها ... إليه في البَرِّوفي البَحْرِ
يشَيِّدُ المُلْكَ بآرائه ... وكان فيه نافذ الأمر
فبينما جعفر في ملكه ... عشية الجمعة بالعمر
يطيرُفي الدنيا بأجناحِه ... يأملُ طولَ الخُلدِ والعمْرِ
إذ عَثَرَ الدهْرُ به عَثْرَة، ... يا ويلنا مِنْ عثرةِ الدهْرِ
وزَلَّتِ النَعْلُ بهِ زَلّة ... كانت له قاصِمَة الظهْر
فَغُودِرَالبائسُ في ليلةِ ال ... سبت قتيلاً مطْلع الفجْرِ
وأصبح الفضل بن يحيى وقد ... أحِيطَ بالشيخ ومايدرِي
وجيءَ بالشيخ وأولادهِ ... يحيى معاً في الغلِّ والأسْر
والبَرْمَكِيِّينَ وأتباعهم ... مَنْ كان في الآفاقِ والمِصْر
كأنما كانوا علي مَوْعِدٍ ... كموعد الناس إلى الحشْرِ
وأصبحوا للناس أحدُوثَة ... سبحان ذي السلطان والأمر
وممن رثاهم فا سْتُحسن قولُهُ أشجعُ السُّلَمِي، فقال من قصيدة:
ألان أرَحْنَا واستراحَتْ رِكابُنَا ... وأمسَكَ مَنْ يُجْدِي وَمَنْ كان يَجْتَدِي
فَقُل لِلمطايا: قد أمنْتِ مِنَ السُّرَى ... وطَيِّ الذيافي فَدْفَداً بعدَ فَدْفَدِ
وقل العطايا بعد فَضْلٍ: تَعًطّلِي ... وقل للرزايا: كل يوم تَجددِي
ودونكِ سيفاً برْمَكِياً مُهَنَّداً ... أصيبَ بسيفٍ هاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وقال فيهم سَلْم الخاسر:
خَوَت أنجُمُ الجدوى وشلّتْ يَدُ النَّدَى ... وغَاضَتْ بحَارُالجُودِ بعد البَرَامكِ
هَوَتْ أنجُمٌ كانت لأبناءِ بَرْمَكٍ ... بها يَعْرِفُ الهادي قَوِيمَ المسالك
وقال فيهم صالح الأعرابي:
لقد خان هذا الدهرأبناء برمكٍ ... وأي مُلوكٍ لم تَخُنْهَا دُهُورُها؟
ألم يَكُ يحيى والي الأرض كلها ... فأضحَى كمن وارَتْهُ منها قُبُورُهَا
وقال فيهم أبو حزرة الأعرابي، وقيل أبو نُوَاس:
مارَمَى الدهْرُآل برمك لمَّا ... أن رَمَى مُلْكَهُمْ بأمربديع
إن دهْراً لم يَرْعَ حقاً ليحيى ... غيرُرَاعٍ حقاً لآل الربيع
وقال فيه بعض الشعراء فأحسن:
يابني برمك واهاً لكُم ... ولأيامكُمُ المقْتَبَلَهْ
كانت الدنيا عَرُوساً بكُمُ ... وَهِيَ اليوم ثَكُول أرْمَلَه
وقال أشْجَعُ فيهم:
ولّى عن الدنيا بنو بَرْمك ... فلو تَوالى الناس ما زادا
كأنما أيامهم كلها ... كانت لأهل الأرض أعيادا
ولآخر فيهم من أبيات:
كأن أيامهم من حُسْن بَهْجَتِهَا ... مواسم الحج والأعياد والجُمَع
وقال منصور النمري:
أندُبْ بني برمك لدنيا ... تبكي عليهم بكلِّ واد
كانت بهم بُرْهَةً عَرُوساً ... فاضحَتِ إليوم في حِدَاد
وقال دعبل الخزاعي:
ألم تَرَصَرْفَ الدهرفي آل برمك ... وفي ابن نهيك والقُرُون التي تخلو
لقد غَرَس القوم النخيل تمكناً ... فماحصدوا إلاكماحصد البقل
وقال أشْجَعُ فيهم أيضاً:
قد سَارَدهْر ببني بَرْمَكٍ ... ولم يَدَعْ فيهم لنا بُقْيا
كانوا أولي الخيرِوهم أهله ... فارتفع الخيرعن الدنيا
ولما قتل جعفروقبض على يحيى والفضل، وضيق عليهما المحابس، واشتد بهما الجهد،وترادف عليهما البلاء قال الفضل بن يحيى يذكرماهما فيه:
إلى اللَّه فيما نابَنَا نَرْفَعُ الشكوى ... ففي يده كشفُ المضَرَّة والبَلْوَى
خرجنا من الدنيا ونحن مِنَ أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجِّان يوماً لحاجةٍ ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وكان الرشيد كثيرا ما ينشد بعد نكبة البرامكة:
إن استهانتها إذاوقعَت ... لَبِقدْرِما تعلو بها رُتَبُهْ
وإذا بَدَتْ للنمل أجنحة ... حتى يطيرفقددَنا عَطَبُهْ
وقال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: دخلت علىِ والدتي يوم نَحْرٍ، فوجدتها وعندها أمراة بَرْزَةٌ متكلمة في اثواب رَثةٍ فقالت لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى، فأقبلت عليها بوجهي أحدثها وأعظمها ثم قلت لها: يا أماه ما اعْجَبُ ما رأيت؟ قالت: يا بني لقد أتى عيدٌ مثلُ هذا وأنا على رأسي أربعمائة وصيفة، وإني لأعدُّ ابني عاقالي ولقد أتى عليَّ هذا العيد وما أتمنى سوى جلد شاتين افترش أحدهما وألتحف الآخر، قال: فدفعت إليها خمسمائة درهم، فكادت تموت فرحاً بها، ولم تزل تختلف إلينا حتى فَرَّق الموت بيننا.
وحكي عن بعض عمومة الرشيد انه صار إلى يحيى بن خالد عند تغيّر الرشيد له قبل الايقاع بهم، فقال له: ان أمير المؤمنين قد أحب جمع الأموال، وقد كثر ولده فهو يريد ان يعقد لهم الضياع، وقد كثر عليك وعلى أصحابك عنده فلو نظرت إلى ضياعهم واموالهم فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت إليه بها رَجَوْتُ أن يكون لك السلامة، وان يرجع لك أمير المؤمنين، فقال له يحيى: واللّه لأن تزول النعمة عني أحب إلي من أن أزيلها عن قوم كنت سببها إليهم.

وذكر الخليل بن الهيثم الشعبي - وكان قد وكله الرشيد بيحيى والفضل في الحبس - قال: أتاني مسرور الخادمُ ومعه جماعة من الخدم، ومع خادم منهم منديل ملفوف، فسبق إلى نفسي ان الرشيد قد تعطَّفَ عليهم، فوجَّه إليهم بلطف، فقال لي مسرور: آخرج الفضل بن يحيى، فلما مثل بين يديه قال له: ان أمير المؤمنين يقول لك: إني قد أمرتك ان تصدقني عن أموالكم فزعمت أنك قد فعلت، وقد صح عندي أنك ابقيت لك أموالاً، وقد أمرت مسرورا ان لم تطلعه عليها ان يضربك مائتي سوط، فقال له الفضل: قُتِلْتُ واللّه يا أبا هاشم، فقال له مسرور: يا أبا العباس أرى لك أنك لا تؤثر مالك على مهجتك، فأني لا آمن أن أنفذ ما أمرت به فيك أن إلي على نفسك، فرفع الفضل رأسه إلى السماء وقال له: يا أبا هاشم، ما كذبت بأمير المؤمنين، ولو كانت الدنيا لي وخيرت بين الخروج منها وبين أن اقرع مقرعة لا خترت الخروج منها، وأمير المؤمنين يعلم. وأنت تعلم أنا كنا نصون أعراضَنَا بأموالنا، وكيف صرنا اليوم نصون أموالنا منكم بأنفسنا، فأن كنت أمرت بشيء فامض له، فأمر بالمنديل فنفض، فسقط منه أسواط بأثمارها، فضرب مائَتْي سوط، وتولّى ضربه أولئك الخدم، فضربوه أشد الضرب الذي يكون بغير معرفة، فكادوا يأتون على نفسه، فخافنا عليه الموت، فقال الخليل بن الهيثم لوكيله المعروف بأبي يحيى: أن هنا رجلاً قد كان في الحبس، وهو بَصِيرٌ بالعلاج لمثل هذا أو شبهه، فصر إليه وأسأله أن يعالجه، قال: فأنهيت إليه ذلك، فقال: لعلك تريد أن تعالج الفضل بن يحيى، فقد بلغني ما صنع به. فقلت: أياه أريد، قال: فامض بنا إليه حتى اعالجه، فلما رآه قال: أحسبه ضربه خمسين سوطاً، قال: أنه ضربه مائتي سوط، قال: ما اظن الا أن هذا اثر خمسين سوطاً، ولكن يحتاج أن ينام على بارِيّةٍ وأدوس صدره ساعة، فجزع الفضل من ذلك، ثم أجاب إليه، ففعل ذلك به، ولم يزل يدوس صدره، ثم أخذا بيده فجذبه حتى أقامه عن البارية، فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم جعل يختلف إليه ويعالجه إلى أن نظريوماً إليه فخر ساجداً، فقلت: ما لك. فقال: يا أبا يحيى، قد برىء أبو العباس،ادْنُ مني حتى ترى، قال: فدنوت منه فأراني في ظهره لحما نابتاً، ثم قال لي: أتحفظ قولي هذا اثَرُ خمسين سوطاً. قلت: نعم، قال: واللهّ لو ضُرِبَ ألف سوط ما كان اثرها بأشد من ذلك الاثر، وأنما قلت ذلك لكي تقوى نفسه فيعينني على علاجه، فلما خرج الرجل قال لي الفضل: يا أبا يحيى، قد احتجت عشرة آلاف درهم، فسِرْ إلى المعروف بالنسائي وأعلمه حاجتي إليها، قال: فأتيته بالرسالة، فأمر بحملها إليه، فقال: يا أبا يحيى، أحب أن تمضي بها إلى هذا الرجل، وتعتذر إليه، وتسأله قبول ما وجهت به، قال: فمضيت إليه فوجدته قاعدا على حصير وطنبور له معلق ودساتيج فيها نبيذ وأداة رثة، فقال: ما حاجتك يا أبا يحيى: فأقبلت أعتذر عن الفضل، واذكر ضيق الأمر عليه، وأعلمته بما وَجَّه به إليه، فامتعض من ذلك ونحر حتى أفزعني، وقال: عشرة آلاف درهم، يرددها، فجَهَدْت كل الجهد أن يقبلها، فأبى، فصرت إلى الفضل، فأعلمته، فقال لي: استقلَّها واللّه، ثم قال لي الفضل: أحب أن تعود إلى النسائي ثأنية وتعلمه أني احتجت إلى عشرة آلاف درهم آخرى، فإذا دفعها إليك فسر بالكل إلى الرجل، قال: فقبضت من النسائي عشرة آلاف آخرى ورجعت إلى الرجل ومعي المال، وعَرَّفْته الخبر، فأبى أن يقبل شيئاً منه، فقال:أنا أعالج فتى من الأبناء بِكِرَاء. إذهب عني، فواللّه لو كانت عشرين ألف ما قبلتها، فرجعت إلى الفضل واخبرته الخبر، فقال لي: يا أبا يحيى، حدثَني بأحسن ما رأيت أو بلغك من أفعالنا، قال: فجعلت أحدثه ملياً، فقال: دع عنك هذا، فواللّه أن ما فعله هذا الرجل أحسن من كل ما فعلناه في أيامنا كلها.
وقتل جعفربن يحيى وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل اقل من ذلك ومات يحيى بن خالد بالرقة في سنة تسع وثمانين ومائة على ما قدمنا.
قال المسعودي: وللرشيد أخبار حسان وسير، وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من كتبنا في ذكر أخبار ملوك الروم بعد ظهور الاسلام، وما كان بينه وبين نَقْفُورفيما تقدم من هذا الكتاب.

وللبرامكة أخبار حسان، وما كان منهم من الإفضال بالمعروف واصطناع المكارم، وغير ذلك من عجائب أخبارهم وسيرهم وما مدحتهم الشعراء به، ومراثيهم، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وأنما نورد في هذا الكتاب لمعاً من الأخبار لم يتقدم لها أيراد في ما تقدم من كتبنا، وكذلك ذكرنا بدء أخبارهم قبل ظهور الاسلام. وكونهم على بيت النوبهار، وهو بيت النار ببلخ المقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وعلة تسميته بَرْمَك، وخبر برمك الأكبر مع ملوك الترك، وخبرهم بعد ظهور الإسلام، وما كان منهم في أيام بني أمية كهشام بن عبد الملك وغيره، وما كان منهم في أيام المنصور، واكتفينا بما ذكرناه في هذا الكتاب من هذه التلويحات من أخبارهم واللمع من آثارهم.
ذكر خلافة محمد الأمين
وبويع محمد بن هارون في اليوم الذي مات فيه هارون الرشيد، وهو يوم السبت لأربع ليال خَلَوْنَ من جمادي الأولى، بطُوسَ، سنة ثلاث وتسعين ومائة، وتقدم ببيعته رجاء الخادم، وكان القيم ببيعته الفضل بن الربيع، وكان محمد يكنى بأبي موسى. وأمه زُبَيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر بالرصافة وكان مولده بالرصافة. وَقُتل وهو ابن ثلاث وثَلاثين سنة وستة أشهر وثلاثة عشر يوماً. ودُفنت جثته ببغداد. وَحُمِل رأسه إلى خراسان. وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر وستة أيام، على حسب ما وجدنا من اختلاف التواريخ وتباينها. وقيل: أن محمدا افْضَتِ الخلافة إليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة وسبعة أشهر وأحد وعشرين يوماً، وكان أصغر من المأمون بستة أشهر، وكانت أيامه في الحصار من خَلْعِه إلى مقتله سنة ونصفاً وثلاثة عشريوماً، حبس فيها يومين.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
كيف جاءه خبر الولاية
قبض الرشيد والمأمون بمَرْوَ، وبعث صالح بن الرشيد رجاء الخادم مولى محمد الأمين، إلى محمد، فأتاه بالخبر في اثني عشر يوماً إلى مدينة السلام يوم الخميس للنصف من جمادي الآخرة.
رؤيا زبيدة أيام خملت بالأمين وعند مولده وبعده
وذكر جماعة من الأخباريين وممن عُنِيَ بأخبار العباسيين كالمدائني، والعتبي وغيرهما أن زُبَيْدَةَ رأت في المنام ليلة عَلِقَتْ بمحمد كأن ثلاث نسوة دخلن عليها وهي بمجلس، قعدت اثنتان عن يمينها وواحدة عن يسارها، فدنت أحداهن، فجعلت يدها على بطن أم جعفر، ثم قالت: ملك فخم عظيم، ثقيل الحمل، نكد الأمر، ثم فعلت الثانية كما فعلت الأولى، وقالت: ملك ناقص الجد، مفلول الحد، ممذوق الود، تجور أحكامه، وتخونه أيامه، ثم فعلت الثالثة كما فعلت الثانية، وقالت: ملك قصاف، عظيم إلايلاف، كثير الخلاف، قليل الأنصاف، قالت: فأستيقظت وأنا فَزِعَة، فلما كان في الليلة التي وضعت فيها محمداً دخلن عَلًيَ وأنا نائمة كما كُنَ دخلن. فقعدن عند رأسي، ونظرن في وجهي، ثم قالت إحداهن: شجرة نضرة، وريحانة حسنة، وروضة زاهرة، ثم قالت الثانية: عين غدقة قليل لبثها سريع فناؤها عجل ذهابها وقالت الثالثة:عدو لنفسه، ضعيف في بطشه، سريع إلى غشه، مُزَال عن عرشه، فأستيقظت من نومي وأنا فَزِعَة بذلك، وأخبرت بذلك بعض قَهَارِمتي، فقالت: بعض ما يطرق النائم، وعبث من عبث التوابع، فلما تم فصاله أخذت مرقدي ليلة ومحمد أمامي في مهلى، إذ بهن قد وقفن على رأسي وأقبلن على ولدي محمد، فقالت أحداهن: ملك جبار، مِتْلاف مهذار، بعيد الآثار، سريع العثار، ثم قالت الثانية: ناطق مخصوم، ومحارب مهزوم، وراغب محروم، وشقي مهموم، وقالت الثالثة: احفروا قبره، ثم شقوا لحده، قدموا أكفانه، وأعدوا جهازه، فإن موته خير من حياته. قالت: فأستيقظت وأنا مضطربة وَجِلَة، وسألت مفسري الاحلام والمنجمين، فكل يخبرني بسعادته وحياته وطول عمره، وقلبي يأبى ذلك، ثم زجرت نفسي وقلت: وهل يدفع إلاشفاق والحذر وإلاحتراُز واقعَ القدر، أو يقدر أحد أن يدفع عن أحبابه الأجل؟.
موت ابن عياش وعزم الأمين على خلع أخيه
وفي سنة ثلاث وتسعين ومائة مات أبو بكر بن عياش الكوفي الأسدي وهوابن ثمان وتسعين سنة، بعد موت الرشيد بثماني عشرة ليلة.

ولما هَمَّ محمد بخلع المأمون شاورَ عبد اللّه بن حازم، فقال له: أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، إلا تكون أول الخلفاء نكث عهدي، ونقض ميثاقه. واستخف بيمينه، فقال: اسكت أسْكَتَ اللّه فاك، فعبد الملك بن صالح كان أفضل منك رأياً حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. وَجَمَعَ القواد وشاورهم فأتبعوه في مراده إلى أن بلغ إلى هرثمة بن حازم، فقال: يا أمير المؤمنين: لن ينصحك من كذبك، ولن يغشك من صدقك، لا تجرىء القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فأن الغادر مخذول، والناكث مغلول. ودخل علي. بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد وقال: لكن شيخ هذه الدعوة، وباب هذه الدولة، لا يخالف إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعا إلى موضع ما رفعه إليه فيما مضى، فكان علي بن عيسى أول من أجاب إلى خلع المأمون، فَسَيَّرَه في عظيم نحو خراسان، فلما قرب من الري قيل له: إن طاهر بن الحسين مقيم بها، وقد كان يظن أن طاهراً لا يثبت له، فقال: واللّه ما طاهر إلا شوكة من أغصاني وشرارة من ناري، وما مثل طاهريؤمَّر على جيش، وما بينه وبين الموت إلا أن تقع عينه على سوادكم، فإن السِّخَال لا تقوى على نِطَاح الكِبَاش، والثعالب لا تقدر على لقاء الاسْدِ، فقال له ابنه: ابعث طلائع وَارْتَدْ موضعاً لعسكرك، فقال: ليس مثل طاهر يستعدُّ له بالمكايد ويستظهر له بالاحتراز والتحفظ، أن حال طاهر يؤدي إلى أمرين: إما أن يتحصَّنَ بالري فيثب به أهلها ويكفونا مؤنته، أو يخليها ويُدْبر راجعاً، لو قد قربت خيولنا منه، فقال له ابنه: إن الشرارة ربما صارت ضِرَاماً، فقال: اسكت إن طاهراً ليس قرنا في هذا الموضع، وأنما تحترس الرجال من أقرانها، وسار علي بن عيسى حتى دنت عساكره من الري، وتبين ما عليه طاهر من الجد وأهبة الحرب وضم الأطراف، فعدل إلى رُسْتَاق من رساتيق الري متياسراً عن الطريق، فنزل به، وانبسطت عساكره، وأقبل طاهر في نحو من أربعة آلاف فارس، فأشرف على عساكرعلي بن عيسى وتبين كثرتها وعدة ما فيها، فعلم أن لا طاقة له بذلك الجيش، فقال لخواص من معه: نجعلها خارجية، وَكَردَسَ خيله كراديس، وصمد في نحو القلب في سبعمائة من الخوارزمية وغيرهم من فراسن خراسان، وخرج إليه من القلب العباس بن الليث مولى المهدي، وكان فارساً، فقصده طاهر وضم يديه على سيفه فأنثنى العباس وأنضم المعروف بداود سياه إلى علي بن علي وقد اختلط الناس، فضربه ضربة فأتى عليه، وكان علي في ذلك الوقت على برذون كميت أرجل، وتمالأ على رأسه الرجال، وتنازعوا في خاتمه ورأسه، فذبحه رجل يعرف بطاهربن الراجي، وقبض آخر على خصلة من شعر لحيته، وآخر على خاتمه، وكان سبب هزيمة الجيش ضربة طاهر بيديه جميعاً للعباس بن الليث، وبذلك سمي طاهر ذا اليمينين، لجمعه يَدَيْه على السيف.
وذكر أحمد بن هشام - وكان من وجوه القواد - قال: جئت إلى مضرب طاهروقد توهم أني قُتِلتُ في المعركة ومعي رأس عليّ وقد شد، فقال: البشرى، هذه خصلة من رأس عليّ مع غرمي في المخلاة، فطرحة قدامه، ثم أتى بجثته، وقد شُدَّت يداه ورجلاه، كما يفعل بالدوابِّ إذ مالت، فأمر به طاهر فألقي في بئر، وكتب إلى في الرياستين الفضل بن سهل بالخبر، فكان في الكتاب: أطال اللّه بَقَاءَكَ، وَكَبَتَ أعداءك، كتابي إليك، ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في أصبعي، والحمد لله ربّ العالمين، فسر المأمون بذلك، وَسُلّم عليه في ذلك الوقت بالخلافة. وقد كانت أم جعفر لا تعلق من الرشيد، فشاور بَعْضَ مجالسيه من الحكماءِ وشكا ذلك إليه، فأشار عليه بأن يُغِيرَها، فأن إبراهيم الخليل عليه السلام كانت عنده سارة، فلم تكن تعلق منه، فلما وهبت له هاجر علقت منه بإسماعيل فغارت سارة عند ذلك، فعلقت بإسحاق، فأشتر الرشيد أم المأمون، فاستخلاها، فعلقت بالمأمون، فغارت أم جعفر عند ذلك فعلقت بمحمد.

قال المسعودي: وقد قَدَّمنا التنازع في ذلك - أعني قصص إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام، وقول من ذهب إلى أن إسحاق هو المأمور بذبحه، ومن قال: بل إسماعيل، وما ذكر كل فريق منهم في ذلك، وقد تناظر في ذلك السلف والخلف، فمن ذلك ما جرى بين عبد اللّه بن عباس وبين مولاه عِكْرِمَة، وقد قال عكرمة: مَنِ المأمور بذبحه، فقال: إسماعيل، واحتجَّ بقول اللّه عزّ وجلّ: " ومن وراء إسحاق، يعقوب " إلا ترى أنه بَشّرَ إبراهيم بولادة إسحاق فكيف يأمره بذبحه فقال له عِكْرِمَة:أنا أوجدك أن الذبيح إسحاق من القرآن، واحتجَّ بقول الله عز وجل: " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، ونعمته على إسحاق: أن فَدَاه بالذِّبْح، وكانت وفاة عكرمة مولى ابن العباس سنة خمس ومائة، ويكنى أبا عبد اللّه، مات في اليوم الذي مات فيه كُثَيِّر عزة، فقال الناس: مات عظيم الفقهاء وأهل العلم وكبير الشعراء، وفيها كانت وفاة الشعبي.
الأمين ينصب مجلس غناء وهومحاصر
وحدث يوسف بن إبراهيم الكاتب قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال: بعثَ إلي الأمين محمد، وهو محاصَرٌ، فصرت إليه، فإذا هوجالس في طارمة خشبها من عود وصندل عشرة في عشرة، وإذا سليمان بن أبي جعفر المنصور معه في جوف الطارمة، وهي قبة كان أتخذ لها فراشاً مُبَطّناً بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهمب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبريسم، فسلمت فإذا قُدامة قدح بلور مخروز فيه شراب ينفذ مقداره خمسة أرطال، وبين يحيى سليمان قدح مثله، فجلست بإزاء سليمان، فأتيت بقدح كالأول والثاني، قال: فقال: أنما بعثت إليكما لما بلغني قدوم طاهر بن الحسين إلى النهروان، وما قد صنع في أمرنا من المكروه، وقابَلَنَ! به من الإساءة، فدعوتكما لافرج بكما وبحديثكما، فأقبلنا نحدثه ونؤنسه حتى سَلا عما كان يجده وفرح، ودعا بجارية من خواص جواريه تسمى ضعفاً، قال: فتطيَّرْتُ من اسمها ونحن على تلك الحال، فقال لها: غنَينا، فوضعت العود في حجرها وغنت:
كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كان أكثرناصراً ... وأكثرحزماً منك ضُرِّج بالدم
فتطير من قولها، ثم قال لها: اسكتي قبحك اللّه، ثم عاد إلى ما كان عليه من الغم والإقطاب فأقبلنا نحادثه ونبسطه، إلى أن سلا وضحك، ثم أقبل عليها وقال لها: هات ما عندك، فغنت،
هُممُ قَتَلُوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرَتْ يوماً بكسرى مَرازِبه
فأسكتها وزأرها وعاد إلى الحالة الأولى، فسليناه حتى عاد الى الضحك، فأقبل عليها الثالثة فقال: غني، فغنت:
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفا ... أنيس ولم يَسْمُرْبمكة سامر
بلى نحن كنَّا أهلهَا فأبادَنَا ... صُرُوفُ الليالي والجدُودُ العوائر
وقيل: بل إنها غنت:
أما وربِّ السُّكُون والحَرَكِ ... إن المنايا كثيرة الشّرَكِ
فقال لها: قومي عني فعل اللّه بك كذا وكذا وصنع بك، فقامت فعثرت بالقدح الذي كان بين يديه فكسرته، فأنهرق الشراب، وكانت ليلِ قمراء، ونحن على شاطىء دجلة في قصره المعروف بالخلد: فسمعنا قائل يقول قُضَيَ الأمر الذي فيه تستفتيان قال ابن المهدي: فقمت وقد وثب. فسمعت منشداً من ناحية القصر ينشد هذين البيتين:
لاتعجبَنَّ من العَجَبْ ... قدجاءمايقضي العجب
قد جاء أمر فادِخ فيه لذي عجب عجب
قال: فما قعدنا معه بعدها إلى أن قتل.
وكان الأمين معجباً بأم ولده نظم وهي أم موسى الذي كان سما الناطق بالحق، وأرادا خِلع المأمون والعَقْد له من بعده، فهلكت أم موسى نظم، فجزع عليها جزعااً شديداً، فلما اتصل الخبر بأم جعفر زبيدة قالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، فحملت إليه، فأستقبلها وقال: يا سيدتي ماتت نظم، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللّهف ... ففي بقائِك مماقدمضى خلَفُ
عُوِّضْت موسى فهانت كل مرزئة ... مابعدموسى على مفقودة أسَفُ
لهو الأمين وقت الحصار

وذكر إبراهيم بن المهدي قال: استأذنت على الأمين يوماً، وقد اشتد الحصار عليه من كل وجه، فأبوا أن يأذنوا لي بالدخول عليه، إلى أن كاثرت ودخلت، فإذا هو قد تطلع إلى دجلة بالشباك، وكان في وسط قصره بركة عظيمة لها مخترق إلى الماء في دجلة، وفي المخترق شباك حديد، فسلمت عليه وهو مقبل على الماء والخدم، والغلمان قد أنتشروا إلى تفتيش الماء، وهو كالواله، فقال لي وقد ثنيت بااسلام وكررت: لا تدري يا عمي، فمقرطتي قد ذهبت في البركة إلى دجلة، والمقرطة: سمكة كانت قد صيدت له وهي صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حَبَّتَا در وقيل: ياقوت قال: فخرجت وأنا آيس من فلاحه، وقلت: لو ارتدع من وقت لكان هذا الوقت.
صفات الأمين
وكان محمد في نهاية الشدة والقوة والبطش والبهاء والجمال، إلا أنه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير، غير مفكر في أمره.
وحكي أنه اصطبح يوماً، وقد كان خرج أصحاب اللبابيد والحراب على البغال - وهم الذين كانوا يصطادون السباع - إلى سبع كان بلغهم خبره بناحية كوثى والقصر، فاحتالوا في السبع إلى أن أتوا به في قفص من خشب على جمل،بخْتي، فَحُطَّ بباب القصر وأدخل، فمثل في صحن والأمين مصطبح، فقال: خلوا عنه وشيلوا باب القفص، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أنه سبع هائل أسود وحش، فقال: خلوا عنه، فشالوا باب القفص، فخرج سبع أسود له شعرعظيم مثل الثور، فزأروضرب بذنبه إلى الأض، فتهارب الناس، وغلقت الأبواب في وجهه، وبقي الأميز وحده جالساً في موضعه غير مكترث بالأسد، فقصده الأسد حتى دنا منه، فضرب الأمين بيده إلى مرفقة أرمنية، فأمتنع منه بها، ومًدّ السبع يد إليه، فجذبها الأمين وقبض على أصل إذنيه، وغمزه ثم هَزَّه أو دفع به الى خلف فوقع السبع ميتاً على مؤخره، وتبادر الناسُ الأمين فإذا أصابعا ومفاصل يديه قد زالت عن مواضعها، فأتى بمجبر بند عظام أصابعه الى مواضعها، وجلس كأنه لم يعمل شيئاً، فشقوا بطن الأسد فإذا مرارته قد أنشقت عن كبده.
نبوءة بخلع الأمين
وحكي أن المنصور جلس ذات يوم ودخل إليه بنو هاشم من أهله، فقال لهم وهو مستبشر، أما علمتم أن محمداً المهدي ولد البارحة له ولى ذكر، وقد سميناه موسى، فلما سمع القوم ذلك وجموا وكأنما حَثَا في وجوههم الرماد، وسكتوا ولم يحيروا جوابا، فنظر إليهم المنصور فقال لهم: هذا موضع دعاء وتهنئة، وأراكم قد سكتم، ثم استرجع، فقال لهم: كأني بكم لما أخبرتكم بتسميتي أياه موسى اغتممتم به، لأن المولود المسمى بموسى ابن محمد هو الذي على رأسه تختلف الكلمة وتسفك الدماء وتنتهب الخزائن، ويضطرب الملك، ويقتل أبوه، وهو المخلوع من الخلافة، ليس هو ذا، لا، ولا هذا زمانه، واللّه أن جَدَّ هذا المولود يعني هرون الرشيد - لم يولد بعد، قال: فدعوا له وهنوه وهنوا المهدي. وكان هذا موسى الهادي أخا الرشيد.
وكان العهد الذي كتبه الرشيد بين الأمين والمأمون وأودعه الكعبة أن الغادر منهما خارجٌ من الأمر، أيهما غدر بصاحبه، والخلافة للمغدور وذكر ياسر خادم أم جعفر، وكان من خَوَاصها أنه لما أحيط بمحمد دخلت عليه أم جعفر باكيه، فقال لها: مه، أنه ليس بجزع النساء وهلعهن عُقِدَتْ التيجان، وللخلافة سياسة لا تسعها صدور المراضع، وراءك وراءك.
ويقال: أن محمداً قصف عند طاهر، فبينا طاهر في بستانه إذ ورد كتاب من محمد بخطه، فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم، أعلم أنه ما قام لنا مذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه منا إلا السيف، فأنظر لنفسك أو دع قال: فلم يزل واللّه يتبين موقع الكتاب من طاهر، فلما رجع إلى خراسان آخرجه إلى خاصته، وقال لهم: واللّه ما هذا كتاب مضعوف، ولكنه كتاب مخذولي.
ولم يكن فيمن سلف من الخلفاء إلى وقتنا هذا - وهوسنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - مَنْ أبوه وأمه من بني هاشم، إلا عليُّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، ومحمد بن زُبَيْدَة.
وفي محمد بن زُبَيدَة يقول أبو الغول:
ملك أبوه وَأمه من نَبْعَة ... منهاسرَاجُ الأمة الوَهَّاجُ
شربت بمكة من ذرى بطحائها ... ماءالنبوة ليس فيه مِزَاجُ
وفي سنة أربع وتسعين ومائة كان ابتداؤه بالغدر بالمأمون.
عبد الملك بن صالح بن علي

وفي سنة سبع وتسعين ومائة مات بالرقة عبدُ الملك بن صالح بن علي في أيام الأمين، وكان عبد الملك أفْصَحَ ولد العباس في عصره، يقال: أن الرشيد لما أجتاز ببلاد مَنْبج من أرض الشام نظر إلى قصر مشيد، وبستان مُعْتَمّ بالأشجار كثير الثمار، فقال لعبد الملك: لمن هذا القصر. قال: هو لك ولي بك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف بناء القصر. قال: دون منازلك وفوق منازل الناس، قال: فكيف مدينتك. قال: عَذْبه الماء، باردة الهواء، صلبة الموطأ، قليلة الأعواء، قال: كيف ليلها. قال: سَحَر كله، وقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما أحسن بلادكم، ثم قال: فكيف لا تكون كذلك وهي تربة حمراء، وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء، فَيَافِي فِيحٌ، وجبال وضيح، بين قيصوم وشيح، فألتفت الرشيد إلى الفضل بن الربيع فقال: ضربُ السياط أهْوَنُ عَلًي من هذا الكلام.
ولما سمى محمد ابنه موسى الناطق بالحق وأخذا له العهد على الناس الفضل بن الربيع وزيرُه، وموسى يومئذ لا ينطق بأمر، ولا يعرف حسناً ولا يعقل قبيحاً، ولا يخلو من الحاجة إلى من يخدمه في ليله ونهاره ويقظته ومنامه وقيامه وقعوده، وأحْضَنَه علي بن عيسى بن ماهان، قال في ذلك رجل أعمى من أهل بغداد يعرف بعده بن أبي طالب:
أضاع الخلافة غِشًّ الوزير ... وَفِسْقُ الإمام وَرأي المشير
وما ذاك إلا طريق الغُرُور ... وشر المسالك طُرْقُ الغُرُور
فعال الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه فعال الوزير
وأعجب من ذا وذا أننَا ... نبايع للطفل فينا الصغير
ومَنْ ليس يُحْسِن مسح أنفه ... ولم يخل من نتنه حِجْرُظِيرْ
وما ذاك إلا بباغٍ وغاو ... يريدان نَقْضَ الكتاب المنير
وهذان لولا انقلاب الزمان ... أفي العيرهذان أم في النفير
ولكنها فِتَنٌ كالجبا ... ل نرتع فيها بصنع الحقير
ولما قتل طاهربن الحسين علي بن عيسى بن ماهان سار فنزل حلوان، وذلك على خمسة أيام من مدينة السلام، فتعجب الناس من زيادة أمره، وإدبار أصحاب الأمين وهزيمتهم على كل حال، وأيقنت القلوب بغلبة طاهر وظهور المأمون، وأسقط في يدي الفضل بن الربيع وأصحابه، فقال الشاعرالأعمى في ذلك، وكان مأمونيَاً متعصباً على محمد بن زُبَيْدة مع المأمون، وكان من أهل بغداد، ومقامه بها، من أبيات:
عجبتُ لمعشريَرْجُون نُجْحاً ... لأمر ما تتم له الأمور
وكيف يتم ماعَقدُوا وراموا ... وأسُ بنائهم منه الفجُور
أهَابَ إلى الضلال بهم غَوي ... وشيطان مواعده غرور
يصيب بهم ويلعب كل لعب ... كمالعبت بشاربها الخمور
وكادوا الحق والمأمون غدرا ... وليس بمفلح أبداً غَدُور
هوالعدل النجيب البَرُّفينا ... تضمن حبه مِنا الصدور
وعاقبة الأمور له يقينا ... به شهد الشريعة والزبور
فيملِك أربعينَ لها وفاء ... تتم به الأهلةُ والشهور
فكيدوا أجمعين بكل كيد ... وكيدكم له فيه السسرور
وبلغ محمداً فجمع قواده وبطانته عندما ظهر من أمر طاهر، وشاورهم وقال: أحضروا لي غناءكم كما أحضرت خراسان لعبد اللّه غناءها، وكانت كما قال أعشى ربيعة:
ثم ما هابوا ولكن قدموا ... كبش غارات إذا لاقى نَطح
أما والله حدَثْتُ بأحاديث الأمم السالفة، وقرأت كتب حروبها وقصص من أقام دولها، فما رأيت في حديثهم حديثاً لرجل منهم - وأبي - كهذا الرجل في إقدامه وسياسته، وقد قصدني وأجترأ عليَّ، وتملى الهامة العظيمة من الجند ومجمع القواد وساسة الحروب، فهاتوا اليوم ما عندكِم، فقالوا: يُبْقِي الله أمير المؤمنين، يكفيه كما كَفَى الخلفاء قبله بَغيَ من بَغى عليهم.
ولما انهزم جيش محمد بين يدي طاهر، ولم يقم له قائمة منهم قال سليمان بن أبي جعفر: لعن الله الغدار، ماذا جلب على الأمة بغدره وسوء رأيه، وأبعد الله نسبه من أهل الفضل، ما أسْرَعَ ما أنتصر اللّه للمأمون بكبش المشرق يعنى طاهراً وفي ذلك يقول الشاعر:
تبا لدى الآثام والمتزندق ... ماذا دَعَاه إلى العظيم الموِبِقِ

والغدر بالبر الزكيِّ أخي التقى ... والسائس المأمون غير الأخرق
زين الخلافة والإمامة والنهى ... أهل السماحة والندى المتدفق
أن تغدروا جهلاً بوارث أحمد ... ووصِي كل مُسدَّدٍ وموفّق
فالله للمأمون خير مُوَازر ... والماجد القممام كبش المشرق
من الأمين إلى طاهر بن الحسين
ولما أحيط بمحمد من الجانب الشرقي والغربي، وكان هرثمة بن أعْيَنَ نازلا مما يلي النهروان بالقرب من باب خراسان، وثلاثة أبواب، وطاهر من الجانب الغربي مما يلي الياسرية وباب المحول والكُنَاسة، جمع قواده فقال: الحمد للّه الذي يَضَعُ من يشاء بقدرته ويرفع، والحمد لله الذى يعطى بقدرته من يشاء ويمنع، والحمد لله الذي يقبض ويبسط وإليه المصير، أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الحال، وكسوف البال، وصلى. اللّه على محمد رسوله وآله وسلم، وقال: إني لأفارقكم بقلب مُوجَع، ونفس حزينة، وحَسْرَة عظيمة، وأني محتال لنفسي، فأسأل الله أن يلطف بي بمعونته، ثم كتب إلى طاهر: أما بعد، فإنك عبد مأمور تنصحت فنصحت، وحاربت فنصرت وقد يُغْلَب الغالب، ويخذل المفلح، وقد رأيت الصلاح في معاونة أخي، والخروج إليه من هذا السلطان، إذا كان أولى به وأحَق، فأعطِنِي الأمان على نفسي وولدي وأمي وجدتي وخدمي وحاشيتي وأنصاري وأعواني حتى آخرج إليك وأتبرأ من هذا الأمر إلى أخي، فأن رأى الوفاء لي بأمانك، وإلا كان أولى وأحق، قال: فلما قرأ طاهر الكتاب قال: الأن لما ضيق خناقه، وهِيض جناحه، وانهزم فسَّاقُه، لا والذي نفسي بيده حتى يضع يده في يدي، وينزل على حكمي، فعند ذلك كتب إلى هرثمة يسأله النزول على حكم أمانه.
وقد كان المخلوع جَهَزَ جماعة من رجاله من الأبناء وغيرهم ممن استأمن إليه لدفع المأمونية عنه، فمالوا نحو هرثمة، وكان طاهر بن الحسين يمد هرثمة بالرجال، ولم يلق هرثمة مع ذلك كثيرَ كَيْدٍ، فلما مال مَنْ ذكرنا إلى حرب هرثمة وعلى الجيش بشر وبشير الأزْديان بعث إليهما طاهر يتوعَدُهما، فلم يأمنا صَوْلته، لإشرافه على الفتح، فخليا عن الجيش وأنفضَّ الجمع، وكان طاهر قد نزل في البستان المعروف بباب الكباش الطاهري، ففي ذلك يقول بعض العَيارين من أهل بغداد ومن أهل السجون:
لنا من طاهر يومٌ ... عظيم الشأن والخَطْب
علينا فيه بالأنجا ... د عن هَرْثمه الكَلْبِ
منا لأبي الطيب ... يوم صادق الكَرْبِ
أتاه كل طرار ... ولص كان ذا نقب
وعريان على جنبيه ... آثار من الضرْبِ
إذا ما حل من شرق ... أتيناه من الغَرْبِ
وضاق الأمر بمحمد الأمين ففرق في قُوَّاده المحدَثِينَ دون غيرهم خمسمائة ألف درهم وقارورة غالية، ولم يُعْطِ قدماء أصحابه شيئاً، فأتت طاهراً عيونه وجواسيسه بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعَدَهم ومَناهم، وأغرى الاصاغر بالقادة حتى غضبوا لذلك، وشَغَّبُوا على الأمين، وذلك يوم الاربعاء لست ليال خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائه، فقال رجل من المشعَبة على الأمين:
قل لأمين الناس في نفسه ... ما شَتّتَ الجُنْد سوى الغاليه
وطاهر نفسي فى طاهربرُسْلِه والعدَّةِ الكافيِه
أضحى زِمَائم الملك في كفه ... مقابلا للفئة الباغيه
يا ناكثاً أسْلَمه نكثه ... عيوبه من حيَنْه فاشيه
قدجاءك الليث بشداته ... مستكلباً في أسُدٍ ضاريه
فاهرب فلا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاويه
ونقل طاهر من الياسرية، فنزل بباب الأنبار، وحاصر أهل بغداد، وغادى القتال وراوحَهُ، حتى تواكل الفريقان، وخربت الديار، وعفت الآثار، وغلت الأسعار، وذلك في سنة ست وتسعين ومائة، وقاتل الأخ أخاه، والابن أباه، هؤلاء محمدية وهؤلاء مأمونية، وهدمت المنازل،وأحرقت الديار، وانتهبت الأموال، فقال الأعمى في ذلك المعروف بعده بن أبي طالب:
تقطعت الأرحام بين العشائر ... وأسلمهم أهل التقى والبصائر
فَذَاكَ انتقام الله من خلقه بهم ... لما اجترموه من ركوب الكبائر

فلا نحن أظهرنا من الذنب توبة ... ولا نحن أصلحنا فساد السرائر
ولم نستمع من واعظ ومُذَكَرَ ... فينجع فينا وعْظُ ناه وآمر
فنبكي على الإسلام لما تقطعت ... رجاه، ورَجّى خَيْرَهَا كل كافر
فأصبح بعض الناس يقتل بعضهم ... فمن بين مقهور ذليل وقاهر
وصاررئيس القوم يحمل نفسه ... وصار رئيساً فيهمُ كُلُّ شاطر
فلا فاجر للبريحفظ حرمة ... ولا يستطيع البَر دفعاً لفاجر
فمن قائم يدعو إلى الجهد عامدا ... ومن أول قد سن عنا لآخر
تراهم كأمثال الذئاب رأت دَما ... فأمتهُ لا تلوي على زجر زاجر
إذا هم الأعداء أول منزل ... بسعيهمُ قاموا بِهَدْم الأواخر
فأصبحتِ الأغتام بين بيوتهم ... تَحًثهم بالمرْهفات البَواتر
وأصبح فُسَّاق القبائل بينهم ... تشدُّ على أقرانها بالخناجر
فنبكي لقتلى من صديق ومن أخ ... كريم، ومن جار شفيق مجاور
ووالدة تبكي بحزن على ابنها ... فيبكي لها من رحمةٍ كلُّ طائر
وذات حليل أصبحت وهْيَ أيم ... وتبكي عليه بالدموع البوادر
تقول له: قد كنت عزاً وناصراَ ... فَغُيِّبَ عني اليوم عِزَي وناصري
وأبْتُ لإحراق وهدْم منازل ... وقتل وإنهاب اللُّهى والذخائر
وإبراز رَبات الخدور حَوَاسراً ... خرجن بلا خُمْرٍ ولا بمآزر
تراهَا حَيارى ليس تعرف مذهباً ... نوافر أمثال الظباء النوافر
كأن لم تكن بغداد أحسن منظراً ... ومَلْهًى رأته عينُ لاهِ ونَاظر
بلى، هكذا فإذهب حسنها ... وبدَّر منها الشمل حكَم المقادر
وحَلَّ بهم ما حَل بالناس قبلهم ... فأضحوا أحاديثاً لِبَادٍ وحاضر
أبغداد، يا دار الملوك، ومجتنى ... صنوف المنى، يا مستقرَّ المنابر
ويا جنة الدنيا، ويا مَطْلَبَ الغنى ... ومستنبط الأموال عند المتاجر
أبيني لنا: أين الذين عهدتهم ... يحلون في روض من العيش زاهر؟
وَأين الملوك في المواكب تغتدي ... تشبه حسناً بالنجوم الزواهر؟
وأين القُضَاة الحاكمون برأيهم ... لورد أمور مشكلات الأوامر؟
أو القائلون الناطقون بحكمة ... وَرَصْفِ كلام من خطيب وشاعر
وأين مراح للملوك عهدتها ... مزخرفة فيهاصنوف الجواهر
تُرَشُّ بماء المسك وَالوَرْد أرضها ... يفوح بها من بعد ريح المجامرِ
ورَاحَ الندامى فيه كل عشية ... إلى كل فَياضٍ كريم العناصر
ولهو قِيان تستجيب لنغمها ... إذا هو لَبَّاهَا حنين المزاهر
فما للملوك الغُرِّمن آل هاشم ... وأشياعهم فيها اكتفوا بالمفاخر
يروحون في سلطانهم وكأنهم ... يروحون في سُلْطان بعض العشائر
تخاذل عما نَالهُمْ كبراؤهم ... فَنَالهُمُ بالكره أيدي الأصاغر
فأقسم لوأن الملوك تَنَاصَرُوا ... لَذَلًتْ لها خوفاً رقاب الجبابر

وبعث هرثمة بن أعين بن زهيربن المسيب الضبي من الجانب الشرقي، فنزل الماطر مما يلي كالواذا، وَعَشّر ما في السفن من أموال التجار الواردة من البصرة وواسط، ونصب على بغداد المنجنيقات، ونزل في رقة كلواذا والجزيرة، فتأذى الناس به، وصمد نحوه خلق من العَيَّارين وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عُرَاةً في أوساطهم التبابين والميازر، وقد أتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص وسموها الخوذ، وَدرَقاً من الخوص والبواري قد قُيِّرَت وحشيت بالحصى والرمل، على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل في مرتبة من المركوب على مقدارما تحت يده،فالعريف له أناس مركبهم غير ما ذكرنا من المقاتلة، وكذلك النقيب والقائد والأمير، ونادى عُرَاة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصوف الأحمر والأصفر، ومقاود قد اتخذت لهم، ولجم وأذناب من مكانس ومَذَابَّ، فيأتي العريف وقد أركب واحداً وقدامه عشرة من المقاتلة على رؤوسهم خوذ الخوص وَعَرَقُ البواري، ويأتي النقيب والقائد والأمير كذلك، فتقف النظارة يتظرون إلى حربهم مع أصحاب الخيول الفرةِ الجواشن والدروع والتجافيف والسواعد والرماح والدرق التبتية، فهؤلاء عراة وهؤلاء على ما ذكرنا من العدَة فكانت للعُرَاة على زهير، وأتاه المدَدُ من هرثمة، فأنهزمت العُرَاة، ورمت بهم خُيُولُهم، وتحاصروا جميعاً، وأخذهم السيف، فقتل منهم خلق، وقتل من النظارة خلق، فقال في ذلك الأعمى، وذكر رَمْيَ زهير بالمنجنيق:
لا تقرب المنجنيق والحَجَرَا ... وقد رأيت القتيل إذ قبرا
بَاكَرَكيلا يفوته خبر ... راح قَتِيلاوخَلّفَ الخبرا
أرادا ألا يقال: كان لهم ... أمر، فلم يدر ما به أمرا
ياصاحب المنجنيق مافعلت ... كفاك؟ لم تُبْقِيا ولم تذرا
كان هواه سوى الذي أمراهيهات أن يغلب الهوى القدرا فلما ضاق الأمر بالأمين في أرْزَاقِ الجند ضرب أنية الذهب والفضة سِراً، وأعطى رجاله، وتحيز إلى طاهر الحربيةُ وغيرها من الأرباض مما يلي باب الأنبَار، وباب حرب، وباب قطر بل، فصارت الحرب في وسط الجانب الغربي، وعملت المنجنيقات بين الفريقين، وكثر الحريق وَالهَدْم ببغداد وَالكَرْخ وغيره من الجانبين، حتى درست محاسنها، واشتد الأمر، وتنقل الناس من موضع إلى موضع، وعم الخوف، فقال الشاعر:
من ذا أصابَكِ يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زماناً قُرة العين؟
ألم يكن فيك قوم كان قربهمُ ... وَكان مسكنهم زيناً من الزين؟
صَاحَ الزمان بهم بالبين فانقرضوا ... ماذا لقيت بهم من لوعة البين؟
أستورع اللّه قَوْماً ماذكرتهمُ ... إلاتحدَّرَماء الدمع من عيني
كانوا ففرقهم دهروَصَدعهم ... والدهريصدع ما بين الفريقين
ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين أربعةَ عَشَرَ شهراً، وضاقت بغداد بأهلها، وتعطلت المساجد، وتركت الصلاة، ونزل بها ما لم ينزل بها قط مثله، مذ بناها أبو جعفر المنصور، وقد كان لأهل بغداد في أيام حرب لمستعين والمعتز حرب نحو هذا من خروج العًيّارين إلى الحرب وقد أتخذوا خيلاً منهم وأمراء كالملقب بنينويه خالويه وغيرهم، يركب الواحد منهم على واحد من العَيَّارين ويسير إلى الحرب في خمسين ألف عُرَاة، ولم ينزل بأهل بغداد شر من هذا الحرب حرب المأمون والمخلوع، وقد استعظم أهل بغداد ما نزل بهم في هذا الوقت في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة من خروج أبي إسحاق المتقي للّه عنهم، وما كان قبل هذا الوقت من البريديين، وابن رائق وتوزون التركي، وما دفعوا إليه من الوَحْشَة بخروج أبي محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد اللّه بن حمدان الملقب بناصر الدولة، وأخيه علي بن عبد اللهّ الملقب بسيف الدولة عليهم، لبعد العهد مما حلَّ بالمنازل بها، وطول السنين، وغيبة ذلك عنه وبُعْدِهم منه، وتقدم مثل أولئك العيارين الذين كانوا في ذلك العصر، واشتد الأمر بين المأمونية والعراة وغيرهم من أصحاب المخلوع، وَحُوصِر محمد في قصره من الجانب الغربي، فكان بينهم في بعض الأيام وقعة تَفانى فيها خلق كثير من الفريقين، فقال في ذلك حُسَيْن الخليع:

لنا النصر بعون الله ... والكَرَّة لا الفرَّهْ
وللمرَّاقِ أعدائك ... يَوْمُ السُّوء وَالبرهْ
وكأس تلفظ الموت ... كريه طعمها مرهْ
سَقَوْنَا وسقيناهم ... ولكن لهم آخرهْ
أمينَ اللِّه ثق باللَّه ... تُعْطَ الصبر وَالنُّصْرَهْ
كِل الأمر إلى اللّه ... كَلاكَ اللَّه ذو القدْرِهْ
كذاك الحرب أحْياناً ... علينا ولنا مَرَهْ
وقعة دار الرقيق
وكانت وقعة آخرى عظيمة بشارع دار الرقيق هلك فيها خلق كثير، وكثر القتل في الطرق والشوارع، ينادي هذا بالمأمون والأخر بالمخلوع، ويقتل بعضهم بعضاً، وأنتهبت الدور، فكان الفوز لمن نجا بنفسه من رجل وامرأة بما يسلم معه إلى عسكر طاهر فيأمن على نفسه وماله، وفي ذلك يقول الشاعر:؟؟؟
بَكَتْ عيني عَلَى بغداد لما ... فَقَدْت غضارة العيش الأنيق
تَبذَلنا هموماً من سرور ... ومن سَعَةِ تَبَدًلنا بضيق
أصابتنا من الحُسَّادِ عَين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قصرا ... ونائحة تَنُوح عَلَىغريق
وصائحة تنادي: يا صحابى ... وقائلة تنادي: يا شقيقي
وَحَوْرَاء المدامع ذات دل ... مُضَمًخَة المجاسد بالخلُوق
تنادي بالشفيق، فلا شفيق ... وقد فقد الشفيق مع الرفيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا ... متاعهمُ يباع بكل سُوق
ومغترب. بعيد الدار ملْقًى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسَطَ من قتالهكمُ جميعاَ ... فما يَدرُونَ من أي الفريق
فلا ولد يقيم عَلَى أبيه ... وقد هرب الصديق عن الصديق
ومهما أنسَ من شيء تَوَلى ... فأني ذاكر دار الرقيق
صرامة العراة
وسأل قائد من قوَاد خراسان طاهراً أن يجعل له الحرب في يومها له فيه، ففعل طاهر له ذلك، فخرج القائد وقد حقرهم، وقال: ما يبلغ من كيد هؤلاء، ولا سلاح معهم، مع ذوي البأس والنجدة والسلاح والعدَّة، فبصر به بعض العراة وقد راماه مدة طويلة حتى فنيت سهام القائد، وظن أن العريان فنيت حجارته، فرماه بحجر بقيت في المخلاة، وقد حمل عليه القائد، فما أخطأ عينه، وثناه بحجرآخر، فكاد يصرع القائد عن فرسه، ووقعت البيضة عن رأسه، فكَر راجعاً وهو يقول: ليس هؤلاء بناسٍ، هؤلاء شياطين، ففي ذلك يقول أبويعقوب الخريمي:
الكَرْخ أسواقُه مُعَطَّلَة ... يستن عَيًارُهَا وعابرها
خَرَّجَتِ الحربُ من أراذلهم ... أسُود غِيل عَلَتْ قساورها
وقال علي الأعمى :
خَرًجَتْ هذه الحُرُوبُ رجال ... لا لقحطان، لا، ولا لنزار
معشر في جواشن الصوف يغدو ... ن إلى الحرب كالليوث الضوَارِي
ليس يدْرُونَ ما الفرار إذا ما ... الأبطال عاذوا من الفنا بالفرَار
واحد منهمُ يشدُ على الذين ... عرْيان ما له من إ زَار
ويقول الفتى إذا طعن الطعنة: ... خُذْهَا من الفتى العيارِ
الوقائع الحاسمة
واشتَدّ القتال في كل يوم، وصبر الفريقان جميعاً، وصار حامية المخلوع وجنده العُرَاة أصحاب خُوَذ الخوص ودرق البواري، وضايق طاهر القوم، وأقبل يقتطع من بغداد الشارع بعد الشارع، ويصير في حيزه أهل تلك الناحية معاونين له في حربه، وأقبل الهدم يكثر فيما ليس من حيزه، ثم جعل يحفر الخنادق بينه وبين أصحاب المخلوع في مواضع الدور والمنازل والقصور، وأصحاب طاهر في قوة وإقبال، وأصحاب المخلوع في نقص وإدبار، وأصحاب طاهر يهدمون، وأصحاب المخلوع يأخذون بعض الدور من خشب وأثواب وغير ذلك، وينهبون المتاع، فقال رجل من المحمدية:
لنا كل يوم ثلمة لانسدُّهَا ... يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هَدَمُوا داراً أخذنا سُقُوفها ... ونحن لأخرى مثلها نتربص

يثيرون بالطبل القنيص، وإن بدا ... لهم وَجْهُ صيدٍ من قريب تقنَّصوا
وقد أفسدوا شرق البلاد ... وغربها علينا فما ندْرِي إلى أين نشخص
إذا حَضَرُوا قالوا بما يبصرونه ... وإن لم يروا شيئاً قبيحاً تخرصوا
وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ... وما قتل المقتول إلا المرخص
ولما نظرطاهر إلى صبر أصحاب المخلوع على هذه الحال الصعبة قطع عنهم مَوَادَّ الأقوات وغيرها من البصرة وواسط وغيرهما من الطرق، فكان الخبز في حد المأمونية عشرين رطلاً بدرهم، وفي حد المحمدية رطل بدرهم.، وضاقت النفوس وَأيسُوا من الفرج، واشتد الجوع، وسر من سار إلى حيز طاهر، وأسف من بقي مع المخلوع، وتقدم طاهر في سائر أصحابه من مواضع كثيرة، وقصد باب الكباش فأشتدَ القتال، وتبادرت الرؤوس، وعمل السيف والنار، وصبر الفريقان، وكان القتل أعم في أصحاب طاهر، وَفَني خلق من العراة أصحاب مخالى الحجارة والآجر وخوذ الخوص ودرق الحصر والبواري ورماح القصب وأعلام الخرق وبوقات القصب وقرون البقر، وكان ذلك في يوم الأحد، ففي ذلك يقول الأعمى:
وقعة يَوْم الأحد ... كانت حَدِيثَ الأبد
كم جَسَدٍ أبَصرته ... مُلْقًى وكم من جَسَدِ
وناظر كانت له ... مَنية بالرصد
أتاه سَهْمٌ عائر ... فَشَقَّ جوف الكبدِ
وآخر ملتهب ... مثل التهاب الأسد
وقائل: قد قتلوا ... ألفاً ولمَّا يَزِدِ
فقائل: أكثر، بل ... مالهُمُ من عدد
قلت لمطعون وفيه ... طعنة لم تئد؟
من أنت، ياويلك يا ... مسكين من محمد
فقال: لامن نسب ... دَان، ولا من بلد
ولاأنا للغي قا ... تَلْتُ ولا للرَّشَد
ولا لشيء عاجل ... يصيرمنه في يدي
ولما ضاق بمحمدٍ الحال واشتدَ به الحصار أمر قائداً من قواده يقال له ذريح أن يتبع أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم، وقَرَن معه آخر يعرف بالهرش، فكانا يهجمان على الناس، ويأخذان بالظنَة، فأجتبيا بذلك السبب أموالاً كثيرة، فهرب الناس بعلة الحج، وَفَر الأغنياء من ذريح والهرش ففي ذلك يقول علي الأعمي:
أظهروا الحج وما يَبْغُونَه ... بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة ... رَكَضَ الليل عليهم بالعَطَبْ
كل مَنْ زار ذريح بيته ... لَقِيَ الذل ووافاه الحَرث
في شعر له طويل.
ولما عَمَّ البلاد أهل الستر أجتمع التجار بالكرخ على مكاتبة طاهر أنهم ممنوعون منه ومن الخروج إليه، ومغلوبٌ عليهم وعلى أموالهم، وأن العُرَاة والباعة هم آلافة، فقال بعضهم: أنكم أن كاتبتم طاهراً لم تأمنوا صَوْلة المخلوع بذلك، فدعوهم فإن اللّه مهلكهم، وقال قائلهم:
دعوا أهل الطريق فعن قريب ... تنالهمُ مخاليب الهَصُورِ
فتهتك حُجْبَ أكباد شداد ... وشيكا ما تصير إلى القبور
فإن اللّه مهلكهم جميعاً ... لأسباب التمرد والفجور
وثارت العُرَاة ذات يوم في نحو مائة ألف بالرِّماح والقصب والطرادات من القراطيس على رؤوسها، ونفخوا في بوقات القصب وقرون البقر، ونهضوا مع غيرهم من المحمدية، وزحفوا من مواضع كثيرة نحو المأمونية، فبعث إليهم طاهر بعدة قُوَّاد وأمراء من وجوه كثيرة، فأشتد الجلاد، وكثر القتل، وكانت للعُرَاة على المأمونية إلى الظهر، وكان يوم الأثنين، ثم ثارت المأمونية على العُرَاة من أصحاب محمد، فغرق منهم وقتل وأحرق نحو عشرة آلاف، وفي ذلك يقول الشاعر الأعمى:
بالأمير الطاهربن الحسين ... صبحُونَا صبيحة الأثنين
جمعوا جمعهم فثار إليهم ... كل صُلْب القناة والساعدين
يا قتيل العُرَاة مُلْقَى على الشط ... تَطَاهُ الخيول في الجانيين
ما الذي كان في يديك إذا ما ... اصطلح الناس أية الخلتيْنِ

أوزير أم قائد، بل بعيد ... أنت من ذين موضِعَ الفرْقَدَين
كم بَصِير غدا بعينين كي ... ينظر ما حالهم فراح بعين
ليس يخطُونَ ما يريدون، ما إن ... يقصدوا منهمُ سوى الناظرين
واشتد الأمر بمحمد المخلوع، فباع ما في خزائنه سراً، وفرق ذلك أرزاقاً فيمن معه، ولمِ يبق معه ما يعطيهم، وكثرت مطالبتُهم أياه، وضيق عليه طاهر، وكان نازلاً بباب الأنبار في بستان هنالك، فقال محمد: وورت أن اللّه قتل الفريقين جميعاًَ، فما منهم إلا عدو، مَنْ مَعِي، ومن عليُّ، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي، وقال:
تَفَرَّقوا ودَعُوني ... يا معشرالأعوان
فكلكم ذو وجوه ... كثيرة الألوان
وما أرى غيرإ فْكٍ ... وتُرهات الأماني
ولست أملك شيئاً ... فسألوا إخواني
فالويل فيما دهاني ... أني من نازل البستان
يعني طاهربن الحسين.
ولما اشتدَّ الأمر عليه وجدّ به ونزل هرثمة بن أعين بالجانب الشرقي، وطاهر بالجانب الغربي، وبقي محمد في مدينة أبي جعفر، شاور من حضره من خواصه في النجاة بنفسه، فكل أدلى برأى، وأشار بوجه، فقال قائل منهم: تكاتب ابن الحسين وتحلف له بما يثق به أنك مفوض أمرك إليه، لعله أن يجيبك إلى ما تريد منه، فقال: ثكلتك أمك! لقد أخطأت الرأي في طلبي المشورة منك، أما رأيت ثار رجل لا يؤول إلى عذر. وهل كان المأمون لو اجتهد لنفسه وتولّى الأمر برأيه بالغاً عُشْرَ ما بلغه له طاهر. ولقد د سَسْت وفحصتُ عن رأيه، فما رأيته يطلب إلا تأثيل ر المكارم وبُعْدَ الصيت والوفاء، فكيف أطمع في استذلاله بالأموال وفي غدره والاعتماد في عقله؟ ولو قد أجاب إلى طاعتي وأنصرف إلي، ثم ناصَبَنِي جميعُ الترك والديلم ما اهتممت بمناصبتهم، ولكنت كما قال أبو الأسود الدؤلي في الأزد عند إجارتها زياد بن أبيه:
فلمّا رآهم يطلبون وزيره ... وساروا إلية بعد طول تَمَارِ
أتى الأزْدَ إذ خاف التي لا بَقَالها ... عليه، وكان الرأي رأي زياد
فقالوا له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... أصَبْتَ فكاشِفْ من أرَدْتَ وعَادِ
فأصبح لا يخشى من الناس كلهم ... عدواً، ولو ما لوا بقوة عاد

واللّه لوددت أنه أجابني إلى ذلك بأبحته خزائني، وفَوَّضْتُ إليه ملكي، ورضيت بالمعاش تحت يديه، ولا أظنني مُفْلِته، ولوكانت لي ألف نفس. فقال السندي: صدقت واللّه يا أمير المؤمنين، ولو أنك أبوه الحسين بن مصعب ما استبقاك، فقال محمد: وكيف لنا بالخلاص إلى هَرْثَمة ولات حين مناص؟ وراسلَ هرثمة، ومال إلى جنبته، فوعده هرثمة بكل ما أحب، وأنه يمنعه ممن يريد قتله، وبلغ ذلك طاهراً، فأشتد عليه وزاد غيظه وحنقه، ووعده هرثمة أن يأتيه في حَرَّاقة إلى مَشْرَعة باب خراسان فيصير به إلى عسكره هو ومن أحب، فلما همَّ محمد بالخروج في تلك الليلة - وهي ليلة الخميس، لخمس ليال بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة - دخل إليه الصعاليك من أصحابه، وهم فتيان الأبناء والجند، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ليس معك من ينصحك، ونحن سبعة آلاف رجل مقاتلة، وفي إصطبلك سبعة آلاف فرس يحمل كل منه على فرس وتفتح بعض أبواب المدينة، ونخرج في هذه الليلة، فما يُقْدِم علينا أحد إلى أن نصير إلى بلد الجزيرة وديار ربيعة، فَنجْبِي الأموال، ونجمع الرجال، ونتوسط الشام، وندخل مصر، ويكثر الجيوش والمال، وتعود الدولة مقبلة جديدة، فقال: هذا واللّه الرأي، فعزمِ على ذلك وهَمَّ. به وجَنَح إليه، وكان لطاهر في جوف دار الأمين غلمان وخدَم من خاصة الأمين يبعثون إليه بالأخبار ساعة فساعة، فخرج الخبر إلى طاهر من وقته، فخاف طاهر، وعلم أنه الرأي أن فعله، فبعث إلى سليمان بن أبي جعفر وإلى ابن نهيك والسندي بن شاهك - وكانوا مع الأمين - أن لم تزيلوه عن هذا الرأي لأخربَنَ دياركم وضياعكم ولأزيلًنّ نعمكم. ولأتلفنَّ نفوسكم، فدخلوا على الأمين في ليلتهم، فأزالوه عن ذلك الرأي، وأتاه هرثمة في الحرَّاقة إلى باب خراسان، ودعا الأمين بفرس يقال له الزهيري، أغر محجل أدهم محذوف، ودعا الأمين بابنيه موسى وعبد اللهّ فعانقهما وشمهما وبكى، وقال: اللّه خليفتي عليكما، فلست أدري أألتقي معكما بعدها أو لا،وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود وقُدامه شمعة، حتى أتى باب خراسان إلى المشْرَعة والحراقة قائمة فنزل ودخل الحراقة، فقبَّل هرثمة بين عينيه، وقد كان طاهر نمي إليه خروجه، فبعث بالرجال من الهرَوِية وغيرهم والملاحين في الزوارق على الشط، فدفعت الحراقة، ولم يكن مع هرثمة عدة من رجاله، فأتى أصحاب طاهر عُرَاة فغاصوا تحت الحراقة فأنقلبت بمن فيها، فلم يكن لهرثمة شاغل إلا أن نجا بِحُشَاشة نفسه، فتعلق بزورق وصعد إليه من الماء ومضى إلى عسكره من الجانب الشرقي، وشق محمد ثيابه عن نفسه وسَبَحَ فوقع نحو السراة إلى عسكر قرين الديراني غلام طاهر، فأخذه بعض السواس حين شم منه رائحة المسك والطيب، فأتى به قريناً فأستاذن فيه طاهراً، فأتاه الإذن في الطريق وقد حمل إلى طاهر، فقتل في الطريق وهو يصيح: إنا للّه وإنا إليه راجعون،أنا ابن عَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأخو المأمون، والسيوفُ تأخذه حتى بَرَدَ، وأخذوا رأسه، وكانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة.

وذكر أحمد بن سلام - وقد كان مع الأمين في الحَراقة حين انقلبت - فسبح فقبض عليه بعض أصحاب طاهر وأرادا قتله، فأرغبه في عشرة آلاف درهم، وأنه يحملها إليه في صبيحة تلك الليلة، قال: فأدخلتُ بيتاً مظلماً فبَيْنَاأنا كذلك إذ دخل عَليَ رجل عُرْيان عليه سراويل وعمامة قد تلثم بها، وعلى كتفه خِرْقَة، فجعلوه معي، وتقدموا إلى مَنْ في الدارفي حفظنا، فلما استقر في الدار حَسَر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إلي ثم قال: أيهم أنت؟. قلت:أنا مولاك يا سيدي، قال: وأي الموالي أنت، قلت: أحمد بن سلام، قال: أعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرّقة، قلت: نعم، يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي، قال: أدنُ مني وَضُمَنِي إليك فأني أجد وَحْشَة شديدة، قال: فضممته إليَ، فإذا قلبه يخفق خفقاناً شديداً، ثم قال: أخْبِرْنِي عن أخي المأمون أحَي هو؟ قلت له: فهذا القتال عمن أذَن؟ قال: قبحهم اللّه، ذكروا أنه مات، قلت: قبح اللّه وزراءك! فهم أوردوك هذا الموْرِدَ، فقال لي: يا أحمد ليس هذا موضع عتاب، فلا تقل في وزرائي إلا خيراً فما لهم ذنب، ولست بأول مَنْ طلب أمراً فلم يقدر عليه، قلت: ألبس إزاري هذا وَارْم بهذه الخرقة التي عليك، فقال: يا أحمد مَنْ كان حاله مثل حالي فهذه له كثير، ثم قال لي: يا أحمد ما أشُكُّ أنهم سيحملونني إلى أخي أفَترَى أخي قاتلي؟ قلت: كلا، أن الرحم ستعطفه عليك، فقال لي: هيهات؟! الملك عقيم لا رحم له، فقلت له: أن أمان هرثمة أمان أخيك، قال فلقنته الأستغفار وذكر اللّه، فبينا نحن كذلك إذ فتح باب البيت فدخل علينا رجل عليه سلاح فاطلَع في وجه محمد مستثبتاً له، فلما أثبته معرفَةً خرج وأغلق الباب، وإذا هومحمد الطاهري، قال: فعلمت أن الرجل مقتول، وقد كان بقي عَلَيَّ من صرتي الوتر، فخفت أن أقتل ولم أوتر، فقمت لأوتر، فقال لي: يا أحمد لا تبعد منّي وَصَل بقربي، فأني أجد وَحْشَة شديدة، فدنوت منه، فقلً ما لبثنا حتى سمعنا حركة الخيل وَدقَّ باب الدار، ففتح الباب فإذا قوم من العجم بأيديهم السيوف مُصْلَتة، فلما أحَسَ بهم محمد قام قائماً وقال: إنا لله وأنا إليه راجعون، ذهبت واللّه نفسي في سبيل اللّه، أما من حيلة؟ أما من مُغِيث؟ وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضاً ة فأخذ محمد بيده وسادة وجعل يقول: أنا ابن عمّ رسول الله،أنا ابن هارون الرشيد،أنا أخو المأمون، الله الله في دمي، فدخل عليه رجل منهم مولى لطاهر فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوساة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذا السيف من يده، فصاح بالفارسية: قتلني الرجل، فدخل منهم جماعة فنَخَسَه أحدهم بسيفه في خاصرته، وَكَبُّوه فذبحوه من قَفاه، وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر.
وقد قيل في كيفية قتله غير هذا، وقد أتينا على التنازع في ذلك في الكتاب الأوسط.
وأتى بخادمه كوثر وكان حَظِيّه، معه الخاتم وَالبُرْدُ والسيف والقضيب، فلما أصبح طاهر أمر برأسه فنصب على باب من أبواب بغداد يعرف بباب الحديد نحو قُطْربلَ في الجانب الغربي، إلى الظهر، ودُفنت جثته في بعض تلك البساتين.

ولما وضع رأس الأمين بين يدي طاهر قال: اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاءُ، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزمن تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، أنك على كل شيء قدير وَحُمِل الرأس إلى خراسان إلى المأمون في منديل والقطنُ عليه والأطْلِيَةُ، فاسترجع المأمون وبكى واشتد تأسفه عليه، فقال له الفضل بن سهل: الحمد لله يا أمير المؤمنين على هذه النعمة الجليلة، فإن محمداً كان يتمنى أن يراك بحيث رأيته، فأمر المأمون بنصب الرأس في صَحْنِ الدار على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس، فقبض بعض العجم عَطَاءه، فقيل له: العن هذا الرأس، فقال: لعن اللّه هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا من أمهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين، وذلك بحبث يسمعه المأمون منه فتبَسَّمَ وتغافل، وأمر بحَطِّ الرأس، وترك ذلك المخلوع، وطيب الرأس وجعله في سَفَطٍ، وردهُ إلى العراق فدفن مع جثته، ورحم اللّه أهل بغداد وخلصهم مما كانوا فيه من الحصار والجزع والقتل، ورثاه الشعراء، وقالت زبيمة أم جعفر والدته:
أودى بإلفك من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا
لًمّا رأيتُ المنايا قد قَصَدْنَ له ... أصَبْنَ منه سواد القلب وَالراسا
فبتُ متكئاً أرْعَى النُّجُومَ لَه ... إخَال سنته في الليل قِرْطَاسَا
والموت دان له، وَالهَم قارنه ... حتى سَقَاه التي أودت بها الكَاسَا
رزئته حين بَاهَيْتُ الرِّجَال به ... وقد بنيت به للدهرأساسا
فليس مَنْ مات مَردوداً لنا أبداً ... حتى يَرُدَّ علينا قبله نَاسَا
ورَثَتْهُ زوجته لُبَابة ابنة علي بن المهدي، ولم يكن دخل بها، فقالت:
أبكيك لا للنعم وَالأنس ... بل للمعالي والسيف والترس
أبكي على سيد فُجِعْتُ به ... أرْمَلَنِي قبل ليلة العرس
يا مالكاً بالعَرَاءِ مُطَّرَحا ... خانته أشْرَاطه مع الحرس
ولما قتل محمد دخل إلى زبيدة بعضُ خدمها، فقال لها: ما يجلسك وقد قتل أمير المؤمنين محمد،! فقالت: وَيْلَك!! وما أصنع؟ فقال: تخرجين فتطلبين بثأره كما خرجَتْ عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: أخسأ لا أم لك، ما للنساء وطلب الثِّأْر ومنازلة الأبطال؟ ثم أمرت بثيابها فسودت، ولبست مسحاً من شَعَرٍ، ودعت بدواة وقرطاس، وكتبت إلى المأمون:
لخير إمام قام من خيرعُنْصُر ... وَأفضل رَاق فوق أعواد منبر
ووارث علم الأولين وفخرهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كَتَبْتُ وعيني تستهلُّ دموعُهَا ... إليك ابن عمي من جُفُوني ومحجري
أصِبْتُ بأدنى الناس منك قرابة ... وَمَنْ زال عن كبدي فقَلَّ تَصبرِي
أتى طاهر، لا طهَرَ الله طاهراً، ... وما طاهر في فعله بمُطهَر
فأبرزني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهبَ أموالي وَآخربَ أدؤري
يعزُّعَلَى هارون ما قد لَقِيتُهُ ... وما نالذي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسْدَى لأمر أمرته ... صبرتُ لأمرمن قديرمقدَر
فلما قرأ المأمون شعرها بكى ثم قال: اللهم إني أقول كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه لما بلغه قتلُ عثمان: والله ما قتلت، ولا أمرت، ولا رضيت اللهم جلَلْ قلب طاهرحزنَاً! قال المسعودي: وللمخلوع أخبار وسير غير ما ذكرنا قد أتينا عليها في كتابينا في أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الكتاب، والله - سبحانه - ولي التوفيق.
/ذكر خلافة المأمون

وبويع المأمونُ عبدُ اللّه بن هارُونَ الرشيد، وكُنْيته أبو جعفر، وأًمه باذغيسية، واسمها مراجل، وقيل: إن كُنْيته أبو العباس، وهو ابن ثمان وعشرين سنةً وشهرين، وتوفي بالبديدون على عين القشيرة، وهي عين يخرج منها النهر المعروف بالبديدون، وقيل: إن اسمها بالرومية أيضاً رقة، وحُمِلَ إلى طرسوس، فدفن بها على يسار المسجد، سنة ثمانيَ عَشَرَةَ ومائتين، وهو ابن تسع وأربعين سنةً، فكانت خلافته إحدى وعشرين سنة، منها أربعة عشر شهراً كان يحارب أخاه محمد بن زُبَيدَةَ على ما ذكرنا، وقيل: سنتان وخمسة أشهر، وكان أهل خُرَاسَان في تلك الحروب يُسَلَمُون عليه بالخلافة، وَيًدْعَى له على المنابر في الأمصار والحرمين والكور والسهل والجبل مما حَوَاه طاهر وَغَلَبَ عليه، وسلِّم على محمدٍ بالخلافة مَنْ كان ببغداد خاصة لا غيرها.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
المأمون والفضل بن سهل
وغلب على المأمون الفَضْلُ بن سهل، حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، فقتله، وادعى قوم أن المأمون دَسَّ عليه من قتله، ثم سلّم عليه الوزراء بعد ذلك: منهم أحمد بن خالد الأحول، وعمرو بن مَسْعَدَة، وأبو عبادة، وكل هؤلاء سلّم عليهم برسم الوزارة.
ومات عمرو بن مَسْعَدَة سنة سبع عشرة ومائتين، فعرض لماله، ولم يعرض لمال وزير غيره.
وغلب على المأمون آخراً الفَضْلُ بن مروان، ومحمد بن يزداذ.
علي بن موسى الرضا
وفي خلافته قبض علي بن موسى الرضا مسموماً بِطُوس، ودُفن هنالك وهو يومئذ ابن تسع وأربعين سنةً وستة أشهر، وقيل غير ذلك.
المأمون وعمه إبراهيم
وهجا المأمونَ إبراهيمُ بن المهدي المعروف بابن شكلَة عَمُّه، وكان المأمون يظهر التشيع، وابن شِكْلَة التسنن، فقال المأمون:
إذا المُرْجِيُّ سَرَّكَ أن تراه ... يَمُوتُ لحينه من قبل مَوْتهْ
فَجدد على ذِكْرى عَليٍّ ... وَصَلِّ عَلَى النبيِّ وآل بيته
فأجابه إبراهيم رَادّاً عليه:
إذا الشِّيعِيُّ جَمْجَمَ في مَقَالٍ ... فَسَرَّكَ أن يبوح بذات نَفْسِهْ
فَصَلِّ عَلَى النبيِّ وَصَاحِبَيْهِ ... وَزِيرَيْهِ وَجَارَيْهِ بِرَمْسِهْ
ولِإبراهيم بن المهدي مع المأمون أخبار حسان، هي موجودة في كتاب الأخبار لِإبراهيم بن المهدي.
المأمون وأبو دلف
ودخل أبو دُلَف القاسمُ بن عيسى الْعِجْلِيُّ على المأمون، فقال له: يا قاسم، ما أحْسَنَ أبياتَكَ في صفة الحرب، ولذاذتَكَ بها، وزهدك في المغنيات! قال: يا أمير المؤمنين، أي أبيات هي؟ قال: قولك:
لِسَلِّ السيوف وشَقِّ الصفوف ... ونَفْض التراب وضرب الْقُلَلْ
قال: ثم ماذا يا قاسم؟ قال:
ولبس العَجَاجة والخافقات ... تُريِكَ المنايا بروس الأسَلْ
وقد كشفَتْ عن شَبَا نابها ... عروس المنية بين الشعَلْ
وجاءت تَهَادىَ وأبناؤها ... كأنَّ عليهم شُرُوقَ الطفَلْ
خَروس نَطُوق إذا استنطقت ... جهول يطيش على من جهل
إذا خطبت أخذت مهرها ... رؤوسا تساقَطُ بين القُلَلْ
ألذ وأشهر من المسمعات ... وشرب المدامة في يوم طَلّ
أنا ابن الحسام وتِرْبُ الصِّفَاح ... ورَيْب المنون وقرب الأجل
ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه لذتي مِع أعدائك، وقوَتي مع أوليائك، ويدي معك، ولئن استلَذَّ مستلذ شيئاً من المعاقرة مِلْتُ إلى المصادمة والمحاربة، قال: يا قاسم، إذا كان هذا النمط من الأشعار شأنك واللذة لذتك فما ذا تركت للوسنان مما خلفت، وأظهرت له من قليل ما سترت؟ قال: يا أمير المؤمنين، وأي أشعاري؟ قال: حيث تقول:
أيها الرِاقد المؤرِّقُ عيني ... نَمْ هنيئاً لك الرقاد اللذيذ
عَلِمَ اللَه أنَ قلبيَ ممَّا ... قد جنت مُقْلَتَاكَ فيه وَقيذُ
قال: يا أمير المؤمنين، سهوة بعد سهرة غلبت، وذلك قسم متقدم، وهذا ظن متأخر، قال: يا قاسم، ما أحسن ما قال صاحبُ هذين البيتين:

أذمُّ لك الأيامَ في ذات بيننا ... وما للَيَالي في الذي بيننا عُذْرُ
إذا لم يكن بين المحبين زَوْرَة ... سوى ذكر شيء قد مضى درَسَ الفكر
قال أبو دلف: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين!! هذا السيد الهاشمي والملك العباسي، قال: وكيف أدَتْكَ الفطنة، ولم تداخلك الظنَة، حتى تحقّقْتَ أني صاحبهما، ولم يداخلك الشك فيهما، قال: يا أمير المؤمنين، إنما الشعر بساط صوف، فعن خَلَط الشعر بنقيِّ الصوف ظهر رونقه عند التصنيف، ونار ضوءه عند التأليف.
من كلمات المأمون
وكان المأمون يقول: يغتفر كل شيء إلا القَدْح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال المأمون: أخرِ الحرب ما استطعت، فإن لم تجد منها بداً فاجعلها في آخر النهار.
وذكر أنه من كلام أنوشروان.
وكان المأمون يقول: أعْيَتِ الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدْبر، وإذا، أدبر أن يُقْبل.
ولما تأتى الملك للمأمون وخلص قال: هذا جسيم لولا أنه عديم، وهذا ملك لولا أنه بعده هُلْك، وهذا سرور لولا أنه غرور، وهذا يوم لو كان يوثق بما بعده.
وكان المأمون يقول: البشر مَنْظَرٌ مُونق، وخَلْقٌ مشرق، وزارع للقلوب، وحلٌّ مألوف، وفضل منتشر، وثناء بسيط، وتحَف للأحرار، وفَرْعٌ رحيب، وأول الحسنات، وذريعة إلى الجاه، وأحمد للشِّيَم، وباب لرضا العامة، ومفتاح لمحبة القلوب.
وكان المأمون يقول: سادة الناس في الدنيا الأسْخِياء، وفي الآخرة الأنبياء وإن الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة طعام على ميزاب البخل، لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان قميصاً ما لبسته.
وحضر المأمون إملاكاًً لبعض أهل بيته، فسأله بعض مَنْ حضر أن يخطب، فقال: الحمد للّه، الحمد اللّه، والصلاة على المصطفى رسول اللّه، وخَيْرُ ما عُمِلَ به كتابُ اللّه، قال اللّه تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقَرَاء يُغْنِهم اللّه مِن فضله، واللّه واسع عليم " ولو لم يكن في المناكحة آية محكمة ولا سنة مُتّبعة إلا ما جعل اللّه في ذلك من تأليف البعيد والقريب لَسَارَعَ إليه الموفَّقُ المصيب، وبادر إليه العاقل النجيب، وفلان مَنْ قد عرفتموه في نسب لم تجهلوه، خَطَب إليكم فتاتكم فلانة، وبذل لها من الصداق كذا وكذا، فشفّعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيراً تحمدوا عليه وتؤجَرُوا، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم.
بين ثمامة ويحيى بن أكثم عند المأمون
وذكر ثُمَامَةُ بن أشْرَسَ قال: كنا يوماً عند المأمون، فدخل يحيى بن أكثم - وكان قد ثقل عليه موضعي منه - فتذاكرنا شيئاً من الفقه، فقال يحيى في مسألة دارت: هذا قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وجابر، قلت: أخطأوا كلهم، وأغفلوا وجه الدلالة، فاستعظم مني ذلك يحيى وأكبره، وقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يخطِّئ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم، فقال المأمون: سبحان اللّه!! أكذا يا ثُمَامة؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يبالي ما قاله ولا ما شَنَّع به، ثم أقبلت عليه فقلت: ألست تزعم أن الحق في واحد عند اللّه عزّ وجلّ. قال: نعم، قلت: فزعمت أن تسعة أخطأوا وأصاب العاشر، وقلت أنا: أخطأ العاشر، فما أنكرت. قال: فنظر المأمون إلي وتبسمَ، وقال: لم يعلم أبو محمد أنك تجيب هذا الجواب، قال يحيى: وكيف ذلك؟ قلت: ألست تقول: إن الحق في واحد. قال: بلى، قلت: فهل يخلِي اللّه عزّ وجلّ هذا الحق من قائل يقول به من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: أفليس من يخالفه ولم يقل به فقد أخطأ عندك الحق؟ قال: نعم، قلت: فقد دخلت فيما عِبْتَ، وقلت بما أنكرت وبه شنعت، وأنا أوضح دلالة منك، لأني خطأتهم في الظاهر، وكل مصيب عند اللّه الحق، وإنما خطأتهم عند الخلاف، وأدَّتْنِى الدلالة إلى قول بعضهم، فخطأت من خالفني، وأنت خطأت من خالفك في الظاهر وعند اللّه عزّ وجلّ.
وفد الكوفة والمأمون

وقدم وَفْدً الكوفة إلى بغداد، فوقفوا للمأمون، فأعْرَضَ عنهم، فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين، يدُكَ أحق يدٍ بتقبيل، لعلوها في المكارم، وبعدها من المآثم، وأنت يوسفي العفو في قلة التَّثرِيب، مَنْ أرادك بسوء جعله اللّه حَصِيدَ سيفك، وطريد خوفك، وذليل دولتك، فقال: يا عمرو، نِعْمَ الخطيب خطيبهم، اقْض حوائجهم فقضيت.
المأمون والزنادقة ومعهم طفيلي
وذكر ثُمَامة بن أشْرَسَ قال: بلغ المأمون خبر عشرة من الزنادقة ممن يذهب إلى قول مانِي، ويقول بالنور والظلمة، من أهل البصرة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سُمُّوا واحداً واحداً، فلما جًمِعُوا نظر إليهم طُفَيْلي فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخل في وَسَطهم، ومضى معهم، وهو لا يعلم بشأنهم، حتى صار بهم الموكلون إلى السفينة، فقال الطفيلي: نزهة لا شك فيها، فدخل معهم السفينة، فما كان بأسرع من أن جيء بالقًيُود، فقيد القوم والطفيلي معهم، فقال الطفيلي: بلغ أمر تطفيلي إلى القيود، ثم أقبل على الشيوخ فقال: فَدَيْتكم أيش أنتم؟ قالوا: بل أيش أنت. ومن أنت من إخواننا؟ والله ما أثري غير أني واللّه رجل طفيلي خرجت في هذا اليوم من منزلي فلقيتكم فرأيت منظراً جميلاً وعَوَارِضَ حسنة وبزة ونعمة فقلت: شيوخ وكهول وشَبَابٌ جمعوا لوليمة، فدخلت في وسطكم، وحاذبت بعضكم كأني في جملة أحدكم، فصرتم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فُرِش بهذا الفرش ومهد ورأيت سفراً مملوءة وجُرُباً وسلالاً، فقلت: نزهة يمضون إليها إلى بعض القصور والبساتين، إن هذا اليوم مبارك، فابتهجت سروراً، إذ جاء هذا الموكل بكم فقيدكم وقيدني معكم، فورد علي ما قد أزال عقلي، فأخبروني ما الخبر، فضحكوا منه وتبسموا وفرحوا به وسُرُّوا، ثم قالوا: الآن قد حصلت في الِإحصاء، وأوثقت في الحديد، وأما نحن فمانية غُمز بنا إلى المأمون، وسندخل إليه، ويسائلنا عن أحوالنا، ويستكشفنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة والرجوع عنه بامتحاننا بضروب من المحن: منها إظهار صورة ماني لنا، ويأمرنا أن نَتْفُلَ عليها، ونتبرأ منها، ويأمرنا بذبح طائر ماء، وهو الحُّرَّاج، فمن أجابه إلى ذلك نجا، ومن تخلف عنه قتل، فإذا دعيت وامتحنت فأخبر عن نفسك واعتقادك على حسب ما تؤدِّيك الدلالة إلى القول به، وأنت زعمت أنك طفيلي، والطفيلي يكون معه مدَاخلات وأخبار، فاقْطَعَ سَفَرَنا هذا إلى مدينة بغداد بشيء من الحديث وأيام الناس، فلما وصلوا إلى بغداد وأدخلوا على المأمون جعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلًا فيسأله عن مذهبه، فيخبره بالِإسلام، فيمتحنه ويدعوه إلى البراءة من ماني ويظهر له صورته، ويأمره أن يَتْفُلَ عليها والبراءة منها، وغير ذلك، فيأبون، فيمرهم على السيف، حتى بلغ إلى الطفيلي بعد فراغه من العشرة، وقد استوعبوا عدة القوم، فقال المأمون للموكلين: مَنْ هذا. قالوا: واللّه ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به، فقال له المأمون: ما خبرك؟ قال: يا أمير المؤمنين، امرأتي طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئاً، وإنما أنا رجل طفيلي، وقَصَ عليه خبره من أوله إلى آخره، فضحك المأمون، ثم أظهر له الصورة، فلعنها وتبرأ منها، وقال: أعطونيهَا حتى أسْلَحَ عليها، واللّه ما أدري ما ماني: أيهودياً كان أم مُسْلماً، فقال المأمون: يؤدَّبُ على فرط تطفله ومخاطرته بنفسه.
إبراهيم بن المهدي يتطفل
وكان إبراهيم بن المهدي قائماً بين يدي المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ لي ذنبه وأحدثك بحديث عجب في التطفيل عن نفسي، قال: قل يا إبراهيم.

قال: يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً فمرت في سِكَكِ بغداد متطرفاً، حتى انتهيت إلى موضع، فشممت رائحة أبازير من جناح في دار عالية، وقدور قد فاح قتارها، فتاقت نفسي إليها، فوقفت على خيّاط فقلت: لمن هذا الدار. فقال: لرجل من التجار من البزازين، قلت: ما اسمه. قال: فلان بن فلان، فرفعت طرفي إلى الجناح، فإذا فيه شباك، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك وَمِعْصَم ما رأيت أحْسَنَ منهما قط، فشغلني يا أمير المؤمنين حُسْنُ الكف والمعصم عن رائحة القدور، فبقيت باهتاً وقد ذُهِلَ عقلي، ثم قلت للخياط: هو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، ولا ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فأنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الحرب، فقال لي الخياط: هذان منادماه، قلت: ما أسماهما. وما كُنَاهُمَا؟ فقال: فلان وفلان، فحركت دابتِي حتى دخلت بينهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأ كما أبو فلان أعَزَّه اللّه، وسايرتهما حتى انتهينا إلى الباب، فَقَدَّمَانِي، فدخلت وَدَخَلا، فلما رآني صاحبُ المنزل لم يَشُك إلا أني منهما بسبيل، فرحَّبَ وأجلسني في أجَلَ موضع، فجيء يا أمير المؤمنين بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، ثم رفع الطعام فغسلنا أيدينا، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنْبَلُ مجلس وَأجَلُ فرش، وجعل صاحب المجلس يلطف بي ويقبل عليَّ بالحديث، والرجلان لا يشكان أنه مني بسبيل، وإنما كان ذلك الفعل منه بي لمَا ظَنَّ أني منهما بسبيل، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية تتثنى كأنها غُصْنُ بَانٍ، فسلّمت غير خَجِلَة، وهيئت لها وسادة، وأتي بعُودٍ فوضع في حجرها، فجسًتْهُ فتبينت الحذق في جسها، ثم اندفعت تغني:
توهَّمها طَرْفِي فآلَمَ خَدَّها ... فصار مكان الوهم من نظري أثْرُ
وَصافحها كَفِّي فآلم كفها ... فمن لَمْس كفي في أناملها عقرُ
ومَرَّتْ بقلبي خاطراً فجرحتها ... ولم أر شيئاً قَط يَجْرحُه الفكر
فهيجت واللّه يا أمير المؤمنين عليّ بلابلي، وطربت لحسن غنائها وحذقها، ثم اندفعت تغني:
أشَرْتُ إليها: هل علمت مودتي ... فردَّتْ بطرف العين: إني على العهد
فحدث عن الإِظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإِظهار أيضاً على عمد
فصحت: السلامة، وجاءني من الطرب ما لا أملك معه النفس ولا المصبر، واندفعت تغني:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلَّمُ
سوى أعْيُنٍ تشكو الهوى بجفونها ... وترجيع أحشاء على النار تضرم
إشارة أفواه وغَمْزً حواجب ... وتكسير أجفان وكفّ يسلّم
فحسدتها واللّه يا أمير المؤمنين على حِذْقها، ومعرفتها بالغناء، وإصابتها معنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأته، فقلت: بقي عليك يا جارية شيء، فغضبت وضربت بعودها الأرض، ثم قالت: متى كنتم تُحْضِرُون مجالسكم البُغَضَاء؟ فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم قد تغيروا إليَّ، فقلت: أليس ثَمَّ عُودٌ؟ قالوا: بلى يا سيدنا، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ما أردت، واندفعت أغني:
ما للمنازل لا يُجِبْنَ حزينا؟ ... أصممن أم بَعُدَ المَدَى فبلينا؟
رَاحُوا العشيَّةَ روحة مذكورة ... إن متن متن، وإن حيين حيينا
فما استتممته جيداً حتى خرجت الجارية فأكَبَّتْ على رجلي تقبلها، وهي تقول: المعذرة واللهّ لك يا سيدي، فما سمعت مَنْ يغني هذا الصوت مثلك، وقام مولاها وكل من كان عنده فصنعوا كصنعها، وطرب القوم، واستحثوا الشرب فشربوا بالطاسة ثم اندفعت أغني:
أبا للّه هل تُمْسِينَ لا تذكرينني ... وقد سَجمَتْ عيناي من ذكرك الدَمَا
إلى اللّه أشكو بُخْلَهَا وسَمَاحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
فردِّي مصَاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى اللّه أشكو أنها أجنبية ... وأنِّي لها بالود ما عشت مكرما

فجاء من طرب القوم يا أمير المؤمنين ما خشيت أن يخرجوا من عقولهم، فأمسكت ساعة، حتى إذا هدأ القوم اندفعت أغني الثالثة:
هذا محبك مَطْوِيٌّ على كمده ... صَبٌّ مدامعُه تجري على جَسدهْ
له يَدٌ تسأل الرحْمنَ راحته ... مما به ويَدٌ أخرى على كبده
يا من رأى كَلِفاً مستهتراً أسفاً ... كانت منيته في عينِهِ ويده
فجعلت الجارية يا أمير المؤمنين تصيح: السلامة، هذا واللّه الغناء يا مولاي، وسكر القوم، وخرجوا من عقولهم، وكان صاحب المنزل جيد الشراب ونديماه عونه، فأمر غلمانه مع غلمانهم بحفظهم وصرفهم إلى منازلهم، وخلوت معه فشربنا أقداحاً، ثم قال: يا سيدي، ذهب واللّه ما خَلَا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولاي. فلم يزل يلح عليّ حتى أخبرته فقام فقبل رأسي، وقال: يا سيدي، وإني أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وإذا أنا منذ اليوم مع الخلافة ولا أعلم، وسألني عن قصتي وكيف حَمَلْتُ نفسي على ما فعلته، فأخبرته خبر الطعام والكف والمعصم، فقال: يا فلانة، لجارية له، قولي لفلانة تنزل، فجعل ينزل إليَّ جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفها وأقول: ليست هي، حتى قال: واللّه ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلِنَّهُما إليك، فعجبت من كرمه وسَعَةِ صدره، فقلت له: جعلت فداك، أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون صاحبتي، فقال: صدقت، ففعل، فلما رأيت كفَهَا ومعصمها قلت: هي هي، جعلت فداك، فأمر غلمانه من فَوْرِه فصاروا إلى عشرة مشايخ من جِلّةِ جيرانهم فأحضروا، وجيء ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثم قال: هذه أختي فلانة، وأنا أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلتُ النكاح، ودفعت إليها البدرة الواحدة، وفرقت الأخرى على المشايخ، وقلت لهم: اعذروا فهذا الذي حضرني في هذا الوقت، فقبضوها وانصرفوا، ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت تنام مع أهلك، فأحْشَمَنِي واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيت من كرمه وسعة صدره، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي، فقال: افعل ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاق عنه بعض دوري.
فتعجب المأمون من كرم ذلك الرجل، وأطلق الطفيلي، وأجازه بجائزة حسنة وأمر إبراهيمَ بإحضار ذلك الرجل، فصار بعدُ من خواص المأمون وأهل مودته، ولم يزل معه على أفضل الأحوال السارة في المنادمة وغيرها.
؟إسحاق الموصلي وكلثوم العتابي عند المأمون

وذكر المبرد وثعلب قالا: كان كلثوم العَتَابي واقفاً بباب المأمون، فجاء يحيى بن أكثم، فقال له العتَّابي: إنْ رأيت أن تعلم أمير المؤمنين بمكاني، قال: لست بحاجب، قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل مِعْوَانٌ، قال: سلكت بي غير طريق، قال: إن اللّه قد ألحقك بجاه ونعمة منه، فهما مقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، وبالتقتير إن كفرت، وأنا لك اليوم خَيْرٌ منك لنفسك، أدعوك لما فيه زيادة نعمتك وأنت تأبى ذلك، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بَذْلُه للمستعين، فدخل يحيى فأخبر المأمون الخبر، فأدخل إليه العتابي، وفي المجلس إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأمره بالجلوس، وأقبل يسأله عن أحواله وشأنه، فيجيبه بلسان ناطق، فاستظرفه المأمون، وأخذ في مُدَاعبته، فظن الشيخ أنه قد استخَص به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإِيناس قبل الإِبساس، فاشتبه عليه قولُه، فنظر إلى إسحاق فغمزه بعينه ثم قال: ألف دينار، فأتى بها فوضعت بين يدي العَتَّابي، ثم دعا إلى المفاوضة، وأغْرَى المأمونُ إسحاقَ بالعبث به، فأقبل إسحاق يعارضه في كل باب يذكره ويزيد عليه، فعجب منه، وهو لا يعلم أنه إسحاق، ثم قال: أيأذن أمير المؤمنين في مسألة هذا الرجل عن اسمه ونسبه. فقال: افعل، فقال له العتابي: من أنت. وما اسمك. قال: أنا من الناس واسمي كل بصل! فقال له العتابي: أما النسبة فقد عرفت، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقَلّ إنصافَكَ، وما كلثوم؟ والبصل أطيب من الثوم، قال العتابي: قاتلك اللّه! ما أمْلَحَكَ!! ما رأيت كالرجل حلاوة، أفيأذن أمير المؤمنين في صِلَته بما وصلني به فقد واللّه غلبني، فقال له المأمون: بل ذلك مُرَفّر عليك ونأمر له بمثله، فانصرف إسحاق إلى منزله، ونادمه بقية يومه.
العتابي
وكان العتابي من أرض جند قنسرين والعواصم، وسكن الرقة من ديار مُضَرَ، وكان من العلم والقراءة والأدب والمعرفة والترسل وحسن النظم للكلام وكثرة الحفظ وحسن الإِشارة وفصاحة اللسان وبراعة البيان وملوكية المجالسة وبراعة المكاتبة وحلاوة المخاطبة وجَوْدَة الحفظ وصحة القريحة على ما لم يكن كثير من الناس في عصره.
وذكر أنه قال: كاتبُ الرجل لسانُه، وحاجبه وَجْهُه، وجليسه كله، ونظم في ذلك شعراً، فقال:
لسان الْفَتَى كاتبه ... وَوَجْهُ الفتى حاجبه
وَنَدْمَانه كلُّه ... وكل له واجبه
وذكر عنه أنه قال: إذا وليت عملاً فانظر مَنْ كاتبك، فإنما يعرف مقدارك مَنْ بعد عنك بكاتبك، واستعقل حاجبك، فإنما يقضي عليك الوفود قبل الوصول إليك بحاجبك، واستكرم واستظرف جليسك ونديمك، فإنما يُوزَنُ الرجل بمن معه.
بين كاتب ونديم
وقد فاخر كاتب نديماً فقال الكاتب: أنا معونة وأنت مؤونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للذة، وأنا للحرب وأنت للسلم، فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للنقمة، وأنا للحُظْوَة وأنت للمهنة، وتقوم وأجلس، وتحتشم وأنا مؤنس، تدأب لحاجتي، وتَشْقَى بما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين، وأنا قرين وأنت تابع، وإنما سميت نديماً للنَّدَم على مفارقتي.
وللعتابي أخبار حسان، وتصنيفات مِلَاحٌ، في ذكرها خروجٌ عما إليه قصدنا، ونحوه يَمَّمنا، وإنما ذكرنا عنه هذه الفصول لتغلغل الكلام بنا إليها وتشعبه نحوها.
رجل يرفع قصة للمأمون

وحكى الجوهري عن العتبي، عن عباس الديري، قال: رفع رجل قصة إلى المأمون، وسأله أن يأذن له في الدخول عليه، والاستماع منه، فأذن له، فدخل فسلّم، فقال له المأمون: تكلم بحاجتك، قال: أخبر أمير المؤمنين أن مصائب الدهر وأعاجيب الأيام ومحن الزمان قصدتني فأخذت مني ما كانت الدنيا أعطتني، فلم تبق لي ضيعة إلا خربت ولا نهر إلا اندقر، ولا منزل إلا تهدَّمَ، ولا مال إلا ذهب، وقد أصبحْتُ لا أملك سَبَداً ولا لَبَداً، وعليً دَيْن كثير، ولي عيال وأطفال وصبية صغار، وأنا شيخ كبير، قد قَعَدَت بي المطالب، وكبرت عني المكاسب، وبي حاجة إلى نظر أمير المؤمنين وعطفه، قال: فبينما هو في الكلام إذ ضرَطَ، فقال: وهذا يا أمير المؤمنين من عجائب الدهر ومحنته، ولا واللّه ما ظهر مني قط إلا في موضعه، فقال المأمون لجلسائه: ما رأيت قط أقوى قلباً ولا أرْبَطَ جأشاً ولا أشَدَّ نفساً من هذا الرجل، ثم أمر له بخمسين ألف درهم مُعَجًلة.
المأمون وأبو العتاهية
قال أبو العتاهية: وَجَّه إليَّ المأمون يوماً فصِرْتُ إليه، فألفيته مُطْرِقاً متفكراً مغموماً، فأحجمت عن الدنو إليه وهو على تلك الحال، فرفع رأسه وأشار بيده: أن ادْنُ، فدنوت، فأطْرَقَ ملياً ثم رفع رأسه فقال: يا إسماعيل، شأن النفس الملَلُ، وحُبًّ الاستطراف، والأنس بالوحدة، كما نأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت شعر، قال: وما هو؟ قلت:
لا يُصْلح النَّفْسَ إذ كان مُصَرّفة ... إلا التنقُّلُ من حال إلى حال
قال: أحسنت زدني، فقلت: لا أقدر على ذلك، وآنسته بقية يومه، وأمر لي بمال، فانصرِفت.
المأمون ورجل عامي
ويحكى أن المأمون أمر بعض خواصِّهِ من خَدَمِه أن يخرج فلا يرى أحداً في الطريق إلا أتى به كائناً مَنْ كان من رفيع أو خسيس، فأتاه برجل من العامة، فدخل وعنده المعتصم أخوه ويحيى بن أكثم ومحمد بن عمرو الرومي، وقد طبخ كل واحد منهم قِدْراً، فقال محمد بن إبراهيم الطاهري للرجل العامي: هؤلاء من خواص أمير المؤمنين فأجبهم عما يسألون، فقال المأمون: إلى أين خرجت في هذا الوقت وقد بقي عليك من الليل ثلاث ساعاتٍ؟ فقال: غرني القمر، وسمعت تكبيراً فلم أشك أنه أذان، فقال له المأمون: اجلس، فجلس، فقال له المأمون: قد طبخ كل واحد منا قِدْراً هو ذا يقدِّمُ إليك من كل واحد منها قَدْراً فذق ذلك فأخبر عن فضائلها وما ترى من طيبها، فقال: هاتوا، فقدمت في طبق كبير كلها موضوعة عليه لا تمييز بينها، ولكل واحدة ممن طبخها علامة، فبدأ فذاق قِدْراً طبخها المأمون فقال: زه، وأكل منها ثلاث لقمات، وقال: أما هذه فكأنها مسكة وطباخها حكيم نظيف ظريف مليح، ثم ذاق قدر المعتصم، فقال: هذه واللّه فكأنها والأولى من يد واحدة خرجَتَا، وبحكمة متساوية طبختا، ثم ذاق قدر محمد بن عمرو الرومي فقال: وهذه قِدْرُ طباخٍ ابن طباخ أجاد، ما أحكمه، ثم ذاق قدر يحيى بن أكثم القاضي فأعرض بوجهه، وقال: شه، هذه واللّه جعل طباخها فيها مكان بصلها خرا، فضحك القوم وذهب بهم الضحك كلَّ مَذْهَب، وقعد يحادثهم ويطايبهم ويتلهَّى معهم، وطابوا معه، فلما برق الفجر قال له المأمون: لا يخرجَنَّ منك ما كنا فيه، وعلم أنه علم بهم، فوَصَله بأربعة آلاف دينار، وقَسَّط له على أصحاب القدور كل واحد منهم على قدر مرتبته، وقال: إياك أن تعود إلى الخروج في مثل هذا الوقت مرةَ أخرى، فقال: لا أعدمكم الله الطبيخ ولا أعدمني الخروج، فسألوه عن تجارته، وعرفوا منزله، وجعل يعدُّ في خدمة المأمون وخمدة الجميع، وصار في جملتهم.
عيّ المأمون عن جواب ثلاثة

وحدث أبو عباد الكاتب - وكان خاصّاً بالمأمون قال: قال لي المأمون: ما أعياني إلا جواب ثلاثة أنفس: صرت إلى أم ذي الرياستين أعزيها عنه فقلت: لا تأسَيْ عليه ولا تَحْزَنِي لفقده، فإن اللّه قد أخْلَفَ عليك مني ولداً يقوم لك مقامه، فمهما كنت تنبسطين إليه فيه فلا تنقبضين عني منه، فبكت، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد أكسبني ولداً مثلك. وأتيت برجل قد تنبأ فقلت له: مَنْ أنت؟ قال: موسى بن عمران عليه السلام، فقلت: ويحك!! إن موسى بن عمران عليه السلام كانت له آياتٌ ودلالاتٌ بَانَ بها أمره، منها أنه ألقى عصاه فابتعلت كَيْدَ السَّحَرة، ومنها إخراجه يَدَه من جيبه وهي بيضاء، وجعلت أعدد عليه ما أتى به موسى بن عمران عليه السلام من دلائل النبوة، وقلت له: لو أتيتني بشيء واحدٍ من علاماته أو آية من آياته كنت أول من آمن بك، وإلا قتلتك، فقال: صدقت، إلا أني أتيت بهذه العلامات لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى، فإن قلت أنت كذلك أتيتك من العلامات بمثل ما أتيته به، والثالثة أن أهل الكوفة اجتمعوا يَشْكُونَ عاملاً كنت أحمد مذهبه وأرتضي سيرته، فوجَّهت إليهم إني أعلم سيرة الرجل، وأنا عازم على القعود لكم في غداة غَدٍ، فاختاروا رجلاً يتولى المناظرة عنكم، فأنا أعلم بكثرة كلامكم، فقالوا: ما فينا من نرتضيه لمناظرة أمير المؤمنين، إلا رجل أطروش، فإن صبر أمير المؤمنين عليه تفضل بذلك، فوعدتهم الصبر عليه، وحضروا من الغد، فأمرت بالرجال فدخلوا والأطروش، فلما مثل بين يديَّ أمرتهم بالجلوس، ثم قلت له: ما تشكون من عاملكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو شر عامل في الأرض، أما في أول سنة ولينا فإنا بعنا أثاثاتنا وعَقَارنَا، وفي السنة الثانية بعنا ضياعنا وذخائرنا، وفي السنة الثالثة خرجنا عن بلدنا فاستغثنا بأمير المؤمنين ليرحم شكوانا ويطَوَّلَ علينا بالأمر بصَرْفِه عنا، فقلت له: كذبت لا أمان لك، بل هو رجل أحمدْتُ سيرتَهُ ومذهبه، وارتضيت دينه وطريقته، واخترته لكمِ لمعرفتي بكثرة سخطكم على عمالكم، قال: يا أمير المؤمنين، صدقْت وكذبْت أنا! ولكن هذا العامل الذي ارتضيت دينه وأمانته وعفته وعدله وانصافه، كيف خصصتنا به هذه السنين دون البلاد التي قد ألزمك اللّه عز وجل من العناية بأمورها مثل ما ألزمك من العناية بأمرنا؟ فاستعمله على هذه البلاد حتى يشملهم من إنصافة وعدله مثل الذي شملنا، فقلت له: قم في غير حفظ الله، فقد عزلته عنكم.
مناظرة المأمون للفقهاء

وكان يحيى بن أكثم يقول: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء، فإذا حضر الفقهاء ومَنْ يناظره من سائر أهل المقالات أُدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا أخفافكم، ثم أحضرت الموائد، وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب وجَددوا الوضوء، ومن خُفّه ضيق فلينزعه، ومن ثقلت عليه قَلَنْسوته فليضعها، فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وطيبوا، ثم خرجوا فاستدناهم حتى يدنوا منه، ويناظرهم أحسن مناظرة، وأنْصَفَهَا وأبعدَهَا من مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس، ثم تُنْصَبُ الموائد الثانية فيطعمون وينصرفون، قال: فإنه يوماً لَجَالِسٌ إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة، ويطلب الدخول للمناظرة، فقلت: إنه بعض الصوفية، فأردت بأن أشير أن لا يؤذن له، فبدأ المأمون فقال: ائذن له، فدخل رجل عليه ثيابٌ قد شمرها ونعله في يده، فوقف على طرف البساط فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال المأمون: وعليك السلام، فقال: أتأذن لي في الدنو منك. قال: ادْن، فدنا، ثم قال: اجلِسْ، فجلس، ثم قال: أتأذن في كلامك. فقال: تكلم بما تعلم أن للّه فيه رِضاً، قال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت قد جلسته أباجتماع من المسلمين عليك، ورضاً منك، أم بالمغالبة لهم والقوة عليهم بسلطانك؟ قال: لم أجلسه باجتماع منهم ولا بمغالبة لهم، إنما كان يتولَّى أمر المسلمين سلطان قبلي أحْمَدَه المسلمون إما على رضا وإما على كره، فعقد لي ولآخر معي ولاية هذا الأمر بعده في أعناق مَنْ حضرهُ من المسلمين، فأخذ على من حضر بيتَ الله الحرام من الحاجِّ البَيْعَةَ لي ولآخر معي فأعطوه ذلك إما طائعين وإما كارهين، فمضى الذي عقد له معي على هذه السبيل التي مضى عليها، فلما صار الأمر إليَّ علمت أني أحتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على الرضا، ثم نظرت فرأيت أني متى تخلّيْتُ عن المسلمين اضطرب حبل الإِسلام ومرج عهدهم، وانتقضت أطرافه، وغلب الهرج والفتنة، ووقع التنازع، فتعطلَتْ أحكام اللّه سبحانه وتعالى، ولم يحجَّ أحد بيته، ولم يجاهد في سبيله، ولم يكن لهم سلطان يجمعهم ويَسُوسهم، وانقطعت السبل، ولم يؤخذ لمظلوم من ظالم، فقمت بهذا الأمر حياطة للمسلمين، ومجاهداً لعدوهم، وضابطاً لسبلهم، وآخذاً على أيديهم إلى أن يجتمع المسلمون على رجل تتفق كلمتهم على الرضا به فأسلِّم الأمر إليه، وأكون كرجل من المسلمين، وأنت أيها الرجل رسولي إلى جماعة المسلمين، فمتى اجتمعوا على رجل ورَضُوا به خرجت إليه من هذا الأمر، فقال: السلام عليكم ورحمة اللهّ وبركاته، وقام، فأمر المأمون علي بن صالح الحاجب بأن ينفذ في طلبه مَنْ يعرف مقصده، ففعل ذلك، ثم رجع وقال: وَجَّهت يا أمير المؤمنين من اتبع الرجل فمضى إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاً في هيئته وزيه فقالوا له: لقيت الرجل. فقال: نعم! قالوا: فما قال لك. قال: ما قال لي إلا خيراً، ذكر أنه ضَبَطَ أمور المسلمين إلى أن تأمن سُبُلُهم، ويقوم بالحج والجهاد في سبيل اللّه، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ولا يعطل الأحكام، فإذا رضي المسلمون برجل سلّم الأمر إليه وخرج منه، وقالوا: ما نرى بهذا بأساً، وافترقوا، فأقبل المأمون على يحيى، فقال: كفينا مؤونة هؤلاء بأيسر الخطب، فقلت: الحمد للّه الذي ألهمك يا أمير المؤمنين الصواب والسداد في القول والفعل.
يحيى بن أكثم قاضي البصرة
قال المسعودي: وكان يحيى بن أكثم وقد ولي قضاء البصرة قبل تأكد الحال بينه وبين المأمون، فرفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه، فقال المأمون: لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، قالوا: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر، واستفاض ذلك عنه، وهو القائل يا أمير المؤمنين في صفة الغِلْمَان وطبقاتهم ومراتبهم في أوصافهم قوله المشهور فقال المأمون: وما الذي قال. فدفعت إليه القصة فيها جُمَلٌ مما رمى به وحكى عنه في هذا المعنى، وهو قوله:
أربعة تَفْتِنُ ألحاظهم ... فعين من يَعْشَقهم ساهره
فواحد ذنياه في وجهه ... منافق ليست له آخره
وآخر دنياه مفتوحة ... من خَلْفِهِ آخره وافره

وثالث قد حاز كلتيهما ... قد جمع الدنيا مع الآخره
ورابع قد ضاع ما بينهم ... ليست له دنيا ولا آخره
فأنكر المأمون ذلك في الوقت واستعظمه، وقال: أيكم سمع هذا منه؟ قالوا: هذا مستفاض من قوله فينا يا أمير المؤمنين، فأمر بإخراجهم عنه، وعَزَلَ يحيى عنهم.
وفي يحيى وما كان عليه بالبصرة يقول ابن أبي نعيم:
يا ليت يحيى لم يلده أكْثَمُهْ ... ولم تطأْ أرضَ العراق قَدَمُهْ
ألْوَط قاضٍ في العراق نَعْلَمه ... أي دواة لم يلفها قلمه
وأي شِعْبٍ لم يَلِجْهُ أرقمه
وضرب الدهر ضرباته فاتصل يحيى بالمأمون ونادمه، ورخَّصَ له في أمور كثيرة، فقال له يوماً: يا أبا محمد، من الذي يقول:
قاضٍ يري الحدَّ في الزناء، ولا ... يرى على من يلوط من بأس
قال: ذلك ابن أبي نعيم يا أمير المؤمنين، وهو القائل:
أمِيرُنَا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راس
قاضٍ يرى الحدَّ في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
ما أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمة وَالٍ من آل عباس
فأطرق المأمون خجلاً ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يُنْفَى ابن أبي نعيم إلى السند.
وكان يحيى إذا ركب مع المأمون في سفر ركب معه بمنطقة وقَبَاء وسيف بمعاليق وساسية، وإذا كان الشتاء ركب في أقْبِيَةِ الخز وقلانس السمُّور والسروج المكشوفة، وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط أن المأمون أمره أن يفرض بنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أُموره، ففرض أربعمائة غلام مُرْداً اختارهم حسان الوجوه، فافتضح بهم، وقال في ذلك راشد بن إسحاق يذكر ما كان من أمر يحيى في الفرض:
خليليَّ انظرا متعجِبَيْنِ ... لأظرف منظر مَقَلَتْهُ عَيْنِي
لفرض ليس يقبل فيه إلا ... أسيل الخدّ ِحلوُ المُقْلَتين
وإلا كلّ أشقَر أكْثَمِيٍّ ... قليلُ نبات شعرِ العارِضَيْن
يُقَدَّم دونَ موقفِ صَاحِبيه ... بقدر جمالِهِ وبقبح ذين
يقودُهُمُ إلى الهيجاءِ قاض ... شديد الطعن بالرمح الرُّدَيْنِي
إذا شهد الوَغى منهم شجاعُ ... تجدَّل للجبين ولليدين
يقودهم على عِلْمٍ وحِلْمٍ ... ليوم سلامة لا يوم حَيْنِ
وصار الشيخ منحنياً ... عليه بمدمجه يجوزُ الركبتين
يغادرهم إلى الأذهان صَرْعى ... وكلهم جريحُ الخصيتين
وفيه يقول راشد أيضاً:
وكنا نرجِّي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قُنُوطُ
متى تَصْلُح الدنيا ويصلح أهْلُهَا ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط
وكان يحيى بن أكثم بن عمرو بن أبي رباح من أهل خراسان من مدينة مَرْوَ، وكان رجلاً من بني تميم، وسخط عليه المأمون في سنة خمس عشرة ومائتين وذلك بمصر، وبعث به إلى العراق مغضوبَاً عليه، وكان قد كتب الحديث وتفقّه للبصريين كعثمان البَتَيِّ وغيره وله مصنفات في الفقه وفي فروعه وأصوله، وكتاب أفرده سماه بكتاب التنبيه يردُّ فيه على العراقيين وبينه وبين أبي سليمان أحمد بن أبي عُوَاد بن علي مناظرات كثيرة.
وفاة الِإمام الشافعي

وفي خلافة المأمون كانت وفاة أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف الشافعي، في رجب ليلة الجمعة، وذلك سنة أربع ومائتين، ودفن صبيحة الليلة، وِهو ابن أربع وخمسين سنة، وصلى عليه السري بن الحكم أميرُ مصر يومئذَ، كذلك ذكر عكرمة بن محمد بن بشر عن الربيع بن سليمان المؤذن، وذكر أيضاً محمد بن سفيان بن سعيد المؤذن وغيرهما عن الربيع بن سليمان مثل ذلك، ودفن الشافعي بمصر بحومة قبور الشهداء في مقبرة بني عبد الحكم، وبين قبورهم وعند رأسه عمود من الحجر كبير، وكذلك عند رجليه، وعلى العالي الذي عند رأسه حفر قد كتب فيه في ذلك الحجر هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله وما ذكرنا فمشهور بمصر، والشافعي يتفق نسبه مع بني هاشم وبني أمية في عبد مناف، لأنه من ولد المطلب بن عبد مناف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن وبنو المطلب كهاتين " وأشار بإصبعيه مضمومتين، وقد كانت قريش حاصَرَتْ بني المطلب مع بني هاشم في الشِّعْبِ.
وحدثني فقير بن مسكين عن المزني بهذا، وكان فقير يحدث عن المزني، وكان سماعنا من فقير بن مسكين بمدينة أسوان بصعيد مصر، قال: قال المزني: دخلت على الشافعي غداة وفاته، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عبد اللّه. قال: أصبحت من الدنيا رَاحِلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيها، وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جَعَلْتُ الرجا مني لعفوك سُلّما
تَعَاظَمَنِي ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وفاة أبي داود الطيالسي وابن الكلبي
وفي هذه السنة التي مات فيها الشافعي - وهي سنة أربع ومائتين - مات أبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وفيها مات هشام بن محمد بن السائب الكلبي.
وادَّعى رجل النبوة بالبصرة أيام المأمون، فحمل إليه مُوثَقاً بالحديد، فمثل بين يديه، فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فأنا مُوثَقٌ، قال: ويلك! مَنْ غرك. قال: أبهذا تُخَاطَبُ الأنبياء؟ أما واللّه لولا أني مُوثَقٌ لأمرت جبريل أن يُدمْدِمها عليكم؛ قال له المأمون: والموثَقَ لا تجَاب له دعوة. قال: الأنبياء خاصة إذا قُيدَتْ لا يرتفع دعاؤها، فضحك المأمون، وقال: من قيدك. قال: هذا الذي بين يديك، قال: فنحن نطلقك وتأمر جبريل أن يدمدمها، فإن أطاعك آمنَا بك وصدقناك، فقال: صدق اللّه إذ يقول: " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " . إن شئت فافعل، فأمر بإطلاقه، فلما وجد راحة العافية قال: يا جبريل، ومَدَّ بها صوته، ابعثوا من شئتم فليس بيني وبينكم الآن عمل، غيري يملك الأموال وأنا لا شيء معي، ما يذهب لكم في حاجة إلا كشخان فأمر بإطلاقه والإِحسان إليه.
المأمون ورجل يدعي أنه إبراهيم الخليل
وحدث ثُمَامة بن أشرس قال: شهدت مجلساً للمأمون وقد أتى برجل ادعى أنه إبراهيم الخليل، فقال له المأمون: ما سمعت بأجرأ على اللّه من هذا قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في كلامه، قال: شأنك وإياه، قلت: يا هذا إن إبراهيم عليه السلام كانت له براهين، قال: وما براهينه؟ قلت: أضْرِمَتْ له النار وألقي فيها فكانت برداً وسلاماً، فنحن نُضْرِمُ لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك بَرْداً وسلاماً كما كانت عليه آمَنَّا بك وصدقناك، قال: هات ما هو ألْيَنُ عليّ من هذا، قلت: فبراهين موسى عليه السلام، قال: وما هي؟ قلت: ألْقَى العصا فإذا هي حية تسعى تَلْقَفُ، ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق، وبياض يده من غير سوء، قال: هذا أصعب، ولكن هات ما هو ألين عليّ من هذا قلت: فبراهين عيسى عليه السلام، قال: وما براهينه؟ قلت: إحياء الموتى، فقطع الكلام في براهين عيسى وقال: جِئْتَ بالطامَّةِ الكبرى، دعني من براهين هذا، قلت: فلا بد من براهين، قال: ما معي من هذا شيء، وقد قلت لجبريل إنكم توجهونَنِي إلى شياطين فأعطوني حجة أذهب بها وإلا لم أذهب، فغضب جبريل عليه السلام عليّ، وقال: جئت بالشر من ساعة، اذهب أولاً فانظر ما يقول لك القوم، فضحك المأمون وقال: هذا من الأنبياء التي تصلح للمنادمة.

وفي سنة ثمان وتسعين ومائة خَلَعَ المأمون أخاه القاسم بن الرشيد من ولاية العهد.
خروج أبي السرايا وابن طباطبا وقوم من العلويين
وفي سنة تسع وتسعين ومائة خرج أبو السَّرَايَا السري بن منصور الشيباني بالعراق، واشتدَّ أمره، ومعه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو ابن طَبَاطَبا، ووثب بالمدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن على رحمهم اللّه، ووثب بالبصرة علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن على بن الحسن بن علي عليهم السلام، وزيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فغلبوا على البصرة.
وفي هذه السنة مات ابن طباطبا الذي كان يدعو إليه أبو السَّرَايَا، وأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي.
وظهر في هذه السنة باليمن - وهي سنة تسع وتسعين ومائة - إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي، وظهر في أيام المأمون بمكة ونواحي الحجاز محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمهم اللّه، وذلك في سنة مائتين، ودعا لنفسه، وإليه دعت السبطية من فرق الشيعة وقالت بإمامته، وقد افترقوا فرقاً: فمنهم مَنْ غَلاَ، ومنهم من قصر، وسلك طريق الإمامية، وقد ذكرنا في كتاب المقالات في أصول الديانات وفي كتاب أخبار الزمان من الأًمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الداترة، في الفن الثلاثين من أخبار خلفاء بني العباس ومن ظهر في أيامهم من الطالبيين، وقيل: إن محمد بن جعفر هذا دعا في بْدء أمره وعنفوان شبابه إلى محمد بن إبراهيم بن طَبَاطَبَا صاحب أبي السرايا، فلما مات ابن طَبَاطَبَا - وهو محمد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن - دعا لنفسه، وتَسَمَّى بأمير المؤمنين، وليس في آل محمد ممن ظهر لِإقامة الحق ممن سلف وخَلَفَ قبله وبعده مَنْ تَسَمَّى بأمير المؤمنين غير محمد بن جعفر هذا، وكان يسمى بالديباجة، لحسنه وبهائه، وما كان عليه من البهاء والكمال، وكان له بمكة ونواحيها قصص حمل فيها إلى المأمون بخراسان، والمأمون يومئِذٍ بِمَرْو، فأمنه المأمون، وحمله معه إلى جرجان فلما صار المأمون مات محمد بن جعفر، فدفن بها، وقد أتينا على كيفية وفاته وما كان من أمره وغيره مم آل أبي طالب ومقاتلهم ببقاع الأرض في كتابنا حدائق الأذهان في أخبار آل أبي طالب ومقاتلهم في بقاع الأرض.
ظهور ابن الأفطس
وظهر في أيام المأمون أيضاً بالمدينة الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي، وهو المعروف بابن الأفْطَس، وقيل: إنه دعا في بدء أمره إلى ابن طَبَاطَبَا، فلما مات ابن طَبَاِطَبَا دعا إلى نفسه والقول بإمامته وسار إلى مكة فأتى الناس وهم بِمِنَى، وعلى الحاج داود بن عيسى بن موسى الهاشمي، فهرب داود، ومضى الناس إلى عرفة، ودفعوا إلى مُزْدَلفة بغير إنسان عليهم من ولد العباس، وقد كان ابن الأفْطَس وَافى الموقف بالليل، ثم صِار إلى المزدلفة والناس بغير إمام، فصلى بالناس، ثم مضى إلى منَى، فنحَرَ ودخل مكة، وجَرَّد البيت مما عليه من الكسوة إلا القَبَاطي البيض فقط.
الظفر بأبي السرايا
وفي سنة مائتين ظفر حماد المعروف بالكندغوش بأبي السرايا، فأتى به الحسن بن سهل، فقتله وصلبه على الجسر ببغداد، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على خبر أبي السرايا وخروجه وما كان منه في خروجه وقتله عبدوس بن محمد بن أبي خالد ومن كان معه من قواد الأبناء واستباحته عسكره.
قال المسعودي: وفي سنة مائتين بعث المأمون برَجَاء بن أبي الضحاك وياسر الخادم إلى علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الرضا لإِشخاصه، فحمل إليه مكرماً، وفيها أمر المأمون بإحصاء ولد العباس من رجالهم ونسائهم وصغيرهم وكبيرهم، فكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً.
المأمون وعلي بن موسى الرضا

ووصل إلى المأمونُ أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة مَرْوَ، فأنزله المأمون أحسنَ إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحداً أفْضَلَ ولا أحَقَّ بالأمر من علي بن موسى الرضا، فبايَعَ له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوّج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته أم الفضل، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام وأظهر بدلاً من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك ونمي ذلك إلى مَنْ بالعراق من ولد العباس، فأعْظَمُوهُ إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، وَحَجَّ بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو الرضا بأمر المأمون، واجتمع مَنْ بمدينة السلام من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم على خلع المأمون ومبايعة إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شِكْلَةَ، فبويع له يوم الخميس لخمس ليالٍ خَلَوْنَ من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: إن ذلك في سنة ثلاث ومائتين.
مقتل الفضل بن سهل
وفي سنة اثنتين ومائتين قتل الفضل بن سهل ذو الرياستين في حمامٍ غِيلَةً، وذلك بمدينة سرخس من بلاد خُرَاسان، وذلك في دار المأمون في مسيره إلى العراق فاستعظم المأمون ذلك وقتل قَتَلَتَه، وسار المأمون إلى العراق.
موت علي بن موسى الرضا
وَقُبِضَ عليُّ بن موسى الرضا بطوس لعنب أكله وأكثر منه، وقيل: إنه كان مسموماً، وذلك في صفر سنة ثلاث ومائتين، وصلى عليه المأمون، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وقيل: سبع وأربعين سنة وستة أشهر. وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، وكان المأمون زَوَّجَ ابنته أم حبيبة لعلي بن موسى الرضا، فكانت إحدى الأختين تحت محمد بن علي بن موسى، والأخرى تحت أبيه علي بن موسى.
إبراهيم بن المهدي يخرج على المأمون
واضطربت بغداد في أيام إبراهيم بن المهدي، وثارت الرويبضة، وسموا أنفسهم المطوعة، وهم رؤساء العامة والتوابع، ولما قرب المأمون من مدينة السلام صلى إبراهيم بن المهدي بالناس في يوم النحر، واختفى في يوم الثاني من النحر، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، فخلعه أهْلُ بغداد، وكان دخوله المأمون بغداد سنة أربع ومائتين، ولباسه الخضرة، ثم غير ذلك، وعاد إلى لباس السواد، وذلك حين قدم طاهر بن الحسين من الرقة إليه.
خروج بابك الخرمي
وفي سنة أربع ومائتين كان القحط العظيم ببلاد المشرق والوباء بخراسان وغيرها، وفيها كان خروج بابك الخَرّمِيِّ ببلاد البدين في أصحاب جاويذان بن شهرك، وقد قَدَمنا ذكرنا بلاد بابك، وهي البدين من أرض أذربيجان والران والبيلقان فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لجبل القبخ والباب والأبواب ونهر الراس وجريانه نحو بلاد البدين.
الظفر بإبراهيم
وَبَثَّ المأمون عيونه في طلب إبراهيم بن المهدي، وقد علم باختفائه فيها، فظفر به ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خَلَتْ من شهر ربيع الآخر سنة سبع ومائتين في زيّ امرأة، ومعه امرأتان، أخذه حارس بن أسود في الدرب المعروف بالطويل ببغداد، فأدخل إلى المأمون فقال: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين، وليُّ الثأر مُحَكَّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الزمان واستولى عليه الاغترار بما مدَ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك اللّه فوق كل ذي عفو، كما جعل كل في ذنب دوني، فإن تُعَاقِبْ فبحقك، وإن تَعْفُ فبفضلك، قال: بل العفو يا إبراهيم، فكَبَّرَ ثم خَرَّ ساجداً، فأمر المأمون فصيرت المقنعة التي كانت عليه على صدره ليرى الناس الحال التي أخذ عليها، ثم أمر به فصير في دار الحرس أياماً ينظر الناسُ إليه، ثم حول إلى أحمد بن أبي خالد، ثم رضي عنه من بعد أن كان وكَلَ به، فقال إبراهيم في ذلك من كلمة له:
إن الذي قَسَمَ المكارم حَازَهَا ... من صُلْبِ آدم للإمام السابع
جمع القلوبَ عليك جامعُ أهلها ... وَحَوَى ودادك كل خير جامع
فبذلتَ أعظم ما يقوم بحمله ... وُسْعُ النفوس من الفعال البارع
وَعَفَوْتَ عَمَّنْ لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
زواج المأمون ببوران بنصَ الحسن بن سهل

وانحدر المأمون إلى فم الصلح في شعبان سنة تسع ومائتين، وأمْلَكَ بخديجة ابنة الحسن بن سهل التي تسمى بوران، ونثر الحسن في ذلك الِإملاك من الأموال ما لم ينثره ولم يفعله ملك قط في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه نثر على لهاشميين وَالقُوَّاد والكُتَّاب والوُجُوه بَنَادقَ مسكٍ فيها رِقَاعٌ بأسماء ضِيَاعٍ وأسماء جَوَارٍ وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقية إذا وقعت في يد الرجل فتحها، فقرأ ما فيها فيجد على قدر إقباله وسعوده فيها، فيمضي إلى الوكيل الذي نصب لذلك، فيقول له: ضيعة يقال لها فلانة الفلانية من طَسُّوج كذا من رُسْتَاق كذا، وجارية يقال لها فلانة الفلانية، ودابة صفتها كذا، ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم وَنَوافِجَ المسك وبَيْضَ العنبر، وأنفق على المأمون وَقُوَّاده وعلى جميع أصحابه ومن كان معه من جنوده أيام مقامه عنده حتى المكارين والحمالين والملاحين وكل من ضمه العسكر من تابع ومتبوع مرتزق وغيره، فلم يكن أحد من الناس يشتري شيئاً في عسكر المأمون مما يطعم ولا مما تعتلفه البهائم، فلما أراد المأمون أن يصعد في دجلة منصرفاً إلى مدينة السلام قال للحسن: حَوَائِجَكَ يا أبا محمد، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أسألك أن تحفظ عَلَي مكاني من قلبك، فإنه لا يتهيأ لي حفظه إلا بك، فأمر المأمون بحمل خراج فارس وكور الأهواز إليه سنة، فقالت في ذلك الشعراء فأكثرت، وأطنبت الخطباء في ذلك وتكلمت، فمما استظرف مما قيل في ذلك من الشعر قولُ محمد بن حازم الباهلي:
بارك اللّه للحَسَنْ ... وَلبُورَانَ في الْخَتَنْ
يا ابن هارون قد ظَفِرْ ... تَ ولكن ببنت من
فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: واللهّ ما ندري خيراً أراد أم شَرّاً.
أهل المأمون يحملونه على قتل إبراهيم بن المهدي
ودخل إبراهيم بن المهدي يوماً على المأمون بعد مدة من الظفر به، فقال: إن هذين يحملانِنِي على قتلك - يعني المعتصم أخاهُ والعباس بن المأمون - فقال: ما أشارا عليك إلا بما يُشَار به على مثلك، ولكن تَدَعُ ما تخاف لما نرجو، وأنشد:
ردَدْتَ مالي ولم تَبْخَلْ عَلَيَّ به ... وقبل رَدِّكَ مالي قد حَقَنْتَ دمي
فبؤت منها وما كافيتها بِيَدٍ ... هما الحياتان من موت ومن عدم
البر وَطّأ منك العذر عندك لي ... فيما أتيت ولم تعذل ولم تلم
وقام عُذْرُكَ بي فاحْتَجَّ عندك لِي ... مقام شاهد عدل غير مُتَّهَم
ولإِبراهيم أخبار حسان، وأشعار ملاح، وما كان من أمره في حاك اختفائه في سويقة غالب ببغداد، وتنقله من موضع إلى موضع بها، وخبره في الليلة التي قبض عليه فيها، قد أتينا على جميعها فيما سمينا من كتبنا التي كتابُنَا هذا تَالٍ لها ومنبه عليها.
وقد صَنَّف يوسف بن إبراهيم الكاتب صاحب إبراهيم بن المهدي كتباً منها كتابه في أخبار المتطببين مع الملوك في المأكل والمشارب والملابس، وغير ذلك، وكتابه المعروف بكتاب إبراهيم بن المهدي في أنواع الأخبار، وغير ذلك من كتبه.
من أخبار إبراهيم بن المهدي

ومن أحسن ما اختير من أخبار إبراهيم في حال تنقله واختفائه ببغداد خبره مع المزين، وهو أن المأمون لما دخل بغداد على ما ذكرنا فيما سلف من هذا الباب من بَثِّهِ العيون طالباً لإِبراهيم بن المهدي، وجعل لمن دَلَّ عليه جُعْلاً خطيراً من المال، قال إبراهيم: فخرجت في يوم صائف في وقت الظهر لا أدري أين أتَوَجَّهُ، فصرت إلى زُقَاق ولا مَنْفَذَ له، فرأيت أسْوَدَ على باب دارٍ، فصرت إليه وقلت له: أعندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار؟ فقال: نعم، وفتح بابه، فدخلت إلى بيت فيه حصير نظيف ووسادة جلد نظيفة، ثم تركني وأغلق الباب في وجهي وَمَضَى، فتوهمته قد سمع الجعالة فِيَّ، وأنه خرج ليدل عَلَيَ، فبينما أنا كذلك إذ أقبل ومعه طبق عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم، وقدر جديد وآلتها، وَجَرَة نظيفة، وكيزان نظاف، كل ذلك جديد، وقال لي: جعلني اللهّ فداك، إني حَجَّام، وإني أعلم أنك تَتَقَذّر ما أتَوَلاّهُ، فشأنك بما لم تقع عليه يدي، وكانت بي حاجة شديدة إلى الطعام، فقمت فطبخت لنفسي قدراً ما أذكر أني أكلت أطيَبَ منها، ثم قال لي بعد ذلك: هل لك في النبيذ؟ فقلت: ما أكره ذلك، ففعل مثل فعله في الطعام، وأتاني بكل شيء نظيف لم يَمَسَّ شيئاً منه بيده، ثم قال لي بعد ذلك: أتأذن لي جعلني اللّه فداك أن أقعد ناحية منك، فأتي بنبيذ فأشرب منه سروراً بك؟ قال: فقلت: أفْعَلْ ذلك، فلما شرب ثلاثاً دخل خزانة له وأخرج منها عُوداً وقال: يا سدي، وليس من قدْرِي أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجبت عليك حرمتي، فإن رأيت أن نشرف عبدك بأن تغنيه، قال: فقلت: وكيف توهمت عَلَيَّ أني أحسن الغناء. فقال متعجباً: يا سبحان اللّه!! أنت أشهر من أن لا أعرفك، أنت إبراهيم بن المهدي الذي جعل المأمون لمن دَلَّ عليك مائة ألف درهم، قال: فلما قال لي ذلك تناولْت. العود، فلما هممت بالغناء قال: يا سيدي أتجعل ما تغنيه ما أقترحه عليك؟ قلت: هات، فاقترح ثلاثة أصوات أتَقَدَّمُ فيها كلَّ مَنْ غَنَّى، قلت: هَبْكَ عرفتني، هذه الأصوات من أين لك بمعرفتها؟ قال: أنا أخدم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكثيراً ما كنت أسمعه يذكر المحسنين وما يُجِيدُونَة، ولم أتوهم أني أسمع ذلك منك في منزلي، فغنيته، وأنست به، واستظرفته. فلما كان الليلُ خرجت من عنده، وقد كنت حملت معي خريطة فيها دنانير، فقلت له: خذها فاصرفها في بعض مُؤْنتك، ولك عندنا مزيد إن شاء اللّه تعالى. فقال: ما أعجب هذا!! واللّه عزمت على أن أعرض عليك جملة ما عندي، وأسألك أن تتفضل بقبولها، ثم أجللتك عن ذلك، وامتنع من قبول شيء، ومضى حتى دَلّنِي على الموضع الذي احتجت إليه، وانصرف، وكان آخر العهد به.
يزيد بن هارون
وفي سنة ست ومائتين - وذلك في خلافة المأمون - مات يزيد بن هارون بن زادان الواسطي، وله تسع وثمانون سنة، وكان مولده سنة سبعَ عشرَةَ ومائةٍ وهو مولى لبني سُلَيم، وكان أبوه يخدم في مطبخ زياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد ومصعب بن الزبير والحجاج بن يوسف، ويزيد هذا عند أهل الحديث من عِلْيتهم، وعظيم من عظمائهم، وكانت وفاته بواسط العراق.
موت جماعة من أهل العلم
وفيها مات جرير بن خًزَيمة بن حازم، وشيبة بن سَوَّار المدني، والحجاج بن محمد الأعور الفقيه، وعبد اللّه بن نافع الصائغ المدني مولًى لبني مخزوم، ووهب بن جرير، ومؤمل بن إسماعيل، وروح بن عبادة، وفيها مات الهيثم بن عديٍّ وكان يغمز عليه نسبه، وفيه يقول القائل:
إذا نَسَبْتَ عَدِيّاً في بني ثُعَل ... فقدِّم الدال قبل العين في النسب
قصة وفاء وإيثار

وفي سنة تسع ومائتين مات الواقدي، وهو محمد بن عمرو بن واقد مولًى لبني هاشم، وهو صاحب السير والمغازي، وقد ضعف في الحديث، وذكر ابن أبي الأزهر قال: حدثني أبو سهل الرازي، عمن حدثه، عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضَيْقة شديدة، وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قَطعوا قلبي رحمة لهم؛ لأنهم يَرَوْنَ صبيان الجيران قد تَزَئنُوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثّةِ، فلوا احْتَلْتَ بشيء تصرفه في كسوتهم، قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليَ لما حضر، فوجه إليّ كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب إليَّ الصديقُ الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصْدُقْنِي عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على جهته، فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثْتُ به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه بكيسي بخاتمي، قال: فتواسينا الألف ثلاثاً بعد أن أخرجنا إلى المرأة قبل ذلك مائة درهم، ونمي الخبر إلى المأمون، فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار: لكل واحد ألفا دينارٍ، وللمرأة ألف دينار، وقُبِضَ الواقدي وهو ابن سبع وسبعين سنة.
وفيها كانت وفاة يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ببغداد، وصلى عليه المأمون، وقد أتينا على خبره فيما سلف من كتبنا.
بين أزهر وأبي جعفر المنصور
وفيها مات أزْهَرُ السمان، وكان صديقاً لأبي جعفر المنصور في أيام بني أمية وكانا قد سافرا جميعاً وسمعا الحديث، وكان المنصور يألفه، ويأنس إليه، ويكبر عنده، فلما أفْضَتِ الخلافة إليه أشْخَصَ إليه من البصرة، فسأله المنصور عن زوجته وبناته، وكان يعرفهنَّ بأسمائهم، وأظهر بره وإكرامه، ووَصَله بأربعة آلاف درهم، وأمره أن لا يقدم إليه مستمحاً، فلما كان بعد حَوْلٍ صار إليه، فقال له: ألم آمرك أن لا تسير إليّ مستميحاً، فقال له: ما صرت إليك إلا مسلماً ومجدداً بك عهداً، قال: ما أرى الأمر كما ذكرت، فأمر له بأربعة آلاف درهم، وأمره أن لا يصير إليه مسلماً ولا مستميحاً، فلما كان بعد سنة صار إليه، فقال: إني لم أقدم عليك للأمرين اللذين نهيتني عنهما، وإنما بلغني أن علة عرضت لأمير المؤمنين فأتيته عائداً، فقال: ما أظنك أتيت إلا مستوصلاً، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما كان بعد الحول ألح عليه بناتُه وزوجتُه، وقلن له: أمير المؤمنين صديقُكَ فارجِع إليه، فقال: ويحكن!! ماذا أقول له وقد قلت له أتيتك مستميحاً ومسلماَ وعائداً؟ ماذا أقول في هذه المرة؟ وبم أحتجُّ؟ فأبوا على الشيخ إلا الِإلحاح، فخرج فأتى المنصور وقال: لم آتك مسترفداً، ولا زائراً، ولا عائداً، وإنما جئت لسماع حديث كنا سمعناه جميعاً في بلد كذا من فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم و فيه اسم من أسماء اللهّ تعالى مَنْ سأل اللّه به لم يرده ولم يخيب دعوته، فقال له المنصور: لا تُرِده فإني قد جَرَّبْته فليس هو بمستجاب، وذلك أني مذ جئتني أسأل اللّه به أن لا يردَّك إلي، وها أنت ترجع لا تنفك من قولك مسلماً أو عائداً أو زائراً؟ ووصله بأربعة آلاف درهم، وقال له: قد أعيتني فيك الحيلة فصر إني متى شئت
مقتل ابن عائشة
وفي سنة تسع ومائتين ركب المأمون إلى المطبق بالليل حتى قتل ابن عائشة، وهو رجل من ولد العباس بن عبد المطلب، واسمه إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الِإمام أخي أبي العباس والمنصور، وقتل معه محمد بن إبراهيم الإفريقي وغيره، وابن عائشة هذا أول عباسي صُلِبَ في الإِسلام، وتمثل المأمون حين قتله بقول الشاعر:
إذا النار في أحجارها مُسْتَكِنَّة ... متى ما يُهِجْهَا قادح تتضرم

وكان رجل من ولد العباس بن علي بن أبي طالب فو مال وثروة وعز ومنعة وفهم وبلاغة، وهو العباس العلوي، بمدينة السلام، وكان المعتصم يَشْنؤه لحالٍ كانت بينهما، فمكن في نفس المأمون أنه شانئ له ولدولته، ماقِتٌ لأيامه، فلما كان في تلك الليلة لحق العباس بالمأمون على الجسر فقال له المأمون: ما زلت تنتظرها حتى وقعت، فقال: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين، ولكني ذكرت قول اللّه عزّ وجلّ " ما كان لأهل المدينة ومَنْ حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، ولا يركبوا بأنفسهم عن نفسه " هذه فحسن موقع ذلك منه، ولم يزل يسايره حتى بلغ المطبق، فلما قتل ابن عائشة قال: يأذن أمير المؤمنين في الكلام. قال: تكلم، قال: اللّه اللّه في الدماء، فإن الملك إذا ضَرِيَ بها لم يصبر عنها، ولم يُبْقِ على أحد، قال: لو سمعت هذا الكلام منك قبل أن أركب ما ركبت ولا سفكت دماً، وأمر له بثلاثمائة ألف درهم.
وقد أتينا على خبر ابن عائشة هذا، وما أراد من الإِيقاع بالمأمون، وما كان من أمره في كتابنا شي أخبار الزمان.
موت أبي عبيدة معمر بن المثنى
وفي سنة إحدى عشرة ومائتين عات أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى بالبصرة، وكان يرى رأي الخوارج، وبلغ نحواً من مائة سنة، ولم يحضر جنازته أحد من الناس، حتى أكترى لها من يحملها، ولم يكن يسلم عليه شريف ولا وضيع إلا تكلم فيه، وله مصنفات حِسَان في أيام العرب وغيرها: منها كتاب المثالب، ويذكر فيه أنصاب العرب وفسادها، ويرميهم بما تسيء الناسَ ذِكْره، ولا يحسن وصفه، وكان أبو نُوَاسٍ الحسن بن هانئ كثير العبث به، وكان أبو عبيدة يقعد في مسجد البصرة إلى سارية من سَوَارية، فكتب أبو نُوَاس عليها في غيبته عنها بهذين البيتين يُعَرِّضُ به:
صَلّى الإِلهُ عَلَى لوطٍ وشيعته ... أبا عُبيدة قل باللّه آمينا
وأنت عندي بلا شك يقيتُهمْ ... مذ احتلمت وقد جاوزت تسعينا
فلما جاء أبو عُبيدة ليجلس في مجلسه ويستند على تلك السارية رأى ذلك، فقال: هذا فعلُ الماجِنِ اللواط أبي نواس، حُكّوه وإن كان فيه صلاة على نبي.
موت أبي العتاهي وشيء من أخباره
وفي هذه السنة - وهي سنة إحدى عشرة ومائتين - مات أبو العتاهية إسماعيلُ بن القاسم، الشاعر، متنسكاً لابساً للصوف، وكان له مع الرشيد أخبار حسان: من ذلك ما قدمنا ذكره فيما سلف من هذا الكتاب، ومنها أن الرشيد أمر ذات يوم بحمله إليه، وأمر أن لا يكلم في طريقه، ولا يعلم ما يراد منه، فلما صار في بعض الطريق كتب له بعض مَنْ معه في الطريق: إنما يراد قتلك، فقال أبو العتاهية من فوره:
ولعل ما تخشاه ليس بكائن ... ولعل ما ترجُوهُ سوف يكون
ولعل ما هَوَّنْتَ ليس بهين ... ولعل ما شَدَّدْتَ سوف يهون
وحج في بعض الحجج مع الرشيد، فنزل الرشيد يوماً عن راحلته، ومشى ساعة، ثم أعيا، فقال: هل لك يا أبا العتاهية أن تستند إلى هذا الميل؟ فلما قعد الرشيد أقبل على أبي العتاهية وقال له: يا أبا العتاهية، حركنا، فقال:
هب الدنيا توَاتيكا ... أليس الموت يأتيكا؟
ألا يا طالِبَ الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
وما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيكا
ولأبي العتاهية أخبار وأشعار كثيرة حسان، قد قدمنا فيما سلف من كتبنا جملاً مما اختير من شعره وما انتخب من قوافيه، وكذلك قدمنا من ذلك لمعاً فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار خلفاء بني العباس، ومما استحسن من ذلك قوله:
أحْمَدٌ قال لي ولم يدْرِ ما بي: ... أتحب الغداة عشية حقا؟
فتنفّسْتُ ثم قلت: نعم حُبّاً جرى فِي العروق عِرْقاً فعرقا
ليتني مُتُّ فاسترحْتُ فإني ... أبداً ما حييت منها مُلَقى
لا أراني أبقى ومن يَلْقَ ما لا ... قَيْتُ من لوعة الجوى ليس يبقى
فاحْتَسِبْ صحبتي، وقل: رحمة اللّه على صاحِب لنا مات عشقا
أنا عَبْدٌ لها وإن كنت لا أر ... زَقُ منها والحًمد للَّه عتقا
ومما استحسن من شعره أيضاً قوله:
يا عُتْبَ مالي ولَكِ ... يا ليتنِي لم أرَكِ
ملكتني فانتهكي ... ما شئت أن تنتهكي

أبِيِتُ ليلي ساهراً ... أرعى نجوم الفَلَكِ
مفترشاً جَمْرَ الغَضَى ... ملتحفاً بالْحَسَكِ
ومن قوافيه الغريبة وأشعاره المستحسنة قوله:
أخِلاي بي شَجْوٌ، وليس بكم شَجْوُ ... وكل امرئ من شَجْوِ صاحبه خِلْوُ
رأيت الهوى جَمْرَ الغضى، غير أنه ... على حَرِّه في صدر صاحبه خُلْوُ
أذاب الهوى جسمي وعظمي ... وقُوتي فلم يَبْقَ إلاَّ الروِحُ والبدن النِّضْو
وما من حبيب نال ممن يحبه ... هوى صادقاً إلا يداخِله زَهْوُ
إني لنائي الطًرفِ مِنْ غير خُلَّتي ... ومالي سواها من حديثٍ ولا لَهْوُ
لها دون إخْوَاني وأهل مودتي ... من الود مني فَضْلَة، ولها العفْوُ
ومما انتخب من شعره واستحسنه الناس من قولهِ قولُه:
يا لهذه نفسي عَلَى الذِي اجتنبت ... بأي جرْم ترونها عَتَبَتْ
جارك اللَهُ بِئس ما صَنَعَتُ ... بي في هواهَا وبِئس ما ارتكبت
أتيتها زائراً فما انتجزت ... وَعْدِيَ إذْ جئتها وما احتسبت
كم من ديونٍ واللَهُ يعلمها ... لنا عليها لم تُقْضَ إذ وجبت
ما وهبَتْ لي مِنْ فضلها عِدَةً ... إلا استرد تْ جميع ما وهبت
فأيُ خَيْرٍ وأيُّ مَنْفَعَةٍ ... لِذَاتِ دَلٍّ تريقِ ما حلبت؟
اللًه بيني وبين ظالمتي ... طلبتُ منها وصالها فأبَت
ماذا عليها لو أنها بعثت ... منها رسولاً إليَّ أو كتبت
رغبت في وصلها وقد زَهِدَتْ ... عتبة في وصلنا وما رغبت
وكان أبو العتاهية قبيح الوجه، مليح الحركات، حلو الإِنشاد، شديد الطرب، ومن مليح شعره أيضاً قولُهُ:
من لم يذُقْ لصبَابة طعمَاً ... فلقد آحَطْتُ بطعمها علمَا
إني منحت مودتي سَكَناً ... فرأيته قد عَدَها جًرْماً
يا عُتْبَ ما أبقيت من جسدي ... لحماً ولا أبقيت لي عظما
يا عتب ما أنا من صنيعك بي ... أعمى ولكنً الهوى أعمى
إن الذي لم يدر ما كلَفِي ... ليرى عَلَى وجهي به وَسْمَا
وله أشعار خرج فيها عن العَرُوض مثل قوله:
هُم القاضي بيت يطرب ... قال القاضي لما عوتب
ما في الدنيا إلا مذنب ... هذا عذر القاضي واقلب
وزنه فَعْلُنْ فعلن أربع مرات، وقد قال قوم: إن العرب لم تقل على وزن هذا شعراً، ولا ذَكَره الخليل ولا غيره من العروضيين .
الزيادة في العروض على الخليل
قال المسعودي: وقد زاد جماعة من الشعراء على الخليل بن أحمد في العروض: من ذلك المديد، وهو ثلاثة أعاريض وستة ضروب عند الخليل، وفيه عروض رابع وضربان مُحْدَثان؛ فالضرب الأول من العروض الرابعة المحدثة قول الشاعر:
مَنْ لعين لا تنام ... دمعها سَحٌّ سجام
والضرب الثاني من العروض الرابعة المحدثة قول الشاعر:
يا لبكر لا تَنُوا ... ليس ذا حين ونا
وغير ذلك مما قد تكلموا فيه، وذكروه في هذا المعنى من الزيادات مما قد أتينا على وصفه وقدمنا من ذكره في كتابنا في أخبار الزمان.
أبو العباس الناشئ
وقد صنف أبو العباس عبد اللّه بن محمد الناشئ الكاتب الأنباري على الخليل بن أحمد في ذلك كتاباً ذكر فيه أنواعاً من هذا المعنى مما خرج فيه الخليل بن أحمد عن تقليد العرب إلى باب التعسف والنظر ونصب العلل عن أوضاع الجدل، كان ذلك له لازماً، ولما أورده كاسراً، وللناشئ أشعار كثيرة حسان: منها قصيدة واحدة نحو من أربعة آلاف بيت قافية واحدة نونية منصوبة يذكر فيها أهل الآراء والنحل والمذاهب والملل، وأشعار كثيرة ومصنفات واسعة في أنواع من العلوم، فمما جوَّد فيه قولُه حين سار من العراق إلى مصر، وبها كانت وفاته، وذلك في سنة ثلاث " وتسعين ومائتين على حسب ما قدمنا ذكره:

يا ديار الأحباب هَلْ مِنْ مُجيب ... عنك يشفي غليل نائي المزار؟
ما أجابت ولكِنِ الصمتُ منهاَ ... فيه للسائلين طول اعتبار
إن تكن أوحَشَتْ فبعد أنيسٍ ... أو خَلَتْ منهمُ فبعد قرار
قد لهونا بها زماناً وحيناً ... ووصلنا الأسحار بالأسحار
واغتبقنا على صَبُوحٍ ولهوٍ ... وحنين النايات والأوتار
بين وَرْدٍ ونرجِسٍ وخزَامى وبنفس وسوسن وبَهَارِ
وأقاح وكل صنف من النَّوْ ... ر الشهيِّ الْجَنَى والْجُلّنَارِ
فرمتنا الأيامُ أحسن ما كنا على حين غَفْلة واغترار
فافترقنا من بعد طول اجتماع ... ونأينا بعد اقتراب الديار
نداء المأمون في أمر معاوية وسببه
وفي سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون: برئت الذمة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم: وتكلم في أشياء من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازعَ الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية؛ فقيل في ذلك أقاويل: منها أن بعض سُمّاره حَدَّث بحديث عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي، وقد ذكر هذا الخبر الزبير بن بكار في كتابه في الأخبار المعروفة بالموفقيات التي صنفها للموفق، وهو ابن الزبير، قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وَفَدْتُ مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنه ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العَشَماء، فرأيته مغتماً، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة. قال: يا بني، إني جئت من عند أخْبَثِ الناس، قلت له: وما ذاك. قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عَدْلاً وبسطت خيراً فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصَلْتَ أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، فقال لي: هيهات هيهات!! مَلَكَ أخوتَيْمٍ فعدل وفعل ما فعل، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عَدِيٍّ، فاجتهد وشَمَّر عشر سنين، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجلٌ لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعلَ به، وإن أخا هاشم يُصْرَخُ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أمَ لك؛ والله ألا دفنا دفنا، وإن المأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وصفنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعْظَمَ الناسُ ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هَمَّ به.
وفاة أبي عاصم النبيل، وجماعة من أهل العلم
وفي خلافة المأمون كانت وفاة أبي عاصم النبيل، وهو الضحاك بن مخلد بن سنان الشيباني، وذلك في سنة اثنتي عشرة ومائتين، وفيها مات محمد بن يوسف الفارابي.
وفي سنة خمس عشرة ومائتين - وذلك في خلافة المأمون - مات هوذة بن خليفة بن عبد اللّه بن أبي بكر، ويكنى بأبي الأشهب، ببغداد، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بباب البردان، في الجانب الشرقي، وفيها مات محمد بن عبد اللّه بن المثنىِ بن عبد اللّه بن أنس بن مالك الأنصاري، وفيها مات إسحاق بن الطباع، بأذنَةَ من الثغر الشامي، ومعاوية بن عمرو، ويكنى بأبي عمرو، وقبيصة بن عقبة، ويكنى بأبي عامر، من بني عامر بن صَعْصَعْةَ.
وفي سنة سبعَ عشرَةَ ومائتين دخل المأمون مصر، وقتل بها عبدوس، وكان قد تغلب عليها.
غزو الروم
وفي سنة ثمان عشرة ومائتين غزا المأمون أرض الروم، وقد كان شرع في بناء الطوانة، مدينة من مدنهم على فم الدرب، مما يلي طرسوس، وعمد إلى سائر حصون للروم، ودعاهم إلى الإِسلام، وخيرهم بين الإِسلام والجزية والسيف، وذلل النصرانية، فأجابه خلق من الروم إلى الجزية.
علة المأمون وموته

قال المسعودي: وأخبرنا القاضي أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن زيد الدمشقي بدمشق، قال: لما توجَّه المأمون غازياً، ونزل البديدون، جاءه رسول ملك الروم فقال له: إن الملك يخيرك بين أن يَرُدَّ عليك نفقتك التي أنفقتها في طريقك من بلدك إلى هذا الموضع، وبين أن يخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء ولا درهم ولا دينار، وبين أن يعمر لك كل بلد للمسلمين مما خربت النصرانية ويرعَّه كما كان، وترجع عن غَزَاتِكَ، فقّام المأمون ودخل خيمة، فصلى ركعتين، واستخار اللهّ عزّ وجلّ وخرج، فقال للرسول: قل له، أما قولك تَرُدًّ عليَّ نفقتي، فإني سمعت اللّه تعالى يقول في كتابه، حاكياً عن بلقيس: " وإنِّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال: أتمدونني بمال؟ فما أتاني اللّه خيرٌ مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون " وأما قولك: إنك تخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم، فما في يدك إلا أحد رجلين: إما رجل طلب اللّه عز وجل والدار الآخرة، فقد صار إلى ما أراد، وإما رجل يطلب الدنيا، فلا فَكَّ اللّه أسْرَهُ، وأما قولك: إنك تعمر كل بلد للمسلمين قد خربته الروم، فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما اعتضت بامرأة عثرت عثرة في حال أسرها، فقالت: وامحمداه وامحمداه، عُدْ إلى صاحبك، فليس بيني وبينه إلا السيف، يا غلام اضرب الطبل، فرحل، فلم ينثن عن غَزَاتِهِ، حتى فتح خمسة عشر حصناً، وانصرف من غزاته، فنزل على عَيْن البديدون، المعروفة بالقشيرة على حسب ما قدمنا في هذا الكتاب، فأقام هنالك حتى ترجع رُسُله من الحصون، فوقف على العين ومنبع الماء، فأعجبه بَرْدُ ماتها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع وكثرة الخضرة، فأمر بقطع خشب طوال وأمر به فبسط على العين كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنيسة التي قد عقدت له والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح فقر أكتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد يدخل يده في الماء من شدة بَرْده، فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنها سبيكة فضة، فجعل لمن يخرجها سَبْقاً، فبحر بعض الفراشين فأخذها وصعد، فلما صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون اضطربت وأفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر

فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وتَرْقُوتهِ فبلّتْ ثوبه، ثم انحدر الفراش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تُقْلَى الساعة، ثم أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرك من مكانه، فغطى باللحف والدواويج، وهو يرتعد كالسعفة، ويصيح: البرد البرد، ثم حول إلى المضرب ودثر وأوقدت النيرانُ حوله، وهو يصيح: البرد البرد، ثم أتى بالسمكة وقد فرغ من قلبها فلم يقدر على الذوق منها، وشَغَله ما هو فيه عن تناول شيء منها، ولمَّا اشتد به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدل عليه علم الطب من أمره؟ وهل يمكن برؤه وشفاؤه؟ فتقدم ابن ماسويه، فأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى، وأخذا المجسة من كلتا يديه، فوجدا نبضة خارجاً عن الاعتدال، مُنْنِراً بالفناء والإِنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لِعَرَقٍ كان يظهر منه من سائر جسمه، كالزيت، أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك، فأنكرا معرفته، وأنهما لم يجدا في شيء من الكتب، وأنه دال على انحلال الجسد، وأفاق المأمون من غَشْيته، وفتح عينيه من رَقْدته، فأمر بإحضار أناس من الروم، فسألهم عن اسم الموضع والعين، فأحضر له عدة من الأساري والأدلة، وقيل لهم: فسروا هذا الاسم القشيرة، فقيل له: تفسيره مُدّ رجليك، فلما سمعها اضطرب من هذا الفال وتَطَيَّرَ به، وقال: سَلُوهم ما أسم الموضع بالعربية، فقالوا: الرقة، وكان فيما عمل من مولد المأمون أنه يموت بالموضع المعروف بالرقة، وكان المأمون كثيراً ما يحيد عن المقام بمدينة الرقة فرقا من الموت، فلما سمع هذا من الروم علم أنه الموضع الذي وُعِدَ فيه فيما تقم من مولده، وأن فيه وفاته، وقيل: إن اسم البديدون تفسير مُدَ رجليك، والله أعلم بكيفية ذلك، فأحضر المأمون الأطباء حوله يؤمل خلاصه مما هو فيه، فلما ثقل قال: أخرجوني اشْرِفُ على عسكري، وأنظر إلى رجالي، وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فأخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقد من النيران، فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم رُدَّ إلى مرقدي وَأجْلَسَ المعتصم رَجُلاً يشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته ليقولها، فقال له ابن ماسوية: لا تَصِحْ فواللّه ما يفرق بين ربه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح المأمون عينيه من ساعته، وبهما من العظم والكبر الاحمرار ما لم يُرَ مثله قط، وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسوية، ورام مخاطبته، فعجز عن ذلك، فرمي بطرفه نحو السماء، وقد امتلأت عيناه دموعاً، فانطلق لسانه من ساعته، وقال: يا مَنْ لا يموت أرحم مَنْ يموت، وقضى من ساعته، وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وحمل إلى طرطوس، فدفن بها، على حسب ما قدمنا في أول أخباره من هذا الكتاب.
قال المسعودي: وللمأمون أخبار حسان وَمَعَانٍ وسير ومجالسات وأشعار وأخلاق جميلة، قد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، فأغنى ذلك عن ذكرها.
وفي المأمون يقول أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عَنِ المأ ... مُون شيئاً وَمُلْكِهِ المَأْنُوس
خلفوهً بعرصتي طرسوس ... مِثل ما خَلّفُوا أباه بِطُوس
وكان المأمُون كثيراً ما ينشد هذه الأبيات:
وَمَنْ لا يزل غَرَضَاَ للمنو ... ن يَترُكْنَهُ ذات يوم عميدا
فإن هن أخطأنه مرة ... فيوشك مخطئها أن يعودا
فبينا يحيد وتخطينه ... قصدن فأعجلنه أن يحيدا
ذكر خلافة المعتصم

وبويع المعتصمُ في اليوم الذي كانت فيه وفاة المأمون على عين الديدون، وهو يوم الخميس لثلاثَ عَشَرَةَ ليلةً بَقِيتْ من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، واسمه محمد بن هارون، ويكنى أبا إسحاق، وكان بينه وبين العباس بن المأمون في ذلك الوقت تنازع في المجلس، ثم إنقاد العباسُ إلى بيعته، والمعتصم يومئِذٍ ابن ثمان وثلاثين سنة وشهرين، وأُمه يُقال لها ماردة بنت شبيب، وقيل: إنه بويع سنة تسع عشرة ومائتين، وتوفي بسُرَّ مَنْ رأى سنة سبع وعشرين، وهو ابن ست وأربعين سنة وعشرة أشهر، فكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر، وقبره بالجَوْسَقِ بُسَّر مَنْ رأى على ما ذكرنا.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
ابن الزيات وزير المعتصم
وأحمد بن أبي دؤاد
واسْتَوْزَرَ المعتصمُ محمدَ بن عبد الملك إلى آخر أيامه، وغلب عليه أحمد بن أبي دؤُاد، ولم يزل محمد بن عبد الملك في أيام المعتصم والواثق إلى أن ولي المتوكل، وكان في نفسه عليه شيء، فقتله، وسنذكر لمعاً من خبر مقتله فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار المتوكل، وإن كنا قد أتينا على ذلك ملخصاً في الكتاب الأوسط.
حب المعتصم للعمارة
وكان المعتصم يحب العمارة، ويقول: إن فيها أموراً محمودة، فأولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه
بأس المعتصم وقوته
وكان المعتصم ذا بأس وشدة في جسمه، وشجاعة في قلبه، فذكر أحمد بن أبي دُؤَاد - وكان به أنساً - قال: لما أنكر المعتصم نفسه وقوته دخلت عليه يوماً وعنده ابن ماسويه، فقال المعتصم فقال لي: لا تبرح حتى أخرج إليه، فقلت ليحيى بن ماسويه: ويحك!! إني أرى أمير المؤمنين قد حال لونه، ونقصت قوته، وذهبت سَوْرَته، فكيف تراه أنت؟ قال: هو واللهّ زبرة من زُبَرِ الحديد، إلا أن في يديه فأساً يضرب بها تلك الزبرة، فقلت: وكيف ذاك؟ قال: كان قبل ذلك إذا أكل السمك اتخذ له صباغاً من الخل والكراويا والكمون والسذاب والكرفس والخردل والمجوز فأكله بذلك الصباغ، يدفع أذى السمك وأضراره بالعصب، وإذا أكل الرؤوس اتخذت له أصباغ تدفع أذاها وتلطفها، وكان في أكثر أموره يلطف غذاءه ويكثر مشورتي، فصار اليوم إذا أنكرت عليه شيئاً خالفني، وقال: آكل هذا على رغم أنف ابن ماسويه فما أقدر أن أصنع، قال: وهو خلف الستر يسمع ما نحن فيه، فقلت: ويلك يا أبا يحيى!! أدخل أصبعك في عينيه، قال: جعلت فداك، ما أقْدِرُ أرُده ولا أجترئ عليه في خلاف، فلما فرغ من كلامه خرج علينا المعتصم، فقال لي: ما الذي كنت فيه مع ابن ماسويه. قلت: ناظرته يا أمير المؤمنين في لونك الذي أراه حائلاً، وفي قلة طعمك الذي قد هَدَّ جوارحي وَأنْحَلَ جسمي، قال: فما قال لك؟ قلت: شكا أنك كنت تقبل منه ما يشير به عليك وكنت ترى في ذلك على ما يحب، وأنك الآن تخالفه، قال: فما قلت له أنت. قال: فجعلت أصرف الكلام، قال: فضحك وقال: هذا بعد ما دخل في عيني أو قبل ذلك. قال: فَارْفَضَضْتُ عَرَقاً، وعلمت أنه قد سمع ما كنا فيه، ورأى ما قد داخلني، فقال: يغفر اللهّ لك يا أحمد، لقد فرحت بما ظننت أنه أحزنك إذ سمعته وعلمت أنه نوع من أنواع الانبساط والأنس.
المعتصم وعلي بن الجنيد

وكان المعتصم بأنس بعلي بن الجنيد الإِسكافي، وكان عجيب الصورة عجيب الحديث، فيه سلامة أهل السواد، فقال المعتصم يوماً لمحمد بن حماد: اذهب بالغَدَاة إلى علي بن الجنيد، فقل له تهيأ حتى يزاملني، فأتاه، فقال: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تُزَامله، فتهيأ لشروط مزاملة الخلفاء ومعادلتهم فقال علي بن الجنيد: وكيف أتهيأ؟ أهيئ لي رأساً غير رأسي؟ أأشتري لحية غير لحيتي! أأزيد في قامتي! أنا متهيئ وفضلة، قال: لست تحري بعدُ ما شروط مزاملة الخلفاء ومعادلتهم! فقال عليُّ بن الجنيد: وما هي؟ هات يا من تَدرِي، قال له ابن حماد، وكان أديباً ظريفاً، وكان برسم الحجَّاب: شرط المعادلة الإِمتاع بالحديث والمذاكرة والمناولة، وأن لا يبزق، ولاَ يسعل، ولا يتنحنح، ولا يمخط، وألا يتقدم الرئيسَ في الركوب إشفاقاً عليه من المسل، وأن يتقدمه في النزول، فمتى لم يفعل المعادل هذا كان هو والمثقلة الرصاص التي تعدل بها القبة سَوَاءً، وليس له أن ينام وإن نام الرئيس، بل يأخذ نفسه بالتيقظِ، ومراعاة حال مَنْ هو معه وما هو راكبه؛ لأنهما إذا ناما جميعاً فمال جانب لا يشعر بميله كان في ذلك ما لا خفاء به، وعليُّ بن الجنيد ينظر إليه، فلما أكثر عليه في هذا الوصف والشروط قطع عليه كلامه وقال كما يقول أهل السوَاد: آه حرها، أذهب له فقل له: ما يُزَامِلك إلا مَنْ أمُّه زانية وهو كشخان، فرجع ابن حماد، فقال للمعتصم ما قال، فضحك المعتصم وقال: جئني به، فجاءه، فقال: يا عليُّ، أبعث إليك تزاملني فلا تفعل. فقال: إن رسولك هذا الجاهل الأزعر جاءني بشروط حَسان الشاشي وخالويه المحاكي فقال: لا تبزق، ولا تفعل كذا، وافعل كذا، وجعل يمطَطُ في كلامه، ويفرقع في صاداته، ويشْير بيديه، ولا تسعل، ولا تعطس، وهذا لا يقوم لي،. ولا أقدر عليه، فإن رضيت أن أزاملك فإن جاءني الفُسَاء فَسَوْتُ عليك وضَرَطْتُ، وإذا جاءك أنت فأده فافْسُ واضرط، وإلا فليس بيني وبينك عمل، فضحك المعتصم حتى فحص برجليه، وذهب به الضحك كل مذهب، وقال: نعم زاملني على هذه الشريطة، قال: نعم وكرامَةً، فزامَلَهُ فيِ قبة على بغلٍ، فسارا ساعة، وتوسَّطَا البر، فقال علي: يا أمير المؤمنين حضَر ذلك المتاعُ فما ترى؟ قال: ذلك إليك إذا شِئْتَ، قال: تحضر ابن حماد، فأمر المعتصم بإحضاره، فقال له عليٌ: تعالى حتى أسَارَكَ، فلما دنا منه فَسَا، وناوله كمه، وقال: أجدُ دبيب شيء في كُمِّي فانظر ما هو، فأدخل رأسه، فشم رائحة الكنيف، فقال: ما أرى شيئاً، ولكني لم أعلم أن في جوف ثيابك كنيفاً، والمعتصم قد غَطى فمه بكمه، وقد ذهب به الضحك كل مذهب، ثم جعل يفسو فُسَاء متصلاً، ثم قال لابن حماد: قلت لي لا تسعل ولا تبزق ولا تمخط، فلم أفعل ولكني أخْرَى عليك، قال: فاتصل فساؤه والمعتصم يخرج رأسه من العمارية، ثم قال للمعتصم: قد نضجت القدر، وأريد أخْرَى، فقال المعتصم ورفع صوته حين كثر ذلك عليه: وَيْلَكَ! يا غلام الأرض، الساعة أموت.

ودخل عليٌّ بن الجنيد الإِسكافي يوماً على المعتصم فقال له بعد أن ضاحكه وهازَلَه: يا عليُّ، مالي لا أراك ويلك!؟ أنسيت الصحبة وما حَفِظْتَ الموثق. فقال له حينئذٍ: بالغ الكلام الذي أريد أن أقوله قلته أنت، ما أنت إلا إبليس، فضحك، ثم قال: لم لا تجيئني. قال: آه، كم أجيء فلا أصل إليك، أنت اليوم نبيل، فكأنك من بني مارية وبَنُو مَارَيةَ أناس من أهل السواد يَضْرِبُ بهم أهلُ السواد الأمثال لكبرهم في نفوسهم، فقال له المعتصم: هذا سندان التركي، وأشار إلى غلام على رأسه بيديه مِذَبةٌ، وقال له: يا سندان، إذا حضر عليّ فأعلمني وإن أعطاك رقعة فأوضحلها إليَ، وإن حَمَّلك رسالة فأخبرني بها، قال: نعم يا سيدي، وانصرف علي فأقام أياماً ثم جاء يطلب سندان فقالوا: هو نائم، فانصرف ثم عاد، فقالوا: هو داخل، ولا تصل إليه، فانصرف وعاد، فقالوا: هو عند أمير المؤمنين، فاحْتَالَ حتى دخل عند المعتصم من جهة أخرى، فضاحكه ساعة وعاتبه، وقال له: يا عليّ، ألك حاجة. قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن رأيت سندان التركي؛ فأقره مني السلام، فضحك وقال: ما حالُه. قال: حالُه أنك جعلْتَ بيني وبينك إنساناً رأيتك قبل أن أراه، وقد اشتقْتُ إليه فأسألك أن تبلغه مني السلام، فغلب المعتصمَ الضحكُ، وجمع بينه وبين سندان ثانية وأكد عليه في مراعاة أمره، فكان لا يمنع منه.
المعتصم وشيخ زلق حماره في الطين
وعَبَر المعتصم من سُر مَنْ رأى من الجانب الغربي - وذلك في يوم مَطِيرٍ، وقد تبع ذلك ليلة مطيرة - وانفردَ من أصحابه، وإذا حمار قد زلق ورمى بما عليه من الشوك، وهو الشوك الذي توقد به التنانير بالعراق، وصاحُبه شيخٌ ضعيف واقتص ينتظر إنساناً يمر فيعينه على حمله، فوَقف عليه، وقال: مالك يا شيخ؟ قال: فديتك! حماري وقع عنه هذا الحمل، وقد بقيت أنتظر إنساناً يعينني على حمله، فذهب المعتصم ليخرج الحمار من الطين، فقال الشيخ: جعلت فداك تفسد ثيابك هذه وطيبك الذي أشمه من أجل حماري هذا؟ قال: لا عليك، فنزل واحتمل الحمار بيد واحدة وأخرجه من الطين، فبهت الشيخ وجعل ينظر إليه ويتعجب منه، ويترك الشغل بحماره ثم شَدَّ عنان فرسه في وسطه وأهوى إلى الشوك وهو حُزْمَتَانِ فحملهما فوضعهما على الحمار، ثم دنا من غدير فغسل يديه واستوى على فرسه، فقال الشيخ السوادي: رضي اللّه عنك، وقال بالنبطية: أشقل غرمى تاحوتكا، وتفسير ذلك، فديتك يا شاب، وأقبلت الخيول، فقال لبعض خاصته: أعْطِ هذا الشيخ أربعة آلاف درهم، وكن معه حتى تجاوز به أصحاب المسالح، وتبلغ به قريته.
وفاة جماعة من العلماء
وفي سنة تسع عشرة ومائتين كانت وفاة أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْنِ مولى آل طلحة بن عبيد اللّه بالكوفة، وبشر بن غياث المريسي، وعبد اللّهَ ابن رجاء الغُدَاني.
محمد بن علي بن موسى بن جعفر
وفيها ضَرَب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القران.
وفي هذه السنة - وهي سنة تسع عشرة ومائتين - قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وذلك لخمس خلون من في الحجة، ودفن ببغداد في الجانب الغربي بمقابر قريش مع جده موسى بن جعفر، وصَلّى عليه الواثق، وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد أبن سبع سنين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك، وقيل: إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمَتْه، وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا لأن أهل الإِمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة البيان، في أسماء الأئمة وما قالت في ذلك الشيعةُ من القطعية.
محمد بن القاسم، العلوي

وفي هذه السنة - وهي سنة تسع عشرة ومائتين - أخاف المعتصم محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بِن علي بن أبي طالب رحمهم الله، وكان بالكوفة من العبادة والزهد والورع في نهاية الوصف، فلما خاف على نفسه هرب فصار إلى خراسان، فتنقَلَ من مواضع كثيرة من كُوَرِهَا كمرو وسرخس والطالقان ونَسَا، فكانت له هناك حروب وكوائن، وانقاد إليه وإلى إمامته خلق كثير من الناس، ثم حمله عبد اللّه بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في أزج اتخذه في بستان بسُرَّ مَنْ رأى، وقد تنوزع في محمد بن القاسم، فمن قائل يقول: إنه قتل بالسم، ومنهم من يقول: إن ناساً من شيعته من الطالقان أتوا ذلك البستان فتأتَّوْا للخدمة فيه من غَرْسٍ وزراعة، واتخذوا سلالم من الحبال واللبود والطالقانية ونقبوا الأزج وأخرجوه فذهبوا به، فلم يعرف له خبر إلى هذه الغاية، وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزَّيدية إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمداً لم يمت، وأنه حي يرزق، وأنه يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه مهديُّ هذه الأمة، وأكثر هؤلاء بناحية الكوفة وجبال طبرستان والدَّيْلَم وكثير من كُوَرِ خراسان، وقول هؤلاء في محمد بن القاسم نحو قول رافضة الكيسانية في محمد بن الحنفية، ونحو من قول الواقفية في موسى بن موسى بن جعفر، وهم الممطورة، بهذا تعرف هذه الطائفة من بين فرق الشيعة، وقد أتينا على وصف قولهم في كتابنا في المقالات في أصول الديانات ووصف قول غُلاتهم من المعنوية وغيرهم من المحمدية وسائر فرق أهل الباطل ممن قال بتنقل الأرواح في أنواع الأشخاص من بهائم الحيوان وغيره في كتابنا المترجم بكتاب سر الحياة.
جمع المعتصم للأتراك
وكان المعتصم يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم، فاجتمع له منهم أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده، وقد كان اصطنع قوماً من حوف مصر ومن حوف اليمن وحوف قيس، فسماهم المغاربة، واستعدَّ رجالَ خراسانَ من الفراغنة وغيرهم من الأشروسية، فكثر جيشه، وكانت الأتراك تؤذَي العوامَّ بمدينة السلام بجريها الخيولَ في الأسْوَاق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صَدْمِه لامرأةٍ أو شيخٍ كبير أو صبي أو ضرير، فعزم المعتصم على النقلة منهم، وأن ينزل في فضاء من الأرض، فنزل البراذان على أربعة فراسخ من بغداد، فلم يستطب هواءها، ولا اتسع له هواؤها، ففم يزل يتنقل ويتقرَّى الموضع والأماكن إلى دِجْلةً وغيرها حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول، فاستطاب الموضع، وكان هناك قرية يسكنها خلق من الجرامقة وناس من النَّبَطِ على النهر المعروف بالقاطول آخذاً من دجلة، فبنى هناك قصراً وبنى الناسُ وانتقلوا من مدينة السلام، وخلت من السكان إلا اليسير، وكان فيما قاله بعض العَيّارِينَ في ذلك معيراً للمعتصم بانتقاله عنهم:
أيا ساكن القَاطُول بين الْجَرَامِقَهْ ... تركْتَ ببغداد الكِباشَ البَطَارِقَهْ
ونالت مَنْ مع المعتصم شدة عظيمة لبرد الموضع وصلابة أرضه، وتأذّوْا بالبناء؟ ففي ذلك يقول بعض من كان في الجيش:
قالوا لنا إن بالقاطول مَشْتَانا ... فنحن نأمل صنع اللّه مولانا
الناس يأتمرون الرأي بينهمُ ... واللّه في كل يوم مُحْدِثٌ شانا
تخطيط سامرا

ولما تأذى المعتصم بالموضع وتعفر البناء فيه خرج يتقرَّى المواضع، فانتهى إلى موضع سَامُرا، وكان هناك للنصارى دَيْر عادي، فسأل بعض أهل الدير عن اسم الموضع، فقال: يعرف بسامرا، قال له المعتصم: وما معنى سامرا؟ قال: نجدها في الكتب السالفة والأمم الماضية أنها مدينة سام بن نوح، قال له المعتصم: ومن أي بلادٍ هي؟ وإلام تضاف؟ قال: من بلاد طبرهان، وإليها تضاف، فنظر المعتصم إلى فَضَاء واسع تسافر فيه الأبصار، وهواء طيب، وأرض صحيحة، فاسْتَمْرَاها واستطاب هواءها، وأقام هنالك ثلاثاً يتصيد في يوم، فوجد نفسه تَتوقُ إلى الغذاء، وتطلب الزيادة على العادة الجارية، فعلم أن ذلك لتأثير الهواء والتربة والماء، فلما استطاب الموضع دعا بأهل الدَّيْرِ فاشترى منهم أرضهم بأربعة آلاف دينار، وارتاد لبناء قصره موضعاً فيها، فأسس بنيانه، وهو الموضع المعروف بالوزيرية بسُرَّ من رأى، وإليها يضاف التين الوزيري، وهو أعذب الأتيان وأرَقّها قشراً، وأصغرها حباً، لا يبلغه تين الشام، ولا يلحقه تين أرجان وحلوان، فارتفع البنيان، وأحضر له الفَعَلَة والصناع وأهل المهن من سائر الأمصار، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغُروس والأشجار، فجعل للأتراك قطائع متحيزة، وجاورهم بالفراغنة والأشروسية وغيرهم من مدن خراسان على قدر قربهم منهم في بلادهم، وأقطع أشنان التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرا، ومن الفراغنة مَنْ أنزلهم الموضِعَ المعروف بالعمري والجسر، واختطت الخطط، واقتطعت، القطائع والشوارع والحروب، وأفْرِدَ أهْلُ كل صنعة بسوق، وكذلك التجار، فبنى الناس، وارتفع البناء، وشيدت الدور والقصور، وكثرت العمارة، واستنبطت المياه، وجرت من دجلة وغيرها، وتسامع الناس أن دار ملك قد اتخذت، فقصدوها وأجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس وغيرهم من الحيوان، وكثر العيش، واتسع الرزق، وشملهم الِإحسان، وعمهم العدل فاتسع الخصب، وأقبلت الأرض وكان بَدء ما وصفنا فيما فعله المعتصم سنة إحدى وعشرين ومائتين.
خروج بابك الخرمي

واشتد أمر بابك الخرمي ببلاد الران والبيلقان، وكثرت عترته في تلك البلاد وسار عساكره نحو تلك الأمصار، ففرق الجيوش، وهزم العساكر، وقتل الوُلاةَ، وأفنى الناس، فسير إليه المعتصم الجيوش وعليها الأفشين، وكثرت حروبه واتصلت، وضاق بابك في بلاده حتى انفضَ جمعه، وقتل رجاله، وامتنع بالجبل المعروف بالبدين من أرضَ الران، وهي بلاد بابك، وبه يعرف هذا الموضع إلى هذا الوقت، فلما استشعر بابك ما نزل به وأشرف عليه هرب من موضعه، وزال عن مكانه، فتنكر هو وأخوه وولده وأهله ومَنْ تبعه من خواصه، وقد تزيَّا بزي السفر وأهل التجارة والقوافل، فنزل موضعاً من بلاد أرمينية من أعمال سهل بن سنباط من بطارقة أرمينية على بعض المياه، وبالقرب منهم راعي غنم، فابتاعوا منه شاة، وساموا شراء شيء من الزاد لهم، فمضى من فَوْرِه إلى سهل بن سنباط الأرميني، فأخبره الخبر، وقال: هو بابك لا شك فيه، وقد كان الأفشين لما هرب بابك من موضعه وزال عن جبله خشي أن يعتصم ببعض الخبال المنيعة أو يتحصن ببعض القلاع، أو ينضاف إلى بعض الأمم القاطنة ببعض تلك الديار فيكثر جمعه وينضاف إليه فُلاّل عسكره، فيرجع إلى ما كان من أمره، فأخنه الطرق، وكاتب البطارقة في الحصون والمواضع من بلاد أرمينية وأذربيجان والران والبيلقان، وضمن في ذلك الرغائب، فلما سمع سهل بن سنباط من الراعي ما أخبره به سار من فَوْرِه فيمن حَضَره من عدده وأصحابه حتى أتى الموضع الذي فيه بابك، فترجَّل له، ودَنَا منه، وسلم عليه بالملك، وقال له: أيها الملك، قُمْ إلى قصرك الذي فيه ولِيُّكَ وموضع يمنعك اللّه فيه من عدوك، فسار معه إلى أن أتى قلعته، وأجلسه على سريره، ورفع منزلته، ووطأ له منزله ومن معه، وقدّمت المائدة، وقعد سهل يأكل معه، فمال له بابك، بجهله وقلة معرفته بما هو فيه وما دفع إليه - : أمثلك يأكل معي. فقام سهل عن المائدة، وقال: أخطأت أيها الملك، وأنت أحق من احتمل عبده إذ كانت منزلتي ليست بمنزلة من يأكل مع الملوك، وجاءه بحداد، وقال له: مُدَّ رجلك أيها الملك، وأوْثَقَه بالحديد، فقال له بابك: أغدراً يا سهل! قال: يا ابن الخبيثة إنما أنت راعي غنم وَبَقَر، ما أنت والتدبير للملك ونظم السياسات وتدبير الجيوش! وقيد مَنْ كان معه، وأرسل إلى الأفشين يخبره الخبر، وأن الرجل عنده، فسرَّحَ إليه الأفشين أربعة آلاف فارس عليهم الحديد، وعليهم خليفة يُقال له بوماد، فتسلموا بابك ومن معه، وأتي به إلى الأفشين ومعه سهل بن سنباط، فرفع الأفشين منزلة سهل، وخلع عليه، وجمله، وتَوّجه، وقاد بين يديه، وأسقط عنه الخراج، فأطلقه، وأطلقت الطيور إلى المعتصم، وكتب إليه بالفتح، فلما وصل إليه ذلك ضَج الناس بالتكبير، وعَمَّهم الفرح، وأظهروا السرور، وكتبت الكتب إلى الأمصار بالفتح، وقد كان أفنى عساكر السلطان، فسار الأفشين ببابك، وتنقل بالعساكر، حتى أتى سُرَّ مَنْ رأى، وذلك سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتلقى الأفشينَ هارونُ بن المعتصم وأهلُ بيت الخلافة ورجال الدولة، ونزل بالموضع المعروف بالقاطول على خمسة فراسخ من سامرا، وبعث إليه بالفيل الأشْهَبِ، وكان قد حمله بعض ملوك الهند إلى المأمون، وكان فيلاً عظيماً قد جلل بالديباج الأحمر والأخضر وأنواع الحرير الملون، ومعه ناقة عظيمةٌ بُخْتِية قد جللت بما وصفنا، وحمل إلى الأفشين دُرَاعَة من الديباج الأحمر منسوجة بالذهب قد رُصِّعَ صدرها بأنواع الياقوت والجوهر، ودراعة دونها، وقلنسوة عظيمة كالبرنس ذات سفاسك بألوان مختلفة، وقد نظم على القلنسوة كثير من اللؤلؤ والجوهر، وألبس بابك الدراعة الجليلة، وألبس أخوه الأخرى، وجعلت القلنسوة على رأس أخيه نحوها، وقُدِّمَ إليه الفيل، وإلى أخيه الناقة، فلما رأى صورة الفيل استعظمه وقال: ما هذه الدإبة العظيمة؟ واستحسن الدراعة، وقال: هذه كرامة ملك عظيم جليل، إلى أسير فقد العز ذليل، أخطأته الأقدار، وزالت عنه الجدود، وتَوَرَّطته المحن، إنها لفرجة تقتضي ترحة، وضرب له المصاف صفين في الخيل والرجال والسلاح والحديد والرايات والبنود، من القاطول إلى سَامُرَّا، ملا واحد متصل غير منفصل، وبابك على الفيل وأخوه وراءه على الناقة، والفيل يخطر بين الصفين به، وبابك ينظر إلى ذات اليمين وذات الشمال، ويميز الرجال والعُمَد، ويظهر الأسف والحنين

على ما فاته من سفك دمائهم، غير مستعظم لما يرى من كثرتهم، وذلك يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ولم ير الناس مثل ذلك اليوم، ولا مثل تلك الزينة، ودخل الأفشين على المعتصم فرفع منزلته، وأعلى مكانه، وأتى ببابك فَطَوَّفَ به بين يديه، فقال له المعتصم: أنت بابك؟ فلم يجب، وكررها عليه مراراً، وبابك ساكت، فمال بليه الأفشين وقال: الويل لك! أمير المؤمنين يخاطبك وأنت ساكت؟ فقال: نعم أنا بابك، فسجد المعتصم عند ذلك، وأمر بقطع يديه ورجليه. ما فاته من سفك دمائهم، غير مستعظم لما يرى من كثرتهم، وذلك يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ولم ير الناس مثل ذلك اليوم، ولا مثل تلك الزينة، ودخل الأفشين على المعتصم فرفع منزلته، وأعلى مكانه، وأتى ببابك فَطَوَّفَ به بين يديه، فقال له المعتصم: أنت بابك؟ فلم يجب، وكررها عليه مراراً، وبابك ساكت، فمال بليه الأفشين وقال: الويل لك! أمير المؤمنين يخاطبك وأنت ساكت؟ فقال: نعم أنا بابك، فسجد المعتصم عند ذلك، وأمر بقطع يديه ورجليه.
قال المسعودي: ورأيت في كتاب أخبار بغداد أنه لما وقف بابك بين يديه لم يكلمه مَلِيّاً، ثم قال له: أنت بابك. قال: نعم، أنا عبدك وغلامك، وكان اسم بابك الحسن، واسم أخيه عبد اللّه، قال: جَرِّدُوه، فسَلَبَه الخَدامُ ما عليه من الزينة، وقطعت يمينه، وضرب بها وجهه، وفعل مثل ذلك بيساره، وثلث برجليه، وهو يتمرغ في النطع في دمه، وقد كان تكلم بكلام كثير يرغب في أموال عظيمة قبله، فلم يلتفت إلى قوله، وأقبل يضرب بما بقي من زنديه وجهه، وأمر المعتصم السّيَاف أن يدخل السيف بين ضلعين من أضلاعه أسفل من القلب ليكون أطول لعذابه، ففعل، ثم أمر بجز لسانه وصلب أطرافه مع جسده فصلب ثم حمل الرأس إلى مدينة السلام، ونصب على الجسر، لما كان في نفوس الناس من استفحال أمره، وعظم شأنه، وكثرة جنوده، وإشرافه على إزالة مُلكٍ وقلب ملة وتبديلها، وحمل أخوه عبد اللّه مع الرأس إلى مدينة السلام، ففعل به إسحاق بن إبراهيم أميرها ما فعل بأخيه بابك بسامرا، وصلبت جثة بابك على خشبة طويلة في أقاصي سامرا، وموضعه مشهور إلى هذه الغاية يعرف بخشبة بابك، وإن كانت سامرا في هذا الوقت قد خلا منها ساكنها، وبَانَ عنها قاطنها، إلا يسيراً من الناس في بعض المواضع بها.
ولما قتل بابك وأخوه وكان مرت أمره ما تقدم ذكره قام في مجلس المعتصم الخطباء فتكلموا، وقالت الشعراء: فمن قام في ذلك اليوم إبراهيم بن المهدي فقال شعراً بدلاً من الخطبة، وهو:
يا أمين اللّه، إن الحمد للَّه كثيرا
هكذا النصر فلا زا ... ل لك اللَّه نصيرا
وعلى الأعداء أعطيت من اللَّه ظَهِيرَا
وهنيئاً هَيّأ اللَّه لك الفتح الخطيرا
فَهْوَ فتح لم ير الناس له فتحاً نظيرا
وَجَزَى الأفْشِينَ عبدا ... للَّه خيراً وَحُبُورَا
فلقد لاقَى به بَا ... بَكُ يوماً قَمْطَرِيرَا
ذاك مولاك الذي ألْفَيْتَهُ جَلْداً صَبُورَا
لك حَتى ضَرَجَ السيْف له خداً نَضِيرَا
ضَرْبَةً ألقت عَلَى الدَّهْرِ له في الوَجه نُورَا
وتوج الأفشين بتاج من الذهب مرصع بالجوهر، وإكليل ليس فيه من الجوهر إلا الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر قد شبك بالذهب، وألبس وشاحين، وزوج المعتصم الحسن بن الأفشين بأترجة بنت أشناس، وزفت إليه، وأقيم لها عُرْسٌ يجاوز المقدار في البهاء والجمال، وكانت توصف بالجمال والكمال، ولما كان من ليلة الزفاف ما عم سروره خواصَ الناس وكثيراً من عوامهم، قال المعتصم أبياتاً يصف حسنهما وجمالهما واجتماعهما، وهي:
زفت عَرُوسٌ إلى عَرُوس ... بنت رئيس إلى رئيس
أيهما كان ليت شعري ... أجَلَّ في الصدر والنفوس
أصاحب المُرْ هذه المحلى ... أم ذو الوشاحين وَالشّمُوس
غزو الروم زبطرة

وفي هذه السنة - وهي سنة ثلاث وعشرين ومائتين - خرج توفيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغر والصقالبة، وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأُمم، حتى نزل على مدينة زِبَطْرَةَ من الثغر الخزري، فافتتحها بالسيف، وقتل الصغير والكبير وسبى وأغار على بلاد ملطية، فضج الناس في الأمصار، واستغاثوا في المساجد والديار، فدخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم، فأنشده قائماً قصيدةً طويلةً يذكر فيها ما نزل بمن وصفنا ويحضه على الانتصار ويحثه على الجهاد، فمنها:
يا غارة اللّه قد عاينت فانتهكي ... هتك النِّسَاء وما منهن يرتكب
هَبِ الرجال على أجرامها قتلت ... ما بال أطفالها بالذبح تنتهب
هزيمة الروم
وإبراهيم بن المهدي أول من قال في شعره يَا غَارَةَ اللَّه.
فخرج المعتصم من فَوْرِه نافراً عليه دُرَّاعَةٌ من الصوف بيضاء، وقد تعمم بعمامة الغُزَاة، فعسكر في غربي دجلة، وذلك يوم الاثنين، لليلتين خَلَتَا من جمادى الأولى من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونصبت الأعلام على الجسر، ونوعي في الأمصار بالنفير والسير مع أمير المؤمنين، فسارت إليه العساكر والمطوعة من سائر الإِسلام، وجعل على مقدمته أشناس التركي، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ التركي، وعلى ميسرته جعفر بن دينار الخياط وعلى سَاقَتِهِ بُغَا الكبير ويتلوه دينار بن عبد اللّه وعلى القلب عجيف، وسار المعتصم من الثغور الشامية، ودخل من درب السلامة، ودخل الأفْشِينُ من درب الحدث، ودخل الناس من سائر الدروب، فلم يكن يحصي الناس العدد، ولا يضبطون كثرة، فمن مكثر ومقلل؛ فالمكثر يقول: خمسمائة ألف، والمقل يقول: مائتي ألف؛ ولقي ملك الروم الأفْشِين، فحاربه فهزمه الأفْشين، وقتل أكثر بطارقته وأصحابه، وحَمَاهُ رجل من المتنصرة يقال له نصير في خلق من أصحابه، وقد كان الأفشين قصر عن أخذ الملك في ذلك اليوم حين ولّي، وقال: هو ملك، والملوك تُبْقِي بعضاً على بعض، وفتح المعتصم حصوناً كثيرة، ونزل على مدينة عمورية، ففتحها اللّه على يديه، وخرج إليه لاوي البطريق منها، وَسَلَّمَهَا إليه، وأسر البطريق الكبير منها، وهو باطس، وقتل منها ثلاثين ألفاً، وأقام المعتصم عليها أربعة أيام يهدم ويحرق، وأراد المسير إلى القسطنطينية، والنزول على خليجها، والحيلة في فتحها بَرّاً وبحراً، فأتاه ما أزعجه وأزاله عما كان عزم عليه من أمر العباس بن المأمون، وأن ناساً قد بايعوه، وأنه كاتب طاغية الروم، فأعجل المعتصم في مسيره وحبس العباس وشيعته.
وفي هذه السنة مات العباس بن المأمون.
خروج المازيار صاحب طبرستان وموته
وفي سنة خمس وعشرين ومائتين أدخل بن قارن بن بندارهرمس صاحب جبال طبرستان إلى سامرا وقد كان أصطنعه المأمون، فعصى في أيام المعتصم، وكثرت عساكره، واتسعت جيوشه، وكتب المعتصم إليه يأمره بالحضور، فأبى، فكتب المعتصم إلى عبد اللّه بن طاهر يأمره بحربه، فسير إليه من نيسابور عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، فنزل مدينة السارية من بلاد طبرستان، بعد حروب كثيرة كانت له مع المازيار، وأتت الحسن بن الحسين عيونُه بركوب محمد بن قارن - وهو المازيار - إلى الصيد في نفر يسير، فبادره الحسن وناوشه الحرب، فأسر وحمل إلى سامرا فأقر على الأفشين: أنه بعثه على الخروج والعصيان، لمذهبٍ كانوا اجتمعوا عليه، وَدِينٍ اتفقوا عليه من مذاهب الثنوية والمجوس، وقبض على الأفشين قبل قدوم المازيار بسامرا بيوم، وأقر عليه كاتب له يقال له: سابور، فضرب المازيار بسوط حتى مات، بعد أن شهر وصلب إلى جانب بابك، وقد كان المازيار رَغَبَ المعتصم في أموال كثيرة يحملها إليه إن هو مَنَّ عليه بالبقاء، فأبى قبول ذلك، وتمثل:
إنَّ الأسود أسود الغيل همتها ... يوم الكريهة لي المَسْلُوب لا السلب
ومالت خشبة مازيار إلى خشبة بابك، فتدانت أجسامهما، وقد كان صلب في ذلك الموضع باطس بَطْرِيق عمورية، وقد انحنت نحوهما خشبته، ففي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن أوس من كلمة له:
ولقد شفَى الأحشاء من بُرَحَائِهَا ... إذ صار بَاَبَكُ جَارَ مَازِيارِ
ثانيه في كَبِدِ السماء ولم يكن ... لاثنين ثَانٍ إذ هُمَا في الغار

فَكأنَمَا انْحَنَيَا لكيما يَطْوِيَا ... عن باطس خبراً من الأخْبَارِ
ومات الأفشين في الحبس بعد أن جمع بينه وبين مازيار، فأقر عليه، وأخرج الأفشين ميتاً، فصلب بباب العامة، وأحضرت أصنام زعموا أنها كانت حملت إليه، فألقيت عليه، وأضرمت النار، فأتَتْ على الجميع.
موت أبي دلف العجلي
وفي سنة ست وعشرين ومائتين مات أبو دُلَفَ القاسم بن عيسى العجلي، وكان سيد أهله، ورئيس عشريته، من عجل وغيرها من ربيعة، وكان شاعراً مجيداً، وشجاعاً بطلاً، مغنياً مصيباً، وهو القائل:
يوماً تراني عَلَى طِمِرٍّ ... أجَلَّ في الصدر والنفوس
ويوم لهو أحثّ كاسا ... وخلف أذني قضيب آس
وذكر أن أبا دُلَفَ طعن فارساً، فنفذت الطعنة إلى أن وصل السنان إلى فارس أخر كان من خلفه فقتلهما ففي ذلك يقول بكر بن النطاح من كلمة له:
قالوا: وينظم فارسَيْنِ بطعنة ... يوم الهياج ولا نراه كليلا
لا تعجبوا فَلَوَ أنَّ طول قنالَه ... ميل إذا نَظَمَ الفوارس ميلا
وذكر عيسى بن أبي دُلَف أن أخاه دُلَفَ - وبه كان يكنى أبوه أبا دُلَفَ - كان ينتقص علي بن أبيِ طالب، ويضع منه ومن شيعته، وبنسبهمِ إلى الجهل، وأنه قال يوماً - وهو في مجلس أبيه، ولم يكن أبوه حاضراَ - : إنهم يزعمون أن لا ينتقص عليّاً أحد إلا كان لغير رشدةٍ، وأنتم تعلمون غيرة الأمير، يعني أباه، وأنه لا يتهيأ الطعن على أحد من حرمه، وأنا أبغض عليّاً، قال: فما كان بأوْشَكَ من أن خرج أبو دُلَفَ، فلما رأيناه قُمْنَا له، فقال: قد سمعت ما قاله دُلَفُ، والحديث لا يكذب، والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلف، هو وَاللَّهِ لزَنْيَةٍ وَحَيْضَة، وذلك أني كنت عليلاً فبعثت إلَيَّ أختي جاريةً لها، كنت بها معجباً، فلم أتمالك أن وقعت عليها وكانت حائضاً فعلقت به، فلما ظهر حَمْلها وَهَبتها لي.
عداوة أبي دلف وابنه
فبلغ من عداوة دُلف هذا لأبيه ونصبه ومخالفته له لأن الغالب على أبيه التشيع والميل إلى علي أن شنع عليه بعد وفاته، وهو ما حدث به حمد بن علس القُوهِسْتَانِي قال: حدثنا دُلَفُ بن أبي دلف، قال: رأيت في المَنَام آتياً أتاني بعد موت أبي، فقال لي: أجبِ الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وَحْشَة وَعْرَة، وأصعدني على درج منها، ثم أدخلني غرفة في حيطانها أثر النار، وفي أرضها أثر الرماد، وإذا به عُريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال كالمستفهم: دُلف. قلت: دُلف، فأنشأ يقول:
فلو أنا إذا مُتْنَا تُرِكْنَا ... لكان الموت رَاحَة كل حَيِّ
ولكِنَّا إذا متْنَا بُعِثْنا ... وَنسْأَل بعده عَنْ كل شي
ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، وانتبهت.
موت جماعة من العلماء
وفي خلافة المعتصم - وذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين - مات جماعه من نقلَة الأخبار وعِلْيَة أصحاب الحديث: منهم عمرو بن مرزوق الباهليّ البصريّ، وأبو النعمان حازم بن الفضل السدوسي، وأبو أيوب سليمان بن حرب الواشجي البصري من الأزد، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم البصري، وأحمد بن عبد اللّه الغُدَاني، وسليمان الشاذ كوني، وعلي المدني.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين مات بِشْرٌ الْحَافِي ببغداد، وكان من بلاد مَرْوَ، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطياليسي بالبصرة، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وعبد اللهّ بن الوهاب الجمحي، وإبراهيم بن يسار الرَّمَادِي، وقيل: إن فيها كانت وفاة محمد بن كثير العبدي، والصحيح أن وفاته كانت في سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
قال المسعودي: وفي سنة سبع وعشرين ومائتين كانت وفاة المعتصم، على دجلة في قصره المعروف بالخاقاني، يوم الخميس لثماني عشرة ليلة بَقِيَت من شهر ربيع الأول، وقيل: لساعَتين من ليلة الخميس: وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وقل: ست وأربعين سنة، على ما قَدَّمنا في صدر هذا الباب، وكان مولده بالخلد ببغداد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن من السنة، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، ومات عن ثمانية بنين، وثمان بنات.

وللمعتصم أخبار حسان، وما كان من أمره في فتح عَمُورِيَّةَ، وما كان من حُرُوبه قبل الخلافة في السفارة نحو الشام ومصر، وغير ذلك، وما كان منه بعد الخلافة، وما حَكَى عنه من حُسْن السيرة واستقامة الطريقة أحمدُ بن أبي دُؤَاد القاضي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، في لمع أوْرَدَها في رسالته المترجمة بسبيل الفضائل، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا في أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وقد ذكرنا في هذا لمعاً مُنَبِّهَة على ما سلف، وباعثة على دَرْس ما تقدم.
ذكر خلافة الواثق باللّه
وبويع هارونُ بنُ محمدِ بن هارونَ الواثقُ باللهّ، ويكنى بأبي جعفر، وأُمه أُمًّ ولد رومية، وتسمى قَرَاطِيسَ، وذلك في اليوم الذي كانت فيه وفاة المعتصم، وهو يوم الخميس لثماني عشرة ليلة خَلَتْ من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وبُويع وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وتسعة أشهر وتوفي بسامرا وهو ابن سبع وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وقيل: إنه توفي في يوم الأربعاء لست بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، ووزيره محمد بن عبد الملك، على حسب ما قدَّمنا في أيام المعتصم من هذا الكتاب، والتواريخ متباينة في مقادير أعمارهِم وأيامهم في الزيادة والنقصان.
ذكر لمع من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
صفات الواثق
كان الواثق كثير الأكل والشرب، واسع المعروف، متعطفاً على أهل بيته، متفقداً لرعيته، وسلك في المذهب مذهب أبيه وعمه من القول بالعدل.
وغلب عليه أحمد بن أبي دُؤَاد، ومحمد بن عبد الملك الزيات، فكان لا يَصْدُر إلا عن رأيهما، ولا يعتب عليهما فيما رَأيَاه، وقلدهما الأمر وفوّض إليهما ملكه.
أعرابي يصف الواثق وأعوانه

وذكر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الجاسمي، نسبة إلى جاسم - وهي قرية من أعمال دمشق بين بلاد الأردن ودمشق بموضع يعرف بالجولان، ويعرف بجاسم على أميال من الجابية وبلاد نوى، وهي من مراعي أيوب عليه السلام - قال: خرجت في أول أيام الواثق إلى سُر من رأى، فلما قربت منها لقيني أعرابي، فأردت أن أعلم خبر العسكر منه، فقلت: يا أعرابي، ممن أنت؟ قال: من بني عامر، فقلت: وكِيف علمك بعسكر أمير المؤمنين قال: قَتَلَ أرضاً عالمها، قلت: ما تقول في أمير المؤمنين؟ قال: وَثقَ بالله فكفاه، أشْجَى العاصية، وَقَصَم العادية، وعدل في الرعية، ورغب عن كل في جناية، قلت: فما تقول في أحمد بن أبي دُؤَاد؟ قال: هَضَبَة لا ترَام، وجبل لا يضام، تشحذ له المدى، وتنصب له الحبائل، حتى إذا قيل قد هلك وثب وَثْبَة الذئب، وَخَتَل خَتْلَة الضب، قلت: فما تقول في محمد بن عبد الملك الزيات؟ قال: وسع الداني شره، ووصل إلى البعيد ضره، له في كل يوم صريع لا يرى فيه أثر نَابِ ولا مِخْلَب، قلت: فما تقول في عمرو بن فرج؟ قال: ضخم نهم، استَعذب الدم، ينصبه القوم تُرْساً للوغى، قلت: فما تقول في الفضل بن مروان؟ قال: رجل نُبِشَ بعد ما قبر، ليس تعدُّ له حياة في الأحياء، وعليه خَفْتة الموتى، قلت: فما تقول في أبي الوزير؟ قال: تخاله كبش الزنادقة، أما تراه إذا أخمله الخليفة سَمِن وَرَتَع، وإذا هزه أمطر فأمْرَعَ، قلت: فما تقول في أحمد بن الخصيب؟ قال: ذاك أكل أكلة نهم، لزرق زرقة بشم، قلت: فما تقول في إبراهيم أخيه؟ قال: أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّانَ يبعثون، قلت: فما تقول في أحمد بن إبراهيم. قال: للّه دره! أي فاعل هو؟ وأي صابر هو؟ اتخذ الصبر دِثَاراً، والجود شعاراً، وأهون عليه بهم، قلت: فما تقول في المُعَلى بن أيوب؟ قال: ذاك رجل خير، نصيح السلطان، عفيف اللسان، سلم من القوم وسلموا منه، قلت: فما تقول في إبراهيم بن رَبَاح؟ قال: ذاك رجل أوثقه كرمه، وأسلمه فَضْله، وله دعاء لا يسلمه، صرب لا يخله، وفوقه خليفة لا يظلمه، قلت: فما تقول في الحسن ابنه؟ قال: ذاك عود نُضَار، غُرِس في منابت الكرم، حتى إذا اهتز حصدوه، قلت: فما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: للّه دره!! أي طالب وِتر، ومدرك ثأر؟ يلتهب كأنه شعلة نار، له من الخليفة في الأحيان جلسة تزيل نعماً، وتُحِلُّ نقماً، قلت: يا أعرابي، أين منزلك حتى آتيك؟ قال: اللهم غَفْراً مالي منزل، أنا أشتمل النهار، وألتحف الليل، فحيثما أدركني الرقاد رقَدْت، قلت: فكيف رضاك عن أهل العسكر. قال: لا أخلق وجهي بمسألتهم، إن أعطوني لم أحمدهم، وإن منعوني لم أفهم، وإني كما قال هذا الغلام الطائي:
وما أبالي وَخَيْرُ القول أصْدَقُه ... حَقَنْتَ لي ماء وجهي أو حقنت دمي
قلت: فأنا قائل هذا الشعر، قال: أئنك أنت الطائي؟ قلت: نعم، قال: للّه أبوك، وأنت القائل:
ماجُودُ كَفِّكَ إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي وقد أخلقته عِوَضُ
قلت: نعم، قال: أنت أشعر أهل زمانك.
وفي رواية أُخرى ليست في الكتاب: قلت: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدني:
أقول وجنح الدجا مُلْبَدُ ... وللّيّل في كلِّ فَجٍّ يَدُ
ونحن ضجيعان فيِ مُجْسَد ... فاللَّه ما ضمِّنَ المجسَدُ
فيا غَدُ إن كنْت بي مُحْسِناً ... فلا تَدْنُ من ليلتي يا غَدُ
ويا ليلة الوصل لا تنفدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
فقلت: لله أبوك!! ورددته معي حتى لقيت ابن أبي عُوَادٍ وحدثته بخبره، فأوصله إلى الواثق، فأمر له بألف دينار، وأخذ له من سائر الكتَّاب وأهل الدولة ما أغناه به، وأغنى عقبه بعده.
وهذا الخبر فمخرجه عن أبي تمام، فإن كان صادقاً فيما قال، ولا أراه، فقد أحسن الأعرابي في الوصف، وإن كان أبو تمام هو الذي صنعه وَعَزَاه إلى هذا الأعرابي فقد قَصَر في نظمه، إذ كانت منزلته أكبر من هذا.
أبو تمام الطائي
وكانت وفاة أبي تمام بالموصل سنة ثمان وعشرين ومائتين، وكان خليعاً ماجناً فيِ بعض أحواله، وربما أداه ذلك إلى ترك موجبات فرضه، تماجناً لا إعتقاداً.

وحدث محمد بن يزيد المبرد، عنِ الحسن بن رجاء، قال: صار إليَ أبو تمام وأنا بفارس، فأقام عندي مقاماً طويلاً، ونمي إليَّ من غير وجه أنه لا يصلي، فوكلت به مَنْ يراعيه، ويتفقده في أوقات الصلاة، فوجدت الأمر على ما اتصل بي عنه، فعاتبته على فعله ذلك، فكان من جوابه أن قال: أتراني أنشط للشخوص إليك من مدينه السلام وأتجشم هذه الطرقاتْ الشاقة، وأكسل عن ركعات لا مئونة عليَّ فيها، لو كنت أعلم أن لمن صلاها ثواباً أو على مَنْ تركها عقاباً، قال: فهممت واللّه بقتله، ثم تخوَّفْتُ أن يصرف الأمر إلى غير جهته، وهو القائل:
وأحق الأنَام أن يَقْضِيَ الدَّيْنَ ... امْرُؤ كَانَ لِلإِله غَرِيمَاً
وهذا قول مباين لهذا الفعل، والناس في أبي تمام في طرفَيْ نقيض: متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ويتجاوز به في الوصف قدره، ويرى أن شعره فوق كل شعر، أو منحرف له معاند، فهو ينفي عنه حسنه، ويعيب مختاره، ويستقبح المعاني الظريفة التي سَبَقَ إليِها وتفرد بها.
وذكر عبد اللّه بن الحسن بن سعد، أن المبرد قال: كنت في مجلس القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، وحضر جماعة سَمَّاهم منهم لحارثي الذي قال فيه علي بن الجهم الشامي:
لم يَطْلعا إلا لآبدة ... الحارثِيُّ وَكَوْكَب الذنب
فجرى ذلك الشعر وإن كان الكلام تسلسل إلى ذكر أبي تمام وشعره، وأن الحارثي أنشد لأبي تمام معاتبة أحسن فيها، وأن المبرد استحيا أن يستعيد الحارثي الشعر، أو يكتبه منه لأجل القاضي، قال ابن سعد: فأعلمت المبرد أني أحفظ الشعر، فأنشدته إياه، فاستحسنه واستعاده مني مراراً حتى حفظه مني، وهو:
جعلت فداك! عبد اللَّه عندي ... بعقب النأي عنه والبعاد
له لُمَة من الفتيان بيض ... قَضَوْا حق الصداقة والوداد
دعوتهُم عليك وَكُنْتُ ممن أنَادِيه ... على النّوَبِ الشداد
قال: وسألته عن أبي تمام والبحتري أيهما أشعر؟ قال: لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعان ظريفة، وجيدة أجود من شعر البحتري، ومن شعر مَنْ تَقَدَّمه من المحدَثِينَ، وشعر البحتري أحسن استواء من شعر أبي تمام، لأن البحتري يقول القصيدة كلها، فتكون سليمة من طعن طاعن أو عيب عائب، وأبو تمام يقول البيت النادر ويتبعه البيت السخيف، وما أشبهه إلا بغائص البحر يخرج الحرة والمَخْشلبة فيجعلهما في نظام واحد، وإنما يؤتي هو وكثير من الشعراء من البخل بأشعارهم، وإلا فلو أسقط من شعره على كثرة عدده ما أنكر منه لكان أشعر نظرائه، فدعاني هذا القول منه إلى أن قرأت عليه شعر أبي تمام، وأسقطت خواطئه وكل ما ذُمَّ من شعره، وأفردت جيده، فوجدت ما يتمثل به ويجري على ألسنة العامة وكثير من الخاصة مائة وخمسين بيتاً، ولا أعرف شاعراً جاهليّاً ولا إسلاميّاً يتمثل له بهذا المقدار من الشعر، ثم قال المبرد: وبالبحتري يُخْتَمُ الشعر، وأنشدني له بيتين زعم المبرد أنهما لو أضيفا إلى شعر زهير لجازا فيه، وهما:
وما سَفَهُ السفيه وإن تَعَدَى ... بأنْجَعَ فيك من حلم الحليم
متى أحْفَظْتَ ذا كرمٍ تَخَطّى ... إليك ببعض أفعال اللئيم
قال: وكان مما ذكرناه من شعر البحتري في هذا المجلس وَقدمّه محمد بن يزيد على نظرائه قولُه في أبني صاعد بن مخلد:
وإذا رأيت مخايل ابْنَيْ صَاعِدٍ ... أدَتْ إليك مخايل ابني مَخْلَدِ
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يَعْلُ موضع فرقد من فرقد
وقوله:
مَنْ شاكِرٌ عني الْخَلِيفَةَ لِلذِي ... أولاهُ مِنْ بِرٍّ وَمِنْ إحسان؟
حتى لقد أفْضَلْتُ من إفْضَالِه ... وأريت نهج الجود حيث أراني
أغْنَتْ يداه يدي، وَشَر جوده ... بخلي فأفقرني كما أغناني
ووثقت بالخلق الجميل معجلا ... منه وأعطيت الذي أعطاني
وقوله:
وددتُ بياضُ السيفِ يوم لقيتنني ... مكان بياض الشيب كان بمفرقي
وقوله:
دنوتَ تواضعاً وعلوت قدراً ... فَشأنَاكَ انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تَبْعُدُ أن تًسَامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع
وقوله في الفتح بن خاقان، وقد نزل إلى أسَد فقتله:

حملت عليه السيف، لا عَزْمُكَ انثنى ... ولا يَدُكَ ارتدَّتْ، ولا حَدُّه نَبَا
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وصَمَّم لما لم يجد منك مهربا
وكنت متى تجمع يمينك والعلا ... لدى ضيْغَم لم تبق للسيف مضربا
وقوله:
ما زال صرف الدهر يؤيس صَفْقتِي ... حتى رَهَنْتُ على المشيب شَبَابِي
وقوله في المنتصر:
وإن عليّاً لأوْلى بكم ... وأزكى بداً عندكم من عمر
وكلٌّ له فَضْلُه والحجو ... لُ البراذين دون الغُرَرْ
وقوله:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... ومن لي أن أمَتَّعُ بالمشيب
ثم ذكر انتقاض الصلح بين عشيرته فقال:
إذا ما الجرح زمَّ على فساد ... تبيَّنَ فيه تفريطُ الطبيبِ
وقوله:
وللسهْمُ الشريد أخَفُّ عِبْئاً ... على الرامي من السهم المصيب
وقوله:
وما منع الفَتْحُ بن خاقان نيلَهُ ... ولكنها الأيام تُعْطِي وتحرم
سحاب خَطَابِي جوعه وهو مُسْبِلِ ... وبحر عَدَانِي فيضه وهو مُفْعمُ
وبحر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... ومَوْضِعُ رُجلي منه أسور مظلم
أأشكو نداهُ بعد أن وَسِعَ الورى ... ومن ذا يذم الغيث إلا مذمم؟
وذكر محمد بن أبي الأزهر قال: كان إبراهيم بن المدبر - مع محلِّهِ في العلم والأدب والمعرفة - يُسيء الرأي في أبي تمام، ويحلف أنه لا يحسن شيئاً قط، فقلت له يوماً: ما تقول في قول مَنْ يقول:
غدا الشيب بفَوْدَيَّ خطة ... سبيل الردى منها إلى النفس مَهْيَعُ
هو الزور يجفو والمعاشر يجتوي ... وَذو الِإلف يُقْلَى والجديد يرقّعُ
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسْي أسْفَعُ
ونحن نرجِّيه على الكره والرضا ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
وفيمن يقول:
فإن ترم عن عمرو تداعى به المدى ... فخانَكَ حتى لم تَجِدْ فيه مترعا
فما كنت إلا السيف لاقَى ضريبة ... فقَطعها ثم انثنى فتقطعا
وفيمن يقول:
شرف على أول الزمان وإنما ال ... شرف المناسب ما يكون كريما
وفيمن يقول:
إذا أحسن الأقوام أن يَتَطَاولوا ... بلا نعمة أحْسَنْتَ أن تتطَوَّلاَ
وفيمن يقول:
ممطر لي الحياة والمال لا ألقاك إلا مستوهباً أو وَهُوبَا
وإذا ما أردت كنت رِشاءَ ... وإذا ما أردت كنت قَليبا
وفي القائل:
خشعوا لصولتك التي عًوّدْتهم ... كالموت يأتي ليس فيه عثار
فالمشي همس والنداء إشارة ... خوف انتقامك والحديث سِرَارُ
أيامنا معقودة أطرافُهَا ... بك، والليالي كُلَّهَا أسحار
تَنْدى عُفَاتك للعُفَاة ويغتدى ... رفقاً إلى زوارك الزوار
وفيمن يقول:
إذا أوْهَدْت أرضاً كان فيها ... رضاك فلا نحنُّ إلى رُبَاهَا
قال ابن أبي الأزهر: فواللّه لكأني أغريت ابن المدبر بأبي تمام، حتى سَبَّه ولعنه، فقلت: إذا فعلت ذلك لقد حدثني المعروف بأبي عمرو بن الحسن الطوسي الراوية أن أباه وَجَّه به إلى ابن الأعَرابي يقرأ عليه أشعار هُذَيْل، قال: فمرت بنا أراجيز، فأنشدته أرجوزة لأبي تمام، لم أنسبْهَا إليه، وهي:
وعاذِلٍ عذلته في عذله ... فظن أني جاهل من جهله
ما غبن المغبون مثل عقله ... مَنْ لك يوماً بأخيك كله
لبست رَيْعَانِي فدعني أبْلهِ ... ومَلكٍ في كبره ونبله
وسوقة في قوله وفعله ... بذلْتُ مدحي فيه باغي بذله
فجزَّ حبل أملي من وصله ... من بعدما استعبدني بمَطْلِهِ
ثم اغتدى معتذراً بجهله ذا عَنَقٍ ... في الجهل لم يخلِّه
يَلْحَظُنِي في جده وَهَزْله ... يعجب من تعجبي من بخله

لحظ الأسير حلقات كَبْلهِ ... حتى كأني جئته بعذله
يا واحداً منفرداً بعدله ... أكسبتُكَ المالَ فلا تملّه
ما يصنع الغِمْدُ بغير نصله ... والمدح إن لم يك عند أهله
فقال لابنه: أكتبها، فكتبها على ظهر كتاب من كتبه، فقال له: جعلت فداك! إنها لأبي تمام، فقال: خرق خرق.
وهذا من ابن المدبر قبيح مع علمه، لأن الواجب أن لا يُدْفَعَ إحسان محسن عدُوّاً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الوضيع والرفيع، فقد روي عن أمير المؤمنين على أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن؛ فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. وقد ذكر عن بزرجمهر بن البختكان - وكان من حكماء الفرس، وقد قدمنا ذكره فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار ملوك ساسان وهم الفرس الثانية. أنه قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه، حتى من الكلب والهرة والخنزير والغراب، قيل له: ما أخذت من الكلب؟ قال: إلْفَهُ لأهله، وذَبَّه عن صاحبه، قيل: فما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره، قيل: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في حوائجه، قيل: فمن الهرة؟ قال: حسن نغمتها وتملّقَها لأهلها عند المسألة.
ومَنْ عاب مثلَ هذه الأشعار التي ترتاح لها القلوب، وتُحَرِّك بها النفوس، وتصغي إليها الأسماع، وتشحذ بها الأذهان، ويعلم كل من له قريحة وفضل ومعرفة أن قائلها قد يبلغ في الِإجادة أبعد غاية وأقصى نهاية، فإنما غَضَّ من نفسه، وطعن على معرفته واختياره.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الهوى إلهٌ معبود، واحتج بقوله تعالى: " أْفَرَأَيْتَ مَنِ اْتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ " .
ولأبي تمام أشعار حسان، ومعانٍ لطافٌ، واستخراجات بديعة.
وحكي عن بعض العلماء بالشعر أنه سئل عن أبي تمام، فقال: كأنه جمع شعر العالم، فانتخب جوهره، وقد كان أبو تمام ألّفِ كتاباً وسَمَّاه: الحماسة وفي الناس من يسميه كتاب الخبية انتخب فيه شعر الناس ظهر بعد وفاته.
وقد صنف أبو بكر الصولي كتاباً جمع فيه أخبار أبي تمام وشعره وتصرفه في أنواع علومه ومذاهبه، واستدل الصولي على ما وصف عن أبي تمام بما يوجد من شعره، من ذلك قوله في صفة الخمر:
جَهْمية الأوصاف، إلا أنهم ... قد لَقّبوها جوهر الأشياء
وقد رثته الشعراء بعد وفاته، والأدباء من إخوانه: منهم الحسن بن وهب الكاتب، وكان شاعراً ظريفاً له حظّ في المنثور والمنظوم، فقال:
سقى بالموصِل الجَدَثَ الغريبا ... سحائِبُ ينتحبن له نحيبا
إذا أطللنه أطللن فيه ... شعيب المزن يتبعها شعيبا
ولَطمت البروقُ له خدودا ... وشَقّقت الوعودُ له جيوباً
فإنَّ تراب ذاك القبر يحوي ... حبيبا كان يدعى لي حبيبا
لبيباً شاعراً فطناً أديباً ... أصيل الرأي في الْجُلّى أريبا
إذا شاهَدتْه رواك فيما ... يسرك رقة منه وطيبا
أبا تمام الطائِيّ، إنَّا ... لقينا بعدك العجب العجيبا
فقدْنَا منك علقا لا ترانا ... نصيب له مدى الدنيا ضريبا
وكنت أخاً لنا أبْلَى إلينا ... ضميرَ الود والنسب القريبا
فلما بِنْتَ كدرت الليالي ... قريب الدار والأقصى الغريبا
وأبدى الدهر أقبح صَفْحَتيه ... ووجها كالحا قطرياً
فأحْر بأن يطيب الموت فيه وأحر بعيشنا أن لا يطيبا
وللحسن أشعار حسان ومعان جياد؛ منها قوله:
أبت مقلتاك لفرط الحَزَنْ ... عليك الرُّقَادَ وبرد الوَسَنْ
وحق لعيني أن لا تناما ... وقلبك مختلس مرتهن
وبين الجوانح داء دفين ... لعمرك مستتر قد كَمَنْ
نجيّ الهموم وقرن الكلوم ... ووهي الحلوم وبعد الوطَنْ
شديد النفار، كثير العثار ... خليع العذار يجرُّ الرسَنْ
أفي كل يوم تُطِيلُ الوقوف ... تناجي الديار وتبكي الدِّمَنْ؟
وتستخير الدار عن أهلها ... وَتُذْرِي الدموع على من ظَعَنْ
كأنك لم تر فيما مضى من الدهر ذا صَبوَة مفتتن

عذرتك أيام شَرْخ الشباب ... وفرعك فرع نضير الغُصَنْ
فأما وقد زال ظل الشَّبَا ... بِ عنك وَوَلّى كأنْ لم يكن
وألبسك الشيب بعد الشَبَاب ... قناعِ بياض كلون القُطُنْ
وصرت قَنًى في عيون الحساَ ... نِ يَخُنكَ عهداً وإن لم تَخَنْ
وَيَصْدِفْنَ عنك إذا رمتهنَّ ... وَكُنْتَ لهم زَمَاناً سكن
فما لك عُذْر وأنت امْرؤٌ ... بما فيه رشدك طَبٌّ فطن
وفي خلافة الواثق مات عليّ بن الْجَعْد مولى بني مخزوم، وكان من عليّة أصحاب الحديث وأهل النقل، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين قَتَلَ الواثِقُ أحمد بن نصر الخزاعي في المحنة على القرآن.
قال المسعودي: وكان يحضر مجلس الواثق فتى برسم الندماء وكان يقوم قائماً لصغر سنه، ولم يكن لذلك يُلْحَقُ في الجلوس بمراتب ذوي الأسنان وكان ذكيّاً مأفوناً له في الِإفاضة مع الجلساء في كل ما يعرض لهم الكلام فيه، والتكلم بما يسنح ويختلج في صدره: من مثل سائر، وبيت شاعر، وحديث ممتع، وجواب مُسْرع، قال: وكان الواثق من شدة الشهوة للطعام والنهمة فيه على الحالة المشهورة المتعالمة، فقال لهم الواثق يوماً: ما تختارون من النَقْل؟ فبعض، قال: نبات السكر، وبعض قال: رمان، وبعض قال: تفاح، وبعض قال: قصب السكر ينضج بماء الورد، وبعض أخرجته الفلسفة إلى النقيض، فمال: ملح يغلي، وبعض قال: صبر يمحى بمذاب النبيذ، ويجلى على سَوْرَة الشراب ومرارة النقل، قال: ما صنعتم شيئاً، ولكن ما تقول أنت يا غلام. قال: خشكنانج مسير، فوافق ذلك مراد الواثق وقرع به ما في نفسه، وقال: أصبت وأحسنت بارك اللّه لكم، وكان ذلك أول جلوسه.
محمد بن علي بن موسى
وقيل: إن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم الرضوان توفي في خلافة الواثق، وقد بلغ من السن ما قَدَّمناه في خلافة المعتصم من هذا الكتاب، وقيل: إنه كتب إلى الواثق: يا أمير المؤمنين! ليس من أحد وإن ساعَدَتْهُ المقادير بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه، ومَنْ ترك معاجلة الدرك انتظار مؤاجلة الأشياء سلبته الأيام فرصته، فإن شرط الزمان الآفات، وحكم الدهر السلب.
عبد اللّه بن طاهر: وفي سنة ثلاثين ومائتين - وذلك في خلافة الواثق - توفي أبو العباس عبد اللّه بن طاهر بن الحسين في ربيع الأول من هذه السنة، وفيه يقول الشاعر، وَقتَ كون عبد اللّه بن طاهر بمصر:
يقول أنَاس: إنَّ مصر بعيدة ... وما بعدت مصر وفيها ابنُ طاهِر
وأبعد من مصر رجال تَرَاهُمُ ... بحضرتنا معروفُهُمْ غير حاضر
عن الخير مَوْتَى، ما تبالي أزرتهم ... على طمع أم زرت أهل المقابر
مجلس للواثق في الفلسفة والطب
وكان الواثق باللّه محباً للنظر، مكرماً لأهله، مبغضاً للتقليد وأهله، محباً للِإشراف على علوم الناس وآرائهم، ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشرعيين، فحضرهم ذات يوم جماعة من الفلاسفة والمتطببين، فجرى بحضرته أنواع من علومهم في الطبيعيات وما بعد ذلك من الِإلهيَّات، فقال لهم الواثق: قد أحببت أن أعلم كيفية إدراك معرفة الطب ومأخذ أصوله أذلك من الحس أم من القياس والسنة؟ أم يدرك بأوائل العقل؟ أم على ذلك وطريقه يعلم عندكم من جهة السمع، كما يذهب إليه جماعة من أهل الشريعة؟ وقد كان ابن بختيشوع وابن ماسويه وميخائيل فيمن حضر، وقيل: إن حنين بن إسحاق وسلمويه فيمن حضر في هذا المجلس أيضاً.

فقال منهم قائل: زعم طوائف من الأطباء وكثير من متقدميهم أن الطريق الذي يدرك به الطب هو التجربة فقط، وحَدُّوه بأنه علم يتكرر الحس على محسوس واحد في أحوال متغايرة، فيوجد بالحس في آخر الأحوال كما يوجد في أولها، والحافظ لذلك هو المجرب، وزعموا أن التجربة ترجع إلى مَبَادٍ أربعة هن لها أوائل ومقدمات، وبها علمت وصحت، وإليها تنقسم التجربة، فصارت بذلك أجزاء لها، فزعموا أن قسماً من تلك الأقسام طبيعي، وهو ما تفعله الطبيعة في الصحيح والمريض: من الرعاف، والعرق، والِإسهال، والقيء التي تُعْقِبُ في المشاهدة منفعة أو ضرراً. وقسماً عرضياً، وهو ما يعرض للحيوان من الحوادث والنوازل، وذلك كما يعرض للِإنسان أن يجرح أو يسقط فيخرج منه دم قليل أو كثير، أو يشرب في مرضه أو صحته ماء بارداً أو شراباً، فيعقب في المشاهدة منفعة أو ضرراً، وقسماً إرادياً، وهو ما يقع من قبل النفس الناطقة، وذلك كمثل منام يراه الِإنسان،. وهو أن يرى كأنه عالج مريضاً به علة مشاهدة معقولة بشيء من الأشياء معروف فيبرأ ذلك المريض من مرضه، أو يخطر مثل ذلك بباله في حال فكره، فيتردد ويعطب ظنه بعطبه فيجربه بأن يفعله كما يرى في منامه، فيجده كما يرى أو يخالف ذلك، ويفعله مراراً، فيجده كذلك. وقسماً هو نقل، وهو على ثلاثة أقسام: إما أن ينقل الدواء الواحد من مرض إلى مرض يشبهه، وذلك كالنقلة من ورم الحمرة إلى المعروف بالنَّمْلَة، وإما من عضو إلى عضو يشبهه، وذلك كالنقلة من العضد إلى الفخد، وإما من دواء إلى دواء يشبهه، كالنقلة من السفرجل إلى الزعرور في علاج انطلاق البطن، وكل ذلك لا يعمل به عندهم إلا بالتجربة.
وذهبت طائفة أُخرى منهم إلى أن الحيلة في تقريب أمر صناعة الطب وتسهيلها أن تُرَدَّ أشخاص من العلل ومُوَلّداتها إلى الأصول الحاضرة الجامعة لها، إذ كان لا غاية لتولدها، وأن يستدل على الَدواء من نفس الطبيعة والمرض الحاضر الموجود في الحال والوقت، عون الأسباب المؤثرة الفاعلة التي عدمت، ودون الأزمان والأوقات والأسباب والعادات، ومعرفة طبائع الأعضاء وحدودها، والرصد والتحفظ لكل ما يكون في كل علّة وجدت أو لم توجد، وَبَرْهَنُوا بأن زعموا أن من المعلومات الظاهرة التي لا ريب فيها أن الضدين لا يجوز اجتماعهما في حال، وأن وجود أحدهما ينفي وجود الآخر في الحال لا محالة، قالوا: وليس هذا كشيء ظاهر يستدل به على كل شيء خفي، والشيء الظاهر يحتمل الوجود، فيختلف في الاِستدلال، فيكون القطع على ما يوجبه غير بين، وهذا قول جماعة من حذاق المتطببين وأهل التقدم في اليونانيين مثل نامونيس وساساليس وغيرهما، وهم قوم يعرفون بأصحاب الطب الجبلي.

قال الواثق لهم جميعاً: فأخبروني عن جمهورهم الأعظم إلامِ يذهبون في ذلك. فقالوا: إلى القياس، قال: وكيف ذلك. قالوا جميعاَ: زعمت هذه الطائفة أن الطريق والقانون إلى معرفة الطب مأخوذ من مُقَدِّمات أوَّلَّية، فمنها طبائع الأبدان والأعضاء وأفعالها، ومنها معرفة الأبدان في الصحة والمرض، ومعرفة الأهْوِيَةِ واختلافها، والأعمال والصنائع، والعادات والأطعمة والأشربة والأسفار، ومعرفة قُوَى الأمراض، وقالوا: ثبت في الشاهد أن الحيوان يختلف في صورته وطباعه، وكذلك أعضاؤه مختلفة في طباعها وَصُوَرها، وأن الأجساد الحيوانية تتغير بالأهْوِيَة المحيطة بها وبالحركة والسكون والأغذية من المأكول والمشروب والنوم واليقظة واستفراغ ما يخرج من الجسد واحتباسه والأعراض النفسانية من الغم والحزن والغضب والهم، قالوا: والغرض بالطب في تدبير الأجسام حفظ الصحة الموجودة في البدن الصحيح، واجتلابها للعليل، فالواجب أن يكون حفظ الصحة إنما هو بمعرفة الأسباب المصححة، فالواجب على الطبيب لا محالة من هذه المقدمات التي قد صحت إذا أراد علاج المريض النظر في طبائع الأمراض والأبدان والأغذية والعادات والأزمان والأوقات الحاضرة والأسباب ليستدل بجميع ذلك، وهذا يا أمير المؤمنين قول أبقراط وجالينوس فيمن تقدم وتأخر عنهم، قالوا: وقد اختلفت هذه الطائفة في كثير من الأغذية والأدوية، مع اتفاقهم على ما وصفنا، وذلك لاختلافهم في كيفية الاستدلال؛ فمنهم من زعم أنه يستدل على طبيعة الشيء من الأغذية والأدوية بطعمه أو ريحه أو لونه أو قوامه أو فعله أو تأثيره في الجسد، وزعموا أن الوثيقة في الاستدلال بالأجزاء إذا كانت الألوان والأرايح وسائر ما ذكرنا من أفعال الطبائع الأربع، كما أن الإسخان والتبريد والتليين فعل لها، وزعمت طائفة أخرى منهم أن أصح الشهادات وأثبت القضايا في الحكم على طبيعة الدواء والغذاء بما أخذ من فعله في الجسد دون الطعم والرائحة، وما سوى ذلك، فإن الاستدلال بما سوى الفعل والتأثير لا يقطع به، ولا يعول في الحكم على طبيعة الدواء المفرد والمركب.
قال الواثق لحنين من بين الجماعة: ما أول آلات الغذاء من الِإنسان؟ قال: أول آلات الغذاء من الإِنسان الفم، وفيه الأسنان، والأسنان اثنتان وثلاثون سناً، منها في اللّحْي الأعلى ستة عشر سناً، وفي اللّحْي الأسفل كذلك، ومن ذلك أربعة في كل واحد من اللحيين عِرَاضٌ محدود الأطراف تسميها الأطباء من اليونانيين القواطع وذلك أن بها يقطع ما يحتاج إلى قطعه من الأطعمة اللينة، كما يقطع هذا النوع من المأكول بالسكين، وهي الثنايا والرَّبَاعِيَاتُ، وعن جنبي هذه الأربعة في كل واحد من اللحيين سِنَانٍ رؤوسهما حَافَةٌ وأصولهما عريضة، وهي الأنياب، وبها يكسر كل ما يحتاج إلى تكسيره من الأشياء الصلبة مما يؤكل، وعن جَنْبَي النابين في كل واحد من اللحْيَيْنِ خمس أسنان أخر عوارض خشن، وهي الأضراس، ويسميها اليونانيون الطواحن، لأنها تطحن ما يحتاج إلى طحنه مما يؤكل، وكل واحد من الثنايا والربَاعِيَاتِ والأنياب له أصل واحد، وأما الأضراس فما كان منها في اللَّحْي الأعلى فله ثلاثة أصول، خلا الضرسين الأقصيين، فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول أربعة، وما كان من الأضراس في اللّحْي الأسفل فلكل واحد منها أصلان، نجلا الضرسين الأقْصَيَيْنِ؛ فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول ثلاثة، وإنما احتج إلى كثرة أصول الأضراس عون سائر الأسنان لشدة قوة العمل بها، وخصت العليا منها بالزيادة في الأصول لتعلقها بأعلى الفم.
قال الواثق: أحسنت فيما ذكرت من هذه الآلات، فصنف لي كتاباً تذكر فيه جميع ما يحتاج إلى معرفته من ذلك، فصنف له كتاباً جعله ثلاث مقالات، يذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء والمسهل وآلات الجسد.
الواثق وحنين بن إسحاق أيضاً

وقد ذكر أن الواثق سأل حُنَيْناً في هذا المجلس وفي غيره عن مسائل كثيرة، وأن حُنَيْناً أجاب عن ذلك، وصنف في كل ذلك كتاباً ترجمه بكتاب المسائل الطبيعية يذكر فيه أنواعاً من العلوم، فكان مما سأل الواثق حُنَيْناً من المسائل، وقيل: بل أحْضَرَ له الواثق نديماً من ندمائه فكان يسأله بحضرتا والواثق يسمع ويتعجب مما يوِرده السائل والمجيب، إلى أن قال: في الأشياء المغيرة للهواء. قال حُنيْنٌ: خمس، وهي أوقات السنة، وطلوع الكواكب وغروبها، والرياح والبلدان، والبحار.
أوقات السنة
قال السائل: فكم هي أوقات السنة؟ قال حُنَيْن: أربع: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء؛ فمزاج الربيع معتدل في الحرارة والرطوبة، ومزاج الصيف حار يابس، ومزاج الخريف بارد يابس، ومزاج الشتاء بارد رطب.
الكواكب: قال السائل: أخبرني عن كيفية تغيير الكواكب للهواء، قال حنين: إن الشمس متى قربت منها أو قربت هي من الشمس كان الهواء أزيد سُخُونةً، وخاصة كلما كانت أعظم، ومتى بعدت الشمس أو بعدت هي من الشمس كان الهواء أزيد برداً.
الرياح
قال السائل: أخبرني عن كيفية أعداد الرياح، قال حنين: أربع: الشَّمَال، والجنوب، والصَبَا، والدَّبور، فأما قوة الشّمال فباردة يابسة، وأما الجنوب فحارة رطبة، وأما الصَبا والدًبور فمعتدلان، يخر أن الصَبا أمْيَلُ إلى الحرارة واليبس، والدًبور أميل إلى البرودة والرطوبة من الصبا.
البلدان
قال: فأخبرني عن أحوال البلدان في ذلك، قال: هي أربع؛ الأول الارتفاع، والثاني الانخفاض، والثالث مجاور الجبال والبحار، والرابع طبيعة تربة الأرض، والنواحي أربع، وهي: الجنوب، والشمال، والمشرق، والمغرب، فناحية الجنوب أسْخَنُ، وناحية الشمال أبرد، وأما ناحيتا المشرق والمغرب فمعتدلتان، واختلاف البلدان بارتفاعها وانخفاضها؛ لأن ارتفاعها يجعلها أبرد، وانخفاضها يجعلها أسخن، والبلدان تختلف بحسب مجاورة الجبال لها؛ لأن الجبل متى كان من البلد في ناحية الجنوب جعل ذلك البلد أزيد برداً لأنه يستره من الرياح الجنوبية، وإنما تهبُّ فيه الريح الشمالية فقط، ومتى كان الجبل من البلد في ناحية الشمال جعل ذلك البَلَدَ أسْخَنَ.
تأثير البحار في البلدان
قال: فأخبرني عن اختلاف البلدان عند مجاورتها البحار كيف اختلفت؟.
قال حنين: إن كان البحر من البلد في ناحية الجنوب، فإن ذلك البلد يسخن ويرطب، وإن كان في ناحية الشمال كان ذلك البلد أبرد.
قال السائل: فأخبرني عن البلدان كيف اختلفت بحسب طبيعة تربتها، قال: إن كانت أرضها حَجَرِيّةً جعلت ذلك البلد أبرد وأخف وإن كانت تربة البلد حصبانية جعلت ذلك البلد أخف وأسخن وإن كانت طيناً جعلته أبرد وأرطب.
قال: فَلِمَ اختلف الهواء من قبل البحار. قال: إذا جاورت نقائع ماء أو جيفاً أو بُقُولاً عَفِنَةً أو غير ذلك مما يتعفن تغير هواؤها.
فلما كثر هذا الكلام من السائل والمجيب أضْجَرَ ذلك الواثقَ، فقطع ذلك، وأجاز كل واحد ممن حضر، ثم أمرهم أن يخبر كل واحد منهم عما حضره في الزهد في هذا العالم الذي هو عالم الدُثُورِ والفناء والغُرور فذكر كل واحد منهم ما سَنَحَ له من الأخبار عن زهد الفلاسفة من اليونانيين والحكماء المتقدمين كسقراط وديوجانس.
نطق الحكماء على جدث الإسكندر
قال الواثق: قد أكثرتم فيما وصفتم، وقد أحسنتم الحكاية فيما ذكرتم، فليخبرني كل واحد عن أحسن ما سمع من نطق الحكماء الذين حضروا وفاة الإسكندر، وقد جعل في التابوت الأحمر.
فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، كل ما ذكروه حَسَنٌ، وأحْسَنُ ما نطق به مَنْ حضر ذلك المشهد من الحكماء ديوجانس، وقد قيل: إنه لبعض حكماء الهند، فقال: إن الإسكندر أمس أنْطَقُ منه اليوم، وهو اليومَ أوْعَظُ منه أمس.
وقد أخذ هذا المعنى من قول الحكيم أبو العتاهية حيث قال:
كَفَى حَزَناً بدفنك ثَم إنِّي ... نَفَضتُ تراب قبرك مِنْ يَدَيَّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوْعَظُ منك حَيَّا
فاشتد بكاء الواثق، وعلا نحيبه، وبكى معه كل من حضر من الناس، ثم قام من فَوْرِه ذلك وهو يقول:
وصروف الدهر في تقديره ... خُلِقَتْ فيها انخفاضٌ وَانْحِدَارْ

بينما المَرْءُ على إعلائها ... إذْ هَوَى في هُوةٍ منها فَحَارْ
إنما متْعَةُ قوم ساعة ... وحياة المَرْءُ ثوب مُسْتَعَارْ
قال المسعودي: وللواثق أخبار حِسَانٌ مما كان في أيامه من الأحداث وما كان يجري من المباحثة في مجلسه الذي عَقَده للنظر بين الفقهاء والمتكلمين في أنواع العلوم من العقليات والسمعيات في جميع الفروع والأصول، وقد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب في باب خلافة القاهر باللّه بن المعتضد باللّه جُمَلاً من الأخبار في أخلاق الخلفاء من بني العباس لمعنى أْوجَبَ إيرادها في باب خلافة القاهر.
واعتلَّ الواثق فصلَّى بالناس يوم النحر أحمد بن أبي دُوَاد، وكان قاضي القُضاة، فدعا في خطبته للواثق، فقال: اللهم اشفه مما ابتليته، وقد قَدَّمنا ذكر وقت وفاته فيما سلف من أخباره في هذا الباب، فأغنى ذلك عن إعادته.
ذكر خلافة المتوكل على اللّه
وبويع جعفر بن محمد بن هارون، ولقب المنتصر باللّه، فلما كان في اليوم الثاني لقبه أحمد بن أبي دُوَاد المتوكل على اللّه وذلك في اليوم الذي مات فيه الواثقُ أخوه، وهو يوم الأربعاء لست بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ويكنى بأبي الفضل، وبويع له وهو ابن سبع وعشرين سنة وأشهر، وقُتل وهو ابن إحدى وأربعين سنة فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسع لَيَالٍ، وأمه أُم ولد خُوَارزمية يقال لها شجاع، وقُتل ليلة الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
أمره بترك الجدل وإظهار السنة
ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، وَالتَّرْك لما كان عليه الناسُ في أيام المعتصم والواثق والمأمون وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السف والجماعة، وأظهر لباس ثياب الملحمة، وفضل ذلك على سائر الثياب، وَاتَّبَعَهُ مَنْ في داره على لبس ذلك، وشمل الناس لبسه، وبالغوا في ثمنه اهتماماً بعمله، واصطنع الجيد منها؛ لمبالغة الناس فيها، وميل الراعي والرعية إليها، فالباقي في أيدي الناس إلى هذه الغاية من تلك الثياب يعرف بالمتوكلية، وهي نوع من ثياب الملحم نهاية في الحسن والصبغ وجودة الصنع.
أحدث اللعب والمضاحك
وكانت أيام المتوكل أحسن أيام وَأَنْضَرَهَا، من استقامة الملك، وشمول الناس بالأمن والعدل، ولم يكن المتوكل ممن يوصف في عطائه وبذله بالجود، ولا بتركه وإمساكه بالبخل، ولم يكن أحد ممن سلف مر خلفاء بني العباس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل مما قد استفاض في الناس تركه إلا المتوكل، فإنه السابق إلى ذلك وَالمُحْدِثُ له، وأحْدَثَ أشياء من نوع ما ذكرنا فاتبعه فيها الأغلب من خواصه وأكثر رعيته، فلم يكن في وزرائه والمتقدمين من كًتابه وقواده مَنْ يوصف بجود ولا إفضال، أو يتعالى عن مجون وطرب.
غلب عليه الفتح بن خاقان
وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه أغْلَبَ الناس عليه، وأقربهم منه، وأكثرهم تقدماً عنده، ولم يكن الفتح - مع هذه المنزلة من الخلافة - ممن يُرْجَى فضله ويخاف شره، وكان له نصيب من العلم، ومنزلة من الأدب، وألف كتاباً في أنواع من الأدب ترجمه بكتاب البستان.
أحدث البناء الحيري
وأحدث المتوكل في أيامه بناء لم يكن الناس يعرفونه، وهو المعروف بالحيري والكمين والأروقة، وذلك أن بعض سُمَّاره حَدَّثه في بعض الليالي أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نَصر أحدث بنياناً في دار قراره، وهي الحيرة، على صورة الحرب وهيئتها للهجهِ بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق فيه مجلس الملك وهو الصدرُ، والكمان ميمنه وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه، وفي اليمين منهما خزانة الكسوة، وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب، والرواق قد عم فضاؤه الصدر والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوَقْت بالحيري والكمين، إضافة إلى الحيرة، واتبع الناس المتوكل في ذلك ائتماماً بفعله، واشتهر إلى هذه الغاية.
أخذه البيعة لأولاده الثلاثة

وبايع المتوكلُ لبنيه الثلاثة: محمد المنتصر باللّه، وأبي عبد اللهّ المعتز باللّه، والمستعين باللّه، وفي ذلك يقول ابن المدبر في ذكره لهذه البيعة:
يا بيعة مثل بيعة الشَّجَرَهْ ... فيها لكل الخلائق الخِيَرَهْ
أكَّدَهَا جعفر وصيرها ... إلى بنيه الثلاثة البَرَرَهْ
وفي ذلك يقول علي بن الجهم:
قل للخليفة جعفر: يا ذا الندى ... وابن الخلائف والأئمة والهدى
لما أردت صلاح دين محمد ... ولَيْتَ عهد المسلمين محمدا
وثنيت بالمعتز بعد محمد ... وجعلت ثالثهم أعَزّ َمؤيدا
وكان استخلاف المتوكل على اللّه بعد أن استخلف أبو العباس السفاح بمائة سنة، وبعد موت العباس بن عبد المطلب بمائتي سنة، وقد قيل غير ذلك، والله أعلم، على تفاوت التواريخ في كمية أوقاتهم وعَدَدِ سِنِيهِمْ والزيادة في الأيام والشهور ونقصانها من مدة ملكهم.
سخطه على ابن الزيات
وقد كان سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرِين والمغضوب عليهم تَنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخل قائمة مثل رؤوس المسَالِّ في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فأستأذن المتوكل في ذلك، فأذن له، فكتب:
هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تُرِيكَ العين في النوم
لأجزعَنَّ رويداً إنها دُوَل ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم
قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تَصِل الرقعة إليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً، وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً، وهو القائل في تحريض المأمون على إبراهيم بن المهدي عمه حين خرج عليه:
ألم تر أن الشيءَ للشيء علة ... تكون له كالنار تقدح بالزَّنْدِ
كذلك جَرّبنا الأمور، وإنما ... يدلُّكَ ما قد كان قبل على البعد
وظَنَي بإبراهيم أن فكاكه ... سيبعث يوماً مثل أيامه النكد
تذكَرْ أمير المؤمنين قيامه ... وأيامه في الهزل منه وفي الجد
إذا هَزَّ أعواد المنابر باسمه ... تغنَّى بليلي أو بميَّةَ أو هند
في شعر طويل جداً.
ومن شعره قوله في مرثية للمعتصم باللّه:
وظل له سيف النبي كأنما ... مدامعه من شدة الحزن تَنْرِفُ
حمائله والبُرْدُ تشهد أنه ... هو الطيب الأولى الذي كان يعرف
أقول ومن حق الذي قلت أنني ... أقول وأثني بعد ذاك وأحلف
لما هابَ أهل الظلم مثلك سائساً ... ولا أنْصفَ المظلوم مثلُكَ منصف
وقد أتينا على أخباره وما استحسن من أشعاره في الكتاب الأوسط.
وزراؤه
فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجراني، ثم صرفه فاستكتب عبيد اللّه بن يحيى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين إلى أن قتل، وقد أتينا في الكتاب الأوسط على أخباره واتصاله بالمتوكل وأخبار الفتح بن خاقان.
المبرد ومجنون بدير هرقل
وذكر محمد بن يزيد المبرد قال: ذكرت للمتوكل لمنازعة جرت بينه وبين الفتح بن خاقان في تأويل آية وتنازَعَ الناسُ في قراءتها، فبعث إلى محمد بن القاسم بن محمد بن سليمان الهاشمي، وكانت إليه البصرة، فحملني إليه مكرماً، فلما اجتزت بناحية النعمان بين واسط وبغداد ذكر لي أن بدير هرقل جماعة من المجانين يُعالَجُونَ، فلما حاذيته دعتني نفسي إلى دخوله، فدخلته ومعي شات ممن يرجع إلى دين وأدب؛ فإذا أنا بمجنون من المجانين قد دنا إلي، فقلت: ما يقعدك بينهم وأنت بائن عنهم؟ فكسر جفنه ورفع عقيرته، وأنشأ يقول:
إن وصفوني فَناحِلُ الجَسَدِ ... أو فَتْشوني فأبيض الكبد

أضْعَفَ وجدي وزاد في سَقَمِي ... أن لست أشكو الهوى إلى أحد
وضعت كَفِّي على فؤاديَ من ... حَرِّ الأسى وانطوْيت فوق يدي
آه من الحب آه من كبدي ... إن لم أمت في غد فبعد غد
كأن قلبي إذا ذكرتهمُ فريسة ... بين ساعَدَيْ أسَدِ
فقلت: أحسنت للّه درك! زدني، فأنشأ يقول:
ما أقْتَلَ البين للنفوس!! وما ... أوْجعَ فقد الحبيب للكبد!!
عَرضْتُ نفسي من البلاء لما ... أسرف في مهجتي وفي جَلَدِي
يا حسرتي أن أموت معتقلاً ... بين اعتلاج الهموم والكَمِدِ
في كل يوم تفيض معولة ... عيني لعضو يموت في جسدي
فقلت: أحسنت للّه درك! ولا فضّ فوك! زدني، فأنشأ يقول:
اللَه يعلم أنني كَمِدُ ... لا أستطيع أبثُّ ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها ... بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر، وليس يُعِينها جَلَدُ
وأظنّ غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
فقلت: واللّه أحسنت، فاستزتده، فقال: أراك كلما أنشدتك استزدتني، وما ذاك إلا لفرط أدب أو فراق شجن، فأنْشِدْنِي أنت أيضاً، فقلت للذي معي: أنشده، فأنشأ يقول:
عَذْلٌ وَبَيْن وتوديع ومرتحل ... أي العيون على ذا ليس تَنْهَمِلُ؟
تألفَه ما جلدي من بعدهم جلد ... ولا اختزان دموعي عنهمُ بَخَلُ
بلى، وحرمة ما ألقيْنَ من خبل ... قلبي إليهنَ مشتاق وقد رحلوا
وعدت أن البحار السبع لي مَدَدٌ ... وأن جسمي دموع كلها همل
وأنَ لي بدلاً من كل جانحة ... في كل جارحة يوم النوى مُقَلُ
لا درَّ درُّ النوى لو صادفَتْ جبلاً ... لا نهدَّ منها وشيكا ذلك الجبل
الهجر والبين والواشون والإِبل ... طلائع يتراءى أنها الأجل
فقال المجنون: أحسنت، وقد حضرني في معنى ما أنشدت إلى شعر، أفأنشده؟ قلت: هات: فأنشأ يقول:
ترحًلُوا ثم نيطت دونهم سُجُفٌ ... لو كنت أملكهم يوماً لما رحلوا
يا حادِيَ العِيس مهلاكي نودعها ... رفقاً قليلاً ففي توديعها الأجل
ما راعني اليوم شيء غير فقدهم ... لما استقلّت وسارت بالدُّمى الإِبل
إني على العهد لم أنْقُضْ مودتهم ... فليت شعري وطال الدهر ما فعلوا
قال المبرد: فقال الفتى الذي معي: ماتوا، فقال المجنون: آه آه، إن ماتوا فسوف أموت، وسقط ميتاً، فما برحْتُ حتى غسل وكفن وصليت عليه ودفنْتُه.
البحتري ينشد المتوكل
ووردتُ سر من رأى، فأدخلت على المتوكل وقد عمل فيه الشراب، فسئلت عن بعض ما وردتُ له؛ فأجبت، وبين يدي المتوكل البحتريُ الشاعر، فابتدأ ينشده قصيدة يمدح بها المتوكل، وفي المجلس أبو العنبس الصيمري، فأنشد البحتري قصيدته التي أولها:
عن أي ثغر تبتسم؟ ... وبأي طرف تحتكم؟
حسن يضيء بحسنه ... والحسن أشبه بالكرم
قل للخليفة جعفر المتوكل ابن المعتصم
المرتَضَى ابن المجتبى ... والمنعم ابن المنتقم
أما الرعية فَهْي من ... أمَنَاتِ عدلك في حَرَمْ
ياباني المجد الذي ... قد كان قوض فانهدمْ
اسْلمْ لدين محمد ... فإذا سلمت فقد سلم
نلنا الهدى بعد العمى ... بك، والغنى بعد العَدَمْ
فلما انتهى إلى ذلك مشى القهقرى للانصراف، فوثب أبو العنبس فقال: يا أمير المؤمنين، تأمر برده، فقد واللّه عارضته في قصيدته هذه، فأمر برده، فأخذ أبو العنبس ينشد شيئاً لولا أن في تركه بَتْراً للخبر لما ذكرناه، وهو:
من أي سَلْح تلتقم ... وبأي كف تلتطم
أدخلت رأس البحتر ... يِّ أبي عُبَادة في الرَّحِمْ

ووصل ذلك بما أشبهه من الشَّتْم، فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه، وفحصَ برجله اليسرى، وقال: يُدْفع إلى العنبس عشرة آلاف درهم، فقال الفتح: يا سيدي البحتري الذي هُجي وأسمع المكروه ينصرف خائباً؟ قال: ويدفع للبحتري عشرة آلاف درهم، قال: يا سيدي وهذا البصريُ الّذي أشخصناه من بلده، لا يشركهم فيما حصلوه. قال: ويدفع إليه عشرة آلاف درهم، فانصرفنا كلنا في شفاعة الهزل، ولم ينفع البحتريَ جده واجتهاده وحزمه.
حمار أبي العنبس
ثم قال المتوكل لأبي العنبس: أخبرني عن حمارك ووفاته وما كان من شعره في الرؤيا التي أريتها، قال: نعم يا أمير المؤمنين، كان أعقل من القضاة، ولم يكن له جريرة ولا زلّة، فاعتلَّ علة على غفلة، فمات منها، فرأيته فيما يرى النائم، فقلت له: يا حماريِ، ألم أبرد لك الماء، وأنق لك الشعير، وأحسن إليك جَهْدِي. فلم مُت على غفلة؟ وما خبرك؟ قال: نعم، لما كان في اليوم الذي وقَفْتَ على فلان الصيدلاني تكلمه في كذِا وكذا مرت بي أتان حسناء، فرأيتها فأخذَتْ بمجامع قلبي؟ فعشقتها واشتد وجدي بها، فمتُّ كمداً متأسفاً، فقلت له: يا حماري، فهل قلت في ذلك شعراً. قال: نعم، وأنشدني:
هامَ قلبي بأتان ... عند باب الصيدلاني
تيمتني يوم رُحْنَا ... بثناياها الحسان
وبخذَيْنِ أسيلين كلون الشنقراني
فبها مُتَّ ولو عشت إذاً طَالَ هواني
قال: قلت: يا حماري، فما الشنقراني؟ فقال: هذا من غريب الحمير، فطرب المتوكل وأمر الملهين والمغنين أن يغنوا ذلك اليوم بشعر الحمار، وفرح في ذلك اليوم فرحاً شديداً، وسُرَّ سروراً لم يُرَ مثله، وزاد في تكرمة أبي العنبس وجائزته.
المتوكل وعلي بن محمد العلوي
وحدث أبو عبد اللّه محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: قال المتوكل لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه، ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب؟ قال: وما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل افترض اللّه طاعة بنيه على خلقه وافترض طاعته على بنيه؟ فأمر له بمائة ألف درهم، وإنما أراد أبو الحسن طاعة اللّه على بنيه، فعرَّضَ.
وقد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم مَنْ هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مِدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مِلحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جَوْفِ الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعْظَمه وأجلسه إلى جَنبِه، ولم يكن في منزله شيء مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليها بها فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فأعْفِنِي منه، فعافاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:
باتوا على قُلَل الأجْبَال تحرسهم ... غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُلَلُ
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم ... فأودعوا حُفَراً، يا بئس ما نزلوا
ناداهمُ صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت مُنَعَّمة ... من دونها تضرب الأستار والكِلَلُ
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكِلُوا
وطالما عمروا دوراً لتحصنهم ... ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادَّخروا ... فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت مَنَازِلُهم قفْراً مُعَطلة ... وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

قال: فأشفق كل من حضر على عَلِيٍّ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه، قال: واللّه لقد بكى المتوكل بكاءً طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى مَنْ حضره، ثم أمر برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَيْنٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً.
وفاة ابن سماعة القاضي الحنفي
قال: وكانت وفاة محمد بن سماعة القاضي محمد بن الحسن - وصاحب أبي حنيفة في خلافة المتوكل، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وهو ابن مائة سنة، صحيح الجسم والعقل والحواس، يفتض الأبكار، ويركب الخيل التي تقطف وتعنق، لم ينكر من نفسه شيئاً. وحكى ابنه سماعة بن محمد قال: قال لي أبي محمد بن سماعة: وجدت في حياة سَوَار بن عبد اللّه قاضي المنصور كتاباً له بخطه أراه من شعره أو أبيات استحسنها، وهي:
سَلَبْتِ عظامي لحمَها فتركتِها ... عوارِيَ في أجلادها تتكسر
وأخْلَيْتِ منها مُخّهَا فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تَصْفِرُ
إذا سمعت ذكر الفراق ترعّدت ... فرائصها من خوف ما تتحذر
خذي بيدي، ثم ارفعي الثوب وانظري ... ضَنَى جَسَدي لكنني أتستر
ولمحمد بن سماعة تصنيفات حسان في الفقه، وروايات عر محمد بن الحسن وغيره، منها كتاب نوادر المسائل عن محمد بن الحسن في أُلوف أوراق.
موت يحيى بن معين وجماعة من الأنباه
وفي هذه السنة - وهي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين - مات يحيى بن معين، وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين مات أبو بكر بن أبي شيب والقواريري، وكانا من عِلْيَةِ أصحاب الحديث وحُفاظهم، وفيها مات إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكان على بغداد، وولي ابنه مكانه، وله أخبار حسان قد أتينا على غررها في كتابنا أخبار الزمان.
قصة سجين
ومن ظريف أخباره والمستحسن مما كان في أيامه وسيره ببغداد ما حدث به عنه موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي أنه رأى في منامه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: " أطلق القاتل " ، فارتاع لذلك رَوْعاً عظيماً، ونظم في الكتب الواردة لأصحاب الحبوس فلم يجد فيها ذكر قاتل، فأمر بإحضار السندي وعباس، فسألهما: هل رفع إليهما أحد ادعى عليه بالقتل. فقال له العباس: نعم، وقد كتبنا بخبره، فأعاد النظر، فوجد الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل وأقربه، فأمر إسحاق بإحضاره، فلما دخل عليه ورأى ما به من الارتياع قال له: إن صدقتني أطلقتك، فابتدأ يخبره بخبره، وذكر أنه كان هو وعدَّة من أصحاب يرتكبون كل عظيمة، ويستحلُّونَ كل محرم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور يعتكفون فيه على كل بلية، فلما كان في هذا اليوم جاءتهم عجوز كانت تختلف إليهم للفساد، ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة، فبادرْتُ إليها من بين أصحابي، فأدخلتها بيتاً وسَكَّنْتُ روعها، وسألتها عن قصتها، فقالت: اللهّ اللّه فيَّ، فإن هذه العجوز خدعتني وأعلمتني أن في خزانتها حُقاً لم يُر مثله، فشوقتني إلى النظر إلى ما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجَدِّي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأمي فاطمة، وأبي الحسن بن علي، فاحفَظُوهُمْ فيَ، قال الرجل: فضمنت خلاصها، وخرجت إلى أصحابي فعرفتهم بذلك فكأني أغريتهم بها، وقالوا: لمَا قضيت حاجتك منها أردت صرفنا عنها، وبادروا إليها، وقمت دونها أمنع عنها، فتفاقم الأمر بيننا إلى أن نالتني جراح، فعمدت إلى أشدهم كان في أمرها وأكلبهم على هتكها فقتلته، ولم أزل أمنع عنها إلى أن خَلصتها سالمة، وتخلصت الجارية آمنة مما خافته على نفسها، فأخرجتها من الدرا، فسمعتها تقول: سترك اللّه كما سترتني، وكان لك كما كنت لي، وسمع الجيران الضجة فتبادروا إلينا والسكين في يدي والرجل يتشخَطُ في دمه، فرفعتُ على هذه الحالة، فقال له إسحاق: قد عرفت لك ما كان من حفظك للمرأة، ووهبتك للّه ورسوله، قال: فوحقِّ من وهبتني له لا عاودت معصية ولا دخلت في ريبة حتى ألقىِ اللّه، فأخبره إسحاق بالرؤيا التي رآها، وأن الله لم يضيع له ذلك، وعَرَض عليه براً واسِعاً، فأبى قبول شيء من ذلك.
رضاه عن يحيى بن أكثم

وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى ابن أكثم الصيفي، فأشخص إلى سر من رأى، وولي قضاء القضاة، وسخط على أحمد بن أبي دواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد، وكان على القضاء، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجوهراً بأربعين ألف دينار، وأحضر إلى بغداد، وقد كان أبو عبد اللّه أحمد بن أبي عُوَاد فُلِج بجد موت عدوه ابن الزيات بسبعة وأربعين يوماً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
وفاة ابن أبي دؤاد
وفي سنة أربعين ومائتين كانت وفاة أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد بعد وفاة ولده أبي الوليد محمد بن أحمد بعشرين يوماً، وكان ممن أجْرَى اللّه الخير على يديه على ما اشتهر من أمره، وسَهَل اللّه سبيله إليه، وحَبِّب إليه المعروف وفعله.
منزلة ابن أبي دؤاد عند المعتصم
وذكر أن المعتصم كان بالجوسق يوماً مع نُدمَائه - وقد عزم على الإصطباح، وأمر كل واحد منهم أن يطبخ قِدْراً - إذ بصر بسلامة غلام ابن أبي دؤاد، فقال: هذا غلام ابن أبي دواد يتعرف خبرنا، والساعة يأتي فيقول: فلان الهاشمي، وفلان القرشي، وفلان الأنصاري، وفلان العربي، فيعطلنا بحوائجه عما عزمنا عليه، وأنا أشهدكم أني لا أقضي اليوم له حاجة، فلم يكن بين قوله وبين استئذان الأتباع لأبي عبد اللّه إلا هنيهة، فقال لجلسائه: كيف ترون قولي؟ قالوا: فلا تأذن له، قال: سوءاً لكم، حُمَّى سنة أهْوَنُ عليَ من ذلك، ودخل، فما هو إلا أن سلم وجلس وتكلم حتى أسْفَرَ وجه المعتصم وضحكتَ إليه جوارحه، ثم قال له. يا أبا عبد اللّه قد طبخ كل واحد من هؤلاء قِدْراً، وقد جعلناك حكماً في طبخها، قال: فلتحضر ثم آكل ثم أحكم بحكم بعلم، فحملت إليه القُدُورُ ووضعت بين يديه، فجعل يأكل من أول قدر أكلاً تاماً، فقال له المعتصم: هذا ظلم، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني أراك قد أمعنت في هذا اللون، وستحكم لصاحبه، قال: يا أمير المؤمنين عليَ أن آكل من هذه القدور كلها كما أكلت من هذا القدر، فتبسم له المعتصم وقال له: شأنك إذا، فأكل كما قال، ثم قال: أما هذه فقد أحْسَنَ طابخها إذا كثر فلفلها وأقل كمونها، وأما هذه فقد أجاد طابخها إذ أكثر خَلّها وأقل زَيتَهَا، وأما هذه فقد طيبها طابخها باعتدال توابلها، وأما هذه فقد حقق مَنْ عملها بقلة مائها وكثرة مرقها، حتى وصف القدور كلها بصفاتٍ سُرَّ أهلها بها، ثم أكل مع القوم كما أكلوا أنْظَفَ أكْلٍ وأحسنه، مرة يحدثهم بأخبار الأكَلَةِ في صدر الِإسلام: معاوية بن أبي سفيان، وعبيد اللّه بن زياد، والحجاج بن يوسف، وسليمان بن عبد الملك، ومرة يحدثهم عن أكَلَة دهره مثل ميسرة التَّضَار، ودورق القصاب، وحاتم الكيال، وإسحاق الحمامي، فلما رفعت الموائد قال له المعتصم: ألك حاجة يا أبا عبد الله. قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اذكرها فإن أصحابنا يريدون أن يتشاغلوا، قال: نعم يا أمير المؤمنين رجل من أهلك وَطئِه الدهر فغير حاله وخشن معيشته، قال: ومَنْ هو؟ قال: سليمان بن عبد اللّه النوفلي، قال: قدر له ما يصلحه، قال: خمسين ألف درهم، قال: أنفذت ذلك له، قال: وحاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ضِيَاعُ إبراهيم بن المعتمر تردُهَا له، قال: قد فعلت، قال: وحاجة أخرى، قال: قد فعلت، قال: فواللّه ما خرج حتى سأل ثلاث عشرةَ حاجَةَ لا يردُّه عن شيء منها، حتى قام خطيباً فقال في خطبته: يا - أمير المؤمنين، عمرك الله طويلًا، فبعمرك تُخْصِب جنات رعيتك، ويلين عيشهم، وتثمر أموالهم، ولا زلت ممتعاً بالسلامة، مَحْبُوّاً بالكرامة، مرفوعاً عنك حوادث الأيام وغِيَرُها، ثم انصرف؛ فقال المعتصم: هذا والله يتزين بمثله، ويبتهج بقربه، ويعدل ألوفاً من جنسه، أما رأيتم كيف دخل؟ وكيف سلم؟ وكيف تكلم؟ وكيف أكل؟ وكيف وصف القدور ثم انبسط في الحديث؟ وكيف طاب به أكلنا؟ ما يردُّ هذا عن حاجة إلا لئيم الأصل خبيث الفرع، واللّه لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ألف درهم ما رَعَدْته عنها، وأنا أعلم أنه يكسبني بها في الدنيا حمداً وفي الآخرة ثواباً.
وفي أحمد بن أبي دواد يقول الطائي:
لقد أنْسَتْ مساويَ كلِّ دهرٍ ... مَحَاسنُ أحمد بْنِ أبي دواد
فما سافرتُ في الآفاق إلا ... ومن جَدْواه راحلتي وزادي

مقيم الظَنِّ عندك والأماني ... وإن قَلِقَتْ ركَابي في البلاد
المتوكل يشتهي قدراً طبخها ملاحون
وحكي عن الفتح بن خاقان قال: كنت عند المتوكل وقد عزم على الضَبُوح بالجعفري، وقد وَجَّه خلف الندماء والمغنين، قال: فجعلنا نطوف وهو متكئ علي وأنا أحادثه، حتى وصلنا إلى موضع يشرف منه على الخليج، فدعا بكرسي فقعد عليه، وأقبل يحادثني، إذ بصر بسفينة مشدودة بالقُرْب من شاطئ الخليج، ومَلّاح بين يديه قدر كبيرة يطبخ فيها سكباج من لحم بقر، وقد فاحت روائحها، فقال: يا فتح رائحة قدر سكباج واللّه، ويحك، أما ترى ما أطيب رائحتها، عليَّ بها على حالها، فبادر الفراشون فانتزعوها من بين يدي الملاحين، فلما عاين الملاحون أصحاب السفينة ما فعل بهم ذهبت نفوسهم فَرَقاً وخوفاً، وجاءوا المتوكل بالقدر تفور كهيئتها، فوضعت بين أيدينا، فاستطاب ريحها واستحسن لونها، ودعا برغيف فكسر منه كسرة ودفعها إليَّ، وأخذ هو منه مثلها، وأكل كل واحد منا ثلاث لُقم، وأقبل الندماء والمغنون، فجعل يلقم كل واحد منهم لقمة من القدر، وأقبل الطعام ووضعت الموائد، فلما فرغ من أكله أمر بتلك القدر ففرغت وغسلت بين يديه، وأمر أن تملأ دراهم، فجيء بَبَدره ففرغت فيها، فَفَضَلَ من الدراهم مقدار ألفي درهم، فقال لخادم كان بين يديه: خذ هذه القدر فامض بها حتى تدفعها لأصحاب السفينة، وقل لهم: هذا ثمن ما أكلنا من قدركم، وادفع إلى مَنْ طبخها ما فضل من هذه البَدْرَة منِ الدراهم هِبَةً له على تجويده طبخها، قال الفتح: فكان المتوكل كثيراً ما يقول إذا ذكر قدر الملاح: ما أكلت أحسن من سكباج أصحاب السفينة في ذلك اليوم.
وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه بجهينة، وكان من حديثة الموصل: قال: حدثنا أبو الحسن الصالحي، قال: قال الجاحظ: ذُكرتُ لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب بعض ولده، فلما راني استبشع مَنْظَرِي، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وَصَرَفَنِي، وخرجت من عنده، فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الإِنصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والإِنحدار في حَرَّاقته، فركبنا فيها، فلما أتينا كم نهر القاطول وخرجنا من سامرا نصب ستارته وأمر بالغناء، فاندفعت عَوَّادة فغنت:
كلَّ يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غِضَاب
ليت شعري أنا خُصِصْتُ بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت، فأمر الطنْبُورية فغنت:
وارحمتا للعاشقينا ... ما إنْ أرى لهمُ مُعِينا
كم يُهْجَرُونَ ويصرمو ... ن ويقطعون فيصبرونا
قال: فقالتَ لها العَوَادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبَرَزَتْ كأنها فلقة قمر فزجَتْ بنفسها إلى الماء، وعلى رأس محمد غلامٌ يضاهيها في الجمال وبيده مِذَبّة، فلما رأى ما صنعت ألقى المِذَبة من يده وأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء فأنشأ يقول:
وأنا الذي غرقتني ... بعد القضا لو تعلمينا
فزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا هما معتنقان، ثم غاصا فلم يُرَيَا، فهال ذلك محمداً واستعظمه، وقال: يا عمرو لتحدثني حديثاً يسليني عن فقد هذين وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه اللّه أن يخرج جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل، فاغتاظ يزيد، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أمر بأن يتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يُدْخِلَ إليه الرجل، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عُودُهَا، فقال لها الفتى: غني:
أفاطم مَهْلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني:
تألقَ البَرْقُ نجديّاً، فقلت له: ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
يكفيك عني عدو ثائر حنق ... في كفه صارم كالملح مسلول

فغنته، فقال: قل: قال: تأمر لي برطل خمر، فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد فرمى بنفسه على دماغه، فمات، فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى مالي، يا غلمان، خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفرة في دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
فزختْ بنفسها على دماغها فماتت، فسري عن محمد وأحسن صلتي، وقيل: إن هذا الخبر إنما كان مع سليمان بن عبد الملك وليس هذا عن يزيد بن عبد الملك قال: فذكرت هذا الحديث لأبي عبد اللّه محمد بن جعفر الأنباري بالبصرة فقال: أنا أخبرك بنحو من هذا الحديث الذي حدثتني به، حدثني فائق الخادم، وكان مولى لمحمد حُمَيْد الطوسي، أن محمد بن حُمَيْد كان جالساً مع ندمائه يوماً، فغنت جارية من وراء الستارة:
يا قَمَرَ القصر متى تطلع ... أشْقَى وغيري بك يستمتع
إن كان رَبِّي قد قضى ما رأى ... منك على رأسي فما أصنع
وعلى رأس محمد غلام بيده قَدَحٌ يسقيه، فرمى بالقدح عن يده وقال: تصنعين هكذا، ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة، فهتكت الجارية الستارة، ثم رَمَتْ بنفسها على إثره، فنزلت الغلمة خلفهما، فلِم يجدوا أحداً منهما، فقطع محمد الشراب، وقام عن مجلسه.
سخط المتوكل على الرخجي
قال المسعودي: وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين سخط المتوكل علىِ عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب، وأخذ منه مالاً وجوهراً نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار، وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد إليه ضياعه، ثم غضب عليه غضبة ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات.
وأهدى الموبذان إلى المتوكل قارورة دهن، وكتب إليه: إن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير فلطفت ودقت كان أبهى لها وأحسن، وإن كانت من الكبير إلى الصغير فعظمت كان أرفع لها وأنفع.
وفاة الِإمام أحمد بن حنبل
قال المسعودي: وكانت وفاة أحمد بن حنبل في خلافة المتوكل بمدينة السلام، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودُفن بباب حَرْبِ في الجانب الغربي، وصلى عليه محمد بن طاهر، وحضر جنازته خلقَ من الناس لم ير مثل ذلك اليوم والاجتماع في جنازة مَنْ سلف قبله، وكان للعامة فيه كلام كثير جرى بينهم بالعكس والضد في الأًمور: منها أن رجلاً منهم كان ينادي: الْعَنُوا الواقف عند الشبهات، وهذا بالضد عما جاء عن صاحب الشريعة عليه السلام في ذلك، وكان عظيم من عظمائهم ومقدم فيهم يقف موقفَاَ بعد موقف أمام الجنازة وينادي بأعلى صوته:
وأظلمت الدنيا لفقد محمد ... وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل
يريد بذلك أن الدنيا أظلمت عند وفاة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنها أظلمت عند موت ابن حنبل، كظلمتها عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
انقضاض الكواكب
وفي هذه السنة انْقَضّتِ الكواكب الانقضاض الذي لم ير مثله قط، وذلك في ليلة الخميس لستٍ خَلَوْنَ من جمادى الآخرة، وقد كان في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة انقضاض لكوكب عظيم هائل، وهي الليلة التي وقعت فيها القرامطة بحاجِّ العراق من طريق الكوفة، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
وفاة جماعة من أهل العلم

وفي السنة التي مات فيها ابن حنبل كانت وفاة محمد بن عبد اللّه بن محمد الِإسكافي، وكان من أهل النظر والبحث ومن عِلْيَةِ أهل العدل، وكانت وفاة جعفر بن المبشر سنة أربع ومائتين، وكان من كبار أهل العَدْلية وأهل الديانة من البغداديين، ومات جعفر بن حرب سنة ست وثلاثين ومائتين، وهو رجل من هَمْدَانَ وَوُجُوه قحطان، وإلى أبيه يضاف شارع باب حرب في الجانب الغربي من مدينة السلام، وهو شيخ البغداديين من المتكلمين ومات عيسى بن طغج سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان من حُذاقهم وأهل الديانات منهم، وذكر أبو الحسن الخياط أن أبا الهذيل محمد بن الهذيل كانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين، ثم تنازع أصحابه في مولده فقال قوم: سنة إحدى وثلاثين ومائة وقال قوم: سنة أربع وثلاثين ومائة، وقد كان أبو الهذيل هذا اجتمع مع هشام بن الحكم الكوفي الحرار، وكان هشام شيخ المجسمة والرافضة في وقته ممن وافقه على مذهبه، وكان أبو الهذيل يذهب إلى نفي التجسيم ورفع التشبيه، وإلى ضد قول هشام في التوحيد والإِمامة، فقال هشام لأبي الهذيل: إذا زعمت أن الحركة ترى فَلِمَ لا زعمت أنها تلمس؟ قال: لأنها ليست بجسم فيلمس؛ لأن اللمس إنما يقع على الأجسام، فقال له هشام: فقل أيضاً إنها لا ترى؛ لأن الرؤية إنما تقع على الأجسام، فرجع أبو الهذيل سائلًا فقال له: من أين قلت إن الصفة ليست الموصوفَ ولا غيره. قال هشام: من قبل أنه يستحيل أن يكون فعلي أنا يستحيل أن يكون غيري؟ لأن التغاير إنما أوقِعُهُ على الأجسام والأعيان القائمة بأنفسها، فلما لم يكن فعلي قائماً بنفسه، ولم يجز أن يكون فعلي أنا وجب أنه لا أنا ولا غيري، وعلة أخرى أنت قائل بها: زعمت يا أبا الهذيل أن الحركة ليست مماسة ولا مباينة؟ لأنها عندك مما لا يجوز عليه المماسة ولا المباينة، فلذلك قلت أنا: إن الصفة ليست أنا ولا غيري، وعتبي في أنها ليست أنا ولا غيري علتًكَ في أنها لا تماس ولا تباين، فانقطع أبو الهذيل ولم يردَ جواباً.
وفاة جماعة من المعتزلة
وكانت وفاة أبي موسى الفَرَّاء سنة ست وعشرين ومائتين، وكان من شيوخ العَدْلية وكبار المتكلمين من البغداديين، ومات واصل بن عطاء - ويكنى بأبي حذيفة - في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وهو شيخ المعتزلة وقديمها، وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر، وبه سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وقد قدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار بني أمية قول المعتزلة في الأصول الخمسة، فأغنى ذلك عن إعادته، وكذلك فيما سلف من كتبنا على الشرح والِإيضاح، وقد بينا فيما سلف من هذا الكتاب خبر عمرو بن عُبَيْد ووفاته، وكان شيخ المعتزلة والمقدَّمُ فيها، وأن وفاته كانت سنة أربع وأربعين ومائة، وقد كان عمرو بنِ عُبَيْد اجتمع مع هشام بن الحكم، وهشام يذهب إلى القول بأن الإِمامة نصٌ من اللّه ورسوله على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، وعلى مَنْ يلي عصره من ولده الطاهرين كالحسن والحسين، ومن يلي أيامهم، وعمرو يذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة في سائر الأعصار فقال هشام لعمرو بن عبيد: لم خلق اللّه لك عينين؟ قال: لأنظر بهما إلى ما خلق اللّه من السموات والأرض وغير ذلك فيكون ذلك دليلاً لي عليه، فقال هشام: فلم خلق اللّه لك سمعاً؟ قال: لأسمع به التحليل والتحريم والأمر والنهي، فقال له هشام: لم خلق اللّه لك لساناً؟ فقال عمرو: لأعبر به عما في قلبي وأخاطب به من افترض عليّ أمره ونهيه، قال هشام: فلم خلق اللّه لك قلباً؟ قال عمرو: لتكون هذه الحواسُ مؤدية إليه فيكون مميزاً بين منافعها ومضارها، قال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسك ولا يخلق لك قلباً تؤدي هذه الحواسُّ إليه. قال عمرو: لا، فقال هشام: ولم. قال: لأن القلب باعث لهذه الحواس على ما يصبحِ له، فلو لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقت له إلا بخلق القلب، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله، والمميز لها بين مضارها ومنافعها، ويكون الإِمام من الخلق بمنزلة القلب من سائر الحواس إذ كانت الحواس راجعة إلى القلب لا إلى غيره، ويكون سائر الخلق راجعين إلى الِإمام لا إلى غيره، فلم يأت عمرو بفرق يعرف.

وهذا الذي حكيناه ذكره أبو عيسى محمد بن هارون الوراق ببغداد في كتابه المعروف بكتاب المجالس، وكانت وفاة أبي عيسى ببغداد في الجانب الغربي في الموضع المعروف بالرملة سنة سبع وأربعين ومائتين، وله تصنيفات حسان كثيرة منها كتابة في المقالات في الِإمامة وغيرها من النظر.
ابن الراوندي
وكانت وفاة أبي الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندى برحبة مالك بن طَوْقٍ، وقيل: ببغداد سنة خمس ومائتين، وله نحو من أربعين سنة، وله كتب مصنفة مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً.
وقد ذكرنا في كتابنا في أخبار الزمان وفاة أرباب المقالات وأهل المذاهب والجدل والآراء والنحل، وأخبارهم ومناظراتهم وتباينهم في مذاهبهم وكذلك في الكتاب الأوسط، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وإنما يسنح لنا ذكر بعضهم في هذا الكتاب فنذكر لهم لمعاً، وكذلك غيرهم من الفقهاء وأصحاب الحديث.
وفاة الصولي الكاتب
وفيها مات إبراهيم بن العباس الصُّوليُّ، الكاتب، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً، لا يعلم فيمن تقم وتأخر من الكتاب أشعر منه، وكان يكتسب في حداثته بشعره، ورحل إلى الملوك والأمراء ومدحهم طلباً لجدواهم.
وذكر رجل من الكُتّاب أن إسحاق بن إبراهيم أخا زيد بن إبراهيم حدثه أنه كان يتقلد الصيمرة والسيروان، وأن إبراهيم بن العباس اجتاز به يريد خراسان، والمأمون بها، وقد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا، وقد امتدحه بشعر يذكر فيه فضل آل علي وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم، قال: فاستحسنت القصيدة وسألته أن ينسخها لي، ففعل، ووهبت له ألف درهم، وحملته على دابة، وضرب الدهر من ضربه إلى أن ولي ديوان الضياع مكان موسى بن عبد الملك، وكنت أحد عمال موسى، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني، وأمر أن تعمل مؤامرة فعملت، وكثر علي فيها، وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لا يدفع، فلا يقيله، ويحكم لي الكتًابُ فلا يلتفت إلى حكمهم، ويُسْمِعني في خلال ذلك قذعا من الكلام إلى أن أوجب علي الكُتَاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت عليه فقال: ليست يمين السلطان عندك يمينَاً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي فيِ الدنو منك؟ فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعرضك بمهجتي للقتل صبر، وهاهو المتوكل إن كاتبت إليه بما أسمع منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل شيء إلا الرفض.
والرافضيُّ: من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحَقُّ من ولد العباس بالخلافة، قال: ومن قال ذلك. قلت: أنت وخطك عندي به، وأخبرته بالشعر، فواللّه ما هو إلا أن قلت ذلك له حتى سُقِط في يده، ثم قال: أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات!! لا واللهّ أو توثق لي بما أسكُنُ إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة، ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنْتُ إليه، وخرق العمل المعمول، وأحضرته الدفتر، فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة.
ولإِبراهيم بن العباس مكاتبات قد دوّنت، وفصول حسان من كلامه قد جمعت، وقد أتينا على كثير منها في الكتاب الأوسط، فما استحسن من فصوله وإن كانت كلها في نهاية الجودة وانتخبناه من كلامه: وقديماً غَذت المعصية أبناءها فحلبت عليهم من دَرِّهَا مرضعة، وبسطت لهم من أمانيها مطمعة، وركبت فيهم مخاطرها مُوضِعَة، حتىِ إذا رَتَعُوا فأمنوا، وركبوا فاطمأنوا، وانقضى رَضَاع وآن فِطَامٌ، سقتهم سُمّاً، ففجرت مجاري ألبانها منها دماً، وأعقبتهمِ من غذائها مُرّاً، وحَطتْ بهم من معقل إلى عقال، ومن عز إلىِ حسرة، قتلاً وأسراً، وإباحة وقسراً، وقَلَّ من أوضع في الفتنة مرهجاً في لهبها ومقتحماً عند ضلالها إلا استقحمته آخذة بمُخَنقِهِ، وموهِنَة بالحق كيده، حتى تجعله لعاجله جزراً، ولآجله حطباً، وللحق موعظة، وللباطل حجة، ذلك لهم جزاء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر وما ربك بظلام للعبيد.
وله أشعار حسان، فمما استحسن من شعره الذي لم يسبقه عند جماعة أهل الأدب أحدٌ من زمانه قوله:
لنا إبِلٌ كوم يضيقُ بها الفَضَا ... وَيَفْتَرًّ عنها أرضها وسماؤها
فمن عونها أن تُسْتَبَاح دماؤنا ... ومن دوننا أن يستدم دماؤها
حِمًى وقِرًى فالموت دون مرامها ... وأهْوَنُ خطب في الحقوق فناؤها
وقوله:

ولكنَّ الجواد أبا هشام ... وفيُّ الغيب مأمون المغيب
غنيٌّ عنك ما استغنيتَ عنه ... وطَلاّع عليك مع الخطوب
وقوله:
هب الزمان رماني ... الشأن في الخِلاّنِ
فيمنٍ رَمَانِيَ لمَّا ... رأى الزمَان زَمَانِي
ومن ذخرْتُ زمَانِي ... شنأت في الخلان
ومن ذخرت لنفسي ... فعاد ذُخْرَ الزمان
لو قيل لي خًذْ أمَاناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذتُ أمَاناً ... إلا من الِإخوان
وقوله:
وإذا جَزَى اللّه امرأ بفعَالِهِ ... فجرى أخا لك ماجداً سمحَا
نبهتَهُ مِنْ كذبه فكَأنما ... نبهت إذ نبهتَهُ صُبْحَا
ومما يجب على الرؤساء أن يحفظوه قوله:
تزيده الأيامُ إن أقْبَلَتْ ... حزماً وعلماً بتصَارِيفها
كأنها في وقت إسعافها ... تسمعه صوتَ تخاريفها
ومما أحسن فيه وبَرَّزَ عن نظرائه قوله:
سَقْياً وَرَعْياً لأيام لنا سلفت ... بكيت منها فصرتُ اليوَم أبكيهَا
كذاك أيامنا لا شك نندبها ... إذا تَقَضت ونحنُ اليومَ نشكُوها
وقوله:
أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخَشِنِ
وقوله:
لا تَلُمْنِي فإنَّ همك أن تُثْرِي وَهَمِّي مكارمُ الأخلاق
كيف يستطيع حفظ ما جمعت كفاه مَنْ ذاق لذة الإِنفاق
وقوله:
أسدٌ ضارٍ إذا ما هِجْته ... وأبٌ بَر إذا ما قَدَرَا
يعلم الأقصى إذا أثْرَى، ولا ... يعلم الأدنى إذا ما افتقرا
وكان إبراهيم بن العباس يقول: مثل أصحاب السلطان مثل قوم عَلَوْا جبلاً ثم وقعوا منه، فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم من الارتقاء، وكان إبراهيم يدعي خؤولة العباس بن الأحنف الشاعر.
العباس بن الأحنف
وحكى أبو العباس أحمد بن جعفر بن حمدان القاضي، عن سليمان بن الحسن بن مخلد، عن أبيه الحسن، قال: أنشد إبراهيم بن ألعباس قول العباس بن الأحنف:
إن قال لم يفعل، وإن سيل لم ... يبذل، وإن عوتب لم يُعْتِب
صَب بهجراني، ولو قال لي: ... لا تشرب البارد لم أشرب
فقال: هذا واللّه الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، القليل النظير، ما سمعت كلاماً أجزل منه في رقة، ولا أسهل في صعوبة، ولا أبلغ في إنصاف، من هذا، فقال له الحسن: كلامك واللهّ أحسن من شعره: ومما استحسن من شعر العباس بن الأحنف قوله:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
فَطُوبى لما أعفى من الليل ساعة ... وذاق اغتماضا؛ إن ذاك لناعَم
وقوله:
اصرف فؤادك يا عباس معتمداً ... عنها، وَإِلّا تَمُتْ في حبها كمدا
لو أنها من وراء الروم في بلد ... ما كنت أسكن إلا ذلك البلدا
يا من شكا شوقه من هول غيبته ... اصبر لعلك تلقى ما تحب غدا
وقوله:
أغَبَّ الزيارة لما بدا ... له الهجر أو بعض أسبابه
وما صدَ عنَّا، ولكنه ... طريد ملالة أحبابه
وفاة العباس بن الأحنف
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا الرياشي، قال: ذكر جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلامٌ واقف على المحجَّة وهو ينادي: يا أيها الناس، هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قال: فملنا إليه وقلنا له: ما تريد. قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا بشخص مُلْقًى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يُحيِرُ جواباً، فجلسنا حوله، فأحَسَّ بنا، فرفع طرفه، وهو لا يكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول:
يا غريب الدار عن وطنه مفرداً ... يبكي على شَجَنِهْ
كلما جَدّ َالبكاء به ... دَبَّتِ الأسقام في بدنه

ثم أغمى عليه طويلَاً، وإنا لجلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة، وجعل يغرد، ففتح الفتى عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم قال:
ولقد زاد الفؤاد شَجًى ... طائر يبكي على فَنَنِهْ
شَفّه ما شَفِّنِي فبكى ... كلنا يبكي على سَكَنِهْ
قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولّينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنَه، فقال: هذا العباس بن الأحنف.
وقد أخبرنا بهذا الخبز أبو إسحاق الزجاجي النحوي، عن أبي العباس المبرد، عن المازني، قال: حدثنا جماعة من أهل البصرة بما ذكرناه.
وكانت وفاة أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي سنة أربعين ومائتين.
نفى المتوكل علي بن الجهم
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين نَفَى المتوكل عليَّ بن الجهم الشاعر إلى خُرَاسان، وقيل: في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وقد أتينا على خبره وما كان من أمره ورجوعه بعد ذلك إلى العراق، وخروجه يريد السفر، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين، فلما صار بالقرب من حلب من بلاد قنسرين والعواصم بالموضع المعروف بخشبات لقيته خيل الكلبيين فقتلته، فقال في ذلك وهو في الشرق:
أزيد في الليل ليلُ ... أم سال بالصبح سَيْلُ؟
ذكرت أهل دُجَيْلٍ ... وأين مني دُجَيْلَ؟
وكان علي بن الجهم السامِيُّ هذا - مع انحرافه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وإظهاره التسنن مطبوعاً مقتدراً على الشعر؛ عذب الألفاظ، غزير الكلام، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب طعم من طعن على نسبه، وما قال الناس في عقب لسَامَةَ بن لؤي بن غالب، وقول علي بن محمد بن جعفر العلوي الشاعر:
وسَامَةُ منا فأما بنوه ... فأمرهُمُ عندنا مُظْلِم
أناس أتونا بأنسابهم ... خُرَافَة مضطجِعٍ يحلم
وقلت لهم مثل قول النبي ... وكل أقاويله محكم
إذا ما سئلت ولم تدر ما ... تقول فقل ربنا أعلم
وقول العلوي فيه أيضاً:
لو اكتنفت النَّضْرَ أو مَعَدّا ... أو اتخذت البيت كهفاً مَهْدَا
وزمزما شريعة ووردا ... والأخشبين محضرا ومَبْدَار
ما ازددت إلا من قريش بعدا ... أو كنت إلا مصقليا وَغْدَ
وإنما أعدنا ذكر هذا الشعر في هذا الموضع - وإن كنا قد قدمنا فيه سلف من هذا الكتاب - لما سنح لنا من ذكر علي بن الجهم في أيام المتوكل، ولما احتجنا إليه عند ذكرنا لشعر علي بن الجهم وإجابته العلوي على هذا الشعر، فكان ما أجاب به علي الجهم لعلي بن محمد بن جعفر العلوي:
لم تُذِقْنِي حلاوة الإِنصاف ... وتعسّفْتنِي أشَدَّ اعتساف
وتركت الوفاء علما بما فيه وأسْرَفْتَ غاية الإِسراف
غير أني إذا رجعت إلى حق بني هاشم بن عبد مناف
لم أجدلي إلى التّشَفًي سبيلا ... بقواف ولا بغير قواف
ليَ نفس تأبى الدنية والأشراف لا تعتمي على الأشرف
وله في الحبس شعر معروف لم يسبقه إلى معناه أحد، وهو قوله:
قالوا: حبست، فقلت: ليس بضائري ... حبسي، وأي مهند لا يُغْمَد؟
أو ما رأيت الليث يألفَ غِيَلهُ ... كبرا، وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفَرْقَدُ
والنار في أحجارها مخبوأة ... لا تُصْطَلَى إن لم تُثِرْهَا الأزنُدُ
والحبس ما لم تَغْشَه لدنية ... شنعاء نِعْمَ المنزل المستورد
بيت يجحد للكريم كرامة ... وُيزَارُ فيه ولا يزور ويحفد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا يستذلُّكَ بالحجاب الأعبُدُ
ومما أحسن فيه قوله:
خليليَ ما أحْلى الهوى وأمَرَّهُ ... وأعلَمَنِي بالحلو منه وبالمر
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر؟
وأفصح من عين المحب لسره ... ولاسيما إن أطْلَقَتْ عَبرة تجري
ومما اختير من قوله:

حسرَتْ عَنِّيَ القناعَ ظلومُ ... وتولتْ ودمعها مسجوم
شر ما أنكرت تصرم عهد ... لم يَدُمْ لي وأي عهد يدوم؟
أنكرت ما رأت برأسي وقالت: ... أمشيب أم لؤلؤ منظوم
قلت: أولاهما علمت، فقالت: ... آية يستثيرها المهموم
ليس هَمِّي من الهموم التي يحسن فيها العزاء والتسليم
إن أمراً أخْنَى عليَّ بشيب الرأس في ليلة لأمْرٌ عظيم
ليس عندي وإن تَعَزَّيت إلا ... طاعة حرة وقلب سليم
ومن جيد شعره:
هي النفس ما حَمَّلْتها تتحمل ... وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأكمل أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن المرء نعمة ... ولكن عاراً أن يزول التجمل
وما المال إلا حسرة إن تركته ... وغنم إذا قَدَّمته متعجَّلُ
ومما اعتذر فيه فأحسن قوله في المتوكل:
إنَ ذًلَّ السؤال والاعتذار ... خُطّة صعبة على الأحرار
ليس من باطل يوردها المر ... ء ولكن سوابق الأقدار
فارْضَ للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنباً بذلة الاعتذار
إن تجافَيْتَ مُنْعِماً كنت أوْلى ... مَنْ تجافي عن الذنوب الكبار
أو تُعَاقِبْ فأنت أعرف بالله، وليس العقاب منك بعار
ومما جود فيه قوله لما قيد:
فقلت لها والدمع شتى طريقه ... ونار الهوى بالقلب يذْكُو وقودها
فلا تجزعي إمَّا رأيت قيوده ... فإن خلاخيل الرجال قيودها
وكان في لسانه فضل قَلَّ مَنْ سَلِم معه منه، وكان محمد بن عبد اللّه منحرفاً عنه، فاستشفع عليه بوصيف التركي حتى أصلح له ناحيته، ثم فسد عليه وصيف، فاستشفع عليه بمحمد بن عبد اللّه، وكتب إليه:
الحمد للَه شكراً ... قلوبنا في يديه
صار الأمير شفيعاً ... إلى شفيعي إليه
وله أشعار نادرة، وأمثال سائرة، أخترنا منها ما قدمنا ذكره واقتصرنا بذلك عن غيره، وقد رثاه جماعة من الشعراء بعد قتله، منهم أبو صاعد، فقال:
أريقي الدمعِ واجتنبي الهجوعا ... وصُوبي شمل وَجْدِك أن يضيعا
وقولي: إن كهف بني لؤي ... غَدَا بالشام منجدلاً صريعا
عزاء يا بني جَهْم بن بدر ... فقد لاقيتمُ خَطْباً فَظِيعا
أمَا واللَّه لو تَدْرِي المَنَايَا ... بما لاقَيْتُمُ لبكَتْ نَجيعا
ثوى كهف الأرامل واليتامى ... ومن كان الزمان به ربيعا
فَتًى كان السهام على الأعادي ... وليثاً دون حادثة منيعاً
قال: وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين كان خروج المتوكل من دمشق إلى سُرِّ من رأى، فكان بين خروجه منها ورجوعه إليها ثلاثة أشهر وسبعة أيام، وفي خروجه يقول يزيد المهلبي شعراً طويلاً اخترنا منه قوله:
أظن الشام يَشْمَت بالعراق ... إذا عزم الإِمام على انطلاق
فإن تَدَع العراق وساكنيها ... فقد تُبْلَى المليحة بالطلاق
ولما نزل دمشق أبى أن ينزل المدينة لتكاثف هواء الغُوطَة عليها وما يرتفع من بخار مياهها، فنزل قصر المأمون، وذلك بين داريّا ودمشق، على ساعة من المدينة، في أعلى الأرض، وهذا الموضع بدمشق يُشْرف على المدينة وأكثر الغوطَة ويعرف عصر المأمون إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
المتوكل في دمثسق

وذكر سعيد بن نكيس قال: كنت واقفاً بين يدي المتوكل في مَضْرِبه بدمشق إذ شَغَبَ الجند واجتمعوا وضَجُّوا يطلبون الأعْطِيَةَ، ثم خرجوا إلى تجريد السلاح والرمي بالنشاب، وأقبلت أرى السهام ترتفع في الرواق، فقال لي: يا أبا سعيد، ادع لي رجاء الحضاري، فدعوته، فقال له: يا رجاء، أما ترى ما خرجِ إليه هؤلاء. فما الرأي عندك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كنت مُشْفقاَ في هذا السفر من مثل هذا، فأشرت بما أشرت من تأخيره، فمال أمير المؤمنين إليه، وقال: دَعْ ما مضى وقل الآن مما حضر برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، توضع الأغطية، فقال له: فهذا ما أرادوا، وفيه مع ما خرجوا إليه ما يعلم، قال: يا أمير المؤمنين، مُرْ بهذا فإن الرأي بعده، فأمر عبيد اللّه بن يحيى بوضع الأعطية فيهم، فلما خرج المال وبدئ بإنفاقه دخل رجاء فقال: مُرِ الآن يا أمير المؤمنين بضرب الطبل للرحيل إلى العراق، فإنهم لا يأخذون مما أخرج إليهم شيئاً، ففعل ذلك، فترك الناس الأعطية فرجعوا حتى إن المُعْطِيَ ليتعلق بالرجل ليعطيه رزقه فلا يأخذه.
الأتراك يدبرون وقيعة
قال سعيد: وقد كان الأتراك قد رأوا أنهم يقتلون المتوكل بدمشق، فلم يمكنهم فيه حيلة بسبب بُغَا الكبير، فإنهم دبِّرُوا في إبعاده عنه، فطرحوا في مضرب المتوكل الرقاع يقولون فيها: إن بُغَا دبر أن يقتل أمير المؤمنين، والعلامة في ذلك أن يركب في يوم كذا في خيله ورجله، فيأخذ عليه أطراف عسكره، ثم يأخذ جماعة من الغلمان العجم يدخلون عليه فيفتكون به، فقرأ المتوكل الرقاع فبهت مما تضمنته، ودخل في قلبه من بُغَا كل مدخل، وشكَا إلى الفتح ذلك، وقال له في أمر بًغَا والإِقدام عليه، وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي كتب الرقاع قد جعل للأمر دلائل في وقت بعينه سَمّاه له من ركوب الرجل بالأطراف من العسكر وتوكيله بنواحيه، وبعد ذلك يتبين الأمر، وأنا أرى أن تمسك، فإن صح هذا الدليل نظرنا كيف نفعل، وإن بطل ما كتب به فالحمد للّه، وأقبلت الرقاع تطرح في كلِ وقت على جهة التنصح، وأن في أعناق من كتبها بيعة لم يجد معها بداً من النصح والصدق، فلما علموا بما علم به الخليفة وتمكن به ما عندهم من الأمر كتبوا رقاعاً فطرحوها في مضرب بُغَا يقولون فيها: إن جماعة من الغلمان والأتراك قد عزموا على الفتك بالخليفة في عسكره، ودبَّرُوا ذلك، واتفقوا عليه، وتعاقدوا على أن يأتوه من نواحي كذا، ونواحي كذا، فاللّه اللّه إلا ما احترست لأمير المؤمنين، وحرسته في هذه الليلة من هذه المواضع، وحَصَّنتها بنفسك ومن تثق به، فإنا قد نصحنا وصدقنا، وأكثروا طرح الرقاع بهذا المعنى والتوكيد في حراسة الخليفة، فلما وقف بُغَا عليها وتتابعت عليه لم يأمن أن يكون ما كتب إليه فيها حقاً، مع ما كان وقع عليه من الأمر قبل ذلك، فلما كانت الليلة التي ذكروها جمع جيوشه وأمرهم بالركوب بالسلاح وركب بهم إلى المواضع التي ذكرت، فأخذها على المتوكل وحرسها، واتصل الخبر بالمتوكل فلم يشك أن ما كتب له حق، فأقبل يتوقع مَنْ يوافيه فيفتك به، وسهر ليلته، وامتنع من الأكل والشرب، فلم يزل على تلك الحال إلى الغَدَاة، وبُغَا يحرسه، والأمر عند المتوكل على خلاف ذلك، وقد اتهم بُغَا، واستوحش من فعله، فلما عزم المتوكل على الانصراف قال له: يا بُغَا، قد أبت نفسي مكَانك مني، و رأيت أن أقلدك هذا الصقع وأقر عليك ما كان لك من رزق وحِبَاء ونُزُد ومعونة وكل سبب، فقال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين فافعل ما شئت وأمرني بما أحببت، فخلفه بالشام وانصرف، فأحدث الموالي عليه ما أحدثوا، فلم يعلم المتوكل وجه الحيلة، ولم يعلم كل واحد منهما الحيلة في ذلك إلى أن تمت الحيلة.
تدبير المؤامرة ضد المتوكل

قال: ولما عزم بُغَا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر ولا يخرج عن محبته، وأريد أن آمرك بشيء عَرفني كيف قلبك فيه، فقال: أنت تعلم كيف أفعل فقل لي ما شئت حتى أفعله، قال: إن ابني فارس قد أفسد عليّ عملي وعزم على قتلي وسَفْكِ دمي، وقد صح عندي ذلك منه، قال: فتريد مني ماذا؟ قال: أريد أن يدخل علي غداً فالعلامة بيننا أن أضع قلنسوتي في الأرض، فإذا أنا وضعتها في الأرض فاقتله، قال: نعم، ولكن أخاف أن يبدو لك أو تجد في نفسك عليَّ، قال: قد آمنك اللّه من ذلك. فلما دخل فارس حضر باغر ووقف موقف الضارب، فلم يزل يراعي بُغَا أن يضع قلنسوته، فلم يفعل، وظن أنه نسي، فغمزه بعينه أن افعل؟ قال: لا، فلما لم ير العلامة وانصرف فارس قال لي بُغَا: اعلم أني فكرت في أنه حَدَثٌ وأنه ولدي، وقد رُمْتُ أن أستخلصه هذه المرة، فقال له باغر: أنا قد سمعت وأطعت وأنت أعلم وما دبرت وقدرت عليه فيه صلاحه؟ ثم قال له: وهاهنا أمر أكبر من ذلك وأهم فعرفني كيف تريد أن تكون فيه، قال له: قل ما شئت حتى أفعله، قال: أخي وصيف قد صح عندي أنه يربًرَّ وَعَلَى رفقائي، وأن مكاننا قد ثقل عليه، وأنه عًولَ على أن يقتلنا ويفنينا وينفرد بالأمور، قال: فماذا تريد أن يُصْنَعُ به؟ قال: افعل هذا فإنه يصير إليّ غداً فالعلامة أن أنزل عن المصلّى الذي يكون معي قاعداً عليه، فإذا رأيتني نزلت عنه فضع سيفك عليه واقتله؟ قال: نعم، فلما صار وصيف إلى بُغَا حضر باغر وقام مقام المستعد، فلم ير العلامة حتى قام وصيف وانصرف، قال: فقال له بُغَا: يا باغر إني فكرت في أنه أخي وأني قد عاقدته وحلفت له، فلم أستجز أن أفعل ما دبرته، ووصله وأعطاه. ثم إنه أمسك عنه مدة مديدة ودعا به فقال: يا باغر، قد حضرت حاجة أكبر من الحاجة التي قدمتها فكيف قلبك. قال: قلبي على ما تحبُّ فقل ما شئت حتى أفعله، فقال: هذا المنتصر قد صح عندي أنه على إيقاع التدبير عَلًيّ وَعَلَى غيري حتى يقتلنا وأريد أن أقتله، فكيفَ ترى نفسك في ذلك. ففكر باغر في ذلك ونكس رأسه طويلاً وقال: هذا لا يجيء منه شيء، قال: وكيف. قال: يقتل الابن والأبُ باق؟ إذاً لا يستوي لكم شيء ويقتلكم أبوه كلكم به. قال: فما ترى عندك. قال: نبدأ بالأب أولاً فنقتله، ثم يكون أمر الصبي أيسر من ذلك، فقال له: ويحك ويُفعل هذا ويًتهيأ؟ قال: نعم أفعله وأدخل عليه حتى أقتله، فجعل يردد عليه، فيقول: لا تفعل غير هذا، ثم قال له: فادخل أنت في أثري فإن قتلته وإلا فاقتلني وضَعْ سيفك عَلًيّ، وقل: أراد أن يقتل مولاه، فعلم بُغَا حينئذ أنه قاِتله وتوجه له في التدبير في قتل المتوكل.
وفي سنة سبع وأربعين ومائتين توفيت شجاع أم المتوكل، وصلى عليها المنتصر، وذلك في شهر ربيع الآخر.
مقتل المتوكل
ثم قتل المتوكل بعد وفاتها بستة أشهر، ليلة الأربعاء لثلاث ساعات خلت من الليل، وذلك لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وقيل: لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين.

وكان مولده بفم الصلح، حدث البحتري قال: اجتمعنا ذات ليلة مع الندماء في مجلس المتوكل فتذاكرنا أمر السيوف، فقال بعض من حضر: بلغني يا أمير المؤمنين أنه وقع عند رجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير ولم يُرَ مثله، فأمر المتوكل بكتاب إلى عامل البصرة يطلبه بشرائه بما بلغ، فنفذت الكتب على البريد وورد جواب عامل البصرة بأن السيف اشتراه رجل من أهل اليمن، فأمر المتوكل بالبعث إلى اليمن بطلب السيف وابتياعه، فنفذت الكتب بذلك، قال البحتريُّ: فبينا نحن عند المتوكل إذ دخل عليه عبيد اللّه بن يحيى والسيف معه، وعَرَّفه أنه ابتيع من صاحبه باليمن بعشرة آلاف درهم، فسر بوجوده، وحمد اللّه على ما سهل من أمره، وانتضاه فاستحسنه، وتكلم كل واحد منا بما يحب، وجعله تحت ثني فراشه، فلما كان من الغداة قال للفتحِ: اطلب لي غلاماً تثق بنجدته وشجاعته أدفع له هذا السيف ليكون واقفاً به على رأسي لا يفارقني في كل يوم ما عمت جالساً، قال: فلم يستتم الكلام حتى أقبل باغر التركي فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، هذا باغر التركي قد وصف لي بالشجاعة والبسالة، وهو يصلح لما أراد أمير المؤمنين، فدعا به المتوكل فدفع إليه السيف، وأمره بما أراد، وتقدم أن يزاد في مرتبته، وأن يضعف له الرزق، قال البحتريُ: فواللّه ما انتضى ذلك السيف ولا خرج من غمده من الوقت الذي دفع إليه إلاَّ في الليلة التي ضربه فيها باغر بهذا السيف. قال البحتريُ: لقد رأيت من المتوكل في الليلة التي قتل فيها عجباً، وذلك أننا تذاكرنا أمر الكِبْرِ، وما كانت تستعمله الملوك من الجبرية، فجعلنا خوض في ذلك وهو يتبرأ منه، ثم حَوَّلَ وجهه إلى القبلة فسجد وعفر وبهه بالتراب خضوعاً للّه عز وجل، ثم أخذ من ذلك التراب فنثره في لحيته ورأسه، وقال: إنما أنا عبد اللّه، وإن من صار إلى التراب لحقيق أن يتواضع ولا يتكبر.
قال البحتري: فتطيرت له من ذلك، وأنكرت ما فعله من نَثْرِه الترابَ على رأسه ولحيته، ثم قعد للشراب، فلما عمل فيه غنى من حضره من المغنين صوتاً استحسنه، ثم التفت إلى الفتح فقال: يا فتح، ما بقي أحد سمع هذا الصوت من مخارق غيري وغيرك، ثم أقبل على البكاء.

قال البحتري: فتطيرت من بكائه وقلت هذه ثانية؛ فإنا في ذلك إذ أقبل خادم من خدم قبيحة ومعه منديل وفيه خلعة وجهت بها إليه قبيحة، فقال له الرسول: يا أمير المؤمنين تقول لك قبيحة: إني استعملت هذه الخلعة لأمير المؤمنين واستحسنتها ووجهت بها لتلبسها، قال: فإذا فيها دراعة حمراء لم أر مثلها قط، ومُطْرَفُ خز أحمر كأنه ديبقي من رقَّتهِ، قال: فلبس الخلعة والتَحَفَ بالمطرف. قال البحتري: فتصيدت لأبدره بنادرة تكون سبباً لأخذ المطرف فإني على ذلك إذ تحرك المتوكل فيه وقد كان التف عليه المطرف فجذبه جذبة فخرقه من طرفه إلى طرفه، قال: فأخذه ولفه ودفعه إلى خادم قبيحة الذي جاءه بالخلعة، وقال: قل لها احتفظي بهذا المطرف عندك ليكون كفناً لي عند وفاتي، فقلت في نفسي: إنا للّه وأنا إليه راجعون، انقضت واللّه المدة؛ وسكر المتوكل سكراً شديداً، قال: وكان من عادته أنه إذا تمايل عند سكره أن يقيمه الخدم الذين عند رأسه، قال: فبينما نحن كذلك ومضى نحو ثلاث ساعات من الليل إذ أقبل باغر ومعه عشرة نفر من الأتراك وهم متلثمون والسيوف في أيديهم تبرق في ضوء تلك الشمع، فهجموا علينا، وأقبلوا نحو المتوكل حتى صعد باغر ومعه آخر من الأتراك على السرير، فصاح بهم الفتح: ويلكم!! مولاكم؟ فلما رآهم الغلمان ومَنْ كان حاضراً من الجلساء والندماء تطايروا على وجوههم، فلم يبق أحد في المجلس غير الفتح وهو يحاربهم ويمانعهم قال البحتري: فسمعت صيحة المتوكل وقد ضربه باغر بالسيف الذي كان المتوكل دفعه إليه على جانبه الأيمن، فَقَمَّه إلى خاصرته، ثم ثنّاه على جانبه الأيسر ففعل مثل ذلك، وأقبل الفتح يمانعهم عنه فَبَعَجَه واحد منهم بالسيف الذي كَان معه في بطنه فأخرجه منِ متنه، وهو صابر لا يتنحَّى ولا يزول، قال البحتري: فما رأيت أحداً كَان أقْوَى نفساً ولا أكرم منه، ثم طرح بنفسه على المتوكل، فماتا جميعاً، فلفا في البساط الذي قتلا فيه، وطرحا ناحية، فلم يزالا على حالتهما في ليلتهما وعامة نهارهما حتى استقرت الخلافة للمنتصر، فأمر بهما فدفنا جميعاً، وقيل: إن قبيحة كفنته بذلك المطرف المخرق بعينه.
وقد كان بُغَا الصغير توحش من المتوكل فكان المنتصر يجتذب قلوب الأتراك، وكان أوتامش غلام الواثق مع المنتصر، فكان المتوكل يبغضه لذلك، وكان أوتامش يجتذب قلوب الأتراك إلى المنتصر، وعبيد الله بن خاقان الوزير والفتح بن خاقان منحرفين عن المنتصر مائلين إلى المعتز، وكانا قد أوْغَرا قلب المتوكل على المنتصر، فكان المنتصر لا يُبْعِدُ المتوكل أحداً من الأتراك إلا اجتذبه، فاستمال قلوب الأتراك وكثيراً من الفراغنة والإشروسية، إلى أن كان من الأمر ما ذكرناه.
وقد ذكر في كيفية قتل المتوكل غير ما ذكرنا، وهذا ما اخترناه في هذا الموضع، إذ كان أحسن ألفاظاً وأقرب مأخذاً، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك قي الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن تكراره في هذا الكتاب.
ولم يكن المتوكل يوماً أشد سروراً منه في اليوم. الذي قتل فيه؟ فلقد أصبح في هذا اليوم نشيطاً فرحاً مسروراً، وقال: كأني أجد حركة الدم. فاحتجم في ذلك اليوم، وأحضر الندماء والملهين، فاشتد سروره وكثر فرحه، فانقلب ذلك الفرح ترحاً والسرور حزناً؛ فمن ذا الذي يغتر بالدنيا ويسكن إليها، ويأمن الغدر والنكبات فيها إلا جاهل مغرور؟ فهي دار لا يدوم نعيمها، ولا يتم فيها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، قد قرنت منها السراء بالضراء، والشحة بالرخاء، والنعيم بالبلوى؟ ثم يتبعها الزوال، فمع نعيمها البؤس، ومع سرورها الحزن، ومع محبوبها المكروه، ومع صحتها السقم، ومع حياتها الموت، ومع فراحاتها الترحات، ومع لذاتها الآفات، عزيزها ذليل، وقويُّها مَهِين، وغنيها محروب وعظيمهما مسلوب، ولا يبقى إلا الحي الذي لا يموت ولا يزول ملكه وهو العزبز الحكيم.
وفي ذلك يقول البحتري في غدر المنتصر بأبيه وفتكه به، من قصيدة له:
أكَان ولي العهد أضمر غَدْرَةً ... فمن عَجَبِ أو وُلِّيَ العهد غادرُهْ
فلا مُلِّيَ الباقي تراث الذي مضى ... ولا حملتَ ذاك الدعاء منابره
وصف أيام المتوكل

وكانت أيام المتوكل في حسنها ونَضَارتها ورفاهية العيش بها وحمد الخاص والعام لها ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء، كما قال بعضهم: كانت خلافة المتوكل أحسن من أمْن السبيل، ورخص السعر، وأماني الحب، وأيام الشباب؟ وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
قربك أشهى موقعاً عندنا ... من لين السعر وأمن السبيل
ومن ليالي الحب موصولة ... بطيب أيام الشباب الجميل
قال المسعودي: وقد قيل: إنه لم تكن النفقات في عصر من الأعصار ولا وقت من الأوقات مثلها في أيام المتوكل.
ويُقال: إنه أنفق على الهاروني والجوسق الجعفري أكْثَرَ من مائة ألْف ألْف درهم، هذا مع كَثرة الموالي والجند والشاكرية ودرور العطاء لهم وجليل ما كانوا يقبضونه في كُل شهر من الجوائز والهبات.
ويُقال: إنه كان له أربعة آلاف سرية وطئهن كلهن، ومات وفي بيوت الأموال أربعة آلاف ألْف دينار وسبعة آلاف ألْف درهم، ولا يعلم أحد في صناعته في جد ولا هزل إلا وقد حَظِيَ في دولته، وسعد بأيامه، ووصل إليه نصيب وافر من ماله.
الحسين الخليع بين يدي المتوكل
وذكر محمد بن أبي عون قال: حضرت مجلس المتوكل على اللّه في يوم نيروز، وعنده محمد بن عبد اللّه بن طاهر، وبين يديه الحسين بن الضحاك الخليع الشاعر، فغمز المتوكل خادماً على رأسه حَسَنَ الصورة أن يسقي الحسين كأساً ويحييه بتفاحة عنبر، ففعل ذلك، ثم التفت إلى الحسين فقال: قل فيه أبياتاً، فأنشأ يقول:
وكالدرة البيضاء حَيا بعنبر ... من الورد يسعى في قَرَاطِقَ كالورد
له عَبَثَات عند كل تحية ... بعينيه تستدعي الخليَّ إلى الوجد
تمنيت أن أسْقَى بكفيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى اللّه دهراً لم أبِتْ فيه ساعة ... من الليل إلا من حبيب على وعد
قال المتوكل: أحسنت واللّه، يُعْطى لكل بيت مائة دينار، فقال محمد بن عبد الله: ولقد أجاب فأسرع، وذكر فأوجع، ولولا أن يَدَ أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء ولو بالطرف والتالد، فقال المتوكل عند ذلك: يعطى لكل بيت ألف دينار.
قال: ويروى أنه لما أتي بمحمد بن المغيث إلى المتوكل وقد دعا له بالنطع والسيف، قال له: يا محمد ما دعاك إلى المشاقّة؟ قال: الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت ظل اللّه الممدود بينه وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو عن عبدك، وأنشأ يقول:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمامَ الهدى والعَفْوُ بالحر أجمل
وهل أنا إلاجبلة من خطيئة ... وعفوك من نور النبوة يجمل
تضاءل ذَنْبِي عند عفوك قلة ... فمن لي منك والمَنًّ أفضل
لأنك خير السابقين إلى العُلاَ ... وإنك خَيْرَ الفعلتين ستفعل
فقال المتوكل: أفعل خيرهما، وأمُنُّ عليك، ارجع إلى منزلك، قال ابن المغيث: يا أمير المؤمنين، اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
من رثاء المتوكل
ولما قتل المتوكل رثته الشعراء؛ فمن رثاه علي بن الجهم، فقال من قصيدة له:
عَبِيدُ أمير المؤمنين قتلنه ... وأعظم آفات الملوك عبيدها
بني هاشم، صبراً فكل مصيبة ... سَيَبْلى على وجه الزمان جديدها
وفيه يقول يزيد بن محمد المهلبي من قصيدة طويلة:
جاءت منيته والعين هاجعة ... هلا أتته المنايا والْقَنا قِصَدُ
عَلَتْكَ أسياف مَنْ لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصمد
خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يَضِعْ مثله روح ولا جسد
وفيه يقول بعض الشعراء:
سرت ليلاً منيته إليه ... وقد خَلّى منادمه وناما
فقالت: قم، فقام، وكم أقامت ... أخا مُلْكٍ إلى هُلْك فقاما
وفيه يقول الحسين بن الضحاك الخليع:
إن اللياليَ لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
أما رأيت خُطُوبَ الدهر ما فعلت ... بالهاشميِّ وبالفتح بن خاقان
محبوبة جارية المتوكل

وذكر علي بن الجهم قال: لما أفْضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أهدى إليه الناس على أقدارهم، وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف، وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تقول الشعر وتلحنه وتغني به على العود وكانت تحسن كلِ ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل، وحَلّتْ من قلبه محلاً جليلاً لم يكن أحد يعد لها عنده، قال علي: فدخلتُ عليه يوماً للمنادمة، فلما استقر بي المجلس قام فدخل بعض المقاصير، ثم خرج وهو يضحك، فقال لي: ويلك يا علي، دخلت فرأيت قَيْنَة قد كتبت في خدها بالمسك جعفراً فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئاً، فقلت: يا سيدي، وحدي أو أنا ومحبوبة، قال: لا، بل أنت ومحبوبة، قال: فدعت بدواة وقرطاس، فسبقتْنِي إلى القول، ثم أخذت العود فتزنمت، ثم خفقت عليه حتى صاغت له لحناً وتضاحكت منه ملياً، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، تأذن لي؟ فأذن لها، فغنت:
وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا ... بنفسي محطُّ المسك من حيث أثرا
لئن أودَعَتْ خطا من المسك خَدَّهَا ... لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا
فيا من لمملوك يظل مليكُه ... طيعاً له فيما أسًرَ وأجهرا
ويا من لعيني مَنْ رأى مثل جعفر ... سقى اللَه صوبَ المستهلات جعفرا
قال علي: وتبلدت خواطري حتى كأني ما أحسن حرفاً من الشعر، قال: فقال لي المتوكل: ويلك يا علي!! ما أمرتك به، فقلت: يا سيدي أقِلْنِي فواللّه لقد عَزَبَ عن ذهني، فلم يزل يضرب به على رأسي ويعيرني به إلى أن مات.
قال علي: ودخلت عليه أيضاً لأنادمه، فقال لي: ويلك يا علي، علمت أني غاضبت محبوبة، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ونهيت الحشم عن الدخول إليها، وأنفت من كلامها. فقلت: يا سيدي، إن كنت غاضبتها اليوم فصالحها غداً، ويديم اللّه سرور أمير المؤمنين، ويمدُّ في عمره، قال: فأطرق مليّاً، ثم قال للندماء: انصرفوا، وأمر برفع الشراب، فرفع، فلما كان من غد دخلْتُ إليه، فقال: ويلك يا علي، إني رأيت البارحة في النوم أني قد صالحتها، فقالت جارية يُقال لها شاطر كانت تقف أمامه: واللّه لقد سمعت الساعة في مقصورتها هينمة لا أدري ما هي، فقال لي: قم ويلك حتى ننظر ما هي، فقام حافياً وقمت أتبعه حتى قربنا من مقصورتها، فإذا هي تخفق عوداً وتترنم بشيء كأنها تصوغ لحناً، ثم رفعت عقيرتها وتغنت:
أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني
حتى كأني أتَيْتُ معصيةً ... ليس لها توبة تخلصني
فَمَنْ شفيعٌ لنا إلى ملك ... قد زارني في الكَرَى وصالحني
حتى إذا ما الصباحُ عاد لنا ... عاد إلى هجره وصَارَمَني
قال: فصفق المتوكل طرباً، فصفقت معه، فدخل إليها فلم تزل تقبِّل رجل المتوكل وتمرغ خديها على التراب حتى أخذ بيدها، ورجعنا وهي ثالثتنا.
قال علي: فلما قتل المتوكل ضمت هي وكثير من الوصائف إلى بُغَا الكبير، فدخَلْتُ عليه يوماً للمنادمة، فأمر بهَتْكِ الستارة، وأمر بالْقَينات فأقبلن يرفلن في الحلي والحلل، وأقبلت محبوبة حاسرة من الحلى والحلل، عليها بياض، فجلَسَتْ مُطْرِقة منكسة، فقال لها وصيف، غني، قال: فاعتّلتْ عليه، فقال: أقسمت عليك، وأمر بالْعُود فوضع في حجرها، فلما لم تجد بُدّاً من القول تركَ العود في حجرها، ثم غنت عليه غناء مرتجلاً:
أي عيش يَلَذُّ لي ... لا أرِى فيه جعفرا
ملك قد رأيتهُ ... في نجِيعٍ مُعَفّرا
كل من كان ذا خَبَا ... ل وسقم فقد بَرَا
غير محبوبة التي ... لوً ترى الموت يُشتَرَى
لاشترته بما حوته يداها لِتُقبرا
قال: فغضب عليها وصيف وأمر بسجنها، فسجنت، وكان آخر العهد بها.
قال المسعودي: ومات في خلافة المتوكل جماعة من أهل العلم ونقلة الأثر وحفاظ الحديث: منهم علي بن جعفر المديني بسامرا يوم الاثنين لثلاث بَقِينَ من في الحجة سنة أربع وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وأشهر.

وتنوزع في السنة التي مات فيها ابن المديني، وقد قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب " السنة التي قيل فيها إن وفاته كانت فيها.
وفي هذه السنة مات أبو الربيع بن الزهراني، وقد تنوزع في السنة التي مات فيها يحيى بن معين؛ فمنهم مَنْ رأى ما قَدَّمنا في هذا الكتاب ومنهم مَنْ رأى - وهو الأكثر - أنه مات في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، ويكنى بأبي زكريا مولى بني مرة، وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة وأشهراً، بالمدينة، وقيل: إن في هذه السنة كانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد المدائني الأخبازي، وقيل: مات في أيام الواثق في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وفيها كانت وفاة مسمد بن مُسَرْهد، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.
وفيها مات الحماني الفقيه، وابن عائشة واسمه عبد اللّه بن محمد بن حفص، ويكنى بأبي عبد الرحمن، وهو من تَيمْ قريش.
وفي خلافة المتوكل مات هُدْبة بن خالد، وشيبان بن فروخ الأبلي، وإبراهيم بن محمد الشافعي، وذلك في سنة ست وثلاثين ومائتين.
وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين - مات العباس بن الوليد النرسي بالبصرة وعبد اللّه بن أحمد النّرْسِي، وعبيد الله بن معاذ العنبري.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين مات إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهوية، وبشر بن الوليد القاضي الكندي صاحب أبي يوسف، وقد قيل: إن في هذه السنة مات العباس بن الوليد النّرْسِي.
وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين مات عثمان بن أبي شَيْبَة الكوفي بالكوفة، والصَّلْتُ بن مسعود الجَحْدَري.
وفي سنة أربعين ومائتين مات شباب بن خليفة اِلعصفري، وعبد الواحد بن عتاب.
وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين مات هشام بن عمار الدمشقي، وحميد بن مسعود الناجي، وعبد اللهّ بن معاوية الجمحي، وفيها مات يحيى بن أكثم القاضي في الرَّبَذَة، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب.
وفي سنة ست وأربعين ومائتين مات محمد بن المصطفى الحمصي، وعنبسة بن إسحاق بن شمر، وموسى بن عبد الملك.
قال المسعودي: وللمتوكل أخبار وسِيرَ حِسَان غير ما ذكرنا، وقد أتينا عليها على الشرح والِإيضاح في كتابنا أخبار الزمان، واللهّ الموشق للصواب.
ذكر خلافة المنتصر باللّه
وبويع محمد بن جعفر المنتصر في صبيحة الليلة التي قُتل فيها المتوكل، وهي ليلة الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ويكنى بأبي جعفر، وأمه أم ولد يُقال لها حبشية، رومية، واستخلف وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكانت بيعته بالقصر المعروف بالجعفري الذي أحدث بناءه المتوكل، ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكانت خلافته ستة أشهر.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
الموضع الذي قتل فيه المتوكل
كان الموضع الذي قتل فيه المتوكل هو الموضع الذي قَتَلَ فيه شيرويه أباه كسرى أبرويز، وكان الموضع يعرف بالماخورة، وكان مقام المنتصر بعد أبيه في الماخورة سبعة أيام، ثم انتقل عنه وأمر بتخريب ذلك الموضع.

وحكي عن أبي العباس محمد بن سهل قال: كنت أكتب لعتاب بن عتاب على ديوان جيش الشاكرية في خلافة المنتصر، فدخلت إلى بعض الأرْوقَة، فإذا هو مفروش ببساط سوسنجرد ومسند ومصلى ووسائد بالحمرة والزرقة، وحول البساط دارات فيها أشخاصُ ناسٍ وكتابة بالفارسية، وكنت أحسن القراءة بالفارسية، وإذا عن يمين المصلى صورة ملك، وعلى رأسه تاج كأنه ينطق، فقرأت الكتابة فإذا هي صورة شيروية القاتل لأبيه أبرويز الملك مَلَك ستة أشهر ثم رأيت صور ملوك شتى، ثم انتهى بي النظر إلى صورة عن يسار المصلى عليها مكتوب صورة يزيد بن الوليد بن عبد الملك قاتل ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ملك ستة أشهر فتعجبتَ من ذلك واتفاقه عن يمين مقعد المنتصر وعن شماله، فقلت: لا أرى يدوم ملكه أكثر من ستة أشهر، فكان واللّه كذلك، فخرجت من الرواق إلى مجلس وَصِيف وبُغَا، وهما في الدار الثانية، فقلت لوصيف: أعَجَزَ هذا الفَرَّاش أن يفرش تحت أمير المؤمنين إلا هذا البساط الذي عليه صورة يزيد ابن الوليد قاتل ابن عمه وصورة شيرويه قاتل أبيه أبرويز، وعاشا ستة أشهر بعد ما قَتَلاَ، فجزع وصيف من ذلك وقال: عليَّ بأيوب بن سليمان النصراني خازن الفُرُش، فمثل بين يديه، فقال له وصيف: لم تجد ما يفرش في هذا اليوم تحت أمير المؤمنين إلا هذا البساط الذي كان تحت المتوكل ليلة الحادثة وعليه صورة ملك الفرس وغيره، وقد كان نالته آثار من الدماء. قال: سألني أمير المؤمنين المنتصر عنه، وقال: ما فعل البساط. فقلت: عليه آثار دماء فاحشة، وقد عزمت أن لا أفرشه من ليلة الحادثة، فقال: لم لا تغسله وتَطويه؟ فقلت: خشيت أن يشيع الخبر عند من يرى ذلك البساط من أثر الحادثة، فقال: إن الأمر أشهر من ذلك، يريد قتل الأتراك لأبيه المتوكل، فطويناه وبسطناه تحته، فقال وصيف وبُغَا: إذا قام أمير المؤمنين من مجلسه فخذه وأحرقه بالنار، فلما قام أحرق بحضرة وصيف وَبُغَا، فلما كان بعد أيام قال لي المنتصر: افرش ذلك البساط الفلاني، قلت: وأين ذلك البساط؟ فقال: وما الذي كان من أمره؟ فقلت: إن وصيفاً وبُغَا أمراني بإحراقه، قال: فسكَتَ ولم يُعِدْ في أمره شيئاً إلى أن مات.
وقد كان المنتصر طرب في هذه الأيام، فدعا ببنّان بن الحارث العواد، وكان مطرباً مجيداً، وقد كان غضب عليه، فأحضره فغناه:
لقد طال عهدي بالِإمام محمد ... وما كُنت أخشى أن يطول به عهدي
فأصبحتُ ذا بُعْدٍ وداري قريبة ... فيا عجباً من قرب داري ومن بُعْدِي
رأيتك في بُرْدِ النبي محمد ... كَبدر الدجا بين العمامة والبُرْدِ
فيا ليت أن العيد عاد ليَوْمه ... فإني رأيت العيد وَجْهَك لي يُبْدِي
وكان ذلك ثاني يوم عيد الأضحى، وقد كان المنتصر صَلّى بالناس في هذا العيد، ومما غنى به من الشعر للمنتصر في ذلك اليوم:
رأيتك في المنام أقلّ بخلاً ... وأطْوَعَ منك في غير المنام
فليت الصبح باد ولا نراه ... وليت الليل أخِّرَ ألْفَ عام
ولو أن النعاس يُبَاعُ بيعاً ... لأغليت النعاس على الأنام
ومن شعر المنتصر أيضاً مما غني بحضرته:
إني رأيتك في المنام كأنما ... أعطيتتي من ريق فيك البارِدِ
وكأن كَفّك في يَدِي وكأنما ... بتنا جميعاً في لحاف واحِد
ثم انتبهتُ ومعصماكِ كلاهما ... بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي
ظللت يومي كله متراقداً ... لأراكِ في نومي ولستُ براقد
وزير المنتصر بن الخصيب
وقد كان استوزر أحمد بن الخصيب وندم على ذلك، وكان نفي عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، وذلك أن أحمد بن الخصيب ركب ذات يوم فتظلم إليه متظلم بقصةٍ، فأخرج رجله من الركاب فزجَّ بها في صدر المتظلم فقتله، فتحدث الناس بذلك، فقال بعض شعراء الزمان:
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... اشكُلْ وزيرك، إنه رَكَّالُ
أشكله عن رَكْل الرجال فإن ترد ... مالاً فعند وزيرك الأموال
وزير المقتدر

قال المسعودي: ولو لحق هذا الشاعر الوزير حامد بن العباس في وزارته للمقتدر بالله لرأى منه قريباً، مما ظهر من ابن الخصيب، وذلك أنه خاطبه مخاطِبٌ ذات يوم، فقلب ثيابه على كتفه ولَكَمَ حَلْقَهُ.
ولقد دخلت عليه ذات يوم أمُّ موسى القهرمانة الهاشمية، أو غيرها من القَهَارِمة، فخاطبته في شيء من الأموال عن رسالة المقتدر، فكان مما خاطبها به أن قال:
اضرطي والتقطي ... واحسبي لا تغلطي
فأخجلها ذلك، فقطعها عما له قصدت، فمضت من فَوْرِها إلى المقتدر والسيدة فأخبرتهما بذلك، فأمر القِيَان أن يغنين ذلك اليوم بهذا الكلام، وكان يوم طرب وسرور.
وقد أتينا على خبره وأخبار غيره من وزراء بني العباس وكُتَاب بني أمية إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - في الكتاب الأوسط.
مرض المنتصر وموته
وأخبرت عن أبي العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفُرَاتِ قال: كان أحمد بن الخصيب سيء الرأي في والدي، وكان عاملاً له، فجاءني مخبر من خَدَم الخاصة فقال: إن الوزير قد ندب لأعمالكم فلاناً، وقد أمره في والدك بكل مكروه، وأن يُصَادره على جملة من المال غليظة ذكَرها، فقعدت وعندي بعض أصدقائنا من الكُتَّاب أبادر بالكتاب إلى والدي بذلك، فاشتغلت عن جليسي الكاتب فاتكأ على الوسادة وغفا، فانتبه مرعوباً، وقال: إني قد رأيت رؤياً عجيبة، رأيت أحمد بن الخصيب واقفاً في هذا الموضع وهو يقول لي: يموت الخليفة المنتصر إلى ثلاثة أيام، قال: قلت له: الخليفة في الميدان يلعب بالصولجان، وهذه الرؤيا من البلغم والمرار وقد قدمنا الطعام، فما استتممنا الكلام حتى دخل علينا داخل فقال: رأيت الوزير بدار الخاصة غير مُسْفِر الوجه، وإني سألْتُ عن سبب ذلك فقيل لي: إن الخليفة المنتصر انصرف من الميدان وهو عرق، فدخل الحمام ونام في الباذهنج فضربه الهواء، وركبته حمى هائلة، فدخل عليه أحمد بن الخصيب فقال له: يا سيدي، أنت متفلسف وحكيم الزمان تنزل من الركُوب تبعاً فتدخل الحمام ثم تخرج عَرِقاً فتنام في الباذهنج؟ فقال له المنتصر أتخاف أن أموت؟! رأيت في المنام البارحة آتياً أتاني فقال لي: تعيش خمساً وعشرين سنة، فعلمت أن ذلك بشارة في المستقبل من عمري، وأني أبقى في الخلافة هذه المدة، قال: فمات في اليوم الثالث، فنظروا فإذا هو قد استوفى خمساً وعشرين سنة.
وقد ذكر جماعة من أصحاب التواريخ أن المنتصر ضربته الريح يوم الخميس لخمسٍ بَقِينَ من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر لخمس لَيَالٍ خَلَوْنَ من ربيع الآخر، وصلّىِ عليه أحمد بن محمد المستعين، وكان أول خليفة من بني العباس أظهر قبره، وذلك أن أُمه حبشية سألت ذلك، فأذن لها، ؤأظهرته بسامرا.
الخلاف في سبب موت المنتصر
وقد قيل: إن الطيفوري الطبيب سَمَّه في مشراط حَجَمَه به، وقد كان عزم على تفريق جمع الأتراك، فأخرج وصيفاً في جمع كثير إلى غَزَاة الصائفة بطرسوس، ونظر يوماً إلى بُغَا الصغيرَ - وقد أقبل في القصر، وحوله جماعة من الأتراك - فأقبل على الفضل بن المأمون، فقال: قتلني اللّه إن لم أقتلهم وأفرق جمعهم، بقتلهم المتوكل على اللّه، فلما نظرت الأتراكُ إلى ما يفعل بهم، وما قد عَزَمَ عليه، وجدوا منه الفرصة.
وقد شكا ذات يوم حرارة، فأراد الحجامة، فخرج له من ألف م ثلاثمائة عرهم، وشرب شربة بعد ذلك فحلت، قواه، ويُقال: إن السم كان في مبضع الطبيب حين فَصَده.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا، عن عبد الملك بن سليمان بن أبي جعفر، قال: رأيت في نومي المتوكل والفتح بن خاقان، وقد أحاطت بهما نار، وقد جاء محمد المنتصر فاستأذن عليهما، فمنع الوصول، ثم أقبل المتوكل عليّ فقال: يا عبد الملك قل لمحمد: بالكأس الذي سقيتنا تشرب، قال: فلما أصبحت غَدوْت على المنتصر فوجَدْته محموماً، فواظبت على عيادته، فسمعته في آخر علته يقول: عَجَّلْنَا فَعُوجلنا فمات من ذلك المرض.
من صفات المنتصر
وكان المنتصر واسع الاحتمال، راسخ العقل، كثير المعروف، راغباً في الخير، سخيّاً، أديباً، عفيفاً، وكان يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق، وكثرة الإِنصاف، وحسن المعاشرة، بما لم يسبقه خليفة إلى مثله.
وكان وزيره أحمد بن الخصيب قليل الخير، كثير الشر، شديد الجهل.
صنيع المنتصر بآل أبي طالب

وكان آل أبي طالب قبل خلافته في محنة عظيمة، وخوف على دمائهم، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغريّ من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْوِ أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكل خشي العقوبة، وأحْجَمَ، فتناول الذيريج مِسْحَاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفَعَلَة فيه، وأنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد فلم يروا فيه أثر رمة ولا غيرها، ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر، فأمَّنَ الناس، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه، ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر برد فدَكَ إلى ولَدِ الحسن والحسين، وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم، وفي ذلك يقول البحتري من أبيات له:
وإن علياً لأوْلى بكم ... وأزكى يداً عندكم من عمر
وكل له فَضْلُه، والحجو ... ل يوم التراهن دون الغرر
وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي - وكان من شيعة آل أبي طالب - وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت وأغريت بهم العامة:
ولقد بررت الطالبية بعدما ... ذموا زماناً بعدها وزمانا
وَرَعَدْتَ ألفة هاشم، فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانا
آنست ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ ... حتى نَسُوا الأحقاد والأضغانا
لو يعلم الأسلاف كيف بَرَرْتَهم ... لرأوك أثقل مَنْ بها ميزانا
خلع أخويه من ولاية العهد
وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المنتصر باللّه أخويه المعتز وإبراهيم من ولاية العهد بعده، وقد كان المتوكل على الله أخذ لهم العهد في كتب كتبها وشروط اشترطها، وأفرد لكل واحد منهم جزءاً، من الأعمال رَسَمَه له وجعل ولي عهده والتالي لملكه محمداً المنتصر، وتالي المنتصر وولي عهده المعتز، وتالي المعتز وولي عهده إبراهيم المؤيد، وأخذت البيعة على الناس بما ذكرنا، وفرق فيها أموالاً وعًمّ الناس بالجوائز والصَلَات، وتكلمت في ذلك الخطباء، ونطقت به الشعراء، فمما اختير من قولهم في ذلك قول مروان أبي الجنوب من قصيدة:
ثلاثة أملاك؛ فأما محمد ... فنور هُدَى يَهْدِي به اللّه من يهدي
وأما أبو عبد الإِله فإنه ... شبيهك في التقوى وُيجْدِي كما تجدي
وذو الفضل إبراهيم للناس عصمة ... تَقِي وفِي بالوعيد، وبالوعد
فأولهم نور، وثانيهمُ هدى، ... وثالثهم رشد، وكلهم مَهْدِي
وقوله للمتوكل مما أجاد فيه وأحسن:
يا عاشر الخلفاء دمْتَ ممتعاً ... بالملك تعقد بعدهم للعاشر
حتى تكون إمامهم وكأنهم ... زُهْرُ النجوم دَنَتْ لبدر زاهر
وفي بيعة المتوكل لمن ذكرنا من ولمه الثلاثة بولاية العهد يقول الشاعر المعروف بالسلمي من أبيات له:
لقد شَد ركن الدين بالبيعة الرضا ... وطائر سعد جعفر بن محمد
بمنتصر بالله أثبت ركنه ... وأكَّدَ بالمعتز قبل المؤيد
وممن قال في ذلك فأحسن القول، وأجاد النظم، إدريس بن أبي حفصة حيث يقول:
إن الخلافة ما لها عن جعفر ... نورِ الهدى وبنيه من تحويل
فإذا قضى منها الخليفَةُ جعفر ... وطَرا، ومَلَّ وليس بالمملول
فمحمد بعد الخليفة جعفرللناس لا فقدوه خيرُ بديل
فبقاء ملكك وانتظار محمد ... خير لنا وله من التعجيل
خروج الشاري باليمن
وقد كان خرج أيام المنتصر بناحية اليمن والبوازيج والموصل أبو العمود الشاري، فحكم واشتد أمره فيمن انضاف إليه من المحكمة من ربيعة وغيرهم من الأكراد، فسرح إليه المنتصر جيشاً عليهم سيما التركي، فكانت له مع الشاري حروب، فأسِرَ الشاري، وأتي به المنتصر، فجاد عليه بالعفو، وأخذ عليه العهد، وخَلّى سبيله.

وحكى عنه وزيره أحمد بن الخصيب بن الضحاك الجرجاني أنه قال حين رضي عن الشاري: إن لذة العفو أعذب من لذة التشفي، وأقبح أفعال المقتدر الانتقام.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: رأى بعض الكتاب في المنام في الليلة التي استخلف في صبيحتها المنتصر كأن قائلَاَ يقول:
هذا الإِمام المنتصر ... والْمَلِكُ الحادي عشر
وأمره إذا أمر ... كالسيف ما لاقى بَتَرْ
وطرفه إذا نظر ... كالدهر في خير وشر
وقد كان أظهر الإِنصاف في الرعية فمالت إليه قلوب الخاصة والعامة مع شدة الهيبة منها له.
وحدثني أبو الحسن أحمد بن علي بن يحيى المعروف بابن النديم، قال: حدثنا علي بن يحيى المنجم، قال: ما رأيت أحداً مثل المنتصر ولا أكرم أفعالاً بغير تبجح منه، ولا تكلف، لقد رآني يوماً وأنا مغموم شديد الفكر بسبب ضيعة مجاورة لضيعتي، وكنت أحب شراءها، فلم أزل أعمل الحيلة عند مالكها حتى أجابني إلى بيعها، ولم يكن عندي في ذلك الوقت قيمة ثمنها، فصرت إلى المنتصر وأنا على تلك الحال، فتبين الانكسار في وجهي، وشغل القلب، فقال لي: أراك مفكراً فما قضيتك؟ فجعلت أرْوِي عنه خبري، وأستر قصتي، فاستحنفني، فصدقته عن خبر الضيعة، فقال لي المنتصر: فكم مبلغ ثمنها، فقلت: ثلاثون ألف درهم، قال: فكم عندك منها. قلت: عشرة آلاف، فأمسك عني ولم يجبني، وتشاغل عني ساعة، ثم دعا بدواة وبطاقة، ثم وقع فيها بشيء لا أدري ما هو، وأشارَ إلى خادم كان على رأسه بما لم أفهم، فمضى الغلام مسرعاً، وأقبل يشغلني بالحديث وُيطَاعمني الكلام، إلى أن أقبل الغلام فوقف بين يديه، فنهض المنتصر وقال لي: يا علي، إذا شئت فانصرف إلى منزلك، وقد كنت قدرت عند مسألته أنه سيأمر لي بالثمن أو نصفه، فأتيت وأنا لا أعقل غماً، فلما وصلت إلى داري استقبلني وكيلي فقال: إن خادم أمير المؤمنين صار إلينا ومعه بغل عليه بدرتان، فسلمهما إليِّ وأخذ خطي بقبضهما، قال: فداخلني من الفرح والسرور ما لم أملك به نفسي، ودخلت وأنا لا أصدق قول الوكيل، حتى أخرج إلي البحرتين، فحمدت اللّه تعالى على ما حَبَاه لي، ووجهت في وقتي إلى صاحب الضيعة فوفيته الثمن، وتشاغلت سائر يومي بتسليمها والِإشهاد بها على البائع، ثم بكرت إلى المنتصر من الغد، فما أعاد علي حرفَاً، ولا سألني عن شيء من خبر الضيعة حتى فرق الموت بيننا.
حديث عن العشق
قال المسعودي: وذكر الفضل بن أبي طاهر في كتابه في أخبار المؤلفين قال: حدثني أبو عثمان سعيد بن محمد الصغير مولى أمير المؤمنين، قال: كان المنتصر في أيام إمارته ينادمه جماعة من أصحابه، وفيهم صالح بن محمد المعروف بالحريري، فجرى في مجلسه ذات يوم ذكر الحب والعشق، فقال المنتصر لبعض مَنْ في المجلس: أخبرني عن أي شيء أعظم عند النفس فَقْداً، وهي به أشد تفجعاً. قال: فَقْدُ خِلٍّ مُشَاكل، وموت شكل موافق، وقال آخر ممن حضر: ما أشد جولة الرأي عند أهل الهوى! وفِطام النفس عند الصبا، وقد تصدعت أكباد العاشقين من لوم العاذلين، فلوم العاذلين قُرْطٌ في آذانهم، ولوعات الحب نيران في أبدانهم، مع دموع المعاني، كغروب السَّوَاني، وإنما يعرف ما أقول، من أبكته المغاني والطلول، وقال آخر: مسكين العاشق، كل شيء عدوه: هبوب الرياح يُقْلِقه، ولمعان البرق يؤرقه، والعذل يؤلمه، والبعد ينحله، والذكر يسقمه، والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يَهْرُبُ منه. ورسوم الدار تحرقه، والوقوف على الطلوع يبكيه. ولقد تداوت منه العشاق بالقرب والبعد. فما نجع فيه دواء. ولا هداه عزاء. ولقد أحسن الذي يقول:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يملُّ، وأنَّ النأي يَشْقِي من الوجد
بكل تداوينا فلم يُشْفَ ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد

فكل قال: وأكثر الخطب في ذلك، فقال المنتصر لصالح بن محمد الحريري: يا صالح، هل عشقت قط. قال: إي واللّه أيها الأمير، وإن بقايا ذلك لَفِي صدري قال: ويلك لمن؟ قال: أيها الأمير، كنت ألف الرصافة في أيام المعتصم. وكانت لقَيْنَةَ أم ولد الرشيد جارية تخرج في حوائجها وتقوم في أمرها، وتلقى الناس عنها، وكانت قينة تتولى أمر القصر إذ ذاك، وكانت الجارية تمر بي فأحتشمها وأعاينها، ثم راسلتها فطردت رسولي وهددتني، وكنت أقعد على طريقها لأكلمها، فإذا رأتني ضحكت وغمزت الجواري بالعَبَثِ بي والهزء، ثم فارقتها وفي قلبي منها نار لا تخمد وغليل لا يبرد ووجد يتجمد فقال له المنتصر: فهل لك أن أحضرها وأزوجكها إن كانت حرة أو أشتريها إن كانت أمة؟ فقال: والله أيها الأمير إن بي إلى ذلك أعظم الفاقة وأشد الحاجة، قال: فدعا المنتصر بأحمد بن الخصيب وسأله أن يوجه له في ذلك غلاماً من غلمانه منفرداً ويكتب معه كتابَاً مؤكداً إلى إبراهيم بن إسحاق وصالح الخادم المتولى لأمر الحرم بمدينة السلام، فمضى الرسول وقد كانت قينة أعتقتها وخرجت من حد الجواري إلى حد النساء البوالغ، فحملها إلى المنتصر، فلما حضرت نَظَرْتُ إليها، فإذا عجوز قد حدبت وعنست وبها بقية من الجمال، فقال لها: أتحبين أن أزوجك. قالت: إنما أنا أمتك أيها الأمير ومولاتك، فافعل ما بدا لك، فأحضر صالحاً وأملكه بها وأمهرها؟ ثم مزح به فأحضر جوزاً مرصصاً وفركاً مخلقاً فنشره عليه، وأقامت مع صالح مدة طويلة، ثم مَلّهَا ففارقها، وقال يعقوب التمار في ذلك:
منح اللّه أبا الفضل حياة لا تُنَغّصْ
وتولاه فقد با ... لغ في الحب وأخلص
عاشقاً كان على التز ... ويج للعقد تَحَرَّص
من هوى مَنْ شعرها يخضب بالحنا المعفص
فتراه عندما ينْصُلُ كالبرد المحرصِ
فهي من أملح خلق اللَه في التاج المفصص
رُزقَ الصبر عليها فتأتى وتربص
شيخة هام بها مِنْ ... وجْلِىِ شيخ مقرفص
قرنصت في عهد نوح ... صاحب الفلك وقرنص
أيَّ حظ نال لولا الفرك والجوز المرصص
ليته قد جعل الأمر إليها وتخلص
فأبو الجوزان منها ... حين يدنو يتقلص
صنيعه مع عاشق

وذكر أبو عثمان سعيد بن محمد الصغير، قال: كان المنتصر في أيام إمارته وَجّهني إلى مصر في بعض أموره للسلطان، فعشقت جارية كانت لبعض النخاسين عرضت للبيع، محسنة في الصنعة مقبولة في الخلقة قائمة على الوزن من المحاسن والكمال، فساومت مولاها فأبى أن يبيعها إلا بألف دينار، ولم يكن ثمنها متهيئاً معي، فأزعجني السفر وقد عَلِقَهَا قلبي، فأخذني المُقِيمُ المُقْعِدُ من حبها، وندمت على ما فاتني من شرائها. فلما قدمت فرغت مما وجهني إليه وأديت إليه ما عملت حمد أثري فيه، وسألني عن حاجتي وخبري، فأخبرته بمكان الجارية وكَلَفِي بها، فأعرض عني وجعل لا يزداد إلا حمة وقلبي لا يزداد إلا كَلَفاً وصبري لا يزداد إلا ضعفاً، وسليت نفسي عنها بغيرها، فكأني أغريتها ولم تتسل عنها، وجعل المنتصر كلما دخلت إليه وخرجت من عنده يذكرها ويهيج شوقي إليها، وتحَيّلْت إليه بندمائه وأهل الأنس به وخاص من يحظى من جواريه وأمهات أولاده وجدته أم الخليفة أن يشتريها لي، وهو لا يجيبني إلى ذلك، ويعيرني بقلة الصبر وكان قد أمر أحمد بن الخصيب أن يكتب إلى عامل مصر في ابتياعها وحملها إليه من حيط لا أعلم، فحملت إليه وصارت - عنده، فنظر إليها وسمع منها فعذرني فيها، ودفعها إلى قَيِّمَة جواريه فأصلحت من شأنها، فلما كان يوماً من الأيام استجلسني وأمرها أن تخرج إلى الستارة، فلما سمعت غناءها عرفتها، وكرهت أن أعلمه أني قد عرفتها، حتى ظهر فيَّ ما كتمت، وغلب عليّ صبري، فقال: مالك يا سعيد؟ قلت: خيراً أيها الأمير، قال: فاقترحَ عليها صوتاً كنت قد أعلمته أني سمعته منها، وأني أستحسنه من غنائها، فغنته فقال: أتعرف هذا الصوت. قلت: إي واللّه أيها الأمير، وكنت أطمع في صاحبته، فأما الآن فقد أيست منها، وكنت كالقاتل نفسه بيده وكالجالب الحتف إلى حياته، فقال: واللّه يا سعيد ما اشتريتها إلا لك ويعلم اللّه أني ما رأيت لها وجهاً إلا ساعةَ دخلت عليها وقد استراحت من ألم السفر، وخرجت من شحوبة التبذل فهي لك، فدعوت له بما أمكنني من الدعاء، وشكره عني مَنْ حضره من الجلساء، وأمر بها فهيئت وحملتَ إليَ فردت إليَ حياتي بعد أن أشرفت على الهلكة، ولا أحد عندي أحظى منها ولا ولد أحب إليَ من ولدها.
شهادة الحمير
ومن ملاحات أحاديث الملهين المجان ما ذكره أبو الفضل بن أبي طاهر قال: حدثني أحمد بن الحارث الجزار عن أبي الحسن المدائني وأبي علي الحرمازي قالا: كان بمكة سفيه يجمع بين الرجال والنساء على أفحش الريب وكان من أشراف قريش، ولم يذكر اسمه، فشكا أهل مكة ذلك إلى الوالي فغرّبه إلى عرفات، فاتخذها منزلاً ودخل إلى مكة مستتراً فلقي بها حرفاؤه من الرجال والنساء، فقال: وما يمنعكم مني؟ فقالوا: وأين بك وأنت بعرفات؟ فقال: حمار بدرهمين وصرتم إلى الأمن والنزهة والخلوة واللذة قالوا: نشهد إنك لصادق؟ فكانوا يأتونه، فكثر ذلك حتى أفسد على أهل مكة أحداثهم وحواشيهم، فعادوا بالشكية إلى أميرهم، فأرسل إليه فأتي به فقال: أي عدو اللّه طردتك من حرم اللّه فصرت إلى المشعر الأعظم تفسد فيه وتجمع بين الخبائث. فقال: أصلح اللّه الأمير! إنهم يكذبون عليَّ ويحسدونني! فقالوا للوالي: بيننا وبينه واحدة تجمع حُمُرَ المكارين وترسلها إلى عرفات فإن لم تقصد إلى بيته لما تعودت من إتيان السفهاء والفُجَّار إياه فالقول ما قال؛ فقال الوالي: إن في هذا لدليلاً، وأمر بجمع الحمر فجمعت ثم أرسلت فقصدت منزله، وأتاه أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جَرِّدوه! فلما نظر إلى السياط قال: ولا بد من ضربي؟ قال: لا بد يا عدو اللّه، قال: اضرب فواللّه ما في هذا شيء بأشد من أن يسخر بنا أهل العراق ويقولون: أهلُ مكة يجيزون شهادة الحمير مع تقريعهم لنا بقول شهادة الواحد مع يمين الطالب، قال: فضحك الوالي وقال: لا أضربك اليوم، وأمر بتخلية سبيله وترك التعرض له.

قال المسعودي: وللمنتصر باللّه أخبار حسان وأشعار ومُلَح ومنادمات ومكاتبات ومراسلات قبل الخلافة، وقد أتينا على مبسوطها وما استحسناه منها مما لم نورده في هذا الكتاب في كتابنا أخبار الزمان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة، وكذلك في الكتاب الأوسط؛ إذ كنا ما ضمنَّاه كل كتاب منها لم نتعرض لذكره في الآخر، ولو كان كذلك لم يكن بينها فرق وكان الجميع واحداً، وسنورد بعد فراغنا من هذا الكتاب كتاباً نضمنه فنوناً من الأخبار على غير نظم من التأليف ولا ترتيب من التصنيف على حسب ما يسْنَحُ من فوائد الأخبار ويخلله بالآداب وفنون الآثار، تالياً لما سلف من كتبنا ومعقباً لما تقدم من تصنيفنا. إن شاء الله تعالى.
ذكر خلافة المستعين بالله
وبويع أحمد بن محمد بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر، وهو يوم الأحد لخمس خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ويكنى بأبي العباس، وكانت أمه أم ولد صقلبية يُقال لها مخارق، وخلع نفسه، وسلم الخلافة إلى المعتز، فكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر - وقيل: ثلاث سنين وتسعة أشهر - وكانت وفاته يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وقتل وهو ابن خمس وثلاثين سنة.
ذكر جمل هن أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وزراؤه وكتابه
واستوزر المستعين بالله أبا موسى أوتامش، وكان المتولي لأمر الوزارة والقَيم بها كاتباً لأوتامش يُقال له شجاع بن القاسم، وبعد أن قتل أوتامش وكاتبه شجاع صار على وزارته أحمد بن صالح بن شيرزاد، ولما قَتَلَ وصيف وبُغَا باغر التركي تعصبت الموالي، وانحدر وصيف وبُغَا إلى مدينة السلام، والمستعين معهما، فأنزلاه دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، وذلك في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، والمستعين لا أمر له، والأمر لبُغَا ووصيف، وكان من حصار بغداد ما ذكرناه في الكتاب الأوسط؟ وفي المستعين باللّه يقول بعض الشعراء في هذا العصر:
خليفة في قَفَص ... بين وصيف وبُغَا
يقول ما قالا لهَ ... كما يقول الببَّغَا
وقد كان المستعين نَفَى أحمد بن الخصيب إلى إقريطش سنة ثمان وأربعين ومائتين، ونَفَى عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى برقة، واستوزر عيسى بن فرخشانشاه، وقَلَد سعيد بن حميد ديوان الرسائل.
سعيد بن حميد
وكان سعَيد حافظاً لما يُسْتحسن من الأخبار، ويُسْتجاد من الأشعار، متصرفاً في فنون العلم، ممتعاً إذا حَدَث، مفيداً إذا جُولسَ، وله أشعار كثيرة حسان؟ فَفما يُستحسن ويختار من شعره قوله:
وكنت أخَوَفُهُ بالدعاء ... وأخْشَى عليه من المأثم
فلما أقام على ظلمه ... تركت الدعاء على الظالم
وقوله:
أسيدتي مالي أراكِ بخيلةً ... مقيمٌ على الحرمان مَنْ يستزيدها
فأصْبَحْتِ كالدنيا ننم صروفها ... ونُتْبِعها ذّماً ونحن عبيدها
وقوله:
اللَّه يعلم، والدنيا مُوَلٌيَة ... والعيش منتقل، والدهر ذو دوَل
فَلَلْفِرَاق وإن هاجت فجيعتهعليك أخوف في قلبي من الأجل
وكنت أفرح بالدنيا ولذتها ... واليأس يحكم للأعداء في الأمل
وقوله:
وما كان حبيبها لأول نظرة ... ولا غمرة من بعدها فَتَجَلَّتِ
ولكنها الدنيا تولت، وما الذي ... يُسَلِّي عن الدنيا إذا ما تولت.
وقوله:
كأن انحدار الدمع حين تُجِيلُه ... على خدِّها الرَّيَّان دُرٌّ عَلَى دُرّ
إلا أن سعيداً - على ما وصفنا عنه من الأدب - كان يتنصب، ويظهر التسنن والتخيل، وظهر عنه الإِنحراف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وعن الطاهرين من ولده، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
ما رأينا لسعيد بن حُمَيْدٍ من شبيه
ما له يؤذي رسول اللّه في شَتْم أخيه
إنه الزنديق مستو ... لٍ على دين أبيه
وكان سعيد بن حميد من أبناء المجوس، وفيه يقول بعض الشعراء، وهو أبو علي البصير:
رأس من يَدَّعي البلاغة مني ... ومن الناس كلهم في حِر أمِّهِ
وأخونا ولست أعني سعيد بن حُمَيد تؤرخ الكتب باسمه

وكان لسعيد بن حُمَيْد وأبي علي البصير وأبي العَيْنَاء معاتبات ومكاتبات ومداعبات، وقد أتينا على ذكرها في الكتاب الأوسط.
؟أبو علي البصير
وكان أبو علي البصير من أطبع الناس في زمانه، لا يزال يأتي بالبيت النادر، والمثل السائر، الذي لا يأتي به غيره، وكان ابن مَيَّادة بسوء اختياره يرى أنه أشعر من جرير، ويحسبه مقدماً على أهل عصره، وهو فوق نظرائه في وقته، ودون البحتري فمن مشهور شعره قوله في المعلى ابن أيوب:
لعمر أبيك ما نُسِبَ المُعَلّى ... إلى كرم، وفي الدنيا كريم
ولكنَ البلاد إذا اقْشَعَرَّت ... وصَوَّح نبتُهَا رُعِيَ الهشيم
ومما استحسن له من شعره قوله:
إذا ما اغتدت طلابة العلم مالها ... من العلم إلا ما يخلّدُ في الكتب
غدوت بتشمير وجد عليهم ... فمحبرتي سمعي ودفترها قلبي
ومما استحسن من قوله وهو يريد الحج:
خرجنا نبتغي مكة حُجَّاجاً وعُمَّارا
فلما شارف الحير ... ة راعي إبلِي حارا
فقلت: احْطط بها رحلي ... ولا تعبأ بمن جارا
فصادفنا بها لهواً ... وبستاناً وخَمَّارا
وظبياً عاقداً بين النقا والخصر زُنَّارا
فما ظَنُّكَ بالحلفا ... ء إن أشعلَتَهَا نارا
ظهور يحيى بن عمر الطالبي
وظهر في هذه السنة، وهي سنة ثمان وأربعين ومائتين، بالكوفة أبو الحسن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الطيار، وأمه فاطمة بنت الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الطيار وقيل: إن ظهوره كان بالكوفة سنة خمسين ومائتين فقتل وحمل رأسه إلى بغداد وصلب، فضج الناس من ذلك، لما كان في نفوسهم من المحبة له، لأنه استفتح أموره بالكَفِّ عن الدماء، والتَّوَرُّع عن أخذ شيء من أموال الناس، وأظهر العدل والإِنصاف، وكان ظهوره لذلّ نزل به، وجفوة لحقته، ومحنة نالته من المتوكل وغيره من الأتراك، ودخل الناس إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر يهنئونه بالفتح، ودخل فيهم أبو هاشم الجعفري - وهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، بينه وبين جعفر الطيار ثلاثة آباء - ولم يكن يعرف في ذلك الوقت أقعد نسباً في آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش منه، وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم، صحيح العقل سليم الحواس منتصب القامة، وقبره مشهور، وقد أتينا على خبره وما روي عنه من الرواية عن أبيه ومَنْ شاهد من سلفه في كتاب حدائق الأذهان في أخبار آل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لابن طاهر: أيها الأمير، إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيّاً لعُزِّي به، فلم يجبه محمد وخرج من داره وهو يقول: يا بني طاهر، البيتين، قد كان المستعين أمر بنصب الرأس، فأمر ابن طاهر بإنزاله لما رأى الناس وما هم عليه، وفي ذلك يقول أبو هاشم الجعفري:
يا بني طاهر كُلوه وَبيَّا ... إن لحم النبي غير مَرِيِّ
إن وتراً يكون طالبه اللّه لَوِتْرٌ بالْفَوْتِ غير حَرِيِّ
وقد رُثِيَ أبو الحسين يحمى بن عمر بأشعار كثيرة، وقد أتينا على خبر مقتله وما رثي به من الشعر في الكتاب الأوسط، ومما رثي به ما قاله فيه أحمد بن طاهر الشاعر من قصيدة طويلة:
سلام على الِإسلام فهو مودع ... إذا ما مضى آل النبي فودًعُوا
فَقَدْنا العلا والمجد عند افتقادهم ... وأضحت عروش المكرمات تَضعَضْعَ
أتجمعُ عَيْنُ بين نوم ومضجع ... ولابن رسول اللّه في الترب مضجع
فقد أقفرَتْ دار النبي محمد ... من الدين والِإسلام، فالدار بَلْقَعُ
وقُتِّلَ آل المصطفى في خلالها ... وبُحِّدَ شمل منهمُ ليس يجمع
ألم تر آل المصطفى كيف تصطفي ... نفوسَهُمُ أمُ المنون فتتبع
بني طاهر، واللؤم منكم سجية ... وللغدر منكم حاسر ومُقَنعُ
قواطعكم في الترك غير قواطع ... ولكنها في آل أحمد تقطع

لكم كُل يوم مشرب من دمائهم ... وغُلتها من شربها ليس تَنْقَعُ
وما حكم للطالبيين شرع ... وفيكم رماح الترك بالقتل شُرع
لكمَ مرتع في دار آل محمد ... وداركُمُ للترك والجيش مرتع
أخِلتم بأن الله يرعى حقوقكم ... وحَقُّ رسول اللّه فيكم مضيًعُ؟
وأضحوا يُرَجُّون الشفاعة عنده ... وليس لمن يرميه بالوتر يشفع
فيغلب مغلوب، ويقتل قاتل ... ويخفض مرفوع، ويدنى المرفع
قال: وكان يحيى دَيِّناً، كثير التعطف والمعروف على عوام الناس، بارّاً بخواصهم، واصِلاً لأهل بيته، مؤثراً لهم على نفسه، مُثْقَل الظهر بالطالبيات، يجهد نفسه ببرهِنً والتحنن عليهم، لم تظهر له زلة، ولا عرفت له خزية.
ولما قتل يحيى جزعت عليه نفوس الناس جزعاً كثيراً، ورثاه القريب والبعيد، وحزن عليه الصغير والكبير، وجزع لقتله المليء والدنيء، وفي ذلك يقول بعض شعراء عصره ومَنْ جزع على فقده:
بكَت الخيل شَجْوَها بعد يحيى ... وبكاهُ المهندُ المصقول
وبكَته العراق شرقاً وغرباً ... وبكاهُ الكتاب والتنزيل
والمصلى والبيت والركن والحِجْرُ جميعاً لهم عليه عَوِيل
كيف لم تسقط السماء علينا ... يوم قالوا: أبو الحسين قتيل
وبناتُ النبيَ يندبن شَجْواً ... مُوجَعَات، دموعُهُنّ تسيل
ويُؤَبًنَّ للرزية بدر ... فقده مفظع عزيز جليل
قَطعت وجهه سيوف الأعادي ... بأبي وجهه الوسيم الجميل
وليحيى الفتى بقلبي غليل ... كيف يؤذي بالجسم ذاك الغليل
قَتْلُه مذكر لقتل علي ... وحسين، ويوم أودي الرسول
فصلاة الإِلهِ وقفا عليهم ... ما بكى مُوجَسٌ وَحنَّ ثكُول
وكان ممن رثاه علي بن محمد بن جعفر العلوي الحماني الشاعر، وكان ينزل بالكوفة في حمان، فأضيف إليهم فقال:
يا بقايا السلف الصا ... لح والتجْر الربيح
نحن للأيام من بينِ قتيل وجريح
خاب وَجْهُ الأرض كم ... غيَّب من وجه صبيح
آه من يومك ما أو ... داه للقلب القريح
وفيه يقول:
تَضَوع مسكا جانِبُ القبر إذ ثوى ... وما كان لولا شِلْوُه يتضَوعُ
مصارع فتيان كرام أعزّة ... أتيح ليس الخير منهنَّ صرعُ
وقوله:
أنّى لقوميَ من أحساب قومكم ... بمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما علّق السيف منا بابن عاشرة ... إلاَّ وهمته أمضى من السيف
وقد كان علي بن محمد بن جعفر العلوي هذا - وهو أخو إسماعيل العلوي لأمه - لما دخل الحسن بن إسماعيل الكُوفة - وهو صاحب الجيش الذي لقي يحيى بن عمر - قعد عن سلامه، ولم يمض إليه، ولم يتخلّفْ عن سلامه أحد من آل علي بن أبي طالب الهاشميين، وكان علي بن محمد الحماني نقيبهم بالكوفة وشاعرهم ومفرسهم ولسانهم، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي بن أبي طالب يتقدمه في ذلك الوقت، فتفقده الحسن بن إسماعيل، وسأل عنه، وبعث بجماعة فأحضروه، فأنكر الحسن تخلفه عن سلامه، فأجابه علي بن محمد بجواب مستقل آيس من الحياة، فقال: أردت أن آتيك مهنياً بالفتح، وداعياً بالظفر، وأنشد شعراً لا يقوم على مثله مَنْ يرغب في الحياة، وهو:
قتلت أعز من ركب المطايا ... وجئتك أسْتَلِينُكَ في الكلام
وعَز عَلَي أن ألقاك إلا ... وفيما بيننا مَدُ الحسام
ولكنً الْجَنَاحَ إذا أهيضت ... قَوَادُهُ يَرِفُّ على الأكام
فقال له الحسن بن إسماعيل: أنت موتور، فلست أنكر ما كان منك، وخلع عليه، وحمله إلى منزله.
بين الموفق وعلي بن محمد العلوي
قال: وكان أبو أحمد الموفق باللهّ حبس علي بن محمد العلوي لأمر شنع به عليه من أنه يريد الظهور، فكتب إليه من الحبس:
قد كان جدك عبد اللَه خَيْرَ أب ... لابْنَيْ علي حُسَيْن الخيرِ وَالْحِسَنِ

فالكَفُّ يوهن منها كل أنملةً ... ما كان من أختها الأخرى من الْوَهَنِ
فلما وصل هذا الشعر إليه كفل وخلى إلى الكوفة.
وله أشعار ومراث في أخيه إسماعيل وغيره من أهله، وفي ذم الشيب، قد أتينا على كثير من ذكرها في كتابنا أخبار الزمان عند ذكر أخبار الطالبين، وفي كتاب مزاهر الأخبار، وطرائف الآثار، في أخبار آل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما رَثَى به علي بن محمد أيضاً أبا الحسين يحيى بن عمر فأجاد فيه وافتخر على غيرهم من قريش قوله:
لعمري لئن سُرت قريش بهُلكِهِ ... لما كان وَقَافاً غَدَاةَ التوقف
فإن مات تلقاء الرماح فإنه ... لمِنْ مَعْشَر يَشْنَوْنَ موت التترف
فلا تشتموا فالقوم من يبق منهمُ ... على سنن منهم مقام المخلف
لهم معكم إما جدعتم أنوفكم ... مقامات ما بين الصَّفَا وَالمُعَرف
تراث لهم من آدم ومحمد ... إلى الثقلين من وصايا ومصحف
وفيه يقول أيضاً في الشيب:
قد كان حين بدا الشباب به ... يَقَقَ السوالف حالك الشَّعْرِ
وكأنه قمر تَمَنْطَقَ في ... أفق السماء بدارهَ البدر
يا ابن الذي جعلت فضائله ... فَلَكَ العلا وقلائد السور
من أسرة جعلت مَخَايلهم ... للعالمين مخايل النطر
تتهيب الأقدار قدرهم ... فكأنهم قدر على قدر
والموت لا تشوى رميته ... فلك العلا ومواضع الغرر
ومن مراثيه المستحسنة فيِ أخيه:
هذا ابن أُمي عديل الروح في جسدي ... شق الزمان به قلبي إلى كبدي
فاليوم لم يبق شيء أستريح به ... إلا تَفَتُّتُ أعضائي من الكمد
أو مقلة بخَفِيِّ الهم باكية ... أو بيت مرثية تبقى على الأبد
تُرَى أناجيك فيها بالدموع وقد ... نام الخليُّ ولم أهجع ولم أكَدِ
من لي بمثلك يا نور الحياة ويا ... يُمْنَى يديَّ التي شَلّتْ من العضل
من لي بمثلك أدعوه لحادثة ... يُشْكَى إليه ولا يشكو إلى أحد
قد ذقت أنواع ثُكْلٍ كُنْتَ أبلَغَها ... على القلوب وأجناها على كبدي
قل للردى لا تغادر بعده أحداً ... وللمنية من أحببت فاعتمدي
إن الزمان تَقَضى بعد فرقته ... والعيش آذن بالتفريق والنكد
وكانت وفاة علي بن محمد العلوي في خلافة المعتمد في سنة ستين ومائتين.
ظهور الحسن بن زيد العلوي
وفي خلافة المستعين - وذلك في سنة خمسين ومائتين - ظهر ببلاد طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللهّ تعالى عنهم، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة وقتال شديد، وما زالت في يده إلى أن مات سنة سبعين ومائتين، وخَلَفَه أخوه محمد بن زيد فيها إلى أن حاربه رافع بن هرثمة، ودخل محمد بن زيد إلى الديلم في سنة سبع وسبعين ومائتين، فصارت في يده، وبايعه بعد ذلك رافع بن هرثمة وصار في جملته، وانقاد لدعوته، والقول بطاعته، وكان الحسن بن زيد ومحمد بن زيد يدعوان إلى الرضا من آل محمد، وكذلك مَنْ طرأ بعدهما ببلاد طبرستان - وهو الحسن بن علي الحسني المعروف بالأطروش ووللده - ثم الداعي الحسن بن القاسم الذي قتله أسفار بطبرستان، وكان الحسن بن القاسم من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب وقد أتينا على خبر سائر آل أبي طالب بطبرستان، ومن ظهر منهم بالمشرق والمغرب وغير ذلك من بقاع الأرض إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - في كتابنا أخبار الزمان وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً من سائر ما يجب ذكره، لئلا يخلو هذا الكتاب من ذكرهم.
ظهور محمد بن جعفر
وظهر في هذه السنة - وهي سنة خمسين ومائتين - بالري محمد بن جعفر بن الحسن، ودعا للحسن بن زيد صاحب طبرستان، وكانت له حروب بالري مع أهل خراسان من المسودة، فأسر وحمل إلى نيسابور إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فمات في محبسه بنيسابور.
ظهور أحمد بن عيسى العلوي

وظهر بعده بالري أحمد بن عيسى بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ودعا إلى الرضا من آل محمد، وحارب محمد بن طاهر، وكان بالري، فانهزم عنه وسار إلى مدينة السلام، فدخلها العلويَ.
ظهور الكركي بقزوين
وفي هذه السنة - وهي سنة خمسين ومائتين - ظهر بقزوين الكركي وهو الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وهو من ولد الأرقط، وقيل: إن اسم الكركي الحسن بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بق الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فحاربه موسى بن بُغَا، وصار الكركي إلى الديلم، ثم وقع إلى الحسن بن زيد الحسيني فهلك قبله.
ظهور الحسين بن محمد العلوي
وظهر بالكوفة الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد اللهّ بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسرح إليه محمد بن عبد اللّه بن طاهر من بغداد جيشاً عليه ابن خاقان فانكشف الطالبي واختفى لترك أصحابه له، وتخلفهم عنه، وكان ذلك في سنة إحدى وخمسين ومائتين.
عزم على أخذ البيعة لابنه
وفي سنة تسع وأربعين ومائتين عقد المستعين لابنه العباس على مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وعزم على البيعة له، فأخرها لصغر سنه، وكان عيسى بن فرخاتشاء قال لأبي علي البصير الشاعر أن يقول في ذلك شعراً يشير فيه بالبيعة له، فقال في ذلك قصيدة طويلة يقول فيها:
بك اللّه حاط الدين وانْتَاشَ أهله ... من الموقف الدَحْض الذي مثله يْرْىِ
فولِّ ابنك العباس عهدك إنه ... له موضع واكتب إلى الناس بالعهد
فإن خَففته السن فالعقل بالغ ... به رتبة الشيخ الموفّقِ للرشد
وقد كان يحيى أوتي العلم قبله صبياً، وعيسى كَلّم الناس في المهد.
بين محمد بن طاهر وأبي العباس المكي
وقال أبو العباس المكي: كنت أنادم محمد بن طاهر بالري قبل مواقعته الطالبيين، فما رأيته في وقت من الأوقات أشد سروراً منه ولا أكثر نشاطاً قبل ظهور العلوي بالري، وذلك في سنة خمسين ومائتين، وقد كنت عنده ليلة أتحدث، والخير وافد والسَّتْرُ مسبل، إذ قال: كأني أشتهي الطعام فما آكل. قلت: صدر دراج أو قطعة من جلي باردَة، قال: يا غلام، هات رغيفاً وخلاً وملحاً، فأكلا من ذلك، فلما كان في الليلة الثانية قال: يا أبا العباس، كأني جائع فما ترى أن آكل. قلت: ما أكَلْتَ البارحة، فقال: أنت لا تعرف فرق ما بين الكلامين، قلت البارحة: كأني أشتهي الطعام، وقلت الليلة: كأني جائع، وبينهما فرق، فدعا بالطعام، ثم قال لي: صف لي الطعام والشراب والطيب والنساء والخيل، قلت: أيكون ذلك منثوراً أو منظوماً؟ قال: لا، بل منثوراً، قلت: أطيب الطعام ما لقي الجوع بطعم وافق شهوة، قال: فما أطيب الشراب. قلت: كأس مدام تبرد بها غليلك، وتعاطي بها خليلك، قال: فأي السماع أفضل. قلت: أوتار أربعة، وجارية متربعة، غناؤها عجيب، وصوتها مصيب، قال: أي الطيب أطيب؟ قلت: ريح حبيب تحبه، وقرب ولد ترثه، قال: فأي النساء أشهى؟ قلت: من تخرج من عندها كارِهاً، وترجع إليها والهاً. قال: فأي الخيل أفرهُ؟ قلت: الأشدق الأعين الذي إذا طُلِبَ سبق، وإذا طَلَبَ لحق، قال: أحسنت، يا بشر أعطه مائة فى ينار، قلت: وأين تقع مني مائتا دينار. قال: أو قد زدت نفسك مائة دينار. يا غلام أعطه المائة كما ذكرنا، والمائة الأخرى لحسن ظنه بنا، فانصرفت بمائتي دينار، فما كان بين هذا الحديث وبين تنحيه من الري إلا جمعة.
معرفة المستعين بالأخبار
وكان المستعين حسن المعرفة بأيام الناس وأخبارهم، لهجاً بأخبار الماضين.
وحدث محمد بن الحسن بن دُرَيْد قال: أخبرني أبو البيضاء مولى جعفر الطيار، وكان طيب الحديث، قال: وَفَدْنَا في أيام المستعين من المدينة إلى سامرا وفينا جماعة من آل أبي طالب وغيرهم من الأنصار، فأقمنا ببابه نحواً من شهر، ثم وصلنا إليه، فكل تكلّم وعبر عن نفسه فقرب وانس، وابتدأ بذكر المدينة ومكة وأخبارهما، وكنت أعرف الجماعة بما شرع فيه، فقلت: أيأذن أمير المؤمنين في الكلام. قال: ذلك إليك، فشرعت معه فيما قد إليه وتسلسل بنا الكلام إلى فنون من العلم في أخبار الناس، ثم انصرفنا وأقيم لنا الإِنزال والإفضال.
عروة بن حزام

فلما كان في أول الليل جاءنا خادم ومعه سدة من الأتراك وفرسان، فحملت على جنيبة كانت معهم، وأتى بي إلى المستعين فإذا هو جالس في الجوسق، فقربني وأدناني، ثم أخذ بعد أن انسني في أخبار العرب وأيامها، وأهل التتيم، فانتهى بنا الكلام إلى أخبار العذْرِيين والمتيمين، فقال لي: ما عندك من أخبار عُرْوَة بن حزام، وما كان منه مع عَفْرَاء فقلت: يا أمير المؤمنين، إن عُرْوَة بن حزام لما انصرف من عند عفراء بنت عقال توفي وَجْداً بها وصبابة إليهما، فمر به رَكْبٌ فعرفوه، فلما انتهوا إلى منزل عفراء صاح صائح منهم:
ألا أيها القصرُ المغفل أهله ... نَعينا إِلَيْكُمْ عروة بن حزام
ففهمت صوته، وأشرفت عليه، وقالت:
ألَا أيها الرَّكْب المجدُّونَ وَيْحَكُمْ ... بِحَقٍّ نعيتم عروة بن حزام.
فأجابها رجل من القوم، فقال:
نعم قد تركناه بأرض بعيدة ... مقيماً بها في سَبْسَبٍ وأكام
فقالت لهم:
فإن كان حَقّاً مَا تَقُولُونَ فأعْلَمُوا ... بأن قد نعيتم بَدرَ كل ظلام
فلا لَقِيَ الفتيانُ بَعْدكَ لَذّةً ... ولا رجعوا من غيبة بسلام
ولا وضعت أنثى شريفاً كمثله ... ولا فرحت من بعده بغلام
ولا لا بلغتم حيث وجهتم ... له ونغصتم لذات كُلّ طعمام
ثم سألتهم: أين دفنوه؟ فأخبروها، فصارت إلى قبره، فلما قاربته قالت: أنزلوني فإني أريد قضاء حاجة، فأنزلوها فانسلتْ إلى قبره فأكَبّتْ عليه، فما راعهم إلا صوتها، فلما سمعوه بادروا إليها، فإذا هي ممتدة على القبر قد خرجت نَفْسُهَا، فدفنوها إلى جانب قبره. قال: فقال لي: فهل عندك من خبره غير ما ذكرت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، هذا ما أخبرنا به مالك بن الصباح العدوي، عن الهيثم بن علي بن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: بعثني عثمان بن عفان مصدقاً في بني عُذْرَة في بلاد حي منهم يُقال لهم بنو منبذة، فإذا ببيت جديد منحاش عن الحي، فملت إليه، فإذا بشاب قائم في ظل البيص، وإذا عجوز جالسة في كسر البيت، فلما رآني ترنم بصوت ضعيف يقول:
جعلت لِعَرَّاف اليمامة حكمه ... وَعَرَّاف نجد إن هما شَفَيَانِي
فقالا: نعم، نشفي من الداء كله ... وقاما مع العوَّاد يبتدران
فما تركَا لي رُقْيَةً يعرفانها ... ولا شَرْبَة إلا بها سقياني
وقالا: شفاك اللّه، واللّه ما لنا ... بما حُمِّلَتْ منك الضلوع يدان
فلهفي على عفراء لهفاً كأنه ... على النحر والأحشاء حَدُّ سنان
فعفراء أحظى الناس عندي مَوَدَّة ... وعفراء عَنِّي المُعْرِضُ المتداني
وإني لأهوى الحشر إذ قيل: إنَّنِي ... وعفراء يوم الحشر ملتقيان
ألا لَعَنَ اللّه الوُشاة وَقَوْلَهُمْ: ... فُلاَنَة أضحت خُلّةً لفلان
ثم شهق شهقة خفيفة، فنظرت في وجهه فإذا هو قد مات، فقلت: أيها العجوز، ما أظن هذا النائم بفناء بيتك إلا قد مات، قالت: وأنا واللّه أظن ذلك، فنظرت في وجهه، وقالت: فَاضَ ورَبِّ الكعبة، فقلت: منِ هذا. فقالت: عروة بن حزام العذري، وأنا أمه، واللّه ما سمعت له أنّةَ من سنة إلا في صدر يومي هذا، فإني سمعته يقول:
من كان من أمهاتي باكياً أبداً ... فاليوم إنِّي أرَانِي فيه مقبوضَا
تسمعِيه فإني غير سامعة ... إذا علوت رقاب القوم معروضَا
قال: فأقمت حتى شهدت غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، قال: فقال عثمان: ومما دعاك إلى ذلك؟ قلت: إكتساب الأجر فيه واللّه، قال: فوصل الجماعة وفَضّلني عليهم في الجائزة.
حديث عن مجنون بني عامر

قال المسعودي: ولمن سلف من المُتيَّمين أخبار عجيبة، وأشعار حسان، فمن ذلك ما حدثنا به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: أخبرني أبو الهياج بن سابق النجدي، ثم الثقفي، قال: خرجت إلى أرض بني عامر، لا لشيء إلا للقاء المجنون، فإذا أبوه شيخ كبير، وإذا إخوته رجال، وإذا نِعَم ظاهرة وخير كثير، فسألتهم عن المجنون؛ فاستعبروا، وقال الشيخ، كان والله أبَرَّ هؤلاء عندي؟ فهوى امرأة من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله؛ فلما عرف أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه؛ فزوجها من رجل آخر؟ فقيدناه، فكان يعض شفتيه ولسانه حتى خشينا أن يقطعهما؛ فلما رأينا ذلك خَلّيْنَا سبيله؟ ففر في هذه الفَيَافِي يذهب إليه في كل يوم بطعامه فيوضع له بحيث يراه، فإذا عاينه جاء فأكل، وإذا خلقت ثيابه جاءوه بثياب، فوضعت بحيث يراها، فسألتهم أن يدلُّوني عليه، فدلوني على فتى من الحي، وقالوا: إنه لم يزل صديقاً له، وليس يأنس بأحد سواه، فسألته أن يدلني عليه؟ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعره عندي إلى أمس وأنا ذاهب إليه غداً؟ فإن كان قد ذكر شيئاً أتيتك به، قلت: أريد أن تدلني عليه، قال: إن رآك يفر منك، وأخاف أن يذهب مني فيما بعد، فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني، فقال: اطلبه في هذه الصحراء، فإذا رأيته فَادْنُ منه مستأنساً، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء في يده، فاجلس كأنك لا تنظر إليه والْحَظْهُ، فإذا رأيته قد سكن. فاجهد أن تروى لقيس بن فريح شيئاً فإنه معجب به، قال: فخرجت إليه يومي، فوجدته بعد العصر جالساً على تل، يخط بإصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبض، ففرَّ والله كما يفرًّ الوحش من الِإنسان، وإلى جانبه أحجار، فتناول منها واحداً، فأقبلت حتى جلست قريباً منه، فمكثت ساعة، وهو كأنه نافر، فلما طال جلوسي سَكَنَ، وأقبل يعبث بإصبعه، فنظرت إليه، وقلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول:
وإني لَمُفْنِ دَمْعِ عينيَ بالبكا ... حِذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا: غداَ! أو بعد ذاك بليلة ... فراق حَبيب لم يَبِنْ وَهْوَ بائن
وما كنت أخشى أن تكون مَنِيَّتِي ... بكفي إلّاَ أنَّ مَا حَانَ حائن
قال: فبكى واللّه حتى سالت دموعه، ثم قال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:
أبى القلب إلا حبها عامرية ... لها كُنْية عمرو، وليس لها عمرو
تكاد يدي تَنْدَى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضر
عجبت لسعي الدَّهْر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زِدْنِي جَوًى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
قال: ثم نهض، فانصرفت، ثم عُدْتُ من الغد، فأصبته، ففعلت فعلي بالأمس، وفعل مثل فعله، فلما أنس قلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول، قال: ماذا، قلت:
هَبُوبي امرأ إنْ تحسنوا فهو شاكر ... لذاك، وإن لم تحسنوا فهو صافح
فإن يك قوم قد أشاروا بهجرنا ... فإن الذي بيني وبينك صالح
قال: فبكى، وقال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:
وادنيَتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العُصمَ سهل الأباطح
تجافَيْتِ عني حيث مالِيَ حيلة ... وَخَلّفْت ما خَلّفْت بين الجوانح
ثم ظهرت لنا ظبية، فوثب في إثرها فانصرفت، ثم عدت في اليوم الثالث فلم أصادفه، فرجعت، فأخبرتهم؛ فوجهوا الذي كان يذهب بطعامه فرجع، وأخبرهم أن الطعام على حاله! ثم غدوت مع إخوته! فطلبناه يومنا وليلتنا! فلما أصبحنا أصبناه في واد كثير الحجارة، وإذا هو ميت، فاحتمله إخوته، ورجعت إلى بلدي.
وفاة بغا الكبير
قال المسعودي: وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين كانت وفاة بُغَا الكبير التركي. وقد نَيَّفَ على التسعين سنة، وقد كان باشَرَ من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وتقلّد ابنُه موسى بن بُغَا ما كان يتقلّده، وضم إليه أصحابه، وجعلت له قيادته، وكان بُغَا دَيِّناً من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالماً، ويقول: الأجل جوشن .

بُغَا يرى رسول اللّه في الحلم
ولم يكن يلبس على بدنه شيئاً من الحديد، فعذل في ذلك، فقال: رأيت في نومي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه فقال لي: يا بُغَا، أحسنت إلى رجل من أمتي فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك، قال: فقلت: يا رسول اللّه ومَنْ ذلك الرجل؟ قال: الذي خَفَصته من السباع، فقلت: يا رسول اللّه، سَلْ ربك أن يطيل عمري، فرفع يديه نحو السماء وقال: اللّهم أطِلْ عمره، وأتم أجله، فقلت: يا رسول اللّه، خمس وتسعون سنة، فقال رجل كان بين يديه: ويُوَقّى من الآفات، فقلت للرجل: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فاستيقظت من نومي، وأنا أقول: علي بن أبي طالب.
قصة له مع طالبي
وكان بُغَا كثير التعطف والبر للطالبيين، فقيل له: من كان ذلك. الرجل الذي خلصته من السباع. قال: كان أتى المعتصم برجل قد رمي ببدعة، فجرت بينهم في الليل مخاطبة في خلوة، فقال لي المعتصم: خذه فألقه إلى السباع، فأتيت بالرجل إلى السباع لألقيه إليها وأنا مُغْتَاظ عليه، فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك، ولم أرد بذلك غيرك، وتقرباً إليك بطاعتك، وإقامة الحق على من خالفك، أفتسلمني؟ قال: فارتعدْتُ وداخلتني له رِقًة، وملئ قلبي له رعباً، فجذبته عن طرف بركة السباع، وقد كدت أن أَزُجَّ به فيها، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها، وأتيت المعتصم فقال: هيه، قلت: ألقيته، قال: فما سمعته يقول؟ قلت: أنا عجمي وهو يتكلم بكلام عربي ما أدري ما يقول، وقد كان الرجل أغْلَظَ، فلما كان في السحر قلت للرجل: قد فتحت الأبواب وأنا مخرجك مع رجال الحرس، وقد آثرتك على نفسي، ووَقَيْتكَ بروحي، فاجْهَدْ ألاَّ تظهر في أيام المعتصم، قال: نعم، فما خبرك. قال: هجم رجل من عماله في بلدنا على ارتكاب المكاره والفُجُور وإماتة الحق ونَصْر الباطل، فسَرَى ذلك إلى فساد الشريعة، وهَدْم التوحيد، فلم أجد عليه ناصراً، فوثبت عليه في ليلة فقتلته؟ لأن جرمه كان يستحق به في الشريعة. أن يفعل به ذلك.
بيّن المستعين والأتراك
قال المسعودي: ولما انحدر المستعين ووصيف وبُغَا إلى مدينة السلام اضطربت الأتراك والفراغنة وغيرهم من الموالي بسامرا، وأجمعوا على بعث جماعة إليه يسألونه الرجوع إلى دار مكة، فصار إليه عدة وجوه الموالي ومعهم البُرْدُ والقَضِيبُ وبعض الخزائن ومائتا ألف دينار، ويسألونه الرجوع إلى دار ملكه، واعترفوا بذنوبهم، وأقَرُّوا بخطئهم، وضمنوا ألا يعودوا ولا غيرهم من نظرائهم إلى شيء من ذلكِ مما أنكره عليهم، وتذللوا وخضعوا، فأجيبوا بما يكرهون، وانصرفوا إلى سر من رأى فأعلموا أصحابهم وأخبروهم بما نالهم، وإياسهم من رجوع الخليفة.
الموالي يجمعون على بيعة المعتز
وقد كان المستعين اعتقل المعتز والمؤيد حين انحدر إلى بغداد، ولم يأخذهما معه، وقد كان حذر من محمد بن الواثق حين انحداره فأخفه معه، ثم إنه هرب منه بعدُ في حال الحرب، فأجمع الموالي على إخراج المعتز والمبايعة له والاِنقياد إلى خلافته، ومحاربة المستعين وناصريه ببغداد، فأنزلوه من الموضع المعروف بلؤلؤة الجوسق، وكان معتقلاً فيه مع أخيه المؤيد، فبايعوه، وذلك يوم الأربعاء لإِحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، وركب من غد ذلك اليوم إلى دار العامة، فأخذ البيعة على الناس، وخَلَعَ على أخيه المؤيد، وعقد له عقدين أسود وأبيض، فكان الأسود لولاية العهد بعده، والأبيض لولاية الحرمين وتقلدهما، وانبثّتِ الكتب في سامرا بخلافة المعتز باللّه إلى سائر الأمصار، وأرخت باسم جعفر بن محمد الكاتب، وأحْدَرَ أخاه أبا أحمد مع عدة من الموالي لحرب المستعين إلى بغداد، فنزل عليها، فكان أول حرب جرت بينهم ببغداد بين أصحاب المعتز والمستعين، وهرب محمد بن الواثق إلى المعتز باللّه، ولم تزل الحرب بينهم وبين أهل بغداد للنصف من صفر من هذه السنة، فلما نشبت الحرب بينهم كانت أمور المعتز تَقْوَى، وحالة المستعين تضعف، والفتنة عامة.

فلما رأى محمد بن عبد اللّه بن طاهر ذلك كاتب المعتز وجَنَحَ إليه، ومال إلى الصلح على خلع المستعين، وقد كانت العامة ببغداد - حين علمت ما قد عزم عليه من خلع المستعين - ثارت مُنْكِرة لذلك، متحيزة إلى المستعين، ناصرة له، فأظهر محمد بن عبد اللّه المستعين على أعلى قصره، فخاطبته العامة وعليه البردة والقَضِيبُ، فأنكر ما بلغهم من خلعه، وشكر محمد بن عبد اللهّ بن طاهر، ثم التقى محمد بن عبد اللّه بن طاهر وأبو أحمد الموفق بالشماسية، فاتفقا على خلع المستعين على أن له الأمان ولأهله وولده وما حوته أيديهم من أملاكهم، وعلى أنه ينزل مكة هو ومن شاء من أهله، وأن يقيم بواسطة العراق إلى وقت مسيره إلى مكة، فكتب له المعتز على نفسه شروطاً أنه متى نقضِ شيئاً من ذلك فاللّه ورسوله منه بَرَاء، والناسُ في حل من بيعته، وعهوداً يطول ذكرها، وقد خذل المعتز بعد ذلك لمخالفتها حين عالج في نقضها، فخلع المستعين نَفْسَه من الخلافة، وذلك يوم الخميس لثلاث خَلَوْنَ من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فكان له مذ وافى مدينة السلام إلى أن خلع سنة كاملة، وكانت خلافته - منذ تقلد الأمر على ما بيناه آنفاً إلى أن زال عنه ملكه - ثلاث سنين وثمانية أشهر وثمانية عشر يوماً على ما ذكرناه من الخلاف، وأحدر إلى دار الحسن بن وهب ببغداد، وجمع بينه وبين أهله وولده، ثم أحدر إلى واسط، وقد وكل به أحمد بن طولون التركي، وذلك قبل ولايته مصر، وعلم عجز محمد بن عبد اللّه بن طاهر عن قيامه بأمر المستعين حين استجار به وخِذْلانه إياه وميله إلى المعتز باللّه، وفي ذلك يقول بعض شعراء العصر من أهل بغداد:
أطافت بنا الأتراك حَوْلاً مَجُرَّما ... وما برحَتْ في جُحْرها أمُّ عامر
أقامت على ذُلٍّ بها ومَهَانة ... فلما بَدَتْ أبدت لنا لؤم غادر
ولم تَرْع حق المستعين فأصبحت ... تعين عليه حادثات المقادر
لقد جمعت لؤما وخبثاً وذِلّةً ... وأبقت لها عاراً على آل طاهر
ولما كان من الأمر ما قدمناه من خلع المستعين انصرف أبو أحمد الموفق من بغداد إلى سامرا، فخلع عليه المعتز، وتوج، ووشح بوشاحين، وخلع على من كان معه من قواده، وقدم على المعتز عبيدُ اللّه بن عبد اللّه بن طاهر أخو محمد بن عبد اللّه بالبُرْدِ والقضيب والسيف وبجوهر الخلافة، ومعه شاهك الخادم، وكتب محمد بن عبد اللّه إلى المعتز في شاهك: إن من أتاك بإرث رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لجدير أن لا تخفر ذمته.
وخلع المستعين وعلى وزارته أحمد بن صالح بن شيراذاد.
موت المستعين
ولما كان في شهر رمضان من هذه السنة - وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين - بعث المعتز باللّه سعيد بن صالح الحاجب ليلقى المستعين، وقد كان في جملة مَنْ حمله من واسط، فلقيه سعيد وقد قرب من سامرا فقتله واحتز رأسه وحمله إلى المعتز باللّه، وترك جثته ملقاة على الطريق حتى تولى دفنها جماعة من العامة.
وكانت وفاة المستعين باللّه يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، على ما قدمنا في صدر هذا الباب.
وذكر شاهك الخادم قال: كنت عديلاً للمستعين عند إشخاص المعتز له إلى سامرا، ونحن في عمارية، فلما وصل إلى القاطول تَلَقَاه جيش كثير، فقال: يا شاهك أنْظَرْ مَنْ رئيس القوم؟ فإن كان سعيد الحاجب فقد هلكت، فلما عاينته قلت: هو واللّه سعيد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهَبَتْ والله نفسي، وجعل يبكي، فلما قرب سعيد منه جعل يقنعه بالسوط، ثم أضجعه وَقَعَدَ على صدره واحتز رأسه، وحمله على ما ذكرنا، واستقامت الأمور للمعتز، واجتمعت الكلمة عليه.
وللمستعين أخبار غير ما ذكرناه في هذا الكتاب، وأوردناه في هذا الباب، وقد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما ذكرنا ما أوردنا في هذا الكتاب لئلا يتوهم أنا أغفلنا ذكرها أو عًزَبَ عنا فهمها، فإنا بحمد اللّه لم نترك شيئاً من أخبار الناس وسيرهم وما جرى في أيامهم إلا وقد ذكرناه، وأوردنا في كتبنا أحْسَنَهُ، وفوق كل في علم عليم، واللّه الموفق للصواب.
ذكر خلافة المعتز باللّه

بويع المعتز باللهّ، وهو الزبير بن جعفر المتوكل، وأمه أُم ولد يقال لها قبيحة، ويكنى أبا عبد اللّه، وله يومئذ ثمان عشرة سنة، بعد خَلْع المستعين لنفسه، وذلك يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من المحرم، وقيل: لثلاث خَلَوْنَ منه، سنة اثنتين وخمسين ومائتين على ما قَدَّمنا، وبايعه القُوَّاد والموالي والشاكرية وأهل بغداد، وخطب له في المسجد الجامع ببغداد في الجانبين.
ثم خلع المعتز نفسه يوم الاثنين لثلاث بَقِينَ من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ومات بعد أن خلع نفسه بستة أيام.
فكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر، ودُفن بسامرا، فجملة أيامه منذ بُويع بسامرا قبل خلع المستعين إلى اليوم الذي فيه أربع سنين وستة أشهر وأياماً، ومنذ بًويع له بمدينة السلام ثلاث سنين وسبعة أشهر وكرفي وله أربع وعشرين سنة.
ذكر جمل هن أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
قول الناس في خلعه نفسه
ولما خلع المستعين بالله وأحْمِرَ إلى واسط - بعد أن أشْهَدَ على نفسه أنه قد بَرِئَ من الخلافة وأنه لا يصلح لها، لما رأى من الخلاف الواقع، وأنه قد جعل الناس في حل من بيعته - قالت في ذلك الشعراء فأكثرت، ووصفته في شعرها فأغرقت، فقال في ذلك البحتري من قصيدة طويلة:
إلى وَاسِطٍ خلف الدَّجَاج، ولم يَكُنْ ... لينبت في لَحْم الدجاج مخالب
وفي ذلك يقول الشاعر المعروف بالكناني من قصيدة:
إني أراك من الفراق جَزُوعا ... أمْسَى الإِمام مُسَيَّراً مخلوعا
وغدا الخليفة أحمد بن محمد ... بعد الخلافة والبهاء خليعا
كانت به الأيام تضحك زهرة ... وهو الربيع لمن أراد ربيعاً
فأزاله المقدور مِنْ رتب العُلاَ ... فثوى بِوَاسِط لا يحس رجوعا
وكان بين خلع المستعين وقتله تسعة أشهر ويوم.
وفاة جماعة من أهل العلم
ومات في خلافة المستعين جماعة من أهل العلم والمحدِّثين: منهم أبو هاشم محمد بن زيد الرفاعي، وأيوب بن محمد الوراق، وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني بالكوفة، وأحمد بن صالح المصري، وأبو الوليد السَّرِيُّ الدمشقي، وعيسى بن حماد زغبة المصري بمصر، ويكنى أبا موسى، وأبو جعفر بن سوار الكوفي، وذلك في سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وفي خلافة المستعين - وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين - كانت وفاة الحسن بن صالح البزار، وكان من عِلْيَة أصحاب الحديث، وهشام بن خالد الدمشقي، ومحمد بن سليمان الجهني بالمصيصة، والحسن بن محمد بن طالوت، وأبو حفص الصيرفي بسامرا؛ ومحمد بن زنبور المكي بمكة، وسليمان بن أبي طيبة، وموسى بن عبد الرحمن البرقي.
وفي خلافة المستعين - وذلك في سنة خمسين ومائتين - مات إبراهيم بن محمد التميمي، قاضي البصرة، ومحمود بن خداش، وأبو مسلم أحمد بن أبي شعيب الحراني؛ والحارث بن مسكين المصري، وأبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وغير هؤلاء ممن أعرضنا عن ذكره، من شيوخ المحدثين وَنَقَلَة الآثار، ممن قد أتينا على ذكرهم من أول زمن الصحابة، إلى وقتنا هذا - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - في سنة ست، من كتابنا المترجم بالأوسط، وإنما نذكر من وفاة من ذكرنا لئلا نخلي هذا الكتاب من نبذ مما يحتاج إلى ذكره على قدر الطالب له.
فص من الياقوت الأحمر
وقد كان المستعين في سنة ثمان وأربعين ومائتين أخرج من خزانة الخلافة فص ياقوت أحمر، يعرف بالجبلي، وكانت الملوك تصونه، وكان الرشيد اشتراه بأربعين ألف دينار، ونقش عليه اسمه أحمد، ووضع ذلك الفص في إصبعه، فتحدَّث الناس بذلك، وقد ذكر أن ذلك الفص قد تداولته الملوك من الأكاسرة وقد نقش في قديم الزمان، وذكر أنه لم ينقشه ملك إلا مات قتيلاً، وكان الملك إذا مات وجلس تاليه في الملك حك النقش، فتداولته في اللبس الملوك، وهو غير منقوش، فيقع للنادر من الملوك فينقشه، وكان ياقوتاً أحمر، يضيء بالليل كضياء المصباح إذا وضع في بيت لا مصباح فيه أشرق، ويرى فيه بالليل تماثيل تلوح، وله خبر ظريف، وقد ذكرناه في كتابنا أخبار الزمان في ذكر خواتم ملوك الفرس، وقد كان هذا الفص ظهر في أيام المقتدر، ثم خفي أثره بعد ذلك.
بعض ما قيل في المعتز

وشد كان جماعة من الشعراء قالوا في المعتز - حين استتم له الأمر واستقامت له الخلافة، وخلعها المستعين - أقوالاً كثيرة، فمن ذلك قول مروان بن أبي الجنوب من قصيدة طويلة:
إن الأمور إلى المعتز قد رَجَعَتْ ... والمستعينُ إلى حالاته رَجَعَا
قد كان يعلم أن المُلْكَ ليس له ... وأنه لك لكن نَفْسَهُ خدعا
وفي ذلك يقول رجل من أهل سامرا، وقد قيل إنه البحتري:
للَه عَزُ عصابة تركية ... رَدوا نوائب دهرهم بالسيف
قتلوا الخليفة أحمد بن محمد ... وكَسَوا جميع الناس ثوب الخوف
وطَغَوْا فأصبح ملكنا متقسماً ... وإمامنا فيه شبيه الضيف
وفي المعتز ورجوع الأمر إليه واتفاق الكلمة عليه يقول أبو علي البصير:
آبَ أمرُ الإِسلام خَيْرَ مآبه ... وغدا الملك ثابتاً في نِصَابهْ
مستقراً قراره مطمئناً ... آهلا بعد نأيه واغترابه
فاحمد اللّه وَحْلَى والتمس بالعفو عمن هفا جزيل ثوابه
وزراء المعتز
وكان على وزارة المعتز جعفر بن محمد، ثم استوزر جماعة، فكانت الكتب تخرج باسم صالح بن وصيف كأنه مرسوم بالوزارة.
وكانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في خلافة المعتز باللّه.
وذلك في يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ابن اثنتين وأربعين سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وسمع في جنازته جارية تقول: ماذا لقينا في يوم الاثنين قديماً وحديثاً. وصلى عليه أحمد بن المتوكل على اللّه، في شارع أبي أحمد، وفي داره بسامرا، ودفن هناك.
علي بن محمد الطالبي
حدثنا ابن الأزهر، قال: حدثني القاسم بن عباد، قال: حدثني يحيى بن هرثمة، قال: وَجَّهني المتوكل إلى المدينة لِإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسىِ بن جعفر لشيء بلغه عنه؛ فلما صرت إليها ضجَّ أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، فجعلت أسكنهم وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه، وفتشت بيته، فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاء، وما أشبه ذلك، فأشخصته وتولّيْتُ خدمته وأحسنت عشرته، فبينا أنا نائم يوماً من الأيام، والسماء صاحية، والشمس طالعة؛ إذ ركب وعليه ممطر، وقد عقد ذنب دابته، فعجبت من فعله، فلم يكن بعد ذلك إلا هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عَزَاليها، ونالنا من المطر أمر عظيم جداً، فالتفت إليَّ، وقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت وتوهمت أني علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننت، ولكن نشأتُ لبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما أصبحت هَبتْ ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر، فتأهبت لذلك. فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري - وكان على بغداد - فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد وَلَدَهُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والمتوكل منْ تعلم، وإن حرضته على قتله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَصْمَكَ، فقلت: والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل.
فصرت إلى سامرا، فبدأت بوصيف التركي، وكنت من أصحابه، فقال: واللّه لئن سَقَطَتْ من رأس هذا الرجل شَعْرَة لا يكون المطالِبً بها غيري، فعجبت من قولهما، وعَرَّفت المتوكل ما وقفت عليه، وما سمعته من الثناء عليه، فأحسن جائزته، وأظهر بره وتكرمته.

وحدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبي عنان قال: حدثني أبو دعامة، قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة، فلما هممت بالانصراف قال لي: يا أبا دعامة قد وجب حَقّكَ، أفلا أحدثك بحديث تُسَرُّ به؟ قال: فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك يا ابن رسول اللّه، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن موسى، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي عليُّ بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنهم! قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " اكتب يا علي " قال: قلت: وما أكتب؟ قال لي: " اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، الإِيمان ما وقرته القلوب وصدقته الأعمال، والإِسلام ما جرى به اللسان وحلت به المناكحة " قال أبو دعامة: فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما أدري أيهما أحسن: الحديث أم الإِسناد؟ فقال: إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نتوارثها صاغراً عن كابر.
قال المسعودي: وقد ذكرنا خبر علي بن محمد بن موسى رضي اللّه عنه مع زينب الكذابة بحضرة المتوكل، ونزوله رضي اللّه عنه! إلى بركة السباع، وتذللها له، ورجوع زينب عما ادعته من أنها ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وأن اللّه تعالى أطال عمرها إلى ذلك الوقت، في كتابنا أخبار الزمان وقيل: إنه مات مسموماً، عليه السلام.
موت محمد بن عبد اللّه بن طاهر
قال المسعودي: وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين - وذلك في خلافة المعتز - مات محمد بن عبد اللهّ بن طاهر، للنصف من ذي القعدة، بعد قتل وصيف بثلاثة عشر يوماً، والقمر مخسوف وكان من الجد والكرم، وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإِشارة، وفصاحة اللسان، وملوكية المجالسة، على ما لم يكن عليه أحد من نظرائه في عصره وفيه يقول الحسين بن علي بن طاهر من قصيدة له:
خُسف البدر والأمير جميعاً ... فانجلى البدرُ والأمير غَمِيدٌ
عاود البدر نوره لتجليه ... ونور الأمير ليس يعودُ
يا خسوفين ليلة الأحد النحس أحَلّتكما هناك السعود
واحد كان حده مثل حد السيف والنار شُبَ فيها الوقودُ
ماني الموسوس
وذكر أبو العباس المبرد قال: ارتاح محمد بن عبد الله بن طاهر يوماً للمنادمة، وقد حضره ابن طالوت، وكان وزيره وأخصَّ الناس به، وأحضرهم لخلواته، فأقبل عليه، وقال: لا بد لنا اليوم من ثالث تطيب لنا به المعاشرة، وتلذ بمنادمته المؤانسة، فمن ترى أن يكون؟ وأعْفِنَا أن يكون شرير الأخلاق، أو دنس الأعراق، أو ظاهر الِإملاق، قال: فأعملت الفكر، وقلت: أيها الأمير، خطر ببالي رجل ليس علينا من مجالسته من مؤونة، وقد برئ من إبرام المُجَالس، وخلا من ثقل المؤانس، خفيف الوطأة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أردت، قال: ومن ذلك. قلت: ماني الموسوس، قال: أحسنت واللّه فليتقدم إلى أصحاب الثمانية والعشرين الربع في طلبه يرفعوه رفعة، فما كان بأسرع من أن اقتنصه صاحبُ الكَرْخ، فصار به إلى باب الأمير، فأخذ وحذف ونظف وأدخل الحمام وألبس ثياباً وأدخل عليه، فقال: السلام عليك أيها الأمير، فقال محمد: وعليك السلامُ يا ماني، أما آن لك أن تزورنا على حين تَوَقانٍ منا إليك ومنازعة قلوب منا نحوك. فقال ماني: الشوق شديد، والحب عتيد، والزار بعيد، والحجاب صعب، والبواب فظ، ولو سهل لنا في الِإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال: ألْطَفْتَ في الاستئذان فليلطف لك في الِإذن، لا يمنع ماني أي وقت ورد من ليل أو نهار، ثم أذن له في الجلوس، فجلس، ودعا بالطعام فأكل، ثم غسل يديه وأخذ مجلسه، وكان محمد قد تَشوَقَ إلى السماع من مؤنسة جارية بنت المهدي، فأحضرت، فكان أول ما غنت به:
ولَسْتُ بنَاس إذْ غَمَوْا فتحمَّلُوا ... دموعي على الأحباب من شدَة الوجدِ
وقولي وقد زالتَ بليلٍ حُمُولُهم: ... بواكر نجد لا يكَن آخر العهدِ
فقال ماني: أحسنت، وبحق الأمير إلا ما زدت فيه:
وقمت أناجي الفكر والدمع حائر ... بمُقْلَة موقوف على الضرِّ والجهد

ولم يعدني هذا الأمير بغيرة ... على ظالم قد لج في الهجر والصد
فاندفعت تغنيه، فقال له محمد: أعاشق أنت يا ماني؟ فاستحيا، وغمزه ابن طالوت أن لا يبوح له بشيء فيسقط من عينيه، فقال: مبلغ طرب وشوق كان كامناً فظهر، وهل بعد الشيب صَبْوَة؟ ثم اقترح محمد على مؤنسة هذا الصوت:
حَجَبُوهَا عن الرياح لأني ... قلت: يا ريحُ بَلِّغيها السلاما
لو رَضُوا بالحجاب هان ولكن ... منعوها عند الرياح الكلاما
فغنته، فطرب محمد، ودعا برطل فشرب، فقال ماني: ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:
فَتَنَفّسْتُ ثم قلت لطَيْفِي: ... إن زُرْتَ طيفها إلماما
خُصَهُ بالسلام مني فأخشَى ... يمنعوها لشقوتي أن تنامَا
لكان أثقب لزند الصَّبَابة بين الأحشاء، وأشَدَّ تغلغلاً إلى الكبد الصَّدْيا من زلال الماء، مع حسن تأليف نظامه، والانتهاء بالمعنى إلى نهاية تمامه، فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم أمر مؤنسة بإلحاقهما بالبيتين الأولين والغناء بهما، ففعلت، ثم غنت بهذين البيتين:
يا خليليَّ ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بدار زينب إلا ... هَتَكَ الدمعُ سِرَّنَا المكتوما
فاستحسنه محمد، فقال ماني: لولا رهبة التعدِّي لأضَفْتُ إلى هذين البيتين بيتين لَا يَرِدَانِ على سمع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: يا ماني، الرغبة في حسن ما تأتي به حائلةٌ دون كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخر ... بطَرْفِ لغادرته هشيماً
وإذا ما تبسَّمَتْ خِلْتُ إيما ... ضَ بروقٍ أو لؤلؤاً منظوماً
فقال: أحسنت يا ماني، فأجز هذا الشعر:
لم تَطِبِ اللذات إلا بمنِ ... طابت بها اللذات مأنوسه
غنت بصوت أطْلَقَتْ عَبْرَةَ ... كانت بسجن الصبر محبوسه
فقال ماني:
وكيف صبر النفوس عن غادة ... أظلمها إن قلت طاووسه
وجُرْتُ إن سًمّيتها بانة ... في جنة الفردوس مغروسه
وغَيْرُ عَدْلٍ إن عدلنا بها ... جوهرة في البحر مغموسه
ثم سكت، فقال محمد: ما عدا في وصفه لها، فقال ماني:
جَلّتْ عن الوصف فما فكرة ... تلحقها بالنعت محسوسه
فقال محمد: أحسنت، فقالت مؤنسة: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، وعطف علمك إلْفُكَ، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله يديم لنا ذلك ببقاء مَنْ به اجتمع شملنا، فقال لها ماني عند قولها: وعطف عليك إلفك! مجيباً:
ليس لي إلْفٌ فيعطفني ... فارقَتْ نفسي الأباطيل
أنا موصول بنعمة من ... حَبْلُه بالمجد موصول
أنا مغبوط بنعمة من ... طَبْعُه بالخير مأمول
فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام، فنهض وهو يقول:
ملك قل النظير له ... زانه الغُرُ البهاليل
طاهريٌّ في مواكبه ... عُرْفُه في الناس مبذول
دم مَنْ يشقى بصارمه ... مَعْ هبوب الريح مطلول
يا أبا العباس صُنْ أدباً ... حَدُّه بالدهر مَفْلُول
فقال محمد: وجب جزاؤك لشكرك على غير نعمة سبقت، ثم أقبل على ابن طالوت فقال: ليست خساسة المرء، ولا اتضاع الدهر، ولا نبو العين عن الظاهر بمذهب جوهرية الأدب المركب في الِإنسان، وما أخطأ صالح بن عبد القدوس حيث يقول:
لا يعجبك من يصون ثيابَهُ ... خَوْفَ الغبار وعِرْضُه مبذول
فلربما افتقر الفتى فرأيته ... دنس الثياب وعرضه مغسول
قال ابن طالوت: فما رأيت أحْضَرَ ذهناً منه، إذ تقول الجارية: عطف عليك إلفك وإنشاده عند قولها ذلك:
ليس لي إلف فيعطفني ... فارقت نفسي الأباطيل
قال: فلم يزل محمد مُجْرِيا عليه رزقَه حتى توفي.
المعتز وولاة العهد

ونمي إلى المعتز أن المؤيد يدبر عليه، وأنه قد استمال جماعة من الموالي، فحبس المؤيد وأبا أحمد - وهما لأب وأم - وطولب المؤيد بأن يخلع نفسه من ولاية العهد، فضُرِبَ أربعين عصا إلى أن أجاب، وأشهد على نفسه بذلك، ثم اتصل بالمعتز أن جماعة من الأتراك اجتمع رأيهم على إخراج المؤيد من حبسه، فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين أخرج المؤيد ميتاً، وأحضر القضاة والفقهاء حتى رأوه ولا أثر فيه، فيقال: إنه أدرج في لحاف مسموم وشد طرفاه حتى مات فيه، وضيق حبس أبي أحمد، فكان بين دخوله سر من رأى وما لقي بها من الِإكرام وبين حبسه ستة أشهر وثلاثة أيام، ثم أشخص إلى البصرة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد قتل المؤيد بخمسيِن يوماً، ورتب إسماعيل بن قبيحة - وهو أخو المعتز لأبيه وأمه - مكان المؤيد في ولاية العهد - واجتمع قواد الموالي إلى المعتز فسألوه الرضا عن وصيف وبُغَا، فأجابهم إلى ذلك.
وفي هذه السنة مات زرافة صاحب دار المتوكل بمصر.
وقد كان يوسف بن إسماعيل العلوي غلب على مكة فمات في هذه السنة فخلفه بعد وفاته أخوه محمد بن يوسف، وكان أسن منه بعشرين سنة، فنال الناس في هذه السنة بسببه جَهْدٌ شديد، فبعث المعتز بأبي الساج الأشروسي إلى الحجاز؛ فهرب محمد بن يوسف، وقتل خلق من أصحابه.
وفيها أوقع الحسن بن زيد الحسيني بسليمان بن عبد اللّه بن طاهر، فأخرجه عن طبرستان.
وفي هذه السنة قدم إلى سامرا عيسى بن الشيخ الشيباني من مصر، ومعه مال كثير، وستة وسبعون رجلاً من سائر والد أبي طالب من ولد علي وجعفر وعَقيل كانوا قد خرجوا من الحجاز خَوْفَ الفتنة والجهد النازل بالحجاز إلى مصر، فحملوا منها، فأمر المعتز بتكفيلهم، والتخلية عنهم؛ لما وقف عليه من أمرهم.
وولي عيسى ابن الشيخ فلسطين.
وفي هذه السنة - وهي سنة ثلاث وخمسين ومائتين - مات صفوان العقيلي صاحب ديار مُضرَ في حبس سامرا.
وفي هذه السنة كان قتل أهل كَرْحٍ سامرا من الفراغنة والأتراك لوصيف التركي، وتخلّص بُغَا منهم، واشتد أمر مساور الشاري؛ ورتب صالح بن وصيف في موضع وصيف.
موت بُغَا الصغير
في سنة أربع وخمسين ومائتين خرج من سامرا إلى ناحية الموصل، فانتهبت الموالي داره، وانفضِّ من كان معه من الجيش، وانحدر في زَوْرَق متنكراً فوقع به بعض المغاربة بجسر سامرا، فقتل ونصب رأسه بسامرا، وهو بُغَا الصغير، ثم أخذ الرأس إلى مدينة السلام فنصب على الجسر.
وكان المعتز في حياة بُغَا لا يلتذُّ بالنوم، ولا يخلع سلاحه، لا في ليل ولا في نهار، خوفاً من بُغَا، وقال: لا أزال على هذه الحالة حتى أعلم لبغا رأسي أو رأسه لي، وكان يقول: إني لأخاف أن ينزل عليَّ بغَا من السماء أو يخرج عليَّ من الأرض، وقد كان بُغَا عزم على أن ينحدر سراً فيصل إلى سامرا في الليل، ويصرف الأتراك عن المعتز، ويفيض فيهم الأموال فكان من أمره ما وصفنا.
الأتراك والمعتز

ولما رأى الأتراك إقْدام المعتز على قتل رؤسائهم، وإعمالَهُ الحيلَةَ في فنائهم، وأنه قد اصطنع المغاربة والفراغنة دونهم صاروا إليه بأجمعهم، وذلك لأربع بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وجعلوا يقرعونه بذنوبه، ويوبخونه على أفعاله، وطالبوه بالأموال، وكان المدبر لذلك صالح بن وصيف مع قُوَّاد الأتراك، فلجَّ وأنكر أن يكون قبله شيء من المال، فلما حصل المعتز في أيديهم بعث إلى مدينة السلام في محمد بن الواثق الملقب بالمهتدي، وقد كان المعتز نَفَاه إليها واعتقله فيها، فأتي به في يوم وليلة إلى سامرا، فتلقَّاه الأولياء في الطريق، ودخل إلى الجوسق، وأجاب المعتز إلى الخلع، على أن يعطوه الأمان أن لا يُقْتَلَ وأن يؤمنوه على نفسه وماله وولده، وأبى محمد بن الواثق أن يقعد في سرير الملك أو يقبل البيعة حتى يرف المعتز ويسقى كلامه، فأتي بالمعتز وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل، فلما رآه محمد بن الواثق وَثَبَ إليه فعانقه، وجلسا جميعاً على السرير، فقال له محمد بن الواثق: يا أخي، ما هذا الأمر؟ قال المعتز: أمر لا أطيقه، ولا أقوم به، ولا أصْلُح له، فأراد المهتدي أن يتوسَّط أمره، ويصلح الحال بينه وبين الأتراك، فقال المعتز: لا حاجة لي فيها، ولا يَرْضَوْننِي لها، قال المهتدي: فأنا في حلّ من بيعتك، قال: أنت في حل وَسَعَةٍ، فلما جعله في حل من بيعته حَوَلَ وجهه عنه، فأقيم عن حضرته، ورُدَّ إلى محبسه، فقُتِلَ في محبسه بعد أن خلع بستة أيام، على ما قدمنا في صدر هذا الباب.
وقد قالت الشعراء في خلع المعتز وقتله فأكثرت، ورثته فأحسنت، فمن ذلك قول بعض أهل ذلك العصر من قصيدة له:
عَيْنُ لا تبخلي بسفح الدموع ... واندبي خير فاجع مفجوع
خانه الناصح الشفيق ونالته أكُفُّ الردى بحَتْفٍ سريع
بَكَرَ الترك ناقمين عليه ... خالعيه أفديه من مخلوع
قَتَلُوهُ ظلماً وجوراً فألفو ... ه كريم الأخلاق غير جَزُوع
كان يغشى بحسنه بهجة البد ... ر فتلقاه مُظْهِراً للخضوع
وترى الشمس تستكين فلا تشرق إمَّا رأته وقت الطلوع
لم يهابوا جيشاً ولا رهبوا السيف، فَلَهْفِي على القتيل الخليع
أصبح الترك مالكي الأمر والعا ... لم ما بين سامع ومطيع
وترى اللّه فيهمُ مالك ... الأمر سيخزيهمُ بقتل ذريع
وقال فيه آخر من قصيدة طويلة:
أصْبَحَتْ مقلتي بدَمْع سفوحا ... حين قالوا: أضحى الِإمام ذبيحا
قتلوه ظلماً وجوراً وغدراً ... حين أهْدَوْا إليه حتفاً مُرِيحَا
نَضَرَ اللّه ذلك الوجه وجهاً ... وسقى اللّه ذلك الروح روحا
أيها الترك سوف تلقون للدهر سيوفا لا تستبل الجريحا
فاستعدُّوا للسيف عاقبه الأمر فقد جئتم فعالا قبيحا
وقال آخر من قصيدة طويلة أيضاً:
أصبحت مقلتي تَسُحُّ الدموعا ... إذ رأت لسيد الأنام خليعا
لهف نفسي عليه ما كان أعلا ... ه وأسْرَاه تابعاً متبوعا
ألزموه ذَنْباً على غير جرم ... فثوى فيهم قتيلاً صريعا
وبنو عمه وعَمِّ أبيه ... أظهروا ذلة وأبدوا خضوعاً
ما بهذا يصحَّ مُلْك ولا يغرى عدو ولا يكون جميعا
وكان المعتز أول خليفة أظهر الركوب بحلية الذهب، وكان مَا سلف قبله من خلفاء بني العباس - وكذلك جماعة من بني أًمية - يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة والمَنَاطق وأنجاد السيوف والسُّروج واللُّجم، فلما ركب المعتز بحلية الذهب اتبعه الناس في فعل ذلك.
وكذلك المستعين قبله أحْدَثَ لبس الأكمام الواسعة، ولم يكن يعهد ذلك، فجعل عرضها ثلاثة أشبار ونحو ذلك، وصَغَّر القلانس، وكانت قبل ذلك طوالاً كأقباع القضاء.
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر بالكوفة علي بن زيد وعيسى بن جعفر العلوي، فسرح إليهما المعتز سعيد بن صالح المعروف بالحاجب في جيش عظيم، فانهزم الطالبيان لتفرق أصحابهما عنهما.

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وفاة إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم! وما نال أفلَ المدينة وغيرهم من أهل الحجاز في أيامه من الجهد والضيق، وما كان من أمر أخيه بعد وفاته، وهو محمد بن يوسف، مع أبي الساج وحربه إياه، ولما انكشف من بين يدي أبي الساج سار إلى اليمامة والبحرين، فغلب عليها، وخلفه بها عقبه المعروف ببني الأخضر إلى اليوم، وقد كان ظهَرَ بناحية المدينة بعد ذلك ابن لموسى بن عبد اللّه بن موسى بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
بعض الطالبيين الذين نالهم مكروه
قال المسعودي: وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان سائر أخبار من ظهر من آل أبي طالب، ومن مات منهم في الحبس وبالسم، وغير ذلك من أنواع القتل: منهم عبد اللّه بن محمد بن علي بن أبي طالب، وهو أبو هاشم، سقاه عبد الملك بن مروان السم، ومحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، حمله سعيد الحاجب من البصرة، فحبس حتى مات، وكان معه ابنه علي، فلما مات الأب خُليَ عنه، وذلك في أيام المستعين، وقيل غير ذلك، وجعفر بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، قتله ابن الأغلب بأرض المغرب، والحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتله العباس بمكة، وحمل في أيام المعتز من الري علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ومات في حبسه، وحَمَلَ سعيدٌ الحاجب من المدينة موسى بن عبد اللّه بن موسى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان من النسك والزهد في نهاية الوصف، وكان معه إدريس بن موسى، فلما صار سعيد بناحية زبالة من جادة الطريق اجتمع خلق من العرب من بني فزارة وغيرهم لأخذ موسى من يده، فَسَمَّه فمات هنالك، وَخلَصَت بنو فزارة ابنه إدريس بن موسى.
وفي خلافة المعتز في سنة اثنتين وخمسين ومائتين كان بُدًوّ الفتنة بين البلالية والسعدية بالبصرة، وما نتج من ذلك من ظهور صاحب الزنج.
وللمعتز أخبار حسان غير ما ذكرنا قد أتينا على مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وباللّه التوفيق.
ذكر خلافة المهتدي باللّه
وبويع المهتدي محمد بن هارون الواثق قبل الظهر من يوم الأربعاء، لليلة بَقِيَتْ من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وأمه أم ولد رومية يقال لها قرب، ويكنى بأبي عبد اللّه، وله يومئِذٍ سبع وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثون سنة، وإنه قتل ولم يستكمل الأربعين سنة في سنة ست وخمسين ومائتين، فكانت ولايته أحد عشر شهراً، ودُفن بسامرا، وقيل: إن مولده كان في سنة ثماني عشرة ومائتين.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
واستوزر المهتدي باللّه جماعة - على قصر مدته - فسلموا منه من قتل وغيره، منهم عيسى بن فَرْخَانْشَاه.
قبة المظالم وشيء من سيرته
وبنى المهتدي قبة لها أربعة أبواب، وسماها قبة المظالم، وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وحرم الشراب، ونهى عن القيام، وأظهر العدل، وكان يحضر كل جمعة إلى المسجد، ويخطب الناس ويؤم بهم، فثقلت وطأته على العامة في الخاصة بحمله إياهم على الطريق الواضحة، فاستطالوا خلافته، وسئموا أيامه؛ وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه، وذلك أن موسى بن بُغَا الكبير كان عاملاً غائباً بالري مشتغلاً بحرب آل أبي طالب كالحسن بن زيد الحسني، وما كان من الديلم ببلاد قزوين ودخولهم إياها عَنْوَة وقتلهم أهْلَهَا، فلما نمي إلى موسى بن بُغَا قتل المعتز، وما كان من أمر صالح بن وصيف والأتراك في ذلك قَفَلَ من تلك الديار متوجهاً إلى سامرا، منكراً لما جرى على المعتز.
الخلاف في مقتل المعتز

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في ذكر أخبار المعتز قَتْلَ المعتز مجملاً ولم نبين كيفية قتله، وتنازع الناس في ذلك مفصلاً، ورأيت أصحاب السير والتواريخ وذوي العناية بأخبار الدول قد تباينوا في مقتله: فمنهم من ذكر أن المعتز مات في حَبْسه في خلافة المهتدي بالله على ما قدمنا من التاريخ حتْفَ أنفه، ومنهم من ذكر أنه منع في حبسه من الطعام والشراب فمات عند قطع مواد الغذاء عنه من المأكل والمشرب، ومنهم من رأى أنه حقن بالماء الحار المغلي، فمن أجل ذلك حين أخرج إلى الناس وجدوا جوفه وارماً، والأشْهَرُ في الأخباريين ممن عني بأخبار العباسيين أنه أدخل حماماً وأكره في دخوله إياه، وكان الحمام محميّاً ومنع الخروج منه، ثم تنازع هؤلاء: فمنهم من قال إنه ترك في الحمام حتى فاضت نفسه، ومنهم من ذكر أنه أخرج بعد أن كادت نفسه تتلف للحمى، ثم أسقي شربة ماء مقرورة بثلج، فنثرت الكبد وغيره، فخمد من فوره، وذلك ليومين خَلَوَا من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقد أتينا على مبسوط هذه الأخبار وتنازعهم في هذه الآثار في كتابنا أخبار الزمان.
بين المهتدي وموسى بن بُغَا
ولما اتصل بالمهتدي مسير موسى بن بُغَا إلى دار الخلافة أنكر ذلك، وكاتَبَه بالمقام في موضعه، وأن لا يحل عن مركزه للحاجة إليه، فأبى موسى بن بُغَا إلا إغذاذ المسير والسرعة فيه، حتى وافى سامرا، وذلك في سنة ست وخمسينِ ومائتين، وصالح بن وصيف يدبر الأمر مع المهتدي، فلما دنا موسى من سامرا صاحت العامة في مواضعها والغوغاء في طرقاتها: يا فرعون، قد جاء موسى، وكان صالح بن وصيف قد نفر عن المهتدي حين علم بموافاة موسى، وقال: إن المهتدي راسَلَ موسى في السر في المسير إلى سامرا، والشخوص إليها، وكاتبه في ظاهر الأمر وراسله أن لا يقدم، وكان رجل من قواد الأتراك يُقال له بايكيال قد غلب على الأمر أيضاً، وترأس، فدخل موسى سامرا حتى انتهى إلى مجلس المهتدي وهو جالس للمظالم، والدار غاصَّة بخواص الناس وعوامهم، فشِرع أصحاب موسى فدخلوا الدار، وجعلوا يخرجون العامة منها بأشد ما يكون من الضرب بالدبابيس والطبرزينات والعسف، فضجَّتْ العامة، فقام المهتدي منكراً عليهم فعلَهُمْ بمن في الدرا، فلم يرجعوا عما هم عليه فتنحَّى مُغْضَبا، فقدم إليه فرس فركب وقد استشعر منهم الغَدْرَ، فمضى به إلى دار يارجوج، وقد كان موسى بن بُغَا انصرف عن دار المهتدي لما نظر إلى ضَجة العامة فيها، فنزل تلك الدار، فسير بالمهتدي إليها، فأقام فيها ثلاثاً عند موسى بن بُغَا فأخذ عليه موسى العهود والمواثيق ألا يغدر به، وكان أكثر الجيش مع موسى بن بُغَا وكان فيه ديانة وتقشف، حتى إن الجند تأسوْا به، ولم يكن يشرب النبيذ، وكان المهتدي في أخلاقه شَرَاسة، فنافر موسى، وكاد الأمر أن ينفرج، والحال أن يتسع، غير أن موسى تعطف عليه، وأعملا الحيلة في قتل صالح بن وصيف، وخاف موسى أن يكون صالح بن وصيف يعمل الحيلة عليهم في حال اختفائه، فبثَّ في طلبه العيون، حتى وقع عليه، فلما علم صالح هجومهم عليه قاتل ومانع عن نفسه، فقتل واحتز رأسه وأتي به إلى موسى بن بُغَا، ومنهم من رأى أنه أحمي له حمام وأدخل إليه فمات فيه، على حسب ما فعل بالمعتز.
مقتل المهتدي

وقوى أمر مُسَاور الشاري، ودنا في عسكره من سامرا، وعمَّ الناسَ بالأذى، وانقطعت السابلة، وظهرت الأعراب، فأخرج المهتدي باللّه موسى بن بُغَا وبايكيال إلى حرب الشاري، وخرج معهما فشيعهما، ثم قَفَلا من غير أن يلقيا شَرّاً، فلما استشعر المهتدي رجوعهما خرج فعسكر بجسر سامرا في جمع من المغاربة والفراغنة وغيرهم من الرسوم ليحارب بايكيال، وقد قيل إن بايكيال أقرأ موسى كتاباً للمهتدي بقتل موسى وَالفَتْك به، وإنه كتب إلى موسى بمثل ذلك، وإنهما علما بتضريب الأمر بينهما، فرجَعَا عما خرجا إليه، وأشرف بايكيال على المهتدي فانصرف موسى على ظهر سامرا متحرجاً لقتال المهتدي، فكانت بين المهتدي وبين بايكيال حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس، وانكشف بايكيال، واستظهر المهتدي عليه، فخرج كمين بايكيال على المهتدي وفيه يارجوجِ التركي فولّى المهتلي وأصحابه، ودخل سامرا مستغيثاً بالعامة مستنصراَ بالناس يصيح في الأسواق فلا مغيث، وقدامه أُناس من الأنصار، فمضى مؤيساً من النصر إلى دار ابن خيعونة بسامرا مختفياً، فهجموا عليه وعزلوه، وحملوه منها إلى دار يارجوج، وقيل له: أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كِأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وأنت إنما رجالكم ما بين تركي وخزَرِي وفرغاني ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم، وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟ فكثر منهم ومنه الكلام والمراجعة في هذا المعنى وأشباهه، ثم انقادوا إليه على حسب ما ظهر للناس من ذلك، فلما كاد الأمر أن يتم قام فيهم سليمان بن وهب الكاتب - وقيل: غيره - وقال: هذا سوء رأي منكم، وخطأ في تدبيركمِ، إن أعطاكم بلسانه فنيته فيكم غير هذا، قال: وسيأتي عليكم جميعاً، ويفرق جمعكم، فلما سمعوا هذا القول استرجعوا وجاءوه بالخناجر، فكان أول من جرحه ابن عم لبايكيال، جرحَه بخنجر في أوداجه، وانكبِّ عليه فالتقم الجرح والدم يفور منه، وأقبل يمصُّ الدم حتى روي منه، والتركي سكران، فلما رويٍ من دم المهتدي قام قائماً وقد مات المهتدي، فقال: يا أصحابنا قد رَوِيت من دم المهتدي كما رَوِيتُ في هذا اليوم من الخمر.
وقد تنوزع فيما ذكرنا من قتل المهتدي، والأشْهَرُ ما ذكرناه من قتله بالخناجر، ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنهم من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقيل: قتل خنقاً، وقيل: كبس عليه بالبسط والوسائد حتى مات.
فلما مات داروا به ينوحون ويبكون عليه، وندموا على ما كان منهم من قتله، لما تبينوا من نسكه وزهده، وقيل: إن ذلك كان يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان موسى بن بغا ويارجوج التركي غير داخلين في فعل الأتراك.
سبب حنق الأتراك
وكان حَنَقُ الأتراك على المهتدي بسبب قتله بايكيال، وذلك أن بايكيال وقع بيد المهتدي فضرب عنقه، ورمى به إلى أصحابه، ومنهم من رأى أنه قتل في الحرب المتقدم ذكرها في الموضع المعروف بجسر سامرا. وقد كان المهتدي لما أفْضَتِ الخلافة إليه أخرج أحمد بن إسرائيل الكاتب وأبا نوح الكاتب إلى باب العامة بسامرا يوم الخميس لثلاث خلون من شهر رمضان، فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط، فماتا، وذلك لأمور كانت منهما استحقّا عند المهتدي فيما يجب في - الشريعة أن يفعل بهما ذلك.
وقتل المهتدي وله من الولد سبعة عشر ذكراً وست بنات.
ابن المدبر
وقد كان المهتدي وَلّى أحمد بن المدبر خَرَاجَ فلسطين، وكانت له معه أخبار قد أتينا على جميعها فيما سلف من كتبنا، وأخبار ابن المدبر لما - وصل إلى فلسطين وما حمل إلى سامرا، وقيل: إن المعتز باللّه كان أخرجه إلى الشام، ولأحمد بن المدبر أخبار حسان، ولِإبراهيم بن المدبر أخيه مع صاحب الزنج أخبار حين أسره.
مع طفيلي

قال المسعودي: فمن أخبار أحمد بن المدبر المستحسنة مما دوَّنَهَا الناسُ في أخبار الطفيليين أن أحمد كان قليل الجلوس للمنادمة، وكان له سبعة ندماء لا يأنس بغيرهم، ولا ينبسط إلى سواهم، قد اصطفاهم لعشرته، وأخذهم لمنادمته، كل رجل منهم قد انفرد بنوع من العلمِ لا يساويه فيه غيره، وكان طفيلي يعرف بابن دَرَّاجِ من أكمل الناس أدباً، وأخفهم روحاً، وأشدهم في كل مليحة افتناناَ، فلم يزل يحتال إلى أن عرف وقت جلوس أحمد بن المدبر للندماء، فتزيَّا في زي ندمائه، ودخل في جملتهم، وظن حاجبه أن ذلك بعلم من صاحبه ومعرفة من أولئك الندماء، ولم ينكر شيئاً من حاله، وخرج أحمد بن المدبر فنظر إليه بين القوم، فقال لحاجبه: اذهب إلى ذلك الرجل فقل له: ألك حاجة؟ فسقط في يدِ الحاجب وعلم أن الحيلة قد تمت عليه، وأن ابن المدبر لا يرضى في عقوبته إلا بقتله فمر وهو يجرًّ برجليه، فقال له: الأستاذ يقول لك ألك حاجة. فقال: قل له لا، فقال له: ارجع إليه فقل له: ما جُلُوسُكَ؟ فقال: الساعة جلسنا يا بغيض، فقال: ارجع إليه فقل له: أي شيء أنت. فقال: قل له طفيلي يرحمك اللّه، قال: إن الطفيلي يُحْتَمل على دخوله بيوتَ الناس وإفساده عليهم ما يريدونه من الخلوة بندمائهم والخوض في أسرارهم لخصال: منها أن يكون لاعباً بالشطرنج أو بالنرد، أو ضاربَاَ بالعود أو الطنبور، فقال: أيدك اللّه أنا أحسن هذه الأشياء كلها، قال: وفي أي وظيفة أنت منها؟ قال: فيِ العُلْيَا من جميعها، قال لبعض ندمائه: لاعبه بالشطرنج فقال الطفيلي: أصلح اللّه الأستاذ فإن قُمِرْتُ. قال: أخرجناك من ديارنا، قال: فإن قَمَرْتُ؟ قال: أعطيناك ألف درهم، قال: فإن رأيت أيدك اللّه أن تحضر الألف درهم فإن في حضورها قوة للنقس وايقان بالظّفَرِ، فأحضرت فلعبا فغلب الطفيلي ومد يده ليأخذ الدراهم، فقالَ الحاجب لينفي عن نفسه بعض ما وقع فيه: أعزك الله إنه زعم أنه في الطبقة العليا، وابن فلان غلامُك يغلبه، فأحضر الغلام، فغلب الطفيلي، فقال له: انصرف، فقال: أحضروا النرد، فأحضرت فلوعب فَغَلَبَ، فقال الحاجب: ولا هذا يا سيدي في الطبقة العليا من النرد، ولكن بوابنا فلان يغلبه، فأحضر البواب، فغلب الطفيلي، فقال له: أخرج، فقال: يا سيدي فالعود، فأتى بالعود، فضرب فأصاب، وغنى فأطرب، فقال الحاجب: يا سيدي في جوارنا شيخٌ هاشمي يُعَلِّم القيان أحْذَقُ منه، فأحضر الشيِخ فكان أطرب منه، فقال له: اخرج، فقال: فالطنبور، فأعطي طنبوراً فضرب ضرباً لم ير الناس أحسن منه، وغنى غناء في النهاية، فقال الحاجب: أعز اللهّ الأستاذ، فلان المحتكر في أوارنا أحْذَقُ منه، فأحضر المحتكر فكان أحذق منه وأطيب، فقال له ابن المدبر: قد تقصينا لك بكل جهد فأبت حرفتك إلا طردك من منزلنا، فقال: يا سيدي بقيت معي بابة حسنة، قال: ما هي؟ قال: تأمر لي بقوس بندق مع خمسين بندقة رصاص، ويقام هذا الحاجب على أربع وأرميه في دبره بهن جميعاً وإن أخطأت بواحدة منهن ضربت رقبتي، فضج الحاجب من ذلك، ووجد ابن المدبر في ذلك شفاء لنفسه وعقوبة ومكافأة له على ما فَرَطَ منه في إدخال الطفيلي إلى مجلسه، فأمر بإكافين فأحضرا وجعل أحدهما فوق الآخر وشُدَّ الحاجب فوقهما، وأمر بالقوس والبندق فدفع إلى الطفيلي، فرمى به فما أخطأه، وخلي عن الحاجب وهو يتأوه لما به، فقال له الطفيلي: أعلى باب الأستاذ من يحسن مثل هذا. فقال: يا قرْنَان ما دام البرجاس استي فلا!.
وللطفيليين أخبار حسان مثل خبر بنان الطفيلي مع المتوكل في اللوزينج، وما ابتدأ من العدد من الواحد إلى ما فوقه من القران، ولغيره منهم ما قد أتينا على ذكره في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، على الشرح والتمام والكمال، وإنما نورد في هذا الكتاب لمعاً مما لم يتقدم له ذكر فيما سلف من كتبنا في هذا المعنى.
سيرة المهتدي

وقد كان المهتدي باللّه ذهب في أمره إلى القصد والدين، فقرَّبَ العلماء، ورفع من منازل الفقهاء وعمهم ببِّرهِ، وكان يقول: يا بني هاشم، دعوني حتى أسلك مسلك عمر بن عبد العزيز فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أميّة، وقلل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب، وأمر بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكُسرت وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت، وذَبَحَ الكباش التي كان تنَاطَحُ بها بين يدي الخلفاء والديوك، وقتل السباع المحبوسة، ورفع بُسُط الديباج وكل فرش لم ترد الشريعة بإباحته، وكانت الخلفاء قبله تنفق على موائدها في كل يوم عشرة آلاف درهم، فأزال ذلك وجعل لمائدته وسائر مؤنة في كل يوم نحو مائة درهم، وكان يواصل الصيام.
وقيل: إنه لما قتل استخرج رحله من الموضع الذي كان يأوي إليه، فأصيب له سفط مقفل، فتوهموا أن فيه مالاً أو جوهراً، فلما فتح وجد فيها جبة صوف وغل، وقيل: جبة شعر، فسألوا من كان يخدمه فقال: كان إذا جَنَ الليل لبسها، وغلَّ نفسه، وكان يركع ويسجد إلى أن يدركه الصباح، وإنه كان ينام من الليل ساعة من بعد العشاء الآخرة ثم يقوم، وإنه سمعه بعض من كان يأنس إليه قبل أن يقتل وقد صلى المغرب وقد دنا ين إفطاره وهو يقول: اللهم إنه قد صَحَ عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لا تحجب لهم دعوة عن اللّه: دعوة الِإمام العادل، وقد أجهدت نفسي في العدل على رعيتي، ودعوة المظلوم، وأنا مظلوم، ودعوة الصائم حتى يفطر، وأنا صائم، وجعل يدعو عليهم وأن يُكْفى شرهم.

وذكر صالح بن علي الهاشمي قال: حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول إليه ونفوذ الكُتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرْمُقُهُ ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رجع طرفه إليَّ أطرقْتُ، فكأنه علم ما في نفسي، فقال لي: يا صالح، أحْسَبُ أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمَسك، فلما فرغ من جلوسه أمرني أن لا أبرح ونهض فجلَسْت جلوساً طوَيلاً، ثم دعاني فدخلت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك أو أحدثك به. قلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن، فقال: كأني بك قد استحسنت ما رأيت من مجلسنا، فقْلتَ: أي حليفة إن لم يكن يقول بخلق القرآن، فقلت: نعم، فقال: قد كنت على ذلك برهة من الدهر حتى أقدم على الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من أهل أذَنَه من الثغر الشامي مقيد طُوَال، حسن الهيئة، فسلم عليه غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عين الواثق والرحمة له، فقال له: يا شيخ أجب أبا عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد فيما يسألك عنه، فقال:. يا أمير المؤمنين، أحمد يقلّ ويضعف عن المناظرة، فرأيت الواثق قد صار في مكان الرقة والرحمة له غضباً، فقال له: أبو عبد اللّه يضعف عن المناظرة؛ فقال له: هَوَن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك، فأقبل الشيخ على أحمد فقال له: يا أحمد ماذا دعوت الناس إليه؟ فقال: إلى القول بخلق القرآن، فمال الشيخ: مقالتك هذه التي دَعَوْتَ الناس إليها من القول بخلق القرآن، داخلة في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها. قال: نعم، قال الشيخ: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا الناسَ إليها أو تركهم. قال: تركهم، قال: فعلمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو لم يَعْلَمْهَا؟ قال: علمها، قال: فلم دعوت الناس إلى ما يَدْعُهم إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتَرَكَهم منه؟ فأمسك أحمد، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة، ثم قال له بعد ساعة: يا أحمد، قال اللّه في كتابه العزيز: " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكمِ نعمتي، ورضيت لكم الِإسلام دينَاً " فقلت أنت: لا يكون الدين تاماَ إلا بمقالتكم بخلق القرآن، فاللهّ أصدق في إكماله وإتمامه أو أنت في نقصانك؟ فأمسك، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين وهذه ثانية، ثم قال له بعد ساعة: أخبرني يا أحمد عن قول الله عزّ وجلّ في كتابه: " يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أنزل إليك من ربك " الآية فمقالتك هذه التي دعوت الناسَ إليها بَلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أم لا؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثالثة، ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد لما علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها وإلى القول بها من خلق القرآن أوَسِعَهُ أن أمْسَكَ عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك، فقال: وكذلك لأبي بكر وعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلىِ، رضي اللهّ عنهم! قال: نعم، فصرف وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، وإذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وَسَّع الله عينا، فقال الواثق: نعم لا وَسَّعَ اللهّ علينا إن لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ثم قال الواثق: اقطعوا قيده، فلما فكوا قيده عنه جاذب عليه، فقال الواثق: دعوه، ثم قال للشيخ: لم جاذبت عليه. قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليه، فإذا أخذته أوصيت أن يجعل بين كفني وبدنىِ حتى أقول: يا رب، سَلْ عبدك هذا لم قَيَّدنِي ظلماً وأراع فيَّ أهلي، فبكى الواثق، وبكى الشيخ وكل من حضر، ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حِلٍّ فقال: يا أمير المؤمنين، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاماً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولقرابتك منه، فتهلّلَ وجه الواثق وسره، ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال: مكاني في ذلك الثغر أنفع، أنا شيخ كبير، ولي حاجة، قال: سَلْ ما بدا لك، قال: يأذن أمير المؤمنيِن لي في الرجوع إلى الموضع الذي أخرجَنِي منه هذا الظالم، قال: قد أذنت لك، وأمر له جائزة، فلم يقبلها، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة. وأحسب أن الواثق رَجَعَ عنها.

قال: وعرض على المهتدي يوماً دفاتر خزائن الكتب، فإذا على ظهر كتابٍ منها هذه الأبيات قالها المعتز باللّه وكتبها بخصها، وهي:
إنَي عرفت علاج الطب من وَجَعِي ... وما عرفت علاج الْحُبّ والخدع
جزعت للحب، والحمىَّ صبرت لها ... إنِّي لأعجب من صبري ومن جزعي
مَنْ كان يشغله عن إلْفِهِ وجع ... فليس يشغلني عن حُبِّكُم وجعي
وما أمَلُّ حبيبي ليتني أبدا ... مع الحبيب وَيَا لَيْتَ الحبيب معي
فقطَّبَ وجه المهتدي باللّه، وقال: حدَث وسلطان الشباب، وكان المهتدي كثيراً ما ينشد البيت الأول من هذا الشعر.
خبر نوف عن علي بن أبي طالب
وذكر محمد بن علي الربعي - وكان ممن يكثر ملازمة المهتدي وكان حسن المجلس، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم - قال: كنت أبايتُ في الليالي المهتدي فقال لي ذات ليلة: أتعرف خبر نوف الذي حكاه عن عليّ بن أبي طالب حين كان يُبَايته؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكر نوف قال: رأيت عليّاً رضي اللّه عنه ليلة قد أكثر الخروج والدخول والنظر إلى السماء، ثم قال لي: يا نوف، أنائم أنت؟ قال: قلت: بل رامِقٌ أرمق بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اُولئك قوم اتخذوا أرض اللّه بساطاً، وترابها ثياباً، وماءها طِيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء في دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح ابن مريم عليه السلام، يا نوف، إن اللّه تعالى أوحى إلى عبده عيسى عليه السلام أنْ قُلْ لبني إسرائيل ألّا يدخلوا إليً إلا بقلوب وَجِلَة، وأبصار خاشعة، وأكًف نقية، وَأعْلِمْهُمْ أني لا أجيب لأحد منهم دعوة ولأحَدٍ من خلقي قبلهم مَظْلمة. قال محمد بن علي الربعي: فواللّه لقد كتب المهتدي هذا الخبر بخطه، وقد كنت أسمعه في جوف الليل وقد خلا بربه في بيت كان لخلوته وهو يبكي ويقول: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، ويمرُّ في الخبر إلى آخره، إلى أن كان من أمره ما كان مع الأتراك وقتلهم إياه.
علة حب الدنيا
قال محمد بن علي: قلت للمهتدي ذات يوم - وقد خَلَوْت به، وقد أكثرنا من ذكر آفات الدنيا ومَنْ رَغِبَ فيها، ومن انحرف عنها وزهد فيها - : يا أمير المؤمنين، ما للِإنسان العاقل المميز مع علمه بجميع آفات الدنيا وسرعة إنتقالها وزوالها وغرورها لطلابها يحبها ويأنس إليها؟ قال المهتدي: حقَّ ذلك له، منها خُلق فهي أمة، وفيها نشأ فهي عَيْشُه، ومنها قدر رزقه فهي حياته، وفيها يعاد فهي كِفَانُه، وفيها اكتسب الجنة فهي مبدأ سعادته، والدنيا ممرّ الصالحين إلىِ الجنة، فكيف لا يحب طريقاً تأخذ بسالكها إلى الجنة في نعيم مقيم خالداَ مخلداً إن كان من أهلها.!.
وقيل: إن هذا الكلام في جوِاب علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وأجاب به سائلاً سأله عن ذلك، وهو مأخوذ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه، حين مدح الدنيا وذمَّ الذامَ لها، على حسب ما قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر زهده وأخباره.
خروج صاحب الزنج بالبصرة
قال المسعودي: وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة في خلافة المهتدي، وذلك في سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان يزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأكْثَرُ الناس يقول: إنه دَعِىُّ آل أبى طالب ينكرونه وكان من

أهل قرية من أعمال الريِّ يُقال لها ورزنين، وظهر من فعله ما دلَّ على تصديق مما رمى به من أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج؛ لأن أفعاله في قتل النساء والأطفال وغيرهم من الشيخ الفاني وغيره ممن لا يستحق القتل يشهد بذلك عليه، وله خطبة يقول في أولها: اللّه أكبر الله أكبر، لا إلهَ إلا اللّه واللّه أكبر، ألا لا حكم إلا اللّه، وكان يرى الذنوب كلها شِرْكاً، وكان أنصاره الزنج، وكان ظهوره ببئر نخل بين مدينة الفتح وكرخ البصرة في ليلة الخميس لثلاث بَقِينَ من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين وغلب على البصرة في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقتل ليلة السبت لليلتين خَلَتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وذلك في خلافة المعتمد على اللّه، وقد صنف الناسُ في أخباره وحروبه وما كان من أمره كتباً كثيرة، وكان أولَ من صنف أخباره وما كان من بَدْءِ أمره ووقوعه إلى بلاد البحرين، وما كان من خبره مع الأعراب محمد بن الحسن بن سهل بن أخي في الرياستين الفضل بن سهل صاحب المأمون، وهو الرجل الذي كان من أمره مع المعتضد باللّه قد ذكرناه واشتهر قبل ذلك في الناس، وما كان من أمره إلى أن جعله كَدَجَاج على النار وجِلًد ينتفخ ويتقرقع.
وقد ذكر الناس صاحب الزنج في أخبار المبيضة وكتبهم، وقد أتينا على جميع خبره وَبْدء خبر البلالية والسعدية بالبصرة في الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته، وسنورد في هذا الكتاب في الموضع المستحق له لمعاً من ذكره، وما كان من أمره في مقتله.
عمرو بن بحر الجاحظ
قال المسعودي: وفي هذه السنة وهي سنة خمس وخمسين ومائتين، وقيل: سنة ست وخمسين ومائتين، كانت وفاة عمرو بن بحر الجاحظ بالبصرة في المحرم، ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه، مع قوله بالعثمانية، وقد كان أبو الحسن المدائني كثير الكتب، إلا أن أبا الحسن المدائني كان يؤدي ما سمع، وكتب الجاحظ - مع إنحرافه المشهور - تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحْسَنَ نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجْزَلَ لفظ، وكان إذا تخوَّفَ مَلَلَ القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، وله كتب حسان: منها كتاب البيان والتبيين، وهو أشرفها، لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغُرَر الأشعار، ومستحسن الأخبار، وبليغ الخطب، ما لو اقتصر عليه مقتصر عليه لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطفيليين، وكتاب البخلاء، وسائر كتبه في نهاية الكمال، مما لم يقصد منها إلى نصب ولا إلى دفع حق، ولا يُعْلَم ممن السلف وخلف من المعتزلة أفْصَح منه، وكان غُلاَمَ إبراهيم بن سًيّار النَّظام، وعنه أخذ، ومنه تَعَلّم.
وحدث يموت بن المزرع - وكان الجاحظ خاله - قال: دخل إلي خالي أناسٌ من البصرة من أصدقائه في العلة التي مات فيها، فسألوه عن حاله، فقال: عليل من مكانين: من الأسقام، وَالدَّيْنِ، ثم قال: أنا في هذه العلة المتناقضة التي يتخوف من بعضها التلف وأعظمها نيف وسبعون سنة، يعني عمره.
قال يموت بن المزرع: وكان يَطْلِي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الآخر لو قُرض بالمقاريض ما شعر به من خدره وبرده.
قال ابن المزرع: وسمعته يقول: رأيت بالبصرة رجلاً يروح ويغدو في حوائج الناس، فقلت له: قد أتعبت بذلك بدنك، وأخلقت ثيابك، وأعجفْتَ بِرْذَوْنك، وقتلت غلامك، فما لك راحة ولا قَرَار، فلو اقتصدت بعض الاقتصاد، قال: سمعت تغريد الأطيار في الأسحار، في أعالي الأشجار، وسمعت محسنات القيان على الأوتار فما طربت طربي لنغمة شاكر أوليته معروفاً أو سعيت له في حاجة.
يموت بن المزرع
وكان يموت لا يعود مريضاً خوفاً من أن يتطير باسمه، وله أخبار حسان، وأشعار جياد، وقد كان سكن طبرية من بلاد الأردن من الشام فمات بها، وذلك بعد الثلاثمائة، وكان من أهل العلم والنظر والمعرفة والجبل، وله ولد يُقال له مهلهل بن يموت بن المزرع، وهو شاعر مجيد من شعراء هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وفيه يقول أبوه يموت بن المزرع:
مهلهل قد حَلَبْتُ شُطُورَ دهر ... فكافحني بها الزمَنُ العنوت
وجاريت الرجال بكل ربع ... فأذعن لي اِلحثالة والرتوت

فأوجع ما أجِنُّ عليه قلبي ... كَرِيمٌ عَضَه زمن عتوت
كفى حزنا ًبِضَيْعَة ذي قديم ... وأبناء العبيد لها التخوت
وقد أسْهَرْتُ عيني بعد غَمْض ... مَخَافَة أن تَضِيعَ إذا فَنِيتُ
وفي لطف المهيمن لي عَزَاءَ ... بمثلك إن فنيت وإن بقيتُ
وإن يشتد عظمك بعد موتيِ ... فلا تقطعك جائحة سنوت
وقل: بالعلم كان أبي جَوَاداً ... يُقال: ومن أبوك؟ فقل: يموت
تُقرّ لك الأباعد والأداني ... بعلم ليس يجحده البهوت
وللمهتدي أخبار حسان قد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا، واللّه ولي التوفيق.
ذكر خلافة المعتمد على اللّه
وبويع المعتمد أحمد بن جعفر المتوكل يوم الثلاثاء لأرْبَعَ عَشْرَةَ ليلةً بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو ابن خمس وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس، وأمه أم ولد كوفية يُقال لها فتيان، ومات في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وزراؤه
ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتمد على اللّه استوزَرَ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل، فلما مات عبيد الله استوزر الحسن بن مخلد، ثم صارت الوزارة إلى سليمان بن وهب، ثم صارت إلى صاعد.
حرب صاحب الزنج
وخلع المعتمد على أخيه أبي أحمد الموفق وعلى مفلح، يوم الخميس مستهلَّ ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وأشخصهما إلى البصرة لمحاربة صاحب الزنج، فأوقع مفلح التركي بصاحب الزنج يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين ومائتين، فأصاب مفلحاً سهم في صُدْغِه، فأصبح يوم الأربعاء ميتاً، وحمل إلى سامرا فدفن بها، وانصرف أبو أحمد عن محاربه صاحب الزنج.
الإمام الثاني عشر
وفي سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام في خلافة المعتمد، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وهو أبو المهديِّ المنتظر، والإِمام الثاني عشر عند القطِعيَّة من الإِمامية، وهم جمهور الشيعة وقد تنازع هؤلاء في المنتظر من آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة الحسن بن علي وافترقوا على عشرين فرقة، وقد ذكرنا حِجَاجَ كل طائفة منهم لما اجتبته لنفسها واختارته لمذهبها، في كتابنا المترجم بسر الحياة وفي كتاب: المقالات، في أصول الديانات وما ذهبوا إليه من الغيبة وغير ذلك.
وقد كان المهتدي سير بقبيحة أم المعتز وعبد اللّه بن المعتز وإسماعيل بن المتوكل وطلحة بن المتوكل وعبد الوهاب بن المنتصر إلى مكة، فلما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتمد بعث بحملهم إلى سامرا.
يعقوب الصفار
وفي سنة اثنتين وستين ومائتين كان مسير يعقوب بن الليث الصَفّار نحو العراق في جيوش عظيمة، فلما نزل دير العاقول على شاطئ دِجْلَة بين واسط وبغداد، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على بَدْء خبر يعقوب بن الليث ببلاد سجستان، وكونه في حال صغره صفاراً، وخروجه من مطوعة سجستان إلى حرب الشراة، واتصاله بدرهم بن نصر، وخبر شادرق مدينةِ الشراة مما يلي بلاد سجستان المعروفة، بأوق، وترقي الأمر بيعقوب إلى أن كان من أمره ودخوله بلاد زابلستان - وهي بلاد فيروز بن كبك ملك زابلستان - وما كان من أمره مع رسول ملك الهند على جسر بسط ودخوله بلاد هَرَاةَ ثم بلخ، وإعماله الحيلَةَ إلى أن دخل بلاد نيسابور، وقبضه على محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين، ثم دخوله إلى بلاد طبرستان، ومواقعته الحسن بن زيد الحسني، مع ما قدمنا قبل وصفنا من خبر حمزة بن أدرك الخارجي، وما كان من أمره في أيام عبد اللّه بن طاهر، وإليه تضاف الحمزية من الخوارج، وانتهينا بأخبار يعقوب بن الليث من بدئه إلى غايته ووفاته ببلاد جندي سابور من كُوَرِ الأهواز.

فلما نزل يعقوب بن الليث دير العاقول خرج المعتمد فعسكر يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين في الموضع المعروف بالقائم بسامرا، واستخلف ابنه المفوض، ووصل المعتمد إلى سيب بني كوما يوم الخميس لخمس خلون من رجب من هذه السنة، فواقع الصفار يوم الأحد لتسع خلون من رجب من السنة في الموضع المعروف باضطربد بين السيب ودير العاقول، فهزم الصفار، واستباح عسكره، وأخذ من أصحابه نحو عشرة آلاف رأس من الدواب، وذلك أنه فجر عليه النهر المعروف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، وعلم الصفار أن الحيلة قد توجَّهَت عليه، وقد كان حمل على أصحاب السلطان في ذلك اليوم بضْعَ عشرَةَ حملةً، وغرق إبراهيم بن سيما، وقتل بيده خلقاً كثيراً، لبطعن محمد بن أوتاش التركي، وكان يتوهم أنه خادم، وقال لأصحابه: ما رأيت في عسكرهم مثل هذا الخادم، وقد كان الصفار في هذا اليوم قصد الميمنة - وكان عليها موسى بن بُغَا - وقتل خلقاً كثيراً من الناس منهم المغربي المعروف بالمبرقع، ونجا الصفار بنفيه والخواصّ من أوليائه، واتبعه جيش المعتمد وأهل القرى والسواد، فغنم الأكثر من ماله وعدده، واستنقذ محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر، وكان مقيداً، كان أسره من نيسابور على ما قدمنا، ومعه علي بن الحسين من قريش، وأتى الموفق - وكان في القلب - محمد بن طاهر فَفَكَّ قيوده وخلع عليه، ورده إلى مرتبته. وقيل: إن السبب في هزيمة الصفار في ذلك اليوم - مع ما ذكرنا من فجر النهر وارتطام الخيول فيه - أن نصيرا الديلمي مولى سعيد بن صالح الحاجب كان في الشذوات في بطن دجلة، فوافى مؤخر عسكر الصفار وسواده، فخرج من الشذوات فطرح النار في الإِبل والبغال والحمير والخيول، وكان في عسكره خمسة آلاف جمل بُخْتي من جمازيات وغيرها؛ فتفرقت الإِبل في العسكر، وشردت البغال والخيل، واضطرب الناس في مصاف الصفار لما سمعوه ورأوه في عسكره وسواده من ورائهم، فكانت الهزيمة على الصفار بما ذكرنا، وُيقال: إن يعقوب بن الليث قال في سفرته هذه أبياتاً، وفي مسيره، وأنه خرج منكراً على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:
خراسان أحْوِيهَا وأعمال فارس ... وما أنا من ملك العراق بآيس
إذا ما أمور الدين ضاعت وأهملت ... ورَثّتْ فصارت كالرسوم الدوارس
خرجْتُ بعون اللّه يمنا ونصرة ... وصاحب رايات الهدى غير حارس
وكانت وفاة الصفار يوم الثلاثاء لسبع بقين من شوال سنة خمس وستين ومائتين، على ما ذكرنا بجندي سابور.
وخلف في بيت ماله خمسين ألف ألف عرهم وثمانمائة ألف دينار، وخلفه أخوه عمرو بن الليث مكانه.
سياسة الصفار
وكانت سياسة يعقوب بن الليث لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها فيمن سلف من الملوك في الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف، وحسن انقيادهم لأمره، واستقامتهم على طاعته لما كان قد شملهم من إحسانه، وغمرهم من بره، وملأ قلوبهم من هيبته.
طاعة أتباعه له

فمما ذكر من ظهور طاعتهم له أنه كان بأرض فارس، وقد أباح الناس أن يرتعوا، ثم حدث أمر أراد النقلة والرحيل من تلك الكورة فناس مناديه بقطع الدواب عن الرتع، وأنه رؤي رجل من أصحابه قد أسرع إلى دابته والحشيش في فمها، فأخرجه من فيها مخافة أن تلوكه بعد سماعه النداء، وأقبل على الدابة مخاطباً فقال بالفارسية: أمير المؤمنين دوابر أزتر بريدند، وتفسير ذلك: اقطعوا الدواب عن الرطبة، وأنه رؤي في عسكره في ذلك الوقت رجل من قواعده ذو مرتبة والدرع الحديد على بدنه لا ثوب بينه وبين بشرته، فقيلِ له في ذلك، فقال: ناس منادي الأمير: ألبسوا السلاح، وكنت عرياناً أغتسل من جنابة، فلم يسعني التشاغل بلبس الثياب عن السلاح، وكان الرجل إذا أتاه راغباً في خدمته مؤثراً للانقطاع إليه لفرَّسَ فيه؟ فإذا أعجبه منظره امتحن خبره واستبرأ ما عنده من رمي أو طعان أو غير ذلك من ثقافة، فإذا رأى منه ما يعجبه سأله عن خبره وحاله، ومن أين أقبل، ومع من كان، فإذا وافقه ما سمعه منه قال له: أصدقني عما معك من المال والمتاع والسلاح، فيقف على جميع ما معه، ثم يبعث أناساً قد رتبوا لذلك، فيبيعون جميع ذلك، ويجعلونه عيناً أو وَرقاً، ويدفع إليه، ويثبت في الديوان، ثم تزيح علله في اللباس والسلاح والمأكل والمشرب والدواب والبغال والحمير من إصطبله، حتى لا يفقد الوجعل جميع ما يحتاج إليه من أمره على قدر مكانه ومرتبته، فإن نقم عليه بعد ذلك مذهبه، ولم يرض اختياره، سلبه جميِع ما أنعم به عليه، حتى يخرج من عسكره نحو ما دخل إليه، محتملاً بما معه من ذلك العين والوَرِق، إلا أن يكون ذلك الرجل معتضداً، فيصير له فضل من أرزاقه، فلا يمنعه ما كان له من متقدم ماله، وكانت جميع ثوابه ملكاً له وإن أعلافها من قبله، ولها ساسة ووكلاء يقومون بأمرها، إلا خصوص دوابهم التي تكون عندهم إلا أن ملكها له، واتخذ لنفسه عريشاً من خشب يشبه السرير، حيثما توجه من مسيره، فيكثر الجلوس عليه، ويشرف منه على أهل معسكره، وعلى قضيم دوابه، ويرمق الخلل من وكلائه، فإذا رأى شيئاً يكرهه بادر بتغييره، وقد كان انتخب من أصحابه ألف رجل على اختيار لهم، والغنى الظاهر منهم، والنكاية في حروبهم، فجعلهم أصحاب الأعمدة الذهب، كل عمود منها فيه ألف مثقال من الذهب، ثم يليهم في اللباس والغنى فوج ثان هم أصحاب الأعمدة الفضة، فإذا كان في الأعياد، أو في الأيام التي يحتاج فيها إلى مباهاة الأعداء والاحتفال، دفع إليهم تلك الأعمدة، وإنما ضربت هذه الأعمدة عُمَّةً للنوائب.
وسئل بعض ثقاته، ممن ينظر حاله، عن اشتغاله في خلواته، وعن مجالسته معِ أهل بطانته، وهل يسمر مع أحد أو يجالسه، فذكر أنه لا يطالع أحداً على سره، ولا يعرف أحد بتدبيره وعزمه، وأكثر نهاره خالياً بنفسه يفكر فيما يريده، ويظهر غير ما يضمره، ولا يشرك أحد فيما يدبره برأِي ولا غيره، وإن تفرجه واشتغاله بغلمان صغار يتخذهم، ويؤدِّبهم، ويُخرجهم، ويدعوهم، ويدفع لهم ما قد عمله لهم من السيور، يتضاربون بها بين يديه، ففي هذا أكثر شغله إذا فرغ من تدبيره.
ولما واقع الصفار الحسن بن زيد الحسني بطبرستان - وذلك في سنة ستين ومائتين، وقيل: سنة تسع وخمسين ومائتين - وانكشف الحسن بن زيد وأمعن يعقوب في الطلب، وكانت معه رسل السلطان قد قصدوه بكتب ورسالة من المعتمد، وهم راجعون من طلب الحسن بن زيد، قال له بعضهم لما رأى من طاعة رجاله وما كان منهم في تلك الحرب: ما رأيت أيها الأمير كاليوم، قال له الصفار: وأعجب منه ما أريك إياه، ثم قربوه من الموضع الذي كان فيه عسكر الحسن بن زيد، فوجدوا البدر والكراع والسلاح والعدد، وجميع ما خلف في العسكر حين الهزيمة على حالة: لم يلتبس أحد من أصحابه منه بشيء، ولا دنوا إليه، معسكرين بالقرب منه من حيث يرونه بالموضع الذي خلفهم فيه الصفار، فقال له الرسول: هذه سياسة ورياضة راضهم الأمير بها إلى أن تأتّي له منهم ما أراده.
وكان لا يجلس إلا على قطعة مسح، يشبه أن يكون طوله سبعة أشبار في عرض ذراعين أو أرجح، وإلى جانبه ترسه وعليه اتكاؤه، وليس في مضربه شيء غيره، فإذا أراد أن ينام من ليله أو نهاره، اضطجع على ترسه، ونزع راية فيجعلها مخدته، وأكثر لباسه خفتان مصبوغ فاختي.

وكان من سنته أن للقواد والرؤساء والعظماء عنده مراتب في الدخول بباب مضربه، بحيث تقع عينه عليهم، ويَرَى مداخلهم، فيمرون مع أطناب الشقاق إلى خيمة مضروبة، بحيث لا يرى هو موضعها، لكنه يرى مداخلهم إليها، ومخرجهم منها، فمن احتاج إليه منهم، واحتاج، إلى كلامه أو أمره أو نهيه، دعاه فأمره، وكان دخولهم بحيث يقع نظره عليهم عوضاً من السلام عليه، ولم يكن لأحد أن يتقدم إلى باب مجلسه إلا رجل من خواصه، يعرف بالعزيز، وإخوته، وله من وراء خيمته خيمة تقرب من أطناب مجلسه، فيها غلمان من خواصه، فإذا احتاج إلى أمر يأمر به صاح بهم، فخرجوا إليه، وإلا فهو في أكثر نهاره وليله في ذلك الموضع لا يقومون على رأسه، وخيمته من داخل أخبية مطنبة، كلها يدور فيها ؟؟؟ نقص صفحة 218 219 220 221 من الكتاب يقع عليه الإحصاء، ولا يعلم ذلك إلا عالم الغيب، فيما فَتَحَ من هذه الأمصار والبلدان والضياع وأباد من أهلها، والمقلل يقول: أفنى من الناس خمسمائة ألف نفر، وكلا الفريقين يقول في ذلك ظناً وحَدْساً، إذا كان شيئاً لا يحرك ولا يضبط.
وكان مقتله على ما بينا آنفاً سنة سبعين ومائتين، وذلك في خلافة المعتمد.
صاعد بن مخلد
وقد كان الموفق بعد ذلك وجه بصاعد بن مخلد في سنة اثنتين وسبعين ومائتين إلى حرب الصفّار، فأمَرهُ على مَنْ معه من الجيوش، وشَيَّعه الموفق، فلما صار إلى بلاد فارس تجبر واشتدَ سلطانه، وانصرف من المدائن في بعض الأيام فاحتجم في خفة ورانة عليه، ونمي ذلك إلى الموفق وما هو عليه من التجبر، فقال في ذلك أبو محمد عبد اللّه بن الحسين بن سعد القطربلِيُ الكاتب في قصيدة طويلة اقتصرنا منها على ما نذكره، وهو:
تكفر لما طغى ... ودان بدين العجم
وأصبح في خفة ... وفي رانة محتجم
فأشخصه الموفق إلى واسط، فكان مدة مقامه في الوزارة سبع سنين إلى أن قبض عليه وعلى أخيه عبدون النصراني.
وماتت جارية لصاعد بعد حبسه، وكانت الغالبَةَ على أمره، وكان يُقال لها جعفر، وماتت بعدها بأيام أمُ الموفق؛ ففي ذلك يقول عبد الله بن الحسين بن سعد من أبيات له:
أخَذَتْ جعفر برأس القطار ... ثم قالت: آذنتكم بالبوار
فأجابت أمُّ الأمير وقالت: ... قد أتيناك أول الزُوَار
وسيأتيك صاعد عن قريب ... كتبه للبلاء في الاستطار
وأحصى ما وجد لصاعد من الرقيق والمتاع والكسوة والسلاح والآلات في خاصة نفسه، دون ما وجد لأخيه عبدون، فكان مبلغه ثلاثمائة ألف دينار، وكان مبلغ غَلّته في سائر ضياعه ألف ألف وثلاثمائة ألف.
ومات صاعد في الحبس، وذلك في سنة ست وسبعين ومائتين.
وفاة جماعة من الأعيان
وفي سنة سبعين ومائتين كانت وفاة أبي سليمان داود بن علي الإِصبهاني، الفَقِيه ببغداد، وفيها مات أبو أيوب سليمان بن وهب الكاتب، وأحمد بن طولون، وذلك بمصر يوم السبت لعشر خَلَوْنَ من ذي القعدة من سنة سبعين ومائتين، وله خمس وستون سنة.
أحمد بن طولون وابنه
وكانت ولاية أحمد بن طولون سبع عشرة سنة، وكان بين الظفر بصاحب الزنج ومرض أحمد بن طولون عشرة أشهر، ولما يئس أحمد بن طولون من نفسه بايع لابنه أبي الجيش بالأمر من بعده، فلما توفي جَنَدَ أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون العَهْدَ لنفسه.
وقعة الطواحين

ووجَّه الموفق ابنُه أبا العباس لمحاربة أبي الجيش خمارويه في سنة إحدى وسبعين ومائتين، فكانت الوقعة بينهما بالطواحين من أعمال فلسطين يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال في هذه السنة، فكانت الهزيمة على أبي الجيش، واحتوى أبو العباس على جميع عسكره، وأفْلت أبو الجيش في جماعة من قُوَّاده حتى أتى الفسطاط، وتخلف غلامه سعد الأعسر فواقع أبا العباس، فهزمه واستباح عسكره، وقتل رؤساء قُوَّاده، وجِلةَ أصحابه، ومضى أبو العباس لا يُلْوِي على شيء حتى أتى العراق، وقلد أبو الجيش أمر وزراته عَليَّ بن أحمد المادراني، وأبو بكر محمد بن عَلِيِّ بن أحمد المادراني هو المعتقل في يد الإِخشيد محمد بن طغج في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - وقد كان عَلَى وزارته بمصر هو وولده الحسين بن محمد، فلما استوزر الِإخشيد أبا الحسن عَلِيَّ بن خلف بن طباب وانفصل من دمشق إلى الفسطاط قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن خلف واستوزر أبا الحسن محمدِ بن عبد الوهاب.
الربيع المراعي
وفي سنة سبعين ومائتين كانت وفاة الربيع بن سليمان، المراثي، المؤذن، صاحب محمد بن إدريس الشافعي، والراوي لأكثر كتبه عنه بمصر.
وأخبرنا أبو عبد اللّه الحسن بن مروان المصري وغيره، عن الربيع بن سليمان قال: استعار الشافعي من محمد بن الحسن الكوفي شيئاً من كتبه! فلم يبعث بها إليه، فكتب إليه الشافعي:
يا، قل لمن لم تر عين مَنْ رآه مثله
من كان من قدراءه ... ما قد رأى مَنْ قبله
ومن كلامنا له ... حيث عقلنا عقله
لأن ما يجنه ... فاق الكمال كله
العلم يَنْهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعلّه يبذله ... لأهله لعلّه
فبعث إليه محمد بن الحسن بأكثر كتبه التي سأل عنها.
المعتمد والموفق
وبايع المعتمد لابنه جعفر، وسماه المفوض إلى اللّه، وقد كان المعتمد آثر اللذة، واعتكف على الملاهي، وغلب أخوه أبو أحمد الموفق على الأمور وتدبيرها، ثم حظر على المعتمد وحبسه، فكان أول خليفة قهر وحبس وحجر عليه، ووكل به بفم الصلح، وقد كان قبل ذلك هرب وصار إلى حديثة الموصل، فبعث الموفق بصاعد إلى سامرا، وكتب إلى إسحاق بن كنداج فردَّه من حديثة الموصل.
خروج أحمد بن طولون
وفي سنة أربع وستين ومائتين كان خروج أحمد بن طولون من مصر مظهراً للغزو في عساكر كثيرة وخلق من المطوعة قد انجذبوا معه من مصر وفلسطين، فقَبْلً وصوله إلى دمشق مات ماجور التركي بدمشق، وقد كان عليها، فدخلها أحمد، واحتوى على جميع تركته من الخزائن وغيرها، وسبار منها إلى حمص، وسار منها إلى بلاد أنطاكية، ووصلت مقدمته إلى بلاد الإسكندرية من شاطئ بحر الروم، ووصل هو إلى الموضع المعروف ببغراس من جبل اللكام، وقد تقدمته المطوعة والغزاة إلى الثغر الشامي، ثم عطف هو راجعاً من غير أن يكون تقدم إلى الناس معرفة ذلك منه، حتى نزل مدينة إنطاكية، وفيها يومئذ سيما الطويل في عدة منيعة من الأتراك وغيرهم وقد قدمنا فيما تقدم من هذا الكتاب الخبر عن كيفية بناء إنطاكية وقصة سورها، والملك الباني لها، وصفة سورها في السهل والجبل. وقد كان قبل نزول أحمد بن طولون على أنطاكية وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروبٌ كثيرة ببلاد جند قنسرين والعواصم من أرض الشام، وكان سيما الطويل قط عم أذاه أهلها من قَتْل وأخذ مال، وكان نزول ابن طولون على باب من أبوابها يعرف بباب فارس تلقاء السوق، وقد أحاطت عساكره بها، ونزل غلامه المعروف بلؤلؤ على باب من أبوابها يعرف بباب البحر، وقد كان لؤلؤ بعد ذلك انحدر إلى السلطان مستأمناً، فأتى الموفق وهو مُنَازِل لصاحب الزنج، فكان من أمره وقتل صاحب الزنج ما قدمنا ذكره فيما سلف من كتبنا من وقوع المشاجرة بين أصحاب لؤلؤ وأصحاب الموفق كما قدمنا أيهم القاتل لصاحب الزنج، وكادت الحال أن تنفرج بينهم في فلك اليوم حتى قيل في عسكر الموفق:
كيفما شئتم فقولوا ... إنما الفتح لِلولُو

فكان ابن طولون على أنطاكية في آخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان افتتاحه إياها فتي سنة خمس وستين ومائتين بالحيلة من دخلها من بعض أهلها بالليل، وقد أخفوا بحواسهم سورها فتحدر بعضهم مما يلي الجبل وباب فارس، فأتى ابن طولون وقد يئس من فتحها لمنعتها وحَصَانة سورها، فوعدوه فتحها، فضم إليهم عدة من رجاله فتسلقوا من حيث نزلوا، واستعد هو في عسكره وأخذ أهبته، وسيما في داره، فما انفرج عمود الصبح إلا والطولونية قد كَثرُوا على سورها، ونزلوا منحدرين إليها، وارتفع الصوت وكثر الضجيج، وركب سيما فيمن تسرع معه من خواصه، فأرسلت عليه امرأة من أعالي سطح حَجَرَ رَحَا فأتت عليه، وأخذ بَعْضُ من عرفه رأسه فأتى به ابن طولون وقد دخل من باب فارس ونزل على عين هنالك ومعه الحسين بن عبد الرحمن القاضي المعروف بابن الصابوني الأنطاكي الحنفي، فعاث أصحابُ ابن طولون ساعة بإنطاكية، وشمل الناس أذاهم، ثم رفع ذلك لساعتين من النهار، وارتحل ابن طولون يوم الثغر الشامي، فأتي المصيصة وإذَنَةَ، وامتنع طرسوس وفيها يا يزمان الخادم، فلم يكن له في فتحها حيلة، فرجع عنها وقد أراد الغزو - على ما قيل، والله أعلم لأمر بلغه أن العباس ولده قد عصى عليه وفزع أن يحال بينه وبين مصر - فحثَّ في السير ودخل الفسطاط، ولحق العباس ببرقة من بلاد المغرب خوفاً من أبيه وقد حمل معه ما أمكنه حمله من الخزائن والأموال والعدد، وقد أتينا على ما جرى بين أحمد بن طولون وولده العباس من المراسلات في كتابنا أخبار الزمان.
يازمان غلام الفتح بن خاقان
وكانت وفاة يازمان الخادم في أرض النصرانية غازياً في جيش الِإسلام تحت الحصن المعروف بكوكب، وكان مولى الفتح بن خاقان، فحمل إلى طرسوس، فدفن بباب الجهاد، وذلك للنصف من رجب سنة ثمان وسبعين ومائتين، وكان معه في تلك الغَزَاة من أمراء السلطان المعروف بالعجيفي وابن أبي عيسى وكان على إمرة طرسوس، وكان يازمان في نهاية البلاغة في الجهاد في البر والبحر، وكان معه رجال من البحريين لم ير مثلهم ولا أشد منهم، وكان له في العدو نكاية عظيمة، وكان العدو يهابه وتفرغ منه النصرانية في حصونها، ولم ير في الثغور الشامية والجزَرِية - بعد عمرو بن عبيد اللّه بن مروان الأقْطَع صاحب ملطية، وعلي بن يحيى الأرمني صاحب الثغور الشامية - أشد إقداماً على الروم من يازمان الخادم.
عمرو بن عبيد اللّه الأقطع
وكانت وفاة عمرو بن عبيد اللّه الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني في سنة واحدة، استشهدا جميعاً، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين في خلافة المستعين باللّه.
وقد كان عمرو بن عبيد اللّه غازياً في تلك السنة في المَلْطِيِّين، فلقي ملك الروم في خمسين ألفَاً، فصبر الفريقان جميعاً، فاستشهد عمرو بن جميد اللّه ومن كان معه من المسلمين إلا اليسير، وذلك يوم الجمعة للنصف من رجب من هذه السنة.
علي بن يحيى الأرمني
وقد كان علي بن يحيى الأرمني انصرف عن الثغر الشامي وولي أرمينية ثم صرف عنها. فلما صار إلى بلاد مَيافارقين ديار بكر عدل إلى ضياع له هنالك ووقع النفير، فخرج مسرعاً وقد أغارت جيوش الروم، فقَتَلَ علي بن يحيى مقدار أربعمائة نفس، والروم لا تعلم أنه علي بن يحيى الأرمني.
وأخبرني بعض الروم - ممن كمان قد أسلم وحبسن إسلامه - أن الروم صورت عشرة أنفس في بعض كنائسها من أهل البأس والنجدة والمكايد في النصرانية والحيلة من المسلمين: منهم الرجل الذي بعث به معاوية حين احتال عَلَى البطريق فأسره من القسطنطينية، فأقاد منه بالضرب ورده إلى القسطنطينية؛ وعبد الله البطال، وعمرو بن عيد اللّه، وعلي بن يحيى الأرمني، والعريل بن بكار، وأحمد بن أبي قطيفة، وقرنياس البيلقاني صاحب مدينة إبريق - وهي اليوم للروم - وكان بطريق البيالقة، وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ومائتين؟ وحرس حارس أخت قرنياس؛ ويازمان الخادم في موكبه والرجال حوله، وأبو القاسم بن عبد الباقي؟ وقد أتينا على وصف مذهب البيالقة واعتقادهم وهو مذهب بين النصرانية والمجوسية، وقد دخلوا في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - في جملة الروم، وقد فسرنا خبرهم في كتابنا أخبار الزمان.
من حمية معاوية

فأما خبر معاوية وما ذكرناه من خبر الرجل الذي أسرَ البطريق من مدينة القسطنطينية، فهو أن المسلمين غَزَوْا في أيام معاوية، فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك، فتكَلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلَطَمَ حُرَّ وجهه فآلمه - وكان رجلًا من قريش - فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية؟ إذ أهملتنا وضيعت ثغورنا وحكمت العدو في ديارنا وعمائنا وأعراضنا، فنمي الخبر إلى معاوية فآلمه، وامتنع من لذيذ الطعام والشراب، فخلا بنفسه وامتنع من الناس، ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين، ثم أجمل الأمر في إعمال الحيلة بإقامة الفداء بين المسلمين والروم إلى أن فادى بذلك الرجل، فلما صار الرجل إلى دار الِإسلام دعاه معاوية فبره وأحسن إليه، ثم قال له: لم نهملك ولم نضيعك ولا أبَحْنا عمك وعرضك، ومعاوية مع ذلك يجيل الرأي ويعمل الحيلة، ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور، وكان به عارفاً، كثير الغزوات في البحر، صملّ من الرجال، مرطان بالرومية، فأحضره وخَلَا به وأخبره بما قد عزم عليه، وسأله إعمال الحيلة فيه والتأتي له فتوافقا على أن يدفع للرجل مالاً عظيماً يبتاع به أنواعاً من الطّرَفِ والمُلَح والجهاز والطيب والجوهر وغير ذلك، وابّتني له مركب لا يلحق في جريه سرعة، ولا يدرك في مسيره بنياناً عجيباً، فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرس فاتصل برئيسها وأخبره أن معه جارية للملك، وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية، قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك، فروسِلَ الملك بذلك، وأعلم بحال الرجل، فأذن له في الدخول، فدخل خليج القسطنطينية، وسار فيه حتى انتهى إلى القسطنطينية، وقد أتينا على مقدار مسافة هذا الخليج، واتصاله بالبحر الرومي وبحر مانطس عند ذكرنا البحار فيما سلف من هذا الكتاب. فلما وصل إلى القسطنطينية أهدى للملك وجميع بطارقته، وبايعهم وشاراهم، ولم يعط للبطريق الذي لطمَ وجه القرشي شيئاً، وقصده إلى ذلك البطريق الذي لطم الرجل القرشي، وتأتى الصوري في الأمر على حسب ما رسمه له معاوية، وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام، وقد أمره البطارقة والملك بابتياع حوائج ذكرها، وأنواع من الأمتعة وصفوها، فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً، وذكر له من الأمر ما جرى، فابتيع له جميع ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه، وتقدم إليه فقال: إن ذلك البطريق إذا عُدت إلى كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره واستهانتك به، فاعتفر إليه ولاطفه بالقصد والهدايا، واجعله القيم بأمرك، والمتفقد لأحوالك، وانظر ماذا يطلب منك حين أوْ بِكَ إلى الشام، فإن منزلتك ستعلو وأحوالك تزداد عندهم، فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به وعلمت غرض البطريق منك وأي شيء يأمرك بابتياعه لتكون الحيلة بحسب ذلك، فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة على ما لم يطلب منه زادت منزلته وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية، فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك وقال له: ما ذَنْبِي إليك؟ وبماذا استحقِّ غيري أن تقصده وتقضي حوائجه وتُعْرِض عني؟ فقال له الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب أدخل إلى هذا الملك والبلد كالمتنكر من أساري المسلمين وجواسيسهم، لئلا ينمُّوا بخبري ويعنوا بأمري إلى المسلمين فيكُون في ذلك فَقدِي، وإذ قد علمت ميلك إليَّ فلست أحب أن يعتني بأمري سواك ولا يقوم به عند الملك وغيره غيرك، فأمُرْنِي بجميع حوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإِسلام.

وأهدى إلى البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجواهر والطرائف والثياب، ولم يزل هذا فعله يتردد من الروم إلى معاوية، ومن معاوية إلى الروم، ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج، والحيلة لا تتوجه لمعاوية حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري، وقد أراد الخروج إلى دار الِإسلامِ: قد اشتهيت أن تغمرني قضاء حاجة وتمنَّ بها علي: أن تبتاع لي بساطاً سوسنجرد بمخاده ووسائده يكون فيه من أنواع الألوان من الحمرة والزرقة وغيرهما، ويمون من صفته كذا وكذا، ولو بلغ ثمنه كل مبلغ، فأنْعَمَ له بذلك، وكان من شأن الصوري إذا ورد إلى القسطنطينية تكون مركبهُ بالقرب من موضع ذلك البطريق، وللبطريق ضيعة سرية وفيها قصر مشيد ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبة على الخليج، وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه، وكانت الضيعة يلي فم الخليج مما يلي بحر الروم والقسطنطينية، فانصرف الصوري إلى معاوية سراً، وأخبره بالحال؛ فأحضر معاوية بساطاً بوسائد ومخادّ ومجلس؟ فانصرف به الصوري مع جميع ما طلب منه من دار الِإسلام، وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة وكيفية إيقاعها، وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة وفي العشرة، وفي الروم طَمَع وشَرَه، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية - وقد طابت له الريح، وقد قرب من ضيعة البطريق - أخذ الصوري خبر البطريق من أصحاب القوارب والمراكب؟ فأخبر أن البطريق في ضيعته، وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة ميل وخمسين ميلاً بين هذين البحرين وهما الرومي ومانطس، على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب، والضياع والعمائر على هذا الخليج من حافيته، والمراكب تختلف والقوارب بأنواع المتاع والأقوات إلى القسطنطينية، وهذه المراكب لا تحصى في هذا الخليج كثرة، فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش ذلك البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخادِ في صحن المركب ومجلسه، والرجال تحت المجلس بأيديهم المجاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها، ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا مَنْ ظهر منهم في المركب عمله، والريح في القلع، والمركب مار في الخليج كأنه سهم قد خرج من كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه؛ لسرعة سيره واستقامته في جريه، فأشرف على قصر البطريق وهو جالس في مستشرفه مع حرمه وقد أخذت منه الخمر وعَلَاهُ الطرب وذهب به الفرح والسرور كل مذهب فلما رأى البطريق مركب الصوري غَنَى طرباً، وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه، فدنا من أسفل القصر، وحط القلع، وأشرف البطريق على المركب، فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط ونظم ذلك الفرش كأنه رياض تزهر، فلم يستطع اللبث في موضعه حتى نزل قبل أن يخرج ذلك الصوري من مركبه إليه، فطلع المركب.

فلما استقرت قدمه في المركب ودَنَا من المجلس ضرب الصوري بعقبه على مَنْ تحت البساط من الوقوف - وكانت علامة بينه وبين الرجال الذي في بطن المركب - فما استقر دقه بقده حتى اختطف المركب بالمجاذيف فإذا هو في وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء، وارتفع الصوت، ولم يدر ما الخبر لمعاجلة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج من الخليج وتوسَّطَ البحر، وقد أوثق البطريق كِتَافاً، وطابت له الريح، وأسعده الجد، وحملته المجاذيف في ذلك الخليج، فتعلق في اليوم السابع بساحِل الشام، ورأى البر، وحمل الرجل، فكانوا في اليوم الثالث عشر حضوراً بين يدي معاوية بالفرح والسرور لإِثلاجة بالأمر وتمام الحيلة، وأيقن معاوية بالظفر وعلو الجد، فقال: علي بالرجل القرشي، فأتي به، وقد حضره خواص الناس، فأخلوا مجالسهم، وانغصَّ المجلس بأهله، فقال معاوية للقرشي: قم فاقتصَّ من هذا البطريق الذي لَطَمَ وجهك على بساط معظم الروم؛ فإنا لن نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق، فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه، واقتص منه على حسب ما صنع بك، ولا تتعد، وراع منا أوجب اللّه عليك من المماثلة، فَلَطَمه القرشي لطماتٍ، ووكزه في حلقه، ثم انكبَّ القرشي على يديِ معاوية وأطرافه لقبلها، وقال: ما أضاعك مَنْ سَوّدك، وخاب فيك أمَلُ من أملك، أنت ملك لا تضام، تمنع حماك، وتصون رعيتك، وأغْرَقَ في دعائه ووصفه، وأحسن معاوية إلىِ البطريق، وخاب عليه وبَرَّه، وحمل معه البساط، وأضاف إلى ذلك أُموراً كثيرة وهدايا إلى الملك، وقال له: ارجع إلى ملكك، وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، وقال للصوري: سر معه حتى تأتي الخليج فتطرحه فيه ومن كان أسِرَ معه ممن بادر فصعد المركب من غلمان البطريق وخاصته، فحملوا إلى صور مكرمين، وحملوا في المركب، فطابت لهم الريح، فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين ببلاد الروم، وقربوا من فم الخليج، وإذا به ؛قد أحكم بالسلاسل والمنعة من الموكلين به، فطرح البطريِق ومن معه وانصرف الصوري راجعاً، وحمل البطريق من ساعته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة، فتباشرت الروم بقدومه، وتلقوه مهنئين له من الأسر فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله بالبطريق والهدايا؛ فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه، وقال الملك: هذا أمكر الملوك وأدهَى العرب، ولهذا قدمته العرب عليها، فساس أمرها، واللّه لوهم بأخذي لتمت له الحيلة عليَّ.
وقد أتينا على خبر معاوية فيما سلف من هذا الكتاب، وأتينا على مبسوطه وأخبار الوافدين والوافدات عليه من الأمصار فيما سلف من كتبنا وإن كنا قد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب من أخبار معاوية جملاً.
ولملوك الروم وبطارقتها - ممن سلف وخلف إلى هذا الوقت - أخبار حسان مع ملوك بني أمية والخلفاء من بني العباس في المَغَازي والسرَايا وغيرها، وكذلك لأهل الثغور الشامية والجزرية إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - وقد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، وقدمنا في هذا الكتاب جملاً من أخبارهم ومقادير أعمارهم وأيامهم، ولمعاً من سيرهم، وكذلك أخبرنا عن ملوك الأمم وسيرهم.
محبة المعتمد للهو
قال المسعودي: وكان المعتمد مشغوفاً بالطرب، والغالب عليه المعاقرة ومحبة أنواع اللهو والملاهي، وذكر عبيد الله بن خرداذبه أنه دخل عليه ذات يوم، وفي المجلس عدة من ندمائه من ذوي العقول والمعرفة والحجى، فقال له: أخبرني عن أول من اتخذ العود، قال ابن خرداذبه: قد قيل في ذلك يا أمير المؤمنين أقاويل كثيرة: أول من اتخذ العود لمك بن متوشلخ بن محويل بن عاد بن خنوخ بن فابن بن آدم، وذلك أنه كان له ابن يحبه حبَاً شديداً، فمات، فعلَّقه بشجرة، فتقطعت أوصاله، حتى بقي منه فخفه والساق والقدم والأصابع، فأخذ خشباً فرققه وألصقه، فجعل صدر العود كالفخذ، وعنقه كالساق، ورأسه كالقدم، والملاوي كالأصابع، والأوتار كالعروق، ثم ضرب به وناح عليه، فنطق العود، قال الحمدوني:
وناطق بلسانٍ لا ضمير له ... كأنه فَخِذٌ إلى قم
يُبدي ضمير سواه في الحديث كما ... يُبْدِي ضمير سواه منطق القلم

واتخذ توبل بن لمك الطبول والدفوف، وعملت ضلال بنت لمك المعازف، ثم اتخذ قوم لوط الطنابير، يستميلون بها الغلمان ثم اتخذ الرعاة والأكراد نوعاً مما يصفر به، فكانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا فاجتمعت؟ ثم اتخذ الفرس النَّايَ للعود، والدياتي للطنبور، والسرياني للطبل، والسنج الصنج، وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج، وهي لهم، ولهم النغم والِإيقاعات والمقاطع والطروق الملوكية، وهي سب طروق: فأولها سكاف، وهو أكثرها استعمالاً لتنقل الأنهار، وهو أفصح مقاطع، وأمرسه، وهو أجمعها لمحاسن النغم، وأكثرها تصعداً وانحداراً وما دار وسنان، وهو أثقلها، وسايكاد، وهو المحبوب للأرواح، وسيسم وهو المختلس المنقل، وحويعران، وهو الدرج الموقوف على نغمة، وكان غناء أهل خراسان وما والاها بالزنج، وعليه سبعة أوتار، وإيقاعه يشبه أيضاً الصنج، وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم بالطنابير، وكانت الفرس تقم الطنبور على كثير من الملاهي، وكان غناء النبط والجرامقة بالغيروارات، وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير.
وقال فندروس الرومي: جعلت الأوتار أربعة بإزاء الطبائع، فجعلت الزير بإزاء المرة الصفراء، والمثنى بإزاء الدم، والمثلث بإزاء البلغم والبم بإزاء المرة السوداء.
مِلاهي الروم
وللروم من الملاهي الأرغل، وعليه ستة عشر وتراً، وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونانيين، والسلبان، وله أربعة وعشرون وتراً وتفسيره ألف صوت، ولهم اللورا، وهي الرباب، وهي من خشب، ولهم خمسة أوتار، ولهم القيثارة، ولها اثنا عشر وتراً، ولهم الصلنج وهو من جلود العجاجيل، وكل هذه معازف مختلفة الصفة، ولهم الأرغن، وهو ذو منافخ من الجلود والحديد.
وللهند الكنكلة، وهو وتر واحد يمد على قرعة فيقوم مقام العود والصنج.
حداء العرب
قال: وكان الحُدَاء في العرب قبل الغناء، وقد كان مضر بن نزار بن معد سقط عن بعير في بعض أسفاره فانكسرت يده، فجعل يقول: يا يَدَاه يا يَدَاه، وكان من أحسن الناس صوتاً، فاستوسقت الِإبل وطاب لها السير، فاتخذه العرب حُدَاء برجز الشعر، وجعلوا كلامه أول الحداء فمن قول الحادي:
يا هادياً يا هادياً ... ويا يداه يا يداه
فكان الحًدَاء أولَ السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحُدَاء، ونحْنَ نساء العرب على موتاها، ولم تكن أُمة من الأُمم بعد فارس والروم أوْلَعَ بالملاهي والطرب من العرب، وكان غناؤهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف.
أول الغناء في العرب
وكان أول من غَنَى من العرب الجرادتان، وكانتا قينتين على عهد عاد لمعاوية بن بكر العملقي، وكانت العرب تسمي القينة الكربنة، والعود المزهر، وكان غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري، والحنفي أحسنهما، ولم تكن قريش تعرف من الغناء إلا النصب، حتى قدم النضر بن الحارث بن كلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من العراق وافداً على كسرى بالحِيرَةِ؛ فتعلم ضرب العود والغناء عليه؟ فقدم مكة فعلّم أهلها، فاتخذوا القينات.
أثر الغناء
والغناء يرق الذهن، ويلين العريكة، ويبهج النفس ويَسُرُّهَا، ويشجع القلب، ويسخي البخيل، وهو مع النبيذ يعاونان على الحزن الهادم للبدن، وُيحْدِثان له نشاطاً، ويفرجان الكرب، والغناء على الانفراد يفعل ذلك، وفضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخَرَس والبرء على السقم، وقد قال الشاعر:
لا تبعثن على همومك إذ ثَوَتْ ... غير المدام ونغمة الأوتار
فللَّه در حكيم استنبطه، وفيلسوف استخرجه، أي غامض أظهرة؟ وأي مكنون كَشَفَ؟ وعلى أي فن دَلَّ. وإلى أي علم وفضيلة سبق؟ فذلك نسيجُ وَحْلِىِ وقريع دهره.
وقد كانت الملوك تنام على الغناء ليسري في عروقها السرور، وكانت ملوك الأعاجم لا تنام إِلا على غناء مطرب، أو سمر لذيذ، والعربية لا تنوم وَلَدَهَا وهو يبكي، خوْفَ أن يسري الهم في جسده، ويدب في عروقه، ولكنها تنازعه وتضاحكه حتى ينام وهو فَرِحٌ مسرور، فينمو جسده، ويصفو لونه ودمه، ويشف عقله، والطفل يرتاح إلى الغناء، ويستبدل ببكائه ضحكاً.

وقد قال يحيى بن خالد بن برمك: الغناء ما أطرَبَكَ فأرْقَصَكَ، وأبكاك فأشْجَاكَ، وما سوى ذلك فبلاءهم.
قال المعتمد: قد قلتَ فأحسنتَ، ووصفتَ فأطنبتَ، وأقمت شي هذا اليوم سُوقاً للغناء، وعيداً لأنواع الملاهي، وإن كلامك لمثل الثوب المُوَشَّى، يجتمع فيه الأحمر، والأصفر، والأخضر، وسائر الألوان؛ فما صفة المغني الحاذق.
قال ابن خرداذبه: المغني الحاذق يا أمير المؤمنين: من تمكن من أنفاسه، ولطف في اختلاسه، وتفرع في أجناسه.
أنواع الطرب
قال المعتمد: فعلى كم تنقسم أنواع الطرب؟.
قال: على ثلاثة أوجه يا أمير المؤمنين، وهي طرب محرك، مستخف الأريحية، ينعش النفس، ودواعي الشيم عند السماع، وطرب شجن محزن، لا سيما إذا كان الشعر في وصف أيام الشباب، والشوق إلى الأوطان، والمراثي لمن عدم الصبر من الأحباب، وطرب يكون في صفاء النفس ولطافة الحس، ولا سيما عند سماع جودة التأليف، وإحكام الصنعة، إذ كان مَنْ لا يعرفه ولا يفهمه لا يسرّه، بل تراه متشاغلاً عنه، فذلج كالحجر الجَلْمد، والجماد الصَّلْد، سواء وُجُوده وعَدَمُه، وقد قال يا أمير المؤمنين بعض الفلاسفة المتقدمين، وكثير من حكماء اليونانيين: مَن عرضت له آفة في حاسة الشم كَرهَ رائحة الطيب، ومن غَلُطَ حسه كره سماع الغناء، وتشاغل عنه، وعَابَهُ، وذمَّهُ.
منزلة الايقاع وألقابه
قال المعتمد: فما منزلة الِإيقاع وأنواع الطروق وفنون النغم؟.
قال: قد قال في ذلك يا أمير المؤمنين مَنْ تقدم: إن منزلة الِإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من الشعر، وقد أوضحوا الِإيقاع، ووَسَمُوه بسمات، ولَقّبُوه بألقاب، وهو أربعة أجناس: ثقيل الأول، وخفيفه، وثقيل الثاني، وخفيفة، والرمل الأول، وخفيفه، والهزج، وخفيفه، والِإيقاع: هو الوزن، ومعنى أوقع وَزَنَ، ولم يوقع: خرج من الوزن، والخروج إبطاء عن الوزن أو سرعة؛ فالثقيل الأول: نقره ثلاثة ثلاثة، اثنتان ثقيلتان بطيئتان، ثم نَقْرَة واحدة، وخفيف ثقيل الثاني: نقره اثنتان متواليتان، وواحدة بطيئة، واثنتان مزدوجتان، وخفيف الرمل: نقره اثنتان اثنتان مزدوجتان، وبين كل زوج وَقْفة، والهزج: نقره واحدة واحدة مستويتان ممسكة، وخفيف الهزج: نقره واحدة واحدة متساويتان في نسق واحد أخف قدراً من الهزج، والطرائق ثمان: الثقيلان الأول والثاني، وخفيفاهما، وخفيف الثقيل الأول منهما يسمى بالمَاخُورِيِّ، وإنما سُمَيَ بذلك لأن إبراهيم بن ميمون الموصلي - وكان من أبناء فارس، وسكن الموصل - كان كثير الغناء في هذه المواخير، بهذه الطريقة، والرمل وخفيفه، ويتفرع من كل واحد من هذه الطرائق مزموم مطلق، وتختلف مواقع الأصابع فيها فيحدث لها ألقاباً تميزها، كالمعصور، والمخبول، والمحثوث، والمخدوع، والأدراج.
والعُودُ عند أكثر الأمم وجُلِّ الحكماء يوناني، صَنَعَهُ أصحاب الهندسة على هيئة طبائع الِإنسان؛ فإن اعتدلت أوتاره على الأقدار الشريفة جَانَسَ الطبائع فأطرب، والطّرَبُ: رَدُّ النفس إلى الحال الطبيعية دفعة، وكان وَتَر مثل الذي يليه ومثل ثلثه. والدستبان الذي يلي الأنف موضوع على خط التسع من جملة الوَتر والذي يلي المشط موضوع على خط الربع من جملة الوتر فهذه يا أمير المؤمنين جوامع في صفة الِإيقاع ومنتهى حدوده.
ففرح المعتمد في هذا اليوم، وخلع على ابن خرداذبه، وعلى مَنْ حضره من ندمائه، وفَضَّله عليهم، وكان يوم لهو وسرور.
الرقص وأنواعه
فلما كان في صبيحة تلك الليلة دعا المعتمد مَنْ حضره في اليوم الأول، فلما أخذوا مراتبهم من المجلس قال لبعض مَنْ حضره من ندمائه ومغنيه صف لي الرقص وأنواعه، والصفة المحمودة من الرقص، واذكر لي شمائلُه.

فقال المسؤول: يا أمير المؤمنين، أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم من أهل خراسان وغيرهم، فجملة الإيقاع في الرقص ثمانية أجناس: الخفيف، والهزَج، والرمل، وخفيف الرمل، وخفيف الثقيل الثاني، وثقيله وخفيف الثقيل الأول، وثقيله، والراقص يحتاج إلى أشياء في طباعه، وأشياء في خِلْقته، وأشياء في عمله؟ فأما ما يحتاج إليه في طباعه فخفة الروح، وحسن الطبع على الِإيقاع، وأن يكون طالبه مرحاً إلى التدبير في رقصه والتصرف فيه، وأما ما يحتاج إليه في خِلْقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدَّلَ والشمائل، والتمايل في الأعطاف، ورقة الخصر والخفة وحسن أقسام الخلق ووَاقع المناطق، واستدارة الثياب من أسافلها ومخارج النفس، والإِراحة، والصبر على طول الغاية، ولطافة الأقدام، ولين الأصابع، وإمكان لينها في نقلها وفيما يتصرف فيه من أنواع الرقص من الإِبل، ورقص الكرة، وغيره، ولين المفاصل، وسرعة الانتقال في الدوَران، ولين الأعطاف. وأما ما يحتاج إليه في عمله فكثرة التصرف في ألوان الرقص، وإحكام كل حد من حدوده، وحسن الاستدارة، وثبات القدمين على مدارهما، واستواء ما تعمل يُمْنى الرِّجْل ويسراها، حتى يكون في ذلك واحداً. ولوضع القدم ورفعها وجهان: أحدهما أن يوافق بذلك الإِيقاع، والآخر أن يتثبط، فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن فليكن ما يوافق الِإيقاع فهو من الحب والحسن سواء، وأما ما يتثبط به فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن؟ فليسكُن ما يوافق الِإيقاع مترافعاً، وما يتثبط به متسافلاً .
قال المسعودي: وللمعتمد مجالسات ومذاكرات ومجالس قد دُوَنت في أنواع من الأدب، منها: مدح النديم، وذكر فضائله، وذم التفرد بشرب النبيذ، وما قيل في ذلك من المنثور والشعر، وما قيل في أخلاق النديم وصفاته وعفافه وأمْنِ عَبَثِه، والتداعي إلى المنادمات والمراسلات في ذلك، وعدد أنواع الشرب في الكَثرة، وهيئة السماع وأقسامه وأنواعه، وأصول الغناء ومباديه في العرب وغيرها من الأمم، وأخبار الأعلام من مشهوري المغنين المتقدمين والمحدثين، وهيئة المجالس، ومنازل التابع والمتبوع وكيفية مراتبهم، وتعبية مجالس الندماء والتحيات كما قال العطوي في ذلك:
حيِّ التحية أصحاب التحيات ... القائلين إذا لم تَسْقِهم: هاتِ
أما الغداة فَسَكْرى في نعيمهم ... وبالعشيِّ فَصَرْعَى غير أموات
وبين ذلك قَصْفٌ لا يُعَادِلُه ... قصف الخليفة من لهو ولذات
وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان مما لم يتقدم نه ذكر كصُنوف الشراب، والاستعمال لأنواع النّقْل إذا وضع ذلك في المناقل والأطباق فنضد نضداً، ورصف رصفاً، والِإبانة عن المراتب في ذلك، ووصف جمل آداب الطبيخ مما يحتاج التابع إلى معرفته، والأديب إلى فهمه من المتولدات في معرفة الألوان، ومقادير التوابل والأبزار، وأنواع المحادثات، وغسل اليدين بحضرة الرئيس، والمقام عن مجلسه، وإدارات الكاسات، وما حكي في ذلك عن الأسلاف من ملوك الأمم وغيرهم، وما قيل في الِإكثار والِإقلال من الشراب، وما ورد في ذلك من الأخبار، وطلب الحاجات والاستمناحات من أهل الرياسة على المعاقرات، وهيئة النديم وما يلزمه لنفسه، وما يلزم الرئيس لنديمه، والفرق بين التابع والمتبوع، والنديم والمنادم، وما قال الناس في العلة التي من أجلها سمي النديم نديماً، وكيفية الأدب في لعب الشطرنج، والفرق بينها وبين النِّرْد، وما ورد في ذلك من الأخبار، وانتظمت فيه من الدلائل والآثار، وما ورد عن العرب في أسماء الخمر ووُرُود التحريم فيها، وتنازع الناس في رد غيرها من أنواع الأنبذة عليها قياساً، وَوصْف أنواع آنيتها، ومن كان يشربها في الجاهلية ومن حَرمها، وَوَصْف السكر، وما قال الناس في ذلك، وكيفية وقوعه: أمن اللّه أم من خلقه؟ وغير ذلك مما لحق بهذا الباب، واتصل بهذه المعاني، وإنما نذكر هذه اللمع منبهين بها على ما قدمنا فيما سلف من كتبنا.
ثورة تنتهي بموت الموفق وقيام المعتضد

وكان أبو العباس المعتضد محبوساً فلما خرج أبوه الموفق إلى الجبل خلفه بدار الوزير إسماعيل بن بلبل، وكان مضُيّقاً عليه، إلى أن وافى الموفق من أذربيجان عليلاً مدنفاً مورماً في بيت من الخشب قد اتخذ له مبطناً بالخز والحرير وفي أسفله حلق قد جعل فيها الدهن فتحمله الرجال على أكتافها نوائب وكان وصوله إلى بغداد يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من صفر سنة ثمان وسبعين. ومائتين، فأقام بمدينة السلام أياماً فاشتدت عِلّته؛ وأرجف بموته؛ وانصرف إسماعيل بن بلبل وقد يئس منه، فوجه إسماعيل بن بلبل إلى كفهمن، وقيل: إلى بكتمر - وكان موكلاً بالمعتضد بالمدائن، غلى أقل من يوم من مدينة السلام - أن ينصرف بالمعتضد والمفوض إلى الله ابنه إلى بغداد، فدخل المعتضد إليها في يومه، واتصل بإسماعيل صلاح الموفق، فانحدر ومعه المعتضد والمفوض في طيارة إلى دار ولده، وقد كان يأنس الخادم ومؤنس الخادم وصافي الحرمي وغيرهم من خدم الموفق وغلمانه، أخرجوا أبا العباس من الموضع الذي كان فيه محبوسا، وساروا به إلى الموفق، وأحضر إسماعيل بن بلبل والمعتضد والمفوض معه، وكثر اضطراب القوَاد والموالي، وأسرعت العامة وسائر الخدم في النهب، فانتهبوا دار إسماعيل بن بلبل، ولم تبق دار جليل ولا كاتب نبيل إلا نهبوها، وفتحت الجسور، وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الحديد إلا أخرج، وكان أمراً فظيعاً غليظاً، وخدم على أبي العباس، وعلى إسماعيل بن بلبل، وانصرف كل واحد منهما إلى منزله، فلم يجد إسماعيل في داره ما يقعد عليه، حتى وَجَّه إليه الشاه ابن ميكال ما قعد عليه، وقام بأمر طعامه وشرابه، وقد كان إسماعيل أسْرَعَ في بيوت الأموال، وأسرف في النفقات والجوائز والخلع والعطايا، وأمَدَّ العرب وأجزل لهم الأنزال والأرزاق، واصطنع بني شيبان من العرب وغيرهم من ربيعة، وكان يزعم أنه رجل من بني شيبان، وطالَبَ بخراج سًنَةٍ مبهمة، فثقل على الرعية، وكثر الداعي عليه، ومكث الموفق بعد ذلك ثلاثة أيام، ثم توفي ليلة الخميس، لثلاث بقين من صفر سنة ثمان وسبعين، ومات وله تسع وأربعون سنة، وأمه أم ولد روميّة، يقال لها: أسحر، وكان اسم الموفق طلحة، وفيه يقول الشاعر:
لما استظل بظل الملك واجتمعت ... له الأمورِ فمنقاد ومقسور
حُطَتْ عليه لمقدارٍ مَنيتُه ... كذاك تَصْنعُ بالناس المقاديرُ
فلما مات الموفق قام المعتضد بأمور الناس في التدبير فكان أبيه الناصر، وهو الموفق، وخلع جعفر المفوض من ولاية العهد، وقام إسماعيل بن بلبل في الوزارة بعد شغب كثير كان في مدينة السلام، وكان لأبي عبد اللّه بن أبي الساج ولخادمه وصيف خطب جليل، وقيد إسماعيل بن بلبل، ووجه أبو العباس إلى عبد اللّه بن سليمان بن وهب فأحضره وخلع عليه ورد إليه أمر كتابه، وذلك في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين، ولم يزل إسماعيل بن بلبل يعذّبُ بأنواع العذاب، وجعل في عنقه غل فيه رمانة حديد، والغل والرمانة مائة وعشرون رطلاً، وألبس جبة صوف قد صيرت في ودك الأكارع، وعلق معه رأس ميت؛ فلم يزل على ذلك حتى مات في جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائتين، ودفن بِغُلِّهِ وقيوده، وأمر المعتضد بضرب جميع الآنية التي كانت في خزانته، فضربت وفرقت في الجند.
غداء المعتمد الذي مات عقيبه
قال المسعودي: وقد كان المعتمد قعد للغداء واصطبح يوم الاثنين لِإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب الفرد سنة تسع وسبعين ومائتين، فلما كان عند العصر قدم الطعام، فقال: يا موشكيره - للموكل به - ما فعلت الرؤوس بأرقابها. وقد كان قم من الليل أن يقدم له رؤوس حملان، وقد فصل فيها أرقابها، فقدمت، وكان معه على المائدة رجل من ندمائه وسُمَّاره يعرف بقف الملقم؟ ورجل يعرف بخلف المضحك؛ فأول من ضرب بيده إلى الرؤوس الملقم، فانتزع أذن واحد منها، ولقمه في الرقاق، وغمسها في الأصباغ، وأهوى بها إلى فِيهِ، وأمعن في الأكل وأما المضحك فإنه يقتلع اللهازم والأعين، فأكلوا وأكل المعتمد، وأتموا يومهم؛ فأما الملقم صاحب اللقمة الأولى فإنه تهرأ في الليل، وأما المضحك فإنه مات قبل الصباح، وأما المعتمد فأصبح ميتاً قد لحق بالقوم.

ودخل إسماعيل بن حماد القاضي إلى المعتضد وعليه السواد، فسلم عليه بالخلافة، وكان أول مَنْ سلّم عليه بها، وحضر الشهود منهم أبو عوف والحسين بن سالم وغيرهم من العدول حتى أشرفوا على المعتمد ومعهم بدر غلام المعتضد يقول: هل ترون به من بأس أو أثر مات فجأة، وقتلته مداومته لشرب النبيذ، فنظروا إليه فإذا ليس به من أثر، فغسل وكفن وجعل في تابوت قد اعد له وحُمِل إلى سامرا فدفن بها.
وذكروا - واللّه أعلم - أن سبب وفاته أنه سقي نوعاً من السم في شرابهم الذي كانوا يشربونه، وهو نوع يُقال له البيش يحمل من بلاد الهند وجبال الترك والتبت، وربما وجدوه في سنبل الطيب، وهو ألوان ثلاثة، وفيه خواص عجيبة.
وللمعتمد أخبار حسان وما كان في أيامه من الكوائن والحوادث مما كان بخراسان من حروب الصفار وغيره، وما كان من ولد أبي دُلَفَ بأرض الجبل، وما كان من العرب من الطولونية وما كان بديار بكر من بلاء وأسر وغيرهما من أحمد بن عيسى ابن الشيخ، وما كان باليمن، قد أتينا على مبسوطها وجميع ذلك كله والغُرَر منه وما حدث في كل سنة من أيامه من الحوادث في كتابينا: أخبار الزمان والأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الكتاب.
ذكر خلافة المعتضد باللّه
وبويع أبو العباس أحمد بن طلحة المعتضد باللّه، في اليوم الذي مات فيه المعتمد على اللّه عمه وهم يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وأمه أم ولد رومية يُقال لها ضرار، وكانت وفاته يوم الأحد لسبع بَقِينَ من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين؛ فكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر ويومين، وتوفي بمدينة السلام وله سبع وأربعون سنة، وقيل: إنه ولي الخلافة ابن إحدى وثلاثين سنة، وتوفي سنة تسع وثمانين - على ما ذكرنا - وله أربعون سنة وأشهر، على تباين أصحاب التواريخ في كتبهم، وما أرَّخُوه في أيامهم، واللّه الموفق.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
حال الرعية في أيامه
ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتضد باللّه سكنت الفتن، وصلحت البلدان، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهرج، وسالمه كل مخالف، وكان مُظَفَّراً قد دانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له في أكثر المخالفين عليه وَالمُنَابذين له، وظفر بهارون الشاري.
وكان صاحب المملكة والقيم بأمر الخلافة بدر مولاه، وإليه جميع المعارف في جميع الآفاق، وإليه أمر الجيوش وسائر القواد.
مالية الدولة في عهده
وخلف المعتضد في بيوت الأموال تسعة آلاف ألف دينار، ومن الوَرِقِ أربعين ألف ألف درهم، ومن الدواب والبغال والجمازات والحمير والجمال اثني عشر ألف رأس، وكان مع ذلك شحيحاً بخيلًا ينظر فيما لا ينظر فيه العوام.
تقتيره
وحكى عبد اللّه بن حمدون - وكان نديمه وخاصته، وممن كان يأنس به في خلواته - أنه أمر أن تنقص حَشَمُه ومن كان يجري عليه الأنزال من كل رغيف أوقية، وأن يبتدأ بأمر خبزه، لأن للوصائف عدداً من الرغفان فيها ثلاث لذا وأربع لذا وأكثر من ذلك، قال ابن حمدون: فتعجبت من ذلك في أول أمره، ثم تبينت القصة؛ فإذا أنه يتوفر من ذلك في كل شهر مال عظيم، وتقدم إلى خَزَّانه أن يختار له من الثياب التسترية والدبيقية أحسنها لتقطيعها لنفسه.
أنواع من قسوته
وكان مع ذلك قليل الرحمة، كثير الِإقدام، سفاكاً للدماء، شديد الرغبة في أن يمثل بمن يقتله.
وكان إذا غضب على القائد النبيل، والذي يختصه من غلمانه أمر أن تحفر له حفيرة بحضرته ثم يدلى على رأسه فيها، ويطرح التراب عليه، ونصفه الأسفل ظاهر على التراب، ويداس التراب، فلا يزال كذلك حتى تخرج روحه من دبره.
وذكر من عذابه أنه كان يأخذ الرجل فيكتف وَيُقَيده فيؤخذ القطن فيحشى في أذنه وخيشومه وفمه، وتوضع المنافخ في دبره حتى ينتفخ ويعظم جسده ثم يسد الدبر بشيء من القطن، ثم يفصد، وقد صار كالجمل العظيم، من العرقين اللذين فوق الحاجبين، فتخرج النفس من ذلك الموضع، وربما كان يقام الرجل في أعلى القصر مجرداَ مُوثَقاً ويرمى بالنشاب حتى يموت.

واتخذ المطامير، وجعل فيها صنوف العذاب، وجعل عليها نجاح الحرمي المتولي لعذاب الناس، ولم يكن له رغبة إلا في النساء والبناء؛ فإنه أنفق على قصره المعروف بالثريا أربعمائة ألف دينار، وكان طول قصره المعروف بالثريا ثلاثة فراسخ.
وأقر عبيد اللّه بن سليمان على وزارته، فلما مات استوزر القاسم بن عبيد اللّه.
وقد كان المعتضد في هذه السنة - وهي سنة تسع وسبعين ومائتين - ركب يوم الفطر - وهو يوم الاثنين - إلى مصلى اتخذه بالقرب من داره، فصلى بالناس وكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الآخرة تكبيرة واحدة، ثم صعد المنبر، فحصر ولم تسمع له خطبة؛ ففي ذلك يقول بعض الشعراء:
حصر الإِمام ولم يبين خطبة ... للناس في حل ولا إحرام
ما ذاك إلا من حياء، لم يكن ... ما كان من عي ولا إفحام
زواجه بنت خمارويه
وفي هذه السنة قدم الحسن بن عبد اللّه المعروف بابن الجصاص رسولاً من مصر لخمارويه بن أحمد، ومعه هدايا كثيرة وأموال جليلة وطراز، فوصل إلى المعتضد يوم الاثنين لثلاث خَلَوْنَ من شوال، وخلع عليه وعلى سبعة نفر معه، ثم سعى في تزويج ابنة خمارويه من عليّ المكتفي، فقال المعتضد: إنما أراد أن يتشرَّفَ بنا، وأنا أزيد في تشريفه، أنا أتزوجها، فتزوجها، وتولى ابن الجصاص أمرها وحمل جهازها؛ فيقال: إنه حمل معها جوهراً لم يجتمع مثلُه عند خليفة قط؛ فاقتطع ابن الجصاص بعضه، وأعلم قَطْر الذي بنت خمارويه أن ما أخذ مُودَع لها عنده إلى وقت حاجتها إليه؛ فماتت والجوهر عنده؛ فكان ذلك سبب غناه واستقلاله، وقد كانت لابن الجصاص محن بعد ذلك في أيام - المقتدر، وما كان من القَبْض عليه، وما أخذ منه من الأموال بهذا السبب وغيره، وحمل المعتضد صداق قطر الندى وهو بمدينة بلد إلى أبي الجيش، وكان الصداق ألف ألف درهم، وغير ذلك من المتاع والطيب ولطائف الصين والهند والعراق، وكان مما خص به أبا الجيش في نفسه وَحَبَاه به بَدْرَة من الجوهر المثمن فيها در وياقوت وأنواع من الجوهر ووشاح وتاج وإكليل، وقيل: قلنسوة، وكرزن. وكان وصولهم إلى مصر في رجب سنة ثمانين ومائتين، وانحدر المعتضد من مدينة بلد والموصل بعد أن حمل ما وصفنا إلى مدينة السلام في الماء.
ابن الجصاص
وحدث أبو سعيد أحمد بن الحسين بن منقذ قال: دخلت يوماً على الحسن بن الجصاص وإذا بين يديه سفط. مبطن بالحرير فيه جوهر قد نظم منه سبح؛ فرأيت شيئاً حسناً ووقع في نفسي أن عددها يجاوز العشرين، فقلت له: جعلني اللّه فداك! كم عدد ما في كل سبحة؟ فقال لي: مائة حبة، وزن كل حبة كوزن صاحبتها لا تزيد ولا تنقص، وقد عدلت كل سبحة وزن صاحبتها، وإذا بين يديه سبائك ذهب توزن بقَبَّان كما يوزن الحطب؛ فلما خرجت من عنده تلقاني أبو العيناء فقال لي: يا أبا سعيد، علي أي حال تركت هذا الرجل. فوصفت له ما رأيت، فقال رافعاً رأسه إلى السماء: اللهم إن كنت لم تُسَاوِ بيني وبينه في الغنى، فَسَاوِ بيني وبينه في العمى، ثم اندفع يبكي، فقلت: يا أبا عبيد اللّه، ما شأنك. فقال: لا تنكر ما رأيت مني، لو رأيتَ ما رأيتُ لضعفت، ثم قال: الحمد للّه على هذه الحالة، وقال: يا أبا سعيد، ما حَمَدْتُ اللّه تعالى على العمى إلا في وقتي هذا؛ فقلت لمن يخبر حال ابن الجصاص: بأي شيء ختم هذا السبح؟ فقال: بياقوتة حمراء لعل قيمتها أكثر مما تحتها.
أبوّ العيناء
وكانت وفاة أبي العيناء سنة اثنتين وثمانين ومائتين بالبصرة في جمادى الآخرة، وكان يكنى بأبي عبيد اللّه، وكان قد انحدر من مدينة السلام إلى البصرة في زورق فيه ثمانون نفساً في هذه السنة فغرق الزورق، ولم يتخلص مما كان فيه إلا أبو العيناء، وكان ضريراً، تعَلَّقَ بأطراف الزورق فأخرج حَيّاً، وتلف كل من كان معه، فبعد أن سلم ودخل البصرة مات.
وكافي لأبي العيناء من اللسان وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن عليه أحد من نُظَرَائِه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي البصير وغيره، وقد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا.

وحضر مجلس بعض الوزراء، فتعارضوا حديث بعض البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء، وقد كان أمْعَنَ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والإِفضال: قد أكْثَرْت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا من تصنيف الوَرَاقين وتأليف المحسنين، فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوَرَّاقون عليك أيها الوزير بالبذل والجود؟ فأمْسَكَ عنه الوزير، وتعجب الناس من إقدامه عليه.
واستأذن يوماً على الوزير صاعد بن مخلد، فقال له الحاجب: الوزير مشغول فانتظر، فلما أبطأ إذنه قال للحاجب: ما صنع الوزير. قال: يصفَتي، قال: صدقت لكل جديد لذة، يعيره بأنه حديث عهد بالإِسلام.
وقد كان أبو العيناء دخل على المتوكل في قصره المعروف بالْجَعْفَرِي، وذلك في سنة ست وأربعين ومائتين، فقال له: كيف قولك في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بَنَوْا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن ذلك ثم قال له: كيف شربك النبيذ. فقال: أعجز عن قليله، وأفتضح من كثيره، فقال له: دَعْ هذا عنك ونادمنا، فقال: أنا امرؤ محجوب، والمحجوب تتخطرف إشارته، ويجور قصده، وينظر منه. إلى ما لا ينظر إليه، وكل مَنْ في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخْدَمَ، وأخرى لست آمن أن تنظر إلَيَّ بعين رَاضٍ وقلبك غضبان، أو بعين غضبان وقلبك رَاضٍ، ومتى لم أمَيِّز بين هاتين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء، فقال: بَلَغنا عنك بَذَاء، قال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال: " نعم العبد إنه أواب " جل ذكره: " هماز مشاء بنميم " الآية فإن لم يكن البذاءَ بمنزلة العقرب يلدغ النبي والذمي فلا ضَيْرَ في ذلك، قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أك صاقداً ... ولم أشتم النَكْسَ اللئيم المذمما
ففيمَ عَرَفْتُ الخير والشر باسمه ... وَشَق لي اللّه المدامع والفما
قال: من أين أنت؟ قال: من البصرة، قال: ما تقول فيها؟ قال ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. وكان وزيره عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان واقفاً على رأسه، قال: ما تقول في عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان؟ قال: نعم العبد، منقسم بين ميمون؟ قال: يد تسرق، واست تضرط، وهو بمنزلة يهودي قد سرق نصف خزينة، له إقدام ومعه إحكام، إحسانه تكلف، وإساءته طبيعة فأضحكه ذلك منه، ووصله وصرفه.
هدايا الصفار للمعتضد
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين ورَدَتْ هدايا من قبل عمرو بن الليث الصفار: منها مائة دابة من مَهَاري خراسان وجمازات كثيرة وصناديق كثيرة وأربعة آلاف ألف درهم، وكان معها صنم من صُفْر على مثال امرأة لها أربعة أيْدٍ وعليها وشاحان من فضة مُرَصَّعَانِ بالجوهر الأحمر والأبيض، وبين يحيى هذا التمثال أصنام صغار لها أيد ووجوه وعليها الحلي والجوهر، وكان هذا التمثال على عَجَلٍ قد عمل على مقدارها تجره الجمازات؛ فصير بذلك أجمع إلى دار المعتضد؛ ثم رد هذا التمثال إلى مجلس الشرطة في الجانب الشرقي؛ فنصب للنساء ثلاثة أيام ثم رد إلى دار المعتضد، وذلك في يوم الخميس لأربع خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة؛ فسمت العامة هذا التمثال شغلاً؛ لاشتغالهم عن أعمالهم بالنظر إليه عدة هذه الأيام.
وقد كان عمرو بن الليث قد حمل هذا الصنم من مدن افتتحها من بلاد الهند ومن جبالها مما يلي بلاد بسط ومعبر وبلاد الحوار، وهي ثغور في هذا الوقت - وهيِ سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - مما يليها من الأكافر والأمم - المختلفة حَضرٌ وبدْو، فمن الحضر بلاد كابل وبلاد باميان! وهي بلاد متصلة ببلاد زابلستان والرخج، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار الأمم الماضية والملوك الغابرة أن زابلستان تعرف ببلاد فيروز بن كبك - ملك زابلستان.
وقد كان عيسى بن علي بن ماهان دخل في طلب الخوارج في أيامِ الرشيد إلى السند وجبالها والقندهار والرخج وزابلستان، ويقتل ويفتح فتوحاً لم يتقدم مثلها في تلك الديار؛ ففي ذلك يقول الأعمى الشاعر المعروف بابن العذافر القمي:
كاد عيسى يكون ذا القرنين ... بلغ المغربين والمشرقين
لم يَدَع كابلاً ولا زابلستا ... ن فما حولها إلى الرخجين

وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا الأخبار عن قلاع فيروز بن كبك الملك ببلاد زابلستان التي ليس في قلاع العالم على ما ظهر للناس من ذوي العناية والتنقير ومَنْ أكثر في الأرض المسيَر أحْصَنُ منها، ولا أمنع ولا أعلى في الجو، ولا أكثر عجائل منها وذكرنا عجائب تلك الديار إلى بلاد الطبسين وبلاد خراسان واتصالها بسجستان، وعجائب المشرقين والمغربين من عامر وغامر، وما في العامرمن الأمم المختلفة الخلق والخُلق.
قدوم أهل البصرة على المعتضد
وقد كان أهل البصرة وردوا على المعتضد في مراكب بحرية بيض مشحمة بالشحم والنورة على ما في بحرهم، ووفد فيها خلق من خطبائهم ومتكلميهم وأهل الرياسة والشرف والعلم: منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، وكان مولى آل جُمَح من قريش، وكان ولي القضاء بعد ذلك، يشكون إلى المعتضد ما نزل بهم من محن الزمان، وجدبٍ لحقهم، وجَوْرٍ من العمال اعتورهم، وألحوا بالصياح والضجيج في مراكبهم في دجلة، فجلس لهم المعتضد من وراء حجاب، وأمر الوزير القاسم بن عبيد اللّه وغيره من كتاب الدواوين بالجلوس لهم من حيث يسمع المعتضد خطابهم، فيقصون لهم بما يشكونه من حكم الدواوين، ثم أذن للبصريين فدخلوا، وأبو خليفة في أولهم، عليهم الطيالسة الزرق والأقناع على رؤوسهم، ذوو عوارض جميلة وهيئة حسنة، فاستحسن المعتضد ما رأى منهم، وكان المبتدئ منهم بالنطق أبو خليفة؛ فقال: غمر العامر، ودَثَرَ الظاهر، واختلفت العَوَّاء، وخسفت الجوزاء، وأناخت علينا المصائب، واعتورتنا المحن، وقام كل رجل منا في ظلمة، واصطلمت الضياع، وانخفضت القلاع، فانظر إلينا بعين الِإمام، تستقيم لك الأيام، وتنقاد لك الأنام، وإلا فنحن البصريون لا نُدْفَع عن فضيلة، ولا نتنافس عن جليلة. وسَجعَ في كلامه، وأغرق في خطابه، فقال له الوزير: أحسبك مؤدباً أيها الشيخ، فقال له: أيها الوزير، المؤدبون أجلسوك هذا المجلس، قال له الوزير: كم في خمس من الِإبل. قال له أبو خليفة: الخبيرَ سألت؛ في خمس من الِإبل شاة، وفي العشر شاتان؛ ثم مضى في وصف فرائض الِإبل واصفَاً لما يجب فيها، ذاكراً للتنازع في موضعه منها؛ ثم شرع في البقر والغنم، بلسان فصيح وخطاب حسن في إيجاز من خطاب وبيان من الوصف؟ فبعث المعتضد - وقد أعجبة ما سمع، وأكثر لذلك من الضحك، - بخادم إلى الوزير، فقال له: أكتب لهم عما يريدون، وأجبهم إلى ما سألوه، ولا تصرفهم إلا شاكرين؛ فهذا شيطان قذف به البحر، ومثله فَلْيَفِدْ على الملوك.
أبو خليفة الجمحي
وكان أبو خليفة لا يتكلف الإِعراب، بل قد صار له كالطبْع، لدوام استعماله إياه من عنفوان حداثته، وكان ذا محل من الِإسناد.

وله أخبار ونوادر حسان قد دونت: منها أن بعض عمال الخراج - بالبصرة كان مصروفاً عن عمله، وأبو خليفة مصروفْاً عن قضائه، فبعث العامل إلى أبي خليفة أن مبرمان النحوي صاحب أبي العباس المبرد قد زارني في هذا اليوم إلى بعض الأنهار والبساتين، فأتوه مبكرين مع من حضرنا من أصحابنا، وسألوه الحضور معهم، فجلسوا في سمارية متفكهين قد غيروا ظواهر زيهم حتى أتوا نهراً من أنهار البصرة واستحسنوا بعض البساتين فقدموا إليه وخرجوا إلى الشط وجلسوا تحت النخل على شط النهر وقم إليهم ما حُمل معهم من الطعام وكان أيام المبادي وهي الأيام التي يُثْمِر فيها الرطب فيكبسونه في القواصر تمراً، وتكون حينئذ البساتين مشحونة بالرجال ممن يعمل في التمر من الأكَرَة، وهم الزراع وغيرهم؛ فلما أكلوا قال بعضهم لأبي خليفة غير مكن له خوفاً أن يعرفه مَنْ حضر ممن ذكرنا من الأكَرَةِ والعمال في النخل: أخبرني أطال اللّه بقاءك عن قول اللّه عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً " هذه الواو ما موقعها من الِإعراب. قال أبو خليفة: موقعها رفع، وقوله: " قوا " هو أمر للجماعة من الرجال، قال له: كيف تقول للواحد من الرجال والاثنين؟ قال: يُقال للواحد من الرجال: قِ، وللاثنين قيا، وللجماعة: قوا، قال: كيف تقول للواحدة من النساء وللاثنتين منهن وللجماعة منهن؟ قال أبو خليفة: يُقال للواحدة: قي، وللاثنتين: قيا، وللجماعة: قِينَ. قال: فأسألك أن تعجل بالعَجَلةِ كيف يقال للواحد من الرجال وللاثنين وللجماعة والواحدة من النساء والاثنتين منهن والجماعه منهن؟ قال أبو خليفة عجلان: قِ قيا قوا قي قيا قين، وكان بالقرب منهم جماعة من الأكَرَةِ، فلما سمعوا ذلك استعظموه، وقالوا: يا زنادقة، أنتم تقرءون القرآن بحروف الدجاج، وعَدوْا عليهم فصفعوهم، فما تخلص أبو خليفة والقوم الذين كانوا معه من أيديهم إلا بعد كد طويل.
وقد أتينا على نوادر أبي خليفة ومخاطبته لبغلته حين ألقته وما تكلم به حين دخول اللص إلى داره وغير ذلك في كتابنا الأوسط.
وكانت وفاة أبي خليفة بالبصرة في سنة خمس وثلاثمائة.
ابن الشيخ في آمد
وفي سنة ست وثمانين ومائتين في ربيع الأول نزل المعتضد على آمد، وذلك بعد وفاة أحمد بن عيسى بن الشيخ عبد الرزاق، وقد تحصن بها ولده محمد بن أحمد بن عيسى بن عبد الرزاق، فَبَثَ جيشه حولها وحاصرها، فحدث علقمة بن عبد الرزاق قال: حدثنا رواحة بن عيسى بن عبد الملك، عن شعبة بن شهاب اليشكري، قال: وَجه أبي المعتضد إلى محمد بن عيسى بن الشيخ لأخذ بالحجة عليه، فلما صرت إليه واتصل الخبر بأم الشريف أرسلت إلي، فقالت: يا ابن شهاب، كيف خَلَّفْتَ أمير المؤمنين؟ قال: فقلت: خَلَّفْتُه واللّه ملكاً جذلاً، وحكماً عدلاً، أماراً بالمعروف، فعّالاً للخير، متعززاً على أهل الباطل، متذللاً للحق، لا تأخذة في الله لومة لائم، قال: فقالت لي: هو واللّه أهل لذلك ومستحقه ومستوجبه، وكيف لا يكون ذلك كذلك وهو ظل اللّه الممدود على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، أعزَّ به دينه، وأحيا به سُنّته، وثبَّت به. شريعته، ثم قال لي؛ وكيف رأيت صاحِبِنَا؟ تعني ابن أخيها محمد بن أحمد، قال: فقلت: رأيت غلاماً حَدَثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء فاستمدَّ بآرائهم وأنْصَتَ لأقوالهم، فهم يزخرفون له الكلام، ويوردونه النّدَمَ، فقالت لي: فهل لك أن ترْجع إليه بكتاب فلعلنا أن نَحُل ما عَقَدَه السفهاء؛ قال: قلت: أجل، فكتبَتْ إليه كتاباً لطيفاً حسناً أجزلت فيه الموعظة، وأخلصت فيه النصيحة، وكتبت في آخره هذه الأبيات:
أقْبَلْ نصيحة أمَّ قلبها وَجِعٌ ... عليك، خوفاً وإشفاقاً، وقُلْ سَدَدَا
واستعمل الفكر في قولي فإنك إن ... فَكَّرْتَ ألفَيْتَ في قولي لك الرّشَدَا
ولا تَثِقْ برجال في قلوبهمُ ... ضغائن تبعث الشَنْان والحسدَا
مثل النعاج خمول في بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسُدَا
وَداوِ ذلك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألْقَي إليك يَدَا
واعطِ الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تَمْنَعْهُ مالاً ولا أهلاً ولا ولدا

واردد أخا يشكر ردَاً يكون له ... رِدْءاً من السوء لم تُشْمِتْ به أحدا
قال: فأخذْتُ الكتاب، وسرت به إلى محمد بن أحمد، فلما نظر فيه رمى به إليَ، ثم قال: يا أخا يشكر، بآراء النساء تُسَاس الدول، ولا بعقولهن يُساس الملك، ارجع إلى صاحبك، فرجعت إلى أمير المؤمنين؛ فأخبرته الخبر عن حقه وصدقه، فقال: وأين كتاب أم الشريف؟ قال: فأظهرته، فلما عرضت عليه أعجبه شعرها وعقلها، ثم قال: إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم؛ فلما كان في فتح آمِدَ ما كان ونزل محمد بن أحمد على الأمان لما عظم القتال وَجَّه إليَّ أميرُ المؤمنين فقال: يا شعلة بن شهاب؛ هل عندكم علم من أم الشريف؟ قال: قلت: لا واللّه يا أمير المؤمنين، قال: امْض مع هذا الخادم فإنك تَجِدُها في جملة نسائها، قال: فمضيت، فلما بصرت بي أسفرت عن وجهها وأنشأت تقول:
رَيْبُ الزمان وصَرْفُه ... وعتؤُه كشف القناعا
وأذَلَّ بعد العز منّا الصَعْبَ والبطل الشجاعا
ولقد نصحت فما أُطعت، وكما حرمت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدور إلاَّ ... أن نُقَسَّم أو نباعا
يا ليت شعري هل ترى ... يوماً لفرقتنا اجتماعا
قال: ثم بكت وضربت بيدها على الأخرى، ثم قال لي: يا ابن شهاب، كأني واللّه كنت أرى ما أرى، فإنا للّه وإنا إليه راجعون، قال: فقلت لها: إن أمير المؤمنين قد وَجهَنِي إليك، وما ذاك إلاَ لحسن رأي منه فيك، قالت: فهل لك أن توصل إليه كتابي هذا بما فيه. قلت: نعم، فكتبت إليه بهذه الأبيات:
قل للخليفة والِإمام المرتضى ... وابن الخَلاَئِفِ من قريش الأبطح
بك أصلح اللّه البلاد وأهْلَهَا ... بعد الفساد وطالما لم تصلح
وتزحزحت بك قبة العز التي ... لولاك بعد اللّه لم تتزحزح
وأراك رَبُّكَ ما تحبُّ فلا ترى ... ما لا يُحِبُّ فَجُدْ بعفوك واصْفَح
يا بهجة الدنيا وبَدْرَ ملوكهاهَبْ ظالميّ ومفسديّ لمصلح
قال: فأخذت الكتاب، وسرت به إلى أمير المؤمنين، فلما عرضت عليه الأبيات أعجبته، وأمر أن يحمل إليها تُخُوت من الثياب وجملة من المال، وإلى ابن أخيها محمد بن أحمد مثل ذلك، وشَفّعها في كثير من أهلها ممن عظم جرمه واستحق العقوبة عليه.
حرب مع رافع بن ليث
وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ بمواقعة رافع بن ليث وذلك في سنة تسع وسبعين ومائتين، فسار أحمد بن عبد العزيز إلى رافع، والتَقَوْا بالري لسبع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وأقامت الحرب بينهم أياماً، ثم كانت على رافع بن ليث، فولّى، وركب أصحاب ابن أبي دُلَفَ أكتافهم، واستولوا على عسكرهم، وكان وصول هذا الخبر إلى بغداد لست خلون من ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن الحسن بن سهل يدعو لرجل طالبي

وفي سنة ثمانين ومائتين أخذ ببغداد رجل يعرف بمحمد بن الحسن بن سهل ابن أخي في الرياستين الفضل بن سهل، يلقب بشميلة، ومعه عبيد اللّه بن المهتدي، ولمحمد بن الحسن بن سهل هذا تصنيفات في أخبار المبيضة، وله كتاب مؤلف في أخبار علي بن محمد صاحب الزنج حسب ما ذكرنا من أمره فيما سلف من هذا الكتاب، فأقرَّ عليه جماعة من المستأمنة من عسكر العلوي وأصيبت له جرائد فيها أسماء رجال قد أخذ عليهم البيعة لرجل من آل أبي طالب، وكانوا قد عزموا على أن يظهروا ببغداد في يوم بعينه، ويقتلوا المعتضد، فأدخلوا إلى المعتضد، فأبى مَنْ كان مع محمد بن الحسن أن يقروا وقالوا: أما الرجل الطالبي فإنا لا نعرفه، وقد أخذت علينا البيعة له ولم نَرَهُ، وهذا كان الواسطَةَ بيننا وبينه، يعنون محمد بن الحسن، فأمر بهم فقتلوا، واستبقى شميلة طمعاً في أن يدلّه على الطالبي، وخلّى عبيد الله كل، المهتدي لعلمه ببراءته، ثم أراد المعتضد باللّه بمحمد بن الحسن بجميع الجهات أن يدلّه على الطالبي الذيَ أخذ له العهد على إلى جال، فأبى، وجرَى بينه وبين المعتضد خطب طويل، وكان في مخاطبته للمعتضد أن قال: لو شَوَيْتَنِي على النار ما زدتك على ما سمْعتَ مني، ولم أقر على مَنْ دعوت الناسَ إلى طاعته وأقررت بإمامته، فاصنع ما أنت له صانع، فقال له المعتضد: لسنا نعذبك إلا بما ذكرت، فذكر أنه جعل في حديدة طويلة أدخلت في دبره وأخرجت من فمه وأمسك بأطرافها على نار عظيمة حتى مات بحضرة المعتضد وهو يسبه ويقول فيه العظائم، والأشهر أنه جعل بين رماح ثلاثة وشُدَّ بأطرافها وكتف وجعل فوق النار من غير أن يماسها وهو في الحديدة يدار عليها ويشوى كما يشوى الدجاج وغيرها إلى أن تفرقع جسمه، وأخرج فصلب بين الجسرين من الجانب الغربي.
محاربة بني شيبان
وفي هذه السنة كان خروج المعتضد في طلب الأعراب من بني شيبان، وقد كانوا عَتَوْا وأكثروا الفساد، وأوقع بهم مما يلي الجزيرة والزاب في الموضع المعروف بوادي الذئاب، فقَتَل وأسَرَ وساق الذراري وسار إلى الموصل.
وفي هذه السنة افتتح أبو عبد اللّه بن أبي الساج المراغَةَ من بلاد أذربيجان، فقبض على عبد الله بن الحسين، واستصفى أمواله، ثم أتى عليه بعد ذلك.
فتح عمان
وفي هذه السنة كانت وفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ.
وفي هذه السنة افتتح أحمد بن ثور عمان، وكان مسيره إليها من بلاد البحرين، فواقع الشراة من الأباضية، وكانوا في نحو من مائتي ألف، وكان إمامهم الصَّلْت بن مالك ببلاد بروى من أرض عمان؛ وكانت له عليهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وحمل كثيراً من رؤوسهم إلى بغداد فنصبت بالجسر.
وفيها دخل المعتضد بغداد منصرفا من الجزيرة.
وفي هذه السنة كان دخول عمرو بن الليث نيسابور.
؟ابنة ابن أبي الساج
وفي هذه السنة نقلت ابنة محمد بن أبي الساج إلى بدرٍ غلام المعتضد، وقد أتينا على خبر ابن أبي الساج وما كان من تزويجه ابنته لبدر بحضرة المعتضد وما كان من خبر ابن أبي الساج ورحلته عن باب خراسان متوجهاً إلى أذربيجان في الكتاب الأوسط.
مسير إسماعيل بن أحمد إلى أرض الترك
وفي هذه السنة سار إسماعيل بن أحمد - بعد وفاة أخيه نصر بن أحمد واستيلائه على إمرة خراسان - إلى أرض الترك، ففتح المدينة الموصوفة من مدنهم بدار الملك، وأسر خاتون زوجة الملك، وأسر خمسة عشر ألفاً من الترك وقتل منهم عشرة آلاف، ويقال: إن هذا الملك يقال له طنكش، وهذا الاسم سِمَة لكل ملك مَلَكَ هذا البلد من ملوكهم، وأراه من الجنسين المعروفين بالخدلجية، وقد أتينا فيما سلف من هذا الكتاب على جمل من أخبار الترك وأجناسهم وأوطانهم، وكذلك فيما سلف من كتبنا.
بين وصيف وعمرو بن عبد العزيز

وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين كانت الحرب بين وصيف خادم ابن أبي الساج وعمرو بن عبد العزيز ببلاد الجبل، وكان من أمره ما ذكرنا فيما سلف من كتبنا، وكان المعتضد خرج في هذه السنة إلى الجبل لأمور بلَغته: منها قصة محمد بن زيد العلوي الحسيني صاحب بلاد طبرستان، فولّى ولده عليّاً المكتفي الري، وأنزله بها، وأضاف إليه قزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان، وانصرف المعتضد إلى بغداد وقد قلد عمرو بن عبد العزيز أصبهان وكرخ أبي دُلَفَ وفيها استأمن إلى المكتفي على كوره، وسار إلى المعتضد في عدة كثيرة، وفيها سار طغج بن شبيب أبو الِإخشيد صاحب مصر في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - في عساكر كثيرة من دمشق، فدخل طرسوس غازياً وافتتح ملوريه مما يلي بلاد برغوث وعرب الراهب.
وفي هذه السنة نزل المعتضد على حمدان بن حمدون وقد تحصن في القلعة المعروفة بالصوارة نحو عين الزعفران، وسارع إسحاق بن أيوب العنبري إلى طاعة المعتضد، ودخل في عسكره، واستأمن الحسين بن حمدان بن حمدون ومن كان معه من أصحابه إلى المعتضد، وقد أتينا على خبر حمدان بن حمدون وما كان من أمره وصعوده الجبل الجودي وعبوره دجلة وكاتبه النصراني ودخول عسكر المعتضد ليلاً إلى إسحاق بن أيوب حتى أتى به إلى المعتضد، وإخراب المعتضد لهذه القلعة، وقد كان حمدان أنْفَقَ عليها أموالاً جليلة، وهو حمدان بن حمدون بن الحارث بن منصور بن لقمان، وهو جد أبي محمد الحسن بن عبد اللّه الملقب بناصر الدولة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - وما كان من الحسين بن حمدان في طلبه هارونَ الشاري، وما كان من أخْذِ الحسين بن حمدان إياه، بعد هذا الموضع فيما يَرِدُ من هذا الكتاب.
مقتل أبي الجيش خمارويه
قال المسعودي: وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين ذًبِحَ أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بدمشق في ذي القعدة، وقد كان بَنَى في سفح الجبل أسفل من دير مروان قصراً، وكان يشرب فيه في تلك الليلة، وعنده طغج، وكان الذي تولى ذلك خادماً من خدميهم، وأتى بهم على أميال فقتلوا وصلبوا، ومنهم من رُميَ بالنشاب، ومنهم من شرح لحمه من أفخاذه وعجيزته، وأكله السودان من مماليك أبي الجيش.
الخصيان
وقد أتينا على أخبار الخدم من السودان والصقالبة والروم والصين، وذلك أن أهل الصين يَخْصُون كثيراً من أولادهم كفعل الروم بأولادهم، وما اجتمع عليه الخصيان من التضاد، وذلك لما حدث بهم من قطع هذا العضو، في كتابنا أخبار الزمان وما أحدثته الطبيعة فيهم عند ذلك كما قاله الناس فيهم وما ذكروه من الصفات.
وذكر المدائني أن معاوية بن أبي سفيان دخل ذات يوم على امرأته فاختة - وكانت ذات عقل وحزم - ومعه خصي، وكانت مكشوفة الرأس، فلما رأت معه الخصي غَطّتْ رأسها، فقال لها معاوية: إنه خصي، فقالت: يا أمير المؤمنين، أترى المثلة به أحلَّتْ له ما حرم اللّه عليه. فاسترجع معاوية. وعلم أن الحق ما قالته، فلم يُدْخِل بعد ذلك على حرمه خادماً، وإن كان كبيراً فانياً.
وقد تكلم الناس فيهم، وذكروا الفرق بين المجبوب والمسلوب، وأنهم رجال مع النساء ونساء مع الرجال، وهذا خَلْف من الكلام، وفاسد من المقال، بل هم رجال، وليس في عدم عضو من أعضاء الجسد ما يوجب إلحاقهم بما ذكروا، ولا عدم نبت اللحية محيلاً، لهم عما وصفوا، ومن زعم أنهم بالنساء أشبه فقد أخبر عن تغيير فعل الباري جل وعز، لأنه خَلَقَهم رجالاً لا نساء وذُكْرَانا، لا إناثاً، وليس في الجناية عليهم ما يلقب أعيانهم، ويزيل خَلقَ الباري جل وعز لهم، وقد قلنا في علة عدم نتن الآباط في الخدم وما قالته الفلاسفة فيما سلف من كتبنا، لأن الدم بطيء لا يوجد لآباطه رائحة، وهذا من فضائل الخدم.
نقل جثه خمارويه إلى مصر
وَحُمِلَ أبو الجيش في تابوت إلى مصر، وورد الخبر بذلك إلى مصر يوم الأحد لخمس ليال خَلَوْنَ من ذي الحجة، وكان ذبحه الأيام بقيت من ذي القعدة، فبويع لابنه جيش - وكان خماروَيه به يكنى - من الغد يوم الاثنين، وأتي بأبي الجيش إلى مصر، فأخرج من التابوت، وجعل على السرير، وذلك على باب مصر، وخرج ولده الأمير جيش، وسائر الأمراء والأولياء، فتقدم القاضي أبو عبد اللّه محمد بن عبدة المعروف بالعبداني وصلى عليه، وذلك في الليل.

فحكى أبو بشر الدولابي عن أبي عبد اللّه النجاري - وكان شيخاً من أهل العراق، وكان يقرأ في دور آل طولون وَمَقَابرهم - أنه كان في تلك الليلة ممن يقرأ عند القبر، وقد قدم أبو الجيش ليُدَلّى في القبر، ونحن نقرأ جماعة من القراء سبعة سورة الدخان، فأحدر من السرير، ودلِّيَ في القبر، وانتهَيْنَا من السورة في هذا الوقت إلى قوله عز وجل: " خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ذق إنك أنت العزيز الكريم " قال: فخفضنا أصواتنا وأدغمنا حياء ممن حضر.
من حزم المعتضد
ومما ذكر من خبر المعتضد وحزمه في الأُمور وحيله أنه أطلق من بيت المال لبعض الرسوم في الجند عشرِ بدَرٍ، فحملت إلى منزل صاحب عطاء الجيش ليصرفها فيهم، فنقب منزله في تلك الليلة، وأخذت العشر البدر، فلما أصبح نظر إلى النقب ولم ير المال، فأمر بإحضار صاحب الحرس، وكان على الحرس يومئذٍ مؤنس العجلي، فلما أتاه قال له: إن هذا المال للسلطان والجند، ومتى لم تأت به أو بالذي نقبه وأخذ المال ألزمك أمير المؤمنين غرمه، فجد في طلبه، وطلب اللص الذي جَسَرَ على هذا الفعل، فصار إلى مجلسه، وأحضر التوابين والشرط، والتوابون: هم شيوخ أنواع اللصوص الذين قد كبروا وتابوا، فإذا جرت حادثة علموا مِنْ فِعْل مَنْ هي، فدلُّوا عليه، وربما يتقاسمون اللصوص ما سرقوه، فتقدم إليهم في الطلب، وتهدَّدهم، وأوعدهم، وطالبهم، فتفرق القوم في الدروب والأسواق والغرف والمواخير ودكاكين الرواسين ودور القمار. فما لبثوا أن أحضروا رجلاً نحيفاً ضعيف الجسم رث الكسوة هين الحالة فقالوا: يا سيدي هذا صاحب الفعلة وهو غريب من غير هذا البلد، وأطبق القوم كلهم على أنه صاحب النقب ولص المال، فأقبل عليه مؤنس العجلي فقال له: ويلك!! مَنْ كان معك. وَمن أعانك؟ وأين أصحابك؟ ما أظنك تقدر على عشر بدر وحدك في ليلة، ما كنتم إلا عشرة سة، فأقر لي بالمال إن كان مجتمعاً، وعلىِ أصحابك إن سم، فما زاده على الِإنكار شيئاً، فأقبل يترفقُ به ويَعِدُه أن ظم جائزته، ويعده بكل جميل على رده والِإقرار به، ويتوعده مكروه وهو على جحوده وإنكاره، فلما غاظه ذلك وأنكره ويئس من إقراره أخذ في عقوبته ومساءلته، فضربه بالسوط والقلوس والمقارع والدرة على ظهره وبطنه وقفاه ورأسه وأسفل رجليه وكعابه وعضله، حتى لم يكن للضرب فيه موضع، وبلغ به ذلك إلى حالة لا يعقل فيها ولا نطق، فلم يقر بشيء، فبلغ ذلك المعتضد، فأحضر صاحب الجيش، فقال له: ما صنعت في المال؟ فأخبره الخبر، فقال له: ويلك!! تأخذ لصاً قد سرق من بيت المال عشر بدر فتبلغ به الموت والتلف حتى يهلك الرجل ويضيع المال، فأين حيل الرجال قال: يا أمير المؤمنين ما أعلم الغيب، ولم تكن لي في أمره حيلة غير ما فعلت، قال: أحضرني الرجل فأتي به وقد حمل في جل، فوضع بين يديه وقد قل، فسأله فأنكر، فقال له: ويلك!! إن مُت لم ينفعك، وإن برئت من هذا الضرب ونجوت لم أدعك تصل إليه، فلك الأمان والضمان على ما تصلح به حالتك ويحمد به أمرك فأبى إلا الإنكار، فقال: علي بأهل الطب، فأحضروا، فقال: خذوا هذا الرجل إليكم فعالجوه بأرفق العلاج، وواظبوا عليه بالمراهم والغذاء والتعاهد، واجتهدوا أن تبرئوه في أسرع وقت، فأخذوه إليهم، وأخرج مالاً مكان المال وأمر بتفريقه على الجند، فيقال: إنه بريء وصلح في أيام يسيرة، ثم واظبوا عليه بالطعام والشراب والوطاء والطيب حتى صَحَّ وقوي جسمه وظهر لونه ورجعت إليه نفسه، ثم ذكر به، فأمر بإحضاره، فلما حضر بين يديه سأله عن حاله، فدعا وشكر، وقال:

أنا بخير ما أبقى اللّه أمير المؤمنين، ثم سأله عن المال، فعاد إلى الِإنكار، فقال له: ويلك!!! لست تخلو من أن تكون أخذته وحدك كله أو وصل إليك بعضه، فإن كنت أخذته كله، فإنك تنفقه في أكل وشرب ولهو، ولا أظنك تفنيه قبل موتك، وإن مت فعليك وزره، وإن كنت أخذت بعضه سمحنا لك به، فأقر لنا به، وأقر على أصحابك، فإني أقتلك إن لم تقر، ولا ينفعك بقاء المال بعدك، ولا يبالي أصحابك بقتلك، ومتى أقررت دفعت إليك عشرة آلاف درهم، وأخذت لك من أصحاب الجسر مثل ذلك، ورسمتك من التوابين، وأجريت لك في كل شهر عشرة دنانير تكفيك لأكلك ؤشربك وكسوتك وطيبك، وتكون عزيزاً، وتنجو من القتل، وتتخلص من الِإثم، فأبى إلا الِإنكار، فاستحلف باللّه فحلف وأظهر له مصحفاً واستحلفه فحلف عليه، فقال: إني سأظهر على المال، فإن أنا ظهرت عليه بعد هذه اليمين قتلتك ولم أستبقك، فأبى إلاَّ الِإنكار، فقال له: فضع يدك على رأسي واحلف بحياتي، فوضع يده على رأسه وحلف بحياته أنه ما أخذه وأنه مظلوم متهم، وأن التوابين قد تبرءوا به، فقال له المعتضد: فإن كنت قد كذبت قتلتك وأنا بريء من دمك. قال: نعم، فأمر بإحضار ثلاثين أسود بحيثَ يراهم ويرونه، وأمرهم أن يتناوبوا في ملازمته، فأتت عليه أيام وهو قاعد لا يتكئ ولا يستند و لا يستلقي ولا يضطجع، وكلما خفق خَفْقَاً وجئ فكه وقمع رأسه، حتى إذا ضعف وقارب التلف أمر بإحضاره، فأعاد عليه ما كان خاطبه به واستحلفه باللّه وبغير ذلك من الأيمان، فحلف على ذلك كله وبما لم يستحلفه به أنه ما أخذ المال ولا يعرف من أخذه، فقال المعتضد لمن حضر: قلبي يشهد أنه بريء، وأن ما يقول حق خَفْقَةً، وأن التوابين قد عرفوا صاحبه، وقد أثمنا في هذا الرجل، وسأله أن يجعله في حِلً، ففعل، ثم أمر بإحضار مائدة عليها طعام، وأحضر بارد الشراب، وأمره بالجلوس والأكل والشراب، فأقبل يأكل ويشرب، ويُحَثّ على الأكل، ويلقم ويعاد الشراب عليه ويكرر، حتى لم يبق للأكل والشراب موضع، ثم أمر ببخور وطيب فبخر وطيب، وأتى له بحشية ريش فوطئ له ومهد، فلما استلقى واستراح وغفا أمر بإزعاجه وسرعة إيقاظه، فحمل من موضعه حتى أقعد بين يديه وفي عينيه الوَسَنُ، فقال له: حدثني كيف صنعت: وكيف نقبت: ومن أين خرجت؟ وإلى أين ذهبت بالمال؟ ومَن كان معك؟ قال: ما كنت إلا وحدي، وخرجت من النقب الذي دخلت منه، وكان مقابل الدرا حمام له كوم شوك يوقد به، فأخذت المال ورفعت ذلك الشوك والقماش والقصب فوضعته تحته وغَطَّيته، وهو هنالك، فأمر برده إلى فراشه، فردوه وأضجعوه عليه، ثم أمر بإحضار المال، فأحضر عن آخره، وأحضر مؤنس العجلي، وأحضر الوزير والجلساء، وقد غطى المال بالبساط ناحية من المجلس، ثم أمر بإيقاظ اللص وقد اكتفى في النوم وذهب عنه الوَسَنُ، فقال له بحضرة الجميع مثل قوله الأول، فجحد وأنكر، فأمر بكشف البساط، وقال له: ويلك!! أليس هذا المال؟ أليس فعلت كذا وكذا. يصف له ما كان حَدَّثه به، فأسقط في يد اللص، ثم أمر فقبض على يديه ورجليه وأوثق، ثم أمر بمنفاخ في دبره، وأتي بقطن فحشي في أذنيه وفمه وخيشومه، وأقبل ينفخ، وخلى عن يديه ورجليه من الوثاق؛ وأمسك بالأيدي وقد صار كأعظم ما يكون من الزِّقاق المنفوخة، وقد ورم سائر أعضائه وعظم جسمه، وعيناه قد امتلأتا وبرزَتَا، فلما كاد أن ينشقَّ أمر بعض الأطباء فضربه في عرقين فوق الحاجبين، وهما في الجبين، فأقبلت الريح تخرج منهما مع الدم ولها صوت وصفير إلى أن خمد وتلف، وكان ذلك أعظم منظر رؤي في ذلك اليوم من العذاب، وقيل: إن البدَرَ كانت عَيْناً وإن عددها كان أكثر مما وصفنا.
ابن المغازلي المضحك

وقد كان ببغداد رجل يتكلم على الطريق، ويقصًّ على الناس بأخبار ونوادر ومَضَاحَك ويعرف بابن المغازلي - وكان في نهاية الحذق لا يستطيع من يراه ويسمع كلامه أن لا يضحك - قال ابن المغازلي: فوقفت يوماً في خلافة المعتضد على باب الخاصة أضحك وأنادر؛ فحضر حلقتي بعضُ خدمة المعتضد، فأخذت في حكاية الخدم، فأعجب الخادم بحكايتي، وأشغف بنوادري، ثم انصرف عني، فلم يلبث أن عاد وأخذ بيدي، قال: إني لما انصرفت عن حلقتك دخلت فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين، فذكرت حكايتك وما جرى من نوادرك فاستضحكت، فرآني أمير المؤمنين، فأنكر ذلك مني، وقال: ويلك!! مالك. فقلت: يا أمير المؤمنين على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يُضْحِك ويحاكي، ولا يدع حكاية أعرابي وتركي ومكي ونجدي ونبطي وزنجي وسندي وخادم إلا حكاها، ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثكول وتُصْبي الحليم، وقد أمرني بإحضارك ولي نصف جائزتك، فقلت له وقد طمعت في الجائزة السنية: يا سيدي، أنا ضيف وعليَّ عَيْلَة، وقد مَنَّ اللّه عليَّ بك فما عليك إن أخذت بعضها سدسها أو ربعها، فأبى إلا نصفها، فطمعت في النصف وقنعت به، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فسلمت وأحسنت، ووقفت في الموضع الذي أوقفت فيه، فردَّ عليَّ السلام، وقد كان ينظر في كتاب، فلما نظر في أكثره أطبقه ثم رفع رأسه إليَّ وقال لي: أنت ابن المغازلي؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قد بلغني أنك تحكي وتُضحِك، وأنك تأتي بحكايات عجيبة ونوادر طريفة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تَفْتق الحيلة، أجمع بها الناس، وأتقرب إلى قلوبهم بحكايتها، ألتمس برّهم، وأتعيش بما أناله منهم، قال: فهات ما عندك، وخُذْ في فنك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن لم أضحك فما لي عليك؟ فقلت للحَيْنِ والخذلان: ما معي إلا قَفَاي فاصفعه ما أحببت، وكي شئت، وبما شئت، فقال لي: قد أنصفتَ، إن ضحكت فلك ما ضمنت، وإن أنا لم أضحك صفعتك بهذا الجراب عَشْرَ صفعات، فقلت في نفسي: ملك لا يصفع إلا بشيء يسير، وبشيء خفيف هَيِّن، ثم التفت وإذا أنا بجراب أدَم ناعم في زاوية البيت، فقلصَ في نفسي: ما أخطأ حَزْري، ولا أخْلَفَ ظني، وما عسى أن يكون من جِرَابِ فيه ريح، إن أنا أضحتكه ربحت، وإن أنا لم أضحكه فأمر عشر صفَعات بِجِرَاب منفوخ هَيِّن، ثم أخذت في النوادر والحكايات والنفاسة والعبارة، فلم أدع حكاية أعرابي ولا نحوي ولا مُخَنث ولا قَاضٍ ولا زُطِّي ولا نَبَطِي ولا سندي ولا زنجي ولا خادم ولا تركي ولا شطارة ولا عيارة؛ ولا نادرة ولا حكاية إلا أحضرتها وأتيت بها، حتى نفد جميع ما عندي وتصدَّعَ رأسي وانقطعت وسكت، وَفَتَرْت وَبَرَدْت، فقال لي: هيه، هات ما عندك، وهو مغضب لا يضحك ولا يبتسم ولم يبق ورائي خادم إلا هرب، ولا غلام إلا ذهب لما استَفَزَّهم الضحك وورد عليهم من الأمر، فقلت: يا أمير المؤمنين قد نفد والله ما معي، وتصدَّعَ رأسي، وذهب معاشي، وما رأيت قط مثلك، وما بقيت لي إلا نادرة واحدة، فقال: هاتها، فقلت. يا أمير المؤمنين وعَدْتني أن تصفعني عشراً وجعلتها مكان الجائزة، فأسألك أن تضعف الجائزة وتضيف إليها عشراً، فأراد أن يضحك فاستمسك، ثم قال: نفعل، يا غلام خذ بيده، فأخذ بيدي ومددت قَفَاي فصفعت بالجِرَاب صفعة، فكأنما سقط علىِ قَفَاي قلعة، وإذا فيه حصى مُدَوِّر كأنه صنجات، فصفعت له عشراً كادت أن تنفصل رقبتي وينكسر عنقي طَنت أُذناي، وقدح الشعاع من عيني، فلما استوفيت العشرة صِحْت: يا سيدي، نصيحة، فرفع الصفح عني بعد أن عزم على إيفاء ما كنت سألته من إضعاف جائزتي، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: يا سيدي، إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني عليك نصف الجائزة على قلتها أو كثرتها، وأمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه بفضله وكرمه قد أضْعَفَهَا، فقد استوفيت نصفها، وبقي لخادمك نصفها، فضحك حتى استلقى، واستفزه ما كان قد سمعه مني أولاً، وتحامل له وصبر عليه، فما زال يضرب بيده ويفحص برجله ويمسك بمَرَاق بطنه، حتى إذا سكن ضحكه ورجَعَتْ إليه نفسه قال: عليَّ بفلان الخادم، فأني به، وكان طُوَالاً، فأمر بصفعه، فقالَ: يا أمير المؤمنين، أي شيء قضيتي؟ وأي جناية جنايتي؟ فقلت له: هذه جائزتي، وأنت شريكي، وقد استوفيت نصفها، وبقي نصيبك من منها

فلما أخذه الصفع وطرق قَفَاه الصافع أقبلت عليه أقول له: قلت لك: إني ضعيف مُعْيِل وَشَكَوت إليك الحاجة والمسكنة، وأقول لك: يا سيدي، لا تأخذ نصفها، لك سدسها، لك ربعها، وأنت تقول: ما آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه جوائزه صَفع وهبتها لك كلها، فعاد إلى الضحك من قولي للخادم، وعتابي له، فلما استوفى صفعه وسكن أمير المؤمنين من ضحكه أخرج من تحت تكأته صرَّة قد كان أعَدَّهَا فيها خمسمائة درهم، ثم قال له وقد أراد الانصراف: قِفْ، هذه كنت أعددتها لك، فلم يَدَعْكَ فضولك حتى أحضرت لك شريكاً فيها، ولعلني كنت أمنعه منها. فقلت: يا أمير المؤمنين، أين الأمانة وقبح الخيانة؟ ووعِدْت أنك كنت تدفعها كلها إليه، وتصفعه مع العشرة عشرة أُخرى، وتدفع له الخمسمائة درهم، فقسم الدراهم بيننا، وانصرفنا.فلما أخذه الصفع وطرق قَفَاه الصافع أقبلت عليه أقول له: قلت لك: إني ضعيف مُعْيِل وَشَكَوت إليك الحاجة والمسكنة، وأقول لك: يا سيدي، لا تأخذ نصفها، لك سدسها، لك ربعها، وأنت تقول: ما آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه جوائزه صَفع وهبتها لك كلها، فعاد إلى الضحك من قولي للخادم، وعتابي له، فلما استوفى صفعه وسكن أمير المؤمنين من ضحكه أخرج من تحت تكأته صرَّة قد كان أعَدَّهَا فيها خمسمائة درهم، ثم قال له وقد أراد الانصراف: قِفْ، هذه كنت أعددتها لك، فلم يَدَعْكَ فضولك حتى أحضرت لك شريكاً فيها، ولعلني كنت أمنعه منها. فقلت: يا أمير المؤمنين، أين الأمانة وقبح الخيانة؟ ووعِدْت أنك كنت تدفعها كلها إليه، وتصفعه مع العشرة عشرة أُخرى، وتدفع له الخمسمائة درهم، فقسم الدراهم بيننا، وانصرفنا.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين كانت وفاة إسماعيل بن إسحاق القاضي، والحارث بن أبي أُسامة، وهلال بن العلاء الرقي.
حرب هارون الشاري

وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين نزل المعتضد تكريت، وسار الحسين بن حمدان في الأولياء لحرب هارون الشاري، فكانت بينهم حرب عظيمة كانت للحسين بن حمدان عليه، فأتى به المعتضد أسيراً بغير أمان، ومعه أخوه فدخل المعتضد بغداد، وقد نُصِبَتْ له القباب، وزينت له الطرقات، وَعَبَّأ المعتضد باللّه جيوشه بباب الشماسية أحسن ما يكون من التعبئة وأكمل هيئة، فاشتقوا بغداد إلى القصر المعروف بالحسني، ثم خلع المعتضد على الحسين بن حمدان خِلَعاً شَرَّفَه بها، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من فُرْسَانه ورؤساء أصحابه وأهله، وشهرهم في الناس كرامة لما كان من فعلهم وحسن بلائهم، ثم أمر بالشاري فأركب فيلاً وعليه دُرَّاعَة ديباج، وعلى رأسه برنس خز طويل، وخلفه أخوه على جمل فالج وهو ذو السنامين، وعليه دُرَّاعة ديباج وبرنس خز، وسيرهما في أثر الحسين بن حمدان وأصحابه، ثم دخل المعتضد في أثره عليه قَبَاء أسود وقلنسوة محدودة على فرس صناي عن يساره أخوه عبد اللّه بن الموفق، وخلفه بدر غلامه، وأبو القاسم عبيد اللّه بن سليمان بن وهب وزيره وابنه القاسم بن عبيد اللّه، فأكثر الناسُ الدعاء له، وتكاثف الناس في منصرفهم من الجانب الشرقي إلى الغربي، فأنخسف بهم كرسي الجسر الأعلى، وسقط على زورق مملوء ناساً، فغرق فيِ هذا اليوم نحو من ألف نفس ممن عرف عون من لم يعرف، واستخرج الناس من دجلة بالكلاليب وبالغَاصَةِ، وارتفع الضجيج، وكثر الصُّرَاخ من الجانبين جميعاً، فبينما الناس كذلك إذ أخرج بعض الغَاصَةِ صبيّاَ عليه حلى فاخرة من ذهب وجوهر، فبصر به شيخ من النظارة طَرَّار، فجعل يلطم وجهه حتى أدمى أنفه، ثم تمرغ في التراب، وأظهر أنه ابنه، وجعل يقول: يا سيدي، لم تَمُتْ إذ أخرجوك صحيحاً سيويّاً لم يأكلك السمك، ولم تمت، حبيبي ليتني كحلت عيني بك مرة قتل الموت، وأخذه فحمله على حمار ثم مضى به، فما برح القوم الذين رأوا من الشيخ ما رأوا حتى أقبل رجل معروف باليسار مشهور من التجار حين بلغه الخبر وهو لا يشك إلا أن الصبي في أيديهم، وليس يهمه ما كان عليه من حلى وثياب، وإنما أراد أن يكفنه ويصلي عليه ويدفنه، فخبره الناس بالخبر، فبقي هو ومن معه من التجار متعجبين مبهوتين، وسألوا عنه واستبحثوا، فإذا لا عين ولا أثر، وعَرَفَ تَوَابُو هذا الجسر هذا الشيخ المحتال فأيأسوا أبا الغريق منه، وذكروا أنه شيخِ قد أعياهم أمره وحيرهم كيده، وأنه بلغ من حيله وخبثه ودهائه أنه أتى يوماً من أول الصباح إلى باب بعض العُدُول الكبار المشهورين بالرياسة واليسار ومعه جرة فارغة قد حملها على عاتقه وفأس وزنبيل، فقام في ثوب خَلَقٍ، ولم يتكلم حتى وضع الفأس في الدكاكين التي على باب ذلك العَدْلِ فهدمها، وجعل ينقي الآجر ويعزله، فسمع ذلك العدل بهدمها، ووقع الفأس والهدم، فخرج لينظر فإذا الشيخ دائب يهدم دكاكينه التي على باب دارِهِ، فقال: يا عبد اللّه، أي شيء تصنع؟ ومَنْ أمرك بهذا. فجعل الشيخ يعمل عمله، ولا يلتفت إلى العدل، ولا يكلمه، فاجتمع الجيران وهما في المحاورة، فأخذوا بيد الشيخ، فوكزه هذا، ودفعه هذا، فالتفت إليهم، فقال: مالكم؟ ويلكم!! أي شيء تريدون مني. أما تستحون. تعبثون بي وأنا شيخ كبير.! فقالوا: ما لنا والعَبَثَ بك؟ وَيْحَك!! مَنْ أمرك بهذا؟ قال: وَيْحَكم!! أمرني صاحِبُ الدار، فقالوا: هذا صاحب الدار يكلمك، قال: لا واللّه ما هو هذا، فلما سمعوا كلامه وغفلته رحموه، وقالوا: هذا مجنون أو مخدوع خَدَعَهُ بعض جيران هذا العدل ممن قد حسده على ما أنعم اللّه تعالى به عليه، وهم الذين حملوا هذا الشيخ على هذا الفعل؛ فلما منعوه من الهدم مضى إلى الجرة التي جاء بها - وقد كان وضعها إلى جانب الباب - فأدخل يده فيها كأنه خبأ ثيابه بها، فصرخ وبكى، فلم يَشُكَّ العدلُ أن محتالاً خدعة وأخذ ثيابه، فقال: وأي شيء ذهب لك. قال: قميص جديد اشتريته أمس وَمِلْحَفَة لبيتي وسَرَاويل، فرقوا له جميعاً، ودَعاه العَدْلُ فكساه ووهب له دراهم كثيرة، ووهب له الجيرانُ دراهم كثيرة، وانصرف غانماً، وهذا الشيخ كان يُعْرف بالعقاب، ويكنى بأبي الباز، وله أخبار عجيبةَ وحيل لطيفة وهو الذي احتال للمتوكل، حين بايعه بختيشوع الطبيب أنه إن سرق من داره شيئاً يعرفه في ثلاث ليال ذكرت من ذلك الشهر فعليه أن

يحمل إلى خزانة أمير المؤمنين عشرة آلاف دينار، وإن خرجت هذه الليالي ولم يتم عليه ما ذكرنا فله الضيعة المعين ذكرها في المبايعة، فأتي بهذا الشيخ في عنفوان شبابه إلى المتوكل، فضمن للمتوكل أن يأخذ من دار بختيشوع شيئاً لا ينكره، وقد كان بختيشوع حَرَس داره وحصنها في هذه الليالي، فاحتال هذا الشيخ المعروف بالعقاب بحيل لطيفة إلى أن سرق بختيشوع وجعله في صندوق وأتى به المتوكل، في خبر ظريف، وأنه رسول لعيسى ابن مريم نزل إلى بختيشوع بشمع أسْرَجَه وتخليط عمله وبنج في طعام اتخذه أطعَمَه لحراس داره في تلك الليلة، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا أخبار الزمان وهذا الشيخ قد بَرَّزَ في مكايده وما أورده من حيله على دالة المحتالة وغيرها من سائر المكارين والمحتالين ممن سلف وخلف منهم.مل إلى خزانة أمير المؤمنين عشرة آلاف دينار، وإن خرجت هذه الليالي ولم يتم عليه ما ذكرنا فله الضيعة المعين ذكرها في المبايعة، فأتي بهذا الشيخ في عنفوان شبابه إلى المتوكل، فضمن للمتوكل أن يأخذ من دار بختيشوع شيئاً لا ينكره، وقد كان بختيشوع حَرَس داره وحصنها في هذه الليالي، فاحتال هذا الشيخ المعروف بالعقاب بحيل لطيفة إلى أن سرق بختيشوع وجعله في صندوق وأتى به المتوكل، في خبر ظريف، وأنه رسول لعيسى ابن مريم نزل إلى بختيشوع بشمع أسْرَجَه وتخليط عمله وبنج في طعام اتخذه أطعَمَه لحراس داره في تلك الليلة، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا أخبار الزمان وهذا الشيخ قد بَرَّزَ في مكايده وما أورده من حيله على دالة المحتالة وغيرها من سائر المكارين والمحتالين ممن سلف وخلف منهم.
الكيمياء
ولطلاب صنعة الكيمياء من الذهب والفضة وأنواع الجوهر من اللؤلؤ وغيره وصنعة أنواع الإِكسيرات من الإِكسير المعروف بالفرار وغيره وإقامة الزئبق وصنعته فضة وغير ذلك من خُدَعِهم وحيلهم في القرع والمغناطيس والتقطير والتكليس والبوادق والحطب والفحم والمنافخ أخبار عجيبة وحيل في هذا المعنى قد أتينا على ذكرها ووجوه الخدع فيها وكيفية الاحتيال بها في كتابنا أخبار الزمان وما ذكروه في ذلك من الأشعار، وما عَزَوْهُ إلى من سلف من اليونانيين والروم، مثل قلموبطرة الملكة، ومارية، وما ذكره خالد بن يزيد بن معاوية في ذلك، وهو عند، أهل هذه الصنعة من المتقدمين فيهم، في شعره الذي يقول فيه:
خذ الطلق مع الأشق ... وما يوجد في الطرق
وشيئاً يشبه البرقا ... فدبِّرْهُ بلا حرق
فإن أحببت مولاكا ... فقد سُوِّدْتَ في الخلق
وقد صنف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي رسالة في ذلك، وجعلها مقالتين يذكر فيها تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخُدَعَ أهل هذه الصناعة وحِيَلَهم، وتَرْجَمَ هذه الرسالة بإبطال دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة من غير معادنها، وقد نقض هذه الرسالة على الكندي أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف صاحب الكتاب المنصوري في صناعة الطب الذي هو عشر مقالات، وأرى القول أن ما ذكره الكندي فاسد، وأن ذلك قد يتأتى فعله، ولأبي بكر بن زكريا في هذا المعنى كتب قد صنفها، وأفرد كل واحد منها بنوع من الكلام في هذه الصنعة في الأحجار المعدنية والشعر وفي ذلك من كيفية الأعمال، وهذا باب قد تنازع الناس فيه من فعل قارون وغيره، ونحن نعوذ بالله من التهوس فيما يخسف الدماغ، ويذهب بنور الأبصار، ويكسف الألوان من بخار التصعيدات ورائحة الزاجات وغيرها من الجمادات.
جيش بن خمارويه وأصحابه
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين كان الفداء بالأسْرِ بين المسلمين والروم في شعبان، وكان بدؤه الثلاثاء، وفيه كان مسير جيش بن خمارَوَيه بن أحمد بن طولون من الشام إلى مصر في جيوشه، فخالفه طغج بدمشق بعد ذلك.

وفيها خرج عن عسكر جيش بن خمارويه خاقان المفلحي وبندقة بن كمجور بن كنداج فساروا إلى وادي القرى، ودخلوا مدينة السلام، فخلع عليهم المعتضد، وفيها كان الشغب بمصر، وقتل علي بن أحمد المارداني أبو محمد المارداني المقبوض عليه في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - بمصر، وقبض على جيش بن خماروبه، ونصب أخوه هارون بن خمارويه مكانه، وكانوا قد نقموا على جيش تقدمه لغلامه نجح المعروف بالطولوني وأخيه سلامة المعروف بالمؤتمن، وقد كان أخوه سلامة هذا بعد ذلك صحب جماعة من الخلفاء منهم القاهر والراضي، وأراه مع المتقي في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي عمرو مقدام بن عمرو الرعيني بمصر، ليومين بَقِيَا من شهر رمضان، وكان من جِلّةِ الفقهاء، ومن كبار أصحاب مالك.
وفيها وَلّى المعتضدُ يوسفَ بن يعقوب القضاء بمدينة السلام، وخلع عليه، وانتدبه للجانب الشرقي.
مصادرة ابن الطيب السرخسي ومقتله
وفي هذه السنة - وهي سنة ثلاث وثمانين ومائتين - قبض المعتضد على أحمد بن الطيب بن مروان السرخسي صاحب يعقوب بن إسحاق الكندي، وسَلّمه إلى بحر غلامه، ووَجَّه إلى داره مَنْ قبض على جميع ماله، وقرر جواريه على المال حتى استخرجوه، فكان جملة ما حصل من العين والوَرِقِ وثمن الآلات خمسين ومائة ألف دينار، وكان ابن الطيب قد ولي الحِسْبَة ببغداد، وكان موضعه من الفلسفة لا يُجْهَل، وله مصنفات حسان في أنواع من الفلسفة وفنون من الأخبار.
وقد تنازع الناس في كيفية قتله، والسبب الذي من أجله كان قتل المعتضد إياه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في كتابنا المترجم بالأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته في ذلك الكتاب.
وفيها ورد الخبر بقتل عمرو بن الليث لرافع بن هَرْثَمة.
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين أدخل إلى بغداد رأس رافع بن هرثمة، ثم صُلِبَ ساعة من نهار، ثم رُدَّ إلى دار السلطان.
ثورة
وفي هذه السنة كان لأهل بغداد ثورة مع السلطان لصياحهم بالخدم السودان: يا عقيق، صب ماء واطرح دقيق، يا عاق، يا طويل الساق، وذلك أن الخدم في دار السلطان منهم اجتمعوا فكلموا المعتضد بما يلحقهم في الأزقة والشوارع والحروب وسائر الطرق من الصغير والكبير من العوام، فأمر المعتضد بجماعة من العامة، فضربوا بالسياط، فشغب العامة لذلك.
وفي هذه السنة ظهر للمعتضد شخص في صور مختلفة في داره، فكان تارة يظهر في صورة راهب في لحية بيضاء وعليه لباس الرُّهْبَان، وتارة يظهر شاباً حسن الوجه ذا لحية سوداء بغير تلك البِزَّة، وتارة يظهر شيخاً أبيض اللحية ببِزَّة التجار، وتارة يظهر بيده سيف مسلول، وضرب بعض الخدم فقتله، فكانت الأبواب تؤخذ وتغلق فيظهر له أين كان في بيت أو صحن أو غيره، وكان يظهر له في أعلى الدار التي بناها، فأكثر الناس القول في ذلك، واستفاض الأمر، واشتهر في خواص الناس وعوامهم، وسارت به الركبان، وانتشرت به الأخبار والقول في ذلك على حسب ما كان يقع لكل واحد منهم، فمن قائل: إن شيطاناً مَرِيداً صمد له يظهر فيؤذيه، ومنهم من يقول: إن بعض مؤمني الجن رأى ما هو عليه من المنكر وسَفْك الدماء فظهر له رادعاً وعن المنكر زاجراً، ومنهم من رأى أن ذلك بعض خدمهِ كان قد هوى بعض جواريه فاحتال بحيلة فلسفية من بعض العقاقير الخاصة فيضعها في فمه فلا يحرك بحاسة البصر، وكل ذلك ظن وحسبان، فأحضر المعتضد المعزمين، واشتدَّ قَلَقُه، واستوحش، وجاز عليه أمره، فقتل وغرق جماعة من خدمه وجواريه، وضرب وحبس جماعة منهم، وقد أتينا على الخبر في ذلك وما حكي عن أفلاطون في هذا المعنى، وعلى خبر شغب أم المقتدر باللّه والسبب الذي من أجله حبسها المعتضد وأراد قطع أنفها والتشويه بها في كتابنا أخبار الزمان.
وفي هذه السنة وَرَدَ الخبر بقتل أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بنِ أبي دُلَف بسيفه لنفسه في الحرب، وذلك أن سيفه كان على عاتقه مشهراً فكبابه فرسه فذبحه سيفه، فأخذ عيسى النوشري رأسه وأنفذه إلى بغداد.
يوم الأجفر

وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وقع صالح بن مدرك الطائي في نبهان وسنبس وغيرهم من طيئ بالحاج، وعلى الحاج جيء الكبير، وكانت لجيء مع صالح ومَنْ معه من الطائيين حرب عظيمة في الموضع المعروف بقاع الأجفر، وتشوش الحاج وأخذهم السيف، فمات عطشاً وقتلاً خلائقُ من الحاج، وأصاب جيء ضربات كثيرة، وكانت العرب ترتجز في ذلك اليوم وتقول:
ما إن رأى الناس كيوم الأجفر ... الناس صَرْعَى والقبور تحفر
وأخذ من الناس نحو من ألفي دينار.
وفاة إبراهيم بن محمد الحربي الفقيه
وفي هذه السنة - وهي سنة خمس وثمانين ومائتين - كانت وفاة أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه المحدث في الجانب الغربي، وله خمس وثمانون سنة، وكانت وفاته يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة، ودفن مما يلي باب الأنبار وسارعِ السكبش والأسد، وكان صدوقاً عالماً فصيحاً جواداً عفيفاً، وكان زاهداَ عابداً ناسكاً، وكان - مع ما وصفنا من زهده وعبادته - ضاحك السن، ظريف الطبع، سلس القياد، ولم يكن معه تجبر ولا تكبر، وربما مزح مع أصدقائه بما يستحسن منه، ويُسْتقبح من غيره، وكان شيخ البغداديين في وقته، وظريفهم، وناسكهم، وزاهدهم، ومسندهم في الحديث، وكان يتفقه لأهل العراق، وكان له مجلس يوم الجمعة في المسجد الجامع الغربي.
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن جابر قال: كنت أجلس يوم الجمعة في حلقة إبراهيم الحربي، وكان يجلس إلينا غلامان في نهاية الحسن والجمال من الصورة والبزَّة من أبناء التجار من الكرخيين، وبزَّتهما واحدة، كأنهما روحان في جسد، إن قاما قاما معاً، وإن قعدا قعدا معاً، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما وقد بان الاصفرار بوجهه والانكسار في عينيه، فتوسمت أن غيبة الآخرة لعلة وقد لحق الحاضر من أجل ذلك الانكسار، فلما كان الجمعة الثانية حضر الغائب ولم يحضر الذي كان في الجمعة الأولى منهما، وإذا الصفرة والِإنكسار بين في لونه ونشاطه، فعلمت أن ذلك للفراق الواقع بينهما، ولأجل الألفة الجامعة لهما، فلم يزالا يتسابقان في كل جمعة إلى الحلقة، فأيهما سبق صاحبه إلى الحلقة لم يجلس الآخر، فصح عندي ما كان تقدم في نفس جواز كونه، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما فجلس إلينا، وجاء الآخر فأشرف على الحلقة، فإذا صاحبه قد سبق، إذا المسبوق المطلع إلى الحلقة قد خنقته العَبْرة، فتبينت ذلك في حماليق عينيه، وإذا في يسراه رقاع مكتوبة فقبض بيمينه رقعة من تلك الرقاع وحذف بها في وسط الحلقة، وانساب بين الناس ماراً مستحياً، وأنا أرْمُقه ببصري، وكذلك جماعة ممن كان جالساً في الحلقة، وكان إلى جانبي على اليمين أبو عبد اللّه علي بن الحسين بن حوثرة، وذلك في عنفوان الشباب وأوان الحداثة، فوقعت الرقعة بين يحي إبراهيم الحربي، فقبضس عليها ونَشَرَها وقرأها، وكان من شأنه فعل ذلك إذا وقعت فىِ يده رقعة فيها دعاء أن يدعو لصاحبها مريضاً كان أو غير ذلك، ويؤمِّنُ على دعائه مَنْ حضر، فلما قرأ الرقعة أقبل يتأمل ما فيها تأملاً شافياً لأنه رأى ملقيها، ثم قال: اللهم اجمع بينهما، وألِّف بين قلوبهما، واجعل ذلك مما يقرب منك ويُزْلِف لديك، وأمَّنُوا على دعائه كما جرت العادة منهم بفعله، ثم أعرج الرقعة بسبَّابته وإبهامه وحذفني بها، فتأملت ما فيها، وقد كنت مستطلعاً نحوها لتبين الملقى لها، فإذا فيها مكتوب:
عَفَا اللَّه عن عبد أعَانَ بدعوة ... لًخِلّين كانا دائمين على الود
إلى أن وشى واشي الهوى بنميمة ... إلى ذاك من هذا فحالا عن العهد
فكانت الرقعة معي فلما كانت الجمعة الثانية حضرا معاً وإذا الاصفرار والانكسار قد زالا عنهما، فقلت لابن حوثرة: إني لأرى الدعوة قد سبقت لهما بالإِجابة من اللّه تعالى، وإن دعا الشيخ كأن على التمام إن شاء اللّه تعالى؛ فلما كان في تلك السنة كنت ممن حج فكأني أنظر إليهما بين مِنِى وعرفات محرمين جميعاً، فلم أزل أراهما متآلفين إلى أن كهلا، وأرى أنهما في صف أصحاب الديباج في الكرخ، أو غيره من الصفوف.
إبراهيم بن جابر القاضي

قال المسعودي: وهذا الخبر سمعته من إبراهيم بن جابر القاضي قبل ولايته القضاء، وهو يومئذ ببغداد يعالج الفقر، ويتلقاه من خالقه بالرضا، ناصراً للفقر على الغنى، فما مضت أيام حتى لقيته بحلب من بلاد قنسرين والواصم من أرض الشام، وذلك في سنة تسع وثلاثمائة، وإذا هو بالضد عما عهدته، متولياً القضاء على ما وصفنا، ناصراً ومشرفاً للغنى على الفقر، فقلت له: أيها القاضي، تلك الحكاية التي كنت تحكيها عن الوالي الذي كان بالري، وأنه قال لك: إن الخواطر اعترضتن بين منازل الفقراء والأغنياء، فرأيت في النوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقال لي: يا فلان؟ ما أحَسَنَ تواضع الأغنياء للفقراء شكراً لله تعالى وأحسن من ذلك تعزز الفقراء على الأغنياء ثقة باللّه تعالى، فقال لي؛ إن الخلق تحت التدبير لا ينفكون من أحكامه في جميع متصرفاتهم، وكنت كثيراً ما أسمعه فيما وصفنا من حال فقره يذمُ ذوي الحرص على الدنيا، ويذكر في ذلك خبراً عن علي كرم اللّه وجهه - وهو أن عليّاً عليه السلام كان يقول: ابنَ آدمَ؛ لا تتحمل هَم يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه؛ فإنه إن يكن من أجَلِكَ يأت اللّه فيه برزقك، واعلم أنك لن تكتسب شيئاً فوق قُوتك إلاَّ كنت خازناً فيه لغيرك - فركب بعد ذلك الهماليج من الخيل.
ولقد أخبرت أنه قطع لزوجته أربعين ثوباً تسترياً وقصباً وأشباه ذلك من الثياب على مقراض واحد، وخَلَّفَ مالاً عظيماً لغيره.
وفاة المبرد
وفي هذه السنة - وهي سنة خمس وثمانين ومائتين - وكانت وفاة أبي العباس محمد بن يزيد النحوي المعروف بالمبرد، ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وله تسع وسبعون سنة، ودفن بمقابر باب الكوفة من الجانب الغربي بمدينة السلام.
وفي سنة ست وثمانين ومائتين مات محمد بن يونس الكوفي المحدث، ويكنى بأبي العباس، يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة، وله مائة سنة وست سنين، ودفن بمقابر باب الكوفة من الجانب الغربي، وكان عالي الِإسناد.
وفي هذه السنة كان الفَزَعُ من أبي سعيد الجنابي بالبصرة ومن معه بالبحرين خوفاً من أن يكبسها، وكتب الواثقي - وهو أحمد بن محمد، وكان على حربها - إلى المعتضد بذلك، فأطلق لسورها أربعة عشر ألف دينار فبنيت وحصنت.
أبو الأغر والأعراب
وفي هذه السنة ظفر أبو الأغر خليفة بن المبارك السلمي بصالح بن مدرك الطائي بناحية فيد مكراً في ذهابهم إلى مكة، وقد كانت الأعراب جمعت لأبي الأغر ليستنقذوا صالحاً من يده، فواقعهم وقتل رئيسهم جحش بن ذيال وجماعة معه، وأخذ رأسه، فلما علم صالح بن مدرك بقتل جحش بن ذيال يئس من الخلاص من يد أبي الأغر، فلما نزل المنزل المعروف بمنزلة القرشي أتاهم غلام بطعام فاستلب منه سكَيناً وقتل نفسه، فأخذ أبو الأغر رأسه وأظهره بالمدينة، فتباشر الحاجُّ، وكانت لأبي الأغر في رجوعه وقعة عظيمة اجتمع هو ونحرير وغيرهما من أمراء قوافل الحاج مع الأعراب، وكانت الأعراب قد اجتمعت وتحشدت من طيئ وأحلافها، فكانت رَجَّالتها نحواً من ثلاثة آلاف راجل، والخيل نحواً من ذلك، فكانت الحرب بينهم ثلاثاً، وذلك بين معدان القرشي والحاجز، ثم انهزمت الأعراب وسلم الناس، وكان ممن تولى مع أبي الأغر الحيلة على صالح بن مدرك سعيد بن عبد الأعلى.
ودخل أبو الأغر مدينة السلام وقدَّامه رأس صالح وجحش ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أساري، وهم بنو عم صالح بن محرك، فخلع السلطان في ذلك اليوم على أبي الأغر، وطًوّقه بطوق من ذهب، ونصب الرؤوس على الجسر من الجانب الغربي، وأدخل الأساري المطبق.
أحداث
وفي هذه السنة مات إسحاق بن أيوب العبيدي وكان على حرب ديار ربيعة. وفيها شخص العباس بن عمر الغنوي إلى البصرة لحرب القَرَامطة بالبحرين.
وفي هذه السنة كانت الحرب بين إسماعيل بن أحمد وعمرو بن الليث صاحب بلخ فأسر عمرو، وقد أتينا على كيفية أسره في الكتاب الأوسط.

وفي رجب من هذه السنة، وهي سنة سبع وثمانين ومائتين كان خروج العباس بن عمرو من البصرة في جيش عظيم ومعه خلق من المطوعة نحو هجر، فالتقى هو وأبو سعيد الجنابي، فكانت بينهم وقائع انهزم فيها أصحاب العباس، وأسر وقتل من أصحابه نحو سبعمائة صبراً، دون من هلك من الرمل والعطش، فأحرقت الشمس أجسادهم؛ ثم إن أبا سعيد من علَى العباس بن عمرو بعد ذلك فأطلقه فصار إلى المعتضد فخلع عليه وبعد هذه الوقعة افتتح أبو سعيد مدينة هجر بعد حصار طويل، وقد أتينا على مبسوط هذه الحروب والسبب الذي من أجله كانت تخلية أبي سعيد العباس بن عمرو الغنوي في كتابنا الأوسط، وما كان من أمر العباس عمرو مع مَنْ بالبحرين من قومه وعصبتهم له.
الداعي العلوي
وفي هذه السنة - وهي سنة سبع وثمانين ومائتين - كان مسير الداعي العلوي من طبرستان إلى بلد جرجان في جيوش كثيرة من الديلم وغيرهم فلقيته جيوش المسودة من قبل إسماعيل بن أحمد، وعليها محمد هارون، فكانت وقعة لم ير مثلها في ذلك العصر، وصبَرَ الفريقان جميعاً وكانت للمبيضة على المسودة، ثمِ كانت مكيدة من محمد بن هارون لما رأى من ثبوت الديلم على مَصَافها، فلم ينقض صفوفه، وولى فأسرعت الديلم ونقضت صفوفها، فرجعت عليهم المسودة، وأخذ السيف، فقتل منهم بشر كثير وأصاب الداعي ضربات، وذلك أن أصحابه لما نقضوا صفوفهم في الغنيمة ولم يعرجوا عليه ثبت مع من وقف لنصره فكرت عليهم الجيوش، فأسفرت الحرب وقد أثخِنَ يا لكُلُوم، وأسر ولى زيد بن محمد بن زيد وغيره، وبقى محمد الداعي أياماً يسيرة، وتوفى لما ناله، فدفن بباب جرجان وتبره هناك معظم إلى هذه الغاية.
وقد أتينا على خبره بطبرستان وغيرها وما كان من سيرته، وخبر بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف حين دخل إليه مسنامناً في كتابنا أخبار الزمان وكذلك ذكرنا خبر يحيى بن الحسين الحسني الرسي باليمن، وتظافره هو وأبو سعد بن يعفر على كان من حروبهم باليمن مع القَرَامطة، وما كان من أمرهم مع علي بن الفضل صاحب المذيخرة، وما كان من قصته وخبر وفاته، وقصة شيخ لاعة صاحب قلعة نحل، وحبر وللى إلى هذا الوقت بها - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - ونزول يحيى بن الحسين الرسي مدينة صعدة من بلاد اليمن، وخبر ولده أبي القاسم، وخبر ولد ولده إلى هذه الغاية وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً منبهين على ما قدمنا من تصنيفنا مما بطناه من أخبار من ذكرناه وشرحنا من قصصهم وسيرهم وما كان منهم.
المعتضد ووصيف الخادم

وفي هذه السنة - وهي سنة ثمان وثمانين ومائتين - كان دخول المعتضد إلى الثغر الشامي في طلب وصيف الخادم، وراسله رشيق المعروف بالخزامي، واستأمن بالمعتضد وصيف البكتمري وغيره من القواد قواد الخادم، وأصحابه، ولد كان وصيف الخادم لما أخِذَ الأكثر من أصحابه أراد الدخول إلى أرض الروم تعلق بالدروب، وقد كان المعتضد أسرع في السير من بغداد وسَتَرَ أخباره ولم يعلم بذلك وصيف مع شدة حذره وتفقده لأمره، حتى عبر المعتضد الفرات وسار إلى الشام، فلم يُفْلح جسد المعتضد لذلك لما أتعب نفسه في سرعة السير، وقد كان المعتضد لما توسط الثغر الشامي خلف سواده بالكنيسة السوداء، وجرد القواد في طلب وصيف، فساروا في طلبه خمسة عشر ميلاً إلى أن أدركه أوائل الخيل وفيهم خاقان المفلحي ووصيف موشكين وعلى كورة وغيرهم من القواد، فقاتلهم وصيف، وذلك في الموضع المعروف بدرب الجب، فلما أشرف المعتضد ووصيف قد خَذَلَه أصحابه وتفرق عنه جمعه أسر وأتي به المعتضد، فسلمه إلى مؤنس الخادم، وأمن جميع أصحابه إلا نفراً انضافوا إليه من الثغر الشامي وغيره وأحرق المعتضد المراكب الحربية، وحمل من طرسوس أبا إسحاق إمام الجامع، وأبا عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي صاحب مدينة أذَنَةَ من الثغر الشامي وغيرهم من البحريين مثل البغيل وابنه، وكان دخول المعتضد إلى مدينة السلام في المساء لسبع خلون من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين، ودخل جعفر بن المعتضد وهو المقتدر وبدر الكبير وسائر الجيش عَلَى الظهر، وقد زينت الطرق، وبين أيدي وصيف الخادم عَلَى جمل فالج وعليه دراعة ديباج وبرنس، وخلة عَلَى جمل آخر البغيل، وخلف البغيل ابنه على جمل آخر، وخلف البغيل على جمل آخر رجل من أهل الشام يعرف بابن المهندس، وقد لبسوا الدراريع من الحرير الأحمر والأصفر، وعلى رؤوسهم البرانس وطُوِّق وسُوِّرَ خاقان المفلحي وغيره من القواد ممن أبْلَى في ذلك اليوم الذي كان فيه أسر وصيف الخادم، وقد كان المعتضد أراد استحياء وصيف الخادم وأسف على كوت مثله لشهامته وحسن حيله وإقدامه، ثم قال: ليس في طبع هذا الخادم أن يرأسه أحد، بل في طبعه أن يرؤس في نفسه؛ وقد كان بعث إليه بعد أن قبض عليه وأوثق بالحديد: هل لك من شهوة؟ قال: نعم، باقة من الريحان أشمها، وكتب من سير الملوك الغابرة أنظر فيها، فلما رجع الرسول إلى المعتضد وأخبره بما سأله أمر له بما طلب، وأمر من يراعي نظرة في الكتب، في أي فصل ينظر؟ فأخبر أو يديم النظر في سير الملوك وحروبها ومحنها، عون سائر ما حمل إلى حضرته من الدفاتر، فتعجب المعتضد وقال: هو يُهَوِّنُ على نفسه الموت.
وفي هذه السنة كانت وفاة أبي عبيد اللّه محمد بن أبي الساج بأذربيجان، فاختلفت كلمة أصحابه وغلمانه بعده؟ فمنهم من انحاز إلى أخيه يوسف بن أبي الساج، ومنهم من انحاز إلى ولده بودار.
وفي هذه السنة - وهي سنة ثمان وثمانين ومائتين - كانت وفاة أبي علي بشر بن موسى بن صالح بن صبيح بن عمير، المحدث، وله ثمان وسبعون سنة، ودفن في الجانب الغربي بمقابر باب التين.
وفي هذه السنة أدخل عمرو بن الليث إلى مدينة السلام في جمادى الأولى، قدم به عبد اللّه بن الفتح رسول السلطان، فشهر عمرو، وأركب على جمل فالج وقد ألبس دراعة ديباج وخلفه بحر والوزير القاسم بن لبيد اللّه في الجيش، فأتوا به الثريا، فرآه المعتضد، ثم أدخل المطامير، وقد كان في هذا الوقت ثارت عساكر الشاكرية من قبل طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غضباً لجده عمرو، ولحقته ببلاد الأهواز، وخرجت عن حدود فارس، واضطرب الأمر، وبعث المعتضد عبد اللّه بن الفتح وأشناس إلى إسماعيل بن أحمد ومعهما هدايا، منها: مائة بدنة ديباج، منسوجة بالذهب، مُرَصَّعَة بالجوهر، ومنطقة ذهب مرَصَّعَة بالجوهر، وغير ذلك من الجواهر، وثلاثمائة ألف دينار ليفرقها في أصحابه، ويبعثهم إلى بلاد سجستان إلى حرب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، وأمر عبد اللّه بن الفتح أن يحمل في طريقه من خراج ما يجتاز به ن بلاد الجبل عَشَرَةَ آلاف ألف درهم، ويضيفها إلى الثلاثمائة ألف دينار، سار بدر غلام المعتضد باللّه في عساكره إلى بلاد فارس من هذه السنة، فنزل شيراز، وانكشف عن البلد الشاكرية.
وفاة وصيف الخادم

وفي أول يوم من المحرم - وهو يوم الثلاثاء من سنة تسعِ وثمانين ومائتين - توفي وصيف الخادم، فأخرج وصلب على الجسر بدقَ بلا رأس، وقد كان الخدم سألوا المعتضد أن يستروا عورته، فأباح لهم ذلك، فألبس ثياباً، وَلُفَّ عليه ثوب جديد، وخيط على مكان الثياب من سرته إلى الركبتين، وطلى بدنه بالصبر وغيره من الأطلية القابضة والماسكة لأجزاء جسمه، فأقام مَصْلُوباً على الجسر لا يبلى إلى سنة ثلاثمائة في خلافة المقتدر باللّه.
وفي هذه السنة شغب الجند والعامة، فعمدت العامة إليه تماجُناً وحطوه من فوق الخشبة، وقالوا: قد وجب علينا حق الأستاذ أبي علي وصيف الخادم لطول مجاورته لنا وصبره علينا، ولا يبلى على هذه الخشبة، فلفوه في رداء بعضهم، وحملوه على أكتافهم، وهم نحو من مائة ألف من الناس: يرقصون ويغنون ويصيحون حوله: الأستاذ، الأستاذ، فلما ضجروا من ذلك طرحوه في دجلة فغرق في ذلك اليوم منهم قوم في دجلة وذلك أنهم شَيِّعوه في الماء سباحة، فغرق منهم في جرية الماء خلق كثير.
أبو الفوارس القرمطي
وفي هذه السنة أتي بجماعة من القَرَامطة من ناحية الكوفة، منهم المعروف بأبي الفوارس فأدخلوا على الجمل، فأمر المعتضد باللّه بقتل أبي الفوارس بعد أن قطعت يداه ورجلاه، وصلب إلى جانب وصيف الخادم، ثم حول إلى ناحية الكنائس مما يلي الياسرية من الجانب الغربي، فصلب مع قَرَامطة هناك.
وقد كان لأهل بغداد في قتل أبي الفوارس هذا أراجيف كثيرة وذلك أنه لمِّا قُدِّمَ ليضرب عنقه أشاعت العامة أنه قال لمن حضر قتله من العوام: هذه عمامتى تكون قبلك، فإني راجع بعد أربعين يوماً، فكان يجتمع في كل يوم خلائق من العوام تحت خشبته ويحصون الأيام ويقتتلون ويتناظرون في الطرق في ذلك، فلما تمت الأربعون يوماً - وقد كان كثر لغطهم، واجتمعوا، فكان بعضهم يقول: هذا جسده، ويقول آخر: قد مًر، وإنما السلطان قتل رجلاً آخر وصلبه لكي لا يفتتن الناس - فكثر تنازع الناس في ذلك حتى نودي بتفريقهم، فترك التنازع والخوض فيه.
المعتضد والطالبيون
وكان ورد مال من محمد بن زيد من بلاد طبرستان ليفرق في آل أبي طالب سِرّاً، فغمز بذلك إلى المعتضد، فأحْضَرَ الرجل الذي كان يحمل المال إليهم، فأنكر عليه إخفاء ذلك، وأمره بإظهاره، وقَرَّبَ آل أبي طالب، وكان السبب في ذلك قرب النسب، ولما أخبَرَنَا به أبو الحسن محمد بن عليّ الوراق الأنطاكي، الفقيه المعروف بابن الغنوي بأنطاكية، قال: أخبرني محمد بن يحيى بن أبي عباد الجليس، قال: رأى المعتضد بالله وهو في سجن أبيه كأن شيخاً جالساً على دجلة، يمدُّ يَدَهُ إلى ماء دجلة، فيصير في يده وتجفُّ دجلة، ثم يردُّه من يده، فتعود دجلة كَما كانت، قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا علي بن أبي طالب عليه السلام! قال: فقمت إليه وَسَلّمت عليه، فقال: يا أحمد، إن هذا الأمر صائر إليك، فلا تتعرض لولدي، ولا تؤذِهِمْ، فقلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
وغَمّ الناسَ تأخُّرُ الخراج عنهم، وكان إنعام المعتضد عليهم، فقالت الشعراء في ذلك وأكثرت، ووصفت في أشعارها ذلك وأطْنَبَتْ، فممن وصف فأحسن يحيى بن علي المنجم، فقال:
يا مُحْيي الشرف اللّبَابْ ... وَمُجَددَ الملك الخراب
ومعيد رُكْن الدِّين فينا ... ثابتاً بعد اضطراب
فَت الملوك مبرزاً ... فَوْت المبرز في الحِلاَب
اسْعَد بنيروز جمعت الشكر فيه إلى الثواب
قدمت في تَأخِيرِ مَا ... قد قَدَّمُوه إلى الصَوَاب
وقوله:
يَوْم نيروزك يَوْم ... واحد لا يَتَأَخَّرْ
من حَزِيرَان يُوَافِي ... أبَداً في أحد عَشَرْ
وصول قطر الندى للمعتضد
وكان وصول قطر الندى بنت خمارويه إلى مدينة السلام مع ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ ففي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
يا سيد العرب الذي زُفَتْ له ... باليمن والبركات سيدة العجم
أسْعَد بها كسعودها بك ... إنها ظفرت بما فوق المطالب والهمم
ظفرت بِمَلأىْ نَاظِرَيْهَا بهجةً ... وضمير هانُبْلاً، وَكَفّيْهَا كَرَم

شمس الضحى زفت إلى بدر الدجى ... فتكشفت بهما عن الدنيا الظُّلَم
ولما دخل عمرو بن الليث مدينة السلام من المصلى العتيق رافعاً يديه يدعو وهو على جمل فالج، وهو ذو السنامين، وكان أنفذهُ إلى المعتضد في هدايا تَقدَمت له قبل أسره، فقال في ذلك الحسن بن محمد بن فهم:
ألم تَرَ هذا الدهر كيف صُروفه ... يَكُون عسيراً مرّةَ ويسيرا
وَحَسْبُكَ بالصفّار نُبْلاً وَعِزٌة ... يروح وَيَغْدُو في الجيوش أميرا
حَبًاهُم بأجمال، ولم يَدْرِ أنَّه ... عَلَى جمل منها يُقَاد أسيرا
وفي ذلك يقول محمد بن بَسّام:
أيهَا المُعْتَرّ بالدنيا أما أبصرت عَمْرَا
مُقْبلاً قد أركب الفا ... لج بعد الملك قَسْرَا
وعليه بُرْنُسُ السخْطَة إذلالاً وَقَهْرَا
رافعاً كَفّيْهِ يدعو اللَه إسراراً وَجَهْرَا
أن ينجيه من القَتْل وأن يعمل صفْرَا
ولما ظَهَرَ قتل محمد بن هارون لمحمد بن زيد العلوي أظهر المعتضد لذلك النكير والحزن، تأسفاً على قتله.
وكانت وفاة نصر بن أحمد صاحب ما ورَاء نهر بلخ في أيام المعتضدُ، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين، وصار الأمر إلى أخيه إسماعيل بن أحمد.
وفاة جماعة من الأعيان
وكانت وفاة أحمد بن أبي طاهر الكاتب صاحب كتاب - أخبار بغداد سنة ثمانين ومائتين.
وفيها كانت وفاة أحمد بن محمد القاضي الذي يحدث.
وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي الدنيا القرشي مؤدِّبِ المكتفي باللّه، في المحرم، وهو صاحب الكتب المصنفة في الزهد وغيره.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي سهل محمد بن أحمد الرازي القاضي المحدِّثِ.
وإنما نذكر وفاة هؤلاء لدخولهم في التاريخ، وَحَمْل الناس العِلْمَ عنهم من الآثار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وكانت وفاة عبيد اللّه بن شريك المحدث في سنة خمس وثمانين ومائتين ببغداد.
وفيها كانت وفاة بكر بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ بطبرستان.
وفيها مات محمد بن الحسين الجنيد.
وفي سنة ثمان وثمانين ومائتين مات أبو علي بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة البغدادي، وكانت وفاة أبيه أبي محمد موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي في سنة سبع وخمسين ومائتين في خلافة المعتمد على اللّه، وله نيف وتسعون سنة، وقُبِضَ ولده وهو ابن تسع وتسعين سنة.
وفيها مات أبو المُثَنَّى معاذ بن المُثَنَّى بن معاذ العنبري في أيام المعتضد.
قال المسعودي: وقد ذكرنا من اشتهر من الفقهاء والمحدثين وغيرهم من أهل الآراء والأدب في كتابينا أخبار الزمان والأوسط وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً مُلَوِّحين على ما سلف.
وفاة المعتضد
وكانت وفاة المعتضد لأربع ساعات خلت من ليلة الاثنين لثمانٍ بَقِينَ من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، في قصره المعروف بالحسني، بمدينة السلام، وقيل: إن وفاته كانت بسمّ إسماعيل بن بلبل قبل قتله إياه، فكان يَسْرِي في جسده، ومنهم من ذكر أن جسمه تحلل في مسيره في طلب وصيف الخادم على ما ذكرنا، ومنهم مَنْ رأى أن بعض جواريه سًمَتْهُ في منديل أعطته إياه يتنشَّفُ به، وقيل غير ذلك مما عنه أعرضنا.
وقد كان أوصى أن يُدْفَنَ في دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، في الجانب الغربي من الدار المعروفة بدار الرخام، فلما اعتراه الغَشْيُ ووقع للموت شَكُوا في وفاته، فتقدم الطبيب إلى بعض أعضائه فجسه فأحس به وهو على ما به من السكرات، فأنف من ذلك وَرَكَلَه برجله فقلبه أذرعاً، فيقال: إن الطبيب مات منها، ومات المعتضد من ساعته، وسمع ضجة وهو على ما به من الحال، ففتح عينيه، وأشار بيديه كالمستفهم، فقال له مؤنس الخادم: يا سيدي، الغلمان قد ضجوا عند القاسم بن عبيد اللّه، فأطلقنا لهم العَطَاء، فقَّطب وهمهم في سكرته، فكادت أنْفُسُ الجماعة أن تخرج من هَيْبته، وحمل إلى دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فدفن بها.
قال المسعودي: وللمعتضد أخبار وسير وحروب؟ مسير في الأرض غير ما ذكرنا، قد أتينا على ذكرها والغُرَر من مبسوطها في كتابينا: أخبار الزمان والأوسط.
ذكر خلافة المكتفي باللّه

وبويع المكتفي باللّه - وهو علي بن أحمد المعتضد - بمدينة السلام، في اليوم الذي كانت فيه وفاة أبيه المعتضد، وهو يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وأخَذَ له البيعة القاسم بن عبيد الله، والمكتفي يومئذ بالرقة، وللمكتفي يومئذ نيف وعشرون سنة، ويكنى بأبي محمد، فكان وصول المكتفي إلى مدينة السلام من الرقة يوم الاثنين لسبع ليال بقين من جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكان دخوله في المساء، ونزل قصر الحسنى على دجلة، وكانت وفاته يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وهو يومئذ ابن إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فكانت خلافته ست سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، وقيل: ست سنين وستة أشهر وستة عشر يوماً، على تباين الناس في تواريخهم، واللّه أعلم.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
اسم علي في الخلفاء
ولم يتقلد الخلافَةَ إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - من خلافة المكتفي بالله من اسمه علي إلا علي بن أبي طالب والمكتفي.
ردّ المظالم إلى أهلها
ولما نزل المكتفي قصر الحسني في اليوم الذي كان فيه دخوله إلي مدينة السلام خلع على القاسم بن عبيد اللّه، ولم يخلع على أحد من القُوًاد، وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد اتخذها لعذاب الناس، وإطلاق من كان محبوساً فيها، وأمر بردِّ المنازل التي كان المعتضد اتخدها لموضع المطامير إلى أهلها، وفرق فيهم أموالاً، فمالت قلوب الرعية إليه، وكثر الداعي له بهذا السبب.
وغلب عليه القاسمَ بن عُبَيد اللهّ وفاتك مولاه ثم غلب عليه بعد وفاة القاسم بن عبيد اللّه وزيره العباس بن الحسن وفاتك، وقد كان القاسم بن عبيد اللّه أوقع بمحمد بن غالب الأصبهاني، وكان يتقلد ديوان الرسائل وكان ذا علم ومعرفة، وأوقع بمحمد بن بشارِ وابن منسارة لشيء بلغه عنهم، فأوثقهم بالحديد، وأحْدَرَهُمْ إلى البصرة، فيقال: إنهم غرقوا في الطريق، ولم يعرف لهم خبر إلى هذه الغاية؛ ففي ذلك يقول علي بن بسام:
عذرناك في قتلك المسلمين ... وقلنا: عداوة أهل الملل
فهذا المناريُّ ما ذنبه ... ودينكما واحد لم يزل
إيقاعه ببدر
وقد كانت الحال انفرجت بين القاسم بن عبيد اللّه وبدر قبل هذا الوقت، فلما استخلف المكتفي أغراه القاسم ببدر، وكان ميل جماعة من القواد عن بدر فساروا إلى حضرة السلطان، وسار بدر إلى واسط، فأخرج القاسم المكتفي إلى نهر ذيال، فعسكر هنالك، وجعل في نفس المكتفي من بدر كل حالة يقدر عليها من الشر، وأغراه به، فأحضر القاسم أبا حازم القاضي وكان ذا علم ودراية فأمره عن أمير المؤمنين بالمسير إلى بدر فيأخذ له الأمان ويجيء به معه ويضمن له عن أمير المؤمنين ما أحَبَّ، فقال أبو حازم: ما كنت أبلِّغُ عن أمير المؤمنين رسالة لم أسمعها منه، فلما امتنع عليه أحضر أبا عمرو محمد بن يوسف القاضي فأرسل به إلى بدر في شذاء، فأعطاه الأمان والعهود والمواثيق عن المكتفي، وضمن له أن لا يسلمه عن يده إلا عن رؤية أمير المؤمنين، فخلى عسكره، وجلس معه في الشذاء مُصْعِدِينَ فلما انتهوا إلى ناحية المدائن والسبب تلقاه جماعة من الخدم فأحاطوا بالشذاء، وتنحى أبو عمرو عنه إلى طيار فركب فيه، وقرب بدر إلى الشط، وسألهم أن يصلي ركعتين، وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان سنة تسبع وثمانين ومائتين قبل الزوال من ذلك اليوم، فأمهلوه للصلاة، فلما كان في الركعة الثانية قطعت عنقه وأخذ رأسه فحمل إلى المكتفي، فلما وضع الرأس بين يدي المكتفي سجد وقال: الآن ذقت طعم الحياة ولذة الخلافة.
ودخل المكتفي إلى مدينة السلام يِوم الأحد لثمان خلون من شهر رمضان؛ ففي محمد بن يوسف القاضي يقول بعض الشعراء في ضمانة لبدر العهودَ والمواثيقَ عن المكتفي:
قل لقاضي مدينة المنصور ... بِمَ أحللت أخْذَ رأس الأمير؟
بعد إعطائه المواثيقَ والعهدَ وَعَقْدَ الأمان في منشور
أيْنَ أيمانك التي يشهد اللّه علىِ ... أنها يمين فُجُورِ؟
أين تأكيدك الطَلاَقَ ثلاثاً ... ليس فيهنَّ نية التخيير؟

أن كَفِّيْكَ لا تفارق كَفّيْه إلى أن ترى مَلِيكَ السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الأمة يا شاهداً شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة، ولا تُحْسِنُ أمثاله ولاة الجسور
قد مضى من قتلت في رمضان ... راكعاً بعد سَجْدة التكبير
أي ذنب أتَيْتَ في الجمعة الزهراء ... في خير خير خير الشهور؟
فأعِدَّ الجواب للحَكَم العا ... دل من بعد منكر ونكير
يا بنىِ يوسف بن يعقوب أضْحَى ... أهْلُ بغداد منكُمُ في غرور
شَتَّتَ اللّه شملكم، وأراني ... بكم الذل بعد ذل الوزير
أنتم كلكم فداء أبي حازم ... المستقيم كل الأمور
منزلة بدر
قالوا: وكان بدر حراً، وهو بدر بن خير من موالي المتوكل، وكان بدر في خدمة ناشئ غلام الموفق صاحب ركابه، ثم اتصل بالمعتضد، وقرب من قلبه وخفَّ بين يديه في أيام الموفق، وكان للمعتضد غلام يُقال له فاتك، وكان من أغلى غلمانه، فبعُدَ من قلبه، وانحطت مرتبته، وكان السبب في ذلك أن المعتضد غضب على بعض جواريه فأمر ببيعها، فدسَّ فاتك من ابتاعها له، فكان السبب في إبعاده من قلب المعتضد عند نموِّ ذلك إليه، وزاد أمر بدر، وعَلَتْ مرتبته، حتى كان يلتمس الحوائج به من المعتضد، وكانت الشعراء تقرن مدح بدر بمدح المعتضد، وكذلك من خاطبه فيما عدا المنظوم من الكلام.
قال المسعودي: وأخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي النديم الشطرنجي بمدينة السلام، قال: كان لي وعد على المعتضد، فما ظفرت به حتى عملت قصيدة ذكرت فيها بدراً أولها:
أيها الهاجر مَزْحاً لا مجد ... أجَزَاءُ الود أن يُلْقَى بصد؟
لأمير المؤمنين المعتضد ... بَحْرُ جودٍ ليس يعدوه أحد
وأبو النجم لمن يقصده ... جدول منه إلى البحر يَرِدْ
قد مضى الفطر إلى الأضحى وقد ... آن أن يقرب وعد قد بعد
ما اقتضائي الوَعْدَ أنْ لَسْتُ عَلَى ... ثقة من أنه أخْذٌ بيد
غير أن النفس تهوى عاجلاً ... وسوا أعطى كريم أو وَعَدْ
قال: فضَحِكَ وأمر بما وعدنى به.
وأخبرنا محمد بن النديم بمدينة السلام، قال: سمعت المعتضد يقول: أنا آنَفُ من هبة القليل، ولا أرى الدنيا لو كانت لي أموالها وجمعت عندي تفي بقدر جودي، والناس يزعمون أني بخيل، أتراهم لا يعلمون أني جعلت أبا النجم بيني وبينهم أعرف ما مبلغ ما ينفقه يوماً فيوماً لو كنت بخيلاً ما أطلقت ذلك له.
واخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الفقيه الوَزَاقُ الأنطاكي بمدينة أنطاكية قال: أخبرني إبراهيم بن محمد الكاتب، عن يحيى بن علي المنجم النديم قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد وهو مُقَطِّب، فأقبل بدر، فلما رآه من بعيد ضحك وقال لي: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وَجِيهٌ حيثما شَفَعا
فقلت: يقوله الحكم بن قنبرة المارني البصري، فقال: للّه عرهُ أنشدني هذا الشعر، فأنشدته:
وَيْلِي عَلَى مَنْ أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وَجَعا
كأنما الشمس في أعطافه لمعت ... حسناً، أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذُّنُوبُ ومعذور بما صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وَجِية حيثما شفعا
قال: وأخذ قوله:
أو البدر من أزراره طلعا
أحمد بن يحمى بن العراف الكوفي فقال:
بدا وكأنما قمر ... على أزراره طلعا
يحثُ المسك من عرق الجبين بنانه ولعَا
ظهور القرمطي بالشام

في سنة تسبع وثمانين ومائتين ظهر القِرْمِطِيُ بالشام، وكان من حروبه مع طغج وعساكر المصريين ما قد اشتهر خبره، وقد أتيا على ذكره فيما سلف من كتبنا وما كان من خروج المكتفي إلى الرقة وأخذ القَرَامِطة وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكذلك ما كان من ذكرويه بل مهرويه ووقوعه بالحاج في سنة أربع وتسعين ومائتين إلى أن قتل وأدخل إلى مدينة السلام.
فداء الغدر وفداء التمام
قال المسعودي: وكان فداء الغدر في ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين ومائتين باللامس بعد أن فادوا بجماعة من المسلمين والروم، ثم إن الروم غدروا بعد ذلك، وكان فداء التمام باللامس بين الروم والمسلمين على التمام في شوال من سنة خمس وتسعين ومائتين، والأمير في الفداءين جميعاً رستم وكان على الثغور الشامية، فكان عِدَّة من فدى من المسلمين في فداء ابن طغان في سنة ثلاث وثمانين ومائتين - على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب من ذكره - ألفي نفس وأربعمائة وخمساً وتسعين نفساً من ذكر وأنثى - وكان عدة من فدى به من المسلمين في الغمر ألفاً ومائة وأربعاً وخمسين نفساً، وعمد من فودي به في فداء التمام ألفين وثمانمائة واثنتين وأربعين نفساً.
مالية الدولة
ومات المكتفي وقد خَلّف في بيوت الأموال من العَيْنِ ثمانية آلاف ألف دينار ومن الوَرِق خمسة وعشرين ألف ألف درهم ومن الدواب والبغال والجمازات وغيرها تسعة آلاف رأس، وكان مع ذلك بخيلاً ضيقاً.
وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن يحيى المنجم المعروف بابن النديم، وكان من حُذّاق أهل النظر والبحث وأهل الرياسة من أهل التوحيد والعدل، وفي أخيه علي بن يحيى يقول أبو هفان:
لِرَبِيع الزمان في الْحَوْل وقت ... وابْنُ يحيى في كل وقْتٍ رَبيع
رجل على المكارم سُوق ... يَشْترِي دَهْرَه ونحن نبيع
وظيفته من الطعام
قال: وكانت وظيفة المكتفى باللّه عشرة ألوان في كل يوم، وجَدْيٌ في كل جمعة، وثلاث جامات حلواء، وكان يردد عليه الحلواء، وكان على مائدته بعض خدمه، وأمره أن يحصى ما فضل من الخبز، فما كان من المكسر عزله للثريد، وما كان من الصحاح رُدَ إلى مائدته من الغد، وكذلك كان يفعل بالبوارد والحلواء.
نهب ضياعاً من أهلها
وأمر أن يتخذ له قصر بناحية الشماسية بإزاء قطربل، فأخذ بهذا السبب ضياعاً كثيرة ومَزَارع كانت في تلك النواحي بغير ثمن من مُلاَّكها، فكثر الداعي عليه، فلم يستتم ذلك البناء حتى توفي، وكان هذا الفعل مشاكلاً لفعل أبيه المعتضد - في بناء المطامير.
قسوة وزيره
وكان وزيره القاسم بن عبيد اللّه عظيم الهيبة، شديد الِإقدام، سفاكاً للدماء، وكان الكبير والصغير على رعب وخوف منه، لا يعرف أحد منهم لنفسه نعمة معه.
وفاة الوزير
وكانت وفاته عشية الأربعاء لعشر خلون من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين، وله نيف وثلاثون سنة؛ ففي ذلك يقول بعض أهل الأدب، وأراه عبد اللّه بن الحسن بن سعد:
شربنا عَشِيّةَ مات الوزير ... ونَشْرَب يا قوم في ثالثه
فلا قدَّسَ اللّه تلك العظامَ ... ولا بارك اللّه في وارثه
مقتل عبد الواحد بن الموفق
وكان ممن قتل القاسم بن عبيد اللّه عبد الواحد بن الموفق، وكان معتقلاً عند مؤنس الفحل فبعث إليه حتى أخذ برأسه، وذلك في أيام المكتفي، وقد كان المعتضد يُعِزًّه ويميل إليه ميلاً شديداً، ولم يكن لعبد الواحد همة في خلافة ولا سمو إلى رياسة، بل كان همته في اللعب مع الأحداث، وقد كان المكتفي أخبر أنه راسل عمة من غلمانه الخاصة، وكل به مَنْ يراعي خبره وما يظهر من قوله إذا أخذ الشراب منه، فسمع منه وقد طرب وهو ينشد شعر العتابي حيث يقول:
تلوم على تَرْك الغِنَى باهليَّةٌ ... طَوَى الدهر عنها من طريف وتالد
رَأتْ حَوْلَهَا النسوان يمشين خلسة ... مُقَلّدَةً أجيادُهَا بالقلائد
أسَرَّكِ أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
وأن أمير المؤمنين أغَصنِي ... مُعَصَّهُمَا بالْمُرْهَفَاتِ البوادر

دَرِينِي تجئني مِيتَتِي مطمئنة ... ولم أتَجَشَّم هَوْل تلك الموارد
فإنَّ نفيسات الأُمور مَشُوبة ... بمستوعاتٍ في بطون الأساود
وإن الّذي يسمو إلى دَرَك العلا ... مُلَقًّى بأسباب الردى والمكايد
فقال له بعض ندمائه وقد أخذ منه الشراب: يا سيدي، أين أنت عما تمثل به يزيد بن المهلب:
تأخّرْتُ أستبقي الحياة فلم أجِدْ ... حياةً لنفسي مِثْلَ أن أتَقَدَمَا
فقال له عبد الواحد: مَهْ، لقد أخطأت الغرض، وأخطأ ابن المهلب، وأخطأ قائل هذا البيت، وأصاب أبو فرعون التميمي حيث يقول، قال النديم: حيث يقول ماذا. قال:
وما بيَ شيء في الوغى غير أنني ... أخاف على فَخارتي أن تحطما
ولو كنت مُبْتاعاً من السوق مثلها ... لَدَى الروع ما باليت أن أتقدما
فلما انتهى ذلك إلى المكتفي ضحك، وقال: قد قلت للقاسم ليس عَمْي عبدُ الواحد ممن تسمو همته إليها، هذا قول مَنْ ليس له همة غيم فرجه وجوفه وأمرد يعانقه وكلاب يهارش بها وكباش يناطح بها وديوك يقاتل بها، أطلقوا لعمى كذا وكذا، فلم يزل القاسم بعبد الواحد حتى قتله.
وقد كان المكتفي لما أن مات القاسم وتبين قتله لعبد الواحد أراد نبش القاسم من قبره، وضَرْبه بالسوط، وَحَرْقه بالنار، وقد قيل غير ذلك، والله أعلم.
مقتل ابن الرومي
وممن أهلكه القاسم بن عبيد اللّه على ما قيل بالسم في خشكنانجة علي بن العباس بن جُرَيْج الرومي، وكان منشؤه ببغداد ووفاته بها، وكان من مختلفي معاني الشعراء، والمجودين في القصير والطويل، متصرفاً في المذهب تصرفاً حسناً، وكان أقل أدواته الشعر، ومن محكم شعره وجيده قولُه:
رأيت الدهر يَجْرَحُ ثم يَأْسُو ... يعوض أو يُسَلِّي أو يُنَسي
أبَتْ نفسي الهلوع لفَقْد شيءٍ ... كَفَى حَزَناً لنفسي فَقْدُ نفسي
ومن قوله العجيب الذي ذهب إلى معاني فلاسفة اليونانيين وَمَنْ مَهَرَ من المتقدمين قوله في القصيدة التي قالها في صاعد بن مخلد:
لما تُؤْذِنُ الدنيا به من زوالها ... يكونُ بكاءُ الطِّفْل سَاعَةَ يُوضَعُ
وإلا فما يُبْكِيهِ منها، وإنها ... لأفسحُ مما كان فيه وَأوْسَعُ؟
ومما دقَّ فيه فأحسن وذهب إلى معنى لطيف من النظر على ترتيب الجدليين وطريقة حُذَّاق المتقدمين قوله:
غموض الشيء حين تَذَبُّ عنه ... يقلل ناصر الخصم المحقق
تضيقُ عقولُ مستمعيه عنه ... فيقضي للمجل على المدقق
ومما أجاد فيه في وصف القناعة قولُه:
إذا ما شئت أن تعلم يوماً كذب الشهوه
فَكُلْ ما شئت يصدرك ... عن المرة والحلوه
وَطَأ ما شئت يحصنك ... عن الحسناء في الخَلْوه
وكم أنْسَاك ما تهوا ... ه نيلُ الشيء لم تَفوَهْ
وقوله:
بأبي حسنُ وجهك اليوسفيِّ ... يا كفيَّ الهوى وفوق الكَفِيِّ
فيه وَرْدٌ ونرجسٌ، وعجيب ... اجتماع الشتوي والصيفي
وقوله في العنب الرازقي:
ورازقِيٍّ مُخْطَف الخصور ... كأنه مخازن البلور
ألين في المس من الحرير ... وَرِيحُهُ كماءِ وَرْدٍ جوري
لو أنه يبقى على الدهور ... لقَرَّطُوه للحسان الحور
ولابن الرومي أخبار حسان مع القاسم بن عبيد الله الوزير، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي، وأبي إسحاق الزجَاج النحوي.
وكان ابن الرومي الأغلب عليه من الأخلاط السوداء، وكان شَرِهاً نَدماً، وله أخبار تدل على ما ذكرناه من هذه الجمل مع أبي سهل إسماعيل بن علي النُّوبَخْتي وغيره من آل نوبخت.
وفاة جماعة من الأعيان
وفي سنة تسعين ومائتين مات عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، يوم السبت لعشر بَقِينَ من جمادى الآخرة.
وفي سنة إحدى وتسعين ومائتين كانت وفاة أبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، ليلة السبت لثمان بَقِينَ من جمادى الأولى، ودُفن في مقابر باب الشام في حجرة اشتريت له، وَخَلَّف إحدى وعشرين ألف درهم وألفي دينار، وغلة بشارع باب الشام قيمتها ثلاثة آلاف دينار.

من أخبار ثعلب
ولم يزل أحمد بن يحيى مقدماً عند العلماء منذ أيام حداثته إلى أن كبر وصار إماماً في صناعته، ولم يخلف وارثاً ألا ابنه لابنه، فرد ماله عليها، وكان هو ومحمد المبرد عالمين قد ختم بهما الأدباء، وكانا كما قال بعض الشعراء من المحدثين:
أيا طالب العلم لا تجهلَنْ ... وعُذْ بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذَيْنِ علم الورى ... ولا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
وكان محمد بن يزيد المبرد يحب أن يجتمع في المناظرة مع أحمد بن يحيى ويستكثر منه، وكان أحمد بن يحيى يمتنع من ذلك.
وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي الفقيه - وكان صديقهما - قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختنِ ثعلب: لِمَ يأب أحمد بن يحيى الاجتماع مع المبرد. قال لي: أبو العباس محمد بن يزيد حسن العبارة، حلو الِإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وأحمد بن يحيى مَذْهَبُه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في مَحْفل حكم لهذا على الظاهر إلى أن يعرف الباطن.
وأخبرنا أبو بكر القاسم بن بشار الأنباري النحوى، أن أبا عبد الله الدينوريَ هذا كان يختلف إلى أبي العباس المبرد يقرأ عليه كتاب سيبويه عمر وبن عثمان بن قنبر، فكان ثعلب يَعْذِله على ذلك، فلم يكن ذلك يردعه.
وقيل: إن وفاة أحمد بن يحيى ثعلب كانت في سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
وفاة جماعة من العلماء
وفي هذه السنة - وهي سنة إحدى وتسعين ومائتين - مات محمد بن محمد الجذوعي القاضي، وله أخبار عجيبة فيما كان به من المذهب قد أتينا على وصفه ونوادره فيها وما كان له من التعزز في الكتاب الأوسط.
- وفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين كانت وفاة أبي حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي، يوم الخميس لسبع ليال خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة ببغداد، وله نيف وتسعون سنة.
وفي هذه السنة تغلب ابن الخليجي على مصر.
وفيها وقع الحريق العظيم، فأحرق بباب الطاق نحواً من ثلاثمائة دكان وأكثر.
وظفر بابن الخليجي في سنة ثلاث وتسعين ومائتينِ بمصر، وأدخل إلى بغداد، وقد أشْهِرَ، وقدامه أربعة وعشرون إنساناً من أصحابه منهم صندل المزاحمي الخادم الأسود، وذلك للنصف من شهر رمضان من هذه السنة.
وفي سنة أربع وتسعين ومائتين ماسَ موسى بن هارون بن عبد اللّه بن مروان البزاز المحدث، المعروف بالحمال، في يوم الخميس لِإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان ببغداد، ويكنى أبا عمران، وهو ابن نيف وثمانين سنة، ودفن في مقابر باب حرب إلى جانب أحمد بن حنبل.
وقد قدمنا العذر فيما سلف من هذا الكتاب لذكرنا وفاة هؤلاء الشيوخ إذ كان الناس في أغراضهم مختلفين، وفي طلبهم الفوائد متباينين، وربما قد يقف على هذا الكتاب من لا غرض له فيما ذكرناه فيه ويكون غرضه معرفة وفاة هؤلاء الشيوخ.
وكانت وفاة أبي مسلم إبراهيم بن عبد اللّه الكجي البصري المحدث في المحرم سنة اثنتين وتسعين ومائتين وهو ابن اثنتين وتسعين سنة وكان مولده في شهر رمضان - سنة مائتين.
وقبض أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وهو في سن أبي مسلم على ما ذكرتا من تنازع الناس في تاريخ وفاته، وقد كان أبو العباس أحمد بن يحيى قد ناله صَمَمُ وزاد عليه قبل موته، حتى كان المخاطب له يكتب ما يريده في رقاع.
وصف القطائف
وأخبرنا محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي قال: كُنا يوماً نأكل بين يدي المكتفي، فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه في نهاية النضارة ورقة الخبز وإحكام العمل، فقال: هل وصفت الشعراء هذا؟ فقال له يحيى بن علي: نعم، قال أحمد بن يحيى فيها:
قطائف قد حُشِيَتْ باللوز ... والسكر الماذِيً حَشْوَ الموز
تسبح في آذيِّ دهن الجوز ... سررت لما وقعت في حَوْزِي
فئ سُرُور عباس بقرب فَوْز
قال: وأنشدته لابن الرومي قوله:
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف
فقال: هذا يقتضي ابتداء: فأنشدني الشعر من أوله، فأنشدته لابن الرومي:
وَخَبِيصَة صَفْرَاء دينارية ... ثمناً ولوناً زَفَهَا لك حَزْوَر
عظمت فكادت أن تكون إوزة ... وثوت فكاد إهابها يتفطر

طفقت تجود بوبلها جوذابة ... فإذا لُبَاب اللوز فيها السكر
نعم السماء هناك ظل صبِيبُهَا ... يَهْمِي، ونجم الأرض ظلت تمْطِر
يا حسنها فوق الخوان ودهنها ... قدامها بصهيرها يتفرغر
ظَلْنَا نُقَشر جلدها عن لحمها ... وكأن تبراً عن لجين يُقْشَر
وتقدمَتْهَا قبل ذاك ثرائد ... مثل الرياض بمثلهنَ يُصَدر
وَمُرَقًقَات كلهن مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدثر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... تَرْضَى اللهاة بها وَيرْضَى الحنجر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيون مع الدهان يقطر
وصف اللوزينج
فاستحسن المكتفي باللّه الأبيات، وأومأ إليَ أن أكتبها له، فكتبتها له.
قال محمد بن يحيى الصولي: وأكلنا يوماً بين يديه بعد هذا بمقدار شهر، فجاءت لوزينجة، فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فقلت: نعم، فقال: أنشدنيه، فأنشدته:
لا يخطئني منك لوزينج ... إذا بَدَا أعجب أو عَجَّبَا
لم يُغْلِقِ الشهوة أبوابها ... إلا أبَتْ زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لَسَهَّلَ الطيبُ له س مَذْهَبَا
يدور بالنفخة في جامه ... دوراً ترى الدهن له لولبا
عاون فيه منظرٌ مخبراً ... مستحسن سَاعَدَ مستعذبا
كَالحسن المحسن في شدوه ... ثم فأضحى مغرياً مطربا
مستكشف الحَشْو، ولكنه ... أرَقّ جلداً من نسيم الصبا
كأنما قُدَّاْ جلابيبه ... من أعين القَطْر الذي قببا
يُخَال من رقة أجزائه ... شارك في الأجنحة الجُنْدَبَا
لو أنه صُورَ من خبزه ... ثغر لكان الواضحَ الأشْنَبَا
من كل بيضاءَ يودّ الفتى ... أن يجعل الكف لها مَرْكَبَا
مدهونة زرقاء مدفونة ... شهباء تحكى الأزرَقَ الأشهبا
ذِيقَ له اللوز فما مُرَّةٌ ... مَرَّتْ على الذائق إلا أبى
وانتقد السكر نقاده ... وشارفوا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأتها نَبَتْ ... ولا إذا الضرس علاها نبا
فحفظها المكتفي، فكان يُنْشِدُهَا.
من شعر المكتفي
ومما استحسن من شعر المكتفي لنفسه:
إني كَلِفْتُ، فلا تَلْحُوا، بجارية ... كأنها الشمس، بل زادت على الشمس
لها من الحسن أعْلاَه؛ فرؤيتها ... سَعْدي، وَغَيْبَتُهَا عن ناظري نحسي
وللمكتفي أيضاً:
بلغ النفس ما اشْتَهَتْ ... فإذا هِي قد اشْتَفَتْ
إنما العيش ساعة ... أنت فيها وما انقضت
كل من يعذل الحبَّ ... إذا ما هَدَا سكت
وله أيضاً:
مَنْ لي بأن يعلم ما ألْقَى ... فيعرف الصَّبْوَةَ والعشقا
مازال لي عبداً، وَحُبِّي له ... صَيَّرني عبداً له رِقّا
أعْتِقَ من رقي، ولكنني ... من حبه لا أملك العتقا
شراب الدوشاب
وأخبرنا أبو عبد اللّه إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه، قال: أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن حمدون، قال: تذاكرنا يوماً بحضرة المكتفي أصناف الأشربة، فقال: فيكم مَنْ يحفظ في نبيذ الدوشاب شيئاً؟ فأنشدته قول ابن الرومي:
إذا أجَدْتَ حبه وَدِبْسَهُ ... ثم أجَدْتَ ضربه وَمَرْسَهُ
ثم أطلت في الِإناء حَبْسَه ... شربت منه البابليَ نفسه
فقال المكتفي: قبحه اللهّ!! ما أشْرَهَهُ!! لقد شَوَّقَنِي في هذا اليوم إلى شرب الدوشاب.
قصة هريسة

وقدم الطعام، فوضع بين أيدينا طيفورية عظيمة فيها هريسة، وقد جعل في وسطها مثل السكرجة الضخمة مملوءة من دسم الدجاج؛ فضحكت وخطر ببالي خبر الرشيد مع أبَانَ القاري، فلحطني المكتفي، وقال: يا أبا عبد اللّه؛ ما هذا الضحك؟ فقلت: خبر ذكرته في الهريسة يا أمير المؤمنين ودهن الدجاج مع جدك الرشيد، فقال: وما هو؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكر العتبي والمدائني أن أبَانَ القاري تَغَنَى مع الرشيد، فجاءوا بهريسة عجيبة في وسطها مثل السكرجة الضخمة على هذا المثال من دهن الدجاج، قال أبان: فاشتهيت من ذلك الدسم، وأجللت الرشيد من أن أمد يدي فأغمس فيه، قال: ففتحت بإصبعي فيه فتحاً يسيراً، فانقلب الدسم نحوي، فقال الرشيد: يا أبان، أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقال أبان: لا يا أمير المؤمنين، ولكن سقناهُ لبلد ميت، فضحك الرشيد حتى أمسك صدره.
هدية من أبي مضر بن الأغلب
وفي سنة خمس وتسعين ومائتين وردت إلى مدينة السلام هدية زيادة الله بن عبد اللّه، ويكنى أبا مضر، وكانت الهدية مائتي خادم أسود، وأبيض، ومائة وخمسين جارية، ومائة من الخيل العربية، وغير ذلك من اللطائف.
آل الأغلب بأفريقية
وقد كان الرشيد في سنة أربع وثمانين ومائة - وذلك بالرقة - قلد إبراهيم بن الأغلب أمر إفريقية من أرض المغرب، فلم يزل آل الأغلب أمراء إفريقية حتى أخرج عنها زيادة اللّه بن عبد اللّه هذا في سنة ست وتسعين ومائتين، وقيل: في سنة خمس وتسعين ومائتين، أخرجه من المغرب أبو عبد اللّه المحتسب الداعية الذي ظهر في كتامة وغيرها من البربر، فدعا إلى عبيد اللّه صاحب المغرب، وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب توليه المنصور للأغلب بن سالم السعدي المغرب.
علة المكتفي
قال: واشتدت علة المكتفي باللّه بالذرب، فأحضر محمد بن يوسف القاضي وعبد اللّه بن علي بن أبي الشوارب، فأشهدهما على وصيته بالعهد إلى أخيه جعفر، وقد قَدَّمنا ذكر وفاته فيما سلف من هذا الكتاب فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
قال المسعودي: وللمكتفي باللّه أخبار حسان، وما كان في عصره من الكوائن في قصة ابن البلخي بمصر، وأمر القِرْمِطي بالشام، وأمر ذكرويه وخروجه على الحاجِّ، وغير ذلك مما كان في خلافته، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، فأغنى ذلك عن إعادة ذكره.
ذكر خلافة المقتدر باللّه
وبويع المقتدر باللّه جعفر بن أحمد في اليوم الذي توفي فيه أخوه المكتفي باللّه، وكان يوم الأحد لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، ويكنى أبا الفضل، وأًمه أُم ولد يُقال لها شغب، وكَذلك أمِ المكتفي أمِ ولد يُقال لها ظَلُوم، وقيل غير ذلك، وكَان له يَوْم بويع ثلاث عشرةَ سنةَ، وقتل ببغداد بعد صلاة العصر يوم الأربعاء لثلاث ليالٍ بَقِينَ من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، فكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وستة عشر يوماً، وبلغ من السن ثمانية وثلاثين سنة وخمسة عَشَرَ يوماً، وقد قيل في مقدار عمره غير ما ذكرنا، واللّه أعلم.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
مقتل وزيره
وبويع المقتدر وعلى وزارته العباس بن الحسن إلى أن وَثَبَ الحسين ابن حمدان، ووصيف بن سوارتكين، وغيرهما من الأولياء على العباس بن الحسن فقتلوه وفاتكاً معه، وذلك في يوم السبت لِإحدى عَشرَةَ ليلةً بقيت من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وكان من أمر عبد الله بن المعتز ومحمد بن داود وغيرهما ما قد اتضح في الناس واشتهر، وأتينا على ذكره في الكتاب الأوسط وغيره في أخبار المقتدر باللّه.
وقد صنف جماعة من الناس أخبار المقتدر مجتمعة مع أخبار غيره من الخلفاء ومُفْرَده، وعمل ذلك في أخبار الدولة من أخبار بغداد، وقد صنف أبو عبد اللّه بن عبدوس الجهشياري أخبار المقتدر باللّه في ألوف من الأوراق، ووقع لي منها أجزاء يسيرة.
وأخبرني غير واحد من أهل الحراية أن ابن عبدوس صنف أخبار المقتدر في ألف ورقة، وإنما نذكر من أخبار كل واحد منهم لمعاً، وإنما الغرض جوامع من أخبارهم تَبْعث على دَرْسه وحفظ ما فيه ونَسْخِه.
عبد اللّه بن المعتز

وكان عبد اللّه المعتز أديباً، بليغاً، شاعراً، مطبوعاً، مجوداً، مقتدراً على الشعر، قريب المأخذ، سَهْلَ اللفظ، جيد القريحة، حسن الاختراع للمعاني، فمن ذلك قوله:
تقول العاذلات: تَعَزَّ عنها ... وأطْفِ لهيب قلبك بالسُّلو
وكيف وقًبْلَةٌ منها اختلاسا ... ألذ من الشماتة بالعَدُو؟
وقوله:
ضعيفةٌ أجفانه ... والقلب منه حَجَرُ
كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر
وقوله:
تولَّى الجهل، وانقطع العتاب، ... ولاح الشيب، وافتضح الخضاب
لقد أبغضت نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الخود الكعاب؟
وقوله:
عجبا للزمان في حالتيه ... وبَلاَءٍ دفعت منه إليه
رُبَّ يوم بكيت فيه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
وقوله في أبي الحسن علي بن محمد بن الفُرَات الوزير:
أبا حسن ثَبَتِّ فيِ الأرض وَطْأتي ... وأدركتني في المعضلات الهزاهز
وألبستني درعاً عليَّ حصينة ... فناديت صرف الدهر هل من مبارز
وقوله أيضاً:
ومن شر أيام الفتى بَذْلُ وجهه ... إلى غير من خَفّتْ عليه الصنائع
متى يدرك الِإحسان من لم تكن له ... إلى طلب الِإحسان نفس تنازع
وقوله:
فإن شئت عادتني السقاة بكأسها ... وقد فَتَحَ الِإصباح في ليلة فَمَا
فخلت الدجا والفجر قد مَدّ خيطه ... رداءً مُوَشّى بالكواكب مُعْلَما
وقوله:
وأبكي إذا ما غاب نجم كأنني ... فقدْتُ صديقاً أو رُزِئْتُ حميما
فلو شق من طرف الليالي كواكب ... شققت لها من ناظريَّ نجوماً
ومما أحسن فيه قوله في عبيد اللّه بن سليمان:
لآل سليمانَ بْنِ وهب صنائع ... إليَّ ومعروف لديَّ تقدَّمَا
همُ علَّموا الأيام كيف تَبَرُّنِي ... وهم غَسَلُوا من ثوب والدي الدما
وقوله عند وفاة المعتصم باللّه:
قضوا ما قضوا من حقه ثم قدموا ... إما ما يؤمٌّ الخلق بين يديه
وصَلَّوْا عليه خاشعين كأنهم ... صفوفٌ قيام للسلام عليه
وقوله في فصادة المعتضد باللّه:
يا دماً سال من فراع الِإمام ... أنت أزكى من عنبر ومدام
قد ظنناك إذ جريت إلى الطّسْتِ ... دموعاً من مقلتَيْ مستهام
إنما غرق الطبيب شبا المبضع في نفس مهجة الِإسلام
وقوله:
اصبر على حسد الحسو ... د فإنَّ صبرك قاتُلهْ
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
وقوله:
يطوف بالراح بيننا رَشَأ ... مُحَكَّم في القلوبِ والمُقَل
يكاد لحظ العيون حين بدا ... يسفك من خده دمَ الخجَل
وقوله:
رَشَأ يتيه بحسن صورته ... عَبَثُ الفتورِ بلحظ مقلته
وكأن عقرب صُدْغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته
وقوله:
إذا اجتنى وردة من خده فمه ... تكونت تحتها أخرى من الخجل
وفاة محمد بن داود الاصفهاني
قال: وكانت وفاة أبي بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني الفقيه سنة ست وتسعين ومائتين، وكان ممن قد علا في رتبة الأدب، وتصرف في بحار اللغة، وتفنّنَ في موارد المذاهب، وأشفى على أغراض المطالب، وكان عالماً بالفقه منفرداً، وواحداً فيه فريداً، وألف في عنفوان صباهُ وقبل كماله وانتهائه الكتاب المعروف بالزهرة، ثم تناهت فكرته، ونسقت قوته، فصنف في الفقهيات ككتابه الوصول إلى معرفة الأصول، وكتاب الِإنذار، وكتاب الأعذار والِإيجاز، وكتابه المعروف بالانتصار على محمد بن جرير وعبد اللّه بن شرشير وعيسى بن إبراهيم الضرير.
ومما قال فيه فأحسن في عنفوان شبابه، وأثبته في كتابه المترجم بالزهرة، وعَزَاهُ إلى بعض أهل عصره، وإن كان محسناً في سائر كلامه من منظومه ومنثوره قولُه:
على كبدي من خيفة البين لوعةٌ ... يكاد لها قلبي أسىً يتصدَّعُ
يخاف وقوع البينِ والشمل جامع ... فيبكي بعين دَمْعُهَا متسرع

فلو كان مسروراً بما هو واقع ... كما هو محزون بما يتوقعّ
لكان سواءً برؤه وسقامه ... ولكنَّ وشك البين أدهى وأوجع
وقوله:
تمتع من حبيبك بالوَدَاع ... إلى وقت السرور بالاجتماع
فكم جَرَّبْت من وصل وهجر ... ومن حال ارتفاع واتِّضَاع
وكم كأس أمر من المنايا ... شربت فلم يضق عنها ذراعي
فلم أر في الذي لاقيت شيئاً ... أمَرَّ من الفراق بلا وداع
تعالى اللّه كُل مواصلات ... وإن طالت تؤول إلى انقطاع
وقوله:
لا خير في عاشق يُخْفِي صَبَابته ... بالقول والشوقُ في زَفْرَاتِهِ بادي
يخفي هواه وما يخفى على أحد ... حتى على العيس والركبان والحادي
وفاة علي بن بسام
وفي سنة ثلاث وثلاثمائة في خلافة المقتدر باللّه كانت وفاة علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بَسَّام، وكان شاعراً لسناً، مطبوعاً في الهجاء، ولم يسلم منه وزير ولا أمير ولا صغير ولا كبير. وله هجاء في أبيه وإخوته وسائر أهل بيته، فمما قال في أبيه محمد بن نصر:
بَنَى أبو جعفر داراً فشيدَهَا ... ومثله لخيار الدور بَنَّاء
فالجوع داخلها، والذل خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضَرَّاء
ما ينفع الدار من تشييد حائطها ... وليس داخلها خبز ولا ماء
وله فيه:
هَبْكَ عُمِّرْتَ عمر عشرين نسراً ... أترى أنني أموت وتبقى
فلئن عشتُ بعد يومك يوماً ... لأشُقنَّ جيب مالك شقا
وله فيه:
رأى الجوع طبا، فهو يحمي ويحتمي ... فلست ترى في داره غير جائع
ويزعم أن الفقر في الجود والسخا ... وأنْ ليس حظ في إكتساب الصنائع
لقد أمن الدنيا ولم يخش صَرْفَهَا ... ولم يدر أن المرء رهنُ الفجائع
وأنشدني أبو الحسن محمد بن علي الفقيه الوَرَّاق الأنطاكي بأنطاكية، لعلي بن محمد بن بسام، يهجو الموفق والوزير أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، والطائي - أمير بغداد، وعبدون النصراني، أخا صاعد، وأبا العباس بن بَسْطَام، وحامد بن العباس وزير المقتدر باللّه بعد ذلك، إسحاق بن عمران، أمير الكوفة يومئذ:
أيرجو المُوَفَّقُ نَصْرَ الإِله ... وأمر العباد إلى دانيه
رمن قبلها كان أمر العباد ... لَعَمْرُ أبيك إلى زانيه
فإن رضيت رضيت أنه ... كدالية فوقها دالية
وظل ابن بُلبل يُدْعَى الوزير ... ولم يَكُ في الأعصر الخاليه
وطحان طي تولى الْجُسُورَ ... وَسَقْيَ الفرات وزْرقاميه
وبحكم عبدون في المسلمين ... ومن مثله تؤخذ الْجَاليه
وأحول بَسْطام ظل المشير ... وكان يَحُوكُ ببرزاطيه
وحامد يا قوم لو أمره ... إلَيً لألزمته الراويه
نعم ولأرجعته صاغراً ... إلى بيع رمان حضراويه
وإسحاق عمران يدعى الأمير ... لداهية أيما داهية
فهذي الخلافة قد وَدَعَتْ ... وَظَفَتْ على عرشها خاويه
فَخَلِّ الزمان لأوغاده ... إلى لعنة اللّه والهاويه
فيا ربّ قد ركب الأرذلون ... ورجليَ من رجلهم عاليه
فإن كنت حامِلَنَا مثلهم ... وإلا فأرحل بني الزانيه
جمع في شعره هذا جميع رؤساء أهل الدولة في ذلك العصر.
وأنشد أبو إسحاق الزّجَاج النحوي صاحب المبرد لابن بسام في المعتضد، وقد خَتَنَ ابنه جعفراً المقتدر:
انصرف الناس من ختان ... يدعون من جوعهم حزاما
فقلت: لا تعجبوا لهذا ... فهكذا تخْتَنُ اليتامى
وله أيضاً في المعتضد:
إلى كم لا نرى ما نرتجيه ... ولا ينفكُّ من أملٍ كَذُوب
لئن سَمَّوْكَ معتضداً فإني ... أظنك سوف تعضد عن قريب

وله في الوزير العباس بن الحسن، وابن عمرويه الخراساني، وكان أمير بغداد يومئذ:
لعن اللّه الذي ... قَلّدَ عباس الوزاره
والذي وَلّى ابن عمرو ... يه ببغداد الإماره
فوزير شنج الوجه ... بطين كالغراره
وقفاً فيه سناما ... ن ورأس كالخياره
وأمير أعجميٌّ ... كحمار ابن حماره
رحل الِإسلام عنا ... بتوليه الِإداره
وأنشدني في أبي الحسن جَحْظَة البرمكي المغني:
لجحظة المحسن عندي يد ... أشْكُرُهَا منه إلى المَحْشَرِ
لما أراني وَجْهَ برذونه ... وصانني عن وجهه المنكر
وله في أبيه محمد بن نصر بن منصور بن بسام:
خبيصة تعقد من سُكَّره ... وبُرْمَةٌ تطبخ من قنبر
عند فتى أسمح من حاتم ... يطبخ قدرين على مجمره
وليس ذا في كل أيامه ... لكنه في الدعوة المُنْكَرَه
في يوم لهو فظيع هائل ... ومجمع اللذات والقرقره
يقول للأكل من خبزه: ... تَعْساً لهذا البطن ما أكبره
وله في أبيه أيضاً:
خبز أبي جعفر طباشيرُ ... فيه الأفاويهُ والعقاقيرُ
فيه دواء لكل مُعْضِلة ... للبطن والصدر والبواسير
وقصعة مثل مدهن صغراً ... تزعق من حولها النواظير
ونَيْبلُ ما ترتجيه من يده ... ما ليس تجري به المقادير
وله فيه:
بعثت لأستهديه عَيْراً ولم أكن ... لأعلم أن العير صار لنا صهراً
فَوَجَّه لي كي نستوي في ركوبه ... فيركبه بطناً وأركبه ظهراً
وقال في جماعة من الرؤساء:
قل للرؤوس ومن تُرْجى نوافلهم ... ومن يؤمل فيه الرِّفْدُ والعمل
إن تشغلوني بأعمال أصيرها ... شغلاً وإلا ففي أعراضكم شُغُلُ
وله أيضاً:
ما لي رأيتك دائباً ... مستسخطاً أبداً لرزقك
ارجع إلى ما تستحق فإن قوتك فوق حقك
وله في عبيد اللّه بن سليمان الوزير:
عبيد الله ليس له مَعَاد ... ولا عَقْل وليس له سَدَاد
رددت إلى الحياة فعدت عنها ... لقول اللّه: لو رُدوا لعادوا
وله في القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان:
قل للمولّى دولة السلطان: ... عند الكمال تَوَقُّعُ النقصان
كم من وزير قد رأيت معظماً ... أضحى بدار مَذلّة وهوان
وله في عبيد اللّه بن سليمان:
لا بد يا نفس من سجود ... في زمن القرد للقرود
هبتْ لك الريح يا ابن وهب ... فخذ لها أهبة الركود
وله في إسماعيل بن بلبل الوزير:
لأبي الصقر دولة ... مثله في التخلُّفِ
مُزْنَةٌ حين أطمَعَتْ ... آذنت بالتكشف
وله في العباس بن حسن الوزير:
تحمَّلَ أوزار البرية كلها ... وزير بظلم العالمين يجاهر
ألم تر أسباب الذين تقدموا ... وكيف أتتهم بالبلاء الدوائر
وله في الوزير صاعد بن مخلد:
سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوَتْها دوننا أيدي القرود
فما نالت أناملُنَا بشيء ... عملنا سوى ذل السجود
وله في العباس بن الحسن الوزير:
بَنَيْتَ على دجلة مجلساً ... تباهى به فِعْلَ مَنْ قد مضى
فلا تفرحَنَ فكم مثل ذا ... رأيناه ما تم حتى انقضى
وله في الوزيرعلي بن محمد بن الفرات:
وقفت شهوراً للوزير أعُدُّهَا ... فلم تثنه نحوي الحقوقُ السوالفُ
فلا هو يرعى لي رعاية مثله ... ولا أنا استحي الوقوف وآنَفُ
وله في أبي جعفر محمد بن جعفر الغربلي:
سألت أبا جعفر ... فقال: يَدي تَقْصُرُ
فقلت له: عاجلاً ... يكون كما تذكر
وله فيه:
لحية كَثَّةٌ أضر بها النَتْفُ ووجه مُشَوَّهٌ ملعون
قلت لما بدا يجمجم في القو ... ل وَيَهْذِي كأنه مجنون:

صدق اللّه أنت مَنْ ذكَرَ ... اللّه مَهِينٌ ولا يكاد يبين
وله في ابن المَرْزُبَانِ، وقد كان سأله دابة فمنعه:
بَخِلْتَ عني بمقرف عطب ... فلن تراني ماعشت أطلبه
وإن تكن صُنْتَه فما خلق ... اللّه مصوناً وأنت تركبه
وله مما أحسن فيه:
تضمن لي في حاجتي ما أحبه ... فلما اقتضيت الوعد قَطّب واعتلى
وصَيَّر عذراً شُغَله واتصاله ... ولولا اتصال الشّغل ما كان أشغلا
ولعلي بن محمد بن بسام في هذه المعاني أشعار كثيرة، اكتفينا بذكر البعض عن إيراد ما هو أكثر منه في هذا الكتاب، لما قدمنا ذكره فيما سلف قبله من الكتب، وقد كان أبوه محمد بن نصر بن منصور في غاية السرو والمروءة، وكان رجلًا مترفاً، حسن الزي، ظاهر المروءة، مشغوفاً بالناء.
وذكر أبو عبد اللّه القمي قال: دخلت عليه يوماً شاتياً، شديد البرد ببغداد، فإذا هو في قبة واسعة قد طليت بالطين الأحمر الأرمني، وهو يلوح بريقاً، فقدرت أن تكون القبة عشرين ذراعاً في مثله، وفي وسطها كانون بزرافين إذا اجتمع ونُصبَ كان مقداره عشرة أذرع في مثلها، وقد ملىء جمر الغَضَى، وهو جالس في صدر القبة، عليه غِلاَلة تسترية، وما فضل عن الكانون مفروش بالديباج الأحمر، فأجلسني بالقرب منه، فكدت أتلظّى، فدفع إلي جام ماء الورد وقد مزج بالكافور، فمسحت به وجهي، ثم رأيته قد استسقى ماء، فأتوه بماء رأيت فيه ثلجاً، فلم يكن لي وُكْدٌ إلا قطع ما بيني وبينه، ثم خرجت من عنده إلى برد مائع، وقد قال لي: لا يصلح هذا البيت لمن يريد الخروج منه.
طعام محمد بن نصر
قال: ودخلت عليه في بعض الأيام وهو جالس في موضع آخر في داره، وقد رفعه على بركة، وفي صدره صفة، وهو يُشْرِف منها على البستان، وعلى حِيرِ الغزلان، وحظيرة القماري وأشباهها، فقلت له: يا أبا جعفر، أنت واللّه جالس في الجنة، قال: فليس ينبغي لك أن تخرج من الجنة حتى تصطبح فيها، فما جلست واستقر بي المجلس حتى أتوه بمائدة جزع لم أر أحسن منها، وفي وسطها جام جزع ملونة، وقد لوى على جنباتها الذهب الأحمر، وهي مملوءة من ماء ورد، وقد جعل سافاً على ساف، كهيئة الصومعة من صدور الدجاج، وعلى المائدة سكرجات جزع فيها الأصباغ وأنواع الملح، ثم أتينا بسنبوسق يفور وبعدهُ جامات اللوزينج، ورفعت المائدة، وقمنا من فورنا إلى موضع الستارة، فقدم بين أيدينا إجانة صيني بيضاء قد كومت بالبنفسج والخيري، وأخرَى مثلها قد عبئ فيها التفاح الشامي قدرنا مقدار ما حضر فيها ألف تفاحة، فما رأيت طعاماً أنظف منه ولا ريحاناً أظرف منه، فقال لي: هذا حَقُّ الصَّبُوح، فما أنسى إلى الساعة طِيبَ ذلك اليوم.
قال المسعودي: وإنما ذكرنا هذا الخبر عن محمد بن نصر ليعلم أن علي بن محمد ابنه أخبر عنه بعدما كان عليه، وأنه لم يسلم من لسانه إنسان، وله أخبار وهجو كثير في الناس قد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، وما كان من قوله في القاسم بن عبيد اللّه، ودخوله إلى المعتضد وهو يلعب بالشطرنج ويتمثل بقول علي بن بسام:
حَيَاةُ هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب
فلما شال رأسه نظر إلى القاسم فاستحيا، فقال: يا قاسم، اقْطَعْ لسان ابن بَسَّامٍ عنك، فخرج القاسم مبادراً ليقطع لسانه، حتى قال له المعتضد: بالبر والشغل ولا تعرض له بسوء، فولاه القاسم البريد والجسر بجند قنسرين والعواصم من أرض الشام، وما كان من قوله في أسَدِ بن جَهْوَر الكاتب وخبره معه وما عم بهجائه أسداً وغيره من الكتاب وهو:
تَعِسر الزمان لقد أتى بعجائب ... ومحا رُسُومَ الظرف والآداب
أو ما ترى أسَدَ بن جَهْور قد غدا ... متشبهاً بأجلّةِ الكتاب
وأتى بأقوام لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
وزراء المقتدر
ولما قتل العباس بن الحسن استوزر المقتدر علي بن محمد بن موسى بن الفرات يوم الأربعاء لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين فكانت وزارته إلى أن سخط عليه ثلاث سنين وتسعة أشهر وأياماً.

واستوزر محمد بن عبيد اللّه بن يحمى بن خاقان في اليوم الذي سخط فيه على علي بن محمد بن موسى بن الفرات، وهو يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين وخلع عليه ولم يخلع على أحد غيره، وقبض عليه يوم الاثنين لعشر خَلَوْنَ من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة.
وخير على الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجراح يوم الثلاثاء لِإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة، وقبض عليه يوم الاثنين لثمان خلون من ذيَ الحجة سنة أربع وثلاثمائة.
واستوزر علي بن محمد بن الفرات ثانية، وخلع عليه يوم الاثنين لثمان خلون من ذيَ الحجة سنة أربع وثلاثمائة، وقبض عليه يوم الخميس لأربع بقين من جمادى الأولي سنة ست وثلاثمائة.
وخلع علي الوزير حامد بن العباس يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثمائة، وأطلق علي بن عيسى في اليوم الثاني من وزارته، وهو يوم الأربعاء، وفوضت الأمور إليه، وقبض على حامد بن العباس.
واستوزر علي بن محمد بن الفرات، وهي الثالثة من وزارته، وقد كان ولده محسن بن علي هو الغالب على الأُمور في هذه الوزارة، فأتى على جماعة من الكتاب ثم قبض عليه وعلى ولده، على حسب ما قدمنا من خبرهما في صدر هذا الباب.
واستوزر المقتدر عبد اللّه بن محمد بن عبيد اللّه الخاقاني، ثم استوزر بعده أحمد بن عبيد اللّه الخصيبي، ثم استوزر علي بن عيسى ثانية، ثم استوزر أبا علي محمد بن علي بن مقلة، تم استوزر بعده سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم استوزر بعده عبيد اللّه بن محمد الكلواذي، ثم استوزر بعده الحسين بن القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان بن وهب، وهو المقتول بالرقة، ثم استوزر بعده الفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات.
مقتل المقتدر
وقتل المقتدر بالله ببغداد وقت صلاة العصر يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وكان قتله في الوقعة التي كانت بينه وببن مؤنس الخادم بباب الشماسية من الجانب الشرقي، وتولّى دفن المقتدر العامة وكان وزيره في ذلك اليوم أبا الفتح الفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات على حسب ما ذكرنا.
وذكر أن الفضل أخذ الطالع في وقت ركوب المقتدر بالله إلى الوقعة التي قتل فيها، فقال له المقتدر: أي وقت هو؟ فقال. وقت الزوال، فقطّبَ له المقتدر، وأراد أن لا يخرج حتى أشرفت عليه خيل مؤنس، فكان آخر العهد به من ذلك الوقت.
السادس من بني العباس
وكل سادس من خلفاء بني العباس مخلوع مقتول، فكان السادس منهم محمد بن هارون المخلوع، والسادس الآخر: المستعين، والسادس الآخر: المقتدر باللّه.
وللمقتدر أخبار حسان، وما كان في أيامه من الحروب والوقائع، وأخبار ابن أبي الساج وأخبار مؤنس وأخبار سليمان بن الحسن الحماني وما كان منه بمكة في سنة عشرة وثلاثمائة وغيرها، وما كان في المشرق والمغرب وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان مفصلاً، وفي الكتاب الأوسط مجملاً، وذكَرنا منه في هذا الكتاب لمعاً، وأرجو أن يفسح اللّه لنا في البقاء ويمدَّ لنا في العمر ويسعدنا بطول الأيام، فنعقب تأليف هذا الكتاب بكتاب آخر نضمنه فنون الأخبار، وأنواعاً من ظرائف الآثار، على غير نظم من تأليف، ولا ترتيب من تصنيف، على حسب ما يسنح من فوائد الأخبار، ويوجد من نوادر الآثار، ونترجمه بكتاب وصلِ المجالس بجوامع الأخبار ومخلط الآداب، تالياً لما سلف من كتبنا، ولاحقاً لما تقدم من تصنيفنا.
وفاة موسى بن إسحاق الأنصاري
كانت وفاة موسى بن إسحاق الأنصاري القاضي في خلافة المقتدر، وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة الفقيه الكوفي، ودفن في الجانب الشرقي، وكان هذان من علماء أهل الحديث وكبار أهل النقل.
غرق البيت الحرام
وورد الخبر إلى مدينة السلام بأن أركان البيت الحرام الأربعة غرقت حتى عَمَّ الغرق الطواف وفاضَتْ بئر زمزم، وأن ذلك لم يعهدوه فيما سلف من الزمان.
وفيات
وفيها كانت وفاة يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد القاضي، وذلك في شهر رمضان بمدينة السلام، وهو ابن خمس وتسعين سنة، وقيل: إن في هذه السنة كانت وفاة محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني الفقيه، وقد قدمنا ذكْره، وأن وفاته كانت في سنة ست وتسعين ومائتين وإنما حكينا الخلاف في ذلك.

وفي هذه السنة - وهي سنة سبع وتسعين ومائتين - كانت وفاة ابن أبي عوف البروري المعدل ببغداد، وذلك في شوال، وهو ابن نيف وثمانين سنة، ودفن في الجانب الغربي.
وإنما نذكُر هؤلاء لنقلهم السنن، واشتهارهم بذلك، وحاجة أهل العلم وأصحاب الآثار إلى معرفة وقت وفاتهم.
وفيها مات أبو العباس أحمد بن مسروق المحدث وهو ابن أربع وثمانين سنة، ودفن بباب آل حرب من الجانب الغربي.
وقد قدمنا في هذا الكتاب أخبار مَنْ ظهر من آل أبي طالب في أيام بني أُمية وبين العباس، وفي غيره مما سلف من كُتُبنا، وما كان من أمرهم من قَتْل أو حَبْس أو حرب.
ظهور طالبي في مصر
وقد كان ظهر بصعيد مصر أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقتله أحمد بن طولون، بعد أقاصيص وقد أتينا عليها فيما سلف من كُتُبنا.
وإنما نذكُر مَنْ ظهر من آل أبي طالب واللمع من أخبارهم في هذا الكتاب لاشتراطنا فيه على أنفسنا من إيراد ذكْرِهم ومقاتلهم، وغير ذلك من أخبارهم من منذ قتل أمير المؤمنين إلى الوقت الذي ينتهي إليه تصنيفنا لهذا الكتاب.
وكانت وفاة يحيى بن الحسين الحسني الرسيّ بعد أن قطن بمدينة صَعْدَةَ من أرض اليمن في سنة ثمان وسبعين ومائتين، وقام بعده ولده الحسن بن يحيى.
وكان ظهور ابن الرضا - وهو محسن بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد - في أعمال دمشق في سنة ثلاثمائة، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة فقتل صبراً، وقيل: قتل في المعركة، وحمل رأسه إلى مدينة السلام فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي.
ظهور الأطروش العلوي
وظهر ببلاد طبرستان والديلم الأطروش - وهو الحسن بن علي - وأخرج عنها المسودة، وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة، وقد كان ذا فهم وعلم ومعرفة بالآراء والنحل، وقد كان أقام في الديلم سنين، وهم كُفّار على دين المجوسية ومنهم جاهلية، وكذلك الجيل، فدعاهم إلى اللّه عز وجلّ، فاستجابوا وأسلموا، وقد كان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل قزوين وغيرها. وبنى في الديلم مساجد، والديلم زعم كثير من الناس من ذوي المعرفة بالنسب أنهم من ولد باسل بن ضبة بن أدَد وأن الْجيل من تميم، وقد قيل: إن دخول الأطروش إلى طبرستان كان في أول يوم من المحرم سنة إحدى وثلاثمائة، وإن في هذا اليوم دخل صاحب البحرين البصرة، وقتل أميرها طمسك المفلحي، وقد أتينا على خبر الأطروش العلوي وخبر ولده وخبر أبي محمد الحسن بن القاسم الحسني الداعي واستيلائه على طبرستان ومقتله، وما كان من الجيل والديلم في أمره في كتابنا أخبار الزمان.
وفيات
وكانت وفاة أبي العباس أحمد بن عمر بن سُرَيج القاضي في سنة ست وثلاثمائة.
وكانت وفاة أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الفقيه ببغداد في سنة عشر وثلاثمائة، وكانت وفاة أبي إسحاق إبراهيم بن جابر القاضي بحلب، وأدخل الليث بن علي بن الليث بن الصفار إلى مدينة السلام على الفيل في سنة سبع وتسعين ومائتين وقدامه الجيش وحوله، وقد شهر، وقيل: إن الليث أدخل إلى مدينة السلام في سنة ثمان وتسعين ومائتين.
وفي هذه السنة - وهي سنة ثمان وتسعين ومائتين - مات ببغداد أبو بكر محمد بن سليمان المروزي، المحدث، صاحب الجاحظ، وقيل أيضاً: إن وفاته كانت في سنة ثمان وتسعين.
أحداث
وفي هذه السنة كان دخول فارس صاحب مراكب الروم وحربها إلى ساحل الشام، فافتتح حصن القبة بعد حرب طويل، وعدم مغيث بغيثهم من المسلمين، وافتتح مدينة اللاذقية فسبى منها خلقاً كثيراً، ووقع بالكوفة بَرَدٌ عظيم الواحدة رطل بالبغداي، وريح مظلمة، وذلك في شهر رمضان، وانهدم كثير من المنازل والبنيان، وكان فيها رَجْفة عظيمة هلك فيها خلق كثير من الناس، هذا كان بالكوفة في سنة تسع وتسعين ومائتين وكان بمصر في هذه السنة زلزلة عظيمة، وفيها طلع نجم الذنب.

وفيما غزا دمنانة صاحب الغزو بالبحر الرومي في مراكب المسلم جزيرة قبرص، وقد كانوا نَقَضُوا العهد الذي كان في صدر الِإسلام: ألا يعينوا الروم على المسلمين ولا المسلمين على الروم، وأن خراجه نصفه للمسلمين ونصفه للروم، وأقام دمنانة في هذه الجزيرة أربعة أشهر يَسْبِ ويحرق ويفتح مواضع قد تحصن فيها، وقد أتينا على خبر هذه الجزيرة فيه سلف من هذا الكتاب عند إخبارنا عن جمل البحار وَمَبَادي الأنهار ومطارحها؛ فمنع ذلك من إعادة وصفها.
موت ابن ناجية
وفي سنة إحدى وثلاثمائة مات عبد اللّه بن ناجية المحدث بمدينة السلام، وكان مولده في سنة اثنتي عشرة ومائتين.
ابن الجصاص
وكان القبض على ابن الجَصَّاص الجوهري بمدينة السلام في سنة اثنتين وثلاثمائة، والذي صح مما قبض من ماله من العين والوَرِقِ والجوهر والفرش والثياب والمستغلات خمسة آلاف ألف وخمسمائة ألف دينار.
وفاة القاسم بن الحسن بن الأشيب
وفيها مات القاسم بن الحسن بن الأشيب - ويكنى أبا محمد - يوم الاثنين لليلتين بَقِيَتَا من جمادى الأولى، وكان من كبار العلماء والمحدثين، ودُفن في الجانب الغربي في الشارع المعروف بشارع الحمالين، وحضر جنازته محمد بن يوسف القاضي، وأبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، وغيرهما من الفقهاء والعدول والكتاب وأهل الدولة، وهو أبو أبي عمران موسى بن القاسم بن الحسن المعروف بابن الأشيب، وهو كبير من فقهاء الشافعيين في هذا الوقت.
غارة البربر على مصر
وفي هذه السنة - وهي سنة اثنتين وثلاثمائة - ورد الجيش من الغرب؛ فكان لأهل مصر من أصحاب السلطان معهم بمصر حروب عظيمة، وقتل فيها خلق كثير، واستأمن رجل من وجوه البرابرة يعرف بأبي جرة إلى السلطان، وسار إلى مدينة السلام، فخلع عليه.
ابن أبي الساج
وفي سنة سبع وثلاثمائة أدخل يوسف بن أبي الساج إلى مدينة السلام، وقد شهر على الجمل الفالج وعليه دراعة الديباج التي لبسها عمرو بن الليث ووصيف الخادم، وعلى رأسه برنس طويل بشقائق وجلاجل، وحوله الجيوش ومؤنس الخادم وراءه مع سائر أرباب الدولة من أصحاب السيوف، وقد أتينا على خبر هذه الوقعة التي أسَرَ فيها مؤنسٌ الخادم ابْنَ أبي الساج بناحية أردبيل، ومن حضرها من الأمراء مثل ابن أبي الهيجاء عبد اللّه بن حمدان، وعلي بن حسان، وأبي الفضل المروي، وأحمد بن علي أخي صعلوك، وغيرهم من الأمراء والقواد، وذكرنا تخليلة المقتدر لابن أبي الساج، وخروجه من ديار ربيعة ومضر ومسيره إلى أعماله من بلاد أذربيجان وأرمينية، وما كان من غلامه سبك واستيلائه على عمل مولاه ومفارقته الفارقي، وما كان من سائر أخبار ابن أبي الساج ومسيره إلى واسط، ثم مسيره إلى الكوفة، وما كان من خبره في حربه لأبي طاهر سليمان بن الحسن الجنابي وأسره إياه وقتله له نحو الأنبار وهيت حين أشرف على سواده بليق ونظيف غلام ابن أبي الساج، وما كان في هذه الوقعة وَهَزْمه لبليق ونظيف، ومسير القرمطي ونزوله على هيت، وغير ذلك، وذلك في سنة خمس عشرة وثلاثمائة، فيما سلف من كتبنا، وكذلك ذكرنا ما كان من مؤنس الخادم، ومن كان معه من أولياء السلطان من القتال لجيش صاحب المغرب بمصر، وذلك في سنة سبع وثلاثمائة.
ذكر خلافة القاهر باللّه
وبويع القاهر محمدُ بن أحمد المعتضد باللّه يوم الخميس لليلتين بَقِيَتَا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، ثم خلع يوم الأربعاء لخمس خَلَوْنَ من جمادى الأولى سَنَةَ اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وَسُمِلَتْ عيناه، وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة أيام، ويكنى بأبي منصور، وأمه أم ولد.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وزراؤه
واستوزر القاهر أبا علي محمد بن علي بن مُقْلَةَ في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ثم عزله، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان ثم عزله واستوزر أبا العباس أحمد بن عبيد اللهّ الخصيبي.
أخلاقه

وكانت أخلاقه لا تكاد تحصل ، لتقلبه وتلونه، وكان شَهْماً شديد البطش بأعدائه، وأبَادَ جماعة من أهل الدولة، منهم مؤنس الخادم، وبليق، وعلي بن بليق، فهابه الناس وَخَشُوا صَوْلته، واتخذ حربة يحملها في يده إذا سعى في داره ويطرحها بين يديه في حال جلوسه، ويباشر الضرب بتلك الحربة لمن يريد قَتْله، فسكن من كان يستعمل على مَنْ قبله من الخلفاء التشغب والتوثب عليهم، وكان قليل التثبت في أمره، مَخوفَ السطوة، فأدَّاهُ ما وصفنا من فعله إلى أن احتيل عليه في داره فقبض عليه، وسملت كلتا عينيه وهو حي في هذا الوقت في الجانب الغربي في دار ابن طاهرِ، على ما نُمِيَ إلينا من خبره واتصل بنا من أمره، وذلك أن الراضي باللّه غيَّبَ خبره وقطع ذكره، فلما بويع إبراهيم المتقي باللّه أصيب القاهر معتقلاً في بعض المقاصير، فأمر به إلى دار ابن طاهر، فاعتقل بها إلى هذه الغاية على ما وصفنا.
الخراساني الأخباري يصف الخلفاء العباسيين للقاهر باللّه
وذكر محمد بن علي العبدي الخراساني الأخباري، وكان القاهر به آنساً، قال: خلا بي القاهر فقال: اصدقني أو هذه - وأشار إلي بالحربة - فرأيت واللّه الموتَ عيَاناً بيني وبينه، فقلت: أصدقك يا أمير المؤمنين، فقال لي: انظر، يقولها ثلاثاً، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: عما أسألك عنه، ولا تُغَيِّبْ عني شيئاً، ولا تحسن القصة، ولا تسجع فيها، ولا تسقط منها شيئاً، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أنت عَلاَّمة بأخبار خلفاء بني العباس في أخلاقهم وشيمهم من أبي العباس السفاح فمن دونه، فقلت: على أن لي الأمان يا أمير المؤمنين، قال: ذلك لك.
وصف السفاح
قال: قلت: أما أبو العباس السفاح، فكان سريعاً إلى سفْك الدماء، واتَبعه عماله في الشرق والغرب في فعله، وَاسْتَنُّوا بسيرته، مثل محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالحٍ بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قَحْطَبة، وكان مع ذلك بحرا سَمْحاً وَصُولاً جواداً بالماء، وسلك مَنْ ذكرنا من عماله وغيرهم ممن كان في عصره سبيله، وذهبوا مذهبه مؤتمين به.
وصف المنصور
قال: وأخبرني عن المنصور، قلت: الصدق يا أمير المؤمنين.
قال: الصدق.
قلت: كان واللّه أول من أوقع الفُرْقَةَ بين ولد العباس بن عبد المطلب وبين آل أبي طالب، وقد كان قبل ذلك أمرهم واحداً، وكان أول خليفة قَرَّبَ المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وكان معه نُوبَخْتُ المجوسيًّ المنجم، وأسلم على يديه، وهو أبو هؤلاء النوبختية، وإبراهيم الفزاري المنجم، صاحب القصيدة في النجوم، وغير ذلك من علوم النجوم وهيئة الفلك، وعلي بن عيسى الإِسطرلابي المنجم، وهو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجمية إلى العربية، منها: كتاب كليلة ودمنة وكتاب السندهند، وترجمت له كتُبُ أرسطاطاليس، من المنطقيات وغيرها، وترجم له كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأرتماطيقي، وكتاب إقليدس وسائر الكتب القديمة من اليونانية، والرومية، والفهلوية، والفارسية، والسريانية، وأًخرجت إلى الناس، فنظروا فيها، وتعلقوا إلى علمها، وفي أيامه وضع محمد بن إسحاق كتاب المغازي، والسير: وأخبار المبتدأ ولم تكن قبل ذلك مجموعة ولا معروفة ولا مُصَنَّفة، وكان أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله وصرفهم في مهماته، وقَدَّمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت وبادت العرب، وزال بأسها، وذهبت مراتبها، وأفضَتِ الخلافة إليه، وقد نظر في العلم، وقرأ المذاهب، وارتاض في الآرأء، ووقف على النِّحَل، وكتب الحديث، فكثرت في أيامه روايات الناس، واتسعت عليهم علومهم.
وصف المهدي
قال القاهر: قد قلت فأحسنت، وعبرت فبينت، فأخبرني عن المهدي كيف كانت أخلاقه؟.

قلت: كان سَمْحاً سخياً جواداً، فسلك الناس في عصره سبيله، وذهبوا في أمرهم مَذْهَبه، واتسعوا في مساعيهم، وكان من فعله في ركوبه أن يحمل مع بِدَرَ الدنانير والدراهم، فلا يسأله أحد إلا أعطاه، وإن سكت ابتدأه المفرق بين يديه، وقد تقدم بذلك إليه، وأمعن في قتل الملحدين، والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته؛ لما انتشر من كتب ماني وابن دَيْصَان، ومرقيون مما نقله عبد اللّه بن المقفع، وغيره، وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذلك ابن أبي العرجاء، وحماد عَجْرَدٍ، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس: من تأييد المذاهب المانية، والدَّيْصَانية، والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس، وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شُبَهَ الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، وشرع في بناء المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما هما عليه إلى هذه الغاية، وبَنى بيت المقدس، وقد كان هدمته الزلازل.
وصف الهادي
قال: فأخبرني عن الهادي على قصر أيامه كيف كانت أخلاقه وشيمه؟.
قلت: كان جَبَّاراً عظيماً، وأول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المُرْهَفة، والأعمدة المشهورة، والقِسِيِّ الموتورة، فسلك عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
قال: لقد أجَدْتَ في وصفك، وبالغت فيما ذكَرت من قولك فأخبرني عن الرشيد كَنص كَانت طريقته.
وصف الرشيد
قلت: كان مواظباً على الحج، متابعاً للغزو، واتخِاذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، وأظهر ذلك بها وبمنَى وعَرَفَات ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فعمَّ الناسَ إحسانُه، مع ما قرن به من عدله، ثم بنى الثغور، ومَدَّن المدن، وحَصَّن فيها الحصون، مثل طرسوس وأذنة، وعلى المصيصة ومرعش، وأحكم بناء الحرب، وغير ذلك من دور السبب والمواضع للمرابطين، واتبعه عماله، وسلكوا طريقته، وقَفَتْهُ رعيف مقتدية بعمله، مُسْتَنِدة بإمامته، فقمع الباطل، وأظهر الحق، وأنار الأعلام، وبرز على سائر الأُمم، وكان أحسن الناس في أيامه فِعلاً أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور لما أحدثته من بناء دور السبيل بمكة، واتخاذ المصانع والبرك والآبار بمكة، وطريقها المعروفة إلى هذه الغاية، وما أحدثته من الدور للتسبيل بالثغر الشامي وطرسوس وما أوقفت على ذلك من الوقوف، وما ظهر في أيامه من فعل البرامكة وجُودِهم وإفضالهم وما اشتهر عنهم من أفعالهم. وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان ورمى بالنشاب في البرجاس، ولعب بالأكْرة والطبطاب. وقرب الحذَاق في ذلك فعم الناس ذلك الفعل. وكان أول من لعب بالشطرنج من خلفاء بني المعباس، وبالنرد وقدم اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمى الناس أيامه - لنضارتها، وكثرة خيرها وخصبها - أيام العروس، وكثير مما يجاوز النعت وبتفاوت فيه الوصف.
وصف أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور
قال القاهر: فأراك قد قصرت في تفصيل أفعال أم جعفر، فلم ذلك؟ قلت: يا أمير المؤمنين ميلاً إلى الاقتصار، وطلباً للإِيجاز.

قال: فتناول الحربة وهَزَّهَا، فرأيت الموت الأحمر في طرفها، ثم برق عينيه مع ذلك فاستسلمت، وقلت: هذا ملك الموت، ولم أشك أنه يقبض روحي، فأهوى بها نحوي، فزُغْتُ منها، فاسترجع وقد أخطأتني، فقال: ويلك!! أبغضت ما فيه عيناك، ومَلِلْتَ الحياة. قلت: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبار أُم جعفر زدني منها، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بَرَزَتْ فيه على غيرها، فأما الجد والآثار الجميلة التي لم يكن في الِإسلام مثلها، مثل حفرها العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها، ومهدت الطريق لمائها في كل خَفْض ورفع وسَهْل وجبل ووَعْر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلاً إلى مكة، فكان جملة ما أنفقت عليها - مما ذكر وأحصى - ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وما قَدَّمت ذكره من المصانع والدور والبرك والآبار بالحجاز والثغور، وإيقافها الأُلوف على ذلك، دون ما كان في وقتها من البذل، وما عم أهل الفاقة من المعروف والخصب، وأما الوجه الثاني - مما تتباهى به الملوك في أعمالهم، وينعمون به في أيامهم ويصونون به دُوَلَهم، ويدون في أفعالهم وسيرهم - فهو أنها أوَّلُ من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكلَّلَة بالجوهر، وصنع لها الرفيع من الوَشْي، حتى بلغ الثوب من الوشي الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار، وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري، يختلفون على الدواب في جهاتها، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها، وأول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، واتخذت الخفاف المرصَّعَة بالجوهر وشمع العنبر، وتشبه الناس في سائر أفعالهم بأم جعفر.
ولما أفضى الأمر إلى ولدها يا أمير المؤمنين قَدَّمَ الخدَمَ، وآثرهم، ورفع منازلهم، ككوثر وغيره من خَدَمِه، فلما رأت أُم جعفر شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعممت رؤوسهن، وجعلت لهن الطًّرَر والأصْدَاغَ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق، فماست قدودهن، وبرزت أردافهم، وبعثت بهن إليه، فاختلفن في يديه، فاستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن، وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواريَ المطمومات؛ وألبسوهن الأقبية والمناطق، وسموهن الغلاميات.
فلما سمع القاهر ذلك الوصف ذهب به الفرح والطرب والسرور، ونادى بأعلى صوته: يا غلام، قَدَح على وصف الغلاميات، فبادر جَوَارٍ كثيرة قَدُهن واحد، توهمتهن غلماناً بالقَرَاطِقِ والأقبية والطرر والأقفية ومناطق الذهب والفضة، فأخذ الكأس بيده، فأقبلْتُ أتأمل صفاء جوهر الكأس ونورية الشراب، وشعاعه، وحسن أولئك الجواري، والحربة بين يديه، وأسرع في شربه، فقال: هيه.
وصف المأمون
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم أفْضَى الأمر إلى المأمون، فكان في بَدء أمره - لما غلب عليه الفضل بن سهل وغيره - ويستعمل النظر في أحكام النجوم وقضاياها، وينقاد إلى موجباتها، ويذهب مذاهب من سلف من ملوك ساسان كأردشير بن بابك وغيره، واجتهد في قراءة الكتب القديمة، وأمعن في درسها، وواظب على قراءتها، فافتن في فهمها، وبلغ درايتها؟ فلما كان من الفضل بن سهل في الرياستين ما اشتهر وقَدِمَ العراق انصرف غن ذلك كله، وأظهر القول بالتوحيد والوعد والوعيد، وجالس المتكلمين، وقرب إليه كثيراً من الجدليين المبرزين والمناظرين كأبي الْهُذَيْل وأبي إسحاق إبراهيم بن سَيَّار النّظّام وغيرهم ممن وافقهم وخالفهم، وألزم مجلسه الفقهاء، وأهل المعرفة من الأدباء، وأقدمهم من الأمصار، وأجرى عليهم الأرزاق، فرغب الناسُ في صنعة النظر، وتَعلموا البحث والجَدَلَ، ووضع كل فريق منهم كتباً ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله، وكان أكثر الناس عفواً، وأشدهم احتمالاً، وأحسنهم مقدرة، وأجودهم بالمال الرغيب، وأبذلهم للعطايا، وأبعدهم من التسافة واتًبَعه وزراؤه وأصحابه في فعله، وسلكوا سبيله، وذهبوا مذهبه.
وصف المعتصم

ثم المعتصم، فإنه يا أمير المؤمنين سلك في النحلة رأى أخيه المأمون، وغَلَبَ عليه حب الفروسية، والتشبه بالملوك الأعاجم في الآلة، ولبس القَلاَنس والشاشيات فلبسها الناس اقتداء بفعله، وائتماماً به، فسميت المعتصميات، وعم الناس إفضاله، وأمِنَتِ به السبل في أيامه، وشمل الناس إحسانه.
وصف الواثق
ثم هارون بن محمد الواثق، فإنه اتبع ديانة أبيه، وعمه، وعاقب المخالف، وامتحن الناس، وكثر معروفه، وأمر القضاة في سائر الأمصار أن لا يقبلوا شهادة مَنْ خالفه، وكان كثير الأكل، واسع العطاء سهل الانقياد متحبباً إلى رعيته.
وصف المتوكل
ثم المتوكل يا أمير المؤمنين، فإنه خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، ونَهَى عن الجدل والمناظرة في الآراء وعاقَبَ عليه، وأمر بالتقليد، وأظهر الرواية للحديث، فحسنت أيامه، وانتظمت دولته، ودام ملكه، وغير ذلك يا أمير المؤمنين مما اشتهر من أخلاقه.
قال القاهر: قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم على ما وصفت؛ معاين لهم فيما ذكرت، ولقد سَرَّنِي ما سمعت منك، ولقد فتحت أبواب السياسة، وأخبرت عن طرق الرياسة، ثم أمر لي بجائزة عجل لي عطاءها في وقتها، ثم قال لي: إذا شئت فقم، فقصت، وقام على أثري بحربته، فخيل واللّه لي أنه يرميني بها من ورائي، ثم عَطفَ نحو دار الخدم، فما مضت إلا أيام يسيرة حتى كان من أمره ما ظهر.
قال المسعودي: وهذا الرجل الذي أخْبَرْتُ عنه بهذا الحديث له أخبار حسان، وهو حي يرزق إلى هذه الغاية، وهي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، مداحاً للملوك، معاشراً لأهل الرياسات، حسن الفهم، جيد الرأي.
وفاة ابن دريد
وفي خلافة القاهر باللّه - وهي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة - كانت وفاة أبي بكر محمد بن الحسن بن درَيْدٍ ببغداد، وكان ممن قد بَرَعَ في زمننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم تُوجَدْ في كتب المتقدمين، وكان يذهب في الشعر كل مذهَب، فطوراً يجزل، وطوراً يرقُّ، وشعره أكثر من أن نحصيه أو يأتي علًيه كتابنا هذا، فمن جيد شعره قصيدته المقصورة التي مدح بها الشاه ابن ميكال، ويُقال: إنه أحاط فيها بأكثر المقصور وأولها:
إمَّا تَرَيْ رأسِيَ حاكى لونُهُ ... طُرَّةَ صبح تحت أذيال الدُّجى
واشتعل المبيضُّ في مسوده ... مثل اشتعال النار في جَزْل الْغَضَى
ومنها:
إن الجديدين إذا ما استولَيا ... على جديد أدْنَيَاه للبِلَى
وفيها يقول:
لست إذا مَا أبْهَظَتْنِي غَمْرَةٌ ... ممن يقول: بَلَغَ السيل الزُّبى
ومنها:
وإن ثَوَتْ بين ضلوعي زَفْرَةٌ ... تملأ ما بين الرجا إلى الرَّجَا
وقد عارضه في هذه القصيدة المقصورة جماعة من الشعراء، منهم أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فَهْم التّنُوخي الأنطاكي، وهو في وقتنا هذا - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، بالبصرة في جملة البريديين، وأول قصيدته المقصورة التي يمدح فيها تَنُوخَ وقومه من قُضَاعة:
لولا انتهائي لم أُطِعْ نَهْيَ النهى ... أيَّ مدى يطْلُبُ مَنْ جاز المَدَى
إن كُنْت أقصرت فما أقصر قلبٌ دامياً تُدْمِيه ألحاظُ الدُّمَى
وَمُقْلَة إن مقلت أهل الغضا ... أغْضَتْ وفي أجفانها جمر الغضى
وفيها يقول:
وكم ظباء رَعْيُهَا ألحاظها ... أسرع في الأنفسِ من حَدِّ الظُّبى
أسْرَعُ من حرف إلى جر ومن ... حب إلى حَبَةِ قلب وَحَشى
قضاعة بن مالك بن حمير ... ما بعده لِلْمُرْتقين مُرْتَقَى
وقد سبق إلى المقصورة أبو المقاتل نصر بن نصير الحلواني في محمد بن زيد الداعي الحسني بطبرستان بقوله:
قفا خليليً على تلك الرُّبى ... وسائلاها أين هاتيك الدُّمَى؟
أين اللواتي ربعت ربُوعها ... عليك؟ باستنجادها تَسْفِي الْجَوَى؟
ولابن ورقاء في المقصورة أيضاً:
ما شئت قل هي المها هي القنا ... جواهر بكين أعطاف الدمى

وممن تأخر موته بعد موت ابن دُرَيد العُمَاني أبو عبد اللّه المفجع، وكان كاتباً شاعراً بصيراً بالغريب، وهو صاحب الباهلي المصري الذي كان يناقض ابن درَيد، فمما جَوَّدَ فيه المفجع قوله:
ألا طرب الفؤاد إلى رُدَيْنِ ... ودون مزارها ذو الجهلتين
ألَمَّ خَيَالها وَهْناً برحْلي ... فولّى رعية الشرطين عيني
وقد أتينا على ما كان في أيام القاهر - مع قصر مدته - من الكوائن في الكتاب الأوسط، فمنع ذلك من ذكره في هذا الكتاب.
ذكر خلافة الراضي باللّه
وبويع الراضي باللّه محمدُ بنُ جعفرٍ، المقتدرُ، ويكنى أبا العباس، يوم الخميس لست خَلَوْنَ من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، فأقام في الخلافة إلى أن مضى من ربيع الأول عشرةُ أيام، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ومات حَتْفَ أنْفِهِ بمدينة السلام، وكانتً خلافته ست سنين وَأحَدَ عَشَرَ شهراً وثلاثة أيام، وأُمُّه أُم ولد يُقال لها ظَلُوم.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وزراؤه
وَاسْتَوْزر الراضي أبا علي محمد بن علي بن مُقْلَةَ، ثم اسْتَوْزر أبا علي عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الْجَرَّاح، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم الكَرْخِي، ثم أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مَخْلَد، ثم أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرَات، ثم أبا عبد الرحمن بن محمد البريدي.
من شعر الراضي
وكان الراضي أديباً شاعراً ظريفاً، وله أشعار حِسَانٌ في معانٍ مختلفة، إن لم يكن ضَاهَى بها ابن المعتز فما نقص عنه، فمن ذلك قوله في وصف حاله وحال معشوقه إذا التقيا:
يصفرُّ وجهي إذا تَأَمَله ... طرفي ويحمرُّ وَجْهه خجلا
حتى كأنَّ الذي بوَجْنَته ... من دم وجهي إليه قد نقلا
ومن جيد شعره قوله:
يا رُبَّ ليل قد دنا مَزَارُه ... يسترني ومؤنسي أزراره
سَاقٍ مليحُ القد كدجاره ... سراجه ووجهه مناره
يشهد لي ببذله زُنَّاره ... تَاهَ بخد ظَهَرَ احْمِرَاره
مَاسَ مع الحمرة جُلّنَارُهُ ... أيَّ كثيب قد حوى إزَارُهُ؟
وأي غصن ضُمِّنَتْ أزراره ... طَوْع الكؤوس غَرَّه عذاره
إخفاؤه تعتاده أمراره ... لا كان لهو لم يثر غباره
وقد كان أبو بكر الصولي يروي كثيراً من أشعار الراضي، ويذكر حسن أخلاقه وجميل أخباره، وارتياضه بالعلم وفنون الأدب، وإشرافه على علوم المتقدمين، وخوْضه في بحار الجدليين من أهل الدراية والمتفلسفين.
من محاسن الصولي أبي بكر
وذكر أن الراضي رأى في بعض منتزهاته بالثريا بستاناً مُونقاً، وزهراً رائقاً، فقال لمن حضر من ندمائه: هل رأيتم أحسن من هذا؟ فكل قال أشياء ذهب فيها إلى مدحه ووصف محاسنه، وأنها لا يفي بها شيء من زهرات الدنيا، فقال: لعبُ الصولي الشطرنج واللّه أحسن من هذا الزهر ومن كل ما تصفون.
وذكر أن الصولي في بَدْء دخوله إلى المكتفي، وقد كان ذكر له بجودة لعبه الشطرنج، وكان الماوردي اللاعب مقدماً عنده، متمكناً من قلبه معجباً بلعبه، فلعبا جميعاً بحضرة المكتفي، فحمل المكتفي حسن رأيه في الماوردي وتقم الحرمة والألفة على نصْرَته وتشجيعه حتى أدهش ذلك الصولي في أول وَهْلَة، فلما اتصل اللعب بينهما وجمعِ له الصولي غايته وقصد قصده، غلبه غلباً لا يكاد يرد عليه شيئاً، وتبين حسن لعبه للمكتفي، فعدل عن هواه ونصره للماوردي، وقال له: صار ماء وردك بَوْلاً.
قال المسعودي: وقد تناهى بنا الكلام وتغلغل بنا التصنيف إلى جمل من أخبار الشطرنج، وما قيل فيها، مع ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لأخبار الهند ومبادئ اللعب بالشطرنجِ والنرد، واتصال ذلك بالأجسام العُلوية والأجرام السماوية، فلنذكر جملاً مما ذكر في ذلك، مما لم يتقدم له ذكر فيما سلف من هذا الكتاب.
الخليل بن أحمد

وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه في تفضيل صنعة الكلام، وهي الرسالة المعروفة بالهاشمية، أن الخليل بن أحمد من أجْل إحسانه في النحو والعروض وضع كتاباً في الإيقاع وتراكيب الأصوات، وهو لم يعالج وتَراً قط، ولامَسَّ بيده قضيباً قط، ولا كثرت مشاهدته للمغنين، وكتب كتاب في الكلام، ولو جهد كلِ بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له، ولو أن ممرواً استغرق قوَى مرته في الهذيان لَمَا تهيأ له مثل ذلك منه، ولا يتأتى مثل ذلك لأحد إلا بخذلان الذي لا يقي منه شيء، قال الجاحظ: ولولا أن أسخف الكتاب وأهجر الرسالة وأخرجها من حد الجد إلى الهزل حكيت صدر كتابه في التوحيد وبعض ما وصفه في العدل، قال: ولم يرضَ بذلك حتى عمد إلى الشطرنج فزاده في الدولاب حملاً، فلعبت به أُناسٌ من حاشية الشطرنجيين، ثم رموا به.
أنواع آلات الشطرنج
وقد ذكر الناس ممن سلف وخلف أن جميع آلات الشطرنج على اختلاف هيآتها ستُّ صُوَرٍ لم يظهر في اللعب غيرها، فأولها الآلة المربعة المشهورة، وهي ثمانية أبيات في مثلها، ونسبت إلى قدماء الهند، ثم الآلة المستطيلة، وأبياتها أربعة في ستة عشر، والأمثلة تنصب فيها في أول وهلة في أربعة صفوف من كلا الوجهين، حتى تكون الدوابُّ منها في صفين، والبيادق أيضاً أمامها صفين، ومسيرها كمسير أمثلة الصورة الأولى، والآلة المربعة - وهي عشرة في مثلها - والزيادة في أمثلتها قطعتاذ تسميان الدبابتين، ومسيرهما كمسير الشاه إلا أنهما يأخذان وُيؤْخَذَانِ، ثم الآلة المدورة المنسوبة إلى الروم، ثم الآلة المدورة النجومية التي تسمى الفلكية، وأبياتها اثنا عشر على عدد بروج الفلك، مقسومة نصفين، وينقل فيها سبعة أمثلة مختلفة الألوان على عدد الخمسة الأنجم والنيرين وعلى ألوانهما.
وقد بينا فيما سلف من أخبار الهند كيفية اتصالها بالأجسام السماوية، وما قيل في عشقها للأشخاص العُلْوية، وأن تحرك الفلك لعشقه لما فوقه، وقولهم في النفس ونزولها عن عالم العقل إلى عالم الحس حتى نسيت بعد الذكر وجهلت بعد العلم، وغير ذلك من تخاليطهم مما يتصل علمه عندهم بمنصوبات الشطرنج.
ثم آلة أخرى تسمى الجوارحية، استحدثت في زماننا هذا، وهي سبعة أبيات في ثمانية، وأمثلتها اثنا عشر في كل جهة منها ستة، كل واحد من الستة يسمى باسم جارحة من جوارح الإِنسان التي بها يميز وينطق ويسمع ويبصر ويبطش ويَسْعَى، وهي سائر الحواس، والحاسُّ المشترك، وهو الذي من القلب.
وقد ذكرت الهند وغيرها من اليونانيين والفرس والروم وغيرهم ممن لعب بها كيفية صورها ونَصبها ومباديها ووجوه عللها والغرائب فيها وتصنيف القوائم والمفردات وأنواع ظرائف المنصوبات.
وقد استعمل لُعَّاب الشطرنج عليها فنون الهزل والنوادر المدهشة فزعم كثير منهم أن ذلك مما يبعث على لعبها وانصباب المواد وصحيح الأفكار إليها، وأن ذلك بمنزلة الِإرتجاز الذي يستعمله أهلُ القتال عند اللقاء والحادي عند الِإعياء والمائح للغَرْب عند الاستقاء، وأن ذلك عُدَة للاعب كما أن الشعر والارتجاز من عدة المحَارب.
وقد قيل فيما وصفنا أشعار كثيرة مما قاله بعض اللُّعَّاب؛ فمن ذلك:
نوادر الشطرنج في وقتها ... أحَرُّ من ملتهب الجمر
كم من ضعيف اللعب كانت له ... عوناً على مستحسن القَمْرِ
ومما قيل فيها فأحسن قائلها وبالغ في وصف اللعب بها:
أرض مربعة حمراء من أدمٍ ... ما بين إلْفَيْنِ موصوفين بالكرم
تذاكرا الحرب فاحتالا لها شَبَها ... من غير أن يَسْعَيَا فيها بسَفْك دم
هذا يُغِيرُ على هذا، وذاك على ... هذا يغير وعين الحرب لم تنم
فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعرفة ... في عسكرين بلا طَبْل ولاَ علم
ومما قيل فيها فبولغ في وصفها، واستوعب النظر لأكثر معانيها، قاله أبو الحسن بن أبي البغل الكاتب، وكان من جِلّة الكتاب وكبار العمال وممن اشتهر بمعرفتها واللعب بها، وهو:
فتى نَصَبَ الشطرنج كيما يرى ... بها عواقب لا تَسْمُو لها عينُ جاهل
وأبصر أعْقَابَ الأحاديث في غد ... بعيني مُجِدّ في مَخِيلَة هازل

فأجدىَ على السلطان في ذاك أنه ... أراه بها كيف اتقاء الغوائل
وتصريف ما فيها إذا ما اعتبرته ... شبيه بتصريف القنا والقنابل
كلمات في النرد
قال المسعودي: فأما ما قيل في النرد وأوصافها فقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب كيفية نصبها والمحدِثَ للعبها، على ما حكي من التنازع في ذلك عند ذكرنا أخبار الهند، وفيها عند ذوي المعرفة بها ضروب اللعب وفنون من الترتيب، ووجوه من النصب، إلا أن عدد البيوت واحد زيادة فيها ولا نقصان، على ما تقدم في ذلك من علمها والمعهود في أصولها، وأن الفصين فيها مُحَكمان، واللاعب بهما وإن لم يكن مختاراً ولا خارجاً عن حكم الفصين فيها وقضائهما محتاج إلى أن يكون صحب النقل وسابقه صحيح الحساب حسن الترتيب جيده.
وقد قيل في لعبها ووصفها وإحكام الفصين فيها وقضائهما على لُعابها أشعار كثيرة بالغوا بالقول فيها، وأغرقوا في استيعاب معانيها، من ذلك قول بعضهم:
لا خير في النَّرْدِ لا يغني ممارسَهَا ... حُسْنً الذكاء إذا ما كان محروما
تريك أفعال فَصَيْهَا بحكمهما ... ضدين في الحال ميموناً ومشؤوماً
فما تكاد ترى فيها أخا أدب ... يفوته القَمْرُ إلا كان مظلوما
وأخبرني أبو الفتح محمود بن الحسين السندي بن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم، وكان من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب، أنه كتب إلى صديق له يذم النرد، وكان بها مشتهراً، أبياتاً، وهي:
أيها المعجب المفاخر بالنَّرْ ... د ليُزْهى بها على الِإخوان
قد لعمري حرصت جهداً على قَمْرك لو لم تواتك الفصان
غير أن الأريب يكذبه الظن ويَبْكِي لشدة الحرمان
وإذا ما القضاء جاءت بحكم ... لم يجدْعن قضائها الخصمان
ولعمري ما كنت أول إنسا ... نٍ تمنى فأخلفته الأماني
وأنشدني أبو الفتح أيضاً لأبي نُوَاس:
ومأمورة بالأمر تأتي بغيره ... ولم تتبع في ذاك غَيّاً ولا رشدا
إذا قلت لم تفعل وليست مطيعة ... وأفعل ما قالت فَصِرْتُ لها عبدا
وقد قدمنا في باب أخبار ملوك الهند فيما سلف من هذا الكتاب قول من قال في النرد والفصين: إنها جعلت مثلاً للمكاسب، وإنها لا تنال بالكَيْس ولا بالحيل، وما ذكر عن أردشير بن بابك في ذلك أنه أول من لعب بها، وأرى تقلب الدنيا بأهلها، وجعل بيوتها اثني عشر على ترتيب عدد الشهور، وإن كلابها ثلاثون كلباً بعدد أيام الشهور، وإن الفصين مثال للقدر وَتَلَعُّبِهِ بأهل هذا العالم، وغير ذلك مما وصفنا من أحوالها، وما قدمنا من ذكرها في هذا الكتاب وغيره مما سلف من كتبنا.
وذكر بعض أهل النظر من الإِسلاميين أن واضع الشطرنج كان عَدْلياً مستطيعاً فيما يفعل، وأن واضع النرد كان مجبراً، فتبين باللعب بها أنه لا صُنْعَ له فيها، بل تصرفه فيها على ما يوجبه القَدَرُعليه بها.
العروضي يحكي عن الراضي وسعة إطلاعه

وذكر العروضي - وهو ممن كان أدَّبَ الراضي وغيره من الخلفاء وأبنائهم - قال: حدثت الراضي ذات يوم خبراً لقتيبة بن مسلم الباهلي في الكبر وغيره من الخصال التي توجد في أهل الرياسات مما يحمد فيهم وما يكره منهم من الأخلاق، فكتب ذلك في حال صباه وعنفوان حداثته ولقد رأيته مواظباً على درسه إلى أن استكمل إتقانه في مجلسه، فداخل عند ذلك طرب وفرح وأريحية لم أعهدها منه، ثم قال لي وقد أقبل عليَّ: لعل الزمان أن يبلغ بي أن أتأدب بهذه الخصال، وأكون في مرتبة من يرتاض بهذه الآداب، وهو أنه قيل لقتيبة بن مسلم وهو وَالٍ على خراسان للحجاج ومحاربٌ للترك: لو وجهت فلاناً - لرجل من أصحابه - إلى حرب بعض الملوك على الجيش، فقال قتيبة: إنه رجل عظيم الكبر، ومَنْ عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفياً، ولم يؤامر نصيحاً ومَنْ تَبَجّحَ بالإِعجاب وفخر بالاستبداد، كان من الصنع بعيداً، ومن الخذلان قريباً، والخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة، ومن تكبر على عدوه حَقَره، وإذا حَقَره تهاون بأمره، ومن تهاون بأمر عدوه ووثق بأمر قوته وسكن إلى جميعِ عُدّته قَل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عِثَاره؛ وما رأيت عظيماً تكبر على صاحب حرب قَطُّ إلا كان منكوب ومهزوماً من قَطَاةٍ، وأحذر من عَقْعَق، وأشد إقداماً من أسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأسخى من ديك، وأشح من ظبي، وأحرس من كركي ، وأحفظ من كلب، وأصبر من ضب، وأجمع من النمل، وإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدْر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطمع على قدر السبب، وقد قيل على وجه الدهر: ليس لمعجَبٍ رأيٌ، ولا لمتكبر صديق، ومن أحب أن يُحَبَ تحبب
بين معاوية وقيس بن سعد
قال العروضي: وتذاكرنا يوماً بحضرة الراضي باللّه في حال صباه - وقد حضر جماعة من ذوي العلم والمعرفة بأخبار الناس ممن غَبَرَ - فانتهى الأمر إلى خبر معاوية بن أبي سفيان حين ورد عليه كتاب من ملك الروم يرسل إليه سراويل أجْسَم رجل عنده، فقال معاوية: لا أعلمه إلا قيس بن سعد، فقال لقيس: إذا انصرفت فابعث إلي بسراويلك، فخَلَعَهَا ورمى بها، فقال معاوية: هلا بعثت بها من منزلك، فقال قيس:
أردت لكيما يعلم الناسُ أنها ... سراويلً قيسٍ والوفود شهود
وأن لا يقولوا: غاب قيس وهذه ... سراويل عَادٍ قد نمته ثمود
فقال قائل ممن حضر: قد كان جَبَلَةُ بن الأيهم أحد ملوك بني غَسَّان طوله اثنا عشر شبراً، فإذا ركب مسحت قدماه الأرض، فقال له الراضي للّه: قد كان قيس بن سعد هذا المذكور إذا ركب تخط قدماه الأرض، وإذا مشى بين الناس يتوهمون أنه راكب، وقد كان جَدِّي عليُّ بن عبد اللّه بن العباس طويلاً جميلاً يتعجب الناس من طوله، وكان يقول: كنت إلى منكب عبد اللّه بن عباس، وكان عبد اللّه إلى منكب جَدِّي العباس، وكان العباس بن عبد المطلب إذا طاف بالبيت يرى كأنه فُسْطَاط أبيض، قال: فتعجب واللّه مَنْ حضر من إيراده هذا الخبر ومن كلامه مع صغر سنه.
طير الكيكم
ثم تذاكرنا عجائب البلدان، وما خصَّ به كل صقع من الأرض من أنواع النبات والحيوان والجماد من أنواع الجواهر وغيرها، فقال لي قائل ممن حضر: إن أعجب ما في الدنيا طير يكون بأرض طبرستان على شاطئ الأنهار شبيه بالبَاشِقِ، وأهل طبرستان يسمونه بالكيكم، وهو صياحه الذي يصيح به، ولا يصيح في السنة إلا في هذا الفصل يعني الربيع فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في المياه وغيرها؛ فتزقُه من أول النهار، حتى إذا كان في آخره أخذ واحداً مما قرب من الطير فأكله، وكذلك يفعل في كل يوم إلى أن ينقضي هذا الفصل الربيعي فإذا انقضى ذلك انعكست عليه الطيور فلا تزال تجتمع عليه وتضربه وتطرده، وهو يَهْرُبُ منها ولا يسمع له صوت إلى الفصل الربيعي، وهو طير حسن موشى حسن العينين، قال: وذكر علي بن زيد الطبيب الطبري صاحب كتاب فردوس الحكمة أن هذا الطائر ليس يكاد يُرَى، ولم ترَ قط قدماه على الأرض معاً، بل يطأ على الأرض بإحدى قدميه على البدل لا يطأ الأرض بهما معاً في حالة واحدة، قال: وقد ذكر الجاحظ أن هذا الطير من إحدى عجائب الدنيا، وذلك أنه لا يطأ الأرض بقدميه، بل بأحداهما، خوفاً على الأرض أن تنخسف به من تحته.

قال: والعجب الثاني دودة تكون من المثقال إلى الثلاثة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار، ويرى لها أجنحة خضراء مَلْساء، ولا جناحين لها، غذاؤها التراب لا تشبع منه قط، خوفاً أن يَفْنَى تراب الأرض فتهلك جوعاً، وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة.
قال: والعجب الثالث أعجب من الطير والدودة، من يكري نفسه للقتل، يعني المرتزقة من الجند.
فاستحسن هذا الخبر مَنْ حضر، فقال أبو العباس الراضي معارضاً لهذا المخبر الذي أخبر بالخبر الأول: قد ذكر عمرو بنِ بحر الجاحظ أن أعجب ما في الدنيا ثلاث؛ البوم لا يظهر بالنهار خوفاً أن تصيبها العين لحسنها وجمالها، ولما قد تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان؛ فتظهر بالليل، والعجب الثاني الكركي، لا يطأ بقدميه الأرض، بل بإحداهما، فإذا وطىء بإحداهما لا يعتمد عليها اعتماداً قوياً، ومشى بالتأني، خوفاً من أن تنخسف الأرض من تحته، لثقله، والعجب الثالث الطائر الذي يقعد على بُثُوقِ الماء من الأنهار إذا انخرقت، الذي يعرف بمالك الحزين على شبه الكركي خوفاً من الماء أن يفنى من الأرض فيموت عطشاً.
قال العروضي: فافترق مَنْ حضره وكلُّ متعجب من الراضي مع صباه وصغر سنه كيف تتأتى منه هذه المذاكرات، مع أن من حضره من أهل الرأي والسن والمعرفة.
قال المسعودي: وقد أتينا فيما سلف من كتبنا على عجائب الأرض والبحار وما فيها من عجائب البنيان والحيوان والجماد والمائع والرجراج؛ فأغنى ذلك عن إيرادها في هذا الموضع.
وإنما نذكر أخبار الراضي وما كان من أمر في صباه وما أخبر عنه مؤدبه به، ونظمنا من أخباره ما تأتى لنا ذكره في هذا الكتاب.
الراضي يعد العروضي بمنحة إذا أضحكه
وأخبرنا العروضي قال: سمرت عند الراضي في ليلة شاتية صهَابية؛ فرأيته قلقاً متململاً؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين، أرى منك خصالاً لم أعهدها، وضيق صدر لم أعرفه؛ فقال له: دع عنك هذا، وحدثني بحديث فإن أنت أزلت بحديثك ما أجده من الهم فلك ما عليَّ وما تحتي، على أن أشترط عليك إزالة بالضحك، قلت: يا أمير المؤمنين، رَحَلَ رجل من بني هاشم إلى ابن عمه بالمدينة؛ فأقام عنده حولاً لم يدخل مُسْتَرَاحاً؛ فلما كان بعد الحول أراد الرجوع إلى الكوفة، فحلف عليه ابن عمه أن يقيم عنده أياماً أخر، فأقام، وكان للرجل قَيْنَتَانِ، فقال لهما: أما رأيتما ابن عمي وظَرْفَه؟ أقام عندنا حولاً لم يدخل الخلاء، فقالَتَا له: فعلينا أن نصنع له شيئاً لا يجد معه بداً من الخلاء، قال: شأنكما وذلك، فعمدَتَا إلى خشب العُشَر، فدقتاه، وهو مسهل، وطرحتاه في شرابه، فلما حضر وَقت شرابهما قَدَّمتاه إليه، وَسَقَتَا مولاهما من غيره، فلما أخذ الشراب مأخذه منه تناوم المولى، وتمغص الفتى من جوفه فقال للتي تليه: يا سيدتي، أين الخلاء؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنيه:
خَلَا من آل فاطمَةَ الديار ... فمنزلُ أهلها منها قِفَارُ
فغنته، فقال الفتى: أطنهما كوفيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا سيدتي، أين الحُشُّ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
أوْحَشَ الدقرات فالدير منها ... فعناها بالمنزل المعمور
فغنته، فقال الفتى: أظنهما عراقيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: أعزك اللّه أين المتوضأ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنيه:
تَوَضأ للصلاة وصَلِّ خمساً ... وآذن بالصلاة على النبي
فغنته، فقال: أظنهما حجازيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: يا سيدتي أين الكنيف؟ قالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
تكنَّفَنِي الواشون من كل جانب ... ولو كان واش واحد لكفانيا
فغنته، فقال: أظنهما يمانيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا هذه أين المستراح؟ فقالت لها صاحبتها: ما قال لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
ترك الفكاهة والمزاحا ... وقَلَا الصبابة واستراحا
فغنته، والمولى يسمع ذلك وهو متناوم، فلما اشتد به الأمر أنشأ يقول:
تكنفني السُّلَاحُ وأضجروني ... على ما بي بتكرير الأغاني

فلما ضاق عن ذاك اصطباري ... ذَرَقْت به على وجه الزواني
ثم إنه حَل سراويله وسَلَحَ عليهما، فتركهما آية للناظرين، وانتبه المولى في أثر ذلك، فلما رأى ما نزل بجواريه قال: يا أخي، ما حملك على هذا الفعل. قال: يا ابن الفاعلة لك جَوَارٍ يَرَيْنَ المخرج صراطاً مستقيماً لا يدللنني عليه، فلم أجد جزاء غير هذا؟ ثم رحل عنه، قال: فذهب بالراضي الضحك كلَّ مذهبِ، وسَلّم إليَّ كل ما كان عليه وتحته من لباس وفرش، فكان مبلغ ثمن ذلك نَحواً من ألف دينار.
لبس المأمون الخضرة ثم السواد
وذكر الصولي قال: قال لي الراضي: ما كان السبب في لبس المأمون الخضرة ورفعه السواد ثم لبسه السواد بعد ذلك؟ قلت: هو ما أخبرنا به محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان قال: لما قدم المأمون بغداد اجتمع الهاشميون إلى زينب بنت سليمان بن علي، وكانت أقْعَدَ ولد العباس نسباً، وأكبرهم سناً، فسألوها أن تكلم أمير المؤمنين المأمون، في تغييره الخضرة، فضمنت لهم ذلك، وجاءت إلى المأمون فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك على بِرِّ أهلك من ولد علي بن أبي طالب أقْدَرُ منك على برهم لنا من غيرِ أن تزيل سنة من مضى من آبائك، فدع لباسك الخضرة، ولا تُطْمعن أحداً فيما كان منك، قال لها: يا عمة ما كلمني أحد في هذا المعنى بكلام أوقع من كلامك، ولا أقصد منه لما أردت، لكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توفي فولى الإمرة أبو بكر، فقد عرفت ما كان من أمره فينا أهل البيت، ثم وليها عمر فلم يتعدَّ فيها فعل من تقدمه، ثم وليها عثمان فأقبل على بني أُمية وأعرض عن غيرهم، ثم آل الأمر إلى علي بن أبي طالب من غير صفو كصفوها لغيره بل مَشُوبة بالأكدار، فولي مع ذلك عبد اللّه بن العباس البصرة، وولي عبيد اللّه بن العباس اليمن، وولي قُثَمَ البحرين، وما ترك منهم أحداً إلا ولاهُ، فكانت هذه في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت، ولا يكون بعد هذا إلا ما تحبون، ثم رجع إلى لُبْس السواد، وللمأمون يا أمير المؤمنين شعر يشاكل معنى ما ذكرت من هذا الخبر وهو قوله:
ألامُ على شكر الوَصِيِّ أبي الحسن ... وذلك عندي من عجائب ذا الزمن
خليفة خير الناس، والأوَّلُ الذي ... أعان رسول اللّه في السر والعلن
ولولاه ما عُدَّتْ لهاشِمٍ إمرة ... وكانت على الأيام تقضى وتمْتهنْ
فولى بني العباس ما اختص غيرهم ... ومن مسه أولى بالتكرم والمنن
فأوضح عبد اللّه بالبصرة الهدى ... وفاض عبيد اللّه جوداً على اليمن
وقَسمَ أعمال الخلافة بينهم ... فلا زلت مربوطاً بذا الشكر
بين القاهر والراضي

وكان القاهر قد عمد إلى كثير من الأموال عند قتله لمؤنس وبليق وابنه علي وغيرهم فغيَّبَهَا، فلما قبض عليه وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي طولب القاهر بالأموال، فأنكر أن يكون عنده شيء من ذلك، فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً، فأخذه الراضي وقربه وأدناه، وطالت مجالسته وإياه، وإكرامه له، وأعطاه حق العمومية والسن والتقدم في الخلافة، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإِحسان، وكان للقاهر في بعض الحصون بستان نحو من جريب قد غرس فيه النارنج وقد حمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره، ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزمر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القَمَاري والدباسي والشحارير والببغاء، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار، وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الشرب عليه، والجلوس في تلك المجالس، فلما أفْضَتِ الخلافة إلى الراضي اشتد شغفه بذلك الموضع، فكان يداوم الجلوس والشرب فيه، ثم إن الراضي رَفَقَ بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من مطالبة الرجال بالأموال والحاجة إليها، ولا شيء قِبَلَه منها، وسأله أن يُسْعفه بما عنده منها إذ كانت الدولة له، وأن يدبر تدبيره، ويرجع في كل الأمور إلى قوله، وحلف له بالأيمان الوكيدة أن لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده، فأنعم له القاهر بذلك، وقال: ليس لي مال إلا في بستان النارنج؛ فصار الراضي إلى البستان وسأله عن الموضع، فقال له القاهر: قد حجب بصري فلست أعرف موضعه، ولكن مر بحفرة فإنك تظهر على الموضع ولا يخفى عليك مكان ذلك، فحفر البستان، وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ في حفره فلم يجد شيئاً، فقال له الراضي: فما هاهنا شيء مما ذكرت، فما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال له القاهر: وهل عندي من المال شيء؟ إنما كانت حَسْرَتِي على جلوسك في هذا الموضع وتمتعك به، وكان لذتي من الدنيا، فتأسفت على أن يمتع به بعدي غيري، فتأسف الراضي على ما توجَّهَ عليه من الحيلة في أمر ذلك البستان، وندم على قبوله منه، وأبعد القاهر، فلم يكن يدنو منه خوفاً على نفسه أن يتناول بعض أطرافه.
خلق الراضي وعاداته
وكان الراضي كثير الاستعمال للطيب، حسن الهيئة، سخياً، جواداً، حسن المذاكرة بأخبار الناس وأيامهم، مقرباً لأهل العلم والأدب والمعرفة، كثير الدنو منهم، فائضاً بجوده عليهم، ولم يكن ينصرف عنه أحد من ندمائه في كل يوم إلا بصلة أو خلعة أو طيب، وكانوا عدة ندماء: منهم محمد بن يحيى الصولي، وابن حمدون النديم، وغيرهما، فعوتب على كثرة إفضاله على مَنْ يحضره من الجلساء، فقال: أنا أستحسن فعل أمير المؤمنين أبي العباس السفاح؛ لأنه كانت فيه فضائل لا تكاد تجتمع في أحد، لا يحضره نديم ولا مغن مُلْهٍ ولا قَيْنَة فينصرف إلا بصلة أو كسوة قَلّتْ أو كثرت، وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول العجب من إنسان يفرح إنساناً فيتعجل السرور ويؤخر ثواب مَنْ سره تسويفاً وعِدَةً، فكان أبو العباس في كل ليلة أو يوم يقعد لشغله لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسروراً، ونحن إن لم تتأت لنا الأُمور كتأتيها لمن سلف فإنا نواسي جلساءنا، بل إخواننا، ببعض ما حضرنا، وكان سخياً على سائر الأشياء لا يستكثر لأحد من ندمائه كثرة ما يصل إليه على طول الأيام، حتى كان بعضهم ربما يتأخر عن الحضور لما يترادف عليه من فضله، وكان الغالب عليه من الخدم وزيرك، ومن الغلمان ذكي وغيره.
الراضي باللّه وبجكم التركي
وحدث أبو الحسن العروضي مؤدب الراضي قال: اجتزت في يوم مهرجان بدجلة بدار بَجْكم التركي؛ فرأيت من الهرج والملاهي واللعب والفرح والسرور ما لم أر مثله، ثم دخلت إلى الراضي بالله فوجدته خالياً بنفسه قد اعتراه هَمّ؛ فوقفت بين يديه، فقال لي: ادن، فدنوت؛ فإذا بيده دينار ودرهم، في الدينار نحو من مثاقيل ، وفي الدرهم كذلك، عليهما صورة بَجْكم شاك في سلاحه وحوله مكتوب:
إنما العز فأعْلَم ... للأمِير المُعَظَّم
لسيد الناس بَجْكم

ومن الجانب الآخر الصورة بعينها، وهو جالس في مجلسه كالمفكر المطرق فقال الراضي: أما ترى صنع هذا الإِنسان، وما تسمو إليه همته، وما تحدثه به نفسه؟ فلم أجبه بشيء، وأخذت به في أخبار من مضى من الخلفاء وسيرهم في أتباعهم، ثم نقلته إلى أخبار ملوك الفرس وغيرها، وما كانت تَلْقَاه من أتباعها، وصبرهم عليهم، وحسن سياستهم لذلك، حتى تصلح أمورهم، وتستقيم أحوالهم؛ فسلا عما عرض لنفسه، ثم قلت: ما يمنع أمير المؤمنين أن يكون كالمأمون في هذا الوقت حيث يقول:
صِل الندمان يوم المهرجان ... بصافٍ من مُعَتَّقَة الدِّنَان
بكأس خُسْرُوَانى عتيق ... فإن العيد عيد خسروانى
وَجَنِّبْنِي الزبيبين طُرّاً ... فشأن ذوي الزبيب خلاف شاني
فأشربها وأزعمها حراماً ... وأرجو عفو رب ذي امتنان
ويشربها ويزعمها حلالاً ... وتلك على الشَقِيِّ خطيئتان
قال: فطرب وأخذته أريَحِيَّته، فقال لي: صدقت، تَرْكُ الفرح في مثل هذا اليوم عجز، وأمر بإحضار الجلساء، وقعد في مجلس التاج على دجلة، فلم أر يوماً كان أحسن منه في الفرح والسرور، وأجاز في ذلك اليوم من حَضَرَه من الندماء والمغنين والملهين بالدنانير والدراهم والخلع وأنواع الطيب، وأتته هدايا بَجْكم وألطَافه من أرض العجم، فسُرَّ في ذلك اليوم وجميع من حضره.
قال المسعودي: وقد أتينا على ما كان في أيام الراضي من الكوائن والحوادث مجملاً ومفصلاً في كتابنا أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان، من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة وما كان من أمره في حال خروجه مع بَجْكم إلى بلاد الموصل وديار ربيعة، وما كان بين بَخكم وأبى محمد الحسن بن عبد اللّه بن حَمدَان المسمى بعد ذلك بناصر الدولة، وَقَصْدُنَا فيما ذكرنا في هذا الكتاب إلى الاختصار، دون الشرح والإكثار، إذ كان في الإكثار من الأخبار ثقل على القلوب، ومَلَل للسامع، وقليل الأخبار، يغني عن كثير الإقتدار.
ذكر خلافة المتقي للّه
وبويع المتقي للّه، وهو أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ المقتدر، لعشر خَلَوْنَ من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وخلع وَسُمِلَتْ عيناه يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وكانت خلافته ثلاث سنين وَأحَدَ عَشَرَ شهراً وثلاثة وعشرين يوماً، وأمه أًم ولد.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وزراؤه
ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المتقي للّه أقَرَّ على الوزارة سليمان بن أحسن بن مَخْلَد، ثم استوزر أبا الحسن أحمد بن محمد بن ميمون، وكان كاتبه قبل الخلافة، ثم استوزر أبا إسحاق محمد بن أحمد القَرَارِيطِي، ثم استوزر أبا العباس أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني، ثم استوزر أبا الحسن علي بن محمد بن مُقْلَة، وَغَلَبَ على الأمر أبو الوفاء توزون التركي.
انتقاض الأمر عليه

واشتد أمر البريديين بالبصرة، ومنعوا السفن أن تصعد، وعظم جيشهم، وكثرت رجالهم، وصار لهم جيشان: جيش في الماء في الشذوات والطيارات والسميريات والزبازبِ، وهذه أنواع من المراكب يُقَاتَلُ فيها صغار وكبار، وجيش في البر عظيم، واصطنعوا الرجل، وبذلوا الرغائب، فانضاف إليهم حجرية السلطان وغلمانه، وصار جيش السلطان الأتراك والديلم والجبل ونفراً من القرامطة، وكلُّ ذلك مع توزون، وكان توزون من رفقاء بَجْكم والخواص من أصحابه، فانحدر توزون إلى واسط لحرب البريديين، وكانوا ملكوا واسط وتغلبوا عليها، فكانت بينهم سِجَالاً، والمتقي للّه لا أمر له، ولا نَهْي، فكاتب المتقي أبا محمد الحسن بن عبد اللّه بن حمدان ناصر الدولة، وأخاه أبا الحسن على بن عبد اللّه سيف الدولة أن يُنْجِدوه ويستنقذوه مما هو فيه، ويفوض إليهما الملك والتدبير، وقد كان قبل ذلك خرج إليهم وتوزون في جمليهم منضاف وغيره من الأتراك والدَيْلم، وذلك عند قتلهم محمد بن رائق في سنة ثلاثين وثلاثمائة، وانحدارهم إلى مدينة السلام، واستيلائهم على الملك والقيام به وحربهم البريديين، وما كان بينهم من الوقائع إلى أن توجهَ عليهم ما ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان من خروج أبي محمد الحسن بن عبد اللّه من الحضرة إلى الموصل، ولوحق أخيه أبي الحسن علي بن عبد اللّه، وخَلاَصه مما دَبَّرَه عليه توزون وجعجع التركي، وخرج المتقي إلى الموصل، فلما بلغ توزونَ ذلك رجع إلى بغداد وقصد بني حَمْدَان، فكان التقاؤهم بعكبرا، فكانت بينهم سِجَالاً، ثم كانت لتوزون عليهم، فرجع إلى بغداد، ثم أجمعوا له أيضاً، ورجعوا إليه، فتركهم حتى قربوا إلى بغداد، فخرج عليهم فلقيهم فهزمهم بعد مواقعات كانت بينهم، وسار وراءهم حتى دخل الموصل، وخرج عنها إلى مدينة بلد، فصالحوه على مالٍ حملوه إليه، فرجع إلى بغداد وهو مُسْتَظْهر بمن معه من الأتراك والجبل والديلم وكمال العدة والكراع، وسار المتقي إلى نصيبين، ورجع عنها إلى الرقة فنزلها، وذلك لأيام بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وكاتب الإِخشيد محمد بن طغجِ صاحب مصر فسار إلى الرقة وحمل إليه مالاً كثيراً، وأهدى إليه غلماناً وأثاثاً، وضم إليه قائداً من قواده، وجَفَل أمره، وزاد في حاله، وبَرَّ جميع من معه من وزيره أبي الحسن علي بن محمد بن مقلة، وقاضي القضاة أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق الخرقي، وسلام الحاجب المعروف بأخي نجح الطولوني، وجماعة الوجوه والغلمان، ثم لم يعبر الإِخشيد محمد بن طغج إلى الرقة ولا إلى شيء من جانب الجزيرة وديار مُضَرَ، وعبر المتقي، وسار إلى معسكره من الجانب الشامي؛ فكانت بينهم خطوب وأيمان وعهود، وأبو الحسن علي بن عبد اللّه بن حَمْدَان مقيم بحران على طول مُقَام المتقي بالرقة، وقد كان أبو عبد اللّه الحسين بن سعيد بن حَمْدَان سار عن حلب وبلاد حمص عند مسير الإخشيد إلى بلاد قنسرين والعواصم، فانفَضَّ جمعه، وتفرق جنده عنه، وانضافوا إلى أبي الحسن علي بن عبد اللّه، واتصلت كُتُبُ توزون بالمتقي، وتواترت رسله يسأله الرجوع إلى الحضرة، وأشهد توزون مَنْ حضره من القضاة والفقهاء والشهود، وأعطى العهود والمواثيق بالسمع والطاعة للمتقي، والتصرف به بين أمره ونهيه، وترك الخلاف عليه، وأنفذ إليه كتب القضاة والشهود بما بذل من الأيمان وأعطى من العهود، وأشار بنو حمدان على المتقي أن لا ينحدر، وخَوَّفوه من توزون، وحَذَّروه أمره، فإنه لا يأمنه على نفسه؛ فأبى إلا مخالفتهم والثقة بما ورد عليه من توزون، وقد كان بنو حمدان أنققوا على المتقي نفقةً واسعة عظيمة طول مقامه عندهم واجتيازه بهم؛ يكثر وصفها ويعسر علينا في التحصيل إيرادها بإكثار المخبرين لنا بتحديدها، وانصرف الإخشيد عن الفُرَات متوجهاً نحو مصر، وانحدر المتقي في الفرات، فتلقاه أبو جعفر بن شيرزاد كاتب توزون بأحسن لقاء، وأقام له الأتراك، ومضى في إنحداره حتى دخل النهر المعروف بنهر عيسى، وسار إلى الضيعة المعروفة بالسندية على شاطئ هذا النهر، فتلقاه توزون هنالك، وتَرجلَ له ومشى بين يديه؛ فأقسم عليه أن يركب ففعل، حتى وافى به إلى المضرب الذي كان ضَرَبَه له عَلى الشط من نهر عيسى، وذلك على شَوْطٍ من مدينة السلام، فأقام هنالك، وأنفذ رسلاً إلى دار طاهر ليحضر المستكفي، فلما حصل

المستكفي في المضرب قبض على المتقي، ونهب جميع ما كان معه، وقبض على وزيره أبي الحسن علي بن محمد بن مُقْلَة، وعلى قاضيه أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق، ونهب جميع المسكر، وانصرف القائد الذي كان الإخشيد ضمه إلى المتقي ومن معه إلى صاحبهم، وأحضر المستكفي فبويع له، وكُحِلَ المتقي، فصاح وصاح النساء والخدم لصياحه، فأمر توزون بضرب الدبادب حول المضرب، فخفي صُرَاخ الخدم، وأدخل إلى الحضرة، مسمول العينين، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، وسُلَمَ إلى المستكفي باللَه، وبلغ ذلك القاهر فقال: قد صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث، يُعَرِّض بالمستكفي بالله.في في المضرب قبض على المتقي، ونهب جميع ما كان معه، وقبض على وزيره أبي الحسن علي بن محمد بن مُقْلَة، وعلى قاضيه أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق، ونهب جميع المسكر، وانصرف القائد الذي كان الإخشيد ضمه إلى المتقي ومن معه إلى صاحبهم، وأحضر المستكفي فبويع له، وكُحِلَ المتقي، فصاح وصاح النساء والخدم لصياحه، فأمر توزون بضرب الدبادب حول المضرب، فخفي صُرَاخ الخدم، وأدخل إلى الحضرة، مسمول العينين، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، وسُلَمَ إلى المستكفي باللَه، وبلغ ذلك القاهر فقال: قد صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث، يُعَرِّض بالمستكفي بالله.
المتقي يطلب رجلاً إخبارياً يأنس به
وحدث محمد بن عبد اللّه الدمشقي قال: لما نزل المتقي الرقة كنت فيمن يتصرف بين يديه، وأقرب منه في الخدمة، لطول صحبته، فقال لي في بعض الأيام في الرقة وهو جالس في داره مشرفاً على الفرات: اطلب لي رجلاً إخبارياً يحفظ أيام الناس أتفرج إليه في خلواتي وأستريح به في الأوقات، قال: فسألت بالرقة عن رجل بهذا الوصف، فأرشدت إلى رجل بالرقة كهل لازم لمنزله، فصرت إليه، ورَغّبته في الدخول إلى المتقي باللّه، فقام معي كالمكره، وصرنا إلى المتقي فأعلمته إحضاري للرجل الذي طلبه، فلما خلا وجهه دعا به واستدناه، فوجد عنده ما أراد، فكان معه أيام مقَامِه بالرقة، فلما انحدَرَ كان معه في الزورق، فلما صار إلى فم نهر سعيد وذلك بين الرقة والرحبة - أرِقَ المتقي ذات ليلة، فقال للرجل: ما تحفظ من أشعار المبيضة وأخبارها؟ شمر الرجل في أخبار آل أبي طالب إلى أن صار إلى أخبار الحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد بن الحسن وما كان من أمرهما ببلاد طبرستان، وذكر كثيراً من محاسنهما، وقصْد أكمل العلم والأدب إياهما، وما قالت الشعراء فيهما، فقال له المتقي: أتحفظ شعر أبي المقاتل نصر بن نصير الحلواني في محمد بن زيد الحسني الداعي؟ قال: لا يا أمير المؤمنين لكن معي غلام لي قد حفظ بحداثة سنه وحدة مزاجه وغلبة الهمة لطلب العلم والأدب عليه ما لم أحفظ من أخبار الناس وأيامهم وأشعارهم، قال: أحضره، ولِمَ أخفيت عني خبر مثل هذا فيكون حضوره زيادة في أنسنا؟ فأحضر الغلام من زورق آخر، فوقف بين يديه، فقال له صاحبه: أتحفظ قصيدة أبي المقاتل في ابن زيد؟ قال: نعم، قال المتقي: أنْشِدْنِيهَا، فابتدأ ينشده إياها:
لا تقل بُشْرى وقل لي بُشْرَيان ... غُرَّةُ الداعي ويوم المهرجان
خَلِقَتْ كَفَّاهُ موتاً وحياة ... وَحَوَتْ أخلاقه كُنْهَ الجنان
فَهْوَ فصل في زمان بدوي ... وابن زيد مالك رِقَّ الزمان
فَهْوَ للكل بكل مستقل ... بالعَطَايا والمنايا والأمان
أوْحَدٌ قام بتشييد المباني ... فبهِ اسْتُنْبِطَ أجناسُ المعان
مُسْرِف في الجود من غير اعتذارٍ ... وعظيم البر من غير امتنان
وهو مَنْ أرسى رسول اللّه فيه ... وعلياه المعلى والحسان
سيد عرق فيه السيدان ... والذي يكبر عن ذكر الحصان
مُخْتَفٍ فكرته في كل شيءٍ ... فَهْوَ في كل محلٍّ ومكان
يعرفُ الدهر على ما غاب عنه ... فيرى المضمر في شخص العِيَان
يتناءى لفظنا عنه ولكن ... هو بالأوصاف في الأذهان دان
أخرجت ألفاظه ما في الخفايا ... وكَفَاهُ الدهر نطق الترجمان

=

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...