مجلد
3. مروج الذهب المسعودي
إني
لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المَعَادَ ولكن كان شيطانَا
أشقى مراد إذا عُدت قبائلها ... وأخْسَرُ الناس عند الله ميزانَا
كعاقر الناقة الأول التي جَلَبَتْ ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أنْ سوف يخضبهَا ... قبل المنية أزمانا فأزمانَا
فلاعَفَا الله عنه ماتحمله ... ولا سقى قبر عمران بن حطانَا
لقوله في شقي ظل مجترماً ... ونال ماناله ظلما ًوعدوانَا
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من في العرش رضوانا
بل ضربة من غوي أورثته لظى ... مخلدا قد أتى الرحمن غضبانَا
كأنه لم يرد قصداً بضربته ... إلا ليَصْلَى عذاب الخلد نيرانَا
ولعمران بن حطان ولأبيه حطان أخبار كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار
الزمان في باب أخبار الخوارج من الأزارقة والأباضية والحمرية والصفرية والنجدية
وغيرهم من فرق الخوارج إلى سنة ثمان عشرة وثلثمائة. وكان آخر من خرج منهم ربيعه
المعروف بغيرون، فأدخل على المقتدر بالله، بعث به ابن حمدان من كفرتوتا، وقد كان
خرج في أي أمه أيضاً المعروف بأبي شعيب.
وقد رثى الناس أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه في ذلك الوقت وإلى هذه الغاية،
وذكروا مقتله، وممن رثاه في ذلك الوقت أبو الأسود الدؤلي من أبيات:
ألا أبلغ معاوية بن حَرْب ... فلا قَرت عيونُ الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونأ ... بخير الناس طرا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... ودَللها و من ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حَذَأها ... ومن قرأ المثاني والمبينا
إذا اسقبلت وجه أبي حسين ... رأيت النور فوق الناظرينا
لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حَسبأ ودينا
البرك ومعاوية
وانطلق البركُ الصريمي إلى معاوية فطعنه بخنجر في آليته وهو يصلي فأخذ وأوقف بين
يديه، فقال له: ويلك! وما أنت؟ وما خبرك؛ قال: لا تقتلني وأخبره، قال: آنا تبايعنا
في هذه الليلة عليك وعلى عليّ وعلى عمرو؛ فإن أردت فأحسبني عندك، فإن كانا قتلا
وإلا خليت سبيلي فطلبت قتل عليّ، ولك علي أن أقتله وأن أتيك حتى أضع يدي في يدك،
فقال بعض الناس: قتله يومئذ، وقال بعضهم: حسبه حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه.
زادويه وعمرو بن العاص
وانطلق زادويه - وقيل: إنه عمرو بن بكر التميمي - إلى عمرو بن العاص، فوجد خارجة
قاضي مصر جالساً على السرير يطعم الناس في مجلس عمرو، وقيل: بل صلى خارجة بالناس
الغداة ذلك اليوم، وتخلف عمرو عن الصلاة لعارض، فضربه بالسيف، فدخل عليه عمرو وبه
رَمَقٌ، فقال له خارجة: والله ما أراد غيرك، فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة،
وأوقف الرجل بين يدي عمرو، فسأله عن خبره؛ فقص عليه القصة وأخبره أن عليا ومعاوية
قد قتلا في هذه الليلة، فقال: إن قتلا أو لم يقتلا فلا بد من قتلك، فبكى، فقيل له:
أجزعاً من الموت مع هذا الإقدام؟! قال: لا واللّه، ولكن غماً أن يفوز صاحباي بقتل
علي ومعاوية ولا أفوز أنا بقتل عمرو، فضربت عنقه وصلب.
وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل:
تِلكم قريش تَمَنانى لتقتلني ... فلا وربك ما بَروا وما ظفروا
فإن هلكت فَرَهْنٌ ذمتي لهم ... بذات وَدْقَيْنِ لا يعفو لها أثر
وكان يكثر من ذكر هذين البيتين:
أشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حًلّ بواديكا
وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه، فإنه قد خرج إلى المسجد، وقد عسر عليه فتح باب
داره، وكان من جذوع النخل، فاقتلعه وجعله ناحية، وانحل إزاره، فشدَّه وجعل ينشد
هذين البيتين المتقدمين.
وقد
كان معاوية دسَ أناسا من أصحابه إلى الكوفة يشيعون موته، وأكْثَرَ الناسُ القول في
ذلك حتى بلغ علياً، فقال في مجلسه: قد أكثرتم من نعي معاوية، واللّه ما مات ولا
يموت حتى يملك ما تحت قدمي، وإنما أراد ابن أكلة الأكباد أن يعلم ذلك مني، فبعث
مَنْ يشيع ذلك فيكم ليعلم ويتيقن ما عندي فيه، وما يكون من أمره في المستقبل من
الزمان، ومَر في كلام كثير يذكر فيه أيام معاوية ومن تلاه من يزيد ومروان وبنيه
وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب، فارتفع الضجيج، وكثر البكاء والشهيق، فقام قائم
من الناس فقال: يا أمير المؤمنين، ولقد وصفت أمورا عظيمة، الله إن ذلك كائن؛ قال
علي: والله إن ذلك لكائن، ما كذبت ولا كذبت، فقال آخرون: متى يكون ذلك يا أمير
المؤمنين؟ قال: إذا خُضِبَتْ هذه من هذه، ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على
رأسه، فأكثر الناسُ من البكاء، فقال: لا تبكوا في وقتكم هذأ فستبكون بعدي طويلا،
مكاتب أكثر أهل الكوفة معاوية سِرّاً في أمورهم، واتخذوا عنده الأيادي، فواللّه ما
مضت إلا أيام قلائل حتى كان - ذلك، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب - بعد ذكرنا
لزهده ولمع من كل أمه - جملاً من أخباره أيضاً في أيام معاوية بن أبي سفيان، والله
ولي التوفيق.
ذكر لمع من كلامه وأخباره وزهده
رضوان اللّه عليه
خيار العباد
لم يلبس عليه السلام في أي أمه ثوباً جديدأ، ولا أقتنى ضيعة ولا رَبْعأ، إلا شيئاً
كان له بينبع مما تصدق به وحبسه.
والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة
يوردها على البديهة؛ وتداول الناس ذلك عنه قولأ وعملا.
وقيل له: مَنْ خيار العباد؟ قال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا
وإذا أعطوا شكروا وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أغضبوا غفروا.
وصف الدنيا
وكان يقول: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود
منها، الدنيا مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحيه، ومَتْجَر أوليائه،
اكتسبوا فيها الرحمة، ورِبحوا فيها الجنة، ومن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت
بفراقها، ونعَتْ نفسها وأهلها، ومثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى
السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بعافية؛تحذيراً وترغيباً وتخويفأ، فذمها رجال غبَّ
الندامة، وحمدها آخرون غب المكافأة، ذكرتهم فذكروا تصاريفها، وصدقتهم فصدقوا
حديثها، فيا أيها الذامُ للدنيا المغتر بغرورها، متى استدامت لك الدنيا؟ بل متى
غرتك من نفسها؛ أبمضاجع آبائك من البلى؟ أم بمصارع أمه آتك من الثرى؟ كم قد عللت
بكفك ومَرضْتَ بيدك من تبغي له الشفاء وتستوصف له الدواء من الأطباء! لم تنفعه
بشفائك، ولم تسعف له بطلبتك، وقد مثلت ذلك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك: غداً لا
ينفعك بكاؤك، ولا يغنى عنك أحِبِّاؤك - ولا تسمع في مدح الدنيا أحسن فن هذا.
ومما حفظ من كل أمه في بعض مقاماته في صفة الدنيا أنه قال: ألا إن الدنيا قد
ارتحلت مُدْبرة، وإن الآخرة قد دنت مُقْبلة، ولهذه أبناء، ولهذه أبناء، فكونوا من
أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وكونوا من الزاهدين في الدنيا،
والراغبين في الآخرة، إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطأ والتراب فراشاً
والماء طيباً، وقَوَّضُوا الدنيا تقويضاً، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سَلا عن
الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه
المصيبات، ومن راقب الآخرة سارع في المخيرات، ألا وإن للّه عباداً كأنهم يرون أهل
الجنة في الجنة منعدين مخلدين، ويرون أهل النار في النار معذبين قلوبهم محزونة،
وشرورهم مأمونة، أنفسهم عفيفة، وحاجتهم خفيفة صبروا أياماً قليلة فصارت لهم
العقبى، راحة طويلة، أما الليل فصافُّو أقد أمه م، تجري دموعهم على خدوهم،
يَجْأرون إلى ربهم، ويسعون في فكاك رقابهم، وأما النهار فعلماء حكماء بَرَرَة
أتقياء، كأنهم القِدَاح بَرَاهم الخوف والعبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى،
وما بالقوم من مرض، إن خولطوا فقد خالطهم أمر عظيم من ذكر النار ومن فيها.
وقال لابنه الحسن: يا بني، اسْتَغْنِ عمن شئت تكن نظيرهُ، وسل من شئت تكن حقيره،
وأعط من شئت تكن أميره.
ودخل
عليه رجل من أصحابه فقال: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت ضعيفاً مُذنباً،
أكل رزقي، وأنتظر أجلي، قال: وما تقول في الدنيا؟ قال: وما أقول في دار أولها فم،
وآخرها موت، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، حَلالُها حساب، ومراحها
عقاب، قال: فأي الخلق أنعم؟ قال: أجساد تحت التراب، قد أمنت من العقاب، وهي تنتظر
الثواب.
وصف علي عند معاوية
ودخل ضرار بن ضمرة - وكان من خواصِّ علي - على معاوية وافداً، فقال له: صف لي
علياً، قال: أعْفِيِنِي يا أمير المؤمنين، قال معاوية: لا بد من ذلك، فقال: أما
إذا كان لا بد من ذلك فإنه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلا، ويحكم
عدلاً، يتفجرً العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يعجبه من الطعام ما خشن،
ومن اللباس ما قصر.
وكان والله يجيبنا إذا دعوناه، ويعطينا إذا سألناه، وكنا واللّه - على تقريبه لنا
وقربه منا - لا نكلمه هيبة له، ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا، يَبْسِم عن ثغر
كاللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويرحم المساكين، ويطعم في المَسْغَبة يتيماً ذا
مقربة أو مسكيناً ذا متربة، يكسو العُرَيَان، وينصر اللهفَان، ويستوحش من الدنيا
وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، وكأني به وقد أرْخَى الليل سُدُولَه، وغارت نجومه،
وهو في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا
دنيا غُري غيري، إلى تعرضت أم إليَّ تشوفت؟ هيهات هيهات!! لا حان حينك، قد أبنتك
ثلاثاً لارَجْعة لي فيك، عمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك يسير، آه من قلَّة الزاد
وبعد السفر ووَحْشَة الطريق.
من كل أمه
فقال له معاوية: زدني شيئاً من كل أمه ، فقال ضرار: كان يقول: أعجب ما في الإِنسان
قلبه، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سَنَحَ له الرجاء أمَا لَهُ
الطمع، وإن مال به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه القنوط قتله الأسف، وإن عَرَضَ له
الغضب أشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف فضحه الجزع، وإن
أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة فضحه الفقر، وإن أجهده الجوع أقعده الضعف،
وإن أفرط به الشبع كَظَّته البِطْنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
فقال له معاوية: زدني كلما وعيته من كل أمه ، قال: هيهات أن أتى على جميع ما سمعته
منه، ثم قال: سمعته يوصي كميل بن زياد ذات يوم فقال له: يا كميل ذُب عن المؤمن فإن
ظهره حِمى الله، ونفسه كريمة على اللّه، وظالمه خصم اللّه، وأحذركم من ليس له ناصر
إلا الله.
قال: وسمعته يقول ذات يوم: إن هذه الدنيا إذا أقبلت على قوم أعارتهم محاسن غيرهم،
وإذا أدبرت عنهم سَلَبتهم محاسن أنفسهم.
قال: وسمعته يقول: بَطَر الغنى يمنع من عز الصبر.
قال: وسمعته يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة، وسكوته فكرة، وكل أمه حكمة.
وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - بعد أن قتل جعفر بن أي طالب الطيار بُمؤتة
من أرضىِ الشام - لا يبعث بعلي في وجه من الوجوه إلا يقول: " رب لاَ تذَرْنِي
فرداَ، وأنت خير الوارثين " .
وحمل علي يوم أحد على كردوس من المشركين خشن فكشفهم، فقال جبريل: يا محمد، إن هذه
لهي المواساة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جبريل إن عليّاً مني
" ، قال جبريل: وأنا منكم، كذلك ذكره إسحاق عن ابن إسرائيل وغيره.
ووقف عَلَى عَلِيٍّ سائل، فقال للحسن: قل أمك تدفع إليه درهماً، فقال: إنما عندنا
ستة دراهم للدقيق، فقال علي: لا يكون المؤمن مؤمنَاَ حتى يكون بما في يد الله
أوْثَقَ منه بما في يده، ثم أمر للسائل بالستة الدراهم كلها، فما برح علي رضي
اللّه عنه حتى مر به رجل يقود بعيراً؛ فاشتراه منه بمائة وأربعين درهماً، وأنسأ
أجَلَة ثمانية أيام، فلم يحلَّ أجله حتى مر به رجل والبعير معقول فقال: بكم هذا؟
فقال: بمائتي درهم، فقال: قد أخذته، فوزَنَ له الثمن، فدفع علي منه مائة وأربعين
درهما للذي ابتاعه منه، ودخل بالستين الباقية على فاطمة عليها السلام، فسألته: من
أين هي؟ فقال: هذه تصديقٌ لما جاء به أبوك صلى الله عليه وسلم: " مَنْ جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها " .
وَمَرَّ
ابن عباس بقوم ينالون من علي وشبونه، فقال لقائده: أدْنِنِي منهم، فأدناه، فقال:
أيكم الساب اللّه؟ قالوا: نعوذ باللّه أن نسب اللّه، فقال: أيكم الساب صلى الله
عليه وسلم؟ فقالوا: نعوذ باللّه أن نسب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكم
الساب علي بن أبي طالب؟ قالوا: أما هذه فنعم، قال: أشهد لقد سمعت رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم يقول: " من سبني فقد سب الله، ومن سب عليا فقد سبني "
فأطْرَقُوا، فلَمَّا ولى قال لقائدة: كيف رأيتهم؟ فقال:
نظروا إليك بأعين مُزوَزَة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال: زدني فداك أبي وامي، فقال:
خُزْرَ العيون مُنَكِّسِي أذقانهم ... نظر الذليل إلى العزير القاهر
قال: زدني فداك أبي وامي، قال: ما عندي مزيد، قال: ولكن عندى:
أحياؤهم تجني على أمواتهم ... والميتون فضيحة للغابر
وصيته يوم موته
وقد ذكر جماعة من أهل النقل عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن
الحسين بن علي أن علياً قال في صبيحة الليلة التي ضربه فيها عبد الرحمن بن مُلْجم،
بعد حمد اللّه والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم: كل امرئ ملاقيه
ما يفر منه، والأجل تُسَاق النفس إليه، والهرت منه موافاته، كم اطردت الأيام
أتحينها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه عز وجلّ إلا إخفاءه، هيهات علم مكنون، أما
وصيتي فاللّه لا تشركوا به شيئاً، ومحمداً لا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين،
حمل كل امرئ منكم مجهوده، وخفف عن الحَمَلةِ رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم، كنا
في إعصار ذي رياح تحت ظل غمامة اضمحل راكدها فمحطها من الأرض حيا، وبقي من بعدي
جُنَّة جأواء، ساكنة بعد حركة، كاظمة بعد نُطْق، ليعظكم هدوئي وخُفُوتُ أطرافي،
إنه أوعظ لكم من نطق البليغ، ودعتكم وداع امرئ مرصد لتلاق، وغدا ترون ويكشف عن ساق،
عليكم السلام إلى يوم المرام، كنت بالأمس صاحبكم واليم عِظَةٌ لكم وغداً أفارقكم،
إن أفق فأنا ولي دمي، وإن أمت فالقيامة ميعادي، والعفو أقرب للتقوى، ألا تحبون أن
يغفر اللّه لكم والله غفور رحيم.
تزهده في الدنيا
ومن خطبة قبل هذا وتزهده في هذه الدنيا قوله في بعض مقامات وخطبه: إن الدنيا قد
أدبرت وأذنت بوداع، وإن الآخرة قد أشرفت وأقبلت باطلاع، وإن المضمار اليوم والسباق
غداً، ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله
فقد حسن عمله وما قَصُرَ أجله، ومن قَصَّر في أيام أجله خسر أجله، ألا فاعملوا لله
في الرغبة، كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، و كالنار نام
هاربها، ألا إنه مَنْ لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم له الهدى يخزيه
الضلال وقد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد وإن أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى
وطول الأمل.
وفضائل علي ومقاماته ومناقبه ووصف زهده ونسكه أكثر من أن يأتي عليه كتابنا هذا أو
غيره من الكتب، أو يبلغه إسهاب مسهب، أو إطناب مُطْنب، وقد أتينا على جمل من
أخباره وزهده وسيره، وأنواع من كل أمه وخطبه في كتابنا المترجم بكتاب حدائق
الأذهان، في أخبار آل محمد عليه السلام وفي كتاب مزاهر الأخبار، وطرائف الآثار،
للصفوة النورية والذرية الزكية أبواب الرحمة وينابيع الحكمة.
فضائله رضي اللّه عنه
قال المسعودى: و الأشياء التي استحقبها بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الفضلَ
هي: السبق إلى الإيمان، والهجرة، والنصرة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والقربى
منه والقناعة وبذل النفس له، والعلم بالكتاب والتنزيل، والجهاد في سبيل الله،
والورع، والزهد، والقضاء، والحكم، والفقه والعلم وكل ذلك لعلي عليه السلام منه
النصيبُ الأوفر، والحظ الأكبر، إلى ما ينفرد به من قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين آخى بين أصحابه أنت أخي وهو صلى الله عليه وسلم لا ضد له، ولا ند، وقوله
صلوات الله عليه: " أنت مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي "
وقوله عليه الصلاة والسلام: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه،
وعَادِ من عاداه " ثم دعاؤه عليه السلام وقد قدم إليه أنس الطائر: اللّهم
أدخل إلي أحَبَّ خلقك إليك لأكل معي من هذا الطائر، فدخل عليه علي، إلى آخر
الحديث، فهذا وغيره من فضائله وما اجتمع فيه من الخصال مما تفرق في غيره، ولكل
فضائل ممن تقدم وتأخر، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، مخبر عن
بواطنهم بموافقتها لظواهرهم بالإِيمان، وبذلك نزل اَلتنزيل، وتولى بعضهم بعضاً،
فلما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي حدثت أمور تنازع الناس في
صحتها منهم، وذلك غير يقين، ولا يقْطَع عليهم بها، واليقين من أمورهم ما تقدم، وما
روى مما كان في أحداثهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فغير متيقن، بل هو ممكن،
ونحن نعتقد فيهم ما تقدم، واللهّ أعلم بما حدث، واللّه ولي التوفيق.
/ذكر خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهما
ثم بويع الحسنُ بن علي بن أبي طالب بالكوفة بعد وفاة علي أبيه بيومين، في شهر
رمضان من سنة أربعين، ووَجه عُمّاله إلي السَّوَاد والجبل.
وَقَتَلَ الحسنُ عبدَ الرحمن بن مُلْجَم، على حسب ما ذكرنا، ودخل معاوية الكوفة
بعد صلح الحسن بن علي، لخمس بقين من شهر ربيع الأول في سنة إحدى وأربعين.
وكانت وفاة الحسن - وهو يومئذ ابنُ خمسٍ وخمسين سنة - بالسم.ودُفن بالبقيع مع أمه
فاطِمَةَ بنت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق.
ذكر لمع من أخباره وسيره
رضي الله عنه
سم الحسن رضي اللّه عنه
حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي
اللّه عنهم، قال: دخل الحسين عَلَى عمي الحسن بن علي لما سقي السم، فقام لحاجة
الإنسان ثم رَجَع، فقال: لقد سقيت السم على مرار فما سقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة
من كبدي فرأيتني أقلبه بعود في يدي، فقال له الحسين: يا أخي، مَنْ سَقَاك. قال:
وما تريد بذلك. فإن كان الذي أظنه فاللهّ حسيبه وإن كان غيره فما أحِبُّ أن يؤخذ
بي بريء، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى توفي، رضي اللّه عنه.
ذكر الذي سمّه
وذكر أن امرأته جَعْدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السم، وقد كان معاوية دسَّ
إليها: إنك إن احتلْتِ في قتل الحسن وَجَّهت إليك بمائة ألف درهم، وزوَّجتك من
يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سَمّه، فلما مات وَفَى لها معاوية بالمال، وأرسل
إليها: إنا - نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه.
وذكر أن الحسن قال عند موته: لقد حَاقَتْ شربته، وبلغ أمنيته والله لا وَفَى لها
بما وَعَدَ، ولا صدق فيما قال. وفي فعل جعد يقول النَّجَاشِيُّ الشاعر، وكان من
شِيعَةِ عليّ، في شعر له طويل:
جعدُ بَكِّيهِ ولاتسامي ... بَعْدُ بُكاء المُعْوِل الثاكل
لم يُسْبَل الستر على مثله ... في الأرض من حَافٍ وَمِنْ ناعل
كان إذا شبتْ لَهُ ناره ... يرفعها بالسند الغاتل
كيما يراها بائس مُرْمِل ... وفرد قوم ليس بالآهل
يغلي بنيء اللحم، حتى إذا ... أنضجه لم يغل من آكل
أعني الذي أسْلَمَنَا هُلْكه ... للزمن المستحرج الماحل
وفي ذلك يقول اخرمن شِيعَةِ علي رضي اللهّ عنه:
تأَسَّ فكم لك من سَلْوَة ... تُفَرِّجُ عنك غليل ا لْحَزَنْ
بموت النَّبيّ، وقتل ا لْوَصِيِّ، ... وقتل ا لْحُسَيْن، وسم الْحَسَنْ
قال
المسعودي رحمه اللهّ: ووجدت في كتاب الأخبار لأبي الحسن علي بن محمد بن سليمان
النوفلي عن صالح بن علي بن عطية الأصم قال: حدثنا عبد الرحمن بن العباس الهاشمي،
عن أبي عون صاحب الدولة، عن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس، عن أبيه، عن جده،
عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبل علي
بن أبي طالب، فلما رآه أَسْفَرَ في وجهه، فقلت: يا رسول اللهّ، إنك لتُسْفِر في
وجه هذا الغلام، فقال: ياعَمَّ رسول اللّه، واللهِّ اللّهُ أشد حباً له مِنِّي،
إنه لم يكن نبيُّ إلا وذريته الباقية بعدي من صُلْبه، وإن ذريتي بعدي من صُلْب
هذا، إنه إذا كان يوم القيامة دُعِيَ الناس بأسمائهم واسماء أمهاتهم ستراً من
اللّه عليهم، إلا هذا وشيعته فإنهم يُدْعَوْنَ بأسمائهم السماء آبائهم لصحة
ولادتهم.
رثاء ابن الحنفية للحسن:
ولما دُفن الحسن رضي اللهّ عنه وقَفَ محمد ابن الحنفيَّةِ أخوه على قبره، فقال:
لئن عزت حياتُكَ، لقد هَدَّتْ وَفَاتك، ولنعم الروح روح تضمنه كفنك، ولنعم الكفن
كفن تضمن بدنك، وكيف لا تكون هكذا وأنت عقبة الهدى، وَخَلَفَ أهل التقوى، وخامس
أصحاب الكساء، غَدَتْكَ بالتقوى أكفُّ الحق، وأرضعتك ثُدِيُّ الإيمان، وَرُبِّيتَ
في حِجْرِ الِإسلام، فطِبْتَ حيّاً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك، رحمك
اللهّ أبا محمد!.
ومن رثاء ابن الحنفية للحسن
ووجدت في وجه آخر من الروايات في أخبار أهل البيت أن محمداً وقف على قبره فقال:
أبا محمد، لئن طابت حياتك، لقد فجع مماتك، وكيف لا تكون كذلك وأنت خامس أهل
الكساء، وابن محمد المصطفى، وابن علي المرتضى، وابن فاطمة الزهراء، وابن شجرة
طُوبَى. ثم أنشأ يقول رضي اللّه عنه:
أأدْهن رأسي أم تطيب مجالسي ... وَخدُّكَ معفور وأنت سليب.
أأشْرَب ماء المزن من غيرمَائِة ... وقد ضمن الأحشاء منك لهيب
سأبكيك ما ناحت حمامة أيْكَةٍ ... وما اخضر في دَوْح الحجاز قضيب
غريب وَأكْنَاف الحجاز تَحُوطه ... ألا كل من تحت التراب غريب
ووجدت في بعض كتب التواريخ في أخبار الحسن ومعاوية أن بخلافة الحسن صَحَّ الخبر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، " الخلافة بعدي ثلاثين سنة " لأن أبا بكر
الصديق رضي اللّه عنه تَقَلَّدَهَا سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام، وعمر رضي
اللّه عنه عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وعثمان رضي اللّه عنه إحدى عشرة سنة
وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، وعلي رضي اللهّ عنه أربع سنين وسبعة أشهر إلا
يوماً، والحسن رضي الله عنه ثمانية أشهر وعشرة أيام، فذلك ثلاثون.
سرور معاوية بموت الحسن
وحدث محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حُمَيد الرَّازي، عن علي بن مجاهد، عن محمد
بن إسحاق، عن الفضل بن عباس بن ربيعة، قال: وفد عبد اللّه بن العباس على معاوية،
قال: فواللّه إني لفي المسجد إذ كبرَ معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء، ثم كبر
أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجَتْ فاختة بنت قرظ بن عمرو بن نوفل بن عبد
مناف من خوخِة لها، فقالت: سَرَّكَ اللّه يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي بلغك
فسررت به؟ قال: موت الحسن بن علي، فقالت: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ثم بكَتْ
وقالت: مات سيّد المسلمين، وابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال معاوية:
نعما واللّه ما فعلت، إنه كان كذلك أهلاً أن تبكي عليه، ثم بلغ الخبر ابن عباس رضي
اللّه عنهما، فراح فدخل على معاوية، قال: علمتُ يا ابن عباس أن الحسن توفي، قال:
ألذلك كبرت؟ قال: نعم، قال: أما واللّه ما مَوْتُه بالذي يؤخِّر أجلك، ولا
حُفْرَتُه بسَادَةٍ حُفْرَتَكَ، ولئن أصبنا به قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين
ورسول رب العالمين، ثم بعده بسيد الأوصياء، فجبر اللّه تلك المصيبة، ورفع تلك
العَثْرَة، فقال: وَيْحَكَ يا ابن عباس! ما كلمتك قط إلا وجدتك معداً.
وفي
نسخة أنه لما صالح الحسن معاوية كبر معاوية في الخضراء، وكبر أهل الخضراء، ثم كبر
أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرضة من خوخة لها، فقالت: سَركَ
اللّه يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي بلغك. قال: أتاني البشيرُ بصلح الحسن
وانقياده، فَذَكَرَتْ قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن إبني هذا سيد أهل
الجنة، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين فالحمد للّه الذي جعل
فِئَتِي إحدى الفئتين.
ولما صالح الحسن معاوية لما ناله من أهل الكوفة وما نزل به أشار عمرو بن العاص على
معاوية - وذلك بالكوفة - أن يأمر الحسن فيقوم فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية، وقال:
ما أريد أن يخطب بالناس، قال عمرو: لكني أريد أن يبدو عيه في الناس بأنه يتكلم في
أمور لا يدْرِي ما هي، ولم يزل به حتى أطاعه؟ فخرج معاوية فخطب الناس، وأمر رجلاً
أن ينادي بالحسن بن علي، فقام إليه، فقال: قم يا حسن فكلم الناسَ، فقام فتشهد في
بديهته، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله هداكم بأولنا، وَحَقَنَ دماءكم
بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دُوَلٌ، قال اللّه عزّ وجل لنبيّه محمد صلى
الله عليه وسلم : " قل إن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون، إنه يعلم الجهر من
القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " ثم قال في
كلامه ذلك: يا أهل الكوفة، لو لم تُذْهَلْ نفسي عنكم إلا لثلاث خصال لذُهِلت: مَقْتَلكم
لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني، وإني قد بايعت معاوية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وقد كان أهل الكوفة انتهبوا سُرَادق الحسن وَرَحْله، وطعنوا بالخنجر في جوفه، فلما
تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح.
خطبة للحسن
وقد كان عليّ رضي اللّه عنه وكرم اللّه وجهه اعتلَّ، فأمر ابنه الحسن رضي اللّه
عنه أن يصلى بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر فحمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال: إن
اللّه لم يبعث نبيّاً إلا اختار له نقيباً وَرَهْطاً وبيتاً، فو الذي بعث محمداً
بالحق نبيّاً لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عَمَله مثله، ولا
تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.
خطبة أخرى
ومن خطب الحسن رضي اللهّ عنه في أيامه في بعض مقاماته أنه قال: نحن حزب اللهّ
المفلحون، وَعِتْرَة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الأقربون، وأهل بيته الطاهرون
الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خَلَّفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني
كتاب اللّه، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خَلْفِه،
والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإنَّ
طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة اللهّ والرسول وأولي الأمر مقرونة فإن تنازعتم في شيء
فَردُّوه إلى اللّه والرسول... ولو رَعُّوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم،
لعلمه الذين يستنبطونه منهم وأحذركم الِإصغاء لهتاف الشيطان إنه لكم عدو مبين،
فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم،
فلما تراءت الفئتان نَكَصَ على عقيبه وقال: إني بريء منكم إني أرى مالا ترون
" فتلقون للرماِح أزرا، وللسيوف جزرا، وللعمد خطأ، وللسهام غَرَضاً، ثم لا
ينفع. نفساَ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أوكسبت في إيمانها خيراً، واللهّ أعلم.
ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان
وبويع معاوية في شوال سنة إحدى وأربعين، ببيت المقدس، فكانت أيامه تسع عشرة سنة
وثمانية أشهر، وتوفي في رجب سنة إحدى وستين، وله ثمانون سنة، ودُفن بدمشق بباب
الصغير، وقبره يُزِار إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - وعليه
بيت مبني يفتح كل يوم اثنين وخميس.
ذكر لمع من أخباره وسيره
ونوادر من بعض أفعاله
مقتل حجر الكندي
وفي سنة ثلاث وخمسين قَتَلَ معاوية حُجْرَبن عدي الكِنْدِيَّ، وهو أولى من
قتلصبراً في الِإسلام: حملة زياد من الكوفة ومعه تسعةُ نَفَرِ من أصحابه من أهل
الكوفة وأربعة من غيرها، فلما صار على أميال من الكَوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته
تقول، ولا عقب له من غيرها:
تَرَفَعْ أيها القمر المنير ... لعلك أن ترى حُجْراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله، كَذَا زَعَمَ الأمير
وَيَصْلبه
عَلَى بَابَيْ دمشق ... وتأكل من مَحَاسِنِه النسور
تخيرت الخبائر بعد حُجْر ... وَطَابَ لها الخورنق والسَّدِير
ألا يا حجرحجربني عدي ... تلقتك السلامة وَالسرُور
أخاف عليك ما أردى عليا ... وَشَيْخاً في دمشق له زئير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم يُنْحَركما نحر البَعِير
فإن تهلك فكل عَمِيد قَوْم ... إلى هُلْكٍ من الدُّنْيَا يَصِير
ولما صار إلى مرج عفراء على اثني عشر ميلاً من دمشق تقدَّم البريد بأخبارهم إلى
معاوية، فبعث برجل أعْوَر، فلما أشرف على حُجْر وأصحابه قال رجل منهم: إن صدق
الزَّجْر فإنه سيقتل مِنَّا النصف وينجو الباقون، فقيل له: وكيف ذلك. قال: أما
ترون الرجل المقبل مُصَاباً بإحدى عينيه، فلما وصل إليهم قال لحجر: إن أمير
المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب
وقتل أصحابك، إلا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرؤوا منه، فقال حُجْر
وجماعة ممن كان معه: إن الصبر على حد السيف لأيْسَرُ علينا مما تَدْعُونَا إليه،
ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيه أحَبُّ إلينا من دخول النار، وأجاب نصف
من كان معه إلى البراءة من علي، فلما قُدِّمَ حجر ليُقْتل قال: دعوني أصلي ركعتين،
فجعل يطول في صلاته، فقيل له: أجَزَعاً من الموت؟ فقال: لا، ولكني ما تطهرت للصلاة
قط إلا صليت، وما صليت قط أخَفَّ من هذه، وكيف لا أجزع، وإني لأرى قبراً محفوراً،
وسيفاً مشهوراً وكَفَناً منشوراً، ثم تقدم فنحر، وألحق به من وافقه على قوله من
أصحابه، وقيل: إن قتلهم كان في سنة خمسين.
عدي بن حاتم ومعاوية
وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات؟
يعني أولاك، قال: قتلوا مع علي، قال: ما أنصفك عَليّ قتل أولادك وبَقَّى أولاده،
فقال عدي: ما أنْصَفْتَ عليّاً إذ قتل وبقيت بعده، فقال معاوية: أما إنه قد بقيت
قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن، فقال عدي: واللهّ إن
قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا،
ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنيَنَّ إليك من الشر شبراً، وإن حَزَّ الحلقوم
وحشرجة الحيزوم لأهْوَنُ علينا من أن نسمع المساءة في علي، فسلم السيف يا معاوية
لباعث السيف، هذه كلمات حكم فاكتبوها، وأقبل على عديّ محدثاً له كأنه ما خاطبه
بشيء.
بين عمرو بن عثمان وأسامة عند معاوية
وذكر أن معاوية بن أبي سفيان تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في أرض، فقال عمرو؟ لأسامة: كأنك تنكرني، فقال
أسامة: ما يسرني نسبك بولائي، فقام مروان بن الحكم فجلس إلى جانب عمرو بن عثمان،
وقام الحسن فجلس إلى جانب أسامة، فقام سعيد بن العاص فجلس إلى جانب مروان، فقام
الحسين فجلس إلى جانب الحسن، وقام عبد اللّه بن عامر فجلس إلى جانب سعيد، فقام عبد
اللّه بن جعفر فجلس إلى جانب الحسين، وقام عبد الرحمن بن الحكم فجلس إلى جانب ابن
عامر، فقام عبد اللّه بن العباس فجلس إلى جانب ابن جعفر، فلما رأى ذلك معاوية قال:
لا تعجلوا، أنا كنت شاهداً إذا أقطعها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، أسَامَةَ،
فقام الهاشميون فخرجوا ظاهرين، وأقبل الأمويون عليه فقالوا: ألا كنت أصلحت بيننا
قال: دعوني فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي، وإن الحرب
أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بَلْوَى، وتمثل بأبيات امرىء القيس المتقدمة في
هذا الكتاب في أخبار عمر رضي اللّه عنه، وأولها:
الحرب أول ما تكون فتية ... تدنو بزينتها لكل جهول
ثم قال: ما في القلوب يشب الحروب، والأمر الكبير يدفعه الأمر الصغير، وتمثل:
قد يَلحق الصغير بالجليل ... وإنما القرم من الأفِيل
وتسحق النَّخْل منَ الفسيل
إلحاق زياد بأبي سفيان
قال
المسعودي: ولما هَم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان أبيه - وذلك في سنة أربع
وأربعين - شهد عنده زيادة بن أسماء الحرمازي ومالك بن ربيعة السلولي والمنفر بن
الزبير بن العوام أن أبا سفيان أخبر أنه ابنه، وأن أبا سفيان قال لعلي عليه السلام
حين ذكر زياد عند عمر بن الخطاب:
أما واللّه لولا خَوْف شخص ... يراني يا عليُّ من الأعادي
لبين أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المجمجم عن زياد
ولكني أخاف صُرُوف كف ... لها نقم وَنَفْي عن بلادي
فقد طالت محاولتي ثقيفَاًَ ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد
ثم زاد يقيناً إلى ذلك شهادة أبي مريم السلولي، وكان أخْبَرَ الناس ببدءِ الأمر
وذلك أنه جمع بين أبي سفيان وسُمية أم زياد في الجاهلية على زنا، وكانت سُمية من
ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحارث بن كَلَحَةَ، وكانت تنزل بالموضع
الذي تنزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا.
وكان سبب ادعاء معاوية له فيما ذكر أبو عبيدة معمر بن المثَّنى أن علياً كان
وَلأَه فارس حين أخرج منها سهل بن حُنَيف، فضرب زياد ببعضهم بعضاً حتى غلب عليها،
وما زال يتنقل في كُوَرِهَا حتى صلح أمر فارس، ثم وَلاه على أصطخبَ،. وكان معاوية
يتهدد، ثم أخذ بُسْر بن أرطاة عبيد اللهّ وسالماً ولديه وكتب إليه يقسم ليقتلنهما
إن لمِ يراجع ويدخل في طاعة معاوية وكتب معاوية إلى بُسْر ألا يعرض لأبْنيْ زياد،
وكتب إلى زياد أن يدخل في طاعته وَيَرُدَّه إلى عمله، فقدم زياد على معاوية،
فصالحه على مال وحلي، ودعاه معاوية إلى أن يستحلفه، فأبى زياد ذلك، وكان المغيرة
بن شعبه قال لزياد قبل قدومه على معاوية: أرْم بالغرض الأقصَى، ودع عنك الفُضُولَ،
فإن هذا الأمر لا يمد إليه أحد يداً إلا الحسن بن علي وقد بايع لمعاوية، فخذ لنفسك
قبل التوطين، فقال زياد: فأشِرْ علي، قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله، وَتَصِلَ
حبلك بحبله، وأن تعير الناس منك أذناً صًمّاء، فقال زياد: يا ابن شعبة، أأغْرس
عوداً في غير منبِته ولا مَدَرَة فتحييه ولا عِرْقَ فيسقيه؟ ثم إن زياداً عزم على
قبول الدعوى وأخذ برَأْي ابن شعبة، وأرسلت إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها
معاوية، فأتاها فأذنت له وكَشَفَتْ عن شعرها بين يديه، وقالت: أنت أخي أخبرني بذلك
أبو مريم، ثم أخرجه معاوية إلى المسجد، وجمع الناس، فقام أبو مريم السلولىِ فقال:
أشهد أن أبا سفيان قَدِمَ علينا بالطائف وأنا خمَار في الجاهلية، فقال: ابغني
بغياً، فأتيته وقلت له: لم أجد إلا جارية الحارث بن كَلَدَة سُمية، فقال: ائتني
بها علىِ ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلاً يا أبا مريم، إنما بعثت شاهداَ ولم
تبعث شاتماً، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إلَيَّ، وإنما شهدت بما
عاينت ورأيت، واللّه لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً، فلم
ألبث أن خرج عَلَيَ يمسح جبينه، فقلت: مَهْ يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا
أبا مريم، لولا استرخاء من ثديها وذفر من فيها، فقام زياد فقال: أيها الناس، هذا
الشاهد قد ذكر ما سمعتم، ولست أدري حق ذلك من باطله، وإنما كان عبيد ربيباً
مبروراً أو ليَاً مشكوراً، والشهود أعلم بما قالوا، فقام يونس بن عبيد أخو صفية
بنت عبيد بن أسد بن علافي الثقفي - وكانت صفية مولاة سُمَيَّة - فقال: يا معاوية،
قضى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضيت أنت أن
الولد للعاهر وأن الحجر للفراش، مُخَالَفَةً لكتاب اللّه تعالى، وانصرافاً عن سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان، فقال معاوية:
واللهّ يا يونس لتنتهين أو لأطيرن بك طيرة بطيئاً وقوعها، فقال يونس: هل إلا إلى
اللّه ثم أقع؟ قال: نعم وأستغفر اللّه، فقال عبد الرحمن بن أمّ الحكم في ذلك
ويقال: إنه ليزيد بن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن حَرْب ... مُغَلْغَلًةَ عن الرجل اليماني
أتغضب أن يُقال: أبُوكَ عَف ... وترضى أن يُقال: أبُوكَ زاني؟
فأشهد أن رِحْمَكَ من زياد ... كَرِحْم الذيل من ولد الأتان
وفي
زياد وإخوته يقول خالد النجاري:
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بَكْرَةَ عندي من أعجب العَجَب
إن لاجالاً ثلاثة خلقوا ... من رِحْم أنثى مخالذي النسبَ
ذا قُرَشِيّ فيما يقول، وَذَا ... مَوْلى، وهذا بِزَعْمِهِ عَرَبِي
بين معاوية وعبد اللّه بن هاشم المرقال
ولما قتل علي كرم اللّه وجهه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم بن عُتْبَة
بن أبي وَقَّاص المِرْقَال وولده عبد اللهّ بن هاشم إحَنٌ، فلما استعمل معاوية
زياداً على العراق كتب إليه، أما بعد: فانظر عبداللّه بن هاشم عتبة، فشدَّ يده إلى
عنقه، ثم أبعث به إلي فحمله زياد من البصرة مُقَيَّداً مغلولاً إلى دمشق، وقد كان
زياد طَرَقَه بالليل في منزله بالبصرة، فأدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص،
فقال معاوية لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا. قال: لا، قال: هذا الذي يقول أبوه يوم
صِفَين:
إني شَرَبْتُ النَّفس لما اعْتَلا ... وأكثَرَ اللوم وما أقلاَّ
أعْوَر يبغي أهْلَهُ محلاّ ... قدعالج الحياة حتى مَلاَّ
لا بُدَّ أن يَغُلَّ أو يُفَلا ... أشلُّهم بذي الكُعُوب شَلا
لا خَيْرَ عندي ... في كَرِيم وَلَّى
فقال عمرو متمثلاً:
وقد يَنْبُتُ المَرْعَى على دمَنِ الثّرَى ... وتبقى حزَازَاتُ النفوس كما هيا
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب أوداجه على أسباجه، ولا ترده إلى أهل
العراق، فإنه لا يصبر عن النفاق، وهم أهلِ غدر وشقاق، وحزب إبليس ليوم هيجاء، وإن
له هَوى سَيرديه يه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فقال
عبد اللّه: يا عمرو، إن أقتل فرجل أسْلَمه قومه، وأدركَه يومُه، أفلا كان هذا منك
إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بسمال النطاف، وعقائق
الرصاف، كالأمة السوداء، والنعجة القَوْدَاء، لا تدفع يد لامس، فقال: عمرو، أما
واللّه لقد وقعت في لهاذم شَذْقَم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير
المؤمنين، فقال عبد اللّه: أما واللهّ يا ابن العاص إنك لبَطِر في الرخاء، جبان
عند اللقاء، غَشُوم إذا وليت، هيابة إذا لقيت، تهدر كما يهد العَوْدُ المنكوس
المقيد بين مجرى الشول لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشده، أفلا كان هذا منك
إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقُوا كباراً، لهم أيد شداد، وألسنة حداد،
يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل، فقال
عمرو: أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب أطلاؤه،
كأنما انطبق عليه صمد، فقال عبد اللّه: يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالَتَكَ فوجدنا
لسانك كذوباً غادراً، خلوتَ بأقوام لا يعرفونك، وجُنْدٍ لا يسامونك، ولو رمت
المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولا ضطرب فخذاك اضطراب
القَعُودِ الذي أثقله حمله، فقال معاوية: أيهاً عنكما، وأمر بإطلاق عبد اللّه،
فقال عمرو لمعاوية:
أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتَنِي ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علياً يوم حزَ الغَلاَصم
فلم ينثنِ حتى جرت من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم
وهذا ابنه، والمرء يُشْبه شيخه ... ويوشك أن تقرع به سن نادم
فقال عبد اللّه يجيبه:
مُعَاوِيَ إن المرء عمراً أبَتْ له ... ضغينةُ صدرٍ غِشُّها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند، وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا منعت عنه عهود المسالم
وقد كان منا يوم صِفَينَ نفرة ... عليك جناها هاشم وابن هاشم
قضى ما انقضى منها، وليس الذي مضى ... ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم
فإن تَعْفُ عني تعف عن ذي قرابة ... وإن تَرَ قتلي تستحل محارمي
فقال معاوية:
أرى
العفو عن عُلْيَا قريش وسيلةً ... إلى اللّه في يوم العصيب القماطر
ولست أرى قَتْلِي الغَدَاةَ ابن هَاشمٍ ... بإدراك ثأري في لؤي وعامر
بل العفو عنه بعد ما بان جُرْمُه ... وزلَتْ به إحدى الجدود العوائر
فكان أبوه يوم صفين جمرة ... علينا فأردته رِماح نهابِر
وحضر عبد اللّه بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود
والنجدة والمروءة؟ فقال عبد اللهّ: يا أمير المؤمنين، أما الجود فابتذال المال،
والعطية قبل السؤال، وأما النجدة فالجراءة على الأقوام، والصبر عند أزورار
الأقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين، والإصلاح للمال، والمحاماة عن الجار.
بين معاوية ومحمد بن أبي بكر
ولما صرف علي رضي الله عنه قيْسَ بن سعد بن عُبَادةَ عن مصر وَجَّه مكانه محمد بن
أبي بكر، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتاباً فيه: من محمد بن أبي بكر، إلى
الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن اللّه بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه،
ولا ضعف في قوته، ولاحاجة - به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غويّاً
ورشيداً، وشقياً وسعيداً، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمداً صلى الله
عليه وسلم، فانتخبه بعلمه، واصطفاه برسالته، وائتمنه على وحيه، وبعثه رسولاً
ومبشراً ونذيراً ووكيلاً فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسَلّم أخوه وابن
عمه علي بن أبي طالب: صدقه بالغيب المكتوم، أثره على كل حميم، وَوَقَاه بنفسه كل
هَوْل، وحارب حَرْبه، وسالم سِلْمَه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الليل
والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقاً لا نظير له فيمن اتبعه، ولا مقارب
له في فعله، وقد رأيتك تُسَاميه وأنت أنت، وهو هو، أصدق الناس نية، وأفضل الناس
ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم: أخوه الشاري بنفسه يوم موته، وعمه سيد
الشهداء يوم أحد، وأبوه الذاب عن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وعن حَوْزَته،
وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تَبْغِيانِ لرسول اللّه صلى الله عليه
وسلم الغَوَائل، وتجهدان في إطفاء نور اللّه، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه
المال، وتؤلَبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك، وعليه خَلَفْته، والشهيد عليك
من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي - مع فضله المبين
القديم - أنصاره الذين معه وهم الذين. ذكرهم اللّه بفضلهم، وأثنى عليهم من
المهاجرين والأنصار، وهم معه كتائب وعصائب، يَروْنَ الحق في اتباعه، والشقاء في
خلافه، فكيف - يا لك الويل! - تَعْدِلُه نفسك بعده وهو وارث رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم، ووصيه وأبو ولده: أول الناس له أتباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسره،
ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتَّعْ في دنياك ما استطعت بباطلك،
وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وَهَى، ثم يتبين لك
لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمِنْتَ كَيده، ويئست من
رَوْحه؟ فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب
إليه معاوية: من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. أما بعده:
فقد أتاني كتابُكَ تذكر فيه ما اللّه أهْلًه في عظمته وقدرته وسلطانه، وما اصطفى
به رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، مع كلام كثير لك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف،
ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب، وقديم سوابقه، وقرابته إلى رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، ومُوَاساته إياه في كل هَوْل وخوف، فكان احتجاجك عليَ وعيبك لي بفضل غيرك لا
بفضلك، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل
ابن أبي طالب وحَقه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار اللهّ لنبيه عليه الصلاة
والسلام، ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبْلَجَ حجته، وقبضه اللهّ إليه
صلوات اللّه عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حَقَه، وخالفه على أمره، على
ذلك اتفقا واتَّسقا، ثم إنهما دَعَوَاه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما،
فهمَّا به الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسَلّم لهما، وأقاما لا
يشركانه في أمرهما، ولا يُطْلِعانه على سرهما، حتى قبضهما الله، ثم قام ثالثهما
عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل
المعاصي، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه مُنَاكما، فخذ
حذرك يا ابن أبي بكر، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازي أو تساوي مَنْ يَزِنُ
الجبال بحلمه، لا يلين عن قَسْرٍ قناته، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد مِهَاده،
وبنى لملكه وسادة، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدَ به ونحن شركاؤه، ولولا
ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل
ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك، والسلام على من
أناب.
من معاوية إلى علي
ومما كتب به معاوية إلى عليّ: أما بعد، فلو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت
لم يجنها بعضُنَا على بعض، وإنا وإن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها
مانَرُمّ به مامضى، ونُصلح به مابقي، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك
طاعة، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما
أرجو، ولا تخاف من القتال إلا ما أخاف، وقد واللهّ رَقّت الأجناد، وذهبت الرجال،
ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل يستذل به عزيز، ويسترق به حر،
والسلام.
جواب علي لمعاوية
فكتب إليه عليّ كرم اللّه وجهه: من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما
بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم
يجنها بعضُنَا على بعض، وأنا وإياك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعدُ، فأما طلبك مني
الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست
بأمضى على للشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحْرَصَ من أهل العراق
على الأخرى، وأما قولك نحن بنو عبد مناف فكذلك نحن، وليس أمية كهاشم، ولا حَرْب
كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المُبْطِل
كالمحقّ، وفي أيدينا فضل النبوة التي قَتَلْنَا بها العزيز، وبعنا بها الحر،
والسلام.
بين سعد ومعاوية
وحدث
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن أبي مجاهد، عن محمد بن
إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قال: لما حج معاوية طاف بالبيصَ ومعه سعد، فلما فرغ انصرف
معاوية إلى دار الندرَة، فأجلسه معه على سريره، ووَقَعَ معاوية في علي وشَرَعَ في
سَبَّه، فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي، واللهّ لأن يكون
فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن - يكون لي ما طلعت عليه الشمس،
واللّه لأن أكون صهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لي من الولد ما لعلي أحب
إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، والله لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، قال لي ما قاله يوم خيبر " لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه
ورسوله ويحب اللهّ ورسوله ليس بِفَرَّار، يفتح اللهّ على يديه " أحب إلي من
أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، واللهّ لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
قال لي ما قال له في غزوة تبوك: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي " أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، وأيم
الله لا دخلت لك داراً ما بقيت، ثم نهض " .
ووجدت في وجه آخر من الروايات، وذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في
الأخبار، عنِ ابن عائشة وغيره، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم
ضرَطَ له معاوية، وقال له: اقعد حتى تسمع جواب ما قلت، ما كُنْتَ عندي قَطُّ الأم
منك الآن، فهلا نصرته، ولك قعدت عن بيعته؟ فإني لو سمعت من النبي صلى الله عليه
وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت، فقال سعد: واللّه إني لأحق
بموضعك منك، فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني
عذرة، قال النوفلي: وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري:
سائل قريشاً يها إن كنت ذا عَمَه ... مَنْ كان أثْبَتَهَا في الدين أوْتَادَا
من كان أقدمها سلما، وأكثرها ... علما، وأطهرها أهلا وأولادا
من وحَّدَ اللّه إذ كانت مكذبة ... تدعو مع اللّه أوثاناً وأندادا
من كان يُقْدِم في الهيجاء إن نكلوا ... عنها، وإن بَخِلوا في أزمة جادا
من كان أعدلها حكماً، وأقسطها ... حلماً، وأصدقها وعداً وإيعادا
إن يَصْدَقوك فلم يَعدوا أبا حسن ... إن أنت لم تلق للأبرار حسادا
إن أنت لم تلق من تَيْمٍ أخا صَلَف ... ومن عدي لحق اللّه جُحَّادا
أو من بني عامر، أو من بني أسد ... رَهْط العبيد ذوي جهل وأوغادا
أورهط سعد، وسعد كان قد علموا ... عن مستقيم صراط اللّه صَدَّادا
قوم تَدَاعَوْا زنيما ثم سادهُمُ ... لولا خمول بني زهر لما سادا
وكان سعد وأسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر ومحمد بن سلمة ممن قعد عن علي بن أبي
طالب، وأبوا أن يبايعوه هم غيرهم ممن ذكرنا من القُعَّاد وفلك أنهم قالوا: إنها
فتنة، ومنهم من قال لعلي: أعْطِنا سيوفاً نقاتل بها معك، فإذا ضربنا بها المؤمنين لم
تعمل فيهم ونَبَتْ عن أجسامهم، وإذا ضربنا بها الكافرين سَرَتْ في أبدانهم، فأعرض
عنهم عليّ، وقال: ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.
بين معاوية وأبي الطفيل الكناني
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من الأخباريين أن الأمر لما أفضى إلى معاوية أتاه
أبو الطفيل الكناني فقال له معاوية: كيف وَجدُك على خليلك أبي الحسن. قال: كوجد أم
موسى على موسى، وأشكو إلى الله التقصير، فقال معاوية، أكنت فيمن حضر قتل عثمان؟
قال: لا، ولكني فيمن حضر فلم ينصره، قال: فما منعك من ذلك وقد كانت نصرته عليك
واجبة؟ قال: منعني ما منعك إذ تربص به ريب المنون وأنت بالشأم، قال: أو ما ترى
طلبي بدمه نصرة له؟ قال بلى، ولكنك وإياه كما قال الجعدي.
لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا
ودخل على معاوية ضرار بن الخطاب فقال له: كيف حزنك على أبي الحسن؟ قال: حزن من ذبح
ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.
بين معاوية وقيس بن سعد
ومما
جرى بين معاوية وبين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عاملاً لعلي على مصر فكتب إليه
معاوية: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، إن ظفر أحَبُّ الفريقين إليك عَزَلَك
واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نَكَلَ بك وقتلك، وقد كان أبوك أوْتَرَ قوسه،
ورمى غَرَضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصِلَ، فخذله قومه، وأدركه يومُه، ثم مات بحوران
طريداً.
فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرهاً،
وخرجت منه طوعاً، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، وقد كان أبي أوتَرَ قوسه، ورمى
غرضه، فشعب به من لم يبلغ عقبه، ولا شق غُبَاره، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت،
وأعداء الدين الذي فيه دخلت.
ودخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية، فقال
لهم معاوية: يا معشر الآنصار، بِمَ تطلبون ما قبلي؟ فواللّه لقد كنتم قليلاً معي
كثيراً عليَّ، ولضللتم حَدِّي يومِ صِفِّينَ حتى رأيت المنايا تلظَّى في أسنتكم،
وهجوتمونى في أسلافي بأشد من وقع الأسنة، حتى إذا أقام اللهّ ما حاولتم ميله قلتم:
ارْعَ فينا وصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، هيهات يأبى الحقِينُ العذرة، فقال
قيس: نطلب قبلك بالإسلامِ الكافي به اللّه، لا بما تمتّ به إليك الأحزاب، وأم
عداوتنا لك فلو شِئْت كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله، ويثبت حقه،
وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا، وأما فَلُّنَا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل
نرى طاعَتَهُ طاعة للّه، وأما وصية رسول اللّه بنا فمن آمن به رعاها بعده، وأما
قولك يأبى الحقين العذرة فليس دون اللهّ يد تحجزك منا يا معاوية، فقال معاوية يموه
: أرفعوا حوائجكم.
من مناقب قيس بن سعد
وقد كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل إلى علي بالموضوع العظيم، وبلغ من
خوفه اللهّ وطاعته إياه أنه كان يصلي فلما أهوى للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان
عظيم مطوق، فمال عن الثعبان برأسه، وسجد إلى جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم
يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئاً، حتى فرغ، ثم أخذ الثعبان فرمي به، كذلك ذكر
الحسن بن علي بن عبد اللّه بن المغيرة عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن علي بن موسى
الرضا.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية ذات يوم: قد أعياني أن أعلم أجَبَانٌ أنت أم شجاع،
لأني أراك تتقدم حتى أقول: أراد القتال، ثم تتأخر حتى أقول: أراد الفرار، فقال له
معاوية: واللّه ما أتقدم حتى أرى التقدم غما، ولا أتأخر حتى التأخر حَزْماً، كما
قال القَطَامي.
العباس بن ربيعة
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى عن أبي الأغرّ التيمي، قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر
بي العباس بن ربيعة مغفراً بالسلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما شُعْلَتَا
نار أو عينا أرْقَم، وبيده صفيحة له يمانية يقِّلبها، والمنايا تلوح في شَفْرتها،
وهو على فرس صَعْب، فبينا هو يبعثه ويمنعه ويلين من عريكته إذ هتف به هاتف يقال له
عَرَار بن أدهم من أهل الشام يا عباس، هلم إلى النزال، قال: فالنزول إذاً، فإنه
آيا من الحياة، فنزل إليه الشامي وهو يقول:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُلُ
وثنى العباس وركه وهو يقول:
اللّه يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكُمُ أن لا تخبونا
ثم
عصر فضلات درعه في محزمه يريد منطقته ودفع فرسه إلى غلام له أسود كأني والله أنظر
إلى فلافل شعره، ثم زحف كل واحد منهما إلى صاحبه، وكف الفريقان أعنة الخيول ينظرون
ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى
صاحبه لكمال لامَتِهِ، إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده
وهتكه إلى ثَنْدُؤتَه، ثم عاد لمحاولته، وقد أخرج له مفتق الدرع، فضربه العباس
ضربة انتظم بها جوانح صدره، فخر الشامي لوجهه، فكبر الناس تكبيرة ارتَختْ لها
الأرض من تحتهم، وانساب العباس في الناس، فإذا. قائل يقول من ورائي: "
قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين
" الآية فالتفتُّ فإذا بعلي رضي اللّه عنه، فقال: يا ابن الأغرّ، من المبارز
لعدونا؟ قلت: ابن أخيكم العباس بن ربيعة، قال وإنه لهو العباس. قلت: نعم، فقال: يا
عباس، ألم أنْهَكَ وعبدَ اللّه بن عباس أن تحلا بمركز أو تبارزا أحداً. قال: إن
ذلك كما قلت، قال علي: فما عَدَا مما بَدَا. قال: أفأدعى إلى البراز فلا اجيب؟
قال: طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوك، وتغيظَ واستطار، ثم تطامن وسكن ورفع يديه
مبتهلاً، فقال: اللهم اشكر للعباس مقامه، واغفر ذنبه، اللهم إني قد غفرت له فاغفر
له، وتأسف معاوية على عَرَار بن أدهم، وقال: متى ينطق فحل بمثله أبطل دمه! لاها
اللهّ، ألا رجل يشري نفسه يطلب بدم عَرَار، فانتدب له رجلان من لخم من أهل البأس
ومن صناديد الشام، فقال: أذهبا فأيكما قتل العباس فله مائة أوقية من التبر ومثلها
من اللُّجَين وبعددهما من برود اليمن، فأتَيَاه فدعَوَاه إلى البراز، وصاحا بين
الصفين: يا عباس يا عباس، ابرز إلى الداعي، فقال: إن لي سيداً أريد أن أؤامره،
فأتى علياً وهو في جناح الميمنة يحرض الناس، فأخبره الخبر، فقال علي: واللهّ
لَوَدَّ معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضِرْمَةٍ إلا طعن في بطنه إطفاء لنور
اللّه " ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " أما واللّه
ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم سوم الخسف حتى تعفو الآثار، ثم قال: يا عباس،
ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله، ووثب على فرس العباس، وقصد اللخميين، فلم يشكا أنه
العباس، فقالا له: أذن لك صاحبك. فتحرج أن يقول نعم، فقال: " أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير " .
وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعده، فبرز له أحدهما فما أخطأه، ثم برز له
الاخر فألحقه بالأول، ثم أقبل وهو يقول " الشهر الحرام بالشهر الحرام،
والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ثم قال:
يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد لي، ونما الخبر إلى معاوية
فقال: قبح اللّه اللجاج إنه لعقور ما ركبته قط إلا خذلت، فقال عمرو بن العاص:
المخذول واللهّ اللخميان، والمغرور من غررته، لا أنت المخذول، قال: اسكت أيها
الرجل فليس هذا من شأنك، قال: وإن لم يكن، رحم اللّه اللخميين، ولا أراه يفعل،
قال: ذلك واللهّ أضْيقُ لحجتك، وأخْسَرُ لصفقتك، قال: قد علمت ذلك، ولولا مصر
وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على
ضده، فقال معاوية: مصر واللهّ أعمتك، ولولا مصر لالذيتك بصيراً، ثم ضحك معاوية
ضحكاً ذهب به كل مذهب، قال: مِمَّ تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك اللّه سنك. قال:
أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت علياً، وإبدائك سوأتَكَ، أما واللهّ يا عمرو لقد
واقعت المنايا، ورأيتَ الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبى ابن أبي طالب في
قتلك إلا تكرماً، فقال عمرو: أما واللّه إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز
فاحْوَلَّتْ عيناك وبَدَا سَحْرك وبَدَا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك
أودع.
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن معاوية برز في بعض أيام صفين أمام الناس وكَرَّ على
ميسرة علي، وكان علي فيها في ذلك الوقت يعبىء الناس، فغير على لأْمته وجواده، وخرج
بلأمة بعض أصحابه، وصَمدَ له معاوية، فلما تدانيا أثْبَته معاوية فغمز برجليه على
جواده وعلي - وراءه، حتى فاته ودخل في مَصَافّ أهل الشام، فأصاب عليٌّ رجلا من
مصافهم دونه، ثم رجع وهو يقول:
يا
لهفَ نفسي فَاتَنِي معاويه ... فوق طمِرٍّ كالعقاب الضابيَهْ
وقدم عمروبن العاص من مصر على معاوية في بعض الأيام، فلما رآه معاوية قال:
يموتُ الصالحونَ وأنت ... حيي تخطاكَ المنايا لاتموتُ
فأجابه عمرو:
فلسْتُ بميتٍ مادمت حيّاً ... ولست بميت حتى تموت
وذكر أن معاوية لما نظر إلى معسكر أهل العراق - وقد. أشرفت وأخذت الرجال مراتبها
من الصفوف - ونظر إلى عليّ على فرس أشْقَرَ حاسر الرأس يرتَبُ الصفوف كأنه يغرسهم
في الأرض غرساً فيثبتون كأنهم بنيان مرصوص، قال لعمرو: يا أبا عبد اللّه، أما تنظر
إلى ابن أبي طالب وما هو عليه. فقال له عمرو: مَنْ طلب عظيماً خاطر بعظيم.
بسر بن أرطاة:
وقد كان معاوية في سنة أربعين بعث بُسْرَ بن أرطاة في ثلاث آلاف حتى قَدِم المدينة
وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحَّى، وجاء بُسْر حتى صعد المنبر وتهدَّد أهل المدينة
بالقتل، فأجابوه إلى بيعة معاوية، وبلغ الخبر علياً فأنفذ حارثة بن قدامة السعدي
في الذين ووهب بن مسعود في الذين، ومضى بُسْر إلى مكة، ثم سار إلى اليمن، وكان
عبيد اللّه بن العباس بها، فخرج عنها ولحق بعده واستخلف عليها عبد اللّه بن عبد
المَدَان الحارثي، وخلف ابنيه عبد الرحمن وقُثَم عند أمهما جويرية بنت قارظ
الكناني، فقتلهما بُسْر وقتل معهما خالا لهما من ثقيف وقد كان بُسْربن أرْطَاةَ
العامري - عامر بن لؤي بن غالب - قَتَلَ بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من
خُزَاعة وغيرهم، وكذلك بالجرف قتل بها خلقاً كثيراً من رجال هَمْدَان، وقتل بصنعاء
خلقاً كثيراً من الأبناء، ولم يبلغه عن أحد أنه يمالىء علياً أو يهواه إلا قتله،
ونما إليه خبر حارثة بن قدامة السعدي فهرب، وظفر حارثة بابن أخي بُسْر مع أربعين
من أهل بيته، فقتلهم، وكانت جويرية أمُّ ابني عبيد اللهّ بن العباس اللذين قتلهما
بُسْرٌ تدور حول البيت ناشرة سَعْرها وهي من أجمل النساء وهي تِقول ترثيهما:
هامن أحَسَّ من ابنَىِّ اللذين هما ... كالدرتين تَشظّى عنهما الصدف
هامن أحَسَّ من ابنيَّ للذين هما ... سمعي وقلبي، فعقلي اليوم مختطَفُ
هامن أحَسَّ من ابنيَّ اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
نبئت بُسْراً، وما صَدَّقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا
أنحى على وَدِجَيْ ابني مرهفة ... مشحوذة، وكذاك الإثم يُقْتَرف
بين معاوية وعمرو بن العاص ووردان
وذكر الواقدي قال: دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية بعد ما كبر ودق ومعه مولاه
وَرْدَانُ، فأخذا في الحديث، وليس عندهما غير وردان، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين،
ما بقي مما تستلذه. فقال: أما النساء فلا أربَ لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست من
لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيها الين، وأما الطعام فقد أكلت من لينه
وطيبه حتى ما أدري أيها ألذ وأطيب، وأما الطِّيبُ فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري
أيه أطيب، فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بنيَّ وبني
بنيَّ يدورون حولي، فما بقي منك يا عمرو؟ قال: مال أغرسه فأصيب من ثمرته ومن
غلًته، فالتفَتَ معاوية إلى وَرْدَانَ فقال: ما بقي منك يا وَرْدَانَ؟ قال: صنيعة
كريمة سنية أعلقها في أعناق قوم ذوي فضل وأخطار لا يكافئونني بها حتى ألقى الله
تعالى وتكون لعقبي في أعقابهم بعدي، فقال معاوية: تَبّاً لمجلسنا سائر هذا اليوم،
إن هذا العبد غلبني وغلبك.
وفاة عمرو بن العاص:
وفي سنة ثلاث وأربعين مات عمرو بن العاص بن وائل بن سَهْم بن سعيد بن سعد بمصر،
وله تسعون سنة، وكانت ولايته مصر عشر سنين وأربعة أشهر، ولما حضرته الوفاة قال:
اللهم لا براءة لي فأعتذر، ولا قوة لي فأنتصر، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا،
اللهم هذه يدي إلى ذقني، ثم قال: خُنُوا لي في الأرض خَدّاً، وسُنُّوا علي التراب
سنّاً، ثم وضع أصبعه في فيه حتى مات، وصَلّى عليه ابنه عبد اللهّ يوم الفطر، فبدأ
بالصلاة عليه قبل صلاة العيد، ثم صلى بالناس بعد ذلك صلاة العيد، وكان أبوه من
المستهزئين، وفيه نزلتَ " إن شانئك هو الأبتر " .
وولى
معاوية ابنه عبد اللّه بن عمرو ما كان لأبيه.
تركته
وخلف عمرو من العَيْنِ ثلثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الوَرِقِ
ألف درهم وغلة مائتي ألف دينار بمصر وضيعته المعروفة بمصر بالوهط قيمتُها عشرة
آلاف ألف درهم.
وفيه يقول ابن الزَبِيرِ الأسدي الشاعر من أبيات:
ألم تر أن الدهر أخنتْ صُرُوفُه ... على عمروٍ السهمي تُجْبِى له مصر
فلم يُغْنِ عنه حَزْمه واحتياله ... ولا جمعه لَمَّا أتيح له الدهر
وأمْسَى مقيما بالعَرَاء وضللت ... مكايدة عنه وأمواله الدَّثر
وفي سنة خمس وأربعين وَلّى معاويةُ زيادَ بن أبيه البصرةَ وأعمالها، وقال لما
دخلها:
ألا ربَّ مسرورٍ بنا لا نسره ... وآخرمحزون بنا لا نضرة
وقد كان معاوية أغْرَى في هذه السنة سفيان بن عوف العامري، وأمره أن يبلغ الطوانة
فأصيب معه خلق من الناس، فعمَّ الناسَ الحزنُ بمن أصيب بأرض الروم، وبلغ معاوية
أنّ يزيد ابنه لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال:
أهْوِنْ عَلًيّ بما لاقت جموعهُمُ ... يوم الطوانة من حمَى ومن مُوم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مًرانَ عندي أم كلثوم
أبو أيوب الأنصاري:
فحلف عليه ليغزوَنَ، وأردف به سفيان، فسميت هذه الغزاة غزاة الرادفة، وبلغ الناسُ
فيها إلى القسطنطينية، وفيها مات أبو أيوب الأنصاري ودُفن هناك على باب
القسطنطينية، واسم أبي أيوب خالد بن زيد، وقد قيل: إن أبا أيوب مات في سنة إحدى
وخمسين غازياً مع يزيد، وقد أتينا على خبر هذه الغَزَاة، وما كان من يزيد فيها في
الكتاب الأوسط.
المغيرة بن شعبة
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بالكوفة، فهرب منها المغيرة بن شعبة وكان واليها،
ثم. عاد إليها فطعن فمات، فمرِّ أعرابي عليه وهو يدفن فقال:
أرَسْمَ ديار للمغيرة تعرف ... عليها دَوِيّ الإنس والجن تعزف
فإن كنت قد لاقيت هامان بعدنا ... وفرعون فاعلم أن ذا العرش مُنْصِفُ
وذكر أن المغيرة ركب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، وهي في دير لها في الحِيرَةِ
مترهبة، وهو أمير الكوفة يومئذ، وقد كانت هند عميت، فلما جاء الدير استأذن عليها،
فأتتها جاريتها فقالت: هذا المغيرة يستأذن عليك، فقالت للجارية: ألقي إليه أثاثاً،
فألقت إليه وسادة من سَعَرٍ، فلما دخل قعد عليها وقال: أنا المغيرة، فقالت له: قد
عرفتك عامل المدرة، فما جاء بك؟ قال: أتيتك خاطباً إليك نفسك، قالت: أما والصليب
لو أردتني لِدِيِنِ أو جمال ما رجَعْتَ إلا بحاجتك، ولكني أخبرك الذي أردت ذلك له،
قاَل: وما هو. قالت: أردت أن تتزوجني حتى تقوم في الموسِم في العرب فتقول: تزوجت
ابنة النعمان، قال: ذلك أرَدْتُ، ولكن أخبريني ما كان أبوك يقول في هذا الحي من
ثقيف؟ قالت: كان ينسبهم في إياد، وقد افتخر عند رجلان من ثقيف أحدهما من بني سالم
والأخر من بني يسار، فسألهما عن أنسابهما، فانتسب أحدهما إلى هَوَازن والآخر إلى
إياد، فقال أبي: ما لحي معد على إياد فضل، فخرجا وأبي يقول:
إن ثقيفاً لم تكن هوازناً ... ولم تناسب عامراً ومازنا
إلا حديثاً وَافَق المحاسنا
فقال المغيرة: أمَّا نحن فمن هوازن وأبوك أعلم، قال: فأخبريني أي العرب كان أحب
إلى أبيك. قالت: أطوعهم له، قال: ومن أولئك؟ قالت: بكر بن وائل، قال: فأين بنو
تميم. قالت: ما استعنتهم في طاعة، قال: فقيس؟ قالت: ما اقتربوا إليه بما يحب إلا
استعقبوه بما يكره، قال: فكيف أطاع فارس. قالت: كانت طاعته إياهم فيما يهوى،
فانصرف المغيرة.
ولما هلك المغيرة ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أوَّلَ من جمع له ولاية
العراقين البصرة والكوفة. وفي سنه ثمان وأربعين قَبَضَ معاوية فَدكَ من مروان بن
الحكم، وقد كان وهبها له قبل ذلك، فاستردها.
وقد كان معاوية حجَّ في سنة خمسين، وأمر بحمل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، من
المدينة إلى الشام، فلما حمل كسفت الشمس ورؤيت الكواكب بالنهار، فجزع من ذلك
وأعْظَمَه، وردَه، إلى موضعه، وزاد فيه ستة مراقي.
موت زياد.
وفي
سنة ثلاث وخمسين هلك زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان، وكان يكنى أبا المغيرة،
وقد كان كتب إلى معاوية أنه قد ضبط العراق بيمينه، وشمالُه فارغَةٌ، فجمع له الحجاز
مع العراقين، واتصلت ولايته بأهل المدينة، فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وضَجُّوا إلى اللّه، ولاذوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم،
ثلاثة أيام، لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف، فخرجت في كفه بَثْرَة ثم حَكَّها
ثم سرت واسود تْ فصارت آكلة سوداء، فهلك بذلك وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل:
اثنتين وخمسين، ودُفن بالثوية من أرض الكوفة.
وقد كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لَعْنِ علي، فمن أبى ذلك
عرضه على السيف، فذكر عبد الرحمن بن السائب.، قال: حضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة
من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالس في الجماعة، وقد خَفَقْتُ، وهو إني
رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل، فقلت: ماهذا؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بُعِثْتُ
إلى صاحب هذا القصر، فانتبهك فزعاً، فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر
فقال: انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي
ذلك يقول عبد الله بن السائب من أبيات:
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تأتى له النقاد ذوا لرقبهْ
فأسقط الشق منه ضربة ثبتت ... لما تناول ظلماً صاحبَ الرحبه
يعني بصاحب الرحية علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه! وقد ذهب جماعة إلى أن عليّاً
دفن في القصر بالكوفة؟ ويقال: إن زياداً طُعِن في يده، وأنه شاور شريحاً في قطعها،
فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجْذَمَ،
وإن حَم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك: لِمَ قطعتها؟ قلت: بغضاً للقائك،
وفراراً من قضائك، فلام الناس شريحاً، فقال لهم: إنه استشارني والمستشار مؤتمن،
ولولا أمانة المشورة لوددت أن اللّه قطع يده يوماً ورجله يوماً، وسائر جسده يوماً.
البيعة ليزيد
وفي سنة تسع وخمسين وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها، فكان ممن وفد من
أهل العراق الأخنَفُ بن قيس في آخرين من وجوه الناس، فقال معاوية للضحاك بن قيس:
إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء اللّه، فإذا فرغت من كلامي فقل في يزيد الذي
يحق عليك، وَادْعُ إلى بيعته، فإني قد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد
اللّه بن عضاة الأشعري، وثور بن مَعْن السلمي أن يصدقوك في كلامك، وأن يجيبوك إلى
الذي دعوتهم إليه، فلما كان من الغد قعد معاوية فأعلم الناس بما رأى من حُسْنِ
رِعْيَة يزيد ابنه وهَدْيِه، وأن ذلك دعاه إلى أن يوليه عهده، ثم قام الضحاك بن
قيس فأجابه إلى ذلك، وحضَ الناس على البيعة ليزيد، وقال لمعاوية: اعزم على ما
أردت، ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد اللّه بن عضاة الأشعري وثور بن
مَعْن فصدقُوا قوله ثم قال معاوية: أين الأحنف ققال: إن الناس قد أمْسَوْا في منكر
زمان قد سلف، ومعروف زمان يؤتنف، ويزيد حبيب قريب، فإن توله عهدك فعن غيركبرمُفْن،
أو مرض مُضْن، وقد حَلَبْت الدهور، وجَربت الأمور، فاعرف من تُسْنِد إليه عهدك،
ومن تولِّيه الأمر من بعدك، وأعصى رأي من يأمرك ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر
لك، فقام الضحاك بن قيس مُغْضَباً فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق، وقال: اردد رأيهم
في نحورهم، وقام عبد الرحمن بن عثمان فتكلم بنحو كلام الضحاك، ثم قام رجل من
الأزد، فأشار إلى معاوية وقال: أنت أمير المؤمنين، فإذا مُتَ فأمير المؤمنين يزيد،
فمن أبَى هذا فهذا، وأخذ بقائم سيفه فسلّه، فقال له معاوية: أقعد فأنت من أخطب
الناس، فكان معاوية أول من بايع ليزيد ابنه بولاية العهد، وفي ذلك يقول عبد الرحمن
بن همام السلولي:
فإن تَاتوا بِرَمْلَةَ أوبهند ... نُبَايعها أميرة مؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى ... نعدُ ثلاثة مُتَنَاسقينا
فيالهفا لَوَانَ لنا أنوفا ... ولكن لانعود كما عنينا
إذا لضربتُمُ حَتَى تعودوا ... بمكه تلعقون بها السَّخِينَا
خشينا الغيظ حَتَى لوشَرِبْنَا ... دماء بني أمية مارَوَينَا
لقد
ضاعت رَعِيَّتكُمْ وأنتم ... تَصِيدُونَ الأرانب غافلينا
وأنفذت الكتب ببيعة يزيد إلى الأمصار، وكتب معاوية إلى مروان بن الحكم - وكان
عاملَه على المدينة - يعلمه باختياره يزيد، ومبايعته إياه بولاية العهد، ويأمره
بمبايعته، وأخذ البيعة له على من قِبَلَه، فلما قرأ مروان ذلك خرج مُغْضَباً في
أهل بيته وأخواله من بني كنانة، حتى أتى دمشق فنزلها، ودخل على معاوية يمشي بين
السِّمَاطين، حتى إذا كان منه بقدر ما يُسْمعه صَوْتَه سَلّم، وتكلم بكلام كثير
يوبخ به معاوية، منه: أقم الأًمور يا ابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان،
واعلم أن لك من قومك نُظَرَاء، وأن لك على مناوأتهم وزراء، فقال له معاوية: أنت
نظير أمير المؤمنين، وعُدّته في كل شديده وعَضده، والثاني بعد وليِّ عهده، وجعله
ولي عهد يزيد، وردَه إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي
سفيان، ولم يَفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد بن معاوية.
ذكر جمل من أخلاقه وسياسته
وطرائف من عيون أخباره
قد ذكرنا فيما تقدم جُمَلاً من أخبار معاوية وسيره، فلنذكر الآن في هذا الباب
جملاً من أخلاقه وسياسته وأخباره، وغير ذلك مما لحق هذا المعنى إلى وفاته.
من أخلاق معاوية وعاداته
كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات:
كان
إذا صلى الفجر جلس للقاصِّ حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم
يدخل منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه، فيأذن لخاصة
الخاصة. فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراؤه فيكلمونه فيما يريدون من يومهم إلى
العشيِّ، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فَضْلة عشائه من جدي بارد أو فرخ أو ما
يشبهه، ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد، ثم يخرج فيقول: يا غلام أخرج
الكرسي، فيخرج إلى المسجد فيوضع فيسند ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي، ويقوم
الأحْرَاسُ فيتقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة ومن لا أحد له، فيقول:
ظلمت، فيقول: أعِزُّوهُ، ويقول: عدي علي، فيقول: أبعثوا معه، ويقول: صنع بي، فيقول
: انظروا في أمره، حتى إذا لم يبقى أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا
للناس على قدر منازلهم، ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه؟ فيقول: بنعمة من اللهّ، فإذا استووا جلوساً قال: يا
هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج
مَنْ لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول
آخر: غاب فلان عن أهله، فيقول: تعاهدوهم، أعطوهم، اقضوا حوائجهم، اخدموهم، ثم يؤتى
بالغداء، ويحضر الكاتب فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقول له: اجلس على المائدة،
فيجلس، فيمد يده فيأكل لقمتين أو ثلاثاً والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه بأمره،
فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر، حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم،
وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء
ويقال للناس: أجيزوا، فينصرون، فيدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع، حتى ينادي بالظهر،
فيخرج فيصلي ثم يدخل فيصلي أربع ركعات، ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت
وقتَ شتاء أتاهم بزاد. الحاج من الأخْبِصَة اليابسة والخشكنانج والأقراص المعجونه
باللبن والسكر ودقيق السميذ والكعك المسمن والفواكه اليابسة والذانجوج وإن كان وقت
صيف أتاهم بالفواكه الرطبة، ويخل إليه وزراؤه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقيَّةَ
يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي - العصر، ثم يدخل إلى منزله فلا يطمع فيه
طامع، حتى إذا كان في آخر أوقات العصر خرج فجلس على سريره ويُؤْذَنُ للناس على
منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منه مقدار ما ينادي بالمغرب، ولا ينادي له أصحاب
الحوائج، ثم يرفع العَشَاء وينادي بالمغرب فيخرج فيصليها ثم يصلي بعدها ؟أربع
ركعات يقرأ في كل ركعة خمسين آية يجهر تارة ويخافت أخرى، ثم يدخل منزله فلا يطمع
فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج كي يصلي، ثم يؤذن للخاصة وخاصة الخاصة
والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث
الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسِيَر ملوك الأمم
وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه
الطرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام
ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك لاأخبارها والحروب
والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه
كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم
يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم.
وقد كان هًمّ بأخلاقه جماعةٌ بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه،
ولا إتقانه للسياسة، ولا التأتَي للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه
بهم على طبقاتهم.
من دهاء معاوية:
وبلغ
من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلاً من أهل الكوفة
دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه
ناقتي، آخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة
يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال
الكوفي: أصلحك اللهّ! إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي
بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه،، وبَرةَ، وأحسن إليه،
وقال له: أبلغ علياً إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل، وقد
بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم
الأربعاء، وأعاروه رؤوسهمِ عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص:
إن علياَ هو الذي قتل عًمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في
طاعته إلى أن جعلوا لَعْنَ علي سُنَة، ينشأ عليها الصغير؟ ويهلك عليها الكبير.
من غفلة أهل الشام والعراق
. قال المسعودي: وذكر بعض الأخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل
الرأي والعقل منهم: مَنْ أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه
لصاً من لصوص الفتن.
وحكى الجاحظ قال: سمعت رجلاً من العامة وهو حاج وقد ذكر له البيت يقول: إذا أتيته
مَنْ يكلّمني. منه ؟ وأنه أخبره صديق له أنه قال له رجل منهم وقد سمعه يصلي على
محمد صلى الله عليه وسلم : ما تقول في محمد هذا؟ أربنا هو؟.
وذكر ثمامة بن أشْرَس قال: كنت ماراً في السوق ببغداد، فإذا أنا برجل عليه الناسُ
مجتمعون، فنزلت عن بغلتي، وقلت: لشيء ما هذا الاجتماع، ودخلت بين الناس، وإذا برجل
يصف كحلا معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين، فنظرت إليه فإذا عينه الواحدة
بَرْشَاء والأخرى مأسوكة، فقلت له: يا هذا، لو كان كحلك كما تقول نفع عينيك!! فقال
لي: يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي. إنما اشتكتا بمصر، فقال كلهم: صدق، وذكر أنه ما
انفلت من نعالهم إلا بعد كد.
وذكر لي بعض إخواني أن رجلاً من العامة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين
لأصحاب الكلام عَلَى جار له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه
مُرْجىء قَدَرِيّ ناصبي رافضي، فلما قصهُ عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب
الذي قاتل علَيّ بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري عَلَى أي شيء أحسدك: أعلى علمك
بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟.
وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر وعلي
ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا، فقال
لي ذات يوم بعضُهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية، كم تُطْنبون في علي ومعاوية وفلان
وفلان، فقلت له: فما تقول أنت في ذلك؟ قال: من تريد؟ قلت: علي، ما تقول فيه قال:
أليس هو أبو فاطمة؟ قلت: ومَنْ كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي عليه لسلام بنت عائشة
أخت معاوية، قلت: فما كانت قصة علي. قال: قتل في غَزَاة. حنين مع النبي صلى الله
عليه وسلم.
وقد كان عبد اللّه بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام، وكان من قصة مروان
ومقتله ما قد ذكر، ونزل عبد اللهّ بن علي الشام، ووجه إلى أبي العباس السفاح
أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة من سائر أجناد الشام فحلفوا لأبي
العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قرابة ولا أهل بيت
يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة، فقال في ذلك إبراهيم بن المهاجر
البَجَلِيُّ:
أيها الناس اسمعوا أخبركم ... عجبا زادَ على كل العجب
عجباً من عبد شمس، إنهم ... فتحوا للناس أبواب الكذب
ورثوا أحمد فيما زعموا ... دون عباس بن عبد المطلب
كذبوا واللّه ما نعلمه ... يحرز الميراث إلا من قرب
متطبب في عهد الرشيد
وقد
كان ببغداد رجل في أيام هارون الرشيد متطبب يطبب العامة بصفاته وكان دهرياً يظهر
أنه من أهل السنة والجماعة ويلعن أهل البدع ويعرف بالسني تنقاد إليه العامة؟ فكان
يجتمِع إليه في كل يوم بقوارير الماء خَلْقٌ من الناس، فإذا اجتمعوا وثب قائماَ
على قدميه فقال لهم: معاشر المسلمين، قلتم لا ضار ولا نافع إلا اللّه فلأي شيء
مصيركم إلي تسألونني عن مضاركم ومنافعكم؟ ألجؤا إلى ربكم وتوكلوا على بارئكم حتى
يكون فعلكم مثل قولكم، فيقبل بعضهم على بعض فيقولون: إي واللّه قد صدقَنَا، فكم من
مريض لم يعالج حتى مات، ومنهم من كان يتركه حتى يسكن ثم يريه الماء فيصف له
الدواء، فيقول: إيمانُكَ ضعيف، ولولا ذلك لتوكلت على اللّه كما أمْرَضَكَ فهو
يُبْرِئك، فكان يقتل بقوله هذا خلقاً كثيراً لتزهيده إياهم في معالجة مرضاهم.
من أخلاق العامة
ومن أخلاق العامة أن يسودوا غير السيد، ويفضلوا غير الفضل، ويقولوا بعلم غير
العالم، وهم أتباع من سَبَقَ إليهم من غير تمييز بين، الفاضل والمفضول، والفضل
والنقصان، ولامعرفة للحق من الباطل عندهم، ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا
ونظرت في مجالس العلماء هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة
والحجا، وتفقد العامة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مُرْقِلين إلى،
قائد دبٍّ، وضارب بدف على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى
مشَعبذ متنمس مخرق، أو مستمعين إلى قاصّ كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً
عند مصلوب؟ يُنْعَق بهم فيتبعون؟ ويصاح بهم فلا يرتدعون، لا ينكرون منكراً، ولا
يعرفون معرفاً، ولا يبالون أن يلحقوا البرَّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر، وقد بين
ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فيهم حيث يقول: " الناس إثنان: عالم،
ومتعلم، وما عدا ذلك هَمج رَعاع لا يعبأ اللّه بهم " . وكذلك ذكر عن علي وقد
سئل عن العامة، فقال هَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم
يلجأوا إلى ركن وثيق، وأجمع الناس في تسميتهم على أنهم غَوْغَاء، وهم الذين إذا
اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا، ثم تدبر تفرقهم في أحوالهم ومذاهبهم، فانظر
إلى إجماع مَلَئِهِمْ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام يدعو الخلق إلى
اثنتين وعشرين سنة وهو ينزل عليه الوحي ويمليه على أصحابه، فيكتبونه ويُدَوِّنونه
ويلتقطونه لفظة لفظة، وكان معاوية في هذه المدة بحيث علم اللّه، ثم كتب له صلى
الله عليه وسلم قبل وفاته بشهور، فأشادوا بذكره، ورفعوا من منزلته، بأن جعلوه
كاتباً للوَحْي، وعَظَّمُوه بهذه الكلمة، وأضافوه إليها، وسلبوها عن غيره، وأسقطوا
ذكر سواه، وأصل ذلك العادة والألف وما ولدوا عليه، وما نشؤا فيه، فألفوا وقت
التحصيل والبلوغ، وقد عملت العادة عملها، وبلغت مبالغها، وفي العادة قالت الشعراء
وتكلم أهل الدراية والأدباء، قال الشاعر:
لاتُهِنَي بعد إذ أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ منْتَزَعَةُ
وقال آخر معاتباً لصاحبه:
ولكِنْ فِطَامُ النفْس أثْقَلُ محملا ... من الصخره الصماء. حين ترومها
وقد قالت حكماء العرب: العادة أملك بالأرب، وقالت حكماء العجم: العادة هي الطبيعة
الثانية، وقد صنف أبو عقال الكاتب كتاباً في أخلاق العوامِّ يصف فيه أخلاقهم
وشيمهم ومخاطباتهم، وسَمَّاه بالملهِي.
ولولا إني أكره التطويل والخروج عما قصدنا إليه في هذا الكتاب من الِإيجاز لشرحت
من نوادر العامة وأخلاقها، وطرائف أفعالها عجائبَ، ولذكرت مراتب الناس في أخلاقهم،
وتصرفهم في أحوالها.
فلنرجع الآن إلى أخبار معاوية وسياسته، وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم
من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واستدعى به النفوس، حتى
آثروه على الأصل والقرابات.
عقيل بن أبي طالب ومعاوية
من
ذلك أنه وفد عليه عَقيلُ بن أبي طالب منتجعاً وزائراً، فرحّبَ به معاوية، وسُر
بوروده، لاختياره إياه علىِ أخيه، وأوْسَعَه حلماَ واحتمالاً،فقال له: يا أبا
يزيد، كيف تركت علياَ؟ فقال: تركته على ما يحبُّ اللّه ورسوله والفيتك على ما يكره
اللّه ورسوله، فقال له معاوية، لولا أنك زائر منتجع جنابَنَا لرددت عليك أيا يزيد
جوابَاَ تألم منه، ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه، فوثب عن
مجلسه، وأمر له بنزل، وحمل إليه مالاً عظيماً، فلما كان من غد جلس وأرسل إليه
فأتاه، فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياً أخاك؟ قال: تركته خيراً لنفسه منك،
وأنت خير لي فنه، فقال له معاوية: أنت واللّه كما قال الشاعر:
وإذا عددت فخار آل محرق ... فالمجد منهم في بني عَتَّاب
فحمل المجد من بني هاشم مَنُوطُ فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي، فقال
عقيل:
أصبر لحرب أنت جانيها ... لابدأن تصلى بحاميها
وأنت واللّه يا ابن أبي سفيان كما قال الاخر:
وإذا هوازن أقبلت بفَخَارها ... يوماً فخرتهم بآل مجاشع
بالحاملين على الموالي غُرْمَهم ... والضاربين الهام يوم الفازع
وصف بني صوحان
ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفخر؟ فقال معاوية: عزمت عليك أبا
يزيد لما أمسكت، فإني لم أجلس لهذا، وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو
معرفة بهم، فقال عَقِيل: سل عما بدا لك: فقال: مَيِّزْ لي أصحاب علي، وابدأ بآل
صَوْحَان فإنهم مخاريق الكلام، قال: أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد
فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق، ويفتق ما رتق، قليل النظير، وأما زيد وعبد اللهّ
فإنهما نهران جاريان، يصب فيهما الْخلجان، ويغاث بهما البلدان، رجلاَ جِدً لا لعب
معه، وبنو صوحان كما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فإن عندي ... أسوداً تخلس الأسْدَ النفوسا
من صعصعة إلى عقيل:
فاتَصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم، ذكْرُ الله أكبر، وبه
يستفتح المستفتحون، وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة؟ أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامُكَ
لعدو الله وعدو رسوله، فحمدْتُ اللّه على ذلك، وسألته أن يفيء بك إلى الدرجة
العليا، والقضيب الأحمر، والعمود الأسود فإنه عمودٌ مَنْ فارقه الدين الأزهر، ولئن
نزعَتْ بك نفسك إلى معاوية طلبَاَ لماله إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق
بك ناره فيضلك عن الحجة، فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما
كان من فضل أو إحسان فبكم وَصَلَ إلينا، فأجَلَّ اللهّ أقداركم، وحمى أخطاركم،
وكتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية، وأخطاركم محمية، وآثاركم بدْرِية، وأنتم سلم الله
إلى خلقه، ووسيلته إلى طرقه، أيد علية، ووجوه جلية، وأنتم كما قال الشاعر:
فما كان من خير أتوه فإنما ... تَوَارَثَه آباء آبائهم قَبْلُ
وهل ينبت الخطي إلاوشيجه ... وتُغْرَسُ إلا في منابتها النخل
بين علي ووجوه أصحابه
وحدث
الهيثم عن أبي عمرو بن يزيد، عن البراء بن يزيد، عن محمد بن عبد اللهّ بن الحارث
الطائي ثم أحد بني عفان، قال: لما انصرف علي من الجمل قال لأذنه: مَنْ بالباب من
وجوه العرب؟ قال: محمد بن عميربن عطارد التيمي والأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان
العبدي، في رجال سماهم، فقال: ائذن لهم، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، فقال لهم:
أنتم وجوه العرب عندي، ورؤساء أصحابي، فأشيروا عليَّ في أمر هذا الغلام المترَف -
يعني معاوية - فافتنّتْ بهم المَشُورة عليه، فقال صعصعة: إن معاوية أتْرَفَهُ
الهوى، وحببت إليه الدنيا، فهانت عليه مصارع الرجال، وابتاع آخرتة بدنياهم، فإن
تعمل فيه برأي ترشد وتُصِبْ، إن شاء الله، والتوفيق باللّه وبرسوله وبك يا أمير
المؤمنين، والرأي أن ترسل له عيناً من عيونك وثقة من ثقاتك، بكتاب تدعوه إلى
بيعتك، فإن أجاب وأناب كأن له مالك وعليه ما عليك، وإلا جاهدته وصبرت لقضاء اللّه
حتى يأتيك اليقين، فقال علي: عزمت عليك يا صعصعة إلا كتبت الكتاب بيديك، وتوجهت به
إلى معاوية، واجعل صدر الكتاب تحذيراً وتخويفاً، وعجزه استتابة واستنابة ولْيَكن
فاتحة الكتاب بسم اللهّ الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية
سلام عليك، أما بعد ثم اكتب ما أشرتَ به عليَ، واجعل عنوان الكتاب ألا إلى اللّه
تصير الأمور، قال: أعفني من ذلك، قال. عزمت عليك لتفعلَنَ، قال: أفعل، فخرج
بالكتاب وتجهز وسار حتى ورد دمشق، فأتى باب معاوية فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب - وبالباب أزْفَلة من بني أمية - فأخذته الأيدي والنعال
لقوله، وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكثرت الجلبة واللغط، فاتصل ذلك
بمعاوية فوجَّه من يكشف الناس عنه، فكشفوا، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال لهم: من هذا
الرجل؟ فقالوا: رجل من العرب يقال له صعصعة بن صوحان معه كتاب من علي، فقال: والله
لقد بلغني أمره، هذا أحد سهام علي وخُطَباء العرب، ولقد كنت إلى لقائه شَيِّقاً،
ائذن له يا غلام، فدخل عليه، فقال: السلام عليك يا ابن أبي سفيان، هذا كتابُ أمير
المؤمنين، فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسُلً تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك،
ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعاً أم تكلفاً
فقال: ممن الرجل؟ قال: من نزار، قال: وما كان نزار؟ قال: كان إذا غزا نكسَ، وإذا
لقي افترس، وإذا انصرف احترس، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من ربيعة، قال: وما
كان ربيعة. قال: كان يطيل النِّجاد، ويَعُولُ العباد، ويضرب ببقاع الأرض
العِمَادَ، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من جَدِيلَةَ، قال: وما كان جديلة؟ قال:
كان في الحرب سيفاً قاطعاً، وفي المكرمات غيثاً نافعاً، وفي اللقاء لهباً ساطعاً،
قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من عبد القيس، قال: وما كان عبد القيس. قال كاد
خصيباً خضرماً أبيض وهاباً لضيفه ما يجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب
العرق، يقوم للناس مقام الغيثمن السماء، قال: ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا
الحي من قريش مجداً ولا فخراً، قال: بلى واللّه يابن أبىِ سفيان، تركت لهم ما لا يصلح
إلا بهم، ولهم تركت الأبيض والأحمر، والأصفر والأشقر، والسرير والمنبر، والملك إلى
المحشر، وأنًى لا يكون ذلك كذلك وهم مَنَارُ اللّه في الأرض ونجومه في السماء.
ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، فقال: صدقت يا ابن صوحان، إن ذلك
لكذلك، فعرف صعصعة ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد ويلك
يا ابن صوحان! قال: الويل لأهل النار، ذلك لبنى هاشم، قال: قم، فأخْرَجُوهُ، فقال
صعصعة:الصدق ينبيء عنك لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل المحاورة، فقال معاوية:
لشيء ما سوده قومه، وددت والله إني من صلبه، ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا
فلتكن الرجال.
معاوية وجماعة من أصحاب علي
وحدث
منصور بن وحشي، عن الحارث بن مسمار البهراني، قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان
العبدي وعبد اللّه بن الكَوَّاء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش،
فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيَ
الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكَوَّاء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار
عنيد، لا تراقب اللهّ في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسِعُ الدنيا،
ضيق الأخرى، قريب الثرى، بعيد المَرْعَى، تجعل الظلمات نوراَ، والنور ظلمات، فقال
معاوية: إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابينَ عن بَيْضته، التاركين
لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلَّينَ ما
حّرم الله، والمحرمِينَ ما أحل اللّه، فقال عبد اللّه بن الكواء: يا ابن أبي سفيان،
إن لكل كلام جواب، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق
بألسنة حِدَادٍ لا تأخذها في اللّه لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم اللّه
ويضعنا على فرجه قال: واللّه لا يطلق لك لسان، ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن
سفيان فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنَّى يكون الخليفة
مَنْ ملك الناس قهراً، ودَانَهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما
واللّه. أئا لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلي
ولا سيري ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجْلبَ على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فأنى
تصلح الخلافة لطليق. فقال معاوية: لولا إني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهمُ حلماً ومغفرة ... والعفوعن قدرةٍ ضَرْبٌ من الكرم
لقتلتكم.
صعصعة بن صوحان عند معاوية يصف له أهل البلاد
وحدث
أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: أخبرنا أبو الهيثم يزيد بن رجاء الغَنَوي، قال:
أخبرنا الوليد بن البختري، عن أبيه، عن ابن مردوع الكلبي قال: دخل صعصعة بن صوحان
العبدي على معاوية فقال له: يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها، فأخبرني عن
أهل البصرة، وإياك والحمل على قوم لقوم، قال: البصرة واسطة العرب، ومنتهى الشرف
والسؤدد، وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سَرَوَاتُ العرب
كدَورَان الرحا على قطبها، قال: فأخبرني عن أهل الكوفة، قال: قبة الإسلام، وذروة
الكلام، ومظانُ ذوي الأعلام، إلا أن بها أجلافاً تمنع ذوي الأمر الطاعة، وتخرجهم
عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة، قال: فأخبرني عن أهل الحجاز، قال:
أسرِع الناس إلى فتنة، وأضعفهم عنها، وأقلهم غَنَاء فيها، غير أن لهم ثباتاَ في
الدين، وتمسكاً بعروة اليقين، يتبعون الأئمة الأبرار، ويخلعون الفَسَقَةَ الفجار،
فقال معاوية: من البررة والفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان، تَرَكَ الخداع مَنْ كشف
القناع، عليٌّ وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك، ثم أحب معاوية
أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب، فقال: أخبرني عن القبة الحمراء في
ديار مضر، قال: أسد مضر بُسْلانٌ بين غيلين، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها
احترست، فقال معاوية: هنالك يا ابن صوحان العز الراسي، فهل في قومك مثل هذا. قال:
هذا لأهله دونك يا ابن أبي سفَيان، ومن أحَبّ قوماً حُشِرَ معهم. قال: فأخبرني عن
ديار ربيعة ولا يستخفنك الجهل وسابقة الحمية بالتعصب لقومك. قال: واللّه ما أنا
عنهم براض، ولكني أقول فيهم وعليهم: هم واللّه أعلام الليل، وأذناب في الدين
والميل لن تُغلب رايتها إذا رسخت، خوارج الدين، برازخ اليقين، من نصروه فلج، ومن
خذلوه زلج، قال: فأخبرني عن مضر، قال: كنانة العرب، ومعدن العز والحسب، يقذف البحر
بها آذِيًه، والبر دريه، ثم أمسك معاوية، فقال له صعصعة: سَلْ يا معاوية وإلا
أخبرتك بما تحيد عنه، قال: وما ذاك يا ابن صوحان؟ قال: أهل الشام، قال: فأخبرني
عنهم، قال: أطْوَعُ الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عُصَاة الجبار، وخلفة الأشرار،
فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار، فقال معاوية: والله يا ابن صوحان إنك لحاملٌ
مُدْيَتَكَ " منذ أزمان، إلا أن حلم ابن أبي سفمِان يرد عنك، فقال صعصعة: بل
أمر اللّه وقدرته، إن أمر اللّه كان قدَراً مقدوراً.
وحدث أبو الهيثم قال: حدثني أبو البشير محمد بن بشر الفزاري، عن إبراهيم بن عقيل
البصري، قال: قال معاوية يوماً - وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه
الناس - : الأرض للهّ، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه
كان جائزاً لي، فقال صعصعة:
تُمَنَيكَ نفسك مالايكو ... ن جَهْلاًمعاوي لاتأثم
فقال معاوية: يا صعصعة، تعلّمت الكلام، قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل، قال
معاوية: ما أحْوَجَكَ إلى أن أذيقك وَبَالَ أمرك! قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي
لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، قال: ومن يحول بيني وبينك. قال: الذي يحول بين المرء
وقلبه، قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير، قال: اتسع بطن
مَنْ لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع.
من أخبار صعصعة
قال المسعودي: ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة
والإيضاح عن المعاني، على إيجاز واختصار.
ومن ذلك خبره مع عبد اللّه بن العباس، وهو ما حدث به المدائني، عن زيد بن طليح
الذهلي الشيباني، قال: أخبرني أبي، عن مصقلة بن هبَيْرَة الشيباني، قال: سمعت
صعصعة بن صوحان وقد سأله ابن عباس: ما السؤدد فيكم؟ نقال: إطعام الطعام، ولين
الكلام، وبذل النَوال، وكف المرء نفسه عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن
يكون الناس عندك شَرَعاً، قال: فما المروءة. قال: أخوان اجتمعا فإن لقيا قهراً
حارسهما قليل، وصاحبهما جليل، يحتاجان إلى صيانة " مع نزاهة وديانة، قال: فهل
تحفظ في ذلك شعراً قال: نعم، أما سمعت قول مرة بن ذُهْل ابن شيبان حيث يقول:
إن السيادة والمروءة عُلِّقَا ... حيث السماء من السِّمَاكِ الأعزل
وإذا
تقابل مُجْرِيَانِ لغاية ... عثر الهجين وأسلمته الأرجل
ويَجِي الصريحُ مع العتاق معوداً ... قرب الجياد فلم يجئه الأفكل
في أبيات، فقال له ابن عباس: لو أن رجلاً ضرب آباط إبله مشرقاً ومغرباً لفائدة هذه
الأبيات ما عنفته، إنا منك يا ابن صوحان لعلى علم وحكم واستنباط ما قد عفا من
أخبار العرب، فمن الحكيم فيكم؟ قال: مَنْ ملك عضبه فلم يعجل، وسعي إليه بحق أو
باطل فلم يقبل، ووجد قاتل أبيه وأخيه فصفعِ ولم يقتل، ذلك الحكيم يا ابن عباس،
قال: فهل تجد ذلك فيكم كثيراَ. قال: ولا قليلاً، وإنما وصفت لك أقواماً لا تجدهم
إلا خاشعين راهبين للّه مريدين ينيلون ولا ينالون، فأما الآخرون فإنهم سبق جهلهم
حلمهم، ولا يبالي أحدهم إذا ظفر ببغيته حين الحفيظة ما كان بعد أن يدرك زعمه يقضي
بغيته، ولو وتره أبوه لقتل أباه، أو أخوه لقتل أخاه، أما سمعت إلى قول زبان بن
عمرو بن زبان، وذلك أن عمراً أباه قتله مالك بن كومة، فأقام زبان زماناً، ثم غزا
مالكاً، فأتاه في مائتي فارس صباحاً وهو في أربعين بيتاً فقتله، وقتل أصحابه وقتل
عمه فيمن قتل، ويقال: بل كان أخاه، وذلك أنه كان جاورهم، فقيل لزبان في ذلك: قتلت
صاحبنا، فقال:
فلو أمي ثَقَفْتُ بحيث كانوا ... لبَل ثيابها علق صبيب
ولو كانت أمية أخت عمرو ... بهذا الماء ظَلَّ لها نحيب
شهرت السيف في الأدنين مني ... ولم تعطف أواصِرَنَا قلوب
فقال له ابن عباس: فمن الفارس فيكم؟ حُدّ لي حداً أسمعه منك فإنك تضع الأشياء
مواضعها يا ابن صوحان، قال: الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم على أمله بضرسه،
وكانت الحرب أهون عليه من أمسه، ذلك الفارس إذا وقدت الحروب، واشتدت بالأنفس
الكروب، وتداعوا للنزال، وتزاحفوا للقتل، وتخالسوا المهج، واقتحموا بالسيوف اللجج،
قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان، إنك لسليل أقوام كرام خطباء فصحاء، ما ورثت هذا
من كَلاَلة، زدني قال: نعم، الفارسُ كثير الحذر، مدير النظر، يلتفت بقلبه، ولا
يدير خرزات صلبه، قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان الوَصْفَ، فهل في مثل هذه الصفة
من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جَناب الكلبي يرثي ابنه عمراً حيث يقول:
فارس تكلأ الصحابة منه ... بحسام يمرُمًرّ الحريق
لاتراه لدى الوغى في مجال ... يغفل الطرف، لا، ولافي مضيق
من يراه يَخَلْه في الحرب يوما ... أنه أخرق مضل الطريق
في أبيات، فقال له ابن عباس: فأين أخواك منك يا ابن صوحان؟ صِفْهُمَا لأعرف وزنكم.
قال: أما زيد فكما قال أخو غَنِيّ:
فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا سد خلاَّتِ الكرام شُحُوبُ
إذا ما ترا آه الرجال تحفظوا ... فلم ينطقوا العوراء وهو قريب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... إليه، ويدعوه الندى فيجيب
يبيت الندى يا أم عمرو ضَجِيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب
كأن بيوت الحي مالم يكن بها ... بَسَابِسُ مايلفى بهن عَرِيبُ
في أبيات، كان واللّه يا ابن عباس عظيم المروءة، شريف الأخوة، جليل الخطر، بعيد
الأثر، كميش العروة، أليف البدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكراً
اللّه طرفَي النهار وزُلَفاًَمن الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا ينافس في
الدنيا، وأقل أصحابه من يُنَافس فيها، يطيل السكوت، ويحفظ الكلام، وإن نطق نطق
بعُقام، يهرب منه الدُّعَّار الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار، فقال ابن عباس: ما
ظنك برجل من أهل الجنة، رحم اللّه زيداً، فأين كان عبد اللّه منه. قال: كان عبد
اللّه سيداً شجاعاً، مألفاٍ مطاعاً، خيِره وساع، وشره دفاع، قُلْبي النحيزة، أحوذي
الغريزة، لا ينهنهه منهِنة عما أراده، ولا يركب من الأمر إلا عتاده، سماع عدي،
وباذل قرى، صعب المَقَادة، جَزْل الرفادة، أخو إخوان، وفتى فتيان، وهو كما قال
البرجمي عامر بن سنان:
سِمَامُ عدى، بالنبل يقتل من رمى ... وبالسيف والرمح الرُّدَيْنِيِّ مشغب
مهيب مفيد للنوال مُعَوَّد ... بفعل الندى والمكرمات مجرب
وفي
أبيات، فقال له ابن عباس: أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب.
ومن أخبار صعصعة ما حدث به أبو جعفر محمد بن حبيب الهاشمي، عن أبي الهيثم يزيد بن
رجاء الغنوي، قال: أخبرني رجل من بني فزارة ثم من بني عدي، قال: وقف رجل من بني
فزارة على صعصعة، فأسمعه كلاماً منه: بسطت لسانك يا ابن صوحان على الناس فتهيبوك،
أما لئن شِئْتَ لأكونن لك لصاقاً، فلا تنطق إلا حَدَدْتُ لسانك بأذْرَبَ من ظُبَةِ
السيف، بعضب قوي، ولسان علي، ثم لا يكون لك في ذلك حلِ ولا ترحال، فقال صعصعة: لو
أجد غرضاً منك لرميت، بل أرى شبحاَ ولا أرى مثالاً، إلا مسراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أما لو كنت كفؤاً لرميت حصائلك بأذْرَبَ من ذلك
السنان، ولرشقتك بنبال تردعك عن النضال، ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام،
فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزاري، وقال: أما لو كلف أخو فزارة نَفْسَه
نقل الصخور من جبال شمام إلى الهضام، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس، خاب
أبوه، ما أجهله!! يستجهل أخا عبد القيس، وقواه المريرة، ثم تمثل:
صُبّتْ عليك ولم تنصبّ من أمَم ... إن الشقاء على الأشْقَيْنَ مصبوب
أبو أيوب وصعصعة
وحدث المبرد، عن الرياشي، عن ربيعة بن عبد اللّه النميري، قال: أخبرني رجل من
الأزد، قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري، في يوم النهروان، وقد علا عبد الله بن
وهب الراسي، فضربه ضربة على كتفه، فأبان يده، وقال: بُؤْبها إلى النار يا مارق،
فقال عبد الله: ستعلم أينا أولى بها صليا، قال: وأبيك إني لأعلم؟ إذ أقبل صعصعة بن
صوحان فوقف وقال: أولى بها والله صلياً من ضلَّ في الدنيا عمياً، وصار إلى الآخرة
شقيا، أبعدك اللّه! وأنزحك! أما واللهّ: لقد أنذرتك هذه الصرعة بالأمس، فأبيت إلا
نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال أمرك، وشَرَكَ أبا أيوب في قتله: ضربه ضربةً
بالسيف أبان بها رجله، وأدركه بأخرى في بطنه، وقال: لقد صرت إلى نازلا تطفأ، ولا
يبوخ سعيرها، كم احتزا رأسه، وأتَيَا به علياً، فقالا: هذا رأس الفاسق، الناكث،
المارق: عبد اللّه بن وهب، فنظر إليه فقَطّبَ، وقال: شَاهَ هذا الوجه! حتى خيل
إلينا أنه يبكي، ثم قال: قد كان أخو راسب حافظا لكتاب اللّه، تاركاً لحدود اللّه،
ثم قال لهما: اطلبا لي ذا الثدَية، فطُلِبَ فلم يوجد، فرجعا إليه وقالا: ما أصبنا
شيئاَ، فقال: واللّه لقد قتل في يومه هذا، وما كذبني رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، ولا كَذَبْتُ عليه، قوموا بجمعكم فاطلبوه، فقامتَ جماعة من أصحابه، فتفرقوا
في القتلى، فأصابوه في دهاس من الأرض، فوقه زهاء مائة قتيل، فآخرجوه يجر برجله، ثم
أتى به علي، فقال: اشهدوا أنه ذو الثدية، وقد ذكرنا أخبار ذي الثدية فيما سلف من
هذا الكتاب.
من قول علي في ربيعة
ولعلي في ربيعة كلام كثير يمدحهم فيه، ويرثيهم شعراً ومنثوراً، وقد كانوا أنصاره
وأعوانه، والركن المنيع من أركانه، فمن بعض ذلك قوله يوم صفين:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمهاحُضَيْنُ تقدما
فيوردها في الصف حتى يعلها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
جزى الله قوماً قاتلوا في لقائه ... لدى الموت قدْماً ما أعز وأكرما
وأطيب أخباراً، وأكرم شيمة، ... إذا كان أصوات الرجال تغمغمما
ربيعَةَ أعْنِي، إنهم أهل نجدة ... وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرما
معاوية وجميل بن كعب
وذكر المدائني أن معاوية أسر جميل بن كعب الثعلبي - وكان من سادات ربيعة وشيعة علي
وأنصاره - فلما وقف بين يديه قال: الحمد للهّ الذي أمكنني منك، ألست القائل يوم
الجمل:
أصبحتِ الأمة في أمرعَجَبْ ... والملك مجموع غداً لمن غلب
قد قلت قولاً صادقَاَ غيركذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب
قال:
لا تقل ذلك فإنها مصيبة، قال معاوية: وأي نعمة أكبر من أن يكون اللة قد أظفرني
برجل قد قتل في ساعة واحدة عدة من حمَاة أصحابي؟ اضربوا عنقه، فقال: اللهم أشِهد
أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن قتلني على حُطَام الدنيا، فإن
فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله، فقال معاوية: قاتلك
الله! لقد سببت فأبلغت في السب، ودعوتَ فبالغت في الدعاء، ثم أمر به فآطلق، وتمثل
معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر، لم يقل النعمان غيرها، فيما ذكر ابن الكلبي،
وهي:
تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفَضْلِهَا
ولقد تُعَاقب في اليسير، وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف فضلهَا ويُخَاف شدة نكلهَا
معاوية عند موته
وذكر لوط بن يحيى وابن دأب والهيثم بن عدي وغيرهم من نَقَلَةِ الأخبار أن معاوية
لما احتُضِرَ تمثل:
هو الموت، لامَنْجى من الموت، والذي ... تحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقِل العَثْرة، واعف عن الزلة، وجُدْ بحلمك على جهل من لم يَرْجُ
غيرك، ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، وليس لذي خطيئة مهرب، فبلغ ذلك سعيد بن
المسيب، فقال: لقد رغب إلى مَنْ لا مرغوب إليه مثله وإني لأرجو أن لا يعذبه اللهّ.
وذكر محمد بن إسحاق وغيره من نقلة الآثار أن معاوية دخل الحمام في بدء علته التي
كانت وفاته فيها، فرأى نحول جسمه، فبكى لفنائه وما قد أشرَفَ عليه من الثور الواقع
بالخليقة، وقال متمثلاً:
أرى الليالي أسرعت في نقضي ... أخَذْنَ بعضي وتركن بعضي
خنَيْنَ طولي وحَنَيْنَ عرضي ... أقعدنني من بعد طول نهضي
ولما أزف أمرهُ، وحان فراقه، واشتدت علته، وأيس من برئه، أنشأ يقول:
فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة ... ولم أك في اللذات أعشى النواظر
وكنت كذي طمرين عاش بُبلْغَة ... من الدهرحتى زار أهل المقابر
قال المسعودي: ولمعاوية أخباركثيرة مع علي وغيره، وقد أتينا على الغرر من أخباره،
وما كان في أيامه في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وغيرهما من كتبنا، مما أفرد
للآثار، وهذا باب كبير، والكلام فيه وفي غيره مما تقدم وتأخر في هذا الكتاب كثير،
ومَنْ ضَمِنَ الاختصار لم يَجُزْ له الإكثار.
وإنما نذكر في كل باب من هذا الكتاب طُرَفَاَ من كل نوع من العلوم والأخبار، وما
انتخبناه من طرائف الآثار؟ ليستدل الناظر فيه بما ذكرنا على المراد مما تركنا ذكره،
وقد تقدم وصفه وبسطه فيما سلف من كتبنا.
وإذ تقدم ما ذكرنا، فلنذكر الآن جملاً من فَضْل الصحابة، وغيرهم، عليهم السلام؟ إذ
كانوا حجة على مَنْ بعدهم، وقدوة لمن تأخرعنهم، وبالله التأييد.
ذكر الصحابة ومدحهم وعلي والعباس وفضلهما
معاوية وعبد اللّه بن العباس
دخل عبد اللّه بن عباس على معاوية وعنده وُجُوه قريش، فلما سلم وجلس قال له
معاوية: إني أريد أن أسألك عن مسائل. قال: سَلْ عما بدا لك، قال: ما تقول في أبي
بكر؟ قال: رحم اللّه أبا بكر، كان واللّه للقران تالياً، وعن المنكرات ناهياً،
وبذنبه عارفاً، ومن اللهّ خائفاً، وعن الشبهات زاجراً، وبالمعروف آمراً، وبالليل
قائماً، وبالنهار صائماً، فَاقَ أصحابه وَرَعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً،
فغضب اللّه على مَنْ أبغضه وطعن عليه.
وصف عمر
قال معاوية: أيهاً يا ابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟. قال: رحم اللّه أبا
حفص عمر، كان واللّه حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى، الإحسان، ومحل الإيمان،
وكَهْفَ الضعفاء، ومَعقلَ الحنفاء، قام بحق اللّه عزّ وجل صابراً محتسباً، حتى
أوضح الدين، وفتح البلاد، وأمَّنَ العباد، فأعقب اللّه على مَنْ تَنقّصه اللعنَةَ
إلى يوم الدين.
قال: فما تقول في عثمان.
وصف عثمان
قال: رحم أبا عمرو، كان واللّه أكرم الحفَدة، وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير
الدموع عند ذكر النار، نهَّاضاً عند كل مكرمة، سًبّاقاً إلى كل منحة، حيياً أبياً
وفياً، صاحب جيش العُسْرَة، خَتَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعقب الله على
من يلعنه لعنة اللاعنين، إلى يوم الدين.
وصف علي
قال: فما تقول في علي؟
قال:
رضي اللّه عن أبي الحسن، كان واللّه عليٌّ عَلَم الهدى، وكهف التقي، ومحل الحجا،
وبحر الندى، وطَوْد النهي، وكهف العلا، للورى داعياً إلى المحجَّةِ العظمى،
متمسكاً بالعروة الوُثْقَى، خير مَنْ آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من
انتعل وسَعَى، وأفصح من تنفس وقرأ، وأكثر من شهد النجوى، سوى الأنبياء والنبي
المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد. وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر. وزوج خير
النساء فهل يفوقه قاطن بلد. للأسُود قتال، وفي الحروب ختال، لم تر عيني مثله ولن
تَرَى، فعلى من انتقصه لعنة اللّه والعباد إلى يوم التناد.
قال: أيها يا ابن عباس، لقد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس..
وصف العباس
قال: رحم اللّه العباس أبا الفَضْل، كان صِنْوَ نبي اللّه صلى الله عليه وسلم،
وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد، وأحلام أجداده الأمجاد،
تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسِّقَاية، والمشاعر والتلاوة، ولم لا
يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دَبَّ؟.
فقال معاوية: يا ابن عباس، أنا أعلم أنك كلماني في أهل بيتك قال: ولم لا أكون
كذلك، وقد قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم،: " اللهم فَقِّهْه في الدين
وعلمه التأويل؟.
وصف الصحابة عامة
ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام: يا معاوية، إن اللّه جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه،
خَصَّ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بصحابةٍ آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا
النفوس دونه في كل حال، ووصفهم اللّه في كتابه فقال: " رحماء بينهم "
الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت
أسبابه، وظهرت آلاء اللّه، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل اللهّ بهم الشرك،
وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة اللّه العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى،
فصلوات اللة ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية،
فقد كانوا في الحياة للّه أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله
نُصَحَاء، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ
فيها.
فَقَطَعَ عليه معاوية الكلام، وقال: إيها يا ابن عباس، حديثاً في غير هذا.
ذكر أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
وبويع يزيد بن معاوية، فكانت أيامه ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثماني ليال، وأخذ
يزيد لابنه معاوية بن يزيد البيعة على الناس قبل موته، ففي ذلك يقول عبد اللّه بن
هًمّام السَّلُولي:
تَلَقّفَهَا يَزِيد عن أبيه ... فخُذْهَا يا مُعَاوِيَ عن يزيدا
لقدعلقت بِكُمْ فَتَلَقفُوهَا ... ولاترموا بها الغرض البعيدا
وهلك يزيد بحوَارِينَ من أرض دمشق لسبع عشرة ليلة خلت من صفر سنة أربع وستين، وهو
ابن ثلاث وثلاثين سنة، وفي ذلك يقول رجل من عنزة:
يا أيّها القبر بحوَارِينَا ... ضممت شَر الناس أجمعينا
وقد رَثَاه الأخطل النصراني، فقال من قصيدة:
لعمري لقد دلى إلى اللحد خالد ... جنازة لا نِكْس الفؤاد ولا غمر
مقيم بحوارِينَ ليس يَريِمُهَا ... سقته الغوادي من ثَوِيٍّ ومن قبر
في أبيات.
ذكر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب
عليه السلام ومن قتل معه من أهل بيته وشيعته
أهل الكوفة يدعون الحسين
ولما مات معاوية أرسل أهل الكوفة إلى الحسين بن علي: إنا قد حَبَسْنَا أنفسنا على
بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضرجمعة ولا جماعة بسببك. وطولب الحسين بالبيعة
ليزيد بالمدينة فسام التأخير، وخرج يتهادى بين مواليه ويقول:
لا ذَعَرْتُ السوَامَ في فلق ... الصبح مُغِيراً، ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما ... والمنايا ترصُدْنَنِي أن أحِيدا
مسلم بن عقيل يتقدم الحسين إلى الكوفة
ولحق
بمكة، فأرسل بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وقال له: سِرْ إلى أهل الكوفة، فإن
كان حقّاً ما كتبوا به عرفني حتى ألحق بك، فخرجِ مسلم من مكة في النصف من شهر
رمضان حتى قدم الكوفة لخمس خَلَوْن من شوال، والأمير عليها النعمان بن بشير
الأنصاري، فنزل على رجل يقال له عَوْسَجة مستتراً، فلما ذاع خبر قدومه بايعه من
أهل الكوفة اثنا عشر ألف رجل، وقيل: ثمانية عشر ألفاً، فكتب بالخبر إلى الحسين،
وسأله القدوم إليه، فلما هَمَّ الحسين بالخروج إلى العراق أتاه ابن العباس، فقال
له: يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهْلُ غدمْر، وإنما يدعونك للحرب،
فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكة فَاشْخَصْ إلى اليمن،
فإنها في عُزْلَة، ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وَبث دعاتك، واكتب إلى أهل
الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم، فإن قَوَوْا على ذلك ونفوه عنها، ولم يكن
بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن
يأتي اللّه بأمره، فإن فيها حصونَاَ وشعاباً، فقال الحسين: يا ابن عمر، إني لأعلم
أنك لي ناصح وعليَّ شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب باجتماع أهل المصرعلى بَيْعتي
ونُصْرتي، وقد أجمْعت على المسير إليهمِ، قال: إنهم من خَبَرْتَ وجَرَّبت وهم
أصحاب أبيك وأخيك وَقَتَلَتُكَ غداَ مع أميرهم، إنك لو قد خرجت فبلغ ابنَ زياد
خروجُك استنفرهم إليك، وكان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك، فإن عصيتني وأبيت إلا
الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك، فواللّه إني لخائف أن تقتل كما قتل
عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، فكان الذي رَدَّ عليه: لأن أقْتَلَ والله بمكان
كذا أحَبُّ إلي من أن أستحَل بمكة، فيئس ابن عباس منه، وخرج من عنده، فمر بعبد
اللّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا ابن الزبير، وأنشد:
يا لك من قبرَةٍ بمعمر ... خلالَكِ الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شت أن تنقري
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحِجاز.
الحسين وابن الزبير
وبلغ ابن الزبير أنه يريد الخروج إلى الكوفة وهو أثقل الناس عليه، قد غمه مكانه
بمكة، لأن الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيء يُؤتَاه أحَبّ إليه من
شخوص الحسين عن مكة، فأتاه فقال: أبا عبد اللهّ ما عندك، فواللّه لقد خفت اللهّ في
ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم واستذلالهم الصالحين من عباد اللّه، فقال حسين: قد
عزمْتُ على إتيان الكوفة، فقال: وفَّقَكَ اللّه!! أما لو أن لي بها مثل أنصارك ما
عدلْتُ عنها، ثم خاف أن يتهمه فقال: ولو أقمت بمكانك فدعوتَنَا وأهل الحجاز إلى
بيعتك أجبناك وكنا إليك سِرَاعا، وكنت أحق بذلك من يزيد وأبي يزيد.
نصيحة أبي بكر بن هشام
ودخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين فقال: يا ابن عمر، إن الرحم يُظَائرني
عليك، ولا أدري كيف أنافي النصيحة لك، فقال: يا أبا بكر ما أنت ممن يسْتَغَشُّ ولا
يُتَهم، فقل، فقال أبو بكر: كان أبوك اقدم سابقة، وأحسن في الإسلام أثراً، وأشد
بأساً، والناس له أرْجى، ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون
عليه إلا أهل الشام وهو أعز منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه، حرصاً على الدنيا، وضناً
بها، فجرعوه الغيظ، وخالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة اللّه ورضوانه، ثم
صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلك كله ورأيته، ثم أنت تريد أن تسير
إلى الذين عَدَوْا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومن أعَدُّ منك
وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس
بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقَاتلك مَنْ وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه
ممن ينصره، فاذكر اللّه في نفسك، فقال الحسين: جزاك اللّه خيراً يا ابن عمر، فقد
أجهدك رأيك، ومهما يَقْض اللّه يكن، فقال: إنا للّه وعند اللهّ نحتسب يا أبا عبد
اللّه، ثم دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي والي مكة وهو يقول:
كم نرى ناصحا ًيقول فَيُعْصى ... وظَنِينِ المغيب يُلْفى نصيحاً
فقال: وما ذاك. فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحت له ورب الكعبة.
يزيد يستعد
واتصل
الخبر بيزيد، فكتب إلى عبيد اللّه بن زياد بتولية الكوفة، فخرج من البصرة مسرعاً
حتى قدم الكوفة على الظهْر، فدخَلَهَا في أهله وحشمه وعليه عمامة سوداء قد.
تَلَثّم بها، وهو راكب بغلة والناس يتوقعون قدوم الحسين فجعل ابن زياد يسلم على
الناس فيقولون: وعليك السلام يا ابن رسول اللّه! قدمْتَ خير مَقْدَم، حتى انتهى
إلى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصَّنَ فيه، ثم أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول
اللّه ما لي ولك. وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان. فقال ابن زياد: لقد طال
نومك يا نعيم، وَحَسَرَ اللِّثَام عن فيه، فعرفه، ففتح له، وتنادى الناس: ابن
مَرْجَانَة، وَحَصَبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر، ولما اتصل خبر ابن زياد بمسلم
تحوَّل إلى هانىء بن عروة المرادي، ووضع ابن زياد الرَّصَدَ على مسلم حتى علم
بموضعه، فَوَجَّه محمد بن الأشعث بن قيس إلى هانىء، فجاءه فسأله عن مسلم، فأنكره،
فأغلظ له ابن زياد القول، فقال هانىء: إن لزياد أبيك عندي بلاء حسناً، وأنا أحِبُّ
مكافأته به، فهل لك في خير. قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تَشْخَصُ إلى أهل الشام
أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق مَنْ هو أحق من حقك وحق صاحبك،
فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدنوه منه، فضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه
وشق حاجبه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه، وضرب هانىء بيده إلى قائم
سيف شرطي من تلك الشرط، فجاذبه الرجل، ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانىء بالباب: قتل
صاحبنا، فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت إلى جانب مجلسه، وأخرج إليهم ابن زياد
شريحاً القاضي، فشهد عندهم أنه حي لم يقتل، فانصرفوا، ولما بلغ مسلماً ما فعل ابن
زياد بهانىء، أمر منادياً فنادى يا منصور وكانت شعارهم، فتنادى أهل الكوفة بها،
فاجتمع إليه في وقت واحد ثمانية عشر ألف رجل، فَسَارَ إلى ابن زياد، فتحصن منه،
فحصروه في القصر فلم يُمْس مسلم ومعه غير مائة رجل، فلما نظر إلى الناس يتفرقون
عنه سار نحو أبواب كِنْدَة، فما بلغ الباب إلا ومعه منهم ثلاثة، ثم خرج من الباب
فإذا ليس معه منهم أحد، فبقي حائراً لا يدري أين يذهب، ولا يجد أحداً يَدُلُّه على
الطريق، فنزل عن فرسه ومشى متلدداً في أزقة الكوفة لا يدري أين يَتَوَجَّه، حتى
انتهى إلى باب مولاة للأشعث بن قيس، فاستسقاها ماء فَسَقَتْهُ، ثم سألته عن حاله،
فأعلمها بقضيته، فَرَقَّت له وآوَتْهُ، وجاء ابنها فعلم بموضعه، فلما أصبح غدا إلى
محمد بن الأشعث فأعلمه.
قتل مسلم بن عقيل
فمضى ابن الأشعث إلى ابن زياد فأعلمه، فقال: انطلق فَأْتِنِي به، وَوَجَّه معه عبد
اللهّ بن العباس السُّلمي في سبعين رجلاً، فاقتحموا على مسلم الدار، فثار عليهم
بسيفه، وشدَّ عليهمِ فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه الثانية، فَشَدَّ عليهم
وأخرجهم أيضاَ، فلما رأوا ذلك عَلَوْا ظهر البيوت فَرَمَوْه بالحجارة، وجعلوا
يلهبون النار بأطراف القصب، ثم يلقونها عليه من فوق البيوت، فلما رأى ذلك قال:
أكلُّ ما أرى من الأحلاب لقتل مسلم بن عقيل. يا نفس أخرجي إلى الموت الذي ليس عنه
محيص، فخرج إليهم مُصْلِتاً سيفه إلى السِّكَّةِ، فقاتلهم، واختلف هو وبكير بن
حمران الأحمريّ ضربتين: فضرب بكير فَمَ مسلم فقطع السيف شفته العليا وشرع في
السفلى، وضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه، ثم ضربه أخرى على حبل العاتق فكاد يصل إلى
جَوْفِه، وهو يزتجز ويقول:
أقسم لا أقْتَلُ إلا حُرّا ... وإنْ رأيت الموت شيئاً مُرَّا
كل امرىء يَوْماً ملاقٍ شَرّاً ... أخَافُ أنْ أكْذَبَ أوْ أغَرَّا
فلما رأوا ذلك منه تقدم إليه محمد بن الأشعث فقال له: فإنك لا تكذب ولا تغر،
وأعطاه الأمان، فأمكنهم من نفسه، وحملوه على بَغْلَةٍ وأتوا به ابنَ زيادٍ، وقد
سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة
يهجو فيها ابن الأشعث:
وتَرَكْتَ عَمّكَ أن تُقَاتِلَ دُونه ... فَشَلاً، وَلَوْلا أنت كان مَنِيعَا
وقتلت وَافِدَ آل بيت مُحَمَد ... وسَلَبْتَ أسْيَافاً له ودرُوعَا
مقتل هانىء بن عروة
فلما
صار مسلم إلى باب القصر نظر إلى قُلة مبرعة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو
الباهلي - وهو أبو قتيبة بن مسلم - أن يسقوه، فَوجة عمرو بن حريث فأتاه بماء في
قدح، فلما رفعه إلى فيه امتلأ القدح دماً، فَصَبَّهُ وملأه له الثانية، فلما رفعه
إلى فيه سقطت ثناياه فيه وامتلأ دماً، فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم
لشربته، ثم ادخل إلى ابن زياد، فلما انقضى كلامه ومسلم يُغْلظ له في الجواب أمر به
فأصعد إلى أعلى القصر، ثم دعا الأحمريَّ الذي ضربه مسلم، فقال: كُنْ أنت الذي تضرب
عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته، فأصعدوه إلى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه،
فأهْوَى رأسه إلى الأرض، ثم أتبعوا رأسه جَسَده، ثم أمر بهانىء بن عروة فأخرج إلى
السوق، فضرب عنقه صبراً، وهو يصيح: يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذ يركب
في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان
في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحداً فشلاً وخذلاناً، فقال الشاعر: وهو
يرثي هانىء بن عروة ومسلم بن عقيل ويذكر لما نالهما:
إذا كُنْتِ لا تدرِين ما الموت فانظري ... إلى هانىء في السوق وابن عَقيل
إلى بَطَلٍ قدهَشّمَ السيف وجهه ... وَآخَر َيَهْوِي في طمارقتيل
أَصابهما أمْرُ الأمير فأصبحا ... أحادِيثَ من يَسْعى بكل سبيل
تَرَىْ جَسَداً قد غَيرَ المَوْتُ لونه ... وَنَضْحَ دم قد سَالَ كل مَسِيل
أيترك أسماء المهايج آمِناً ... وقد طلبته مَذْحجِ بذحُول
فَتىً هو أحيى من فتاة حَيِيَّةٍ ... وأقطع من ذِي شَفْرَتيْنِ صقيل
ثم دعا ابن زياد ببكيربن حمران الذي ضرب عنق مسلم فقال: أقتلته؟ قال: نعم، قال:
فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبر ويسبح اللّه ويهللِ ويستغفر
اللّه، فلما أدنيناه لنضرب عُنقه قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونَا وكذبونا
ثم خذلونا وقتلونا، فقلت: الحمد للّه الذي أقادني منك، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً،
فقال لي: أوَما يكفيك وَفي خَدْشٍ مني وَفَاءٌ بدمك أيها العبد، قال ابن زياد:
أوَفخراً عند الموت. قال: وضربته الثانية فقتلته، ثم أتبعنا رأسه جسده.
وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مَضَيْنَ من ذي الحجة سنة ستين،
وهو اليوم الذي ارتحل فيه الحسين من مكة إلى الكوفة، وقيل: يوم الأربعاء يوم عرفة
لتِسْع مَضَينَ من ذي الحجة سنة ستين.
ثم أمر ابن زياد بجثة مسلم فصلبت، وحمل رأسه إلى دمشق، وهذا أول قتيل صلبت جثته من
بني هاشم، وأول رأس حمل من رؤوسهم إلى دمشق.
الحسين يقاتل جيش ابن زياد
فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد يا ابن
رسول اللّه؟ قال: أريد هذا المصر، فَعَرفَه بقتل مسلم وما كان من خبره، ثم قال:
ارجع فإني لم أدَعْ خلفي خيراً أرجوه لك، فَهَمَّ بالرجوع فقال له إخوةُ مسلمٍ:
واللّه لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل كلنا، فقال الحسين: لا خير في الحياة
بعدكم، ثم سارحتى لقي خيل عبيد اللهّ بن زياد عليها عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فعدل
إلى كربلاء - وهو في مقدار خمسمائة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مائة راجل -
فلما كثرت العساكر على الحسين أيقن أنه لا محيص له، فقال: اللهم احكم بيننا وبين
قوم دَعَوْنَا لينصرونا ثم هم يقتلوننا، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه،
وكان الذي تولى قتله رجل من مَذْحِج واحتزرأسه، وانطلق به إلى ابن زياد وهو يرتجز:
أوقر ركابي فِضّة وذَهَبَا ... أنا قتلتُ الملك المحجَّبَا
قتلتُ خَيْرَ الناس آماً وأباً ... وَخَيْرَهُم إذ يُنْسَبُونَ نسبا
من قتل مع الحسين
فبعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس، فدخل إلى يزيد وعنده أبو بَرْزَه
الأسلمي، فوضع الرأس بين يديه، فأقبل ينكت القضيب في فيه ويقول:
نُفَلِّقُ هَاماًمن رجالٍ أحِبة ... عَلَيْنَا، وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال
لو أبو بَرْزَةْ: ارفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،
يضع فمه علىِ فمه يلثمه، وكان جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربه وتولَى
قتله من أهل الكوفة خاصة، لم يحضرهم شامي، وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم
عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين، منهم ابنه علي بن الحسين الأكبر، وكان يرتجز ويقول:
أنا عليُّ بن الحسين بن علي ... نَحْنُ وبيت اللَه أوْلَى بِالنَّبِيّ
تالله لا يَحْكُمُ فِينَا ابن الدَّعِي
وقتل من ولد أخيه الحسن بن علي: عبدُ الله بن الحسن، والقاسم بن الحسن، وأبو بكر
بن الحسن، ومن إخوته؟ العباس بن علي، وعبد اللهّ بن علي، وجعفر بن علي، وعثمان بن
علي، ومحمد بن علي، ومن ولد جعفر بن أبي طالب: محمد بن عبد اللهّ بن جعفر، وعَوْن
بن عبد اللّه بن جعفر، ومن ولد عقيل بن أبي طالب: عبد اللهّ بن عقيل، وعبد اللّه
بن مسلم بن عقيل، وذلك لعشر خَلَوْنَ من المحرم سنة إحدى وستين.
وقتل الحسين وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: ابن تسع وخمسين سنة، وقيل غير ذلك.
ووجد بالحسين يوم قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، ضَرَبَ زرعة بن شريك
التميمي كفه اليسرى، وطعنه سنان بن أنس النخعي، ثم نزل فاحتز رأسه، وفي ذلك يقول
الشاعر:
وَأيُّ رَزِيّة عدلَتْ حُسَيْنا ... غَدَاةَ تبينُه كَفَّا سِنَانِ.
وقتل معه من الأنصار أربعة، وباقي من قتل معه من أصحابه - على ما قدَمنا من
العدَّة - من سائر العرب، وفي ذلك يقول مسلم بن قتيبة مَوْلَى بني هاشم:
عَيْنُ جودي بعبرة وَعَوِيل ... وَاندبي إن ندبت آل الرَّسُول
واندبي تِسْعَة لِصُلْبِ علي ... قدأصَيبوا، وخَمْسَة لعقيل
وَابْنَ عَمّ النبي عَوْناً أخاهم ... ليس فيما يَنُوب بِالمَخْذُول
وَسَمِيُّ النبي غُودِرَفيهم ... قدعَلَوْهُ بِصَارِم مَصْقًول
واندبي كَهْلَهُمْ فليس إذا ما ... عُدَّ في الخيركهلهمَ كَالكُهُول
لَعَنَ اللّه حيث كَانَ زياداً ... وابنه وَالعَجُوزَ ذات البُعُول
وأمر عمرو بن سعد أصحابه أن يُوطِئوا خيلَهم الحسينَ، فانتدب لذلك إسحاق بن حيوة
الحضرمي في نفر معه، فوطئوه بخيلهم، ودَفَنَ أهل العاضرية - وهم قوم من بني عاضر
من بني أسد - الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم، وكان عدَة مَنْ قتل من أصحاب عمرو بن
سعد في حرب الحسين عليه السلام ثمانية وثمانين رجلاً.
ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
أسماء ولد علي وأُمهاتهم
الحسن، والحسين، ومُحَسِّن، وأُم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى، أمهم فاطمة الزهراء
بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومحمد وأمه خَوْلَة بنت آيا الحَنَفِيَّة،
وقيل: ابنة جعفر بن قيس بن مَسلَمة الحنفي، وعبيد اللّه، وأبو بكر أمهما ليلى بنت
مسعود النهشلي، وعمر، ورقية أمهما تغلبية، ويحيى وأمه أسماء بنت عُمَيْس الخثعمية،
وقد قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن جعفرا الطيار استشهد وخلف عليها عَوْناً
ومحمداً وعبد اللّه، وأن عقب جعفر منها من عبد اللّه بن جعفر، وأن أبا بكر الصديق
تزوجها بعده، وخلف عليها محمداً، ثم تزوجها علي فخلف عليها يحيى، وأنها ابنة
العجوز الحرشية التي كانت أكْرَمَ الناس أصهاراً، وقد تقدم فيما سلف من هذا الكتاب
تسمية أصهار العجوز الحرشية، وأن أولهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجعفر،
والعباس، وعبد اللهّ أُمهم أُم البنين بنت حرام الوحيدية، ورَملةَ وأم الحسن أمهما
أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي، وأًم كلثوم الصغرى، وزينب الصغرى، وجُمَانة،
وميمونة، وخديجة، وفاطمة، وأم الكرام، ونفيسة، وأم سلمة، وأم أبيها.
وقد أتينا على أنساب آل أبي طالب، ومَنْ أعقب منهم ومَصَارعهم، وغير ذلك من
أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان.
ذو العقب من أولاد علي
والعقب
لعلي من خمسة: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، والعباس، وقد استقصى أنسابهم، وأتى
على ذكر مَنْ لا عقب له منهم ومَنْ له العقب، وأنساب غيرهم من قريش من بني هاشم،
وغيرهم: الزبير بن بَكَّار في كتابه في أنساب قريش وأحسن من هذا الكتاب في أنساب
آل أبي طالب الكتابُ الذي سمع من طاهر بن يحيى العلوي الحسيني بمدينة النبي صلى
الله عليه وسلم وقد صنف في أنساب آل أبي طالب كتب كثيرة: منها كتاب العباس من ولد
العباس بن علي، وكتاب أبي علي الجعفري، وكتاب المهلوس العلوي من ولد موسى بن جعفر
بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
رثاء قتيل الطف
وفي قتيل الطف يقول سليمان بن قتة يرثيه على ما ذكره الزبير بن بَكَّار في كتاب
أنساب قريش من أبيات:
فإن قتيلَ الطّف من آل هاشم ... أذ لّ رقاباً من قُرَيْش فَذَلَتِ
فإن يُتْبِعُوه عائذ البيت يُصْبِحُوا ... كَعَادٍ تعمت عن هُدَاهَا فَضَفَتِ
ألَم تَر أنَ الأرض أضحت مريضة ... بقَتْل حُسَيْن والبلاد اقْشَعًرّتِ
فلا يُبْعِدُ اللّه الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تَخَلَّتِ
ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره
ونوادر من بعض أفعاله
خروج يزيد لوفود العرب
ولما أفْضى الأمر إلى يزيد بن معاوية دخل منزله، فلم يظهر للناس ثلاثاً، فاجتمع
ببابه أشرافُ العرب ووفود البلدان وأمراء الأجناد لتعزيته بأبيه وتهنئته بالأمر،
فلما كان في اليوم الرابع خرج أشْعَثَ أغْبَر فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه،
ثم قال: إن معاوية كان حَبْلاً من حبال اللّه مده الله ما شاء أن يمده، ثم قطعه
حين شاء أن يقطعه، وكان دون من كان قبله، وخير من بعده، إن يغفر اللّه له فهو
أهله، وإن يعذبه فبذنبه، وقد وليتُ الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل بطلب
علم، فعلى رِسْلِكم فإن اللّه لو أراد شيئاً كان، أذكروا اللهّ واستغفروه، ثم نزل،
ودخل منزله، ثم أذن للناس.
فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يُعَزُّونه، فقام عاصم بن أبي صيفي، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، أصبحت قد رُزِئْتَ خليفة اللّه
وأعطيت خلافة اللّه، ومنحت هبة اللهّ، قضى معاوية نحبه، فغفر اللّه له ذنبه،
وأعطيت بعده الرياسة، فاحتسب عند اللّه أعظم الرزية، واحمده على أفضل العطية، فقال
يزيد، ادن مني يا ابن أبي صيفي، فدنا حتى جلس قريباً منه.
ثم قام عبد اللّه بن مازن فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء،
وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحَتْ
قريش مفجوعة بفَقْد سائِسِها مسرورة بما أحسن اللّه إليها من الخلافة بك،
والعُقْبى من بعده، ثم أنشأ يقول:
اللَّه أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عَوْقَهَا
عنك فيأبى اللّه إلاسَوْقَهَا ... إليك حتى قلَدوك طَوْقَهَا
فقال له يزيد: أدن مني يا ابن مازن، فدنا حتى جلس قريباً منه. ثم قام عبد الله بن
همام فقال: آجرك اللّه يا أمير المؤمنين على الرزية، وصبرك على المصيبة، وبارك لك
في العطية، ومنحك محبة الرعية، مضى معاوية لسبيله غفر اللّه له، وأورده موارد
السرور، ووفقك بعده لصالح الأمور، فقد رزئت جليلاً، وأعطيت جزيلاً، جئت بعده
للرياسة، ووليت السياسة، أصبت بأعظم المصائب، ومنحت أفضل الرغائب، فاحتسب عند الله
أعظم الرزية، وأشكره على أفضل العطية، وأحدِثْ لخالقك حَمْداً، والله يمتعنا بك
ويحفظك، ويحفظ بك وعليك، وأنشأ يقول:
أصبر يزيد فقد فارقْتَ ذامقة ... واشكرحِبَاءَ الذي بالملك أصفاكا
أصَبحْتَ لا رزء في الأقوام نَعلمه ... كما رُزِئت ولا عقبى كعقباكا
أعطِيتَ طاعة خلق اللّه كلهم ... وأنت ترعاهم واللّه يرعاكا
وفي معاويَةَ الباقي لناخلفٌ ... إمانًعِيتَ ولانسمع بمَنْعَاكَا
فقال يزيد: ادن مني يا ابن همام، فدنا حتى جلس قريباً منه.
ثم
قام الناس يعزونه ويهنئونه بالخلافة، فلما ارتفع عن مجلسه أمر لكل واحد منهم بمال
على مقداره في نفسه، ومحله في قومه، وزاد في عطائهم، ورفع مراتبهم، وقد أتينا في
كتابنا أخبار الزمان على ما كان من خبر يزيد وغيبته في حال وفاة أبيه معاوية،
ومسيره من ناحية حمص حين بلغه ما بأبيه من العلة، ووروده على ثنية العقاب من أرض
دمشق، فأغنى ذلك عن إعادة هذا الخبر في هذا الكتاب.
بين يزيد وعبد الملك
وذكر عدة من الأخباريين وأهل السير أن عبد الملك بن مروان دخل على يزيد، فقال:
اريضة لك إلى جانب أرض لي، ولي فيها سَعَة، فأقْطِعْنِيهَا، فقال: يا عبد الملك،
إنه لا يتعاظمنِي كبير، ولا أجزع من صغير، فأخبرني عنها وإلا سألت غيرك، فقال: ما
بالحجاز أعظم منها قدراً، قال: قد أقطعتك، فشكَرَه عبد الملك ودعا له، فلما ولَى
قال يزيد، إن الناس يزعمون أن يصير خليفة، فإن صدقوا فقد صانعناه، وإن كذبوا فقد
وصلناه.
فسوق يزيد وعماله
وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقُرُود وفهود ومناذمة على الشراب، وجلس ذات يوم
على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
اسْقِنِي شَرْبَةً تُرَوِّي مًشَاشِي ... ثم مِلْ فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عِنْدِي ... ولتسديد مغنمي وجهادي
ثم أمر المغنين فغنوا به.
وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة
والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس
يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ، وكان قرداً خبيثاً وكان يحمله على أتان وحشية
قد ريضت وذُلّلَتْ لذلك بسرج ولجام ويسابق بها الخيل يوم الحَلْبة، فجاء في بعض
الأيام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قَبَاء من
الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشَقَائق، وعلى
الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان، فقال في ذلك بعض شعراء
الشام في ذلك اليوم:
تمسكْ أبا قيس بِفَضْل عِنَانها ... فليس عليها إن سقطت ضَمَانُ
ألا مَنْ رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
وفي يزيد وتملكه وتجبره وانقياد الناس إلى ملكه يقوله الأحْوَص :
ملك تدين له الملوك مُبَارك ... كادت لهيبته الجبالُ تَزُولُ
تُجْبَى له بَلْخ ودِجْلَةُ كلها ... وله الفرات وَمَا سَقَى وَالنيل
وقيل: إن الأحْوَص قال هذا في معاوية بعد وفاته يرثيه:
ماقيل في مقتل الحسين
ولما قتل الحسين بن علي رضي اللّه عنهما بكربلاء وحمل رأسه ابن زياد إلى يزيد خرجت
بنت عقيل بن أبي طالب في نساء من قومها حواسر حائرات، لما قد ورد عليهن من قتل
السادات، وهي تقول:
ماذا تقولون إنْ قال النبيُ لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأمم؟
بِعتْرَتِي وبأهلي بعد مُفْتَقدِي ... نِصْف أسارى ونصْفٌ ضُرِّجُوا بِدَم
ما كان هذا جزائي إذ نَصَحْتُ لكم ... أن تخْلفوني بشَرٍّ في ذوي رَحِمِي
وفي فعل ابن زياد بالحسين يقول أبو الأسود الدؤلىِ من قصيدة:
أقولُ وذاك من جَزَعٍ وَوَجْد ... أزال اللّه مُلْك بني زِيَاد
وأبْعَدَهُمْ، بما غدرُوا وخَانُوا ... كما بَعُدَتْ ثَمُي وقَوْمُ عَادِ
أهل المدينة وعمال يزيد
ولما
شمل الناس جَوْرُ يزيد وعماله، وعمَهم ظلمه، وما ظهر من فسقه: من قتله ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة
فرعون، بل كان فرعون أعْدَلَ منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته، أخرج أهلُ
المدينة عامله عليهم - وهو عثمان ابن محمد بن أبي سفيان - ومروان بن الحكم، وسائر
بني أمية، وذلك عند تنسك ابن الزبير وتألُّهه، وإظهار الدعوة لنفسه، وذلك في سنة
ثلاث وستين، وكان إخراجهم لما ذكرنا من بني أًمية وعامل يزيد عن إذن ابن الزبير،
فاغتنمها مروان منهم، إذ لم يقبضوا عليهم ويحملوهم إلى ابن الزبير، فحثوا السير
نحو الشام، ونمى فعل أهل المدينة ببني أُمية وعامل يزيد إلى يزيد، فسيَّرَ إليهم
بالجيوش من أهل الشام عليهم مسلم بن عقبة المري الذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل
أهلها، وبايعه أهلها على أنهم عبيد ليزيد، وسماها نتنة، وقد سماها رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم، طَيْبة، وقال: مَنْ أخاف المدينة أخاف اللّه فسمى مسلم هذا لعنه
اللّه بمجرم ومسرف، لما كان من فعله، ويقال: إن يزيد حين جرد هذا الجيش وعرض عليه
أنشأ يقول:
أبْلِغْ أبا بكر إذا الأمْرُ انبرى ... وأشْرَف القومُ على وادي القرى
أجمع السكران من قوم تَرَى
يريد بهذا القول عبد اللهّ بن الزبير، وكان عبد اللّه يكنى بأبى بكر، وكان يُسَمّى
يزيد السكران الخمير، وكتب إلى ابن الزبير:
أدعو إلهك في السماء فأنني ... أدعو عليك رجال عكَّ وأشْعر
كيف النجاة أبا خُبَيْبٍ منهُم ... فاحْتَلْ لنفسك قبل أتْي العسكر
وقعة الحرة
ولما انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرَّة وعليهم مُسرف خرج إلى
حربه أهلُها عليهم عبد اللّه بن مطيع العدويَ وعبد اللهّ بن حنظلة الغسيل
الأنصاري، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش
والأنصار وغيرهم من سائر الناس؟ فممن قتل من آل أبي طالب اثنان: عبد اللهّ بن جعفر
بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم من غيرآل أبي طالب:
الفَضْلُ بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل
بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عُتْبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وبضع
وتسعون رجلاً من سائر قريش، ومثلهم من الأنصار، وأربعة آلاف من سائر الناس ممن
أدركه الإحصاء دون من لم يعرف.
وبايع الناس على أنهم عبيدٌ ليزيد، ومَنْ أبى ذلك أمره مُسْرف على السيف، غير علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد، وعلي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب،
وفي وقعة الحرة يقول محمد بن أسلم:
فإن تَقْتُلونا يَوْمَ حَرَّة واقم ... فنحنُ على الإسلام أوَّل من قتل
ونحن تركناكُمْ بِبدرٍ أذلة ... وأبْنَا بأسيافٍ لنا منكم تفل
ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى
مُسْرِف وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام
له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سَلْنِي حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قُدِّم إلى
السيف إلا شَفَّعه فيه، ثم انصرف عنه، فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي
قلت. قال: قلت: اللهم ربَّ السموات السبع وما أقللن، والأرضين السبع وما أقللن، رب
العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك في نَحْره، أسألك
أن تؤتيني خيره، وتكفيني شره، وقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغلام وسَلَفه، فلما
أتى به إليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملىء قلبي منه رعباً.
وأما علي بن عبد اللهّ بن العباس فإن أخواله من كندة مَنَعُوه منه، وأًناس من
ربيعة كانوا في جيشه، فقال علي في ذلك:
أبي العباسُ قرم بني لؤي ... وأخْوَالي الملوكُ بَنُو وليعه
هُمُ منعوا ذِمَاري يوم جاءت ... كتائبُ مُسْرِفٍ وبني اللّكِيعة
أرادَنِيَ التي لا عزَّ فيها ... فحالت دونه أيدي رَبيعة
ولما
نزل بأهل المدينة ما وصفنا من القتل والنهب والرق والسبي وغير ذلك مما عنه أعرضنا
من مُسْرفٍ خرج عنها يريد مكة في جيوشه من أهل الشام، ليوقع بابن الزبير وأهل مكة،
بأمر يزيد، وذلك في سنة أربع وستين.
فلما انتهى إلى الموضع المعروف بقديد مات مُسْرِفٌ لعنه اللّه! واستخلف على الجيش
الحصينُ بن نمير، فسار الحصين حتى أتى مكة وأحاط بها، وعاذ ابن الزبير بالبيت
الحرام، وكان قد سمى نفسه العائذَ بالبيتِ، وشُهِر بهذا حتى ذكرته الشعراء في
أشعارها، من ذلك ما قدمنا من قول سليمان بن قتة.
فإن تُتْبِعُوه عائِذَ البيت تُصبِحُوا ... كَعَادٍ تَعَمَّتْ عن هُدَاهَا
فَضَلَّتِ
رمي الكعبة بالمجانيق
ونصب الحصينُ فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرادات على مكة والمسجد من الجبال
والفِجَاج، وابنُ الزبير في المسجد، ومعه المختار بن أبي عُبَيد الثقفي. داخلاً في
جملته، منضافاً إلى بيعته، منقاد اً إلى إمامته، على، شرائط شَرَطها عليه لا يخالف
له رأياً، ولا يعصي له أمراً، فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت، ورمي
مع الأحجار بالناروالنفط ومشاقات الكتان وغير ذلك من المحرقات، وانهدمت الكعبة،
واحترقت البنية، ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المجانيق أحَدَ عشر رجلاً، وقيل :
أكثر من ذلك وذلك يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة،
قبل وفاة يزيد بأحَدَ عَشَرَ يوماً، واشتد الأمر على أهل مكة وابن الزبير، واتصل
الأذى بالأحجار والنار والسيف، ففي ذلك يقول أبو وَجْزَة المدني:
آبنُ نُمَيْرٍ بِئْسَ ما تَوَلّى ... قَدْأحْرَقَ المَقَام وَالْمُصلَى
وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومَثَالبَ كثيرة: من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، -
ولَعْن الوصِيَ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق والفجور، وغير ذلك مما
قد ورد فيه الوعيد باليأس من غفرانه، كورده فيمن جحد توحيده وخالف رسله، وقد أتينا
على الغرر من ذلك فيما تقدم وسلف من كتبنا، والله ولي التوفيق.
ذكر أيام معاوية بن يزيد بن معاوية
ومروان بن الحكم والمختار بن أبي عبيْد وعبد اللّه بن الزبير ولمع من أخبارهم
وسيرهم وبعض ما كان في أيامهم
موجز أخبار معاوية بن يزيد
قال المسعودي: وَمَلَكَ معاوية بن يزيد بن معاوية بعد أبيه، فكانت أيامه أربعين
يوماً إلى أن مات، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، وكان يكنى بأبي يزيد، وكني حين ولي
الخلافة بأبي ليلى، وكانت هنه الكنية للمستضعف من العرب، وفيه يقول الشاعر:
إني أرى فِتْنَةً هَاجَتْ مَزَاجِلُها ... والملكُ بعد أبي لَيْلَى لمن غلبَا
ولما حضرته الوفاة اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: اعْهَدْ إلى من رأيت من أهل
بيتك، فقال: واللّه ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرَهَا. وتتعجلون أنتم
حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إني بريء منها متخل عنها، اللهم إني لا أجد نفراً
كأهل الشورى فأجعلها إليهم ينصبون لها من يرونه أهلاً لها، فقالت له أمه: ليت إني
خرقة حيضة ولم أسمع منك هذا الكلام، فقال لها: وليتني يا أماه خرقة حيض ولم أتقلد
هذا الأمر، أتفوز بنو أمية بحلاوتها وأبوءُ بوزرها وَمَنْعِها أهْلَها؟ كلا! إني
لبريء منها وقد تنوزع في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه سقي شربة ومنهم من رأى أنه
مات حَتْفَ أنفه، ومنهم من رأى أنه طعن، وقبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفن
بدمشق، وصَلّى عليه الوليدُ بن عُتْبَة بن أبي سفبان، ليكون الأمر له من بعده،
فلما كبر الثانية طعن فسقط ميتاً قبل تمام الصلاة، فقدم عثمان بن عتبة بن أبي
سفيان، فقالوا: نبايعك؟ قال: على أن لا أحارب ولا أباشر قتالاً، فأبَوْا ذلك عليه،
فصار إلى مكة، ودخل في جملة ابن الزبير.
وزال الأمر عن آل حَرْب فلم يكن فيهم من يرومها، ولا يتشوف نحوها ولايرتجى أحد
منهم لها. وبايع أهل العراق عبد الله بن الزبير، فاستعمل على الكوفة عبد اللّه ابن
مطيع العدوي.
المختار في الكوفة
ففال
المختار بن أبي عبيد الثقفي لابن الزبير: إني لأعرف قوماً لو أن لهم رجلاً له
رِفْق وعلم بما يأتي لاستخرج لك منهم جنداً تغلب بهم أهل الشام، فقال: من هم. قال:
شيعة بني هاشم بالكوفة، قال: كن أنت ذلك الرجل، فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية
منها، وجعل يُظْهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزَعَ لهم،
ويحثُّ على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت الشيعة إليه، وانضافوا إلى
جملته، وسار إلىِ قصرالإمارة فأخرج ابن مطيع منه، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه
داراَ، واتخذ بستانَاَ انفق عليه أموالاً عظيمة أخرجها من بيت المال، وفرق الأموال
على الناس بها تفرقَةً واسعة، وكتب إلى ابن الزبير يعلمه أنه إنما أخرج بن مطيع عن
الكوفة لعجزه عن القيام بها، ويسوم ابن الزبيرأن يحسب له بما أنفقه من بيت المال،
فأبى ابن الزبير ذلك عليه، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته، وكتب المختار كتاباً
إلى علي بن الحسين السجاد يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته،
وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى علي أن يقبل ذلك منه أو يجيبه عن كتابه، وسبه على
رؤُوس الملأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على
الناس بإظهار الميل إلى آل أبي طالب، فلما يئس المختار من علي بن الحسين كتب إلى
عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى
شيء من ذلك، فإن الذي يحمله على ذلك اجتذابه لقلوب الناس بهم، وتقربه إليهم
بمحبتهم، وباطِنُهُ مخالف لظاهره في الميل إليهم، والتَّوَلِّي لهم، والبراءة من
أعدائهم، بل هو من أعدائهم لا من أوليائهم، والواجب عليه أن يشهر أمره، ويظهر
كذبه، على حسب ما فعل هو وأظهر ما من القول في مسجد رسول اللهّ صلى الله عليه
وسلم، فأتى ابن الحنفية ابن عباس فأخبره بذلك، فقال له ابن عباس: لا تفعل، فإنك لا
تدري ما أنت عليه من ابن الزبير، فأطاع ابن عباس وسكت عن عيب المختار.
وأشتد أمر المختار بالكوفة، وكثر رجاله، ومال الناسُ إليه، وأقبل يدعو الناس على
طبقاتهم ومقاديرهم في أنفسهم وعقولهم، فمنهم من يخاطبه بإمامة محمد ابن الحنفية،
ومنهم من يدفعه عن هذا فيخاطبه بأن المَلَكَ يأتيه بالوحي ويخبره بالغيب، وتتبع
قتلة الحسين فقتلهم: قتل عمرو بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو الذي تولى حرب
الحسين يوم كربلاء وقتله ومن معه، فزاد ميل أهل الكوفة إليه، ومحبتهم له.
حال ابن الزبير
وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة، وقال: إنما بطني
شبر، فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا، وأنا العائذ بالبيت، والمستجير بالرب، وكثرت
أذيَّتُه لبنى هاشم مع شُحِّه بالدنيا على سائر الناس، ففي ذلك يقول أبو وجزة مولى
الزبير:
إنَّ المواليَ أمْسَتْ وهي عاتبة ... على الخليفة تشكو الجوع والحربَا
ماذا علينا وماذا كان يزؤنا ... أي الملوك على ما حولنا غلبا؟
وفيه لِقول بعد مفارقته إياه:
ما زال في سورَةِ الأعراف يقرؤها ... حتى فؤاديَ مثل الخزِّ في اللين
لو كان بطنك شِبراً قد شَبِعْتَ، وقد ... أفضلت فَضْلاً كثيراً للمساكين
إن آمرأً كنتُ مَوْلاَهُ فضيعني ... يرجو الفلاح لعمري حَقُّ مغبُونِ
وفيه يقول أيضاً:
فيا راكباً إمَّا عرضْتَ فبلغَن ... كبيربني العَوَّام إن قيل: مَنْ تَعْنِي
تخبر منْ لاقيت أنك عائذ ... وتكثر قْتلاً بين زمْزَم والرُّكن
وفيه يقول أيضاً الضحاك بن فيروز الديلمي:
تخبرنا أنْ سَوْف تكفيك قبضةٌ ... وبطنُك شِبْرأوأقل من الشبر
وأنت إذا ما نلت شيئاً قَضَمْتَهُ ... كماقضَمَتْ نارُالغضى حَطَبَ السدر
فلو كنت تجزي إذ تبيت بنعمة ... قريباً لردَّتْكَ العطوف على عمرو
ابن الزبير وأخوه عمرو
وذلك
أن يزيد بن معاوية كان قد ولى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة فسرَّحَ منها
جيشاً إلى مكة لحرب ابنَ الزبير عليه عمرو بن الزبير أخوه، وكان عمرو منحرفاً عن
عبد اللّه، فلما تصافّ القوم انهزم رجال عمرو وأسلموه، فظفر به أخوه عبد اللّه،
فأقامه للناس بباب المسجد الحرام مجرداً، ولم يزل يضربه بالسياط حتى مات.
ابن الزبير والحسن بن محمد بن الحنفية
وحبس عبد اللّه بن الزبير الحسن بن محمد بن الحنفية في الحبس المعروف بحبس عارم،
وهو حبس مُوحِشَ مُظْلم، وأراد قتله، فعمل الحيلة حتى تخلص من السجن، وتعسَّفَ
الطريق على الجبال حتى أتى مِنىً وبها أبوه محمد بن الحنفية ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منىً ... من الناس يعلم أنه غيْرُظالم
سميّ نبيّ اللّه وابن وصيِّه ... وفكَّاكُ أغلالٍ وقاضي مغارم
وقد كان ابن الزبيرعمد إلى من بمكة من بني هاشم فحصرهم في الشِّعْبِ، وجمع لهم
خَطَباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد، وفىِ القوم محمد
بن الحنفية.
ابن الزبير وال بيت الرسول
وحدث النَّوْفَلِي علي بن سليمان، عن فضيل بن عبد الوهاب الكوفي، عن أبي عمران
الرازي، عن فطر بن خليفة، عن الديال بن حرملة، قال: كنت فيمن استنفره أبو عبد
اللّه الجدلي من أهل الكوفة من قبل المختار، فنقرنا معه في أربعة آلاف فارس، فقال
أبو عبد اللّه: هذه خيل عظيمة، وأخاف أن يبلغ ابن الزبير الخبر فيعجل على بني
هاشم،فيأتي عليهم، فانتدبوا معي، فانتدبنا معه في ثمانمائة فارس جريدة خيل، فما
شعر ابن الزبير إلا والرايات تخفق على رأسه، قال: فجئنا إلى بني هاشم، فإذا هم في
الشِّعْب، فاستخرجناهم، فقال لنا ابن الحنفية: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فلما
رَأي ابن الزبير تنمر ناله وإقدامنا عليه لاذ بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ
اللّه.
وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار، عن ابن عائشة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، قال:
كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحَصْره إياهم في الشِّعْبِ
وجمعه لهم الحطب لتحريقهم، ويقول: إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذ هم
أبوا البيعة فيما سلف، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا، وقد أتينا على ذكره في كتابنا
في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان.
الكيسانية وقولهم في ابن الحنفية
وخطب ابن الزبير فقال: قد بايعني الناس، ولم يتخلف عن بيعتي إلا هذا الغلام محمد
ابن الحنفية، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس، ثم أضرم داره عليه ناراً، فدخل
ابن العباس على ابن الحنفية فقال: يا ابن عم، إني لا آمنه عليك فبايعه، فقال:
سيمنعه عني حجاب قوي، فجعل ابن عباس ينظر إلى الشمس، ويفكر في كلام ابن الحنفية،
وقد كادت الشمس أن تغرب، فوافاهم أبو عبد اللّه الجدلي فيما ذكرنا من الخيل،
وقالوا لابن الحنفية: ائذن لنا فيه، فأبى، وخرج إلى أيْلَةَ فأقام بها سنين، ثم
قتل ابن الزبير، كذلك حدث عمر بن شبة النميري، عن عطاء بن مسلم، فيما أخبرنا به
أبو الحسن المهراني المصري بمصر، وأبو إسحاق الجوهري بالبصرة، وغيرهما، وهؤلاء
الذين وردوا إلى ابن الحنفية هم لشيعة الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن
الحنفية، وقد تنازعت الكيسانية بعد قولهم بإمامة محمد بن الحنفية: فمنهم من قطع
بموته، ومنهم من زعم أنه لم يمت وأنه حي في جبال رَضْوَى، وقد تنازع كل فريق من
هؤلاء أيضاً، وإنما سموا بالكيسانية لإِضافتهم إلى المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي،
وكان اسمه كيسان، ويكنى أبا عمرة، وأن علي بن أبي طالب سماه بذلك، ومنهم من رأى أن
كيسان أبا عمرة هو غير المختار،. وقد أتينا على أقاويل فرق الكيسانية وغيرهم من
فرق الشيعة وطوائف الأمة في كتابنا في المقالات في أصول الديانات وذكرنا قول كل
فريق منهم، وما أيدَ به مذهبه، وقول من ذكر منهم أن ابن الحنفية دخل إلى شِعْب
رَضْوي في جماعة من أصحابه فلم يُعْرَفْ لهم خبر إلى هذه الغاية.
وقد
ذكر جماعة من الأخباريين أن كُثَيِّراً الشاعر كَان كَيْسانياً، ويقول: إن محمد بن
الحنفية هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت شراً وجوراً.
وحكى الزبير بن بكار في كتابه أنساب قريش في أنساب آل أبي طالب وأخبارهم منه قال:
أخبرني عمي، قال: قال كثير أبياتاً له يذكر ابن الحنفية رضي اللّه عنه، وأولها:
هو المهديُّ خبرناه كَعْب ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
أقر اللهُ عينِي إذ دعاني ... أمين اللّه يلطف في السؤال
وأثنى في هواي عليَ خيراً ... وساءل عن بَنيَّ وكيف حالي
وفيه يقول أيضاً كثير:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
عليُّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فبسط سبط إيمان وبِر ... وسبط غَيّبَته كَرْبلاء
وسبط لاتراه العين حتى ... يقود الخيلَ يتبعها اللواءُ
تغيبَ لايُرَى فيهم زماناً ... برَضْوَي عنده عسل وماءُ
وفيه يقول السيد الحميري، وكان كَيْسانياً:
ألا قل للوصيّ فَدَتْكَ نفسي ... أطَلْتَ بذلك الجبل المقامَا
أضَرَّ بمعشر وَالَوْك منا ... وَسَمَّوْك الخليفة والإِمامَا
وعَادَوْا فيك أهل الأرض طُراً ... مغيبك عنهم سبعين عامَا
وماذاق ابْنُ خَوْلة طعم موت ... ولا وارت له أرضٌ عظاما
لقد أمسى بمردف شِعْب رَضْوَى ... تراجعه الملائكةُ الكلاما
وفيه يقول السيد أيضاً:
يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ... وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المَدَى؟ ... يا ابن الرسول وأنت حيٌّ تُرْزَقُ
وللسيد فيه أشعار كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا.
وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي في كتابه الأخبار مما سمعناه من أبي العباس بن
عمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد النوفلي، قال: حدثنا إسماعيل الساحر، وكان راوية
السيد الحميري، قال: ما مات السيد إلا على قوله بالكيسانية، وأنكر قوله في القصيدة
التي أولها:
تَجَعفَرْتُ باسم الله، واللَّه أكبرُ
قال أبو الحسن علي. بن محمد النوفلي عقيب هذا الخبر: وليسٍ يشبه هذا شعر السيد؟
لأن السيد مع فصاحته وجزالة قوله لا يقول تجَعْفَرْت باسم الله.
وذكر عمر بن شبه النميري، عن مساور بن السائب، أن ابن الزبير خطب أربعين يوماً لا
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا يمنعني أن أصلي عليه إلا أن تَشَمَخَ
رجالٌ بآنافها.
بين ابن عباس وابن الزبير
وذكر سعيد بن جبير أن عبد اللّه بن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير:
أنت الذي تؤنبني وتبخِّلُنِي. قال ابن عباس: نعم، سمعت رسول اللهّ صلى الله عليه
وسلم، يقول: ليس المسلم الذي يشبع ويجوع جاره فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم
أهْلَ هذا البيت منذ أربعين سنة، وجرى بينهم خطب طويل، فخرج ابن عباس من مكة خوفاً
على نفسه، فنزل الطائف، فتوفي هنالك، ذكر هذا الخبر عمر بن شَبَّة النميري، عن
سويد بن سعيد، يرفعه إلى سعيد بن جبير فيما حدثنا به المهراني بمصر، والكلابي
بالبصرة، وغيرهما، عن عمر بن شَبَّة.
بين ابن الحنفية وابن الزبير
وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار عن الوليد بن هشام المخزومي، قال: خطب ابن
الزبير فنال من علي، فبلغ. ذلك ابنه محمد بن الحنفية فجاء حتى وضع له كرسي قدامه،
فعلاه، وقال: يا معشر قريش، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور؟ إن عليّاً كان
سَهْماً صادقاً
أحَد
مرامي اللّه على أعدائه يقتلهم لكفرهم ويُهَوِّعُهم مآكلهم، فثقل عليهم، فرموه
بقرفة الأباطيل، وإنا معشر له على ثبج من أمره بنو النخبة من الأنصار، فإن تكن لنا
في الأيام دولة ننثر عظامهم ونحسر عن أجسادهم، والأبدان يومئذ بالية، وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم
يتكلمون، فما بال ابن الحنفية. فقال محمد: يا ابن أم رومان، ومالي لا أتكلم. أليست
فاطمة بنت محمد حليلة أبي وأم إخوتي. أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي. أو ليست
فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي. أما واللّه لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني
أسد عَظْماً إلا هشمته، وإن نالتني فيه المصائب صبرت.
ابن الزبير ينتقص ابن العباس
حدثنا ابن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني ابن عائشة والعتبي
جميعاً عن أبويهما، وألفاظُهُما متقاربة، قالا: خطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام
يفتون في المتعة، وينتقصون حَوَارِيّ الرسول وأم المؤمنين عائشة، ما بالهم أعمى
اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يُعَرَض بابن عباس، فقال ابن عباس: يا غلام،
اصمدني صَمْدَه، فقال: يا ابن الزبير:
قد أنصف القارة مَنْ راماها ... إنا إذا ما فِئَة نَلقَاها
نَرُدُّ أولاها على أخراها
أما قولك في المتعة فسل أمك تخبرك، فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك
وأبيك، يريد مُتْعَةَ الحج، وأما قولك أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا
ضُرب عليها الحجاب وأما قولك حَوَاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقد لقيتُ
أباك فى الزَّحْف وأنا مع إمام هُدى، فأن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن
على ما تقول فقد كفر بهربه عنا، فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها،
فقالت: صدق.
قال المسعودي: وفي هذا الخبر زيادات من ذكر البردة والعوسجة،وقد أتينا على الخبر
بتمامه وما قاله الناس في مُتْعَة النساء ومتعة الحج، وتنازعهم في ذلك وما ذكر عن
النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه حرمها عام خيبرولحوم الحمر الأهلية وما ذكر في
حديث الربيع بن سَبْرَةَ عن أبيه وقول عمر: كانت في عهد رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، ولو تقدمت بالنهي لفعلت بفاعل ذلك كذا وكذا. وما روي عن جابر قال: تمتعنا في
عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر، وغير ذلك
من أقاويلهم، في كتابنا المترجم بكتاب الاستبصار وفي كتاب الصفوة وفي كتابنا
المترجم بالكتاب الواجب في الفروض اللوازم وما قال الناس في غسل الرجلين، ومسحهما،
والمسح على الخفين، وطلاق السنة، وطلاق العدة، وطلاق التعدي، وغير ذلك.
وقد حدث النوفلي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثني منصور بن شيبة، عن صفية
بنت أبي عبيد، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما قدمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، في حجة الوداع أمر مَنْ لم يكن معه هدْي أن يحلً، قال: فأحللت، فلبست ثيابي،
وتطيبت، وجئت حتى جلست إلى جنب الزبير، فقال: قومي عني، فقلت: ما تخاف. قال: أخاف
أن أثِبَ عليك. فهذا الذي أراد ابن عباس.
وقد ذكر هذا الحديث عن أبي عاصم غَيْرُ النوفلي، وقد تنازع الناس في ذلك: فمنهم من
رأى أنه عَنَى متعة النساء، ومنهم من رأى أنه أراد متعة الحج، لأن الزبير تزوج
أسماء بكراً في الِإسلام، زوجهُ أبو بكر معلناً، فكيف تكون متعة النساء.
بين ابن الزبير والحصين بن نمير
ولما
هلك يزيد بن معاوية ووليها معاوية بن يزيد نمي ذلك إلى الحصين بن نمير ومن معه في
الجيش من أهل الشام، وهو على حرب ابن الزبير، فهادنوا ابن الزبير، ونزلوا مكة،
فلقي الحصين عبد اللهّ في المسجد، فقال له: هل لك يا ابن الزبير أن أحملك إلى
الشام وأبايع لك بالخلافة. فقال عبد اللّه رافعاً صوته: أبعد قتل أهل الحرة، لا
واللّه حتى أقتل بكل رجل خمسة من أهل الشام، فقال الحصين: مَنْ زعم يا ابن الزبير
أنك فى داهية فهو أحمق، أكلمك سراً وتكلمني علانية، أدعوك إلى أن أستخلفك فترفع
الحرب وتزعم أنك تقاتلنا، فستعلم أينا المقتول، وانصرف أهل الشام إلى بلادهم مع
الحصين، فلما صاروا إلى المدينة جعل أهلها يهتفون بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم
بالحَرَّة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهيجَهَا صعد روح بن زنباع الجذامي
على منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الجيش، فقال: يا أهل
المدينة، ما هذا الإيعاد الذي توعدوننا؟ إنا واللّه ما دعوناكم إلى كلب لمبايعة
رجل منهم، ولا إلى رجل من بلقَين،، ولا إلى رجل من لخم أو جُذَام، ولا غيرهم من
العرب والموالي، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش، يعني بني أمية، ثم إلى طاعة
يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن
والطاعون، وفضلات الموت. والمنون، فما شئتم، ومضى القوم إلى الشام.
ابن الزبير يبني الكعبة على قواعد إبراهيم
وحمل إلى ابن الزبير من صنعاء الفُسَيْفِسَاء التي كان بناها أبرهة الحبشي في
كنيسته التي اتخذها هنالك، ومعها ثلاث أساطين من رخام فيها وَشْيٌ منقوش قد حُشي
السندروس وأنواع الألوان من الأصباغ، فمن رآه ظنه ذهباً، وشرع ابن الزبير في بناء
الكعبة، وشهد عنده سبعون شيخاً من قريش أن قريشاً حين بنت الكعبة جزت نفقتهم
فنقصوا من سَعَة البيت سبعة أذرع من أساس إبراهيم الخليل الذي أسسه هو وإسماعيل
عليهما السلام، فبناه ابن الزبير وزاد فيه لأذرع المذكورة، وجعل فيه الفسيفساء
والأساطين، وجعل له بابين: باباً يدخل منه، وباباً يخرج منه، فلم يزل البيت على
ذلك حتى قتل الحجاج عبد اللّه بن الزبير، وكتب إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بما
زاده ابن الزبير في البيت، فأمره عبد الملك بهدمه، ورَدَه إلى ما كان عليه آنفاً
من بناء قريش وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل له باباً واحداً، ففعل
الحجاج ذلك.
واستوثق الأمر لابن الزبير، وأخذت له البيعة بالشام، وخطب له على سائر منابر
الإسلام، إلا منبر طبرية من بلاد الأردن، فإن حسان بن مالك ابن بجدل أبى أن يبايع
لابن الزبير، وأرادها لخالد بن يزيد بن معاوية، وكان القيم بأمر بيعة ابن الزبير
بمكة عبد اللّه بن مطيع العدوي، ففي ذلك يقول قضاعة الأسدي، وكان بايع لابن الزبير
ثم نكث:
دعا ابنُ مطيع للبياع فجئته ... إلى بَيْعة قلبي لهاغيرُالف
فناوَلني خَشْنَاء لمالمستها ... بكفي ليست من أكُفِّ الخلائف
عبيد اللّه بن زياد والخلافة
وهلك يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، وعبيدُ الله بن زياد على البصرة أمير، فخطب
الناس وأعلمهم بموتهما، وأن الأمر شورى لم ينصب له أحد، وقال: لا أرْضَ اليوم أوسع
من أرضكم، ولا عددَ أكثر من عددكم، ولا مال أكثر من مالكم، في بيت مالكم مائة ألف
ألف درهم، ومقاتلتكم ستون ألفاً، وعطاؤهم وعطاء العيال ستون ألف ألف درهم، فانظروا
رجلاً ترضونه يقوم بأمركم، ويجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويوزع بينكم
أموالكم، فقام إليه أشراف أهلها - ومنهم الأحنف بن قيس التميمي، وقيس بن الهيثم
السلمي، ومسمع بن مالك العبدي - فقالوا: ما نعلم ذلك الرجل غيرك أيها الأمير، وأنت
أحق مَنْ قام على أمرنا حتى يجتمع الناس على خليفة، فقال: أما لو استعملتم غيري
لسمعت وأطعت.
الكوفة لأبى الانقياد له
وقد
كان على الكوفة عمرو بن حريث الخزاعي عاملاً لعبيد اللهّ بن زياد، فكتب إليه عبيد
الله يحلمه بما دخل فيه أهل البصرة، ويأمره أن يأمر أهل الكوفة بما دخل فيه أهل
البصرة، فصعد عمرو بن حريث على المنبر، فخطب الناس وذكر لهم ما دخل فيه أهل البصرة
فقام يزيد بن رويم الشيباني فقال: الحمد للهّ الذي أطلق أيماننا، لا حاجة لنا في
بني أُمية، ولا في إمارة ابن مرجانة، وهي أم عبيدَ اللّه، وأم أبيه زيادٍ سميةُ
على ما ذكرنا آنفاً، إنما البيعة لأهل الحجر - يعني أهل الحجاز - فخلع أهل الكوفة
ولاية بني أمية وإمارة ابن زياد وأرادوا أن ينصبوا لهم أميراً إلى أن ينظروا في
أمرهم، فقال جماعة: عمرو بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها، فلما هموا بتأميره أقبل
نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتى دخَلْنَ المسجد
الجامع صارخات باكيات مُعْوِلات يندبن الحسين ويقلن: أما رضي عمرو بن سعد بقتل
الحسين حتى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمرو،
وكان المبرزات في ذلك نساءً همدان، وقد كان علي عليه السلام مائلاً إلى همدان
مؤثراً لهم، وهو القائل:
فلو كنت بَوّاباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقال:
عبييْتُ همدان وعَبَّوْا حميرا
ولم يكن بصفين منهم أحد مع معاوية وأهل الشام إلا ناس كانوا بغُوطَةِ دمشق، بقرية
تعرف بعين ثرما، فيها منهم قوم إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
ولما اتصل خبر أهل الكوفة بابن الزبير أنفذ إليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي على ما
قدمنا آنفاً، فتولى أمرهم حتى وجه المختار في أثره.
تدبير مروان بن الحكم
ونظر مروان بن الحكم في إطباق الناس على مبايعة ابن الزبير، وإجابتهم له، فأراد أن
يلحق به وينضاف إلى جملته، فمنعه من ذلك عبيد اللّه بن زياد عند لحاقه بالشام،
وقال له: إنك شيخ بني عبد مناف فلا تعجل، فصار مروان إلى الجابية، من أرض الجولان،
بين دمشق والأردن، واستمال الضحاك بن قيس الفهري الناس، ورأسهم، وانحاز عن مروان،
وأراد دمشق، فسبقه إليها الأشدق، عمرو بن سعيد بن العاص فدخلها وصار الضحاك إلى
حوران والبثنة وأظهر الدعوة لابن الزبير، والتقى الأشدق ومروان، فقال الأشدق
لمروان: هل لك فيما أقوله لك فهو خير لي ولك. قال مروان: وما هو. قال: أدعو الناس
إليك وآخذك لك على أن تكون لي من بعدك، فقال مروان: لا، بل بعد خالد بن يزيد بن
معاوية، فرضي الأشدق بذلك، ودعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا، ومضى الأشدق إلى
حسان بن مالك بالأردن، - فأرغبه في بيعة مروان، فجنح لها.
البيعة لمروان
وبويع مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمش بن عبد مناف، ويكنى أبا عبد
الملك، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان، وذلك بالأردن، وكان أول من بايعه أهلها،
وتمت بيعته.
وكان مروان أول مَنْ أخذها بالسيف كرهاً على ما قيل بغير رضا من عصبة من الناس، بل
كلٌّ خَوَّفه إلا عدداً يسيراً حملوه على وثوبه عليها، وقد كان غيره ممن سلف أخذها
بعدد وأعوان إلا مروان، فإنه أخذها على ماوصفنا! وبايع مروان بعده لخالد بن يزيد،
ولعمرو بن سعيد الأشدق بعد خالد، وكان مروان يلقب بخيط باطل، وفي ذلك يقول عبد
الرحمن بن الحكم أخوه:
لحا اللَّه قَوْماً أمِّرُوا خيط بَاطِل ... على النَّاس يعطي مَنْ يَشَاء ُويمنع
واشترط حسان بن مالك - وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام - على مروان ما كان لهم من
الشروط على معاوية، وابنه يزيد، وابنه معاوية بن يزيد: منها أن يفرض لهم لالذي رجل
الذين الذين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي،
وَصَدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة، فرضي مروان بذلك،
فإنقاد إليه، وقال له مالك بن هبيرة اليشكري: إنه ليست لك في أعناقنا بيعة، وليس
نقاتل إلا عن عَرَض دنيا؟ فإن تكن لنا على ما كان لنا معاوية ويزيد نصرناك، وإن
تكن الأخرى فواللهّ ما قريش عندنا إلا سواء، فأجابه مروان إلى ما سأل!.
لقاء مروان والضحاك بن قيس
وسار
مروان نحو الضحاك بن قيس الفهري، وقد انحازت قيس وسائر مضر وغيرهم من نزار إلى
الضحاك، ومعه أناس من قُضَاعَة عليهم وائل بن عمرو العدوي، وكانت معه راية عَقَدَهَا
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأبيه، وأظهر الضحاك ومَنْ معه خلافة ابن الزبير،
والتقى مروان والضحاك ومن معهما بمرج راهط على أميال من دمشق، فكانتَ بينهم الحروب
سجالاً وكَثَرت اليمانية عليهم وبواديها مع مروان فقتل الضحاك بن قيس رئيس جيش ابن
الزبير، قتله رجل من تَيْم اللات، وقتل من معه من نزار، وأكثرهم من قيس، مَقْتَلة
عظيمة لم ير مثلها قط، وفي ذلك يقول مروان بن الحكم:
لما رأيت الناس صَارُوا حَرْبا ... وَالْمَال لا يُؤْخَذ إلا غَصْبَا
دَعَوْت غَساناً لهم وكلبا ... والسكسكيِّينَ رِجَالاً غُلْبَا
وَالقَيْن تمشي في الحديد نكبا ... وَالأعْوَجِيَّاتُ يَثِبْنَ وَثْبَا
يحملْنَ سَرْوَات ودينا صُلْبَا
وفي ذلك يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم:
أرَى أحاديث أهْل المَرْج قد بلغت ... أهْل الفرات وَأهْل الفيض وَالنيل
وكان زفر بن الحارث العامري، ثم الكلابي، مع الضحاك، فلما أمعن السيفُ في قومه
وَلى ومعه رجلان من بني سليم، فقصر فرساهما وغشيتهما اليمانية من خيل مَرْوَان،
فقالا له: انج بنفسك فإنا مقتولان، فَوَلّى راكضاً، وَلُحِقَ الرجلان، فقتلا، وفي
هذا اليوم يقول زفر بن الحارث الكلابي من أبيات كثيرة:
لَعَمْرِي لقد أبقت وَقِيعَة رَاهِط ... لِمَرْوَانَ صَدْعاً بَيِّناً
مُتَنَاكِيَا
فقد ينبت المَرْعَى على دِمَنِ الثّرَى ... وتبقى خَزَازَات النفوس كما هِيَا
أرِينِي سلاحي لا أبَا لَكَ إنني ... أرَى الحرب لا تزداد إلا تَمَادِيَا
أتذهب كلب لِم تَنَلْهَا رماحنا ... وتترك قَتْلَى رَاهِط هي مَاهِيَا
فلم ترمِنَي نبْوَة قبل هذه ... فِرَارِي، وتركي صَاحِبَي وَرَائيا
عَشِيًةَ أغْدُو في الفريقين لا أرَى ... من القوم إلا مَنْ عَلَيَّ ولالِيَا
أيذهب يَومٌ واحد إن أسَأْتُه ... بصالح أيامي وَحُسْنِ بلائيا
أبَعدَ ابن عمرو وابن مَعْن تتابعا ... وَمَقْتَل هَمَّام امَنَّى الأمانيا
وتلاحق الناس ممن حضر الوقعة بأجنادهم من أرض الشام، وكان النعمان بن بشير والياً
على حِمْصَ قد خطب لابن الزبير ممالئاً للضحاك، فلما بلغه قتله وهزيمة
الزُّبَيْرِية خرج عن حمص هارباً، فسار ليلته جمعاء متحيراً لا يدري أين يأخذ،
فأتبعه خالد بن عدي الكُلاَعي فيمن خَفَّ معه من أهل حمص، فلحقه وقتله، وبعث برأسه
إلى مروان، وانتهى زُفَر بن الحارث الكلابي في هزيمته إلى قرقيسيا، فغلب عليها،
واستقام الشام لمروان، وبَثَّ فيه رجاله وعُمَّاله.
وسار مروان في جنوده من الشام إلى أهل مصر، فحاصرها وخَندقَ عليها خندقاً مما يلي
المقبرة، وكانوا زُبَيْرِية عليهم لابن الزبير عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم، وسيد
الفسطاط يومئذ وزعيمها أبو رشد بن كريب بن أبرهة بن الصباح، فكان بينهم وبين مروان
قتال يسير، وتوافقوا على الصلح، وقتل مروان أكيدر بن الحمام صبراً، وكان فارس مضر،
فقال أبو رشد لمروان: إن شئت واللهّ أعَدْنَاهَا جَذَعَة، يعني يوم الدار
بالمدينة، فقال مروان: ما أشاء من ذلك شيئاً، وانصرف عنها وقد استعمل عليها ابنه
عبد العزيز.
وقدم مروان الشام فنزل الصميرة على ميلين من طبرية من بلاد الأردن، فأحضر حسان بن
مالك، وأرغبه وأرهبه، فقام حسان في الناس خطيباً، ودعاهم إلى بيعة عبد الملك بن
مروان بعد مروان، وبيعة عبد العزيز بن مروان بعد عبد الملك، فلم يخالفه في ذلك
أحد.
موت مروان بن الحكم
وهلك
مروان بدمشق في هذه السنة، وهي سنة خمس وستين، وقد تنازع أهل التواريخ وأصحاب
السير ومن عُنِيَ بأخبارهم في سبب وفاته: فمنهم من رأى أنه مات مطعوناً، ومنهم من
رأى أنه مات حَتْفَ أنْفِهِ ومنهم من رأى أن فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة أم خالد
بن يزيد بن معاوية هي التي قتلته، وذلك أن مروان حين أخذ البيعة لنفسه ولخالد بن
يزيد بعده وعمروبن سعيد بعد خالد، ثم بَدَا له غير ذلك فجعلها لابنه عبد الملك
بعده، ثم لابنه عبد العزيز بعد عبد الملك ودخل عليه خالد بن يزيد فكلَّمه وأغْلَظَ
له، فغضب من ذلك وقال: أتكلمني يا ابن الرَّطْبة. وكان مروان قد تزوج بأُمه فاختة
ليُذلَه بذلك ويضَع منه، فدخل خالد على أمه فقبح لها تزوجها بمروان، وشكا إليها ما
نزل به منه، فقالت: لا يعيبك بعدها؟ فمنهم من رأى أنها وضعت على نَفَسِه وسادة
وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات، ومنهم من رأى أنها أعدَتْ له لبناً مسموماً فلما
دخل عليها ناولته إياه فشرب، فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه،
فحضره عبد الملك وغيره من ولد ة فجعل مروان يشير إلى أم خالد برأسه يخبرهم أنها
قتلته، وأم خالد تقول: بأبي وآمي أنت، حتى عند النزع لم تشتغل عني، إنه يوصيكم بي،
حتى هلك، فكانت أيامه تسعة أشهر وأياماً قلائل، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل غير ذلك
مما سنورده عند ذكرنا للمدة التي ملكت فيها بنو أمية من الأعوام، فيما يرد من هذا
الكتاب، إن شاء اللّه تعالى.
ترجمة مروان
وهلك مروان وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد ذكر غير ذلك في سِنِّه، وكان قصيراً أحمر،
ومولده لسنتين خَلَتَا، من الهجرة، وهلك بعد أخذ البيعة لولده بثلاث أشهر، وقد ذكر
ابن أبي خيثمة في كتابه في التاريخِ أن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي ومروان
ابنُ ثمانِ سنين، وكان لمروان عشرونأخاَ وثماني أخوات، وله من الولد أحد عشر ذكراً
وثلاث بنات، وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، وعبد اللّه، وأبان، وداود، وعمر، وأم
عمر، وعبد الرحمن، وأم عثمان، وعمرو، وأم عمرو، وبشر، ومحمد، ومعاوية، وقد ذكرنا
هؤلاء وَمَنْ أعقب منهم ومن لم يعقب.
ولد يزيد بن معاوية
وقد كان يزيد بن معاوية خلف من الولد أكثر مما خلف مروان، وذلك أنه خلف: معاوية،
وخالداً، وعبد اللّه الأكبر، وأبا سفيان، وعبد اللّه الأصغر، وعمر، وعاتكة، وعبد
الرحمن، وعبد اللّه الذي لقبه الأصغر، وعثمان، وعتبة الأعور، وأبا بكر، ومحمداً،
ويزيد، وأم يزيد، وأم عبد الرحمن، ورَمْلَة.
ولد معاوية
وخلف أبوه معاوية بن أبي سفيان من الولد: عبد الرحمن، ويزيد، وعبد الله، وهنداً،
ورَمْلَة، وصفية.
ذكر أيام عبد الملك بن مروان
وبُويع عبدُ الملك بن مروان ليلة الأحد غرة شهر رمضان من سنة خمس وستين، ثم بَعَثَ
الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبيرومن معه من الناس بمكة، فقتل عبد الله يوم
الثلاثاء لعشر مَضَيْنَ من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وكانت ولاية ابن الزبير
تسع سنين وعشر ليال، وسنذكر مدة ابن الزبير بعد هذا الموضع من هذا الكتاب عند
ذكرنا لجامع مدة ملك بني أمية، ثم هاجت فتنة ابن الأشعث في شعبان من سنة اثنتين
وثمانين، ثم توفي عبد الملك بن مروان بدمشق يوم السبت لأربع عشرة مضت من شوال سنة
ست وثمانين، وكانت ولايته منذ بويع إلى أن توفي إحدى وعشرين سنة وشهراً ونصفاً،
وبَقي بعد عبد الله بن الزبير واجتماع من اجتمع عليه من الناس ثلاث عشرة سنة
وأربعة أشهر إلا سبعِ ليال، وسنذكر ما فعله من وَقت استقامة من استقام له من
الناس، وَقُبِض وهو ابن ست وسَتين سنة، وقيل كثر من ذلك، وكان يحب الشعر والفخر
والتقريظ والمدح وكان الغالب عليه البخل، وكان له إقدام على الدماء، وكان عمَاله
على مثل مذهبه، كالحَجاج بالعراق، والمهلَب بخراسان، وهشام بن إسماعيل بالمدينة،
وغيرهم، وكان الحجاج من أظلمهم وَأسْفَكِهم للدماء، وسنذكر في هذا الكتاب جوامع من
ذكره فيما يلي هذا الباب.
ذكر جمل من أفعاله وسيره
ولمع مما كان في أيامه ونوادر من أخباره
منادمة الشعبي لعبد الملك
ولما
أفْضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان تَاقَتْ نفسُه إلى محادثة الرجال والأشراف على
أخبار الناس، فلم يجد مَنْ يصلح لمنادمته غير الشَّعْبِي، فلما حُمِل إليه ونادمه
وحَظِيَ عنده قال له: يا شعبيُّ لا تساعدني على ما قبح، ولا تردَ علي الخطأ في
مجلسي، ولاتكلفني جواب التشميت والتهنئة، ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف
أصبح الأمير وكيف أمسى، وكلمني بقدر ما أستطعمك واجْعَلْ بدل المدح لي صوابَ
الاستماع مني، وأعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدَّثُ
فلا يفوتنَكَ منه شيء، وأرِنِي فهمك في طرْفك وسمعك، ولا تجهد نفسك في تَطْرِية
جوابي، ولا تَسْتَدْع بذلك الزيادة في كلامي، فإن أسْوَأ الناس حالاً من استكد
الملوك بالباطل، وإن أسوأ حالاً منهم من استخف بحقهم، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا
يذهب بسالف الإِحسان، ويسقط حتى الحرمة ة فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من
المنطق في موضعه، وعند إصابته فرصة.
مهب الرياح:
وقال عبد الملك للشعبي يوماً: من أين تهب الريح. قال: لا علم لي يا أمير المؤمنين
قال عبد الملك: أما مهبُّ الشمال فمن مطلع بنات نَعْش إلى مطلع الشمس، وأما مهبُّ
الصَّبَا فمن مطلع الشمس إلى مطلع سُهَيْل، وأما الجنوب فمن مطلع سًهَيْل إلى مغرب
الشمس، وأما الذَبُور فمن مغرب الشمس إلى مطلع بنات نَعْش.
حركة للشيعة
وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة بالكوفة، وتلاقوا بالتلاوم والتنادم حين قتل
الحسين فلم يغيثوه، ورأوا أنهم قد أخطؤا خطأ كبيراً، بدعاء الحسين إياهم ولم
يجيبوه، ولمقتله إلى جانبهم فلم ينصروه، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلا
قتل من قتله أو القتل فيه، ففزعوا إلى خمسة نفر منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي،
والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال
التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي، فعسكروا بالنخيلة، بعد أن كان لهم مع المختار بن
أبي عُبَيْدِ الثقفي خَطب طويل بتثبيطه الناسَ عنهم ممن أراد الخروج معهم، ففي ذلك
يقول عبد الله بن الأحمر يحرض على الخروج والقتال من أبيات:
صحوت وودعتُ الصبا والغوانيا ... وقلت لأصحابي: أجيبوا المنادِيَا
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى ... وقبل الدعا: لَبَّيْكَ لبيك دَاعياً
في شعر طويل يحث فيه على الخروج، ويرثي الحسين ومَنْ قتل معه، ويلوم شيعته بتخلفهم
عنه، ويذكر أنهم قد تابوا إلى اللّه وأنابوا إليه من الكبائر التي ارتكبوها إذ لم
ينصروه، ويقول أيضاً في هذا الشعر:
ألا وانع خير الناس جداً ووالداً ... حُسيناً لأهل الدين إن كنت ناعياً
ليَبْكِ حسيناً مُرْمِل ذوخَصَاصة ... عديم وأيتامِ تشَكّى المواليا
فأضحى حسين للرماح دريئة ... وغودرمسلوباً لدى الطَفِّ ثاوياً
فياليتني إذ ذاك كنت شهدته ... فضاربت عند الشانئين الأعاديا
سقى الله قبراً ضُمِّنَ المجد والتقى ... بغربية الطف الغمامَ الغواديا
فيا أمةً تَاهَتْ وصًلتْ سفاهة ... أنيبوا فأرْضُوا الواحد المتعاليا
ثم ساروا يقدمهم مَنْ سَمَّينا من الرؤساء وعبد اللّه بن الأحمر يقول:
خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابسا يحملننا أبطالا
نريد أن نلقي بها الأقيالا ... القاسطين الغدُرَ الضُّلاَّلا
وقد رَفَضْنَا الوُلْدَ والأموالا ... والخَفِرَاتِ البيضَ والحجَالا
نرضى به ذا النعم المفضالا
موقعة عين الوردة
فانتهوا
إلى قرقيسياء من شاطىء الفرات وبها زُفَرٌ بن الحارث الكلابي، فأخرج إليهم
الأنزال، وساروا من قرقيسياء ليسبقوا إلى عين الوردة، وقد كان عبيد الله بن زياد
توجهَ من الشام إلى حربهم في ثلاثين ألفاً، وانفصل على مقدمته من الرقة خمسة
أمراء، منهم الحصين بن نمير السكوني، وَشَرَحْبيل بن في الكلاع الحميري، وأدهم بن
محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق الغَنَوِي، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي، حتى إذا
صاروا إلى عين الوردة التقي الأقوام، وقد كان قبل ذلك لهم مُنَاوَشَاتٌ في
الطلائع، فاستشهد سلمان بن صُرَد الخزاعي، بعد أن قَتَلَ من القوم مقتلة عظيمة،
وأبلى وَحَثَ وحَرّض، ورماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله، فأخذ الراية
المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من وجوه أصحاب علي رضي اللّه عنه، وكَرَّعلى القوم
وهو يقول:
قد علمَتْ ميالة الذوائب ... واضحة اللباتِ والترائبِ
أني غداة الروع والمقانب ... أشجع من ذي لِبدَةٍ مُوَاثب
فقاتل حتى قتل، واستقتل الترابيون، وكسروا أجفان السيوف، وسالت عليهم عساكر أهل
الشام بالليل ينادون الجنة الجنة إلى البقية من أصحاب أبي تراب الجنة الجنة إلى
الترابية، وأخذ راية الترابيين عبد الله بن سعد بن نفيل، وأتاهم إخوانهم يحثُونَ
السير خلفهم من أهل البصرة وأهل المدائن في نحو من خمسمائة فارس عليهم المثنى بن
مخرمة، وسعد بن حذيفة، وهم يقولون: أقِلْنَا رَبَّنَا تفريطنا فقد تُبْنَا، فقيل
لعبد اللّه بن سعد بن نفيل وهو في القتال: إن إخواننا قد لحقونا من البصرة
والمدائن، فقال: ذاك لو جاءوا ونحن أحياء، فكان أول من استشهد في ذلك الوقت ممن
لحقهم من أهل المدائن كثير بن عمرو المدني، وطعن سعد بن أبي سعد الحنفي، وعبد
اللّه بن الخطل الطائي، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل.
فلما علم من بقي من الترابيين: أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشام انحازوا
عنهم، وارتحلوا، وعليهم رفاعة بن شداد البجلي، وتأخر أبو الحويرث العبدي في جابية
الناس، وطلب منهم أهل الشام المكافَةَ والمتَاركة، لما رأوا من بأسهم وصبرهم مع
قلتهم، فلحق أهل الكوفة بمصرهم، وأهل المدائن والبصرة ببلادهمِ، وسمع من الترابيين
في مسيرهم ورجوعهم من عين الورده قائلاً يقول، رافعاً عقيرته :
ياعين بكي ابن الصُّرَدْ ... بكي إذا الليل خَمَدْ
كان إذا البأس نكد ... تخاله فيه أسد
مضى حَمِيداً قد رَشَد ... في طاعة الأعلى الصمد
وقد ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من أصحاب التواريخ والسير مَنْ قتل من
الترابيين مع سليمان بن صُرَد الخزاعي على عين الوردة وأسماءهم، فقللهم.
وحكي أبو مخنف في كتابه في أخبار الترابيين بعين الوردة قصيدة عزاها إلى أعشى
هَمدانَ طويلة يرثي بها أهل عين وردة من الترابيين ويصف مافعلوه، منها:
توخهَ من دون الثنية سائرا ... إلى ابن زياد في الجموع الكتائب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... واخر مما جَرَّ بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاضلا ... عليهم فحيوهم ببيض قواضب
فجاءهُمُ جمع من الشام بعده ... جموع كموج البحرمن كل جانب
فما بَرِحُوا حتى أبيدت جموعهم ... ولم يَنْجُ منهم ثَمَّ غيرعصائب
وغودرَ أهل الصبر صَرْعى فأصبحوا ... تَعَاوَرُهُمْ رِيحُ الصَّبَا والجنائب
وأضْحى الخزاعيُّ الرئيسُ مجدَّلاً ... كأن لم يقاتل مرة ويحارب
ورأس بني شمخ وفارس قومه ... جميعاً مع التيمي هادي الكتائب
وعمرو بن عمرو بن بشر وخالد ... وبكر وزيد والحليس بن غالب
أبَوْا غيرضرب يَفْلق الهام وقعه ... وطعن بأطراف الأسنة صائب
فيا خير جيش للعراق وأهله ... سُقِيتُمْ روايا كل اسحَمَ ساكب
فلا تبْعَدُوا فرسانَنَا وحُمَاتَنَا ... إذا البيض أبدت عن خِدَام الكواعب
فإن تقتلوا فالقتل أكرم ميتة ... وكل فتى يوماً لإحدى النوائب
وما
قتلوا حتى أصابوا عصابة ... محلين حورا كالليوث الضوارب
وقيل: إن وقعة عين الوردة كانت في سنة ست وستين.
وصف القرآن لعلي كرم اللّه وجهه
وفي سنة ست وستين، في أيام عبد الملك بن مروان توفي الحارث الأعور صاحب علي عليه
السلام، وهو الذي دخل على علي فقال: يا أمير المؤمنين ألا ترى إلى الناس قد أقبلوا
على هذه الأحاديث وتركوا كتاب اللّه؟ قال: وقد فعلوها؟ قال: نعم، قال: أما إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ستكون فتنة قلت: فما المخرج منها يا
رسول اللّه. قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخَبَرُ ما بعدكم، وحكم ما
بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جَبّار قَصَمه الله، ومن أراد الهدى في
غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو
الشًي لا تزيغ عنه العقول، ولا تلتبس به الألْسُنُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يعلم
علم مثله، هو الذي لمَّا سَمِعَتْه الجنُّ قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى
الرشد، من قال به صدََقَ، ومن زال عنه عدا، ومن عمل به أجِرَ، ومن تمسك به هُدي
إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور.
مقتل عبيد الله بن زياد
ولما كان من وقعة عين الوردة ما قدمنا سار عبيد الله بن زياد في عساكر الشام يؤمُ
العراق، فلما انتهى إلى الموصل وذلك في سنة ست وستين - التقى هو وإبراهيم بن
الأشتر النخعي، إبراهيم على خيل العراق من قبل المختار بالخازر، فكانت بينهم وقعة
عظيمة قتل فيها ابن مَرْجَانة عبيد الله بن زياد، والحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي
الكلاع، وابن حوشب ذي ظلم، وعبد الله بن آيا السلمي، وأبو أشرس، وغالب الباهلي،
وأشراف أهل الشام، وذلك أن عمير بن الحباب السلمي كان على ميمنة ابن زياد في ذلك
الجيش، وكان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط، فصاح: يا
لثارات قيس يا لمضر،يا لنزار، فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في
جيشهم من أهل الشام من قحطان، وقد كان عمير كَاتَبَ إبراهيم بن الأشتر سرا قبل
ذلك، والتقيا، فتوطآ على ما ذكرنا، وحمل إبراهيم بن الأشتر رأس ابن زياد وغيره إلى
المختار، فبعث به المختار إلى عبد اللهّ بن الزبير بمكة.
اضطراب في كل ناحية
وقد كان عبد الملك بن مروان سار في جيوش أهل الشام فنزل بطنان ينتظر ما يكون من
أمر ابن زياد، فأتاه خبر مقتله ومقتل من كان معه وهزيمة الجيش بالليل، أتاه في تلك
الليلة مقتل حبيش بن دلجة، وكان على الجيش بالمدينة لحرب ابن الزبير، ثم جاءه خبر
دخول ناتل بن قيس فلسطين من قبل ابن الزبير ومسير مُصْعَب بن الزبير من المدينة
إلى فلسطين، ثم جاءه مسير ملك الروم لاوى بن فلنط ونزوله المصّيصة يريد الشام، ثم
جاءه خبر دمشق، وأن عبيدها. وأوباشها ودُعَارها قد خرجوا على أهلها، ونزلوا الجبل،
ثم أتاه أن مَنْ في السجن بدمشق فتحوا السجن وخرجوا منه مكابرة، وأنِّ خيل الأعراب
أغارت على حمص وبعلبك والبقاع، وغير ذلك مما نمي إليه من المفظعات في تلك الليلة،
فلم يُرعبدُ الملك فىِ ليلة قبلها أشد ضحكا، ولا أحسن وجهاً، ولا أبسط لساناً، ولا
أثْبَتَ جَنَاناً منه تلك الليلة، تجلداً وسياسة للملوك، وترك إظهار الفَشَل، وبعث
بأموال وهدايا إلى ملك الروم، فشغله وهادنه، وسار إلى فلسطين وبها ناتل بن قيس على
جيش ابن الزبير، فالتقوا بأجنادين، فقتل ناتل بن قيس وعامة أصحابه، وانهزم
الباقون، ونمي خبر قتله وهزيمة الجيش إلى مصعب بن الزبير وهو في الطريق، فولى
راجعاً إلى المدينة، ففي ذلك يقول رجل من كلب من المروانية:
قَتَلْنَا بأجنادين سعداً وناتلا ... قصاصاً بما لاقى حبيش ومنذر
ورجع عبد الملك إلى دمشق فنزلها، وسار إبراهيم بن الأشتر فنزل نصيبين، وتحصن منه
أهل الجزيرة، ثم استخلف على نصيبين، ولحق بالمختار بالكوفة.
بين مصعب والمختار الثقفي ومقتل المختار
وفي
سنة سبع وستين سار مصعب بن الزبير من البصرة، وقد كان أخوه عبد الله بن الزبير
أنفذه إلى العراق والياً، فنزل حَرُوراء، والتقى هو والمختار فكانت بينهم حروب
عظيمة، وقَتْلٌ فريع، وانهزم المختار، وقد قتل محمد بن الأشعث وابنان له، ودخل قصر
الإمارة بالكوفة وتحصن فيه، وجعل يخرج كل يوم لمحاربة مصعب وأصحابه من أهل الكوفة
وغيرهم والمختار معه خلق كثير من الشيعة قد سموا الخشبية من الكيسانية وغيرهم،
فخرج إليهم ذات يوم وهو على بغلة له شَهْبَاء، فحمل عليه رجل من بني حنيفة يقال له
عبد الرحمن بن أسد، فقتله واحْتزرأسه، وتنادوا بقتله، فقطعه أهل الكوفة وأصحاب
مصعب أعضاء، وأبى مصعب أن يعطي الأمان لمن بقي في القصر من أصحابه، فحاربوا إلى أن
أضَرَّ بهم الجَهْدُ، ثم أمنهم وقتلهم بعد ذلك، فكان ممن قتل مع المختارعبيد اللّه
بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وله خبر مع المختار في تخلصه منه ومضيه إلى
البصرة وخوفه على نفسه من مصعب إلى أن خرج معه في جيشه، وقد أتينا على خبره وسائر
ما أومأنا إليه في كتابنا أخبار الزمان فكان جملة مَنْ أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب
مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه، فقتلهم
مصعب، وسماهم الخشبية، وتتبع مصعب الشيعَةَ بالقتل بالكوفة وغيرها، وأتى بحرم
المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له إحداهما بنت سَمُرَةَ بن جندب
الفزاري والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، وقالتا: كيف نتبرأ من رجل يقول
ربي الله؟ كان صائم نهاره قائم ليله، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قَتَلَةِ ابن
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله وشيعته، فأمكنه اللّه منهم حتى شفي
النفوس، فكتب مصعب إلى أخيه عبد اللّه بخبرهما وما قالتاه، فكتب إليه إن هما رجعتا
عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما، فعرضهما مصعب على السيف، فرجعت بنت سمرة
ولعنتة وتبرأت منه، وقالت: لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت: أشهد أن المختار
كافر، وأبت ابنة النعمان بن بشير، وقالت: شهادة أرزقها فأتركها. كلا! إنها موتة ثم
الجنة والقدوم على الرسول وأهل بيته، والله لا يكون، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك
ابن أبي طالب؟ اللهم أشهد إني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بَيْتِه وشيعته، ثم
قدَمها فقتلت صبراً، ففي ذلك يقول الشاعر:
إن من أعجب الأعاجيب عندي ... قَتْلَ بَيْضَاء حرة عُطْبُول
قتلوها ظلماًعلى غير جرم ... إن للّه درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرُّ الذيول
ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر المهلب وقتله لنافع بن الأزرق، وذلك في سنة خمس
وستين، ونافع هو الذي تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، إذا كنا أتينا في كتابنا
أخبار الزمان على ذكر حروب الخوارج مع المهلب وغيره ممن سلف وخلف، وذكرنا شأن
مرداس بن عمرو بن التميمي، وعطية بن الأسي الحنفي، وأبي فديك، وشوذب الشيباني
وسويد الشيباني وقطامة الشيباني، والمهذب السكوني، وقَطَرِي بن الفُجَاءة، والضحاك
بن قيس الشيباني ووقعة ابن الماحوز الخارجي مع المهلب ومقتله، وظفر المهلب بهم في
ذلك اليوم، وخبر عبد ربه وأخبار خوارج اليمن كأبي حمزة المختار بن عوف الأزدي،
وابن بيهس الهيصمي، مع ما تقدم من ذكرنا لفرق الخوارج في كتابنا المقالات في أصول
الديانات من الأباضية وهم شُرَاة عمان من الأزد وغيرهم من الأزارقة والنجدات
والحمرية والجابية والصفرية وغيرهم من فرق الخوارج وبلدانهم من الأرض، مثل بلاد
سنجار وتل أعْفَرَ من بلاد ديار ربيعة والسن والبوازيج. والحديقة مما يلي بلاد
الموصل، ثم من سكن من الأكراد بلاد أذربيجان وهم المعرفون بالشراة منهم، وأسلم
المعروف بابن شادلويه، وقد كان تملك على أعمال ابن أبي الساج من بلاد أذربيجان
وأران والبيلقان وأرمينية، ومن سكن منهم بلاد سجستان وجبال هَرَاة وكوهستانة
وبوشنج من بلاد خراسان ومن بلاد مكران على ساحل البحر بين بلاد السند وكرمان
وأكثرهم صفرية وحمرية، ومنهم ببلاد حمران إصطخر وصاهك بين كرمان وفارس، ومنهم
ببلاد تيهرت المغرب، ومنهم ببلاد حضرموت وغيرها من بقاع الأرض.
وفاة عبد اللّه بن العباس
وفي
سلطنة عبد الملك مات أبو العباس عبد اللهّ بن العباس بن، عبد المطلب في سنة ثمان
وستين، وقيل: في سنه تسع وستين، بالطائف، وأمه لُبَابة بنت الحارث بن حزن، من ولد
عامر بن صعصعة، وله إحدى وسبعون سنة، وقيل: إنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقد
ذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،
وأنا ابن عشر سنين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وكان قد ذهب بصره لبكائه على علي
والحسن والحسين، وكانت له وَفْرَة طويلة يخْضُب شَيْبه بالحناء، وهو الذي، يقول:
إن يأخُذ ِاللَّه من عينيَّ نورَهُمَا ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير مدَخل، ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له حين وضع له الماء للطهور في بيت خالته
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل.
وقيل لابن عباس رضي اللّه عنه: ما منع علياً رضي اللّه عنه أن يبعثك مكان أبي موسى
في يوم الحكمين. فقال: منعه من ذلك حائل القدر، وقصر ادة، ومحنة الإبتلاء، أما
واللّه لو بعثني مكانه لاعترضت مدارج نفسه، ناقضاً لما أبرم ومبرماً لما نقض،
أسِفُّ إذا طار، وأطير إذا أسَفَّ، ولكن مضى قدر، وبقي أسف، ومع اليوم غد، وللآخرة
خير للمتقين.
وكان لابن عباس من الولد: علي، وهوأبو الخلفاء من بني العباس،، والعباس،
ومحمد،والفضل، وعبد الرحمن، وعبيد اللهّ، ولُبَابة، وأمهم زرعة بنت مشرح الكندية،
فأما عبيد اللهّ ومحمد والفضلَ فَلا أعْقَاب لهم.
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق
وفي سنة سبعين قَتَلَ عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وهو عمرو
بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا شهامة وفصاحة وبلاغة
وإقدام، وقد كان بينه وبين عبد الملك محادثات ومكاتبات وخَطْب طويل طلباً للملك،
وكان فيما كتب إليه عبد الملك: إنك لتطمع نفسك بالخلافة، ولست لها بأهل، فكتب إليه
عمرو: استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة الغدر أورثتك الغفلة، زجرت عما
وافقت عليه، وندبت إلى ما تركت سبيله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطالب ما انتقل
سلطان ولا ذل عزيز، وعن قريب يتبين مَنْ صريع بغي وأسير غفلة.
وقد كان عبد الملك سار إلى زَفَرَ بن الحارث الكلاني وهو بقرقيسياء وبلاد الرحبة
وخلف عمرو بن سعيد بدمشق فبلغه أن عمراً قد دعا الناس إلى بيعته بدمشق، فكَرَّ
راجعاً إليها، فامتنع عمرو فيها، فناشده عبد الملك الرحم وقال له: لا تفسد أمر أهل
بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة، وفيما صنعت قوة لابن الزبير، ارجع إلى بيتك
فإني سأجعل لك العهد، فرضي وصالح، ودخل عبد الملك وعمرو متحيز منه في نحو خمسمائة
فارس يزولون معه حيث زال.
وقد تنازع أهل السير في كيفية قتل عبد الملك إياه: فمنهم من رأى أن عبد الملك قال
لحاجبه: ويحك!! أتستطيع إذا دخل عمرو أن تُغْلِق الباب؟ قال: نعم، قال: فافعل،
وكان عمرو رجلاً عظيم الكِبْر لا يرى أن لأحد عليه فضلاً، ولا يلتفت وراءه إذا مشى
إلى أحد، فلما فتح الحاجب الباب دخل عمرو، فأغْلَقَ الحاجب الباب دون أصحابه، ومضى
عمرو لا يلتفت، وهو يظن أن أصحابه قد دخلوا معه كما كانوا يدخلون، فعاتبه عبد
الملك طويلاً، وقد كان وصي صاحب حرسه أبا الزعيزعة بأن يضرب عنقه، فكلمه عبد الملك
وأغلظ له القول، فقال: يا عبد الملك، . أتستطيل عليَّ كأنك ترى لك عليَّ فضلاًَ؟
إن شئت واللهّ نقضت العهد بيني وبينك، ثم نصبت لك الحرب فقال عبد الملك: قد شئت
ذلك، فقال: وأنا قد فعلت، فقال عبد الملك: يا أبا الزعيزعة شأنَكَ، فالتفت عمرو
إلى أصحابه فلم يرهم في الدار، فدنا من عبد الملك، فقال: ما يدنيك مني. قال:
لتمسَّني رحمك، وكانت أم عمرو عمة عبد الملك كانت تحت الحكم بن أبي العاص بن وائل،
فضربه أبو الزعيزعة فقتله، فقال له عبد الملك: ارْم برأسه إلى أصحابه، فلما رأوا
رأسه تفرقوا، ثم خرج عبد الملك فصعد المنبر وذكر عمراً فوقع فيه، وذكر خلافه
وَشِقَاقه، ونزل من المنبر وهو يقول:
أدْنَيْتُهُ مِنِّي لِتَسْكُنَ نفْرَةٌ ... فَأصُولَ صَوْلة حازم مُسْتَمْكن
غضبا
ومحماة لديني، إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن
وقيل: إن عمراً خرج من منزله يريد عبد الملك، فعثر بالبساط، فقالت له امرأته نائلة
بنت قريص بن وكيعِ بن مسعود: أنْشدتُكَ اللّه أن لا تأتيه، فقال: دعيني عنك
فواللّه لو كنت نائماَ ما أيقظني، وخرج وهو مكفر بالدرع، فلما دخل على عبد الملك
قام مَنْ هناك من بني أمية، فقال عبد الملك وقد أخذت الأبواب: إني كنت حلفت لئن
ملكتك لأشدنك في جامعة، فأتى بجامعة فوضعها في عنقه وشَدَّهَا عليه، فأيقن عمرو
أنه قاتله، فقال: أنْشُدُكَ اللّه يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك: يا أبا
أمية، مالك جئت في الدرع أللقتال.! فأيقن عمرو بالشر فقال: أنشدك اللّه أن تخرجني
إلى الناس في الجامعة، فقال له عبد الملك: وتماكرني أيضاً وأنا أمكر منك؟ تريد أن
أخرجك إلى الناس فيمنعوك ويستننقذوك من يدي! وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه
عبد العزيز - وقد كان قدم من مصر في ذلك اليوم - بقتله إذا خرج! وقد قيل: أمر ابنه
الوليد بذلك، فلما دنا منه عبد العزيز ناشده عمرو بالرحم فتركه، فلما رجع عبد
الملك. من الصلاة ورآه حَيّاً قال لعبد العزيز: واللّه ما أرَدْتُ قتله إلا من
أجلكم ألا لا يجوزها دونكم، ثم أضجعه، فقال له عمرو: أغدر يا ابن الزَّرْقَاء.
فذبحه، ووافى أخو عمرو يحيى بن سعيد إلى الباب بمن معه من رجاله ليكسره، فخرج إليه
الوليد وموالي عبد الملك، فاقتتلوا، واختلف الوليد ويحيى؟ فضربه يحيى بالسيف على
أليته فانصرع، وألقى رأس عمرو إلى الناس، فلما رأوه تفرقوا من بعد أن ألقي عليهم
من أعلى الدار بدَر، الدنانير فاشتغلوا بها عن القتال، وقال عبد الملك: وأبيك لئن
كانوا قَتَلُوا الوليد فقد أصابوا بثأرهم، وقد كان الوليد فقد حين ضرب، وذلك أن
إبراهيم بن عدي احتمله فأدخله بيت القراطيس في المعمعة، وأتى عبد الملك بيحيي بن
سعيد ة واجتمعت الكلمة على عبد الملك، وانقاد الناس إليه!.
وقد قيل في مقتله غير ما ذكرنا، وقد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان وقد
ذكرنا شعر أخته فيه - وكانت تحت الوليد بن عبد الملك - فيما يرد من هذا الكتاب في
أخبار المنصور؟ إذ هو الموضع المستحق له دون هذا الموضع لما تغلغل بنا إليه
الكلام، وتسلسل بنا القول نحوه.
وأقام عبد الملك بدمشق بقية سنة سبعين، وقد كان مصعب بن الزبير خرج حين صفا له
العراق بعد قتل المختار وأصحابه، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بباجميرا مما يلي
الجزيرة، يريد الشام لحرب عبد الملك، فبلغه مسير خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن
اسيد من مكة إلى البصرة في ولده وعدًة من مواليه ناكثاً لبيعة عبد اللّه بن
الزبير، فنزل بعض نواحي البصرة، وأن قوماً قد انضافوا إليه من ربيعة ومضر، ومنهم
عبد اللّه بن الوليد، ومالك بن مسمع البكري، وصَفْوَان بن الأهتم التميمي، وصعصعة
بن معاوية عم الأحنف، فكانت لهم بالبصرة حروب كانت آخرِاً على خالد بن عبد اللّه؟
فخرج هارباً بابنيه في البر حتى لحقوا بعبد لملك، وانصرف مصعب راجعاً إلى البصرة،
وذلك في، سنة إحدى وسبعين، ثم عاد من العراق إلى باجميراً؟ ففي ذلك يقول الشاعر:
أبَيتَ يا مُصْعَبُ إلاَسَيْرَا ... فِي كلِّ يَوْمٍ لَكَ باجميرا
ونزل
عبد الملك بن مروان على قرقيسياء، فحاصر بها زُفَرَ بن الحارث العامري الكلابي،
وكان يدعو إلى ابن الزبير، فنزل على إمامته وبايعه، وسار عبد الملك فنزل على
نصيبين - وفيها يزيد والحبشي مواليا الحارث في ألفي فارس ممن بقي من أصحاب المختار
يدعون إلى إمامة محمد بن الحنفية - فحاصرهم، فنزلوا على إمامته، وانضافوا إلى
جملته! وخرج مصعب في أهل العراق - وذلك في سنة اثنتين وسبعين - يريد عبد الملك،
وَدَلَفَ إليه عبد الملك فيَ عساكر مصر والجزيرة والشام ة فالتقوا بمسكن قرية من
أرض العراق على شاطىء دجلة، وعلى مقدمة عبد الملك الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل
الشقفي، وقيل: على ساقته، وقد أحْمَدَ أمْرَهً في قيامه بما أهل له، فكاتب عبد
الملك رؤساء أهل العراق ممن هم بعسكر مصعب وغيرهم سراً وصار يرغَبهم ويرهِّبهم،
فكان فيمن كتب إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي، فلما أتاه كتابه مع الجاسوس اعتقله
في رَحْله، وأتى مصعباً بالكتاب قبل أن يَفُضّه ويعلم ما فيه، فقال له مصعب:
أقرأته؟ فقال: أعوذ باللّه أن أقرأه حتى يقرأه الأمير، وآتيَ يوم القيامة غادراً
قد نقضت بيعته وخلعت طاعته، فلما تأمل مصعب ما فيه وجلى أماناً له وولاية لما شاء
من العراق وإقطاعاً وغير ذلك، ثم قال إبراهيم لمصعب: هل أتاك أحد من أشراف العساكر
بكتاب فقال مصعب: لا، فقال إبراهيم: واللّه لقد كاتبهم وما كاتبني حتى كاتب غيري
ولا امتنعوا عن إيصالها إليك إلا للرضا به والغمر بك، فأطِعْنِي وابدأ بهم،.
فأمرهم على السيف، أو استوثق منهم في الحديد، والقَ هذا الرجل، فأبى مصعب ذلك،
وتحيَّزَ مَنْ كان في عسكره من ربيعة لقتله ابن زياد بن ظبيان البكرىِ، وكان من
سادات ربيعة وزعماء بكر بن وائل، وسار إبراهيم بن الأشتر على مقدمة مصعب في متسرعة
الخيل، فلقي خيل عبد الملك ومقدمته عليها أخوه محمد بن مروان، وبلغ عبد الملك ورود
إبراهيم ومنازلته محمداً أخاه، فبعث إلى محمد: عزمت عليك أن لا تقاتل في هذا
اليوم، وقد كَان مع عبد الملك منجم مقدم، وقد أشار على عبد الملك أن لا تحارب له
خيل في ذلك اليوم، فإنه منحوس، وليكن حربه بعد ثلاث فإنه ينصر، فبعث إليه محمد:
وأنا أعزم على نفسي لأقاتلن ولا ألتفت إلى زخاريف منحمك، والمحالات من الكذب، فقال
عبد الملك للمنجم ولمن حضره: ألا ترون. ثم رفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم إن
مُصْعَباً أصبح يدعو إلى أخيه وأصبحت أدعو لنفسي، اللهم فانصر خيرنا لأمة محمد صلى
الله عليه وسلم، فالتقى محمد بن مروان وابن الأشتر، ومحمد يرتجز ويقول:
مثلي على مثلك أولى بالسلب ... محجل الرجلين أعرب الذنب
فاقتتلوا حتى غشيهم المساء، فقال عتاب بن وَرْقَاء التميمي، وكان مع ابن الأشتر:
يا إبراهيم، إن الناس " قد جُهدُوا فمرهم بالانصراف، حسداً له لإِشرافه على
الفتح، فقال له إبراهيم: وكيف ينصرفون وعدوهم بإزائهم؟! فقال عتاب: فمر الميمنة أن
تنصرف، فأبى إبراهيم ذلك، فمضى إليهم عتاب فأمرهم بالإِنصراف، فلما زالوا عن
مصافهم أكَبَّتْ ميسرة محمد عليهم، واختلط الرجال، وصمدت الفرسان لإِبراهيم،
واشتبكت عليه الأسِنَّةُ، فبرى منها عدة رماح، وأسلمه من كان معه، فاقتلع من سرجه
ودار به الرجال وازدحموا عليه، فقتل بعد أن أبلى ونكأ فيهم، وقد تنوزع في اخذ
رأسه: فمنهم من زعم أن ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير الكندي هو الذي أخذ رأسه،
ومنهم من ذكر أن عبيد بن ميسرة مولى بني يشكر ثم من بني رفاعة هو الذي أخذ رأسه،
وأتى عبد الملك بجسد إبراهيم فألقي بين يديه، فأخذه مولى الحصين بن نمير، فجمع
عليه حطباً وأحرقه بالنار.
وسار
عبد الملك في صبيحة تلك الليلة من موضعه حتى نزل بدير الجاثليق من أرض السوداء،
وأقبل عبيد اللهّ بن زياد بن ظبيان وعكرمة بن ربعي إلى رايات ربيعة فأضافوا إلى
عسكر عبد الملك ودخلوا في طاعته، ثم تَصَافَّ القوم، فأفرد مصعب، وتخلى عنه من كان
معه من مصر واليمن، وبقي في سبعة نفر منهم إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه التميمي،
وابنه عيسى بن مصعب، فقال لابنه عيسى: يا بني اركب فرسك فانج بنفسك فالحق بمكة
بعمك، فأخبره بما صنع بي أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال له: لا واللّه، لا
يتحدث نساء قريش إني فررت عنك، ولا أحدثهم عنك أبداً، فقال له مصعب: أما إذ أبيت
فتقدم أمامي حتى أحتسبك، فتقدم عيسى فقاتل حتى قتل.
وسأل محمد بن مروان أخاه " عبد الملك أن يؤمن مصعباً، فاستشار عبد الملك من
حضره، فقال له علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب: لا تؤمنه، وقال خالد بن
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: بل أمنه، وارتفع الكلام بين علي وخالد حتى تسابا على
مصافهما، فأمر عبد الملك أخاه محمداً أن يمضي إلى مصعب فيؤمنه ويعطيه عنه ما أراد،
فمضى محمد فوقف قريباً من مصعب، ثم قال: يا مصعب، هلم إليَ، أنا ابن عمك محمد بن
مروان، وقد أمَّنَكَ أمير المؤمنين على نفسك ومالك، وكل ما أحدثت، وأن تنزل أي
البلاد شئت، ولو أراد بك غير ذلك لأنزله بك، فأنشدك اللّه في نفسك.
وأقبل رجل من أهل الشام إلى عيسى بن مصعب ليحتزرأسه، فعطف عليه مصعب والرجل غافل،
فناداه أهل الشام: ويلك يا فلان الأسد قد أقبل نحوك، ولحقه مصعب فقدّه، وعُرْقِبَ
فرسُ مصعب، وبقي راجلاً، فأقبل عليه عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان فاختلفا ضربتين،
سبق مصعب بالضربة إلى رأسه وكان مصعب قد أثخن بالجراح، وضربه عبيد الله فقتله،
واحتزرأسه، وأتى به عبد الملك، فسجد عبد الملك، وقبض عبيد اللّه بن زياد على قائم
سيفه فاجتذبه من غمده حتى أتى على أكثره سلاً ليضرب عبد الملك في حال سجوده، ثم
ندم واسترجع، فكان يقول بعد ذلك: ذهب الفَتْكُ من الناس، إذ هممت ولم أفعل فأكون
قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكي العرب في ساعة واحدة، وتمثل عبيد اللّه عند مجيئه
برأس مصعب:
نعاطي الملوك الحقَّ مَاقَسَطُوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
وقال عبد الملك: متى تلد قريش مثل مصعب؟ وكان قتل مصعب يوم الثلاثاء، لثلاث خلت من
جماعي الأولى سنة اثنتين وسبعين، وأمر عبد الملك بمصعب وابنه عيسى فدفنا بدَيْرِ
الجاثليق، ودعا عبد الملك أهل العراق إلى بيعته فبايعوه.
وقد كان مسلم بن عمرو الباهلي من صنائع معاوية وابنه يزيد، و في ذلك اليوم في جيش
مصعب، فأتى بعد عبد الملك وقد أخذ له منه الأمان، فقيل له: أنت ميت لا ترجو الحياة
لما بك من الجراح، فما تصنع بالأمان؟ قال: ليسلم ما لي ويأمن ولدي بعدي، فلما وضع
بين يدي عبد الملك قال: قَطَعَ اللّه يَدَ ضاربك كيف لم يجهز عليك. أكفرت صنائع آل
حرب معك؟ فأمنه على ماله وولده ومات من ساعته.
وفي مصرع مصعب بدير الجاثليق من أرض العراق، يقول عبد اللهّ بن قيس الرقيات:
قد أوْرَث المصرين عاراً وذلة ... فتيلٌ بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت للّه بكر بن وائل، ... ولا صبرت عند اللقاء تميم
لكنه ضاع الذمار، ولم يكن ... بها مُضَريٌ يوم ذاك كريم
جزى اللَّه بصرياً بذاك ملامة ... وكوفيهم، إن المليم مُلِيم
وفي ذلك يقول شاعر أهل الشام من أبيات:
لعمري لقد أضْجَرَتْ خيلُنَا ... بأكناف دجلة للمصعب
يهزون كل طويل القنا ... ة مُعْتَدِلَ النصل والثعلب
إذا ما منافق أهل العرا ... ق عوتب يوماً فلم يُعْتِب
دلَفْنَا إليه لدى موقف ... قليل التفقُّدِ للغُيَّبِ
وقد كان مصعب ذا حسن، وجمال، وهيئة، وكمال في الصورة، وفيه يقول ابن قيس الرقيات
من كلمة:
إنما مصعب شهاب من اللَّه تجلَتْ عن وجهه الظلماء
وقد أتينا على أخبار مصعب، وسُكَيْنة بنت الحسين زوجه، وعائشة بنت طلحة وليلى من
نسائه وغير ذلك من أخباره في الكتاب الأوسط.
أربعة رؤوس في مكان واحد
وحدث
المنقري، قال: حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثنا مروان ابن معاوية الفزاري، عن محمد
بن عبد الرحمن، عن أبي مسلم النخعي، قال: رأيت رأس الحسين جيء به، فوضع في دار
الِإمارة بالكوفة بين يدي عُبَيْد اللّه بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد اللهّ بن زياد
قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار قد جيء به
فوضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبيرقد جيء به، فوضع في ذلك
الموضع بين يدي عبد الملك.
وقد قيلِ في وجه آخر من الروايات، قال الراوي: فرأى عبد الملك مني اضطراباً،
فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلْتُ هذه الدار فرأيْتُ رأس الحسين بين يدي ابن
زياد في هذا الموضع، ثم دخلتها فرأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار فيه ة ثم
دخلتها فرأيت رأس المختار بين يديْ مصعب ابن الزبير، وهذا رأس مصعب بين يديك،
فوقاك الله يا أمير المؤمنين، قال: فوثب عبد الملك بن مروان، وأمر بهَدم الطاق
الذي على المجلس، ذكر هذا الحديث عن الوليد بن خباب وغيره.
الناس يبايعون عبد الملك
وسار عبد الملك من دير الجاثليق حتى نزل النخيلة بظهر الكوفة، فخرج إليه أهل
الكوفة فبايعوه، ووفى للناس بما كان وعدهم به في مكاتبته إياهم سراً، وخلع، وأجاز،
وأقْطَعَ، ورتب الناس على قدر مراتبهم، وعمهم ترغيبه، وترهيبه، وولّى على البصرة
خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسد وعلى الكوفة بشر بن مروان أخاه، وخلف معه جماعة
من أهل الرأي والمشورة من أهل الشام منهم روح بن زِنْبَاع الجُذَامي، وبعث بالحجاج
بن يوسف لحرب ابن الزبير بمكة، وسار في بقية أهل الشام إلى دارملكه.
روح بن زنباع وبشر بن مروان
وكان بشر بن مروان أديباً ظريفاً، يحب الشعر والسَّمَرَ والسماع والمعاقرة، وقد
كان أخوه عبد الملك قال له: إن روحا عمك الذي لا ينبغي أن تقطع أمراً دونه، لصدقه
وغفافه ومناصحته ومحبته لنا أهل البيت، فاحتشم بشر منه، وقال لندمائه: أخاف إن
انبسطنا أن يكتب روح إلى أمير المؤمنين بذلك، وإني لأحِبُّ من الأنس والاجتماع ما
يحبه مثلي، فقال له بعض ندمائه من أهل العراق بحسن مساعدته ولطيف حيلته: أنا أكفيك
أمره حتى ينصرف عنك إلى أمير المؤمنين غير شاكٍ ولا لائم، فسُرَّ بشر، ووعده
الجائزة وحسن المكافأة إن هو تأتّى له ما وعد به، وكان روح شديد الغيرة، وكانت له
جارية إذا خرج من منزله إلى المسجد أو غيره ختم بابه حتى يعود بعد أن يقفله، فأخذ
الفتى دواةً وأتى منزل روح عشياً مختفياً وخرج روح للصلاة، فتوصل الفتى إلى دخول
الدهليز في حال خروج روح، وكَمَنَ تحت الدرجة، ولم يزل يحتال ليلته حتى توصل إلى
بيت روح، فكتب على حائط في أقرب المواضع من مرقد روح:
يا روح مَنْ لبنيات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي
إن ابن مَرْوَانَ قد حانت مَنِيَّته ... فاحتل لنفسك ياروح بْنَ زنباع
ولا يغرنك أبكار منعمة ... واسمع هديت مقال الناصح الداعي
ورجع
إلى مكانه بالدهليز، فبات فيه، فلما أصبح روح خرج إلى الصلاة فتبعه غلمانه، والفتى
متنكر في جملتهم مختلط بهم، فلما عاد روح وافتتح باب حجرته تبين الكتابة وقرأها،
فراعه ذلك وأنكره، وقال: ما هذا. فواللّه ما يدخل حجرتي إنسي سواي، - ولاحظ لي في.
المقام بالعراق ثم نهض إلى بشر، فقال له: يا ابن أخي، أوْصِنِي بما أحببت من حاجة
أو سبب عند أمير المؤمنين، قال: أو تريد الشخوص يا عم؟ قال: نعم، قال: ولم؟ هل
آنكرت شيئا أو رآيت قبيحاً لا يسعك المقام عليه. قال: لا واللّه، بل جزاك اللّه عن
نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكنْ أمر حَدَثَ، ولا بدَّ لي من الإِنصراف إلى أمير
المؤمنين فأقسم عليه أن يخبره، فقال له: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت إلى
أيام، قال: ومن أين علمت بذلك. فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل حجرتك غيري
وغير جاريتي فلانة، وما كتب ذلك إلا الجن أو الملائكة، فقال له بشر: أقم فإني أرجو
أن لا يكون لهذا حقيقة، فلم يَثْنِه شيء، وسار إلى الشام، فأقبل بشر على الشراب
والطرب، فلما لقي روح عبد الملك أنكر أمره، وقال: ما إقدامك إلا لحادثة حدثت على
بشر، أو لأمر كرهته، فأثنى على بشر، وحمد سيرته، وقال: لا بل لأمر لا يمكنني ذكره
حتى تخلو، فقال: عبد الملك لجلسائه : انصرفوا، وخلا بروح، فأخبره بقصته وأنشده
الأبيات، فضحك عبد الملك حتى استغرق، وقال: ثقلت على بشر وأصحابه حتى احتالوا لك
بما رأيت، فلا تُرَعْ.
عبد اللّه بن الزبير ينعي أخاه مصعباً:
ولما اتصل قتل مصعب بأخيه عبد اللهّ أضرب عن ذكره حتى تحدث بذلك العبيد والإِماء
في سكك المدينة ومكة، فصعد المنبر وجبينه يَرْشَح عرقاً، فقال: الحمد للّه ملك
الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزِمن يشاء، ويذل من
يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ألا إنه لن يذل اللّه من كان الحق معه،
ولن يعز من كان أولياء الشيطان حزبه، إنه أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا، وهم
قتل مصعب، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند
المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذلك إلى كريم الصبر وجميل العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن
القتال له شهادة، ويجعل اللّه لنا وله في ذلك الخيرة، أما واللّه إنا لا نموت
حتفاً كميتة آل أبي العاص وإنما نموت بعصاً بالرماح، وقتلاً تحت ظلال السيوف، ألا
وإن الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يتبدل، فإن تُقْبل
الدنيا عليَ لا آخذها أخذ الأشَرِ البطِرِ، وإن تُدْبِرْ. عني لا أبكي عليها بكاء
الحزين المهين.
الحجاج في مكة
فأتى الحجاج الطائف، فأقام بها شهوراً، ثم زحف إلى مكة، فحاصر ابن الزبير بها،
وكتب إلى عبد الملك: إني قد ظفرت بأبي كبيس، فلما ورد كتابه على عبد الملك بحصار
ابن الزبير بمكة والظفر بأبي كبيس كَبَّر عبد الملك فكبر من معه في داره، واتصل
التكبير بمن في جامع دمشق فكبروا، واتصل ذلك بأهل الأسواق فكبروا ثم سألوا عن
الخبر، فقيل لهم: إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة وظفر بأبي كبيس، فقالوا: لا نرضى
حتى يحمله إلينا مكبلاً على رأسه برنس على جمل يمر بنا في الأسواق الترابي
الملعون، وكان حصار الحجاج لابن الزبير بمكة هلال في القعدة سنة اثنتين وسبعين،
وفيها قتل مصعب وما ذكرنا من قول أهل دمشق في ابن الزبير فذكره عمر بن شبة النميري
عن ابن عاصم ومنعِ ابن الزبير الحجاج أن يطوف بالبيت، ووقف الْحَجاجُ بالناس بعرفة
محرماًَ في درع ومعفر، وهو من أبناء إحدى وثلاثين سنة، ونَحَر ابن الزبير بمكة،
ولم يخرج إلى عرفة بسبب الحجاج، فكانت مدة حصار الحجاج لابن الزبير بمكة خمسين
ليلة.
ابن الزبير وأمه أسماء بنت أي بكر
ودخل
ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللهّ عنه وقد بلغت من السِّنِّ
مائة سنة لم تَقَعْ لها سن، ولا ابيضَّ لها شعر، ولم ينكر لها عقل، على حسب ما
قدمنا من خبرها في هذا الكتاب، فقال: يا أمه، كيف تجدينك ؟قالت: إني لشاكية يا
بني، فقال لها: إن في الموت راحة، قالت: لعلك تمنَاه لي، وما أحب أن أموت حتى يأتي
على أحد طرفيك: إما قُتِلْتَ فأحتسبك، وإما ظفِرْتَ فقرَّتْ عيني بك، وأوصى عبد
اللّه بما يحتاج من أمره وأمر نساءه إذا سمعن الواعية عليه أن يضممن أمه أسماء
إليهن، وكان عروة بن الزبير على رأي عمه عبد الملك بن مروان، وكانت كتُبُ عبد
الملك بن مروان إلى الحجاج متصلة يأمره بتعاهد عروة وأن لا يسوءه في نفسه وماله،
فخرج عروة إلى الحجاج، ورجع إلى أخيه فقال له: هذا خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن
أسيد وعمرو بن عثمان بن عفان يعطيانك أمان عبد الملك على ما أحْدَثْتَ أنت ومن
معك، وأن تنزل أي البلاد شئت، لك بذلك عهد اللّه وميثاقه، وغير ذلك من الكلام،
فأبى عبد اللّه قبول ذلك، وقالت له أمه أسماء: أيْ بنيَّ، لا تقبل خُطّةً تخاف على
نفسك منها مخافة القتل، مت كريماً، وإياك أن تؤسر، أو تعطي بيديك، فقال: يا أمه،
إني أخاف أن يمثل بي بعد القتل، فقالت: يا بني، وهل تتألم الشاة من ألم السَّلْخ
بعد الذبح؟ ودخلوا على ابن الزبير في المسجد وقت الصلاة، وقد التجأ إلى البيتوهم
ينادون: يا ابن ذات النَطَاقَيْنِ، فقال ابن الزبير متمثلاً:
وغيَّرَهَا الواشون إني أحبها ... وتلك شَكَاة ظاهر عنك عارها
ونظر إلى طائفة منهم قد أقبلوا نحوه بالسيوف، فقال لأصحابه: من هؤلاء؟ قالوا: أهل
مصر، قتلة عثمان أمير المؤمنين ورَبٌ الكعبة، فحمل عليهم، فضرب رجلاً منهم به أدمة
فقدَه، وقال: صبراً يا ابن حام، وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام ومصر، فلم يزل
يضرب بهم حتى أخرجهم عن المسجد، ورجع إلى. البيت وهو يقول:
لست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا أبتغي من رَهْبَة الموت سلما
فاستلم الحجر، ثم تكاثروا عليه، فحمل عليهم، وهو يقول:
قد سَنَّ أصحابك ضرب الأعناق ... وقامَتِ الحرب بنا على ساق
فأتاه حجر فصك جبينه فأدماه وأوْضَحَه، فقال:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا اتَقْطُر الدما
فكشفهم عن المسجد، ورجع على من بقي من أصحابه عند البيت، فقال لهم: ألقوا أغماد
السيوف، وليصونِ كل رجل منكم سيفه كما يصون وجهه، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد، ولا
يسأل رجل منكم: أين عبد اللّه، من يسأل عني فإنني في الرعيل الأول، ثم أنشأ يقول:
يا رب إن جنود الشام قد كثروا ... وهَتَكُوا من حجاب البيت أستارا
يارب إني ضعيف الركن مضْطَهَد ... فابعث إليَّ جنوداً منك أنصارا
وتكاثر أهل الشام عليه ألوفا من كل باب، فحمل عليهم، فشَدِخَ بالحجارة، فانصرع،
وأكب عليه موليان له وأحدهما يقول:
العبد يحمي ويحتمي
حتى قتلوا جميعاً، وتفرق من كان معه من أصحابه، وأمر به الحجاج فصلب بمكة، وكان
مقتله يوم الثلاثاء، لأربع عشرة ليلة خلت من جمادي الأولي، سنة ثلاث وسبعين.
وكلمت أسماء أمه الحجاج في دفنه، فأبى عليها، فقالت للحجاج: أشهد إني لسمعْتُ رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج من ثقيف كذاب ومُبِير فأما الكذاب فهو
المختار، وأما المبير فما أظنك إلا هو " .
وسنذكر لمعاً من أخبار الحجاج فيما يرد من هذا الكتاب، وإن كنا قد أتينا على
مبسوطها فيما تقدم من كتبنا.
ولاية الحجاج الحجاز
وأقام الحجاج والياً على مكة والمدينة والحجاز واليمن واليمامة ثلاث سنين، ثم جمع
له العراق بعد موت بشر بن مروان بالبصرة.
جابر بن عبد اللّه
ومات جابر بن عبد الله الأنصاري في أيام عبد الملك بالمدينة، وذلك في سنة ثمان
وسبعين، وقد ذهب بصره، وهو ابن نيف وتسعين سنة.
وقد
كان قدم إلى معاوية بدمشق، فلم يأذن له أياماً، فلما أذن له قال: يا معاوية، أما
سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يقول: " من حجب ذا فاقة وحاجة حجبه الله
يوم القيامة، يوم فاقته وحاجته فغضب معاوية، وقال له: سمعته يقول: إنكم ستلقون
بعدي أثرة، فاصبروا حتى تَردُوا على الحوِض أفلا صبرت؟ قال: ذكرتني ما نسيت، وخرج
فاستوى على راحلته. ومضى فوجه إليه معاوية بستمائة دينار، فردها وكتب إليه:
إني لأخذن القنوع على الغنى ... إذا اجتمعا والماء بالبارد المحض
وأقضي على الأمر نابني ... وفي الناس من يُقْضَى عليه ولا يَقْضِي
وألبس أثواب الحياء، وقد أرى ... مكان الغنى أن لا أهين به عرضي
وقال لرسوله: قل له وار يا ابن آكلة الأكباد لا وجدتَ في صحيفتك حسنة أنا سبيها
أبداً.
محمد بن الحنفية
ومات محمد بن علي بن أبي طالب، ابن الحنفية في سنة إحدى وثمانين في أيامه
بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه أبَانُ بن عثمان بن عفان بإذن ابنه أبي هاشم،
وكان محمد يكنى بأبي القاسم، وقبض وهو ابن خمس وستين سنة وقيل: إنه خرج إلى الطائف
هارباً من ابن الزبير فمات بها، وقيل: إنه مات ببلاد أيلة، وقد تنوزع في موضع
قبره، وقد قدمنا قول الكيسانية ومن قال منهم إنه بجبل رَضْوَى، وكان له من الولد:
الحسن، وأبو هاشم، وعبد اللهّ، وجعفر الأكبر، وحمزة، وعلي؟ لأم ولد وجعفرا الأصغر
وعَوْن، أمهما أم جعفر والقاسم، وإبراهيم.
حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا
سهل بن عبيد بن عمرو الخابوري قال: كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: إن الحجاج قد
قدم بلدنا وقد خِفْتُه فأحبُّ أن لا تجعل له علي سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فكتب عبد
الملك إلى الحجاج: إن محمد بن علي كتب إلي يستعفيني منك، وقد أخرجْتُ يدك عنه، فلم
أجعل لك عليه سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فلا تتعرض له، فلقيه في الطواف فعض على
شفته، ثم قال: لم يأذن لي فيك أمير المؤمنين، فقال: له محمد ويحك أوَ ما علمت أن
للّه تبارك وتعالى في كل يوم وليلة ثلاثمائة وستين لحظة، أو قال نظرة، لعله أن
ينظر إليَّ منها بنظرة، أو قال يلحظني بلحظة، فيرحمني فلا يجعل لك عليَّ سلطاناً
بيد ولا لسان، قال: فكتب. بها الحجاج إلى عبد الملك، فكتب بها عبد الملك إلى ملك
الروم وكان قد توعدَه، فكتب إليه ملك الروم، ليست هذه من سجيتك ولا من سجية آبائك،
ما قالها إلا نبي، أو رجل من أهل بيت نبي.
ملك الروم والشعبي
وذكر الشعبي قال: أنفذني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني
عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة، حتى
استحببت خروجي، فلما أردت الإنصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت. قلت: لا،
ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إلي رُقْعة، وقيل لي: إذا أديت الرسائل
عند وصولك إلى صاحبك أوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد
الملك، ونسيت الرقعة فلما صرت في بعض الدار إذ بدأت بالخروج تذكرتها فرجعت
فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك. قلت: نعم،
قال لي من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، ثم خرجت
من عنده، فلما بلغت الباب رددْتُ، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة.
قلت: لا، قال: اقرأها، فلما قرأتها فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف
مَلّكُوا غيره، فقلت له: واللّه لو علمتَ ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه
لم يرك، قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك،
قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال.
وصف معاوية عبد الملك
وذكر عند معاوية عبد الملك فقال: هو آخذ بثلاث، وتارك لثلاث:
آخذ
بقلوب الناس إذ حَدَّث، ويحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر الأمرين إذا خولف، تارك
للمُمَارَاة، تارك للغيبة، وتارك لما يعتفر منه. وقال لعبد الملك بعض جلسائه
يوماً: أريد الخلوة بك، فلما خلا به قال له عبد الملك: بشرط ثلاث خصال: لا تُطْرِ
نفسي عندك فأنا أعلم بها منك، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع منك، ولا تكذبني فلا
رأي لمكذب، قال: أتأذن لي في الإنصراف. قال: إذا شئت.
عبد الملك وعامل له قبل هدية
وذكر الهيثم وغيره من الأخباريين أن عبد الملك بلغه عن عامل من عماله أنه قبل
الهدايا، فأشخصه إليه، فلما دخل عليه قال له، أقبلت هدية منذ ولّيت. قال له: يا
أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب فيما
سألتك عنه، أقبلت هدية منذ ولّيتك. قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك
للئيم، ولئن كنت أنلت مُهْدِيها من غير مالك أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه
إنك لخائن جائر، وما أتيت أمرٌ لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع، وأمر
بصرفه من عمله.
عبد الملك وعمرو بن بلال يصلح بينه وبين زوجته
وحدث المنقري عن الضبي قال: قال الوليد بن إسحاق: قال ابن عباس: كانت عاتكة بنت
يزيد بن معاوية - وأمها أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر - تحت عبد الملك بن مروان،
فغضبت عليه، فطلب رضاها بكل شيء، فأبَتْ عليه وكانت أحَبَّ الناس إليه، فشكا ذلك
إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال رجل من بني أسد كان قد تزوج بنت زنباع الجذامي:
مالي عليك إن أرضيتها؟ قال: حكمك، فخرج وجلس ببابها يبكي فقالت له خاصتها: ما لك
تبكي أبا حفص؟ قال: فزعت إلى ابنة عمي، فاستأذنوا لي عليها، فأذنت له وبينهما ستر،
فقال: عرفْتِ حالي مع أمراء المؤمنين معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، ولم يكن لي
غير ابنين فَعَدَا أحدهما على الاخر فقتله، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل المعتدي،
قلت له: أنا ولي الدم وقد عفوت، فأبى عَلًي وقال: ما أحب أن أعَوِّد رعيتي هذا،
وهو قاتله بالغداة، فأنشدك اللّه إلا ما طلبته منه، فقالت: لا أكلمه، قال: ما أظنك
تكسبين شيئاً هو أفضل من إحياء نفس، ولم يزل بها خواصها وخدمها وحاشيتها حتى قالت:
علي بثيابي، فلبست، وكان بينها وبين عبد الملك باب، وكانت قد ردمته، فأمرت بفتحه،
ثم دخلت فأقبل الخَصِيُ يشتد فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة، قال: ويلك!!
ورأيتها. قال: نعم، إذ طلعت وعبد الملك على سريره، فسلمت، فسكت، فقالت: أما واللّه
لولا مكان عمرو بن بلال ما أتيتك، الله أنْ عَدَا أحد أبنيه على الاخر فقتله وهو
ولي الدم وقد عفا عنه أعزمت لتقتلَنَّه، قال: إي واللّه وهو راغم، فأخذت بيده
فأعرض عنها، فأخذت برجله فقبلتها، فقال: هو لك، وتراضَيا بعد أن نكحها ثلاثاً وراح
عبد الملك فجلس للخاصة، فدخل عمرو بن بلال، فقال له: يا أبا حفص، ألطفت الحيلة في
القيادة، ولك الحكم، فقال: يا أمير المؤمنين، ألف دينار ومزرعة بما فيها من الآلات
والرقيق، قال: هي لك، قال: وفرائض لولدي وأهل بيتي، قال: وذلك كله، وبلغ عاتكة.
الخبر، فقالت: ويلي على القَوَّاد، إنما خدعني.
الحجاج يصف الفتنة
وكتب عبد الملك إلى الحجاج أن صِفْ لي الفتنَةَ، فكتب إليه: إن الفتنة تشب
بالنجوى، وتحصد بالشكوى، وتنتج بالخطب، فكتب إليه: إنك قد أصبت وأحسنت الصفة، فإن
أردت أن يستقيم لك مَنْ قبلك فخذهم بالجماعة، وأعطهم عطاء الفرقة، وألصق بهم
الحاجة.
وحدثنا المنقري، قال: حدثنا أبو الوليد الصباح بن الوليد قال: حدثنا أبو رياش ضب
بن الفاقة، عن مقلس بن سابق الدمشقي ثم السكسكي، أن عبد الملك لما بلغه خلع ابن
الأشعث صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق استعجلوا قدري قبل
إنقضاء أجلي، اللهم لا تسلطنا على مَنْ هو خير منا، ولا تسلط علينا مَنْ نحن خير
منه، اللهم سلط سيف أهل الشام على أهل العراق حتى يبلغ رضاك، فإذا بلغه فلا تجاوز
به سخطك.
كتاب من عبد الملك إلى الحجاج لم يفهمه
وكتب
عبد الملك إلى الحجاج: أنت عندي سالم، فلم يعرف ما أراد بذلك، فكتب إلى قتيبة بن
مسلم يسأله عن ذلك، وبعث الكتاب مع رسول فلما ورد على قتيبة وناوله الكتاب ضرط
الرسول، فخجل واستحيا، فقرأه قتيبة وأراد أن يقول له أقعد فقال: اضرط، قال: قد
فعلت، فاستحيا قتيبة وقال: ما أردت إلا أن أقول لك اقعد فغلطت، فقال: قد غلطت أنا
وغلطت أنت، قال قتيبة: ولا سواء، أغلط أنا من فمي وتغلط أنت من استك، أعْلِم
الأمير أن سالماً كان عبداً لرجل، وكان عنده أثيراً، وكان يُسْعَى به إليه كثيراً،
فقال:
يُدِيرُونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العَيْنِ والأنف سالم
فأراد عبد الملك أنك عندي بمنزلة سالم، فلما أتى الحجاج بالرسالة كتب له عهداً على
خراسان.
وقد روي نحو هذا الخبر عن رجل كان في مجلس خالد بن عبد الله القَسْرِي فضرط، فلما
حضر الغداء قام ذلك الرجل، فقال له خالد: اقعد، فأبى، فقال له: أقسمت عليك لتضرطن،
قال: قد ضرطت، فخجل خالد، واعتذر إليه، وأمر له بمال.
وأهدي إلى عبد الملك أترسه مكللة بالمر والياقوت، فأعجبته، وعنده جماعة من خاصته
وأهل خلوته، فقال لرجل من جلسائه اسمه خالد: اغمز منها ترساً، وأراد أن يمتحن
صلابته، فقام فغمزه فضرط، فاستضحك عبد الملك، فضحك جلساؤه - ، فقال: كم دية
الضرطة. فقال بعضهم: أربعمائة درهم وقطيفة، فأمَرَ له بذلك، فأنشأ رجل من القوم:
أيَضْرُط خالد من غَمْزِترس ... ويحبوه الأمير بها بدورا
فَيَا لَكِ ضَرْطة جلبت غناء ... وَيَا لَكِ ضَرْطة أغْنَت فقيرا
يَودُ الناس لو ضرطوا فنالوا ... من المال الذي أعْطِي عشيرا
ولو نَعْلَم بأنَّ الضَّرْط يغني ... ضَرَطنا أصلحَ اللَّهُ الأميرا
فقال عبد الملك: أعطوه أربعة آلاف درهم، ولا حاجة لنا في ضراطك.
عبد الملك يحج
وحدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي والطُّوسي وغيرهما في كتاب الأخبار المعروف
بالموقعيات، عن الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن يزيد عن
عُتْبَة بن أبي لهب، قال: حج عبد الملك فيَ بعض أعوامه، فأمر للناس بالعطاء، فخرجت
بدرة مكتوب عليها من الصدقة فأبى أهل المدينة من قبولها وقالوا، إنما كان عطاؤنا
من الفيء، فقال عبد الملك وهو على المنبر: يا معشر قريش، مَثَلُنَا ومثلكم أن
أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة تحت صَفَاة، فلما دنا الرواح
خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما.، فقالا: إن هذا لمن
كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيام كل يوم تخرج إليهما ديناراً، فقال أحدهما لصاحبه:
إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه. فنهاه أخوه، وقال
له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه، وأخذ فأساً معه ورَصَدَ الحية
حتى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها، فثارت الحية فقتلته، ورجعت إلى
جحرها، فقام أخوه فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوباً رأسها ليس
معها شيء، فقال لها: ما هذه، إني واللّه ما رضيت ما أصابك، ولقد نهيت أخي عن ذلك،
فهل لك أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه. قالت
الحية: لا، قال: ولم ذلك. قالت: إني لأعلم أن نَفْسَكَ لا تطيب لي أبداً وأنت ترى
قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبداً وأنا أذكر هذه الشجَّة، وأنشدهم شعر النابغة:
فقالت: أرَى قَبْراً تراه مقابلي ... وَضَرْبَةَ فَأْسٍ فوق رأسي فاقره
فيا معشر قريش، وليكم عمر بن الخطاب فكان فَظّاً غليظَاَ مُضَيِّقاً عليكم، فسمعتم
له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليناً كريماً فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا
عليكم مسلماً يوم الحرة فقتلتموه، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تُحِبُّوننا
أبداً وأنتم. تْذكرون يوم الحرة، ونحن لا نحبكم أبداً ونحن نذكر مقتل عثمان.
وحدث
المدائني وابن دأب أن روح بن زنباع جليس عبد الملك رأى منه إعراضاً وجفوة، فقال
للوليد بن عبد الملك: أما ترى ما أنا فيه من أمير المؤمنين بإعراضه عني بوجهه حتى
لقد فَغَرَتِ السباع بأفواهها نحوي وأهوت بمخالبها إلى وجهي. فقال له الوليد:
احْتَلْ له في حديث تضحكهَ به كما احتال مرزبان نديم سابور بن سابور ملك فارس، قال
روح: وما كان من خبره جمع الملك. قال الوليد: كان مرزبان هذا من سمَار سابور فظهرت
له من سابور جَفْوة، فلما علم ذلك تعلّم نُبَاح الكلاب، وعُوَاء الذئاب، ونهيق
الحمير، وزقَاء الديوك، وشَحِيجَ البغال، وصَهِيل الخيل، ومثل هذا، ثم احتال حتى
توصَّلَ إلى موضعِ يقرب من مجلس خلوة الملك وفراشه، وأخفى أثره، فلما خلا الملك
نبَحَ نُبَاحَ الكلاب فلم يشك الملك أنه كلب، فقال الملك: انظروا ما هذا. فعوى
عُواء الذئاب، فنزل الملك عن سريره، فنهق نهيق الحمير، فمضى الملك هارباً، ومضى
الغلمان يتبعون الأثر والصوت، فكلما دَنَوْا منه ترك ذلك الصوت وأحدث صوتاً آخر من
أصوات البهائم، فأحْجَمُوا عنه، ثم اجتمعوا فاقتحموا عليه فأخرجوه، فلما نظروا
إليه قالوا للملك: هذا مرزبان المضحك، فضحك الملك ضحكاً شديداً، وقال له: ويلك!!
ما حَملكَ على هذا. قال: إن اللّه مسخني كلباً وذئباً وحماراً وكل خلق لما غضبت
علي، فأمر الملك بالخلع عليه، وردَه إلى مرتبته التي كان فيها، وتجدد للملك به
سرور، فقال روح للوليد: إذا اطمأن المجلس بأمير المؤمنين فاسألني عن عبد الله بن
عمر هل كان يمزح أو يسمع مُزَاحاً؟ قال الوليد أفعل، وكان عمر صاحب سلامة لا يمزح
ولا يعرف شيئاً عن المُزَاح فتقدم الوليد وسبقه بالدخول، فتبعه روح، فلما اطمأنَّ
بهما مجلس عبد الملك قال الوليد لروح، يا أبا زرعة، هل كان ابن عمر يمزح أو يسمع
المُزَاح؟ قال روح: حدثني ابن أبي عتيق أن امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن المخزومية
هَجَته فقالت:
ذَهَبَ الإلهُ بما تعيش به ... وقُمِرْتَ عَيْشَك أيَّمَا قَمْرِ
انفَقْتَ مَالَكَ غَيرَمُحْتَشِم ... في كل زانية وفي الخمر
وكان ابن أبي عتيق صاحب غزل وفكاهة، فأخذ هذين البيتين في رقعة وخرج بهذا الشعر
فإذا هو بابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، انظر في هذه الرقعة وأشِرْ علي برأيك
فيها، فلما قرأها عبد اللّه استرجع، فقال له: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر، قال:
أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله يا أبا عبد الرحمن لئن لقيته بناحية لإنيكَنَهُ
نَيْكا جيداً، فأخذت ابن عمر أفكل ورعدة واربدّ لونه، وقال: ما لك غضب الله عليك،
قال: ما هو إلا ما قلت لك، وافترقا، فلما كان بعد أيام لقيه فأعرض عنه ابن عمر،
فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني لقيت صاحب البيتين ونكته، فصُعِقَ عبد اللّه بن عمر
فلما رأى ما حَلَّ به دَنَا منه وقال له في أذنه: إنها امرأتي فقام ابن عمر فقبل
ما بين عينيه وضحك،. وقال: أحسنت فَزِدْها، فضحك عبد الملك حتى فحص برجله، وقال
له: قاتلك اللّه يا روح، ما أطْيَبَ حديثك! وَمَدَّ يده إليه، فقام إليه روح
فأكًبّ عليه وقَبًلَ أطرافه، وقال: يا أمير المؤمنين، ألذنْب فأعتذر، أم لملالة
فأصطبر وأرجو عاقبتها. قال: لا والله ما ذاك لشيء تكًرهه، ثم عاد إلى أحسن حالاته.
عبد الملك الهمذاني وسليمان بن المنصور
وقد
حكي مثل هذا عن عبد الملك بن مهلهل الهمذاني، وكان سميراً لسليمان بن منصور، وكان
سليمان قد جَفَاه، فأتاه يوماً في قائم الظّهيرة واحتدام الهجيرة فاستأذن، فقال له
الحاجب: ليس هذا بوقتِ إذنٍ على الأمير، فقال له: أعلمه بمكاني، فدخل فاستأذن له،
فقال له سليمان: - مره يسلم قائماً ويخفف، فخرج الحاجب فأذنَ له وأمره بالتخفيف،
فدخل فسلّم قائماً ثم قال: أصلح اللّه الأمير، إني انصرفْتُ بالأمسِ إلى نحو منزلي
وقد أمسيت، فبينا أنا في طريقي إذ أذَّنَ مؤذن، فَدَنوْت، ثم صعدت إلى مسجد مغلق
فصعدت ثم صعدت ثم صعدت، قال سليمان: فَبَلَغْتَ السماء فكان ماذا. قال: فتقدم
إنسان إما كُرْدِي أو طمطماني فأم القوم بكلام ما أفهمه ولُغَة ما أعرفها، فقال:
وَيْل لكل زممة زماً مالاً وعده قال: يريد وَيْلِ لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً
وَعَدده، فإذا خلفه سكران ما يعقل سكراَ، فلما سمع قراءته ضرب بيديه ورجليه وجعل
يقول: أير عبكى درليلكا في حر أم قارئك ومصليك، فضحك سليمان حتى تمرغ على فراشه،
وقال: ادْنُ مني يا أبا محمد، فأنت أطيب أمة محمد، ثم دعا بخلعة، وقال الزم الباب
وَاغْدُ في كل يوم، وعاد إلى أحسن حالاته عنده.
ذكر طرف من أخبار الحجاج وخطبه
وما كان منه في بعض أفعاله
سبب ولوع الحجاج بسفك الدماء
كانت أم الحجاج عند الحارث بن كَلَمَة، فدخل عليها في السحر فوجدها تتخلل، فبعث
إليها بطلاقها، فقالت: لم بعثت إليَّ بطلاقي. ألشيء رابك مني؟ قال: نعم، دخلت عليك
عند السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء فأنت شَرِهَة، وإن كنت بت والطعام
بين أسنانك فأنت قفرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شَظَايَا السِّوَاك،
فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثقفي أبو الحجاج، فولدت له الحجاج بن يوسف مشوهاً
لا دُبُرَ له، فثقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثَدْيَ أمه أو غيرها، فأعياهم أمره،
فيقال: إن الشيطان تصوَرَ لهم في صورة الحارث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا:
ابن ولد ليوسف من الفارعة، وكان اسمها، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فقال:
اذبحوا جَدْياً أسود وأوْلِغُوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك،
فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تيساً أسود وأوْلِغُوه دمه، ثم اذبحوا له
أسْود سالخاً فأولغوه دمه واطْلًوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع،
قال: ففعلوا به ذلك، فكان بعد لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في بَدْء أمره،
هذا، وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكثر لَذّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا
يُقْدم عليها غيره، ولا سبق إليها سواه.
عبد الملك يولي المهلب قتال الخوارج
حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن داود البصري المنقري، قال: حدثني ابن عائشة
وغيره قال: سمعت أبي يقول: لَمَّا غلبت الخوارج على البصرة بعث إليهم عبد الملك
جيشاً فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فقال: مَنْ للبصرة والخوارج. فقيل له: ليس
لهم إلا المهلب بن أبي صُفْرة، فبعث إلى المهلب، فقال: على أن لي خَرَاجَ ما
أجْلَيْتُهم عنه، قال: إذن تشركني في ملكي، قال: فثلثاه، قال: لا، قال: فنصفه،
واللّه لا أنقص منه شيئاً، على أن تمدني بالرجال، فإذا أخلَلْت فلا حقِّ، لك عليَ،
فجعلوا يقولون: وَلّى عبد الملك على العراق رجلاً ضعيافاً، وجعل يقول: بعثت المهلب
حتى يحارب الخوارج فركب دجلة، ثم كتب إلى المهلب إلى عبد الملك: إنه ليس عندي رجال
أقاتل بهم، فإما بعثت إلي بالرجال وإما خليْتُ بينهم وبين البصرة، فخرج عبد الملك
إلى أصحابه فقال: ويلكم! من للعراق؟ فسكت الناس وقام الحجاج وقال: أنا لها، قال:
اجلس، ثم قال: ويلكم!! من للعراق. - فصمتوا، وقام الحجاج وقال: أنا لها، قال:
اجلس، ثم قال ويلكم للعراق؟ فصمتوا، وقام الحجاج الثالثة فقال: واللّه أنا لها يا
أميرالمؤمنين، قال: أنت
زنبورها
فكتب إليه عهده، فلما بلِغ القادسية أمر الجيش أن يقبلوا وأن يروحوا وراءه، ودعا
بجمل عليه قَتب، فجلس عليه بغير حشية ولا وطاء، وأخذ الكتاب بيده، ولبس ثياب
السفر، وتعمَّمَ بعمامته حتى دخل الكوفة وحده، فجعل ينادي: الصلاةَ جامعةً، وما
منهم رجل جالس في مجلسه إلا ومعه العشرون والثلاثون وأكثر من ذلك من أهله ومواليه
وصعد المنبر متلثماً متنكباً قَوْسَه، فجلس واضعاً إبهامه على فيه فقال بعضهم
لبعض: قوموا حتى نحصبه فدخل محمد بن عمير الدارمي في مواليه، فلما رأى الحجاج
جالساً على المنبر لا يجيب ولا ينطق قال: لعن اللّه بني أمية حين يولونَ العراق
مثل هذا، لقد ضيع اللّه العراق حيث يكون مثل هذا عليها، ثم ضرب بيده إلى حصباء
المسجد ليحصبه، وقال: واللّه لو وجدوا أذَمَّ من هذا لبعثوه إلينا، فلما هَمَّ أن
يحصبه قال له بعض أهل بيته: أصلحك اللّه اكْفُفْ عن الرجل حتى نسمع ما يقول، فمن
قائل يقول: حُصِرَ الرجل فما يقدر على الكلام، ومن قائل يقول: أعرابي ما أبصر
حجته.
خطبة الحجاج مقدمه العراق
فلما غَصَّ المسجد بأهله حَسَرَ اللثام عن وجهه ثم قام، ونَحَّى العمامة عن رأسه،
فواللهّ ما حمد اللّه ولا أثْنَى عليه، ولا صلّى على نبيه، وكان أول ما بدأهم به
أنْ قال: أنا ابن جَلاَ وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني إني والله لأرى
أبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا، وإني أنا
صاحبها، كإني أنظر إلى الدماء تَرَقْرَق بين العمائم واللحى:
هذا أوان الحرب فاشتدي زِيَم ... قد لَفَّها الليل بسوَاقٍ حُطَم
ليس بِرَاعي إبل ولاغنم ... ولابجَزّارٍ على ظهر وَضَم
وقال:
قد لَفّها الليل بعُصْلُبِيِّ ... أرْوَعَ خَرَّاجٍ من الدَّوِّيّ
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمَرَتْ عن ساقها فكدوا ... وجَدَّتِ الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وَتَرٌ عُرُدُّ ... مثل ذراع البكرأوأشد
إن أمير المؤمنين نَثَرَ كنانته، فوجدني أمَرهَا طعماً، وأحَدَّها سنانَاَ،
وأقواها قداحاً، فإن تستقيموا تستقم لكم الأمور، وإن تأخنوا لي بُنَيَّات الطريق
تجدوني لكل مرصد مرصداَ، واللّه لا أقيل لكم عَثْرَةً، ولا أقبل منكم عِذرَة.
يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق، واللهّ ما أغمز كتَغْماز
التين ولا يُقَعقع لي بالشَنَان ولقد فُرِرْتُ عن ذكاء، وفُتِّشت عن تجربة واللّه
لألحوَنَّكُمْ لحوَ العود، ولأعصبنكم عَصْب السَّلَمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل
ولأقرعنكم قرع المَرْوَةِ.
يا أهل العراق، طالما سعيتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، وسننتم سنن السوء،
وتماديتم في الجهالة، يا عبيد العصا وأولاد الإماء، أنا الحجاج بن يوسف، إني
واللهّ لا أعِدُ إلا وفيت، ولا أخْلًقُ إلا وفيَيْتُ، فإياكم وهذه الزَّرَافات
والجماعات، وقال وقيل، وما يكون وما هو كائن، وما أنتم وذاك يا بني اللكيعة. لينظر
الرجل في أمر نفسه، وليحذر أن يكون من فرائسي.
يا أهل العراق، إنما مثلكمِ كما قال اللّه عز وجل: " كمثل قرية كانت آمنة
مطمئنة يأتيها رزقها رغداَ من كل مكان فكفرت بأنْعُم اللّه فَأذاقَهَا اللّه لباس
الجوع والخوف " الآية فأسرعوا واستقيموا، واعتدلوا ولا تميلوا، وشايعوا
وبايعوا واخضعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإهذار، ولا منكم الفرار والنفار،
إنما هو انتضاء السيف، ثم لا أغمده في شتاء ولا صيف، حتى يقيم اللهّ لأمير المؤمنين
أوَدَكم، ويذل له صَعْبكم.
إني نظرت فوجدت الصدق مع البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب مع الفجور، ووجدت
الفجور في النار.
ألا وإن أمير المؤمنين أمرني لإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم إلى محاربة عدوكم معِ
المهلّب، وقد أمرتكم بذلك، وأجَّلْتُ لكمِ ثلاثاً، وأعطيت اللّه عهداَ يؤاخذني به
ويستوفيه مني أن لا أجد أحداَ من بَعْثِ المهلب بعدها إلا ضربْتُ عنقه، وانتهبت
ماله، يا غلام اقرأ عليهم كتاب. أمير المؤمنين.
فقال الكاتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير
المؤمنين إلى مَنْ بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني إليكم أحمد
اللّه الذي لا إله إلا هو.
فقال
الحجاج: اسكت يا غلام، ثم قال مغضباً: يا أهل العراق يا أهل النفاق والشقاق
ومساوىء الأخلاق، يا أهل الفُرْقة والضلال، يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون
عليه السلام؟ أما واللّه لئن بقيت لكم لألحوَنَكُم لحو العود ولأؤدبنكم أدباً سوى
هذا الأدب، هذا أدب ابن سمية - وهو صاحب شرطة كان بالعراق - اقرأ يا غلام الكتاب،
فلما بلغ السلام قال أهل المسجد: وعلي أمير المؤمنين السلام ورحمة اللّه وبركاته.
ثم نزل، وأمر للناس بأعْطِيَاتهم، والمهلب يومئذ بمهرجان قدق يقاتل ا لأزارقة.
فلما كان اليوم الثالث جلس الحجاج بنفسه يعرض الناس، فمر به عمير بن ضابىء التميمي
البرجُمِيُ ثم أحد بني الحدادية وكان من أشراف أهل الكَوفة، وكان من بَعْثِ
المهلب، فقال: أصلح اللّه الأمير، ة إني شيخ كبير زَمِنٌ عليل ضعيف، ولي عدة
أولاد، فليختر أيهم شاء مكاني، أشدهم ظهراً، وأكرمهم فرساً، وأتمهم أدَاةً، قال
الحجاج: لا بأس بشاب مكان شيخ، فلما ولى قال له عنبسة بن سعيد ومالك بن أسماء:
أصلح الله الأمير! أتعرف هذا؟ قال: لا، قالا: هو عمير بن ضابىء التميمي الذي
وَثَبَ على أمير المؤمنين عثمان وهو مقتول فكسر ضلعاً من أضلاعه، فقال الحجاج:
عليَّ به، فقال له: أيها الشيخ، أنت الواثب على أمير المؤمنين عثمان بعد قتله،
والكاسر ضلعاً من أضلاعه. فقال له: إنه كان حَبَس أبي شيخاً كبيراً ضعيفاً فلم
يُطْلِقه حتى مات في سجنه، فقال الحجاج: أما أمير المؤمنين عثمان فتغزوه بنفسك،
وأما الأزارقة فتبعث إليهم بالبُدَلاَء، أو ليس أبوك الذي يقول:
هَمَمْتُ ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت وأوليت البكاء حلائله
أما والله إن في قتلك أيها الشيخ لصَلاحَ المصرين، ثم أقبل يصعٌد بصره إليه
ويصوِّبه ويَعَضُّ على لحيته مرة وويسرحها أخرى، ثم أقبل عليه فقال: يا عمير سمعت
مقالتي على المنبر. فقال: نعم، قال: واللّه إنه لقبيح بمثلي أن يكون كذاباً، قم
إليه يا غلام فاضرب عنقه، ففعل، فلما قتل ركب الناس كل صَعْب وذَلُول، وخرجوا على
وجوههم يريدون المهلب، فازدحموا على الجسر حتى سقط بعضُ الناس في الفُرَات، فأتاه
صاحب الجسر فقال: أصلح اللّه الأمير! قد سقط بعض الناس في الفرات، قال: ويحك!! ولم
ذلك. قال: أهل هذا البعث ازدحموا على الجسر حتى ضاق بهم، قال: انطلق فاعْقِدْ لهم
جسرين.
وخرج عبد اللّه. بن الزَّبير الأسدي مذعوراً، حتى إذا كان عند اللجامين لقيه رجل
من قومه يقال له إبراهيم، فقال له: ما الخبر؟ فقال ابن الزبير: الشر، قتل عمير من
بعث المهلب، وأنشأ يقول:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمرَ أمسى مهلكا متصعبا
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميراً، وإما أن تزور المهلبا
هما خطّتَا خَسْفٍ نجاؤك منهما ... ركوبُكَ حوليا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هو أقربا
وإلا فما الحجاج مغْمِدُ سيفِهِ ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
وخرج الناس هَرَباً إلى السواد، وأرسلوا إلى أهاليهم أن زَوّدونَا ونحن بمكاننا،
وقال الحجاج لصاحب الجسر: افتح ولا تَحُل بين أحد وبين الخروج، ووجه العراض إلى
المهلب، فما أتت على المهلب عاشرة حتى ازدحموا عليه، فقال: من هذا الذي استعمل على
العراق؟ هذا واللّه الذكر من الرجال. فويل والله للعدو إن شاء اللّه تعالى.
خروج ابن الأشعث
وقد
كان الحجاج استعمل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على سجستان وبُسْتَ والرخج، فحارب
مَنْ هنالك من أمم الترك، وهم أنواع من الترك يقال لهم الغوز والخلج، وحارب مَنْ
يلي تلك البلاد من ملوك الهند، مثل رتبيل وغيره وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب
مراتب ملوك الهند وغيرهم من ملوك العالم، وذكرنا مملكة كل واحد منهم، والصقع الذي
هو به، وذوي السِّمَات منهم، وبينا أن كل ملك يلي هذا الصقع من بلاد الهند يقال له
رتبيل فخلع ابن الأشعث طاعة الحجاج، وصار إلى بلاد كرمان، فثنى بخلع عبد الملك،
وانقاد إلى طاعته أهْلُ البصرة والجبال مما يلي الكوفة والبصرة وغيرهما، وسار
الحجاج إلى البصرة، وسار ابن الأشعث إليه، فكانت له حروب عظيمة، وفي عبد الرحمن بن
الأشعث يقول الشاعر:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك يعلمه بخبر ابن الأشعث، فكتب إليه عبد الملك:
لعمري لقد خلع طاعة اللهّ بيمينه، وسلطانه بشماله، وخرج من الدين عرياناً، وإني
لأرجو أن يكون هلاكه وهلاك أهل بيته واستئصالهم في ذلك على يدي أمير المؤمنين، وما
جوابه عندي في خلع الطاعة إلا قول القائل:
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضّرِع الغمر
أظن صروف الدهر والجهل منهم ... ستحملكم مني على مركب وعرِ
ألم تعلموا إني تخاف عَرَامتي ... وأن قَنَاتي لاتلين على الكسر
ودخل ابن الأشعث الكوفة، وكتب الحجاج كتاباً إلى عبد الملك يذكر فيه جيوش ابن
الأشعث وكثرتها، ويستنجد عبد الملك ويسأله الأمداد، وقال في كتابه: واغوثاه يا
أللّه، واغوثاه يا أللّه، واغوثاه يا أللهّ، فأمده بالجيوس وكتب إليه: يا لبيك، يا
لبيك، يا لبيك.
وقائع دير الجماجم وقتل ابن الأشعث
فالتقى الحجاج وابن الأشعث بالموضع المعروف بدير الجماجم، فكانت بينهم وقائع نيف
وثمانون وقعة تَفَانى فيها خلق، وذلك في سنة اثنتين وثمانين، وكانت على ابن
الأشعث، فمضى حتى أنتهى إلى ملوك الهند، ولم يزل الحجاج يحتال في قتله حتى قتل،
وأتى برأسه، فعلا الحجاج منبر الكوفة، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى
الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل العراق، إن الشيطان اسْتَبْطَنَكُمْ فخالط اللحم
منكم والعظم والأطراف والأعضاء، وجرى منكم مجرى الدمٍ، وأفضى إلى الأضلاع
والأمخاخ، فحشا ما هناك شقاقاً واختلافاً ونفاقاً، ثم أربع فيه فعشش، وباض فيه
ففرخ، واتخذتموه دليلاً تتابعونه، وقائداً تطاوعونه، ومؤمراً تستأمرونه، ألستم
أصحابي بالأهواز حين سعيتم بالغدر بي فاستجمعتم عليَّ وحيث ظننتمِ أن اللّه سيخذل
دينه وخلافته، وأقسم باللهّ إني لأراكم بطرفي تتسللون لِوَاذاَ منهزمين، سراعاً
مفترقين، كل امرىء منكم عَلَى عنقه السيف رعباً وجبناً، ثم يوم الزاوية وما يوم
الزاوية؟ بها كان فَشَلُكم وتخاذلكم، وبراءة اللّه منكم، توليكم على أكتافكم
السيوف هاربين ونكوص وليكم عنكم، إذ ولّيتم كِالإبل الشَّواردِ إلى أوطانها لا
يسأل الرجل عن بنيه، ولا يلوي امرؤ عَلى أخيه، حتى عضتكم السلاح، وقصفتكم الرماح،
ويوم دير الجماجم، بها كانت الملاحم، والمعارك العظائم:
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فما الذي أرجوه منكم يا أهل العراق؟ أم ما الذي أتوقعه؟ ولماذا أستبقيكم. ولأي شيء
أدخركم؟ أللفجرات بعد العداوات؟ أم للنزوة بعد النزوِات؟ وما الذي أراقب بكم؟ وما
الذي أنتظر فيكم، إن بُعِثتم إلى ثغوركم جبنتم، وإن أمنتم أو خفتم نافقتم، لا
تجزون بحسنة، ولا تشكرون نعمة.
يا أهل العراق، هل استنبحكم نابح، أو استشلاكم غاو، أو استخفكم ناكث، أواستنفركم
عاص إلا تابعتموه وبايعتموه، وآويتموه وكفيتموه؟!.
يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو دبي كاذب إلا كنتم أنصاره وأشياعه؟!.
يا
أهل العراق، لم تنفعكم التجارب وتحفظكم المواعظ وتعظكم الوقائع، هل يقع في صدوركم
ما أوقع اللّه بكم عند مصادر الأمور ومواردها يا أهل الشام، أنا لكم كالظّليم
الرامح عن فراخه، ينفي عنهن القذى، ويكنفهن من المطر، ويحفظهن من الذئاب، ويحميهن
من سائر الدواب، لا يخلص إليهن معه قذى، ولا يُفضِي إليهن ردى، ولا يمسهن أذى.
يا أهل الشام، أنتم العدة والعدد، والجُنَّة في الحرب، إن نحارب حاربتم، أو نجانب
جانبتم، وما أنتم وأهل العراق إلا كما قال نابغة بني جعدة:
وإن تداعيهم حظهم ... ولم ترزقوه ولم نكذب
كقول اليهود قتلنا المسيح ... ولم يقتلوه ولم يُصْلَبِ
في أبيات.
من عبد الملك إلى الحجاج
ولما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وإعطائه الأموال بلغ ذلك عبد الملك،
فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سَرَفُكَ في الدماء، وتبذيرك في
الأموال، ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحَدٍ من الناس، وقد حكم عليك
أمير المؤمنين في الدماء في الخطأ الدية وفي العمد القود، وفي الأموال ردها إلى
مواضعها، ثم العمل فيها برأيه، فإنما أمير المؤمنين أمين اللّه، وسيان عنده منع حق
وإعطاء باطل، فإن كنت أردت الناس له فما أغناهم عنك، وإن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك
عنهم، وسيأتيك من أمير المؤمنين أمران لين وشدة، فلا يؤنسنك إلا الطاعة، ولا
يوحشنك إلا المعصية، وظنَّ بأمير المؤمنين كل شيء إلا احتمالك على الخطأ، وإذا
أعطاك الظفر على قوم فلا تقتلن جانحاً ولا أسيراً، وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها ... وتطلب رضائي بالذي أنا طالبه
وتخشى الذي يخشاه مِثْلُكَ هارباً ... إلى الله منه ضَيعَ الدَّرَّحالبه
فإن تَرَمني غفلة قُرَشية ... فياربما قد غص بالماء شاربه
وإن تَرَ مني وَثْبَة أمَوِّيَةً ... فهذا وهذا كلّ ذا أنا صاحبه
فلا لا تلمني والحوادث جمة ... فإنك مجزيٌّ بما أنت كاسبه
ولاتَعْد ُمايأتيك مني، وإن تَعُد ... يَقُومُ بها يوما عليك نوادبه
ولاتنقصن للناس حقاًعلمته ... ولاتعطين ماليس للَّه جانبه
وهي أبيات من جيد ما اخترناه من قول عبد الملك.
جواب الحجاج
فلما قرأ الحجاج كتابه كتب: أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه
سَرَفِي في الدماء، وتبذيري في الأموال، ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما
هُمْ أهْلُه، وما قضيت حقَّ أهل الطاعة بما استحقوه، فإن كان قتلي أولئك العصاة
سرفاً وإعطائي أولئك المطيعين تبذيراً فليسوِّغْنِي أمير المؤمنين ما سلف، وليحدِّ
لي فيه حداً انتهي إليه إن شاء اللّه تعالى، ولا قوة إلا باللّه، وواللّه ما علي
من عَقْل ولا قَوَد: ما أصبت القوم خطأ فأدِيَهُمْ ولا ظلمتهم فأقاد بهم ولا
أعطيتهم إلا لك، ولا قتلت إلا فيك، وأما ما أنا منتظره من أمْرَيْكَ فألينهما عدة
وأعظمهما محنة، فقد عبأت للعدة الجلاد، وللمحنة الصبر، وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنا لم أتْبَعْ رضاك وأتَّقِي ... أذاك فيومي لاتزول كواكبه
وما لامرىء بعد الخليفة جُنة ... تقيه من الأمر الذيِ هوكاسبه
أسالم من سالمت من ذي قرابة ... ومَنْ لم تسالمه فإني محاربه
إذا قارف الحجاج منك خطيئة ... فقامت عليه في الصباح نوادبه
إذا أنا لم أدْنِ الشفيق لنصحه ... وأقْصِي الذي تسري إليَّ عقاربه
فمن ذا الذي يرجو نوالي ويتقي ... مُصَاولتي، والدهر جَمٌّ نَوَائِبه؟
فقف بي على حد الرضا لا أجوزه ... مدى الدهر حتى يرجع الدر حالبه
وإلاَ فَدَعنِي والأمور فإنني ... شفيق رفيق أحكمتني تجاربه
وهي أبيات من جيد ما اخترناه من شعر الحجاج.
فلما انتهى كتابه إلى عبد الملك قال: خاف أبو محمد صَوْلتي، ولن أعود لشيء يكرهه.
الحجاج يلتمس محدثاً مؤنساً
وحدث
حماد الراوية أن الحجاج سهر ليلة بالكوفة، فقال لحرسي: ائتني بمحدِّثٍ من المسجد، فاعترض
رجلاً جسيماً عظيماً، فقال له: أجب الأمير، فانطلق به حتى أدخله إليه، فلم يسلم
ولا نطق حتى قال له الحجاج: إيه ما عندك. فلم يتكلم، فقال للحرسي، أخرجه اللّه
نفسك، أمرتك أن تأتيني بمحدث فأتيتني بمرعوب قد ذهب فؤاده، فخرج الحجاج ومعه صرة
دراهم إلى المسجد، فجعل يناول الناس فيأخذونها، حتى انتهى إلى شيخ، فأعطاه
فَنَبَذَها، فأعادها الحجاج فردَّها، ففعل ذلك الحجاج ثلاثَاَ، فدنا منه الحجاج
وقال: أنا الحجاج فأخذها، ودخل القصر، وقال للحرمي: ألحقني به، فدخل فسلم بلسان
ذلق وقلب شديد، فقال له الحجاج: ممن الرجل؟ فقال: من بني شيبان، قال: ما اسمك. قال
سميرة بن الجعد، قال: يا سميرة، هل قرأت القرآن؟ قال: جمعته في صدري فإن عملت به
فقد حفظته وإن لم أعمل به ضيعته، قال: فهل يفرض؟ قال: إني لأفرض الصُّلْب وأعرف
الاختلاف في الجد، قال: فهل تبصر الفقه؟ قال: إني لأبصر ما أقوم به أهلي وأرشد ذا
العمى من قومي، قال: فهل تعرف النجوم؟ قال: إني لأعرف منازل القمر، وما أهتدي به
في السفر، قال: فهل تروي الشعر؟ قال: إني لأروي المثل والشاهد، قال: المثل قد
عرفناه فما الشاهد. قال: اليوم يكون للعرب من أيامها عليه شاهد من الشعر، فإني
أروي ذلك الشاهد، فاتخذه الحجاج سميراً، فلم يك يطلب شيئاً من الحديث إلا وجد عنده
منه علماً، وكان يرى رأي الخوارج وكان من أصحاب قَطَريَ بن الفُجَاءة التميمي،
والفجاءة أمةً، وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجل من تميم، وكان قَطَرِي يومئذ
يحارب المهلب، فبلغ قطريا مكان سميرة من الحجاج، فكتب إليه بأبيات منها:
لشتَّان ما بين ابن جعد وبيننا ... إذا نحن رُحْنَا في الحديد المظاهر
نجاهد فُرْسَانَ المهلّب كلنا ... صَبُورٌ على وقع السيوف البَواتر
وراح يجر الخَزَّ عند أميره ... أميرٌ بتقوى ربه غيرُآمر
أبا الجعد، أين العلم والحلم والنهى ... وميراث آباء كرام العناصِرِ؟
ألم تر أن الموت لا شك نازل ... ولا بدمن بعث الألى في المقابر؟
حفاةً عراةً والثواب لربهم ... فمن بين ذي ربح وآخر خاسر
فإن الذي قد نِلْتَ يَفْنَى، وإنما ... حياتك في الدنيا كوقعة طائر
فَرَاجِع أبا جعد ولاتك مُفْضِياً ... على ظلمة أعشَتْ جميع النواظر
وتُبْ توْبةً تهدي إليك شهادة ... فإنك ذوذنب ولست بكافر
وسِرْ نحونا تَلْقَ الجهاد غنيمة ... تُفدْكَ ابتياعاً رابحاً غير خاسر
هي الغاية القُصوى الرغيب ثوابها ... إذا نال في الدنيا الغِنَى كل تاجر
فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه وأخذ سلاحه، ولحق بقَطَرِي، وطلبهُ الحجاج فلم يقدر
عليه، ولم يشعر الحجاج إلا وكتاب قد بدر منه شعر قطري الذي كان كتب به إليه وفي
أسفل الكتاب إلى الحجاج أبيات، منها:
فمن مُبْلغ الحجاج أن سميرة ... قلا كلً دين غير دين الخوارج
رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه ... ملاعين تَراكين قَصْدَ المخارج
فأقْبَلْتُ نحو الله باللَّه واثقاً ... وما كُرْبِتِي غير الإِله بفارج
إلى عصبة، أما النهار فإنهم ... هم الأسد أسد الغيل عند التهايج
وأما إذا ما الليل جَنَّ فإنهم ... قيام كأنواع النساء النواشج
يُنَادون للتحكيم، تاللَّه إنهم ... رَأوْا حكم عَمروٍ كالرياح الهوائج
وَحُكْم ابن قيس مثل ذاك فأعصموا ... بحبلٍ شديدِ المتن ليس بناهج
فطرح الحجاج هذا الكتاب إلى عنبسة بن سعيد، فقال: هذا ا سميرنا الشيباني، وهو من
الخوارج، ولا نعلم به.
ولأبي الجعد سميرة بن الجعد سمير الحجاج هذا أشعار كثيرة، منها قوله من أبيات:
عجبت لحالات البلاء وللدهر ... وللْحَيْن يأتي المرء من حَيْث لايدري
وللناس
يأتون الضلالة بعدما ... أتاهم من الرحمن نور من البدر
وللَهِ لايخفى عليه صنيعنا ... حفيظ علينا في المُقَام وفي السفر
علا فوق عَرْشٍ فوق سَبْع، ودونه ... سماء يرى الأرواح من دونها تجري
وقد قيل: إن هذا الشعر لغيره من الخوارج.
بعض ما اتفق عليه الخوارج وما اختلفوا فيه
ولأصناف من الخوارج أخبار حِسَان من الأزارقة والأباضية وغيرها، وقد أتينا على
ذكرها في كتابيْنَا أخبار الزمان والأوسط، وذكرنا ما اتفقت عليه الخوارج واجتمعت
عليه من الأصول: من إكفارهم عثمان وعلياً، والخروج على الإمام الجائر، وتكفير
مرتكب الكبائر، والبراءة من الحكمين أبي موسى عبد اللّه بن قيس الأشعري وعمرو بن
العاص السهميَ، وحكمهما، والبراءة ممن صًوّبَ حكمهما أو رضي به، وإكفار معاوية
وناصريهِ ومقلديه ومحبيه، فهذا ما اتفقت عليه الخوارج من الشرَاة والْحَرُورِيَّة،
ثم اختلفوا بعد ذلك في مواضع من العبارة عن التوحيد، والوعد والوعيد، والإمامة،
وغير ذلك من آرائهم، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر الحكمين أن أول
من حَكَّم بصفين عُرْوَة بن أدَية التميمي وقيل: إن أول من حَكِّم بصفين يزيد بن
عاصم المحاربي وقيل: إن أول من حَكَّم رجل من بني سعد بن زيد مَنَاة بن تميم، وكان
أول من شرى بصفين من المحكمة رجل من بني يشكر، وكان من وجوه ربيعة ممن كان مع علي،
فإنه في ذلك اليوم قال: لا حكم إلا للّه، ولا طاعة لمن عَصَى اللّه، وخرج عن الصف،
فحمل على أصحاب علي فقَتَلَ منهم رجلاً، ثم حمل على أصحاب معاوية فتحاموه ولم يقدر
على قتل أَحد منهم، وكًرعلى أصحاب علي فقتله رجل من هَمْدَان.
ذكر بعض أخبار الخوارج
وقد أتى الهيثم بن عدي وأبو الحسن المدائني وأبو البختري القاضي وغيرهم على أخبار
الخوارج وأصنافهم فيما أفردوه من كتبهم، وذكر أصحاب المقالات في الآراء والديانات
ما تنازعوا فيه من مذاهبهم عند تباينهم في فروعهم، وما اجتمعوا عليه من أصولهم،
وقد أتينا على أكثر ما تنازعوا فيه من مذاهبهم في كتابنا في المقالات في أصول
الديانات وذكر من خرج منهم من وقت التحكيم في عصر عصر إلى آخر من خرج منهم بديار
ربيعة على بني حَمْدَان، وذلك في سنة ثمان عشرة وثلثمائة، وهو المعروف بعرون، وخرج
ببلاد كفرتوثي، وورد إلى نصيبين، فكانت له مع أهلها حرب أسر فيها وقتل منهم خلق
عظيم، والمعروف بأبي شعيب خرج في بني مالك وغيرهم من ربيعة، وقد كان أدخل على
المقتدر باللّه وقد كان بعد العشرين والثلثمائة للأباضية ببلاد عمان مما يلي بلاد
بروى وغيرها حروب وتحكيم وخروج وإمام نصبوه فقتل وقتل من كان معه.
الحجاج وشبيب الخارجي
وفي سنة سبع وسبعين كانت للحجاج حروب مع شبيب الخارجي وولّى عنه الحجاج بعد قتل
ذريع كان في أصحابه حتى أحصى عددهم بالقضيب، فدخل الكوفة وتحصن في دار الإمارة
ودخل شبيب وأمه وزوجته غَزَالة الكوفَةَ عند الصباح، وقد كانت غزالة نذرت أن تدخل
مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيهما سورة البقرة وآل عمران، فأتوا الجامع في
سبعين رجلاً، فصلوا به الغَدَاةَ، وخرجت غزالة مما كانت أوجبته على نفسها.
فقال الناس بالكوفة في تلك السنة:
وفت الغزالة نَنْرَها ... يارَبِّ لاتغفرلها
وكانت الغزالة من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، وكذلك أم شبيب، وقد كان عبد
الملك حين بلغه خبر هرب الحجاج، وتحصنه في دار الإمارة بالكوفة من شبيب بعث من
الشام بعساكر كثيرة عليها سفيان بن الأبرد الكلبي لقتال شبيب، فقدم على الحجاج
بالكوفة، فخرجوا إلى شبيب، فحاربوه، فانهزم شبيب وقتلت الغزالة وأمه، ومضى شبيب في
فوارس من أصحابه، وأتبعه سفيان في أهل الشام، فلحقه بالأهواز، فولّى شبيب، فلما
وصل إلى جسر دجيل نَفَر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومِغْفَر، فألقاه في
الماء، فقال له بعض أصحابه: أغَرَقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز
العليم، فألقاه دجيل ميتاً بشطه، فحمل على البريد إلى الحجاج، فأمر الحجاج بشق
بطنه واستخراج قلبه، فاستخرج فإذا هو كالحجر إذا ضربت به الأرض نَبَا عنها، فشق
فإذا في داخله قلب صغير كالكرة، فشق فأصيب علقة الدم في داخله.
ابن
القرية
وفي سنة اثنتين وثمانين قَتَلَ الحجاج ابن القَرِّيّة لخروجه مع ابن الأشعث
وإنشائه الكتُبَ له، ووضعه الصدور والخطب، وكان ابن القِّرَّية من البلاغة والعلم
والفصاحة بالموضع الموصوف، وقد أتينا على خبر مقتله، وما كان من كلامه مع الحجاج،
وقد كان قتله صبراً، في الكتاب الأوسط، وأن قتله إياه كان بالسيف، وقيل: بل قدم
إليه فضربه الحجاج بحربة في نحره فأتى عليه.
وابن القَرِّئة القائل: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر فأما العاقل فإن الدين
شريعته، والحلم طبيعته، والرأي الحسن سجيته، إن نطق أصاب، وإن كلم أجاب، وإن سمع
العلم وَعَى، وإن سمع الفقه روى، وأما الأحمق فإن تكلم عجل، وإن حُدِّث ذهل، وإن
حمل على القبيح حمل، وأما الفاجر فإن استأمنته خانك، وإن صاحبته شانك، وإن استكتم
لم يكتم، وإن علم لم يعلم، وإن حدَث لم يصدق، وإن فقه لم يفقه.
ليلى الأخيلية والحجاج
وذكر المدائني أن الحجاج لم يكن يظهر لندمائه منه بشاشة ولاسماحة في الخلق إلا في
يوم دخلت عليه ليلى الأخيلية، فقال لها: لقد بلغني أنك مررت بقبر توبة بن الحمير
وعدلت عنه، فواللهّ ما وفيت له ولو كان هو بمكانك وأنت بمكانه ما عَدَلَ عنك،
قالت: أصلح اللّه الأمير!! لي عذر، قال: وما هو؟ قالت: إني سمعته وهو يقول:
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليَ وقوقي جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صافح
وكان معي نسوة قد سمعن قوله، فكرهت أن أكَذّبه، فاستحسن الحجاج قولها وقضى
حوائجها، وانبسط في محادثتها، فلم تُرَ منه بشاشة وأريحية داخلته مثل ذلك اليوم.
وذكر حماد الراوية غير هذا الوجه، وهو أن زوج ليلى حلف عليها وقد اجتازوا بقبر
تَوْبَة ليلاً أن تنزل وتأتي قبره وتسلم عليه وتكذبه حيث يقول، وذكر البيتين
المتقدمين قال: وأبَتْ أن تفعل، فأقسم عليها زوجُهَا، فنزلت حتى جاءت إلى القبر
ودموعها على صدرها كغر السحاب فقالت: السلام عليك يا تَوْبَة، فلم تستتم النداء
حتى انفرج القبر عن طائر كالحمامة البيضاء، فضربت صدرها فوقعت ميتة، فأخذوا في
جهازها وكفنها، ودفنت إلى جانب قبره.
يعض عادات العرب
وللعرب فيما ذكرنا كلام كثير على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في آرائهم
ومذاهبهم في الهام والصدَمَى والصَّفَر وقد كانت العرب تعقل إلى جانب قبر الميت
إذا دفن ناقَةً، وتجعل عليه برذعة أو حَشية يسمونها البلية، وقد ضربوا بذلك
أمثالهم، وذكره خطباؤهم في خطبهم، فقالوا: البلايا على الوَلاَيَا، وقد كان بعضهم
يتطير بالسانح، ويتيامن بالبارح، وبعضهم يضاد هذا، فيتطيّر بالبارح، ويتيامن
بالسانح فأهل نجد يتيامنون بالسانح، وأهل التهائم بالضد من ذلك، على حسب ما قدمنا
من قول عُبَيْد الراعي فيما سلف من هذا الكتاب.
خطبة لعلي بن أبي طالب يعاتب أصحابه
حدثنا المنقري، قال: حدثنا عبد العزيز بن الخطاب الكوفي، قال: حدثنا فضيل بن
مرزوق، قال: لما غلب بُسْر بن أرطاة على اليمن، وكان من قبله لابني عبيد اللّه بن
عباس وكان لأهل مكة والمدينة واليمن ما كان، قام علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه
خطيباً فحمد اللهّ وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن
بسر بن أرطاة قد غلب على اليمن، واللّه ما أرى هؤلاء القوم إلا سيغلبون على ما في
أيديكم، وما ذلك يحق في أيديهم، ولكن بطاعتهم واستقامتهم لصاحبهم، ومعصيتكم لي،
وتناصرهم وتخاذلكم، وإصلاح بلادهم وإفساد بلادكم، وتالله يا أهل الكوفة لوعدت إني
صرفتكم صَرْفَ الدنانير العشرة بواحد، ثم رفع يديه، فقال: اللهم إني قد مللتهم
ومَلُّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبْدِلْنِي بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني
اللهم عجل عليهم بالغلام الثَّقَفي الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها
ويحكم فيها بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنها، ولا يتّجاوز عن مسيئها، قال: وما
كان الحجاج ولد يومئذ.
الحجاج يسأل عن النعمة
حدثنا
الجوهري، عن سليمان بن أبي شيخ الواسطي، عن محمد بن يزيد عن سفيان بن حسين، قال:
سأل الحجاج الجوهريَّ: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش،
قال: زدني، قال: الصحة، فإني رأيت السقيم لا ينتفع بعيش، قال: زدني قال: الشباب،
فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش، قال: زدني قال: الغِنَى، فإني رأيت الفقير لا
ينتفع بعيش، قال: زدني، قال: لا أجد مزيداً.
خطبة للحجاج وقد أرجف الناس بموته
حدثنا الجوهري، عن مسلم بن إبراهيم أبي عمرو الفراهيدي، عن الصلت بن دينار، قال:
مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة، فلما تماثل من عِلّته صعد المنبر وهو يتثنى على
أعواده فقال: إن أهل الشقاق والنفاق نفخ الشيطان في مناخرهم فقالوا: مات الحجاج،
ومات الحجاج فَمَه؟ واللهّ ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رضي اللّه الخلود
لأحد من خلقه في الدنيا إلا لأهونهم عليه وهو إبليس، واللّه لقد قال العبد الصالح
سليمان بن داود: ربِّ اغفر وهَبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فكان ذلك، ثم
اضمحلّ فكأنْ لم يكن، يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كإني بكل حي ميتاً، وبكل
رطب يابساً، وقد نقل كل امرىء بثياب ظهره إلى حفرته، فخدَّله في الأرض ثلاث أفرع
طولاً في ذراعين عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومَضَت من صديده ودمه، وانقلب الحبيبان
يقتسم أحدهما صاحبه: حبيبه من ولده يقتسم حبيبه من ماله، أما الذين يعلمون
فسيعلمون ما أقول والسلام.
خطبة للحجاج يهدد ويتوعد
حدثنا المنقري، عن مسلم بن إبراهيم أبي عمرو الفراهيدي عن الصلت بن دينار، قال:
سمعت الحجاج يقول: قال اللّه تعالى: " فاتقوا اللّه ما استطعتم " فهذه
للّه، وفيها مَثْوِية، وقال: " واسمعوا وأطيعوا " وهذه لعبد اللّه
وخليفة اللّه ونجيب اللّه عبد الملك، أما واللّه لو أمر الناس أن يدخلوا في هذا
الشعب فدخلوا في غيره لكانت دماؤهم لي حلالاً، عذيري من أهل هذه الحمراء، يُلْقِي
أحدهم الحجر إلى الأرض ويقول: إلى أن يبلغها يكون فرج اللّه، لأجعلنهم كالرسم
الداثر وكالأمس الغابر، عذيري من عبد هُذَيل يقرأ القرآن كأنه رَجَزُ الأعراب، أما
واللّه لو أدركته لضربت عنقه، يعني عبد اللّه بن مسعود، عذيرى من سليمان بن داود،
يقول لربه رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، كان واللّه فيما علمت
عبداً حسوداً بخيلاً
الحجاج وعبد اللّه بن هانىء
وحدثنا المنقري، عن عبيد بن أبي السري، عن محمد بن هشام بن السائب عن أبيه عن عبد
الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوماً لعبد الله بن هانىء وهو رجل من أود حي من
اليمن، وكان شريفاً في قومه، " قد شهد مع الحجاج مشاهِدهُ كلها، وشهد معه
تحريق البيت، وكان من أنصاره وشيعته: واللهّ ما كافأناك بعد، ثم أرسل إلى أسماء بن
خارجة وكان من فَزَارة أن زوج عبد اللّه بن هانىء ابنتك، فقال: لا واللّه ولا كرامة،
فدعا له بالسياط، فقال: أنا أزوجه، فزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس
اليمانية أن زَوِّج عبد اللّه بن هانىء ابنتك، قال: ومن أود؟ واللّه لا أزوجه ولا
كرامة، قال: هاتوا السيف، قال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا: زوجه لا
يقتلك هذا الفاسق، فزوجه، فقال له الحجاج: يا عبد اللّه، قد زوجتك بنت سيد بني
فزارة وابنة سيد همدان وعظيم كهلان، وما أود هنالك، فقال: لا تَقل أصلح اللّه
الأمير ذلك، فإن لنا مناقب ما هي لأحد من العرب، قال: وما هي هذه المناقب؟ قال: ما
سب أمير المؤمنين عثمان في نادٍ لنا قط، قال: هذه واللّه منقبة، قال وشهد منا
صِفّين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً، وما شهدها مع أبي تراب منا إلا رجل
واحد، وكان واللّه ما علمته امرأ سوء قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما منا أحد
تزوج امرآة تحب أبا تراب ولا تتولاه، قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما منا امرأة
إلا نذرت إن قتل الحسين أن تنحر عشر جزائر لها ففعلت، قال: وهذه واللّه منقبة،
قال: وما منا رجل عرض عليه شَتْم أبي تراب ولَعْنه إلا فعل، وقال وأزيدكم ابنيه
الحسن والحسين وأمهما فاطمة، قال: وهذه واللّه منقبة، قال: وما أحد من العرب له من
الملاحة والصباحة مالنا، وضحك، وكان دميماً شديد الأدمة مجدراً في رأسه أعجر مائل
الشدْقِ أحْوَل قبيح الوجه وحش المنظر.
الحجاج
والشعبي
حدثنا المنقري، عن جعفر بن عمرو الحرضي، عن مجدي بن رجاء قال: سمعت عمران بن مسلمِ
بن أبي بكر الهذلي يقول: سمعت الشعبي يقول: أتى بي الحجاج مُوثَقاَ، فلما دخلت
عليه استقبلني يزيد بن مسلم فقال: إنا للّه يا شعبي على ما بين دفتيك من العلم،
وليس بيوم شفاعة، بُؤْ للأمير بالشرك وبالنفاق على نفسك فبالْحَرَي أن تنجو منه
فلما دخلت عليه استقبلني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما مثلت بين
يدي الحجاج قال: وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر؟ قلت: نعم، أصلح اللّه الأمير،
أحْزَنَ بنا المبرك، وأجدب بنا الجناب وضاق المسلك، واكتحلنا السهاد، واستحلسنا
الخوف، ووقعنا في فتنة لم نكن فيها بَرَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء، قال: صدق،
والله ما بروا بخروجهم علينا، ولا قووا إذ فجروا، أطلقوا عنه، قال الشعبيُّ: ثم
احتاج إلى فريضة، فقال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: عبد اللّه، وزيد، وعلي وعثمان، وابن عباس، قال:
فماذا قال فيها ابن عباس فقد كان متقياً؟ قلت: جعل الجد أباً، وأعطى الأم الثلث،
ولم يعط الأخت شيئاً، قال: فماذا قال فيها عبد اللّه؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى
الأخت النصف، وأعطى الأم السدس، وأعطى الجد الثلث، قال: فما قال فيها زيد؟ قلت:
جعلها من تسعة، فأعطى الأم ثلاثة، وأعطى الأخت سهمين، وأعطى الجد أربعة قال: فما
قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثاً، قال: فما قال فيها أبو تراب؟
قلت: جعلها من ستة، أعطى الأخت النصف، وأعطى الأم الثلث، وأعطى الجد السدس، قال:
فضرب بيده على أنفه، وقال: إنه المرء لا يرغب عن قوله ثم قال للقاضي: أمِرَّها على
مذهب أمير المؤمنين عثمان.
الحجاج يريد الحج
حدثنا المنقري، عن أبي عبد الرحمن العتبي عن أبيه قال: أراد الحجاج الحجِ فخطب
الناس وقال: يا أهل العراق، إني قد استعملت عليكم محمداَ، وبه الرغبة عنكم، أما
إنكم لا تستأهلونه، وقد أوصيته فيكم بخلاف وصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأنصار،
فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم،
ولا يتجاوز عن مسيئكم، أما إني إذا ولَّيْتُ عنكم أعلم أنكم تقولون: لا أحسن اللّه
له في الصحابة، وما منعكم من تعجيله إلا الفراق، وأنا أعجل لكم الجواب، لا أحْسَنَ
اللّه عليكم الخلافة، ثم نزل.
عبيد بن أبي المخارق يتولى عملاً ويطلب المشورة
حدثنا العتبي، عن عبد الغني بن محمد بن جعفر، عن الهيثم بن عدي، عن أبي عبد الرحمن
الكناني، عن ابن عباس الهمداني، عن عبيد بن أبي المخارق، قال: استعملني الحجاج على
الفلوجة فقلت: أههنا دِهْقَان يستعان برأيه؟ فقالوا: جميل بن صهيب، فأرسلت إليه،
فجاءني شيخ كبير قد سقطت حاجباه على عينيه، فقال: أزعجتني وأنا شيخ كبير، فقلت:
أردت يُمْنَك، وبركتك، ومشورتك فأمر بحاجبيه فرفعا بخرقة حرير، وقال: ما حاجتك.
قلت: استعملني الحجاج على الفلوجة وهو ممن لا يؤمن شره، فأشِرْ عَلَيَ، قال: أيما
أحب إليك: رضا الحجاج، أو رضا بيت المال، أو رضا نفسك؟ قلت أحب أن أرضي كل هؤلاء
وأخاف الحجاج فإنه جبار عنيد، قال: فاحفظ عني أربع خلال، افتح بابك، ولا يكن لك
حاجب، فيأتيك الرجل وهو ثقة من لقائك، وهو أجدر أن يخافك عمَالك، وأطل الجلوس لأهل
عملك، فإنه قلما أطال عامل الجلوس إلا هِيبَ مكانه، ولا يختلف حكمك بين الناس،
وليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا يطمع فيك أحد من أهل عملك، ولا تقبل من
أهل عملك هدية، فإن مهديها لا يرضى من ثوابها إلا بأضعافها، مع ما في ذلك من
المقالة القبيحة، ثم اسلخ ما بين أقفيتهم إلى عجوب أذنابهم، فيرضوا عنك، ولا يكون
للحجاج عليك سبيل.
حدث المنقري، عن يوسف بن موسى القطان، عن جرير، عن المغيرة، عن الربيع بن خالد،
قال.: سمعت الحجاج يخطب على المنبر وهو يقول: أخليفة أحدكم في أهله أكْرَمُ عليه
أم رسوله في حاجته؟ فقلت: للّه على أن لا أصلي خلفك صلاة أبداً، ولئن رأيت قوماً
يجاهدونك لأقاتلنك معهم، فقاتل في دير الجماجم حتى قتل.
الغضبان بن القبعثري
حدث
المنقري، عن العتبي، عن أبيه، أن الحجاج وجهَ الغضبان بن القَبَعْثَرَي إلى بلاد
كرمان ليأتيه بخبر ابن الأشعث عند خَلْعه، فَفَضَلَ من عنده، فلما صار ببلاد كرمان
ضرب خباءه ونزل، فإذا هو بأعرابي قد أقبل عليه فقال: السلام عليك، فقال الغضبان:
كلمة مَقُولَة، فقال له الأعرابي: من أين جئت؟ قال: من ورائي، قال: وأين تريد؟
قال: أمامي، قال: وعلامَ جئت؟ قال: على فرسي، قال: وفيم جئت؟ قال: في ثيابي، قال:
أتأذن لي أن أدنوا إليك قال: وراءك أوْسَعً لك، قال: والله ما أريد طعامك ولا
شرابك، قال: لا تُعَرض بهما فواللّه لا تفوقهما، قال: أو ليس عندك إلا ما أرى؟
قال: بل هراوة من أرزن أضرب بها رأسك، قال: إن الرمضاء قد أحرقت قَدَمي، بُلْ
عليهما يبردان، قال: فكيف ترى فرسي هذا؟ قال: أراه خيراً من آخر شر منه وأرى آخر
أفْرَه، قال: قد علمت هذا؟ قال: لو علمته ما سألتني عنه، فتركه الأعرابي، وولّى،
ثم دخل على عبد الرحمن بن الأشعث فقال: ما وراءك يا غضبان؟ قال: الشر، تَغَذَ
بالحجاج قبل أن يتعشى بك، ثم صعد المنبر فخطب بمعايب الحجاج والبراءة منه، ودخل مع
ابن الأشعث في أمره، فلم يلبث إلا قليلاً ثم أسِرَ ابن الأشعث، فأخذ الغضبان فيمن
أسِرَ، فلما أدخل على الحجاج قال: يا غضبان، كيف رأيت بلاد كرمان؟ قال: أصلح اللّه
الأمير، بلاد ماؤها وَشَل، وثمرها دقل، ولصها بطل، والخيل بها ضعاف، وإن كثر الجند
بها جاعوا، وإن قلوا ضاعوا، قال: ألست صاحب الكلمة الخبيثة تَغَذَ بالحجاج قبل أن
يتعشّى بك قال: أصلح اللّه الأمير! ما نفعت من قِيلَتْ له، ولا ضرت من قيلت فيه،
قال: لأقطعًنّ يديك ورجليك من خلاف ثم لأصلبنك، قال: لا أرى الأمير أصلحه اللّه
يفعل ذلك، فأمر به فَقُيِّدَ وألقي في السجن، فأقام به حتى بنى الحجاج خضراء واسط،
فلما استتم بناءها جلس في صحنها، وقال: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: ما بني لخلق
قبلك مثلها، قال: فإن فيها مع ذلك عيباً قهل فيكم مخبري به؟ قال: واللّه لا نَرَى
بها عيباً، فأمر بإحضار الغضبان، فأتى به يَرْسُف في قيوده، فلما دخل عليه قال له
الحجاج: أراك يا غضبان سمينَاَ، قال: أيها الأمير القيد والرتعة، ومن يكن ضَيْفَ
الأمير يسمن، قال: فكيف ترى قبتي هذه؟ قال: أرى قبة ما بني لأحد مثلها إلا أنَّ
بها عيباً، فإن أمنني الأمير أخبرته به، قال: قُلْ أمناً قال: بنيت في غير بلدك
لغير ولدك لاتتمتع به ولاتنعم، فما لما لايتمتع فيه من طيب ولا لذة، قال: ردُّوه
فإنه صاحب الكلمة الخبيثة، قال: أصلح الله الأمير! إن الحديدِ قد أكل لحمي وبَرَى
عظمي، فقال: احملوه، فلما استقَلّ به الرجال قال: " سُبْحَانَ الذِي سَخّر
لنا هذا وما كُنَّا له مُقْرِنِين " قال: أنْزِلوه، فلما استوى على الأرض
قال: " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " قال: جُرُّوه،
فلما جَروه قال: " بسم اللّه مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم " قال:
أطلقوا عنه.
حدث المنقري، عن عبد اللّه بن محمد بن حفص التميمي، عن الحسين بن عيسى الحنفي،
قال: لما هلك بشر بن مروان وولي الحجاج العراق بلغ ذلك أهل العراق، فقام الغضبان
بن القَبَعْثَرَي الشيباني بالمسجد الجامع بالكوفة خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه،
ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الكوفة، إن عبد الملك قد ولّى عليكم مَنْ لا يقبل
من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، الظلوم الغشوم، الحجاج، ألا وإن لكم من عبد الملك
منزلة بما كان منكم من خذلان مُصْعب وقتله، فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق
قاقتلوه، فإن ذلك لا يعدُّ منكم خلعاً، فإنه متى يعلوكم على متن منبركم وصدر سريركم
وقاعة قصركم، ثم قتلتموه عُذ خَلْعاً، فأطيعوني وتغدوا به قبل أن يتعشى بكمِ، فقال
له أهل الكوفة: جبنت يا غضبان، بل ننتظر سيرته، فإن رأينا منكَراً غيرناه، قال:
ستعلمون.
فلما
قدم الحجاج الكوفة بلغته مقالته، فأمر به فحبس، فأقام في حبسه ثلاث سنين، حتى ورد
على الحجاج كتاب من عبد الملك يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية: عشراً من
النجائب، وعشراً من قعد النكاح، وعشراً من ذوات الأحلام؟ فلما نظر إلى الكتاب لم
يدرِ ما وصفه له من الجواري، فعرضه على أصحابه فلم يعرفوه، فقال له بعضهم: أصلح
الله الأمير! ينبغي أن يعرف هذا مَنْ كان في أوليته بدوياً فله معرفة أهل البدو،
ثم غزا فله معرفة أهل الغزو، ثم شرب الشراب فله بَذَاء أهل الشراب، قال: وأين هذا؟
قيل: في حبسك، قال: ومن هو؟ قيل: الغضبان الشيباني، فأحضر، فلما مثل بين يديه قال:
أنت القائل لأهل الكوفة يتغدون بي قبل أن أتعشى بهم، قال: أصلح اللّه الأمير! ما
نفعت من قالها، ولا ضرت من قيلت فيه، قال: إن أمير المؤمنين كتب إليَ كتابَاَ لم
أدر مافيه، فهل عندك شيء منه؟ قال: يقرأعليَّ، فقرىء عليه، فقال: هذا بَيِّن، قال،
وما هو؟ قال، أما النجيبة من النساء فالتي عظمت هامتها، وطال عنقها، وبعد ما بين
منكبيها وثدييها، واتسعت راحتها، وثخنت ركبتها، فهذه إذا جاءت بالولد جاءت به
كالليث العادي وأما قعد النكاح فهنَ ذوات الأعجاز، منكسرات الثدِي كثيرات اللحم،
يقرب بعضهنَ من بعض، فأولئك يشفين القَرِم ويروين الظمآن، وأما ذوالت الأحلام
فبنات خمس وثلاثين إلى الأربعين، فتلك التي تبسه كما يبس الحالب الناقة فتستخرجه
من كل شعر وظفر وعرق؟ قال الحجاج: أخبرني بشر النساء، قال: أصلح اللّه الأمير!
شرهن الصغيرة الرقبة، الحديدة الركبة، السريعة الوَثْبة، الواسطة في نساء الحي،
التي إذا غضبت غضب لها مائة، وإذا سمعت كلمة قالت: لا والله لا انتهي حتى أقرها
قَرَارَهَا، التي في بطنها جارية، وتتبعها جارية، وفي حجرها جارية، قال الحجاج:
على هذه لعنة الله ثم قال: ويحك! فأخبرني بخير النساء، قال: خيرهن القريبة القامة
من السماء، الكثيرة الأخذ من الأرض، الودود الولود، التي في بطنها غلام، وفي حجرها
غلام، ويتبعها غلام، قال: ويحك! فأخبرني بشر الرجال، قال: شرهم السبوط الربوط،
المحمود في حرم الحي، الذي إذا سقط لإِحداهن دلو في بئر انحطّ عليه حتى يخرجه فهن
يجزينه الخير أو يقلن: عافى اللّه فلاناً، قال: على هذا لعنة اللّه فأخبرني بخير
الرجال، قال: خيرهم الذي يقول فيه الشماخ التغلبي:
فتِى ليس بالرًاضِي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتوَلِّج
فتَى يملأ الشَيزَى ويروي سنانَه ... ويضرب في رأس الكمي المدَجَّج
فقال له: حسبك، كما حسبنا عطاءك؟ قال: ثلاث سنين، فأمر له بها وخَلّى سبيله.
وصف البصرة والكوفة
حدث المنقري، عن محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد بن السائب عن أبي عبد اللّه
النخعي، قال: لما فرغ الحجاج من دير الجماجم وفد على عبد الملك ومعه أشراف أهل
المصريْنِ فأدخلهم عليه، فبينما هم عنده يوماً إذ تذاكروا البلدان، فقال محمد بن
عمير بن عطارد: أصلح اللّه الأمير! إن الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة وحرها وعمقها،
وسفلت عن الشام ووبائها وبردها، وجاورها الفرات فعذب ماؤها وطاب ثمرها وقال خالد
بن صفوان الأهتمي: أصلح اللّه الأمير! نحن أوسعِ منهم برية، وأسرع منهم في السرية،
وأكثر منهم قنداً وعاجاً وساجا، ماؤنا صفو وخيرنا عفو لا يخرج من عندنا إلا قائد
وسائق وناعق، فقال الحجاج: أصلح اللّه أمير المؤمنين! إني بالبلديْنِ خبير، وقد
وطئتهما جميعاً، فقال له: قل فأنت عندنا مصدق، قال: أما البصرة فعجوز شمطاء ذفراء
بخراء أوتيت من كل حلى وزينة، وأما الكوفة فشابة حسناء جميلة، لا حلى لها ولا
زينة؟ فقال عبد الملك: فضلت الكوفة على البصرة.
الحجاج يصف الدنيا
حدث المنقري عن عمرو بن الحباب الباهلي، عن إسماعيل بن خالد، قال: سمعت الشعبي
يقول: سمعت الحجاج يتكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، سمعته يقول: أما بعد فإن اللّه
عز وجلّ كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه
البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء فلا يغرنكم شاهد الدنيا من غائب الآخرة،
فطول الأمل يقصر الأجل.
رسول المهلب إلى الحجاج
حدث
المنقري عن سهل بن تمام بن بزيع عن عباد بن حبيب بن المهلب عن أبيه قال: لما قتل
المهلّبُ عبد ربه الصغير بكرمان قال: ائتوني برجل له بيان وعقل ومعرفة أوجهه إلى
الحجاج برؤوس من قتلنا فدلوه على بشربن مالك الجرشي، فلما دخل على الحجاج قال: ما
اسمك؟ قال: بشر بن مالك الجرشي، قال: كيف تركت المهلب؟ قال: تركته صالحاً نال مار
رجا وأمن ما خاف، قال: فكيف فاتكم قَطَري؟ قال: كادنا من حيث كدناه، قال: أفلا
طلبتموه؟ قال: كان فلا، وكان الجد أهم علينا من الفل، قال: أصبتم، فكيف كان بنو
المهلب؟ قال: كانوا أعداء البَيَات حتى يأمنوا، وأصحاب السرُج حتى يردوا، قال:
أجل، فأيهم أفضل؟ قال: ذاك إلى أبيهم أيهم شاء أن يستكفيه أمراً كفاه، قال: إني
أرى لك عقلاً فقل، هم كالحلقة المستوية لا يدرى أين طرفها، قال: أين هم من أبيهم؟
قال: فَضْلُه عليهم كفضلهم على سائر الناس، قال: كيف كان الجند؟ قال: أرضاهم الحق،
وأشبعهم الفضل وكانوا مع وال يقاتل بهم مقاتلة الصعلوك ويسوسهم سياسة الملوك، فله
منهم بر الأولاد، ولهم منه شفقة الوالد، قال: هل كنت هَيَّأْت ما أرى؟ قال: لا
يعلم الغيب إلا اللّه، قال: فالتفت الحجاج إلى عنبسة فقال: هذا الكلام المطبوع لا
الكرم المصنوع.
الحجاج وجرير بن الخطفي
وأخذ الحجاج جرير بن الخَطَفَي، فأراد قتله، فمشي إليه قومه من مضر فقالوا: أصلح
اللّه الأمير! لسان مضر وشاعرها، هَبْهُ لنا، فوهَبَه وكانت هند بنت أسماء زوج
الحجاج ممن طالب به، فقالت للحجاج: أتأْذن لجرير عليَّ يوماً أستنشده من وراء
حجاب؟ فقال لها: نعم، فأمرت بمجلس لها فهيء فجلست فيه والحجاج معها، ثم بعثت إلى
جرير، فدخل عليها يسمع كلامها ولا يراها، فقالت: يا ابن الخطفي، أنشدني ما شببت به
في النساء، فقال لها: ما شببت بامرأة قط، ولا خلق اللّه شيئاً هو أبغض إلي من
النساء، قالت: يا عدو اللّه، وأين قولك:
طرقَتْكَ صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارْجِعِي بسلام
تُجْرِي السواك على أغَر َكأنه ... برد تحدرَمن مُتون غمام
لو كنت صادقة بما حدثتنا ... لوصلت ذاك فكان غيرلمام
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يَرُوم كل مرام
قال: ما قلت هذا، ولكني أنا الذي أقول:
لقدجرّدَ الحجاج للحق سيفه ... ألافاستقيموا، لايميلَنَّ مائل
وما يستوي داعي الضلالة والهدى ... ولا حجةَّ، الخصمين حق وباطل
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
خليليَ لا تستغزرا الدمعَ في هند ... أعيذكما باللّه أن تَجِدَا وَجْدي
ظَمئْتُ إلى شرب الشراب وحسنه ... كذي قربة يرجو هداها وما يجدي
قال لها: ما قلت هذا: ولكني أنا الذي أقول:
ومَنْ يَأْمَنُ الحجاج؟ أما عِقَابه ... فمرٌّ، وأما عَقْدُهُ فَوَثيق
يُسِرُّلك البغضاء كلُّ مُنَافق ... كما كلُّ في بِرٍّ عليك شفيق
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
يا عَاذِلِيً دَعَا الملام وَأقْصِرَا ... طَالَ الهَوَى وأطلتما التفنيدا
إني وَجَدْتُ، ولَوْ أرَدْتُ زيادة ... في الحُبِّ عندي ما وَجَدت مزيداً
فقال: باطل أصلحك اللّه، ولكني أنا الذي أقول:
من سَدّ َمُطَلع النفاق عليهم ... أم من يَصُول كصولة الحجاج؟
أم مَنْ يَغَارعلى النساء حفيظة ... إذلا يثقن بغيرة الأزواج؟
هذا ابن يوسف فافهموا وتفهموا ... بَرِحَ الخفاء وليس حيث يفاجي
فلربَّ ناكث بيعتين تركته ... وخضابُ لحيته دَمُ الأوْدَاج
فقال الحجاج: يا عدو اللّه، تحرض عليَّ النساء؟ فقال: لا والذي أكرمك أيها الأمير،
ما فطنت لهذا البيت قبل ساعتي هذه، وما علمت بمكانك، فأقلني جعلني اللّه فداك،
قال: قد فعلت، فأمرت له هند بجارية وكسوة، وأوفده الحجاج على عبد الملك.
بين الحجاج وأعشى همدان
ولما
انهزم ابن الأشعث بدير الجماجم حلف الحجاج أن لا يُؤتَى بأسيرٍ إلا ضرب عنقه، فأتى
با " سْرَى كثيرة، وكان أول من أتي به أعشى همدان الشاعر وهو أول من خلع عبد
الملك والحجاج بين يدي ابن الأشعث بسجستان، فقال له الحجاج: إيه أنت القائل!
مَنْ مُبْلغ الحجاج إني ... قد جنيت عليه حَرْبَا
وصفقت في كفِّ امرئ ... جَلْدٍ إذا ما الأمرعُبَّى
أنت الرئيس ابن الرئيس ... وأنت أعلى الناس كعبا
فابعث عطية بالخيو ... ل يكبُّهُنَّ عليه كَبَّا
وانهض هُديت لعله ... يجلوبك الرحمن كَرْبَا
نُبَئْتُ أن بُنيَّ يُو ... سفَ خرمن زَلَقٍ فَتَبا
وهي أبيات، وأنت القائل:
شطت نوى مَنْ دَارُهُ الإِيوان ... إيوان كِسْرَى ذي القرى وَالرَّيحَانْ
من عاشق أمْسَى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكَذَّابَانْ
كَذَّابُهَا الماضي وكَذّاب ثَان ... أمكن ربي من ثقيف هَمْدَانْ
يَوْماً من الليل يسلي ما كَان
وأنت القائل:
وسألتماني المجد أيْنَ محلُّه ... فالمجد بين محمد وسعيد
بين الأشَجِّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولود
قال: لا، ولكني الذي أقول:
أتى الله إلا أن يتمم نَوره ... وَيُطْفِىء َنَورالفقعتين فيخمدا
وينزل ذُلأ بالعراق وأهله ... بما نَقَضوا العهد الوثيق المؤكدا
وما أحْدَثُوا من بدعة وضَلاَلَة ... من القول لم يصعد إلى الله مصعدا
قال: لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلته تأسفاً على أن تكون ظفرت وظهرت،
وتحريضاً لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألتك أخبرني عن قولك:
أمكن ربي من ثقيف هَمْدَان ... يَوْماً من الليل يسلي ماكان
فكيف ترى الله أمكن ثفيفاً من هَمْدان، ولم يمكن همدان من ثقيف؟ وعن قولك:
بين الأشَجِّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولُود
والله لا تبخبخ لأحد بعدها، وأمَرَ به فضربت عُنقه.
ولم يزل يؤتى برجل رجل حتى أتى برجل من ابني عامر، وكان من فرسان دير الجماجم مع
ابن الأشعث، فقال له: واللّه لأقتلنك شر قتله قال: والله ما ذلك لك، قال: ولمَ؟
قال: لأن اللّه يقول في كتابه العزيز: " فإذا لقيتم الذين كَفَرُوا فَضَرْبَ
الرقَاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب
أوزارها " ، وأنت قد قتلت فأثخنت، وأسرت فأوثقت فإما أن تمن علينا أو تفدينا
عشائرنا، فقال له الحجاج: أكَفَرْتَ؟ قال: نعم، وغيرْتُ وبَدَّلْتُ، قال خلوا
سبيله.
ثم أتي برجل من ثقيف فقال له الحجاج: أكفرت. قال: نعم، قال له الحجاج: لكن هذا
الذي خَلْفك لم يكفر، وخَلْفه رجل من السَّكُون فقال السكُوني: أعن نفسي تخادعني؟
بل والله ولو كان شيء أشد من الكفر لبؤت به، فخلّى سبيلهما.
فهذه جمل من أخبار عبد الملك والحجاج، وقد أتينا على مبسوط هذه الأخبار ممّا لم
نورده في هذا الكتاب في كتابينا أخبار الزمان والأوسط التالي له الذي كتابُنَا هذا
تاليه، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب من أخبار الحجاج لمعاً، على حسب ما قدمنا من
الشرط فيما سَلَفَ من هذا الكتاب، وبالله العون والقوة.
ذكر أيام الوليد بن عبد الملك
وبويع الوليد بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وتوفي الوليد
بدمشق للنصف من جمادي الآخرة من سنة ست وتسعين؟ فكانت ولايته تسع سنين وثمانية
أشهر وليلتين، وهلك وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكان يكنى بأبي العباس.
ذكر لمع من أخباره وسيره
وما كان من الحجاج في أيامه
خلق الوليد وولده
كان
الوليد جباراً عنيداً، ظَلُوماً ضلوماً غشوماً، وخلف من الولد أربعة عشر ذكراً،
منهم يزيد، وعمرو، وبشر العالم، والعباس، وكان يدعى فارسِ بني مروان لشهامته، فعدل
الوليد بالأمر عن ولده بعده أتباعاً لوصية عبد الملك على حسب ما رتبها، وكان نقش خاتمه
يا وليد إنك ميت فكان كلما هَم أن يجعل الأمر لولده قلب الفص وقرأ إنك ميت فيقول:
لأها الله، لا خالفت ما أمرني به أبي، إني لميت.
بناء مسجد دمشق والمدينة
وفي سنة سبع وثمانين ابتدأ الوليد ببناء المسجد الجامع بدمشق وبناء مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم فأنفق عليهما الأموال الجليلة، وكان المتولي للنفقة على ذلك
عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه تعالى.
وحكي عثمان بن مرة الخولاني قال: لما ابتدأ الوليد ببناء مسجد دمشق وجد في حائط
المسجد لوحاً من حجارة فيه كتابة باليونانية، فعرض على جماعة من أهل الكتاب، فلم
يقدروا على قراءته، فوجهَ به إلى وهب بن منبِه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن
داود عليهما السلام، فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا ابن آدم، لو
عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك،
وإنما تلقى ندمك، إذا زَلَّتَ بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك وانصرف عنك الحبيب،
وَوَدّعَكَ القريب، تم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك
زائد، فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكَظْم،
ويحال بينك وبين العمل، وكتب زَمَنَ سليمان بن داود، فأمر الوليد أن يكَتب بالذهب
على اللازورد في حائط المسجد، ربُّنَا اللّه، لا نعبد إلا اللّه، أمر ببناء هذا
المسجد، وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدُ اللّه الوليدُ أميرُ المؤمنين في ذي
الحجة سنة سبع وثمانين، وهذا الكلام مكتوب بالذهب في مسجد دمشق إلى وقتنا هذا، وهو
سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
بين الوليد والحجاج
ووفد الحجاج بن يوسف على الوليد، فوجده في بعض نُزَهه، فاستقبله، فلما رآه ترجلَ
له، وقَبّلَ يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية، فقال له الوليد: اركب يا
أبا محمد، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن
الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضل في غلالة،
ثم أذن للحجاج فدخل عليه في حالة تلك وأطال الجلوس عنده، فبينما هو يحادثه إذ جاءت
جارية فسارَّتِ الوليد ومضت، ثم عادت فسارته ثم انصرفت، فقال الوليد للحجاج: أتدري
ما قالت هذه يا أبا محمد. قال: لا واللّه، قال: بعثتْهَا إليَ ابنةُ عمي أمُّ
البنين بنتُ عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلَّح في السلاح وأنت
في غلالة، فأرسلتُ إليها إنه الحجاج، فراعها ذلك، وقالت: واللّه ما أحب أن يخلو بك
وقد قتل الخلق، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول،
فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك، ولا مكايدة عدوك، ولا
تُطِعْهن في غير أنفسهن، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن في الأمور
فإن رأيهن إلى وهن، وعزمَهُنّ إلى وهنٍ، وأكفف عليهن من أبصارهن بُحجبك، ولا تملكَ
الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل
الجلوس معهن والخلوة بهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْيَنُ لفضلك، ثم نهض الحجاج
فخرج.
بين الحجاج وأم البنين
ودخل
الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين أحِبُّ أن
تأمره غداً بالتسليم عليَّ، فقال: أفعل، فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا
أبا محمد، سِرْ إلى أم البنين فسلم عليها، فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين،
فقال: لا بد من ذلك، فمضى الحجاج إليها، فحجبته طويلا، ثم أذنت له فأقرته قائماً،
ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتَنُّ على أمير المؤمنين
بقتل ابن الزبير وابن الأشعث، أما واللهّ لولا أن اللهّ جعلك أهْوَنَ خلقه ما
ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النِّطَاقين، وأول مولود ولد في الإسلام، وأما
ابن الأشعث فقد واللهّ والى عليك الهزائم، حتى لُذْتَ بأمير المؤمنين عبد الملك
فأغاثك بأهل الشام وأنت في أضيق من القرن، فأظَلَّتْك رماحهم، وأنجاك كفاحهم
وطالما نقض نساء أمير المؤمنين المسك من غدائرهن وبعنَه في الأسواق في أرزاق
البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذل من النَّقَدِ، وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين
من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه فإن كنَّ ينفرجن عن مثل ما
انفرجَتْ به عنك امُّك فما أحَقَّه بالأخذ عنك والقبول منك، وإن كن ينفرجن عن مثل
أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مُصْغٍ إلى نصيحتك، قاتل اللّه الشاعر وقد
نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:
أسَدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة ... فزعاء تفزع من صفير الصافر
هلا بَرَزْتَ إلى غزالة في الوغى ... بل كَان قلبك في جناحَيْ طائر
ثم قالت لجواريها أخْرِجْنَهُ عني، فدخل إلى الوليد في فَوْره، فقال: له: يا أبا
محمد ما كنت فيه. فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض
أحَبَ إلي من ظاهرها، فضحك الوليد حتى فحص برجله، ثم قال: يا أبا محمد، إنها بنت
عبد العزيز.
ولأم البنين هذه أخبار كثيرة في الجود وغيره، وقد أتينا على ذكرها في غير هذا
الكتاب.
موت علي بن الحسين السجاد
وفي سنة خمس وتسعين قبض علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ملك الوليد، ودفن
بالمدينة في بقيع الغَرْقَدِ مع عمه الحسن بن علي، وهو ابن سبع وخمسين سنة، ويقال:
إنه قبض سنة أربع وتسعين، وكل عقب الحسين من علي بن الحسين هذا وهو السجاد على ما
ذكرنا، وذو الثفنات، وزين العابدين.
موت عبد الملك بن مروان
وذكر المدائني قال: دخل الوليد على أبيه عبد الملك عند وفاته، فجعل يبكي عليه
وقال: كيف أصبح أمير المؤمنين. فقال عبد الملك:
ومشتغلٍ عنا يريد بنا الردى ... ومستعبرات والعيون سواجم
أشار بالمصراع الأول إلى الوليد، ثم حَوَّل وجهه عنه، وأشار بالمصراع الثاني إلى
نسائه، وهن المستعبرات.
وذكر العتبي وغيره من الأخباريين أن عبد الملك لما سأله الوليد عن خبره وهو يجود
بنفسه أنشأ يقول:
كما عائد رجلاًوليس يعوده ... إلا لينظر هل يراه يموت
وصية عبد الملك عند موته
وقيل: إن عبد الملك نظر إلى الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه فقال: يا هذا، أحنين
الحمامة؟ إذا أنا متُّ فشمر واتزر، والبس جلد نمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبى
ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا فقال:
إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنا منك لفي غرور، ثم أقبل على جميع ولده
فقال: أوصيكم بتقوى اللّه فإنها عِصْمة باقية، وجُنَة واقية، فالتقوى خير زاد،
وأفضل في المعاد، وهي أحصن كهف، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق
الكبير، مع سلامة الصدور، والأخْذِ بجميل الأمور، وإياكم والبغي والتحاسد، فبهما
هلك الملوك الماضون، وذوو العز المكين، يا بني، أخوكم مسلمة نابكم الذي تفترّون
عنه، ومَجِنُكم الذي تستجنون به، اصدُروا عن رأيه، وأكرموا الحجاج، فإنه الذي
وطّألكمِ هذا الأمر، وكونوا أولاداً أبراراً، وفي الحروب أحراراً، وللمعروف
مناراَ، وعليكم السلام.
وسأله
بعض شيوخ بني أمية - وقد فرغ من وصية أولاده هذه - قال: كيف تجدك يا أمير
المؤمنين؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: " ولقد جئتمونا فُرَاس كما خلقناكم
أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " إلى قوله " وما كنتم تزعمون
" فكان هذا أخر كلام سمع منه.
فلما قضى سَجَّاه الوليد، ثم صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لم أر
مثلها مصيبة، ولا مثلها نعمة، فقدت الخليفة، وتقلدت الخلافة، فإنا للّه وإنا إليه
راجعون على المصيبة، والحمد للّه رب العالمين على النعمة، ثم دعا الناس إلى بيعته
فبايعوا، ولم يتخلّف عليه أحد.
موت عبيد اللّه بن العباس
ومات في أيام الوليد عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، وذلك في سنة سبع
وثمانين، وكان جواداً كريماً، وذكر أن سائلاً وقف عليه فقال له: تصدق مما رزقك
الله ة فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه، فقال:
وأين أنا من عبيد اللّه، قال له: وأين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال. قال:
فيهما جميعاً، قال: إن الحسب في الرجل مروءته وحسن فعله، فإذا فعلت ذلك كنت
حسيباً، فأعطاه الذي درهم واعتذر إليه، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت
خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفاً أيضاً، فقال: لئن كنت
عبيد اللّه إنك لأسمح أهل دهرك، وما إخالك إلا من رَهْطٍ فيهم محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأسألك بالله أنت هو؟ قال: نعم، قال: واللّه ما أخطات إلا باعتراض
الشك بين جوانحي، وإلا فهذه الصورة الجميلة والهيئة المنيرة لا تكون إلا في نبي أو
عترة نبي.
وذكر أن معاوية وصله بخمسمائة ألف درهم، ثم وجه له من يتعرف له خبره، فانصرف إليه
فأعلمه أنه قسمها في سُماره وإخوانه حصصاً بالسوية، وأبقى لنفسه مثل نصيب أحدهم،
فقال معاوية: إن ذلك ليسوءني وشمرني، فأما الذي يسرني فإن عبد مناف والده، وأما
الذي يسوءني فقرابته من أبي تراب دوني.
قال المسعودي: وقد قدمنا خبر مقتل ابني عبيد الله فيما سلف من هذا الكتاب، وهما
عبد الرحمن وقُثَم، وما رثتهما به أمهما أمَّ حكيم جويرية بنت قارط بن خالد
الكنانية.
عبيد اللّه بن العباس وبسر بن أرطاة
وقد كان عبيد اللّه بن العباس دخل يوماً على معاوية وعنده قاتلُهما بُسْرُ ابن
أرْطَاةَ العامري، فقال له عبيد اللّه: أيها الشيخ أنت قاتل الصبيين. قال: نعم،
قال: واللّه لوددت أن الأرض أنبتتنى عندك يومئذِ، فقال له بُسْرٌ : فقد أنبتتك الساعة،
فقال عبيد اللّه: ألا سيف، فقال بُسْرٌ : هاك سيفي، فلما هوى عبيد اللهّ إلى السيف
ليتناوله قبض معاوية ومَنْ حضره على يد عبيد اللهّ قبل أن يقبض على السيف، ثم أقبل
معاوية على بُسْرٍ فقال: أخزاك اللّه من شيخ! قد كبرت وذُهِل عقلك، تعمد إلى رجل
موتور من بني هاشم فتدفع إليه سَيْفَكَ، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، واللهّ
لوتمكن من السيف لبدأ بنا قبلك، قال عبيد اللهّ: ذلك واللّه أردت.
وكان علي عليه السلام - حين أتاه خبر قتل بُسْرٍ لابني عبيد اللّه قُثَمَ وعبد
الرحمن - دعا على بسر، فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله، فخرف الشيخ حتى ذًهِل عقله،
واشتهر بالسيف فكان لا يفارقه، فجعل له سيف من خشب، وجعل بين يديه زق منفوح يضربه،
وكلما تخرق أبدل، فلم يزل يضرب ذلك الزق بذلك السيف، حتى مات ذاهل العقل يلعب
بخرئه، وربما كان يتناول منه ثم يقبل على مَنْ يراه فيقول: انظروا كيف يطعمني هذان
الغلامان ابنا عبيد الله، وكان ربما شدت يداه إلى وراء منعاً من ذلك فأنجى ذات يوم
في مكانه، ثم أهوى بفيه فتناول منه، فبادروا إلى منعه، فقال: أنتم تمنعونني وعبدُ
الرحمن وقثَم يطعمانني، ومات بسر في أيام الوليد بن عبد الملك سنة ست وثمانين.
موت عبد اللّه بن عتبة بن مسعود الهذلي
وفيها
مات عبد اللهّ بن عتبة بن مسعود الهذلي، وعتبة مهاجر، وهو أخو عبد اللّه بن مسعود
بن غافل بن حبيب بن سمح بن مخزوم بن صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل
بن محركة بن الياس بن مضربن نزار، وكانت الرياسة في الجاهلية في صبح بن كاهل بن
الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وكان عبيد اللّه ولد عبد الله بن عتبة من كبار أهل
العلم، وذكر ابن أبي خيثمة قال: سمت ابن الأصبهاني يقول: قال سفيان: قال الزهري:
كنت آظن إني نلت من العلم، حتى جالست عبيد اللّه بن عبد الله فكأنما هو البحر.
مقتل سعيد بن جبير
وفي سنة أربع وتسعين قَتَلَ الحجاجُ سعيدَ بن جُبَيْرٍ، فذكر عون بن أبي راشد
العبدي قال: لما ظفر الحجاج بسعيد بن جبير وأوصل إليه قال له: ما اسمك. قال: اسمي
سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير. قال: أبي كان أعلم باسمي منك، قال: لقد شقيت
وشقي أبوك، قال له: الغيب إنما يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال:
لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك، قال: فما قولك في الخلفاء، قال: لست
عليهم بوكيل، قال: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك، قال: بل اختر يا شقي لنفسك،
فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الاخر بمثلها، فأمر به الحجاج، فأخرج
ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على
اللّه وحلم الله عنك، فأمر به فذبح، فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا
اللّه وحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم قال:
اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي، فذبح واحتز رأسه.
ولم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة حتى وقعت في جوف الأكلة فمات من ذلك، ويروى
أنه كان يقول بعد قتل سعيد: يا قوم مالي ولسيعد بن جبير، كلما عزمت على النوم أخذ
بحلقي.
بين الوليد وأخيه سليمان
واشتكى الوليد، فبلغه عن أخيه سليمان ثمن لموته لما له من العهد بعده، فكتب إليه
الوليد يعتب عليه الذي بلغه، وكتب في آخر كتابه هذه الأبيات:
تمنى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأ وْحَد
لعلَّ الذي يرجو فنائي ويدعي ... به قبل موتي أن يكون هو الردي
فما موت مَنْ قد مات قبلي بضائري ... ولاعيش من قدعاش بعدي بمُخْلِدِي
فقل للذي يرجو خلاف الذي مضى: ... تَزوَدْ لأخْرَى غيرها فكأنْ قَد
منيته تجري لوقت، وَحتفه ... سيلحقه يوماً على غير مَوْعِدِ
فأجابه سليمان: فهمْتُ ما قال أمير المؤمنين، واللهّ لئن كنت تمنيت ذلك لما يخطر
بالبال إني لأول لاحِقٍ به ومنعيّ إلى أهله، فعلام أتمنى زوال مدة لا يلبثَ
متمنيها إلا بقدر ما يحل السفر بمنزل ثم يظعنون عنه. وقد بلغ أميرَ المؤمنين ما لم
يظهر من لفظي، ولا يرى من لحظي، ومتى سمع أمير المؤمنين من أهل النميمة، ومن ليست
له روية أوشك أن يسرع في فساد النيات، ويقطع بين ذوي الأرحام والقرابات، وكتب في
أسفل الكتاب:
ومن لايغمِّضْ عينه عن صديقه ... وعن بعض مافيه يَمُتْ وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ... يَجِدْهَا ولم يسلم لهُ الدهر صاحب
فكتب إليه الوليد: ما أحسن ما اعتذرت به، وحذوت عليه، وأنت الصادق في المقال،
والكامل في الفعال، وما شيء أشبه بك من اعتذارك، ولا أبعد مما قيل فيك، والسلام:
وكان الوليد متحنناً على إخوته، مراعياً لسائر ما أوصاه به عبد الملك، وكان كثير
الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب إليه بوصيته منها:
انفُوا الضغائن عنكُمُ وعليكم ... عند المغيب وفي حضور المشهدِ
فصلح ذات البين طولُ بقائكم ... إن مُدَّ في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهرألَّفَ بينكم ... بتواصل وتراحم وتودُّد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... بمسوَّدٍ منكمِ وغير مسود
إن القداح إذا اجتمعن فَرَامَهَا ... بالكسر ذو حَنقٍ وَبَطْش باليد
عَزَّتْ فلم تكسر، وإن هي بدِّدت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
وصية عبد الملك لأولاده
وكان
عبد الملك مواظباً على حث أولاده على اصطناع المعروف، وبعثهم على مكارم الأخلاق،
وقال لهم: يا بني عبد الملك، أحسابكم أحسابكم، صونوها ببذل أموالكم، فما يبالي رجل
منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى:
تبيتون في المَشْتَى مِلاَء بطونكم ... وجاراتكم غَرْثَى يبتن خمائصا
وما يبالي قوم ما قيل فيهم من المدح بعد قول زهير :
على مكثريهم حَقُّ من يعتريهم ... وعند المقلين السماحةُ والبذُل
حدث عبد اللهّ بن إسحاق بن سلام، عن محمد بن حبيب، قال: صعد الوليد المنبر فسمع
صوت ناقوس فقال: ما هذا؟ قيل: البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده، فتتابع
الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها مَنْ كان قبلك،
فإن يكون أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: مَنْ يجيبة فقال
الفرزدق: أنا، فكتب إليه " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم
القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلماً.
موت الحجاج
ومات الحجاج في سنة خمس وتسعين، وهو ابن أربع وخمسين له بواسط العراق، وكان
تأمُّرُهُ على الناس عشرين سنة، وأحصى من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه
فوجد مائة وعشرين ألفاً، ومات وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن
ستة عشر ألف مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر
يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء وكان له غير ذلك من
العذاب ما أتينا علي وصفه في الكتاب الأوسط.
وذكر أنه ركب يوماً يريد الجمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا، فقيل له: المحبوسون
يضجون ويشكون ما هم فيه من البلاء، فالتفت، ناحيتهم وقال: اخسأوا فيها ولا تكلمون
فيقال: إنه مات في تلك الجمعة، ولم يركب بعد تلك الركبة.
قال المسعودي: ووجدت في كتاب عيون البلاغات مما اختبر من كلام الحجاج قوله: ما
سلبت نعمة إلا بكفرها، ولا نَمَتْ إلا بشكرها. وقد كان الحجاج تزوج إلى عبد اللّه
بن جعفر بن أبي طالب - حين أمْلَقَ عبدُ اللّه وافتقر، وقد ذكرنا في كتابنا أخبار
الزمان الخبر في ذلك وتهنئة ابن القَرِّية الحاج بذلك.
موت عبد اللّه بن جعفر
وقد كان عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب من الجود بالموضع المعروف، ولما قل مالُه
سمع يوم الجمعة في المسجد الجامع وهو يقول: اللهم إنك قد عودتني عادة فعودتُهَا
عبادكَ، فإن قطعتها عني فلا تبقني، فمات في تلك الجمعة، وذلك في أيام عبد الملك بن
مروان وصلى عليه أبان بن عثمان بمكة، وقيل: بالمدينة، وهي السنة التي كان بها
السيل الجحاف الذي بلغ الركن وذهب بكثير من الحجاج.
وفي هذه السنة كان الطاعون العامُّ بالعراق والشام ومصر والجزيرة والحجاز وهي سنة
ثمانين.
وقبض عبد اللّه بن جعفر وهو ابن سبع وستين، وولد بالحبشة حين هاجر جعفر إلى هنالك،
وقيل: إن مولده كان في السنة التي قبض فيها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل غير
ذلك.
وذكر
المبرد والمدائني والعتبي وغيرهم من الأخباريين أن عبد اللّه عوتب على كثرة
إفضاله، فقال: إن اللّه تعالى عًوّدني أن يُفْضِل عليَّ، وعودته أن أفضل على
عباده، فأكره أن أقطع العادة عنهم فيقطع العادة عني ووفد عبد اللّه على معاوية،
بدمشق، فعلم به عمرو بن العاص قبل دخوله دمشق، أخبره بذلك مولىً له كان سار مع ابن
جعفر من الحجاز فتقدّمه بمرحلتين إلى دمشق، فدخل عمرو على معاوية وعنده جماعة من
قريش من بني هاشم وغيرهم: منهم عبد اللّه بن الحارث بن عبد المطلب، فقال عمرو: قد
أتاكم رجل كثير الخلوات بالتمِّني، والطرقات بالتغنِّي، آخذ للسلف، منقاد بالسرف،
فغضب عبد الله بن الحارث، وقال لعمرو: كذبت وأهْلُ ذلك أنت، ليس عبد اللّه كما
ذكرت، ولكنه لله ذَكُور، ولبلائه شَكُور، وعن الخنانَفُور، ما جد مهذب كريم سيد
حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حَصِر ولا هياب، ولا فَحاش ولا سَبَّاب
كالهِزَبْر الضِّرْغام، الجريء المقدام، والسيف الصمصام، والحب القمقام، وليس كمن
اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب علب جَزَارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها
منصباً، يلوذ منها بذليل، ويأوى، إلى قليل، وليت شعري بأي حسب تتناول. أو بأي قدم
تتعرض. غير أنك تعلو بغبر أركانك، وتتكلم بغير لسانك، ولقد كان أبر في الحكم وأبين
في الفَضْل، أن يكفَّكَ ابن أبي سفيان عن ولوعك بأعراض قريش وأن يكعمك كعام الضبع
في وجارها، ولست لأعراضها بوفي، لأحسابها بكفي، وقد أتيح لك ضَيْغم شَرِس، للأقران
مختلس وللأرواح مفترس، فهمَّ عمرو أن يتكلم، فمنعه معاوية من ذلك، وقال عبد اللّه
بن الحارث: لا يُبْقِ المرء إلا على نفسه، واللهّ إن لساني لحديد وإن جوابي لعتيد،
وإن قولي لسديد، وإن أنصاري لشُهُود، فقام معاوية وتفرق القوم.
ولعبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب أخبار حسان في الجود والكرم وغير ذلك من المناقب،
وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما كان تزوج الحجاج
إليه يبتذل بذلك آل أبي طالب.
كتاب من عبد الملك إلى الحجاج لم يفهمه
وكتب الحجاج إلى عبد الملك يغلظ له أمر الخوارج مع قَطَرِي، فكتب إليه: أما بعد،
فإني أحمد إليك السيف، وأوصيك بما أوصى به البكري زيداً، فلم يفهم الحجاج ما عَنَاه
عبد الملك، وقال: مَنْ جاء بتفسير ما أوصى به البكري زيداً فله عشرة آلاف درهم،
فورد رجل منِ الحجاز يتظلَّم من بعض عماله، فقيل له: أتعلم ما أوصى به البكري
زيداَ، قال: نعم، قالوا: فأت الحجاج به ولك عشرة آلاف درهم، فأتاه فأحضره، فقال:
أوصاه بأن قال:
أقول لزيد لا تُبَربر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أوقتلي
فإن وَضَعُوا حرباً فًضَعْهَا، وإن أبوا ... فشُبً وَقُودَ الحرب بالحطب الجزل
وإن عًضَتِ الحرب الضّرُوس بنابها ... فعرضة حد السيف مثلك أو مثلي
فقال الحجاج: صدق أمير المؤمنين وصدق البكري.
كتاب من الحجاج إلى المهلب
وكتب إلى المهلب: إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيداً، وأنا أوصيك
به وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه، فأتى المهلب بوصيته فإذا فيها: يا بَنِيَّ،
كونوا جميعاً ولا تكونوا شَتَّى فتفرقوا، وبروا قبل أن تبروا، فموت في قوة وعزّ،
خير من حياة في ذل وعجز، فقال المهلب: صدق البكري والحارث بن كعب.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج: جَنّبنِي دماء آل أبي طالب، فإني رأيت الملك استوحش من
آل حرب حين سفكوا دماءهم، فكان الحجاج يتجنبها خوفاً من زوال الملك عنهم، لا خوفاً
من الخالق عز وجل.
ليلى الأخيلية والحجاج
ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فقالت: أصلح اللّه الأمير، أتيت لإخلاف النجوم،
وقلة الغيوم، وكَلَبِ البرد، وشدة الجَهْد، قال: فأخبريني عن الأرض، قالت: الأرض
مقشعرة، والفجاج مغبرة، والمقتر مقل، وذو العيال مختل، والبائس معتل، والناس
مُسْنِتُونَ، رَحْمَةَ الله يرجون، قال: أي النساء تختارين تنزلين عندها؟ قالت:
سَمِّهن لي، قال: عندي هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، فاختارتها فدخلت
عليها، فصَبتْ حليها عليها حتى أثقلها، لاختيارها إياها ودخولها عليها دون مَنْ
سواها.
ابن عمر للحجاج يطلب منه أن يوليه
فيمتحنه
فيوليه فينجح
حدثنا المنقري قال: حدثنا العتبي، عن أبيه، قال: قدم على الحجاج ابن عم له أعرابي
من البادية فنظر إليه يُولِّي الناس، فقال له: أيها الأمير، لم لا توليني بعض هذا
الحضر. - فقال الحجاج: هؤلاء يكتبون ويحسبون وأنت لا تحسب ولا تكتب، فغضب الأعرابي
وقال: بلى إني واللّه لأحْسَبُ منهم حسباً، وأكتب منهم يداً، فقال له الحجاج: فإن
كان تزعم فاقسم ثلاثة دراهم بين أربعة أنفس، فما زال يقول: ثلاثة دراهم بين أربعة،
ثلاثة بين أربعة، لكل واحد منهم درهم يبقى الرابع بلا شيء، كم هم أيها الأمير.
قال: هم أربعة، قال: نعم أيها الأمير، قد وقفت على الحساب، لكل واحد منهم درهم،
وأنا أعطي الرابع منهم درهماً من عندي وضرب بيده إلى تكته فاستخرج منها درهماً،
وقال: أيكم الرابع فلاها اللّه ما رأيت كاليوم زوراً مثل حساب هؤلاء الحضريين،
فضحك الحجاج ومَنْ معه، وذهب بهم الضحك كل مذهب، ثم قال الحجاج: إن أهل إصبهان
كسروا خَرَاجهم ثلاث سنين، كلما أتاهم وال أعجزوه، فلأرمينهم ببدوية هذا وعنجهيته،
فأخْلِقْ به أن ينجب، فكتب له عهده على أصبهان، فلما خرج استقبله أهل إصبهان
واستبشروا به، وأقبلوا عليه يقبلون يده ورجله، وقد استغمروه، وقالوا: أعرابي بدوي
ماذا يكون منه فلما أكثروا عليه قال: أعينوا عَلَى أنفسكم وتقبيلكم أطرافي
وأخِّرُوا عني هذه الهيآت، أما يشغلكم ما أخرجني له الأمير. فلما استقر في داره
بأصبهان جمع أهلها فقال لهم: ما لكم تَعْصُونَ ربكم وتغضبون أميركم وتنقصون
خراجكم. فقال قائلهم: جَوْر مَنْ كان قبلك، وظلم من ظلم، قال: فما الأمر الذي فيه
صلاحكم، فقالوا: تؤخرنا بالخراج ثمانية أشهر ونجمعه لك، قال: لكم عشرة وتأتوني
بعشرة ضمناء يضمنون، فأتوه بهم، فلما توثقَ منهم أمهلهم، فلما قرب الوقت رآهم غير
مكترثين لما يدنو من الأجل، فقال لهم، فلم ينتفع بقوله، فلما طال به ذلك جمع
الضمناء وقال لهم: المال، فقالوا: أصابنا من الآفة ما نقض ذلك، فلما رأى ذلك منهم
آلى أن لا يفطر - وكان في شهر رمضان - حتى يجمع ماله أو يضرب أعناقهم، ثم قَدَّم
أحدهم فضرب عنقه، وكتب عليه فلان بن فلان أدى ما عليه، وجعل رأسه في بدرة وختم
عليها، ثم قَدَّم الثاني ففعل به مثل ذلك، فلما رأى القوم الرؤوس تبذر وتجعل في
الأكياس بدلاً من البدرِ قالوا: أيها الأمير، توقّفْ علينا حتى نحضر لك المال
ففعل، فأَحضروه في أسرع وقت، فبلغ ذلك الحجاج، فقال: إنا معاشر آل محمد - يعنى
جَده - ولدنا نجيب، فكيف رأيتم فراستي في الأعرابي. ولم يزل عليها والياً حتى مات
الحجاج.
إبراهيم التميمي في سجن الحجاج:
وحبس الحجاج إبراهيم التميمي بواسط، فلما دخل السجن وقف على مكان مشرف ونادى بأعلى
صوته: يا أهل بلاء اللّه في عافيته، ويا أهل عافية اللّه في بلائه، أصبروا، فنادوه
جميعاً. لبيك، لبيك، ومات في حبس الحجاج، وإنما كان الحجاج طلب إبراهيم النخعي
فنجا، ووقع إبراهيم التميمي.
وحكي عن الأعمش قال: قلت لإِبراهيم النخعي: أين كنت حين طلبك الحجاج. فقال: بحيث
يقول الشاعر:
عَوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عَوَى ... وَصَوَّتَ إنسان فكذبت أطِير
الحجاج يسأل ابن القرية عن النساء
حدثنا الدمشقي الأموي أحمد بن سعيد وغيره، عن الزبير بن بكار،عن محمد بن سلام
الحجمي الجمحي، وحدثنا الفضل بن الحباب الجمحى عن محمد بن سَلاّم قال: سأل الحجاج
ابن القَرِّيّة: أيّ النساء أحمد، قال: التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويسعى
لها مع الغلمان غلام، قال: فأيّ النساء شَر. قال: الشديدة الأذى الكثيرة
الشَّكْوَى، المخالفة لما تهوى، فقال: أيّ النساء أعجب إليك. قال: الشفاء العطبول،
المنعاج الكسول، التي لم يَشِنْهَا قصر ولا طول، قال: فأيّ النساء أبغض إليك. قال:
الرعينة القصيرة، الباهق الشريرة، قال: فأخبرني عن أفضل النساء مَخْبراً وأطيبهن
أعطافاً، قال: أفضل النساء الغَضّة البَضّة، التي أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب،
اللَّعْسَاء الورهاء، التي لم تذهب طولاً في إنحطاط، ولم تلصق قصراً في
إفراط،
الجَعدة الغدائر، السَّبْطَة الضفائر، الضخمة المآكم، الطَّفْلَة البراجم، إذا
رأيت أناملها شبهتها بالمداري، وإذا قامت خلتها سارية من السواري، فتلك تهيج
المشتاق، وتُحيي العاشق بالعناق.
قال المسعودي: وللوليد بن عبد الملك أخبار حسان لما كان في أيامه من الكوائن
والحروب، وكذلك الحجاج، وقد أتينا على كَثير من مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان
والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب ما لم نورده في ذَيْنِك الكتابين، كما أن ما
ذكرناه في الكتاب الأوسط هو ما لم نورده في كتاب أخبار الزمان والله أعلم.
ذكر أيام سليمان بن عبد الملك
وبويع سليمان بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي كانت فيه وفاة الوليد، وذلك يوم
السبت للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وتسعين من الهجرة، وتوفي سليمان بمرج دَابِقٍ
من أعمال جند قنسرين يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت ولايته
سنتين وثمانية أشهر وخمس ليالٍ، وهلك وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وعهد إلى عمر بن
عبد العزيز، وقيل: إن وفاة سليمان كانت يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من صفر سنة تسع
وتسعين، وإن ولايته سنتان وتسعة أشهر وثمانية عشر يوماً، على حسب ما وجدناه من
تباين ما في كتب التواريخ والسِّيَر، وسنذكر جمل أيامهم في باب نُفْرده فيما يرد
من هذا الكتاب.
وقد تنوزع في مقدار سِنِّ سليمان: فذكر بعضهم أنه قُبض وهو ابن خمس وأربعين سنة،
ومنهم مَنْ زعم أنه كان ابن ثلاث وخمسين، وقد قدمنا قول مَنْ قال: إنه قُبض وهو
ابن تسع وثلاثين سنة، ووجَدْتُ أكثر شيوخ بني مروان من ولده وولد غيره بدمشق
وغيرها يذهبون إلى أنه كان ابْنَ تسع وثلاثين، والله أعلم.
ذكر لمع هن أخباره وسيره
خطبته أول ما ولي الخلافة
ولما أفْضَى الأمر إلى سليمان صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله،
ثم قال: الحمد لله الذي ماشاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، وما شاء رفع، وما
شاء وضع، أيها الناس، إن الدنيا دار غرور وباطل وزينة وتقلُّب بأهلها، تُضْحِك
باكيها، وتبكي ضاحكها، وتخْيف آمنها، وتؤمن خائفها، وتثري فقيرها، وتفقر مثريها
ميالة بأهلها عباد اللّه، اتخذوا كتاب اللّه إماماً، وارْضُوا به حكماً، واجعلوه
لكم هادياً ودليلاً، فإنه ناسخ، ولا ينسخه ما بعده، واعلموا عباد الله أنه ينفي
عنكم كيد الشيطان ومطامعه، كما يجلو ضوء الشمس الصبح إذا أسفر، وإدبار الليل إذا
عسعس، ثم نزل وأذن للناس بالدخول عليه، وأقر عمال من كان قبله على أعمالهم، وأقر
خالد بن عبد اللّه القَسْرِي على مكة.
خالد القسري في مكة
وقد كان خالد أحْدَثَ بمكة أحداثاً: منها أنه أدار الصفوف حول الكعبة، وقد كَاَن
قبل ذلك صفوف الناس في الصلاة بخلاف ذلك، وبلغه قول الشاعر:
ياحبذا الموسم من موقف ... وحبذا الكعبة من مسجد
وحبذا اللاتي تزاحمننا ... عند استلام الْحَجَرِ الأسود
فقال خالد: أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبداً، ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء
في الطواف.
كان سليمان أكولاً
وكان سليمان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، وكان يلبس الثياب الرقاق وثياب الوَشْي،
وفي أيامه عمل الوشي الجيد باليمن والكوفة والإسكندرية، ولبس الناس جميعاً الوشي
جباباً وأردِيَةً وسراويل وعمائم وقلانس، وكان لا يدخل عليه رجل من أهل بيته إلا
في الوَشي، وكذلك عُمًاله وأصحابه ومَنْ في داره، وكان لباسه في ركوبه وجلوسه على
المنبر، وكان لا يدخل عليه أحد من خدَامه إلا في الوَشي، حتى الطباخ، فإنه كان
يدخل إليه في صدره وشي وعلى رأسه طويلة وشي، وأمر أن يكفن في الوشي المثقلة وكان
شبعه في كل يوم من الطعام مائة رطل بالعراقي، وكان ربما أتاه الطباخون بالسفافيد
التي فيها الدجاج المشوية وعليه جبه الوشي المثقلة فلنهمه وحرصه على الأكل يُدْخِل
يده في كمه حتى يقبض على الدجاجة وهي حارة فيفصلها.
وذكر
الأصمعي قال: ذكرت للرشيد نَهَمَ سليمان وتناوله الفراريج بكمه من السفافيد، فقال:
قاتلك الله فما أعلمك بأخبارهم، إنه عرضَت عليً جباب بني أمية، فنظرتُ إلى جباب
سليمان وإذا كل جبة منها في كمها أثر كأنه أثر دهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني
بالحديث، ثم قال: علىِ بجباب سليمان، فأتي بها، فنظرنا فإذا تلك الآثار فيها
ظاهرة، فكساني منها جُبة، فكان الأصمعي ربما يخرج أحياناً فيها فيقول: هذه جُبة
سليمان التي كسانيها الرشيد.
وذكر أن سليمان خرج من الحمام ذات يوم اشتدً جوعه، فاستعجل الطعام، ولم يكن فرغ
منه، فأمر أن يقدم عليه ما لحق من الشواء، فقدم إليه عشرون خروفَاَ، فأكل أجوافها
كلها مع أربعين رقآقة، ثم قرب بعد ذلك الطعام فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئاً.
وحكي أنه كان يتخذ سلال الحلوى، ويجعل ذلك حول مرقده، فكان إذا قام من نومه يمدُّ
يده فلا تقع إلا على سلة يأكل منها.
لبس سليمان فأعجبته نفسه
حدث المنقري، عن العتبي، عن إسحاق بن إبراهيم بن الصباح بن مروان - وكان مولى لبني
أمية من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظاً لأخبار بني أمية - قال: لبس
سليمان يوم الجمعة في ولايته لباساً شهر به، وتعطر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده
مرآة، فلم يزل يعتمُ بواحدة بعد أخرى حتى رضي منها بواحدة، فأرخى من سُدُولها،
وأخذ بيده مخصرة، وعلا المنبر ناظراً في عطفيه، وجمع جمعه، وخطب خطبته التي
أرادها، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشاب، السيد المهاب، الكريم الوهاب،
فتمثلت له جارية من بعض جواريه وكان يتحظّاها، فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين،
قالت: أراه مُنَى النفس وقُرة العين، لولا ما قال الشاعر، قال: وما قال الشاعر.
قالت: قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غيرأن لا بَقَاء للإِنسان
أنت مَنْ لايَرِيبنامنك شيء ... علم اللَّه غير أنك فإني
ليس فيما بدا لنا منك عيبٌ ... ياسليمان غير أنك فان
فدمعت عيناه وخرج على الناس باكياً، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بالجارية، فقال
لها: ما دعاك إلى ما قلت لأمير المؤمنين. قالت: واللّه ما رأيت أمير المؤمنين
اليوم ولا دخلت عليه، فأكبره ذلك، ودعا بِقَيِّمَةِ جواريه فصدقتها في قولها، فراع
ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم يمكث بعد ذلك إلا مُدَيْحَة حتى توفي.
وكان سليمان يقول: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا ا لْفَارِهَ، ولم يبق لي
لذة إلا صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ.
بين سليمان وكاتب الحجاج
وأدخل عليه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج والمستولي عليه، وهو مكبل بالحديد، فلما
رآه ازدرَاهُ، فقال: ما رأيت كاليوم قطَ، لعَنَ اللّه رجلاً أجَركَ رَسَنُه، وحكمك
في أمره، فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك رأيتني والأمر عني مُدْبر،
عليك مُقْبل، ولو رأيتني والأمر مقبل عليً لاستعظمت مني ما استصغرت، ولاستجللت مني
ما استحقرت، قال: صدقت فاجلس لا أم لك، فلما استقر به المجلس قال له سليمان: عزمت
عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به أتراه يَهْوِي بعدُ في جهنم أم قد استقر فيها،
قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، فقد بذل لكم نصحه، وأحْقَنَ دونكم
دمه، وأمَّنَ وليكم، وأخاف عدوكم، وإنه يوم القيامة لَعَنْ يمين أبيك عبد الملك،
ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت، فصاح سليمان: اخْرُجْ عني إلى لعنة اللهّ، ثم
التفت إلى جلسائه فقال: قبحه اللّه، ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن
المكافأة، أطلقوا سبيله.
بين سليمان وأبي حازم الأعرج
ودخل
عليه أبو حازم الأعرج، فقال: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت، قال: لأنكم عمرتم
دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني
كيف القدومُ على اللهّ، قال: أما المحسن فكالغائب يأتي أهله مسروراً، وأما المسيء
فكالعبد الأبق يأتي مولاه مَحْزوناً، قال: فأي الأعمال أفضل. قال: أداء الفرائض مع
اجتناب المحارم، قال: فأي القول اعْدَلُ. قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو، قال:
فأي الناس أعقل، قال: من عمل بطاعة اللّه، قال: فأي الناس أجهل. قال: من باع آخرته
بدنيا غيره، قال: عِظْنِي وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نَزِّه ربك وعَظمه بحيث
أن يراك تجتنب ما نهاك عنه ولا يفقدك من حيث أمرك به، فبكى سليمان بكاءً شديداً،
فقال له بعض جلسائه، أسرفت ويحك على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت فإن
اللّه عز وجل أخَذَ الميثاق على العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه ثم خرج، فلما
صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمالٍ، فرده، وقال للرسول: قل له واللّه يا أمير
المؤمنين ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي.
بين سليمان وأعرابي
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني الأصمعي، عن شيخ من المَهَالِبَة، قال:
دخل أعرابي على سليمان فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام
فافهمه، فقال له سليمان: إنا نجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن
غِشّه، وأرجو أن تكون الناصح جَيْباً، المأمون غيباً، فهات، قال: يا أمير
المؤمنين، أما إذ أمنتُ بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خَرسَتْ به الألسُنُ من عظتك
تأدَيةً لحق اللّه رحق أمانتك، يا أمير المؤمنين، إنه قد تَكَنَّفَك رجال أساءُوا
الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، رضاك بسخط ربهم، خافوك في اللهّ ولم
يخافوا اللّه فيك، حَرْب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه،
فإنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،
ولْيسوا مسؤولين عما أجترمت، فلا تُصْلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس
غبناً بائع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سَلَلْتَ
علينا لسانَكَ، وهو أقطع من سيفك، فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لاعليك، فقال
سليمان: أما وأبيك يا أعرابي لا تزال العربُ بسلطاننا لأكناف العز مُتَبَوِّئَةً،
ولا تزال أيام دولتنا بكل خير مُقْبلة، ولئن ساسكم ولاة غيرنا ليُحْمَدَنَّ منا ما
أصبحتم تذمُونَ، فقال الأعرابي: أما إذا رجع الأمر إلى ولد العباس عم الرسول صلى
الله عليه وسلم، وصِنْو أبيه ووارث ما جعله الله له أهلاً فلا، فتغافل سليمان كأنْ
لم يسمع شيئاً، وخرج الأعرابي فكان آخر العهد به، هذا الخبر أخبرني به بعض شيوخ
ولد العباس بمدينة السلام مدينة أبي جعفر المنصور، وهو ابن ديهة المنصوري، عن
أبيه، عن علي بن جعفر النوفلي، عن أبيه، وذلك في سنة ثلثمائة.
سليمان يصف معاوية
وذُكِرَ معاوية بن أبي سفيان في مجلس سليمان، فصلّى على روحه وأرواح من سلف من
آبائه، وقال: كان والله هَزْلُه جِدّاً، وجده علماً، واللّه ما رُئي مثل معاوية،
كان واللّه غضبه حلماً، وحلمه حكماً، وقيل: إن هذا الكلام لعبد الملك.
خالد القسري في العراق
وكتب سليمان إلى خالد بن عبد اللّه القَسْرِي وهو على العراق في رجل استجار به من
قريش، وكان هرب من خالد، أن لا يعرض له، فأتاه بالكتاب فلم يَفُضّه حتى ضربه مائة
سوط، ثم قرأه، فقال: هذه نقمة أراد الله أن ينتقم بها منك لتركي قراءة الكتاب، ولو
كنت قرأته لأنفذت ما فيه، فخرج القرشي راجعاً إلى سليمان، فسأله الفرزدق وأناس ممن
كان بالباب عما صنع خالد، فأخبرهم، فقال الفرزدق في ذلك:
سَلُوا خَالداً لا قدس اللَّه خالدا ... مَتَى وَليت قَسْرٌ قُريْش تَدِينُهَا
أقَبْلَ رسول اللَه أم بَعْدَ عهده ... فأضْحَتْ قًرَيش قد أغثَّ سَمِينُهَا
رَجَوْنَا هُدَاه لاَهَدَى اللَّه سَعْيَه ... وما أمه بالأم يُهدَى جَنِينهَا
فلما بلغ سليمان ذلك وجَّه إلى خالد مَنْ ضربه مائة سوط، فقال الفرزدق في ذلك
أبيات:
لعمري
لقد صُبّتُ على ظهر خالدٍ ... شآ بِيبُ لَيْسَتْ من سَحَاب ولاقَطْرِ
أتضرب في العصيَان من ليس عاصيا ... وتَعْصِي أمير المؤمنين أخَا قَسْر
فلولا يزيد بن المهلب حَلّقَتُ ... بكفك فَتْخَاء إلى الفرخ في الوَكْرِ
لعمري لقد سارابن شيبة سِيرة ... أرَتك نجومَ الليل مُظَهرَةً تجري
فخذ بيديك الخِزْي حقاً، فإنما ... جُزِيتَ قَصاصاً بالمرجرجة السُّمْرِ
بين سليمان وعمر بن عبد العزيز
وقال سليمان لعمر بن عبد العزيز يوماً وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه، قال:
سرور لولا أنه غرور، وحياة لولا أنه موت، وملك لولا أنه هلك، وحسن لولا أنه حزن،
ونعيم لولا أنه عذاب أليم، فبكى سليمان من كلامه.
سليمان على الضد من الوليد
وكان سليمان بخلاف الوليد، وعلى الضد منه في الفصاحة االبلاغة، وقد كان الوليد
أفسد في أرضٍ لعبد اللّه بن يزيد بن معاوية، فشكا ذلك أخوهُ خالد بن يزيد إلى عبد
الملك، فقال له عبد الملك: إن الملوك إذا دخلوا قريه أفسدوها الآية فقال له خالد:
" وإذا أردنا أنْ نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " الآية، فقال
عبد الملك: أفي عبد الله تتكلم وبالأمس دخل عليَ فغير في لسانه ولحن في كلامه،
فقال: أفعلى الوليد تعَول. قال: إن كان الوليد يلحن فسليمان أخوه، قال خالد: وإن كان
عبد اللّه لحاناً فأخوه خالد، فقال الوليد: أتتكلم ولست في العير ولا في النفير،
قال خالد: ألم تسمع ما يقول أمير المؤمنين، أنا والله ابن العير والنفير، ولو قلت
جُبَيلات وغُنَيْمَات والطائف ورحم اللّه عثمان، قلنا: صدقت، أراد بذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، نَفَى الحكم بن أبي العاص إلى الطائف فصار راعياً حتى
ردَه عثمان.
غضب سليمان على خالد القسري
غضب سليمان على خالد القَسْرِي، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، إن القدرة
تُذْهِب الحفيظة، وإنك تَجِلُّ عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل
ذلك أنا، فعفا عنه.
وذم رجل في مجلس سليمان الكلام، فقال سليمان: إنه من تكلم فأحسن قدر على أن يصمت
فيحسن وليس مَنْ صمت فأحسن قدر على أن تكلم فيحسن.
ووقف سليمان على قبر ولده أيوب وبه كان يكنى، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك
عليه فحقق رجائي، وآمن خوفي.
بعض الكتاب ينعى سليمان
قال المسعودي: ولما دُفن سليمان سمع بعض كتابه وهو يقول أبياتاً منها:
وما سالم عما قليل بِسَالم ... وإن كَثُرَتْ أحْرَاسه وكَتَائبه
ومَنْ يَكُ ذَا بَأس شديد ومنعة ... فعمَّا قليلٍ يهجر الباب حاجبه
ويصبح بعد الحجَب للناس مقصيا ... رهينة بيت لم تستر جَوَانبه
فما كان إلا الدًفْن حتى تفرقت ... إلى غَيْرِهِ أحْرَاسه ومواكبه
وَاصبَحَ مسروراً به كل كَاشح ... وأسلمه أحْبَابه وأقاربه
فنفسك أكْسِبْهَا السعَادَة جاهداً ... فكل امرىء رَهْن بما هوكاسبه
قال المسعودي: ولسليمان أخبار حسان لما كان في مدة ملكه من الكوائن، وقد أتينا على
مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً طلباً
للإيجاز، وميلاً إلى الإِختصار، وباللّه التوفيق.
ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز
بن مروان بن الحكم
واستخلف عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، وهو اليوم
الذي مات فيه سليمان، وتوفي بدَيْرِ سِمْعَانَ من أعمال حمص مما يلي بلاد قنسرين
يوج الجمعة لخمس بَقِينَ من رجب سنة إحدى ومائة، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر
وخمسة أيام، وقُبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وقبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه
الغاية، مُعًظّم يَغْشَاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية، لم يتعرض لنبشه فيما
سلف من الزمان كما تعرض لقبور غيره من بني أمية.
وأمه
بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وقيل: إنهَ قُبض وهو ابن أربعين سنة،
وقيل: إحدى وأربعين سنة. وقد تنوزع أيضاً في مقدار مدته في الخلافة، وقد أتينا على
المحصَّل من ذلك في باب مقدار المدة من الزمان وما تملكت فيه بنو أمية من الأعوام،
فيما يرد من هذا الكتاب.
ذكر لمع من أخباره وسيره وزهده
رضي الله عنه
كيف آلت الخلافة لعمر
لم تكن خلافة عمر في عَهْدٍ تقدم: وكان السبب فيها أن سليمان لما حضرته الوفاة
بمرج دابق دعا رجاء بن حَيْوَة ومحمد بن شهاب الزهري ومكحولاً وغيرهم من العلماء
ممن كان في عسكره غازياً ونافراً، فكتب وصيته، وأشهدهم عليها، وقال أنا مُتًّ
فأذِّنُوا فأذِّنُوا بالصلاة جامعة، ثم أقرؤا هذا الكتاب على الناس، فلما فُرِغ من
دَفْنه نودي: الصلاةَ جامعةً، فاجتمع الناس وحضر بنو مروان فاشْرَأبوا للخلافة،
وتَشَوَّفُوا نحوها، فقام الزهري فقال: أيها الناس، أرضيتم مَنْ سماه أمير
المؤمنين سليمان في وصيته. فقالوا: نعم فقرأ الكتاب فإذا اسم عمر بن عبد العزيز
ومِنْ بعده يزيد بن عبد الملك، فقام مكحول فقال: أين عمر بن عبد العزيز. وكان عمر
في أواخر الناس، فاسترجع حين دُعِيَ باسمه مرتين أو ثلاثَاَ، فأتاه قوم فأخذوا
بيده وعَضُدَيه، فأقاموه، وذهبوا به إلى المنبر فصعد وجلس على المرقاة الثانية،
وللمنبر خمس مَرَاقِي، فكان أول من بايعه من الناس يزيد بن عبد الملك، وقام سعيد
وهشام فانصرفا. ولم يبايعا، وبايع الناس جميعاً، ثم بايع سعيد وهشام بعد ذلك
بيومين.
خلق عمر ودينه
وكان عمر في نهاية النسك والتواضع، فصرف عُمَّال مَنْ كان قبله من بني أمية،
واستعمل أصْلَحَ من قدر عليه، فسلك عُمَّاله طريقته، وترك لَعن علي عليه السلام
على المنابر، وجعل مكانه ربنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان، ولا
تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم وقيل: بل جعل مكانه ذلك
" إن اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء
والمُنكر والبغي " الآية، وقيل: بل جعلهما جميعاً، فاستعمل الناس ذلك في
الخطبة إلى هذه الغاية.
بين السدي وعمر
ولما استخلف عمر دخل عليه سالم السدي، وكان من خاصته، فقال له عمر: أسًرّكَ ما
وَليتُ أم ساءك. فقال: سرني للناس وساءني لك قال: إني أخاف أن أكون قد أوْبَقْتُ
نفسي، قال: ما أحْسَنَ حالك إن كنت تخاف، إني أخاف عليك أن لا تخاف، قال: عِظْنِي،
قال: أبونا آدم اخرج من الجنة بخطيئة واحدة.
وكتب طاوس إلى عمر: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر:
كفى بها موعظة.
أول خطبة لعمر
ولما أفضى إليه الأمر كان أولى خطبة خطب الناس بها أن قال: أيها الناس، إنما نحن
من أصول قد مضت وبقيت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله، وإنما الناس في هذه الدنيا
أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نُضُب المصائب مع كل جَرْعة شَرَق، وفي كل
أكلة غَصَص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا
بهدم آخر من أجله.
بين عمر وعامله على المدينة
وكتب إلى عامله بالمدينة أن أقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، فكتب
إليه: إن علياً قد وُلدَ له عدة قبائل من قريش ففي أي ولده، فكتب إليه: لو كتبت
إليك في شاة تذبحها لكتبت إليّ أسود أم بيضاء، إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد
عليّ من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تَخَطّتهم حقوقهم،
والسلام.
وخطب في بعض مقاماته فقال بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه: أيها الناس إنه لا
كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا إني لست بقاضٍ، ولكني
منفذ، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني مُتَّبع، إن الرجل الهارب من الإِمام الظالم ليس
بعاصٍ، ولكن الإِمام الظالم هو - العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
تقدير ملك الروم لعمر
وبعث
عمر وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، وحَقّ يدعوه إليه، فلما دخلوا
إذا ترجمان يفسِّرُ عليه، وهو جالس على سرير ملكه، والتاج على رأسه، والبطارقة عن
يمينه وشماله، والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوا له، فتلقاهم
بجميل، وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غَدٍ
أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه، وقد تغيرت
صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة، فقال: هل تدرون لماذا دعوتكم. قالوا: لا،
قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل
الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بَكَوْا، فقال: ألكم تبكون، أو لدينكم، أو له،
قالوا: نبكي لأنفسنا ولديننا وله، قال لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم،
فإنه قد خرج إلى خيرٍ مما خلف، قد كان يخاف أن يدع طاعة اللّه فلم يكن اللّه ليجمع
عليه مخافة الدنيا ومخافة الآخرة، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد
عيسى يُحيى الموتى لظننت أنه يُحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً
وظاهراً فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم
أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكنى عجبت من هذا
الذي صارت الدنيا تحت قدمِهِ فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، أهل الخير لا يبقون
مع أهل الشر إلا قليلا.
وصية الأعرج
وكتب عمر إلى أبي حازم المدني الأعرج أن أوصني وأوْجِزْ، فكتب إليه: كأنك يا أمير
المؤمنين بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، والسلام.
ووقّعَ إلى عامل من عماله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عَدَ لْتَ، وإما ا
عتزلت، والسلام.
زهده بعد الخلافة
وذكر المدائني قال: كان يُشترى لعمر قبل خلافته الحلّة بآلف دينار، فإذا لبسها
استخشنها ولم يستحسنها، فلما أتته الخلافة كان يُشترى له قميص بعشرة دراهم فإذا
لبسه استلانه.
وخرج مع جماعة من أصحابه فمر بالمقبرة فقال لهم: قِفُوا حتى آتي قبور الأحبةِ
فأسلم عليهم، فلما توسَّطها وقف فسلم وتكلم وانصرف إلى أصحابه فقال: ألا تسألوني
ماذا قلت لهم وما قيل لي، فقالوا: وماذا قلت يا أمير المؤمنين وما قيل لك. قال:
مررت بقبور الأحبة فسلمت عليهم فلم يردوا، ودعوت فلم يجيبوا، فبينا أنا كذلك إذا
نوديت: يا عمر، أما تعرفني، أنا الذي غيرت محاسن وجوههم، ومزقت الأكفان عن جلودهم،
وقطعت أيديهم، وأبَنْتُ أكفهم عن سواعدهم، ثم بكى حتى كادت نفسه أن تطفأ، فوالله
ما مضى بعد ذلك إلا أيام حتى لحق بهم.
وذكر المدائني قال: كنت مطرف إلى عمر: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة، لها يجمع
مَنْ لا عقل له، وبها يغتر منْ لا علم له، فكن بها كالمداوي جرحه، واصبر على شدة
الدواء، لما تخاف من عاقبة الداء.
بين عمر وعبد له
وذكر بعض الأخباريين أن عمر في عنفوان حداثته جنى عليه عبد له أسود جناية، فبطحه
وهمَّ ليضربه، فقال له العبد: يا مولاي، لم تضربني. قال: لأنك جنيت كذا وكذا، قال:
فهل جَنَيْتُ أنت جناية قط غضب بها عليك مولاك، قال عمر: نعم، قال: فهل عًجّل عليك
العقوبة، قال: اللهم لا، قال العبد: فلم تعجل علي ولم يعجل عليك. فقال له: قم فأنت
حرلوجه الله، وكان ذلك سبب توبته.
بين عمر وغلام ورد عليه في وفد الحجاز
وكان عمر يكثر هذا الكلام في دعائه فيقول: يا حليماً لا يَعْجَلُ على مَنْ عصاه.
وذكر
جماعة من الأخباريين أن عمر لما ولي الخلافة وفد عليه وفود العرب ووفد عليه وفد
الحجاز، فاختار الوفد غلاماً منهم، فقدَموه عليهم ليبدأ بالكلام، فلما ابتدأ
الغلام بالكلام وهو أصغر القوم سنآَ قال عمر: مهلاً يا غلام، ليتكلم من هو أسَنُّ
منك فهو أولى بالكلام فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريْهِ لسانه
وقلبه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظَاَ، وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية،
يا أمير المؤمنين، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أسن منك، قال:
تكلم يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة قدمنا
إليك من بلدنا، نحمد اللّه الذي مَنَّ بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة،
أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمَّنَنَا اللّه بعدلك مِنْ
جورك، فقال: عظنا يا غلام وأوجز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس
غرهم حلم اللّه عنهم، وطول أملهم، وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنّكَ حلم اللّه
عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزلَّ قدمك، فنظر عمر في سن الغلام، فإذا
هو قد أتت عليه بِضْعَ عَشْرَةَ سنةً، فأنشأ عمر رحمه الله يقول:
تَعَلّم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّتْ عليه المحافل
قصة جارية عند قاضي المدينة
وقد كان رجل من أهل العراق أتى المدينة في طلب جارية وصفت له قارئة قوَّالة، فسأل
عنها فوجدها عند قاضي المدينة، فأتاه وسأله أن يعرضها عليه، فقال: يا عبد اللّه،
لقد أبْعَدْتَ الشقّة في طلب هذه الجارية، فما رغبتك فيها، لما رأى من شدة إعجابه
بها، قال: إنها تغني فتجيد، فقال القاضي: ما علمت بهذا، فألح عليه في عَرْضها،
فعرضت بحضرة مولاها القاضي، فقال لها الفتى: هات، فغنت:
إلى خالد حتى انخْنَ بخالد ... فنعم الفتى يُرْجى ونعم المؤمَّلُ
ففرح القاضي بجاريته وسُر بغنائها، وغشيه من الطرب أمر عظيم حتى أقعدها على فخده،
وقال: هات شيئاً بأبي أنت، فغنت:
أروح إلى القصَّاص كل عشية ... أرجِّي ثواب اللَّه في عدَد الخُطا
فزاد الطرب على القاضي، ولم يدر ما يصنع، فأخذ نعله فعلَقَهَا في أذنه، وجثا على
ركبتيه، وجعل يأخذ بطرف أذنه والنعل معلقة فيها، وهو يقول: أهدوني إلى البيت
الحرام، فإني بَدنة حتى أدْمى أذنه، فلما أمسكت أقبل على الفتى فقال له: يا حبيبي،
أنصرف، قد كنا فيها راغبين قبل أن نعلم أنها تقول، فنحن الآن فيها أرغب، فانصرف
الفتى، وبلغ ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فقال: قاتله الله لقد استرقّه الطرب، وأمر
بصرفه من عمله، فلما صرف قال: نساؤه طوالق لو سمعها عمر لقال اركبوني فإني مطية،
فبلغ ذلك عمر فأشخصه وأشخص الجارية، فلما دخلا على عمر قال له: أعِدْ ما قلت، قال:
نعم، فأعاد ما قال: فقال للجارية: قولي، فغنت:
كأنْ لم يكن بين ا لْحَجُون إلى الصفا ... إنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكة سامر
بل، نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فما فرغت من هذا الشعر حتى طرب عمر طرباً بيناً، وأقبل يستعيدها، ثلاثاً، وقد
بَلّتْ دموعُهُ لحيته، ثم أقبل على القاضي فقال: قد قاربْتَ في يمينك، ارجع إلى
عملك راشداً.
بين فتى أموي وجارية لبعض قريش
حدثنا الطوسي والأموي الدمشقي وغيرهما، عن الزبير بن بكار، عن عبد اللّه بن أحمد
المديني، قال: كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان، وكان ظريفاً يختلف إلى
قَيْنة لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة
القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض
بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وُجُوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما
كان فيهم فتى يَجِدُ بها وَجْدَه، ولا تجد بواحد منهم وَجْدَها بالأموي، فلما أن
أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى: أتحسنين أن تقولي:
أحبكُمُ حبا بكل جوارحي ... فهل عندكمِ علم بما لَكُمً عندي
أتجزون
بالود المضاعف ... مثله فإن كريماَ مَنْ جَزَى الود بالود
قالت: نعم، وأحسن منه، وقالت:
للذي وَدَّنَا المودَّةُ بالضعف، ... وفَضْلُ البادي به لا يُجَازَى
لو بدا ما بنا لكم ملأ الأر ... ض وأقطار شامها والحجازا
قال: فعجب الفتى من حِذْقها مع حسن جوابها وجودة حفظها فازداد كَلَفَا بها، وقال:
أنت عذر الفتى إذا هتك الستر ... وإن كان يوسفَ المعصوما
فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فاشتراها بعشر حدائق ووهبها له بما يصلحها فأقامت
عنده حَوْلاً ثم ماتت، فرثاها، وقضى في حاله تلك نَحْبَه فدفنا معاً، وكان من
مَرثَيته لها قولُه:
قد تمنيت جنة الخلد للخلد فادْخِلْتُهَا بلا استئهال
ثم أخرجت إذ تطّمعْتُ بالنعمة منها والموتُ أحمَدُ حال
وقال أشعب الطامع المدني: هذا سيد شهداء أهل الهوى، نحروا على قبره سبعين بَدَنَة،
وقال أبو حازم الأعرج المدني: أما محب لله يبلغ هذا.
عمر والخوارج
وقد كان خرج في أيام عمر شوذب الخارجي، وقوي أمره فيمن خرج معه من المحكمة من
ربيعة وغيرها، فحدث عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: أرسلني
عمر إليهم، وأرسل معي عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان خروجهم بالجزيرة،
وكتب عمر معنا إليهم كتابإً، فأتيناهم كتابه ورسالته، فبعثوا معنا رجلين منهم
أحدهما من بني شييان والأخر فيه حبشية وهو أحَدُّهما لساناً وعارضة، فقدمنا بهما
على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة، فصعدنا إليه إلى غرفة هو فيها ومعه ابنه عبد
الملك وكاتبه مُزَاحم، فذكَرنا مكانهما، فقال: فَتَشوهما لئلا يكون معهما حديد،
ففعلنا، فلما دخلا قالا: السلام عليك، ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبر إني ما الذي
أخرجكم مخرجكم هذا، وما نَقَمتم علينا، فتكلم الذي فيه حبشية فقال: والله ما نقمنا
عليك في سيرتك، وإنك تجري بالعدل والإِحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه
فنحن منك وأنت منا، وإن منعتَنَاه فلست منا ولسنا منك، فقام عمر: وما هو. قال:
رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها المظالم، وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، فتكلم عمر فقال: إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لِدُنْياً، ولكن أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها، وإني سائلكم عن أمور، فباللّه لتصدقنني عنها، أرأيتما أبا بكر وعمر، أليسا من أسلافكم وممن تتولونهما وتشهدون لهما بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أبا بكر حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم و ارتدَّتْ العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري. قال: نعم، قال: فهل علمتم أن عمر حين قام بعد أبي بكر در تلك السبايا إلى أصحابها. قال: نعم، قال: فهل برىء عمر من أبي بكر؟ قالا: لا، قال: أفرأيتم أهل النهروان، أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كَفُّوا أيديهم فلم يسفكوا دماً ولم يخيفوا آمناً ولم يأخذوا مالاً. قالا: نعم، قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع الشيباني وعبد اللّه بن وهب الراسبي وأصحابه استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد اللّه بن حًبّاب بن الأرتِّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صًبّحُوا حيَاً من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يُلقوا الصبيان في قدور الأقِطِ وهي تفور، قالا: قد كان ذلك،. قال: فهل تبرأ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة. قالا: لا، قال: فهل تَبرِّءون أنتم من إحدى الطائفتين، قالا: لا، قال: أرأيتم الدين واحداً أم اثنين. قالا: بل واحداً، قال: فهل يَسَعُكم فيه شيء يعجز عني، قالا: لا، قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر، وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة، وتولى بعضهم بعضاً، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم. أرأيتم لَعْنَ أهل الذنوب فريضةً مفروضةً لا بَدّ منها، فإن كانت كذلك فأخبرني أيها المتكلم متى عَهدُك بلعن فرعون. قال: ما أذكر متى لعنته، قال: ويحك، لم لا تلعن فرعون وهو أخْبَثُ الخلق ويسعني فيما زعمت لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم، ويحكم، إنكم قوم جُهَّال، أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تردُون على الناس ما قَبِلَه منهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، قالا: ما نحن كذلك، قال عمر: بل سوف تقرون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بُعِث إلى الناس وهمِ عَبدَة أوثان فدعاهم إلى خَلْع الأوثان وشهادة أن لا إلهَ إلا اللّه وأن محمداَ رسول اللّه، فمن فعل ذلك حَقَنَ دمه، وأحْرَزَ ماله، ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين، قالا: نعم، قال: أفلستم أنتم تَلْقَوْنَ من يخلع الأوثان ويشهد أن لا إلهَ إلا الله وأن محمداً رسول اللّه فتستحلوا دمه وماله، وتلقون مَنْ ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه، قال الحبشي: ما سمعت كاليوم قَطُّ حُجَّةً أبْيَنَ وأقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنا بريء ممن برىء منك، فقال عمر للشيباني: فأنت ما تقول، قال: ما أحْسَنَ ما قلت، وأبْيَنَ ما وصفت، ولكنني لا افتأت على المسلمين بأمر حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حجتهم، قال: فأنت أعلم، فانصرف، وأقام الحبشي، فأمر له عمر بعطائه، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، ولحق الشيباني بأصحابه فقتل معهم بعد موت عمر رحمه اللّه تعالى.
ولعمر
مع الخوارج أخبار غير ما ذكرنا، ومراسلات، ومناظرات، وكذلك لمن سلف من بني أمية
وغيرهم من ولاة الأمصار، وقد أتينا على ذكرها وذكر كل من سَمَّتَه الخوارج بأمير
المؤمنين وخاطبته بالإِمامة من الأزارقة والأباضية والحمرية والنجدات والخلقية
والصفرية وغيرهم من أنواع الحرورية، وذكرنا مواضعهم من الأرض في هذا الوقت مثل
مَنْ سكن منهم من بلاد شهرزور وسجستان وإصطخر من بلاد فارس وبلاد كَرْمَان
وأذربيجان،و بلاد مكران وجبال عمان وهراة من بلاد خراسان والجزيرة وتاهرت السفلى
وغيرها من بقاع الأرض، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وما ذَكَرنا من الرد
عليهم في التحكيم، وغير ذلك في كتابنا المترجم بكتاب الانتصار المفرد لفرق
الخوارج، وفي كتاب الاستبصار.
بعض شعراء الخوارج
وقد ذكَرنا جماعة من شعرائهم ممن سلف من أئمتهم: من ذلك قول مَصْقَلة بن عتبان
الشيباني، وكان من عِلْية الخوارج:
وأبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح إن لم يرع منك قريب
فإنك إن لاتَرْضَ بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
فإن يك منكم كَان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا سويد والبطين وقعنب ... ومنَّا أميرُالمؤمنين شَبيب
غَزَالة ذات النذر منا حميدة ... لها في سهام المسلمين نصيب
ولا صُلْحَ مادامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثَقيفَ خطيبُ
وكذلك ذكرنا أخبار أم شبيب، وما كانت عليه من الاجتهاد في ديانة المحكمة، وفيها
يقول الشاعر:
أمُّ شبيب وَلَدَتْ شبيباً ... هل تلد الذئبة إلا ذِيبا
بعض علماء الخوارج
وأخبار علمائهم كاليماني، وله كتب مصنفة في مذاهبهم، وعبد الله بن يزيد الأباضي،
وأبى مالك الحضرمي، وقعنب، وغير هؤلاء من علمائهم، وقد كان اليمان بن رباب منعلية
علماء الخوارج، وأخوه علي بن رباب من علية علماء الرافضة، هذا مقدَم في أصحابه،
وهذا مقدَم في أصحابه، يجتمعان في كل سنة ثلاثة أيام يتناظران فيها، ثم يفترقان،
ولا يسلم أحدهما على الاخر ولا يخاطبة، وكذلك كان جعفر بن المبشر من علماء
المعتزلة وحُذاقها زهادها، وأخوه حنش بن المبشر من علماء أصحاب الحديث ورؤساء
الحشوية بالضد من أخيه جعفر، وطالت بينهما المناظرة والمباغضة والتباين، وآلى كل
واحد منهما ألا يخاطب الآخر إلى أن لحق بخالقه، وجعفر بن المبشروجعفربن حرب من
علماء البغداديين من المعتزلة، وكان عبد اللّه بن يزيد الأباضي بالكوفة تختلف إليه
أصحابه يأخذون منه، وكان خرازاً شريكاً لهشام بن الحكم، وكان هشام مقدّماً في
القول بالجسم والقول بالإِمامة على مذهب القطيعية يختلف إليه أصحابه من الرافضة
يأخذون عنه، وكلاهما في حانوت واحد، على ما ذكرنا من التضاد في المذهب من التشري
والرفض ولم يجر بينهما مُسَابة، ولا خروج عما يوجبه العلم وقضية العقل وموجب الشرع
وأحكام النظر والسير.
وذكر أن عبد الله بن يزيد الأباضي قال لهشام بن الحكم في بعض الأيام، تَعْلَم ما
بيننا من الموفدة ودوام الشركة، وقد أحببْتُ أن تُنْكِحني ابنتك فاطمة، فقال له
هشام: إنها مؤمنة، فأمسك عبد اللّه، ولم يُعَاوده في شيء من ذلك، إلى أن فرَّقَ
الموت بينهما.
وكان من أمر هشام مع الرشيد وابن بَرْمَك ما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا.
وذكر عن عمرو بن عُبَيْد أنه يقول: أخذ عمر بن عبد العزيز الخلافة بغير حقها، ولا
باستحقاق لها، ثم استحقّها بالعدل حين أخذها.
الفرزدق يرثي عمر
وفي وفاة عمر رضي الله عنه يقول الفرزدق من أبيات يَرْثيه بها:
أقول لًمّا نَعَى النَّاعُون لي عُمَرا ... لقَدْ نَعَيْتُمْ قَوَامَ الحق والدين
قد غيبَ الرَامِسُون اليوم إذْ رَمَسُوا ... بِدَيْرِ سِمْعَان قِسْطَاسَ
المَوَازِينِ
لم يُلْهِهِ عمْرَهُ عَيْنٌ يُفَجِّرُهَا ... ولا النخيل ولارَكْضُ البراذين
ولعمررحمة اللّه عليه خطب وأخبار حسان غير ما ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الزهد
وغيره، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا، والحمد للّه رب العالمين.
ذكر
أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان
ومَلَكَ يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه عمر بن عبد العزيز، وهو يوم
الجمعة لخمسٍ بِقين من رجب سنة إحدى ومائة، ويكنى أبا خالد وأمه عاتكة بنت يزيد بن
معاوية بن أبي سفيان، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربد من أرض البلقاء من أعمال دمشق
يوم الجمعة لخمسٍ بَقِين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، فكانت
ولايته أربع سنين وشهراً ويومين.
ذكر لمع من أخباره وسيره
وجمل من ما كان في أيامه
حبه سلامة القس
كان الغالِبُ على يزيد بن عبد الملك حُبَ جارية يقال لها سلامة القَسِّ، وكانت
لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فاشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار، فأعجب بها،
وغلبت على أمره، وفيها يقول عبد اللّه بن قيس الرقَيَّات :
لقد فتن الدنيا وسلامة القسا ... فلم يتركا للقس عقلاً ولا نفسا
فاحتالت أم سعيد العثمانية جَدَّلُه بشراء جارية يقال لها حَبَابة قد كان في نفس
يزيد بن عبد الملك قديماً منها شيء، فغلبت عليه، ووهب سَلاَّمَة لأم سعيد،
فَعَذَلَهُ مسلمة بن عبد الملك لما عم الناس من الظلم والجور، باحتجابه وإقباله
على الشرب واللهو، وقال له: إنما مات عُمَر أمس، وقد كان من عدله ما قد علمت،
فينبغي أن لَظهر للناس العدل، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عُمَّالك في سائر أفعالك
وسيرتك، فارتَدَعَ عما كان عليه، فأظهر الإِقلاع والندم، وأقام على ذلك مدة مديدة،
فغلظ ذلك على حَبَابة، فبعثت إلى الأحوص الشاعر وَمَعْبد المغني: انظرا ما أنتما
صانعان، فقاد الأحوص في أبيات له:
ألا لا تَلُمْهُ اليوم أن يَتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يَتَجلّدَا
إذا كنت لم تعشق ولم تدرما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصّلدِ جَلْمَدَا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنانِ وَفندَا
وغَنَّاه مَعْبد، وأخذته حَبَابة، فلما دخل عليها يزِيِد قالت: يا أمير المؤمنين
اسمع مِنِّي صوتاً واحداً ثم افعل ما بَدَا لك، وغنَتْه، فلما فرغ منه جعل يردد
قولها:
فما العيش إلا ماتلذوتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشَّنَانِ وَفنداَّ
وعاد بعد ذلك إلى لَهْوِه وَقَصْفِه وَرفَضَ ما كان عليه.
يزيد وحبابة وشعر للفند الزماني
وذكر إسحاق بن إبراهيم المَوْصِلِيُّ قال: حدثني ابن سلام، قال: ذكر يزيد قول
الشاعر:
ضَفَحْنَاعن بني ذُهْل ... وَقُلْنَا: القوم إِخْوَانُ
عسى الأيام أن اتَرْجِعْنَ ... قَوْماً كالذي كانوا
فلما صَرَّحَ الشّر ... فَأَمْسى وَهْوَعُرْيَان
مَشَيْنَا مِشْيَة اللّيْثِ ... غَدَا والليث غَضْبَانُ
بِضرْب فِيهِ تَوْهِينٌ ... وَتَخْضِيع وإقران
وَطَعْنًِ كَفَم الزَقِّ ... وَهَى وَالزِّقُّ ملآن
وفي الشر نجاة ... حِينَ لا يُنْجِيك إحْسَانُ
وهو شعر قديم يقال: إنه للفند الزماني في حرب البَسُوس، فقال لحبابة: غنيني به
بحياتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا شعر لا أعرف أحداً يغني به إلا الأحول
المكي، فقال: نعم، قد كنت سمعت ابن عائشة يعمل فيه ويترك، قالت: إنما أخذه عن فلان
بن أبي لهب، وكان حَسَنَ الأداء، فَوَجَّهَ يزيد إلى صاحب مكة: إذا أتاك كتابي هذا
فادفع إلى فلان ابن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه واحمله على ما شاء من دَوَابِّ
البريد، ففعل، فلما قدم عليه قال: غنّني بشعر الفِنْدِ، فغناه فأجاد وأحسن، وقال:
أعدهُ، فأعاده فأجاد وأحسن وأطرب يزيد، فقال له: عَمَّن أخذت هذا الغناء. فقال: يا
أمير المؤمنين، أخذته عن أبي، وأخذه أبي عن أبيه، فقال: لو لم تَرِثْ إلا هذا
الصوت لكان أبو لهب قد وَرَّثكم خيراً كثيراً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا لهب
ماتِ كافراً مؤذياً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أعلم ما تقول، ولكني
دخلتني له رقة إذ كان مجيداً للغناء، ووصله وكَساه ورده إلى بلده مكرماً.
وكتب
في عهد عمر إلى يزيد: إذا أمكنتك القدرة بالعزة فاذكر قدرة اللّه عليك، وقيل: إن
هذا الكلام كتب به عمر إلى بعض عماله، وفيه زيادة - على ما ذكره الزبير بن بكار -
وهي: إذا أمكنتك القدرة من ظلم العباد فاذكر قدرة الله عليك بما تأتي إليهم، وأعلم
أنك لا تأتي إليهم أمراً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك، وأن اللّه يأخذ للمظلوم
من الظالم، ومهما ظلمت من أحد فلا تظلمنَّ من لا ينتصرعليك إلا باللّه تعالى.
موت حبابة وجزع يزيد عليها
واعتلت حبابة فأقام يزيد أياماً لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياماً لا يدفنها
جزعاً عليها حتى جيَّفَتْ، فقيل: إن الناس يتحدثون بجزعك، وإن الخلافة تجلُّ عن
ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال:
فإن تَسْلُ عنك النفس أو تدع الهَوَى ... فباليأس تَسْلُو النَّفْسُ لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.
حدث أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسحاق الموصلي، عن أبي الحُويرث
الثقفي قال: لما ماتت حَبَابة حزن عليها يزيد بن عبد الملك حزناً شديداً، وضَمَّ
إليه جويرية لها كانت تحدثها فكانت تخدمه، فتمثلت الجارية يوماً:
كفى حَزَناً للهائم الصب أن يَرَى ... منازل من يهوى مُعًطّلة فقرا
فبكى حتى كاد أن يموت، ولم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حَبَابة حتى مات.
وكان يزيد ذات يوم في مجلسه وقد غنَّته حبابة وسَلاّمة فطرب طرباً شديداً ثم قال:
أريد أن أطير، فقالت له حَبَابة: يا مولاي، فعلى مَنْ تَدعَ الأمة وتدعنا.
وكان أبو حمزة الخارجي إذا ذكَرَ بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبد الملك فقال:
أقعد حَبَابة عن يمينه وسَلاَّمة عن يساره، ثم قال: أريد أن أطير، فطار إلى لعنة
اللّه وأليم عذابه.
يزيد بن المهلب يخرج على يزيد بن عبد الملك
قال المسعودي: وقد كان يزيد بن المهلَّب بن أبي صًفْرة هرب من سجن عمر بن عبد
العزيز، حين أثقل، وذلك في سنة إحدى ومائة، وصار إلى البصرة وعليها عَدِيُّ بن
الفَزَاري، فأخذه يزيد بن المهلب، فأوثقه ثم خرج يريد الكوفة مخالفاً على يزيد بن
عبد الملك، وحشدت له الأزد أحلافها، وانحاز إليه أهله وخاصته، وعظم أمره، واشتدت
شَوْكته فبعث إليه يزيد أخاه مَسْلمة بن عبد الملك، وابن أخيه العباس بن الوليد بن
عبد الملك، في جيش عظيم، فلما شَارَفَاه رأى يزيد بن المهلب في عسكره اضطرابا،
فقال: ما هذا الاضطراب. قيل: جاء مَسْلمة والعباسَ قال: فوالله ما مَسْلمة إلا
جرادة صفراء، وما العباس إلا نسطوس بن سطوس، وما أهل الشام إلا طَغَام قد حشدوا ما
بين فلاح وزراع ودباغ وسفلة، فأعيروني أكفكم ساعة واحدة تصفعون بها خراطيمهم، فما
هي لا غدوة أو روْحَة حتى يحكم اللّه بيننا وبين القوم الظالمين، علي بفرسي، فأتي
بفرس أبلق، فركب غير متسلح، فالتقى الجيشان اقتتلوا قتالاً شديداً، وولى أصحاب
يزيد عنه، فقتل يزيد في المعركة، وصبر وإخوته أنفسهم، فقتلوا جميعاً، ففي ذلك يقول
الشاعر:
كل القبائل بايعوك على الذي ... تَدْعُو إليه طائعين وساروا
حتى إذا حضرا لْوَغَى وجعلتهم ... نُصْبَ الأسنة أسُلَمُوكَ وطاروا
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك وبَعْضُ قتل عارُ
فلما ورد الخبر على يزيد بن عبد الملك استبشر، وأخذ الشعراء جميعاً يهجون آل
المهلب، إلا كثيراً، فإنه امتنع من ذلك فقال له يزيد: حَرَّكتك الرحم يا أبا صخر،
لأنهم يمانيون، ففي ذلك يقول جرير يمدح يزيد، ويهجو آل المهلب:
يا رُبَّ قوم وقوم حاسدين لكم ... مافيهُم بَدَلٌ منكم ولا حلف
آل المهلّب جَزَّ اللَّه دابرهم ... أمسوا رماداً فلا أصْلٌ ولا طرف
ما نالت الأزد من دعوى مُضِلِّهم ... إلا المعاصم، والأعناق تختطف
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فَقَتًلتهُمْ جنود اللَّه، وانتُسِفوا
وهي طويلة، وفي ذلك يقول جرير أيضاً ليزيد من كلمة:
لقد تركت فلا نَعْدَمْكَ إذ كفروا ... آل المهلب عَظْماً غير مجبور
يا ابن المهلب، إن الناس قد علموا ... أن الخلافة للشُّمِّ المغاوير
صنيع
يزيد في آل المهلب
وبعث يزيد هلال بن أحْوَزَ المازني في طلب آل المهلب، وأمره أن لا يلقى منهم من
بلغ الحلم إلا ضرب عنقه، فأتبعهم حتى أتى قندابيل من أرض السند وأتى هلال بغلامين
من آل المهلب، فقال لأحدهما: أدركت. قال: نعم، ومدَّ عنقه، فكان الآخر أشفق عليه
فَعَضَّ شفته لئلا يظهر فضرب عنقه، وأثخن القتل في آل المهلب حتى كاد أن يفتيهم،
فذكر أن آل المهلب مكثوا بعد إيقاع هلال بهم عشرين سنة يُولد فيهم الذكور فلا يموت
منهم أحد، وفي مدح هلال بن أحْوَزَ وما فعَلَ يقول جرير:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي: لَيْتَ صُبْحك نَوَّرا
أخاف على نفسي ابن أحْوَزَ،إنه ... جلا كل هَمٍّ في النفوس فأسْفَرَا
جعلت بقبر بالحسان ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا
فلم يبق منهم راية تعرفونها ... ولم يبق من آل المهلب عسكرا
وهي أبيات.
بين ابن هبيرة والشعبي وابن سيرين والحسن البصري
وقد كان يزيد بن عبد الملك - حين ولي عمر - بن هبيرة الفزازي العراق، وأضاف إليه
خراسان واستقام أمره هنالك - بعث ابن هُبَيْرة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري
وعامر بن شرحبيل الشعبي ومحمد بن سيرين، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن
يزيد بن عبد الملك خليفة اللهّ استخلفه على عباده، وأخذ ميثاقهم بطاعته، وأخذ
عَهْدَنا بالسمع والطاعة، وقد وَلإني ما ترون، يكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذه،
وأقلده ما تقلّدَه من ذلك، فما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قَوْلاً فيه تقية،
فقال عمر: ما تقول يا حسن. فقال الحسن: يا ابن هُبَيْرة خَفِ اللّه في يزيد، ولا
تَخَفْ يزيد في اللّه، إن اللّه يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من اللّه، وأوشك
أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعَة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا
ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة،. إني أحذرك أن تعصي الله، فإنما جعل اللهّ هذا
السلطان ناصراً لدين اللهّ وعباده، فلا تتركَنَ دين.اللّه وعباده بسلطان اللّه،
فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وحكي في هذا الخبر أن ابن هبيرة أجازهم، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي: سفسفنا
فسفسف لنا.
بين يزيد وأخيه هشام
وذكر أن يزيد بن عبد الملك بلغه أن أخاه هشام بن عبد الملك ينتقصه، ويتمنَّى موته،
ويعيب عليه لهوه بالقَيْنات، فكتب إليه يزيد: أما بعد فقد بلغني استثقالك حياتي،
واستبطاؤك موتي، ولعمري إنك بعدي لواهي الجناح، أجْذَمُ الكف، وما استوجَبْت منك
ما بلغني عنك، فأجابه هشام: أما بعد، فإن أمير المؤمنين متى فَرغ سمعه لقول. أهل
الشنآن وأعداء النعم يوشك أن يقدح ذلك في فساد ذات البين، وتقطع الأرحام، وأمير
المؤمنين بفضله وما جعله اللهّ أهْلاً له أولى أن يتغمد ذنوب أهْل الذنوب، فأما
أنا فمعاذ اللهّ أن أستثقل حياتك أو أستبطىء وفاتك، فكتب إليه يزيد نحن مغتفرون ما
كان منك، ومكذِّبون ما بلغنا عنك، فاحفظ وصية عبد الملك إيانا، وقوله لنا في ترك
التباغي والتخاذل، وما أمر به وحَضَّ عليه من صلاح ذات البين واجتماع الأهواء،
فهوخيرلك، وأمْلَكُ بك، وإني لأكتب إليك وأنا أعلم أنك كما قال الأول :
وإني على أشياء منك تَرِيبني ... قديماً لذوصَفْحٍ على ذاك مُجْمِل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينَكَ، فانظرأي كف تبذل
وإن أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
فلما أتى الكتاب هشاماً ارتحل إليه، فلم يزل في جواره مخافة أهل البغي والسعاية
حتى مات يزيد.
وفاة عطاء بن يسار
وممن مات في أيام يزيد بن عبد الملك عطاء بن يَسَار مولى ميمونة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وذلك في سنة ثلاث
ومائة.
موت جماعة من العلماء
وفيها مات مجاهد بن جبر، مولى قيس بن السائب المخزومي، ويكنى أبا الحجاج، وهو ابن
أربع وثمانين سنة.
وجابر
بن زيد، مولى الأزد، من أهل البصرة، ويكنى أبا الشَّعْثَاء. ويزيد بن الأصم، من
أهل الرقة، وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن وَثَّاب
الأسدي، مولى بني كنانة كان. وأبو بُردَةَ بن أبي موسى الأشعري، واسمه عامر، كوفي.
وفي سنة أربع ومائة مات وهب بن مُنَبِّه، ويقال: مات سنة عشر ومائة وفي سنة أربع
ومائة هذه أيضاً مات طاوس.
وفي سنة خمس ومائة مات عبد اللّه بن جبير، مولى العباس بن عبد المطلب، ويُقال: إنه
مولى مولى العباس.
وقيل: إن طاوس بن كَيْسَان - ويكنى أبا عبد الرحمن - مولى بجير الحميري مات بمكة
سنة ست ومائة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك.
وفي سنة سبع ومائة مات سليمان بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو أخو عَطَاء بن يسار ويكنى أبا أيوب، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، بالمدينة، وقيل:
إنه مات في سنة ثمان ومائة.
وفي سنة ثمان ومائة مات القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ومات الحسن بن أبي
الحسن البصري، ويكنى أبا سعيد، في سنة عشر ومائة، واسم أبيه يَسَار مولى لامرأة من
الأنصار، ومات وله تسع وثمانون سنة وقيل: تسعون سنة، وكان أكبر من محمد بن سيرين،
ومات محمد بعده بمائة ليلة في هذه السنة وهو ابن إحدى وثمانين سنة، وقيل: ابن
ثمانين.
محمد بن سيرين وإخوته
وكان أولاد سيرين خمسة إخوة: محمد، وسعيد، ويحيى، وخالد، وأنس بن سيرين، وسيرين
مولى أنس بن مالك، والخمسة قد رَوَوْا السنن، ونقلت عنهم.
ووجدت أصحاب التواريخ متباينين ومختلفين غير متفقين في وفاة وهب ابن مَنَبِّه،
ويكنى أبا عبد اللّه، فمنهم من ذكر وفاته على حسب ماقدَمنا في هذا الباب، ومنهم
مَنْ رأى أنه مات سنة عشر ومائة بصنعاء، وكان من الأبناء، وهو ابن تسعين سنة.
وفي سنة خمس عشرة ومائة مات الحكم بن عتبة الكندي، وقيل: إنه مات فيها عَطَاء بن
أبي رباح. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة مات أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن
عبد اللّه بن شهاب الزهريّ، وذكر الواقدي أنه مات سنة أربع وعشرين ومائة.
وليزيد بن عبد الملك أخبار حسان، ولما كان في أيامه من الكوائن والأحداث، وقد
أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما ذكرنا وفاة من سمينا
من أهل العلم ونَقَلَة الآثار وحَمَلَة الأخبار ليكون ذلك زيادة في فاتحة الكتاب،
فتكون فوائده عامة، إذ كان الناس في أغراضهم متباينين، وفيما يتيممونه من مآخذ
العلم مختلفين، فمنهم طالبُ خَبَر، ومقلد لأثر، ومنهم ذو بحث ونظر، ومنهم صاحب
حديث، ومُنقر عن علل، ومُرَاعٍ لوفاة مثل من ذكرنا، فجعلنا فيه لكل في رأي
نصيبَاَ، وباللّه التوفيق.
ذكر أيام هشام بن عبد الملك بن مروان
وبويع هشام بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه أخوه يزيد بن عبد الملك، وهو يوم
الجمعة بَقِينَ من شوال سنة خمس ومائة، وقُبض يزيد وله يومئذ ثمان وثلاثون سنة،
وقيل: أربعون سنة، وتوفي هشام بن عبد الملك بالرُّصَافة من أرض قنسرين يوم الأربعاء
لست خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة،
فكانت ولايته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وإحدى عشرة ليلة.
ذكر لمع من أخباره وسيره
أوصافه وأخلاقه
وكان هشام أحْولَ خشناً فظاً غليضاً، يَجْمَع الأموال، ويعمر الأرض، ويستجيد
الخيل، وأقام الحلْبَة فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم
يُعْرَفْ ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من
الخيل، واستجاد الكُسَي والفُرَشَ، وعدَدَ الحرب ولأمتها واصطنع الرجال، وقَوَّى
الثغور، واتخذ القُنِيّ والبِرَكَ بطريق مكة، وغير ذلك من الآثار التي أتى عليها
داود بن علي في صدر الدولة العباسية.
وفي أيامه عُمِل الخز والقُطُف الخز، فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه، ومنعوا ما
في أيديهم، فقل الإِفضال، وانقطع الرِّفْدُ، ولم ير زمان أصعب من زمانه.
استشهاد زيد بن علي
وفي
أيامه استشهد زيد بن علي بن الحسين بن علي كرم اللّه وجهه، وذلك في سنة إحدى
وعشرين ومائة، وقيل بل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقد كان زيد بن علي شَاوَرَ
أخاه أبا جعفر بن علي بن الحسين بن علي، فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة،
إذ كانوا أهل غَدْر ومَكْر، وقال له: بها قتل جدُّكَ علي، وبها طعن عمك الحسن وبها
قتل أبوك الحسين وفيها وفي أعمالها شتمنا أهْلَ البيت، وأخبره بما كان عنده من
العلم في مدة ملك بني مروان، وما يتعقبهم من الدولة العباسية، فأبى إلا ما عزم
عليه من المطالبة بالحق، فقال له: إني أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوبَ
بَكُنَاسة الكوفة وودَّعة أبو جعفر، وأعلمه أنهما لا يلتقيان.
وقد كان زيد دخل على هشام بالرُّصَافَة، فلما مَثَلَ بين يديه لم ير موضعاً يجلس
فيه، فجلس حيث انتهى به مجلسه، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى
اللّه، ولا يصغر دون تقوى اللّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك
نفسُكَ في الخلافة، وأنت ابن أمَةٍ، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابً إن أجبتك
به، وإن أحببت أمسكت عنه، فقال: بل أجِبْ، قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن
الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمَةً لأم إسحاق صلى الله عليهما وسلم، فلم يمنعه
ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، فأخرج من صُلْبه خير البشر محمداً صلى
الله عليه وسلم، فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:
شَردًهُ الخوف وأ زْرَى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الكفين يشكو الجوى ... تنكثه أطراف مَرْوٍ حِدَاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت خَتْم في رقاب العباد
إن يُحْدِث الله له دولة ... يترك آثارالعدا كالرماد
فمضى عليها إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فحاربه يوسف بن عمر
الثقَفِي، فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد
قتال، وهو يقول متمثلاً:
أُلذَ الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لا بدَ من واحد ... فَسِيرِي إلى الموت سيراً جميلا
وحال المساء بين الفريقين، فراح زيد مُثْخَناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته،
" فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره، فاستخرج
النصل، فمات من ساعته، فدفنوه في ساقيه ماء، وجعلوا على قبره! التراب والحشيش،
وأجرى الماء على ذلك، وحضر الحجَّامُ مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف
متنصحاً، فدلَه على موضع قبره، فاستخرجه يوسف، وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه
هشام: أن اصلبهُ عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية
يخَاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أرمَهْدِيّاً على الجذع يصلب
وبَنَى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذَرْوِه في الرياح.
صنيع العباسيين بقبور الأمويين
قال المسعودي: وحكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانىء، قال: خرجت مع عبد
اللّه بن علي لنْبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا إلى قبر
هشام، فاستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلا خورمة أنفه، فضربه عبد اللّه بن علي
ثمانين سوطاً، ثم أحْرَقَه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا
صُلْبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، وكانت قبورهم
بقنسرين، ثم انتهينا إلى دمشق، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك، فما وَجَدْنا في
قبره قليلاً ولا كثيراً، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه، ثم
احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا فيه إلا عظماً واحداً، ووجدنا مع لحمه خطاً
أسود كأنما خط بالرماد في الطول في لحده، ثم اتبعنا قبورهم في جميع البلدان،
فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.
وإنما ذكرنا هذا الخبر في هذا الموضع لقتل هشام زَيْدَ بن علي، وما نال هشاماً من
المُثْلَة بما فعل بسلفه من الإحراق كفعله بزيد بن علي.
وقد
ذكر أبو بكر بن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيداً مكث مصلوباً خمسين شهراً
عرياناً، فلم ير له أحد عورة، ستراً من اللّه له، وذلك بالكُنَاسة بالكوفة، فلما
كان في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك وظهر ابنه يحيى بن زيد بخراسان كتب
الوليد إلى عامله بالكوفة: أن أحرق زيداً بخشبته، ففعل ذلك به، وأذرى رماده في
الرياح على شاطىء الفرات.
فرق الزيدية من الشيعة
وقد أتينا في كتابنا المقالات، في أصول الديانات على السبب الذي من أجله سميت
الزيدية بهذا الاسم، وأن ذلك بخروجهم مع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنهم، هذا، وقد قيل غير ذلك مما قد أتينا عليه فيما سلف من كتبنا،
والخلاف بين الزيدية والإمامية، والفرق بين هذين المذهبين، وكذلك غيرهم من فرق
الشيعة وغيرهم وقد ذكر جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء
الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوَرَّاق وغيره، أن الزيدية كانت في عصرهم
ثماني فرق: أولها الفرقة المعروفة بالجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن
المنذر العبدي، وذهبوا إلى أن الإمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين، دون غيرهما،
ثم الفرقة الثانية المعروفة بالمرئية، ثم الفرقة الثالثة المعروفة بالأبرقية، ثم
الفرقة الرابعة المعروفة باليعقوبية، وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي، ثم الفرقة
الخامسة المعروفة بالعقبيَّة، ثم الفرقة السادسة المعروفة بالأبترية، وهم أصحاب
كثير الأبتر والحسن بن صالح بن يحيى، ثم الفرقة السابعة المعروفة بالجريرية، وهم
أصحاب سليمان بن جرير، ثم الفرقة الثامنة المعروفة باليمانية، وهم أصحاب محمد بن
اليمان الكوفي، وقد زاد هؤلاء في المذهب، وفَرعُوا مذاهب على ما سلف من أصولهم،
وكذلك فرق أهل الإِمامة فكانوا على ما ذَكَرَ مَنْ سلف من أصحاب الكتب ثلاثاً
وثلاثين فرقة، وقد ذكرنا تنازع القطيعية بعد مضي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وما
قالت الكيسانية، وما تباينت فيه وغيرها من سائر طوائف الشيعة، وهم ثلاث وسبعون
فرقة، دون ما تباينوا فيه من التفريع، وتنازعوا فيه من التأويل، والغُلاَة أيضاً
ثمان فرق: المحمدية منهم أربع، والمعتزلة أربع، وهم العلوية، ولولا أن كتابنا هذا
كتاب خبر لبسطنا من مذاهبهم ووصفنا من آرائهم ما تقدم قبلنا وحَدَثَ في وقتنا هذا،
وما قالوه من دلائل ظهور المنتظر الموعود بظهوره، وما ذهب إليه كل فريق منهم في
ذلك من أصحاب الدور والسرو والتشريق، وغيرهم من أهل الإِمامة.
بين هشام ورجل من أهل حمص
وعرض هشام يوماً الجند بحمص، فمربه رجل من أهل حمص على فرس نَفَور، فقال له هشام:
ما حملك على أن تربط فرساً نفورا، فقال الحمصي: لا والرحمن الرحيم يا أمير
المؤمنين، ما هو بنَفور، ولكنه أبصر حَولتك فظن أنها عين غزوَان البيطار، فقال له
هشام: تنخَ فعليك وعلى فرسك لعنة اللّه، وكان عزوان البيطار نصرانياً ببلاد حمص
كأنه هشام في حولته وكشفته.
هشام والأبرش الكلبي وجارية من جواري هشام
وبينما هشام ذات يوم جالساً خالياً وعنده الأبرش الكلبي إذ طلعت وصيفة لهشام عليها
حُلّة، فقال للأبرش: مازحها، فقال لها الأبرش هَبي لي حُلّتك، فقالت له: لأنت أطمع
من أشْعَب، فقال لها هشام: ومن أشعب؟ فقالت: كان مضحكاً بالمدينة، وحدثته بعض
أحاديثه، فضحك هشام، وقال: اكتبوا إلى إبراهيم بن هشام وكان عامله على المدينة في
حَمْله إلينا، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلاً، ثم قال: يا أبرش، هشام يكتب إلى
بلد رسول صلى الله عليه وسلم ليحمل إليه منه مضحك؟ لاها اللّه، ثم تمثل:
إذا أنت طَاوَعْتَ الهوى قَادكَ الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وأوقف الكتاب.
أمثلة من بخل هشام
وذكر أن هشاماً أهدى له رجل طائرين، فأعجب بهما، فقال له الرجل: جائزتي يا أمير
المؤمنين، قال ويلك وما جائزة طائرين؟ قال له: ما شئت، قال: خذ أحدهما، فقصد الرجل
لأحسنهما فأخذه، فقال له هشام: وتختار أيضاً؟ قال: نعم واللّه أختار، فقال: دَعْه،
وأمر له بدريهمات.
ودخل
هشام بستاناً له ومعه ندماؤه فطافوا به، وبه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون
ويقولوَن: بارك اللهّ لأمير المؤمنين، فقال: وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه؟! ثم
قال: أدع قيمه، فدعا به، فقال له: اقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل منه
أحد شيئاً.
وكتب إليه ابنه سليمان: إن بَغْلَتِي قد عجزت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي
بدابة، فكتب إليه هشام: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد
ظن أن ذلك من قلّة تعاهدك لعلفها. وضياع العلف، فقم عليها بنفسك، ولعلَّ أمير
المؤمنين يرى رأيه في حملانك.
ونظر هشام إلى رجل على برذَوْن طخاري، فقال: من أين لك هذا؟ قال: حَمَلَنِي عليه
الجنيد بن عبد الرحمن، قال: وقد كثرت الطخارية حتى ركبها العامة؟ لقد مات عبد
الملك وفي مربطه برذون واحد طخاري، فتنافس فيه ولده، حتى ظن مَنْ فاته أن الخلافة
فاتته، قال الرجل: فحسدني إياه.
وقد كان أخوه مسلمة مازحة قبل أن يلي الأمر، فقال له: يا هشام، أتؤمل الخلافة
وأنتَ جبان بخيل! فقال: واللّه إني عليم حليم.
السواس من بني أمية: وذكر الهيثم بن عديّ والمدائني وغيرهما أن السُّوَاس من بني
أمية ثلاثة: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وختمت به أبواب السياسة وحسن السيرة، وأن
المنصور كان في أكثر أموره وتدبيره وسياسته متبعاً لهشام بن عبد الملك في أفعاله،
لكثرة ما كشفه عن أخبار هشام وسيره.
وقد أتينا على غُرَرِ أخباره وسيره وسياسته، وما حفظ من أشعاره وخطبه، وما كان في
أيامه، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وكذلك ذكرنا بَدء الكلام الذي أثار تصنيف
الكتاب، المعروف بكتاب الواحدة في مناقب العرب ومَثَالبها مفرعة لا يشاركها فيها
غيرها، وما أضيف إلى كل حي من أحياء العرب من قَحْطَان وغيرهم من نِزَار، وما جرى
في مجلس هشام في أوقات مختلفة بين الأبْرَش الكلبي والعباس بن الوليد بن عبد الملك
وخالد بن مَسْلَمة المخزومي والنضر بن مريم الحميري، وما أورده الحميري من منَاقب
قومه من حِمْيَر وكَهْلاَن، وما أورده المخزومي من مَنَاقب قومه من نزار بن معد بن
عدنان، وما ذكره كل واحد منهم من المَثَالبِ فيما عدا قومه، وبان عن عشيرته
ورَهْطه، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألفه أبو عبيدة معمر بن المُثَنَّى مولى آل تَيْم
بن مرة بن كعب بن لُؤَيّ، على لسان مَنْ ذكرنا، وعزاه إلى من وصفنا، أو غيره من
الشعوبيه.
ذكر أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك
بن مروان
وبويع الوليد بن يزيد في اليوم الذي توفي فيه هشام، وهو يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ
من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، ثم قُتل بالبخراء يوم الخميس لليلتين
بَقِيَتا من شهر جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته سنة وشهرين
واثنين وعشرين يوماً، وقُتل وهو ابن أربعين سنة، والموضع الذي قُتل فيه دُفن فيه،
وهي قرية من قرى دمشق تعرف بالبخراء، على ما ذكرنا، وقد أتينا على خبر مقتله في
كتابنا الأوسط.
ذكر لمع من أخباره وسيره
ظهور يحيى بن زيد ومقتله
ظهر في أيام الوليد بن يزيد: يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رض
الله عنهم، بالجوزجان من بلاد خراسان، مُنْكِراَ للظلم وما عَئمَ الناسَ من الجور،
فسير إليه نَصْرُ بن سيار سَلْمَ بن أحْوَزَ المازني، فقتل يحيى في المعركة بقرية
يقال لها أرعونة، ودفن هنالك، وقبره مشهور مَزُورٌ إلى هذه الغاية، وليحيى وقائع
كثيرة، وقتل في المعركة بسهم أصابه في صُدْغه، فولّى أصحابه عنه يومئذ، واحتُزً
رأسه، فحمل إلى الوليد، وصلب جسده بالجوزجان، فلم يزل مصلوباً إلى أن أخرج أبو
مسلم صاحب الدولة العباسية، فقتل أبو مسلم سَلْم بن أحوز، وأنزل جثة يحيى فصلى
عليها في جماعة أصحابه ودفنت هناك، وأظهر أهل خراسان الذياحة على يحيى بن زيد سبعة
أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أمية، ولم يُولَدْ في
تلك السنة بخراسان مولود إلا وسمي بيحيى أو بزيْدٍ، لما داخل أهل خراسان من الجزع
والحزن عليه.
وكان ظهور يحيى فىِ أخر سنة خمس وعشرين، وقيل: في أول سنة ست وعشرين ومائة، وقد
أتينا على أخباره وما كان من حروبه في الكتاب الأوسط، وفي غيره مما سلف من كتبنا،
فأغنى ذلك عن إعادته.
وكان
يحيى يوم قتل يكثر من التمثل بشعر الخنساء:
نهِينُ النفوس، وَهون النفو ... س يوم الكريهة أوفر لها
لهو الوليد وخلاعته
وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حَمَلَ المغنين
من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي وَالعَزْف، وفي أيامه كان
ابن سُرَيج المغني، وَمَعْبَد، وَالغَريض، وابن عائشة، وابن مُحْرز، وَطُويَس،
ودحمان، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه، وعلى الخاص والعام، واتخذ القِيَان،
وكان متهتكاً ماجناً خليعاً، وطرب الوليد لليلتين خلتا من ملكه وأرق فأنشأ يقول:
طَال لَيْلِي وَبِتُّ أسقَى السُّلاَفَه ... وأتاني نَعِيُ مَنْ بِالرُّصَافَةْ
وأتاني ببردة وقضيب ... وأتاني بخاتم لِلْخِلافَه
ومن مجونه قوله عند وفاة هشام، وقد أتاه البشير بذلك، وسَلّم عليه بالخلافة، فقال:
إني سمعت، خليلي، ... نحو الرُّصَافة رَنَهْ
أقبلت أسْحَبُ ذَيلِي ... أقول: ما حَالهنه
إذا بنات هشام ... يَنْدُبْنَ وَالدَهنه
يدعون ويلاً وَعَوْلأ ... وَالوَيْلُ حَلَّ بِهنه
أنا المُخَنَثُ حَقّاً ... إن لم أنيكنهنه
وقيل للوليد: ما بقي من لذاتك؟ قال: محادثة الإِخوان في الليالي القُمْر، على
الكثبان العَفْر.
الوليد وشراعة بن زيد
وبلغ الوليد عن شراعة بن زيد ورود حسن عشرة وحلاوة مجالسة، فبعث في إحضِاره، فلما
أدخل إليه قال: إني ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب ولا سُنَة، قال: ولست من أهلهما،
قال: إنما أسألك عن القهوة، قال: سل عن أي ذلك شئت يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول
في الشراب؟ قال: عن أية تسأل؟ قال: ما تقول في الماء؟ قال: يشاركني فيه البغل
والحمار، قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: خُمَار وَأذىَ، قال: فنبيذ التمر؟ قال: ضُراط
كله، قال: فالخمر؟ قال: شقيقة روحي، وأليفه نفسي، قال: فما تقول في السًمَاع؟ قال:
يبعث مع التأني على ذكر الأشجان، ويجدِّدُ اللهو على مواقع الأحزان، ويؤنس الخليَ
الوحيد، ويَسرُّ العاشق الفريد، ويبرد غليل القلوب، ويثير من خواطر الضمائر خطرة
ليست من الملاهي لغيره، يسرع ترقيها في أجزاء الجسد، فتهيج النفس، وتقوي الحس،
قال: فأي المجالس أحب إليك؟ قال: ما رأيت فيه السماء من غير أن ينالني فيه أذى،
قال: فما تقول في الطعام؟ قال: ليس لصاحب الطعام اختيار ما وجده أكله، فاتخذه
الوليد نديماً.
من قوله في الشراب
ومن مليح قوله في الشراب من أبيات:
وَصَفْرَاءَ في الكأس كالزعْفَرَان ... سَبَاهَا لنا التَجْرُمِنْ عسقَلاَن
تُرِيك القَذَاةَ وعرض الإنا ... ء سَتْرٌ لها دون مسَ البَنَان
لها حَبَبٌ كلما صُفِّقَت ... تراها كلمعة بَرْقٍ يماني
ومن مجونه أيضاً على شرابه قوله لساقيه:
آسْقِنِي يا يزيد بالقرقاره ... قَدْ طَرِبْنَا وَحَنَت الزمَارَه
اسقني اسقني، فإن ذنوبي ... قد أحاطت فما لها كَفَّارَه
سمير الوليد يتحدث عنه
وأخبَرَنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، عن محمد بن سلام الجمحي، قال:
حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن أبيه، قال: كنت سميراً للوليد بن يزيد، فرأيت ابن
عائشة القرشي عنده وقد قال له: غنني، فغناه:
إني رأيت صبيحة النَحْر ... حُوراً نَفَيْنَ عزيمة الصَّبْر
مثل الكواكب في مطالعها ... عند العشاء أطَفْنَ بالبدْر
وخرجت أبْغِي الأجر محتَسِباً ... فرجعت مَوْقُوراً من الوزْر
فقال
له الوليد: أحسنت واللّه يا أميري، أعِدْ بحقِّ عبدِ شمس، فأعاد، فقال: أحسنت
واللّه، بحق أمية أعد، فأعاد، فجعل يتخطىّ من أب إلى أب ويأمره بالإِعادة، حتى بلغ
نَفْسَه، فقال: أعد بحياتي، فأعاد، فقام إلى ابن عائشة فأكَبَّ عليه ولم يُبْق
عضواً من أعضائه إلا قَبَّله، وأهْوَى إلى أيره يقبله، فجعل ابن عائشة يضم ذكره
بين فخذيه، فقال الوليد: واللّه لا زلت حتى أقَبِّلَهُ، فأبرأه فقبل رأسه وقال:
واطرباه واطرباه، ونزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقى مجرداً إلى أن أتوه
بثياب غيرها، ودعا له بألف دينار فدفعت إليه، وحمله على بغلة له وقال: اركبها على
بساطي، وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغَضَى.
ورث الوليد الخلاعة عن يزيد أبيه
قال المسعودي: وقد كان ابن عائشة عَنَى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك أباهُ
فأطربه، وقيل: إنه ألحد وكفر في طربه، وكان فيما قال لساقيه: اسقنا بالسماء
الرابعة، فكأن الوليد بن يزيد قد ورث الطرب في هذا الشعر عن أبيه، والشعر لرجل من
قريش، والغناء لابن سريج، وقيل: لمالك، على حسب ما في كتب الأغاني من الخلاف في
ذلك مما ذكره إسحاق بن إبراهيم الموصلي في كتابه في الأغاني وإبراهيم بن المهدي
المعروف بابن شَكْلة في كتابه في الأغاني أيضاً، وغيرهما ممن صنف في هذا المعنى،
والوليد يُدْعَى خليع بني مروان.
فعله بالمصحف وقد استفتح به
وقرأ ذات يوم ماله " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من
ماء صديد " فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب، وأقبل يرميه وهو يقول:
أتُوعِدُ كلُّ جبار عنيد ... فها أنَا ذاك جبار عنيد
إذا ماجِئْتَ ربك يوم حَشْر ... فَقُلْ يارب خَرَّقَنِي الوليد
وذكر محمد بن يزيد المبرد النحوي أن الوليد ألحد في شِعْرٍ له ذكر فيه النبي صلى
الله عليه وسلم وأن الوحي لم يأته عن ربه، كَذَبَ أخزاه اللّه!! من ذلك الشعر:
تلعبَ بالخلافة هاشمي ... بلاوَحْيٍ أتاه ولا كتاب
فقل للَّهِ يمنعني طعامي، ... وقل للَّهِ يمنعنى شرابي!
فلم يُمْهَلْ بعد قوله هذا إلا أياماً حتى قتل.
وأم الوليد بن يزيد: أًم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثَّقَفِيَّة، ويكنى أبا
العباس.
من خواص اليشب
وقد كان حمل إليه جفنة من البلور وقيل: من الحجر المعروف باليشسب وقد ذهب جماعة من
الفلاسفة إلى أن مَنْ شَرِبَ فيه الخمر لا يسكر، وقد ذكرنا خاصية ذلك في كتاب
القضايا والتجارب وأن من وضع تحت رأسه منه قطعةً أو كان فص خاتمه منه لم ير إلا
رؤياً حسنة، فأمر الوليد فملئت خمراً وطلع القمر وهو يشرب وندماؤه معه، فقال: أين
القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في البرج الفلإني، فقال له آخر منهم: بل هو في الجفنة
وقد كان القمر تبين في شعاع الجوهر وصورته في ذلك الشراب فقال له الوليد: واللّهِ
ما تَعَدَّيت ما في نفسي، وطرب طرباً شديداً، وقال: لأصطبحَنَّ، هفت هفته، وهذا
كلام فارسي تفسيره لأصطبحن سبعة أسابيِع، فدخل عليه بعض حجابه فقال: يا أمير
المؤمنين، إن بالباب جمعاَ من وفود العرب وغيرهم من قريش، والخلافة تجلُّ عن هذه
المنزلة، وتبعد عن هذه الحال، فقال: آسقوه، فأبى، فوضع في فمه قمح وجعلوا يسقونه
حتى خَرِّما يعقل سكراً.
وقد كان أبوه أراد أن يعهد إليه، فلاستصغاره لسنه عهد إلى أخيه هشام، ثم إلى
الوليد من بعده.
وكان الوليد مُغْرىً بالخيل وحبها وجمعها، وإقامة الحَلْبة، وكان السندي فرسه جواد
زمانه، وكان يسابق به في أيام هشام، وكان يقصر عن فرس هشام المعروف بالزائد، وربما
ضَامَّه، وربما جاء مُصَلِّياً.
مراتب خيل الحلبة
وهاك مراتب السوابق من الخيل إذا جَرَتْ، فأولُها السابقُ، ثم المصَلّي، وذلك أن
رأسه عند صَلاَ السابق، ثم الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، والعاشر السُّكَّيت،
مشحد، وما جاء بعد ذلك لم يعتد به، والفسكل: الذي يجيء في الحَلبة آخِرَ الخيل.
وأجرى الوليد الخيل بالرصافة، وأقام الحَلبة، وهي يومئذ ألفُ قارِح، ووقف بها ينتظر
الزائد، ومعه سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وكان له فيها جواد يُقال له المصباح،
فلما طلعت الخيل قال الوليد:
خَيْلِي
وَرَبِّ الكَعبة المحرمه ... سبقْنَ أفرَاس الرِّجَال اللُّوَّمَه
كمَا سبقناهم وَحُزنا المكْرُمَه
كذاك كُنَّا في الدُّهُور القدمه ... أهل العُلاَ والرتب المعظّمَه
فأقبل فرس ابن الوليد ويقال له: الوضاح أمام الخيل فلما دنا صرع فارسه، وأقبل
المصباح فرسُ سعيدٍ يتلوه وعليه فارسه، وهو فيما يرى سعيد يعد سابقاً، فقال سعيد
والوليد يسمع:
نحن سبقنا اليوم خيل اللُّوَّمَه ... وَصَرَفَ اللَّه إلينا المكُرُمَه
كذاك كُنَا في الدُّهُورِ القدمه ... أهل العًلاَ والرًّتَب المعظمة
فضحك الوليد لما سمعه، وخشي أن تسبق فرس سعيد، فركض فرسَهُ حتى ساوى الوضاح، فقذف
بنفسه عليه، ودخل سابقاً، فكان الوليد أول من فعل ذلك وَسَنَّه في الحلبة، ثم تلاه
في الفعل كذلك المهديّ في أيام المنصور، والهادي في أيام المهدي، ثم عرضت على
الوليد الخيل في الحَلَبة الثانية، فمرّ به فرس لسعيد، فقال: لا نسابقك يا أبا
عنبسة، وأنت القائل:
نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيل اللومه
فقال سعيد: ليس كذا قلت يا أمير المؤمنين، وإنما قلت:
نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيلا لومه
فضحك الوليد، وضمه إلى نفسه، وقال: لا عدمَتْ قريش أخاً مثلك.
وللوليد بن يزيد أخبار حسان في جمعه الخيولَ في الحلْبَة، فإنه اجتمع له في الحلبة
ألف قارع، وجمع بين الفرس المعروف بالزائد والفرس المعروف بالسندي، وكانا قد برزا
في الجري على خيول زمانهما، وقد ذكر ذلك جماعة من الأخباريين وأصحاب التواريخ، مثل
ابن عفير والأصمعي وأبي عبيدة وجعفر بن سليمان، وقد أتينا على الغُرَر من أخباره
في أخبار الخيل، وأخبار الحَلْبَات، وخبر الفرس المعروف بالزائد والسندي وأشقر
مروان، وغير ذلك من أخبار من سلف من الأمويين، ومن تأخر، في كتابنا المترجم
بالأوسط، وإنما الغرض من هذا الكتاب إيراده جوامع تاريخهم، ولُمَع من أخبارهم
وسيرهم، وكذلك أتينا على ذكر ما يستحب من معرفة خلق الخيل وصفاتها من سائر أعضائها
وعيوبها وخلقها، والشاب منها والهرم، ووصف ألوانها ودوائرها، وما يستحسن من ذلك، ومقادير
أعمارها، ومنتهى بقائها، وتنازع الناس في أعداد هذه الدوائر، والمحودة منها
والمذمومة، وَمَنْ رأى أنها ثماني عَشَرَةَ أو أقل من ذلك أو أكثر على حسب ما أدرك
من طرق العادات بها والتجارب، ووصف السوابق من الخيل، وغير ذلك مما تكلم الناس به
في شأنها وأعرافها، فيما سلف من كتبنا.
وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين
وفي أيام الوليد بن يزيد كانت وفاة أبي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم، وقد تنوزع في ذلك: فمن الناس من رأى أن وفاته كانت في أيام هشام،
وذلك سنة سبعَ عشرةَ ومائة، ومن الناس من رأى أنه مات في أيام يزيد بن عبد الملك،
وهو ابن سبع وخمسين سنة، بالمدينة، ودُفن بالبقيع مع أبيه علي بن الحنسين، وغيره
مِنْ سَلَفِه رضي الله عنهم، مما سنورد ذكرهم فيما يرد من هذاالكتاب إن شاء اللّه
تعالى، واللهّ ولي التوفيق.
ذكر أيام يزيد وإبراهيم ابني الوليد
ابن عبد الملك بن مروان
ولي يزيد بن الوليد بدمشق ليلة الجمعة لسبع بَقِين من جمادي الآخرة، فبايعه الناس
بعد قتل الوليد بن يزيد، وتوفي يزيد بن الوليد بدمشق يوم الأحد هلال ذي الحجة سنة
ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته من مقتل الوليد بن يزيد إلى أن مات خمسة أشهر وليلتين،
وقد كان إبراهيم بن الوليد أخوه قام بالأمر من بعده، فبايعه الناس بدمشق أربعة
أشهر، وقيل: شهرين، ثم خُلِعَ، وكانت أيامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط،
واختلاف الكلمة، وسقوط الهيبة، وفيه يقول بعض أهل ذلك العصر:
نبايع إبراهيم في كلِّ جمعة ... إلا إن أمْراً أنت وَإليه ضائع
ودُفن يزيد بن الوليد بدمشق بين باب الجابية وباب الصغير، وهو ابن سبع وثلاثين
سنة، ويقال: ابن ست وأربعين سنة على الخلاف في ذلك.
ذكرلمع مما كان في أيامهما
وصف يزيد الناقص
كان
يزيد بن الوليد أحْوَلَ، وكان يلقب بيزيد الناقص، ولم يكن ناقصاً في جسمه ولا
عَقْله، وإنما نَقصَ بعض الجندِ من أرزاقهم، فقالوا: يزيد الناقص، وكان يذهب إلى
قول المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة: من التوحيد، والعدل، والوعيد،
والأسماء والأحكام وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
قول المعتزلة في التوحيد
وتفسير قولهم فيما ذهبوا إليه من الباب الأول وهو باب التوحيد وهو ما اجتمعت عليه
المعتزلة من البصريين والبغداديين وغيرهم، وإن كانوا في غير ذلك من فروعهم
متباينين، من أن اللّه عز وجل لا كالأشياء وأنه ليس بجسم ولاعَرَضٍ ولاعنصر ولاجزء
ولاجوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وأن شيئاً من الحواس
لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار، بل
هو الذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حَدّ، وأنه الخالق للأشياء
المُبْدِع لها لا من شيء، وأنه القديم، وأن ما سواه محدث.
قولهم في العدل
وأما القول بالعدل وهو الأصل الثاني فهو أن اللهّ لا يحبُّ الفساد، ولا يخلق أفعال
العباد، بل يفعلون ما أمروا به وَنُهُوا عنه بالقدرة التي جعلها اللّه لهم وركبها
فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد، ولم ينه إلا عما كره، وأنه وليُّ كل حسنة أمر
بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم مالا يطيقونه، ولا أراد منهم مالا
يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قَبْض ولا بَسْط إلا بقدرة اللّه التي أعطاهم
إياها. وهو المالك لها دونهم يُفْنِيها إذا شَاءَ، وَيُبْقِيها إذا شَاءَ، ولو شاء
لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطرارياً عن معصيته، ولكان على ذلك قادراً، غير أنه
لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة البلوى.
قولهم في الوعيد
أما القول بالوعيد وهو الأصل الثالث فهو أن الله لا يغفر لمرتكب الكبائر إلا
بالتوبة، وإنه لصادق في وعده ووعيده، لا مُبَدِّلَ لكلماته.
قولهم في المنزلة بين المنزلتين
وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع فهو أن الفاسق المرتكب
للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمى فاسقاَ، على حسب ما ورد التوقيف بتسميته،
وأجمع أهل الصلاة على فسوقه.
قال المسعودي: وبهذا الباب سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء
والأحكام، مع ما تقدم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار.
قولهم في الأمر بالمعروف
وأما القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس فهو أن ما ذكر
على سائر المؤمنين واجب، على حسب استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان
كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق.
فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة، ومن أعتقد ما ذكرنا من هذه الأصول الخمسة كان
معتزلياً، فإن اعتقد الأكثر أو الأقل لم يستحق اسم الاعتزال، فلا يستحقه إلا
باعتقاد هذه الأصول الخمسة، وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم.
الاختلاف في الإِمامة
وقد أتينا على سائر قولهم في أصولهم وفروعهم وأقاويلهم وأقاويل غيرهم من فرق الأمة
من الخوارج والمرجئة والرافضة والزيدية والحشوية وغيرهم في كتابنا المقالات في
أصول الديانات وأفردنا بذلك كتابنا المترجم بكتاب الإبانة اجتبيناه لأنفسنا،
وذكرنا فيه الفرق بين المعتزلة وأهل الإمامة، ومابان به كل فريق منهم عن الآخرة إذ
كانت المعتزلة وغيرها من الطوائف تذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة، وذلك أن
الله عز وجل لم ينص على رجل بعينه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم و لا اجتمع
المسلمون عندهم على رجل بعينه، وأن اختيار ذلك مفوَّضُ إلى الأمة تختار رجلاً منها
ينفِّذُ فيها أحكامه، سواء كان قرشياً أو غيره من أهل ملّة الإسلام وأهل العدالة
والإِيمان، ولم يراعوا في ذلك النّسَبَ ولا غيره، وواجب على أهل كل عصر أن يفعلوا
ذلك.
والذي ذهب إلى أن الإِمامة قد تجوز في قريش وغيرهم من الناس هو المعتزلة بأسرها،
وجماعة من الزيدية مثل الحسن بن صالح بن يحيى، ومن قال بقوله، على حسب ما قدمنا من
ذكرهم فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار هشام.
ويوافق
على هذا القول جميع الخوارج من الأباضية وغيرهم، إلا النجدات من فرق الخوارج،
فزعموا أن الإمامة غير واجب نصبها، ووافقهم على هذا القول أناس من المعتزلة ممن
تقدم وتأخّر، إلا أنهم قالوا: إن عدلت الأُمة ولم يكن فيها فاسق لم يحتج إلى إمام.
وذهب من قال بهذا القول إلى دلائل ذكروها منها قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:
لو أن سالماً حَيٌّ دخلتني فيه الظنون، وذلك حين فَوضَ الأمر إلى أهل الشُورَى،
قالوا: وسالم مولى أمرأة من الأنصار، فلو لم يعلم عمر أن الإِمامة جائزة في سائر
المؤمنين لم يطلق هذا القول، ولم يتأسف على موت سالم مولى أبي حذيفة.
قالوا: وقد صح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة، منها قوله "
اسمعوا واطيعوا ولو لعبد أجْدَعَ " وقد قال اللّه عزّ وجلّ: " إن أكرمكم
عند اللّه أتقاكم " .
وذهب أبو حنيفة، وأكثر المرجئة، وأكثر الزيدية من الجارودية وغيرها، وسائر فرق
الشيعة والرافضة والراوندية، إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش فقط، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " الإمامة في قريش " وقوله عليه السلام: "
قَدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها " ولما احتج المهاجرون به على الأنصاو يوم
ثقيفة بني ساعدة من أن الإمامة في قريش لأنهم إذا ولوا عدلوا، ولرجوع كثير من الأنصار
إلى ذلك.
ولما انفرد به أهل الإِمامة من أن الإِمامة لا تكون إلا نصاً من اللهّ ورسوله على
عَيْنِ الإمام واسمه واشتهاره كذلك، وفي سائر الأعصار لا تخلو الناس من حجةٍ للّه
فيهم ظاهراً أو باطناً، على حسب استعمالة التقية والخوف على نفسه، واستدلوا بالنص
على الإمامة، وبدلائل كثيرة من العقول وجوامع من النصوص في وجوبها، وفي النص
عليهم، وفي عصمتهم، من ذلك قوله عز وجل مخبراً عن إبراهيم: " إني جاعلك للناس
إماما " ومسالة إبراهيم بقوله: " ومن ذريتي " و إجابة اللهّ له
بأنه " لا ينال عهدي الظالمين " .
قالوا: ففيما تلونا دلائل على أن الإمامة نص من اللّه، ولو كان نصها إلى الناس ما
كان لمسألة إبراهيم ربه وجه، ولما كان اللة قد أعلمه أنه اختاره، وقوله " لا
ينال عهدى الظالمين " دلالة على أن عهده يناله من ليس بظالم.
ووصف هؤلاء الإمام فقالوا: نعت الإمام في نفسه: أن يكَون معصوماً من الذنوب، لأنه
إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما يدخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج أن يقام
عليه الحد، كما يقيمه هو على غيره، فيحتاج الإِمام إلى إمام، إلى غير نهاية، ولم
يؤمن عليه أيضاً أن يكون في الباطن فاسقاً فاجراً كافراً، وأن يكون أعلم الخليقة،
لأنه إن لم يكن عالماً لم يؤمن عليه أن يقلب شرائع اللهّ وأحكامه، فيقطع من يجب
عليه الحد، ويحد من يجب عليه القطع، ويضع الأحكام في غير المواضع التي وضعها
اللهّ، وأن يكون أَشْجَعَ الخلق، لأنهم يرجعون إليه في الحرب، فإن جبن وهرب يكون
قد باء بغضب من اللّه، وأن يكون أسْخَى الخلق، لأنه خازن المسلمين وأمينهم، فإن لم
يكن سخياً تاقت نفسه إلى أموالهم، وشَرِهَتْ إلى ما في أيديهم، وفي ذلك الوعيد
الشديد بالنار، وذكروا خصالاً كثيرة ينال بها أعلى درجات الفضل لا يشاركه فيما
أحد، وأن ذلك كله وجد في علي بن أبي طالب وولده رضي اللهّ عنهم من السبق إلى الإِيمان،
والهجرة، والقرابة، والحكم بالعدل، والجهاد في سبيل اللّه، والورع، والزهد، وأن
اللّه قد أخبر عن بواطنهم وموافقتها لظواهرهم بقوله عز وجل، ووصفه لهم فيما صنعوه
من الإِطعام للمسكين واليتيم والأسير، وأن ذلك لوجهه تعالى خالصاً، لا أنهم
أبْدَوه بألسنتهم فقط وأخبر عن أمرهم في المنقلَبِ، وحسن المَوئل في المحشر، ثم
إخباره عز وجل عما أذهب عنهم من الرجس، وفعل بهم من التطهير، وغير ذلك مما أوردوه
دلائل لما قالوه، وأن علياً نص على ابنه الحسن، ثم الحسين، والحسين على علي بن
الحسين، وكذلك مَنْ بعده إلى صاحب الوقت الثاني عشر، على حسب ما ذكرنا وسمينا في
غير هذا الموضع من هذا الكتاب.
ولأهل الإِمامة من فرق الشيعة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة -
كلام كثير في الغيبة واستعمال التقية، وما يذكرونه من أبواب الأئمة والأوصياء، لا
يسعنا إيراده في هذا الكتاب، إذ كان كتاب خبر، وإنما تغلغل بنا الكلام إلى إيراد
لمع من هذه المذاهب والآراء.
وكذلك
ما عليه غير أهل الإِمامة من أصحاب الدور والسيرورة، وما يراعونه من الظهور، وقد
أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا، وما وصفنا فيها من الأقاويل في الظاهر
والباطن والسائر والدائر والوافر، وغير ذلك من أمورهم وأسرارهم.
قال المسعودي: وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة من المعتزلة وغيرهم من أهل
دَارَيّا والمِزَّة من غوطة دمشق على الوليد بن يزيد، لما ظهرمن فسقه، وشمل الناس
من جوره، فكان من خبرمقتلِ الوليد ما قد ذكرناه فيما سلف من كتبنا مفصلاً، وذكرناه
في هذا الكتاب مجملاَ.
أم يزيد أم ولد
وكان يزيد بن الوليد أول من ولي هذا الأمر وأمُهُ أم ولد، وكانت أمه سارية بنت
فيروز بن كسرى، وهو الذي يقول في ذلك: أنا ابْنُ كِبسْرى، وأبي مَرْوان وَقَيْصَرٌ
جدَي، وجدِّي خَاقَان.
وكان يكنى بأبي خالد، وأم أخيه إبراهيم أم ولد تدعى بدبرة، والمعتزلة تفضل في
الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز، لما ذكرناه من الديانة.
ظهور مروان بن محمد الحمار
وفي سنة سبع وعشرين ومائة أقبل مَرْوَان بن محمد بن مروان من الجزيرة فدخل دمشق،
وخرج إبراهيم بن الوليد هارباً من دمشق، ثم ظفر به مروان فقتله وصلبه، وقتل مَنْ
مالأه ووالاه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد القَسْري، وبدأ أمر بني
أمية يؤول إلى ضعف. وذكر اليحصبي عن الخليل بن إبراهيم السبيعي، قال: سمعت ابن
الجمحي يقول: قال لي العلاء ابن بنت ذي الكلاع: إنه كان مؤانساً لسليمان بن عبد
الملك لا يكاد يفارقه، وكان أمر المُسَودة بخراسان، والمشرق قد بان، ودنا من
الجبل، وقرب من العراق، واشتد إرْجَافُ الناس، ونطق العدو بما أحب في بني أمية
وأوليائهم، قال العلاء: فإني لَمَعَ سليمان وهو يشرب حذاء رصافة أبيه، وذلك في آخر
أيام يزيد الناقص، وعنده حَكَم الوادي، وهو يغنيه بشعر فبعرجيَّ :
إن الحَبِيب تَرَوَّحَتْ أحمَاله ... اصُلاً، فدمعك دائم إِسْبَالهُ
آقْنَ الحَيَاءَ فقد بكيْتَ لِعَوْلَةٍ ... لوكان ينفع باكياً إِعْوَالهُ
يا حبذَا تلك الحمول، وحبَّذَا ... شَخْص هُنَاك، وحبًذَا أمثَالهُ
فأجاد بما شاء، فشرب سليمان بالرطل، وشربنا معه، حتى توسدنا أيدينا، فلم أنتبه إلا
بتحريك سليمان إياي، فقمت إليه مسرعاً، فقلت له: ما شأن الأمير. فقال لي: على
رِسْلِكَ، رأيت كإني في مسجد دمشق، وكأن رجلاً في يده خنجر وعليه تاج أرى بصيص ما
فيه من جوهر، وهو رافع صوته بهذه الأبيات:
أبَنِي أمية قَدْ دَنَا تَشتيتكم ... وذَهَابُ مُلْكِكُمُ وأن لا يرجع
وينال صفوتَهُ عدو ظالم ... للمحسنين إليه ثمة يفجع
بعد الممات بكل ذكرصالح ... ياوَيْلَهُ من قُبْح ماقديَصْنَعُ
فقلت: بل لا يكون ذلك، وعجبت من حفظه، ولم يكن من أصحاب ذلك، فَوَجَم ساعة ثم قال:
يا حميري، بَعِيدُ ما يأتي به الزمان قريبٌ، قال: فما اجتمعنا على شرابٍ بعد ذلك.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان من أمر المُسَوِّدة ومروان بن محمد الجَعْدي
ما كان.
سبب زوال ملك الأمويين
وذكر المنقري قال: سئل بعض شيوخ بني أمية وَمُحصَليها عقيب زوال الملك عنهم إلى
بني العباس: ما - كان سبب زوال ملككم، قال: إنا شُغِلْنَا بِلَذَّاتِنَا عن تفقدِ
ما كان تَفَقده يلزمنا فَظَلَمْنَا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة
مِنَّا، وتحومل على أهل خراجنا، فَتَخَلّوْا عنا، وخربت ضياعنا، فخلَتْ بيوتُ
أموالنا، ووثقنا بوزرائنا، فاثَرُوا مرافقهم على منافعنا، وَأَمْضوْا أموراً دوننا
أَخْفَوْا علمها عنا، وتأخّرَ عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا،
فتظافروا معهم على حربنا، وَطَلَبنَا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان
استتار الأخبار عنا من أوْكَدِ أسباب زوال ملكنا.
ذكر السبب في العصبية بين النزارية واليمانية
الكميت يعرض شعره على الفرزدق
ذكر
أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي قال: لما قال الكميت بن
زيد الأسدي - من أسد مضر بن نزار - الهاشمياتِ قَدِمَ البصرة ة فأتى الفرزدق فقال:
يا أبا فراس، أنا ابن أخيك، قال: ومَنْ أنت. فانتسب له. فقال: صدقت فما حاجتك.
قال: نُفِثَ على لساني، وأنت شيخ مضر وشاعرها، وأحببت أن أعرض عليك ما قلت، فإن
كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان غير ذلك أمرتني بسَتْرِهِ وَسَتَرْتَه عَلَيَّ،
فقال: يا ابن أخي، أحسب شعرك على قدر عقلك، فهات ما قلت راشداً، فأنشده:
طَرِبْتُ وَمَا شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولالعباً مِنِّي، وذُو الشيب يَلْعَبُ
قال: بلى فَالعَبْ، فقال:
وَلَمْ يُلْهِنِي دَارٌ، ولا رَسْمُ مَنْزِل ... ولم يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ
مُخَصَّبُ
قال: فما يُطْرِبك إذاً. قال:
وما أنَا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطيرهَمُّهُ ... أصاح غُرَابٌ أو تَعَرَّض ثعلَبُ
قال: فما أنت وَيْحك، وإلى مَنْ تَسْمُو، فقال:
وَمَا السانحات البَارِحَاتُ عَشِيَّةً ... أمَرَّ سليمُ القَرْنِ أم مَر أعْضب
قال: أما هذا فقد أحسنت فيه، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل وَالنّهى ... وَخيْرِ بني حَوَّاء، وَالخَيْرُ، يطْلَبُ
قال: ومَنْ هم وَيْحك. قال:
إلى النَّفَرِ البِيض الذِينَ بحبهم ... إلى اللَّهِ فيما نابني أتقرب
قال: أرِحْنِي وَيْحك مَنْ هؤلاء، قال:
بني هاشم رَهْطِ النبي، فإنني ... بِهِمْ وَلَهُمْ أرْضَى مِرَاراً وأغْضَبُ
قال: للَّهِ دَرُّك يا بُنَيَّ، أصبت فأحسنت، إذ عدلت عن الزعانف والأوباش، إذاً
لا يُصرَّد سهمك، ولا يُكًذّبُ قولك، ثم مَرَّ فيها، فقال: أظهر ثم أظهر وكِدِ
الأعداء، فأنت واللّه أشعر مَنْ مضى وأشعر عَنْ بقِيَ.
الكميت يعرض شعره على أبي جعفر محمد بن علي
فحينئذ قدم المدينة، فأتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم،
فأذن له ليَلاَ وأنشده، فلما بلغ من الميِمية قوله:
وقتيلٍ بالطَّفِّ غُودِرَ منهم ... بين غوغاء أمة وَطَغَام
بكى أبو جعفر، ثم قال: يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك، ولكن لك ما قال رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم، لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذبيت عنا
أهْلَ البيت، فخرج من عنده.
ثم يعرضه على عبد اللّه بن الحسن
فأتى عبد الله بن الحسن بن علي، فأنشده، فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة قد
أعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشْهَدْتُ لك بذلك شهوداً، وناوله
إياه فقال. بأبي أنت وأُمي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال،
ولا واللهّ ما قلت فيكم شيئاً إلا للّه، وما كنت لاخُذَ على شىِء جعلته للهّ مالا
ولا ثمناً، فألح عبد اللّه عليه، وأبى من إعفائه، فأخذ الكميت الكتاب ومضى، فمكث
أياماً، ثم جاء إلى عبد اللّه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه إن لي حاجة،
قال: وما هي، وكل حاجة لك مَقْضية، قال: كائنة ما كانت، قال: نعم، قال: هذا الكتاب
تقبله وترتجع الضيعة، ووضع الكتاب بين يديه،فقبله عبد اللّه.
عبد اللّه بن جعفر يثيب الكميت
ونهض
عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فأخذ ثوباً جلداً فدفعه
إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم، ويقول: يا بني هاشم، هذا الكميت
قال فيكم الشعر حين صمَتَ الناسُ عن فضلكم، وعًرّض دَمَه لبني أمية، فأثيبوه بما
قدرتم، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، وأعلم النساء بذلك،
فكانت المرأة تبعث ما أمكنها، حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها، فاجتمع من الدنانير
والدراهم ما قيمته مائة آلف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال: يا أبا المستهل، أتيناك
بجهد المُقِلِّ، ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا لك هذا المال وفيه حلى النساء كما
ترى، فاستعن به على دهرك، فقال: بأبي أنت وآمي، قد أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي
إياكم إلا اللهّ ورسوله، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا، فاردده إلى أهله، فجهد
به عبد اللّه أن يقبله بكل حيلة، فأبى، فقال: إن أبيت آن تقبل فإني رأيت أن تقول
شيئاً تغضب به بين الناس، لعلّ فتنةً تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما تحب،
فابتدأ الكميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مضر بن نزار بن مَعَدّ
وربيعة بن نزار وإيادٍ وأنمار ابني نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم، ويُطْنُب في
وصفهم، وأنهم أفضل من قَحْطَان، فغضب بها بين اليمانية والنزارية فيما ذكرناه وهي
قصيدته التي أولها:
ألا حييتِ عَنَّا يا مدِينا ... وَهَلْ نَاسٌ نقول مُسَلّمينا
إلى أن انتهى إلى قوله تصريحاً وتعريضَاَ باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم
فيها، وهو قوله:
لنا قمر السماء وكل نجم ... تشير إليه أيدي المهتدين
وجدت الله إذ سمى نزاراً ... وأسْكَنَهُمْ بمكة قاطنينا
لنا جَعَلَ المكَارِمَ خالصاتٍ ... وللناس القَفَا ولنا الجبينا
وما ضربت هجائن من نزار ... فوالج من فُحُول الأعجمينا
وماحملوا الحمير على عِتَاقٍ ... مُطَهَّرَة فيلفوا مُبْلِغينا
وما وجَدت نساء بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
دعبل الخزاعي يرد على الكميت
وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزَاعِي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب
اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصَرَّح وعَرَّض بغيرهم، كما فعل الكميت، وذلك
في قصيدته التي أولها:
أفيقي من ملامِكِ يَا مِعينا ... كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأربَعِينَا
ألم تحزنكِ آحداث الليالي ... يشيبن الذوائب والقرونا
أحيى الغُرَّ من سَرَوَات قومي ... لقد حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدينا؟؟؟
فإن يَكُ آل إِسرائيل منكم ... وكُنتُم بالأعاجم فَاخِرِينَا
فلا تَنْسَ الخنازير اللَّواتي ... مُسِخْنَ مع القُرُودِ الخَاسِئِينَا
بأيلة والخليج لهم رُسُوم ... " وآثار قدُمْنَ وما مُحِينَا
وَمَا طلبُ الكميت طِلابُ وتْر ... ولكنَّا لنصرتنا هُجِينَا
لقد علمت نِزَارٌ أن قومي ... إلى نصْرِ النبوة فاخِرِينَا
كانت العصبية من دواعي زوال ملك بني أمية
وهي طويلة. ونمى قول الكميت في النزارية واليمإنية، وافتخرت نزار على اليمن،
وافتخرت اليمن على نزار، وأدْلى كل فريق بماله من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت
العصبية في البدو والحضر فنتج بذلك أمر مَرْوَان بن محمد الجعدي، وتعصبه لقومه من
نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية، وتغلغل الأمر إلى انتقال
الدولة عن بني أمية، ثم ما تلا ذلك من قصة مَعن بن زائدة باليمن، وَقَتْلِهِ أهلها
تعصباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار، وَقطْعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة
في القِدَم، وفعل عقبة بن سالم بعُمَان والبحرين، وقتله عبد القيس وغيرهم من ربيعة
وسائر نزار ممن بأرض البحرين وعُمَان كياداً لمعن، وتعصباً من عقبة بن سالم لقومه
من قحطان، وغير ذلك مما تقدم وتأخرمما كان بين نزار وقحطان.
ذكرأيام مروان بن محمد
بن مروان ابن الحكم وهو الجعدي
وبويع
مروان بن محمد بن مروان بدمشق يوم الأثنين لأرْبَعَ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من صفر
سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: إنما دعا إلى نفسه بمدينة حًران من ديار مُضَر، وبويع
له بها، وأمه أم ولد يُقال لها ريا، وقيل: طرونة، كانت لمصعب بن الزبير، فصارت بعد
مقتله لمحمد بن مروان أبيه، وكان مروان يكنى أبا عبد الملك، واجتمع أهْلُ الشام
على بيعته، إلا سليمان بن عبد الملك وغيره من بني أمية، فكانت أيامه منذ بويع
بمدينة دمشق من أرض الشام إلى مقتله خمس سنين وعشرة أيام، وقيل: خمس سنين وثلاثة
أشهر، وكان مقتله في أول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في
المحرم، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في صفر، وقيل غير ذلك مما تنازع فيه أهل
التواريخِ والسير على حسب تنازعهم في مقدار ملكه فمنهم من ذهب إلى أن مدَته خمس
سِنِينَ وثلاثة أشهر، ومنهم من قال: خمساً وشهرين وعشرة أيام، ومنهم من قال: خمساً
وعشرة أيام، وكان مقتله ببوصير قريةٍ من قرى الذيوم بصعيد مصر، وقد تنوزع في مقدار
سنه كتنازعهم في مقدار ملكه، فمنهم من زعم أنه قُتل وهو ابن سبعين سنة، ومنهم من
قال: ابن تسع وستين، ومنهم من قال: اثنتين وستين، ومنهم من قال: ثمان وخمسين،
وإنما نذكر هذا الخلاف من قولهم لئلا يظن ظَانٌ أننا قد أغْفَلْنَا ما ذكروه أو
تركنا شيئاً مما وصفوه، مما إليه قصدنا في كتابنا هذا، وإن كنا قد أتينا على مبسوط
ما قيل في ذلك، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.
وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب جُمَلاً من كيفية مَقْتَله وأخباره، وجوامع من سيره
وحروبه، وما كان من أمر الدولتين في ذلك من الماضية وهي الأموية والمستقبلة في ذلك
الزمان وهي العباسية مع إفرادنا باباً نذكر فيه جَوَامِعَ تاريخ ملك االأمويين،
وهو الباب المترجم بذكر مقدار المدة من الزمان، وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام،
ثم نُعَقَبُ ذلك بلمع من أخبار الدولة العباسية وأخبار أبي مُسْلم، وخلافة أبي
العباس السَّفّاح ومَنْ تلا عَصْره من خلفاء بني العباس، إلى سنة اثنتين وثلاثين
وثلاثمائة من خلافة أبي إسحاق المتقي للّه إبراهيبم بن المقتدر بالله، إن شاء
اللّه تعالى، واللّه ولي التوفيق.
ذكر مقدار المدة من الزمان
وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام
كان جميع مُلك بني أمية إلى أن بويع أبو العباس السَّفَّاح ألف شهر كاملة لا تزيد
ولا تنقص لأنهم ملكوا تسعين سنة، وأحد عشرشهراً، وثلاثة عشر يوماً.
قال المسعودي: والناس متباينون في تواريخ أيامهم، والمعَوَّلُ على ما نورده، وهو
الصحيح عند أهل البحث وَمَنْ عُنِيَ بأخبار هذا العالم، وهو أن معاوية بن أبي
سفيان مَلَك عشرين سنة، ويزيد بن معاوية ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً،
ومعاوية بن يزيد شهراً وأحد عشر يوماً، ومروان بن الحكم ثمانية أشهر وخمسة أيام،
وعبد الملك بن مروان إحدى وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، والوليد بن عبد الملك
تسع سنين وثمانية أشهر ويومين، وسليمان بن عبد الملك سنتين وستة أشهر وخمسة عشر
يوماً، وعمربن عبد العزيز رضي اللّه عنه سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، ويزيد بن
عبد الملك أربع سنين وثلاثة عشريوماً، وهشام بن عبد الملك تسع عشرة سنة وتسعة أشهر
وتسعة أيام، والوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة وثلاثة أشهر، ويزيد بن الوليد بن
عبد الملك شهرين وعشرة أيام، وأسقطنا أيام إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك كإسقاطنا
أيام إبراهيم بن المهدي أن يعد في الخلفاء العباسيين، ومروان بن محمد بن مروان خمس
سنين وشهرين وعشرة أيام، إلى أن بويع السفّاح، فتكون الجملة تسعين سنة وأحد عشر
شهراً وثلاثة عشريوماً، يضاف إلى ذلك الثمانية أشهر التي كان مروان يقاتل فيها بني
العباس إلى أن قتل، فيصير مُلْكُهم إحدى وتسعين سنة وسبعة أشهروثلاثة عشر يوماً.
يُوضَع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام وتوضع أيام عبد اللّه
بن الزبير إلى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام فيصير
الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، يكون ذلك ألف شهر سواء.
وقد ذكر قوم أن تأويلَ قوله عزّ وجلّ: " لَيْلَةُ القدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألفِ
شَهْر " ما ذكرناه من أيامهم.
وقد
روى عن ابن عباس أنه قال: واللّه ليملكَنَّ بنو العباس ضعف ما ملكته بنو أمية:
باليوم يومين، وبالشهر شهرين، وبالسنة سنتين، وبالخليفة خليفتين.
مدة ملك بني العباس
قال المسعودي: فملك بنو العباس في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانقضى مُلْك بني
أمية، فَلِبَنِي العباس من وقت ملكهم إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين
وثلثمائة مائتا ستة، وذلك أن أبا العباس السفاح بويع له بالخلافة في ربيع الآخر من
سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانتهينا من تصنيفنا من هذا الكتاب إلى هذا الموضع في
شهرربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في خلافة أبي إسحاق المتَقي لله
والله أعلم بما يكون من أمرهم فيما يأتي به الزمان المستقبل بعد هذا الوقت من
الأيام. وقد أتينا بحمد اللهّ فيما سلف من كتابينا أخبار الزمان والأوسط على
الغُرَرِ من أخبارهم، والنوادر من أسمائهم، والطرائف مما كان في أيامهم وعهودهم،
ووصاياهم، ومكاتباتهم، وأخبار الحوادث والخوارج في أيامهم من الأزارقة والأباضية
وغيرهم، ومن ظهر من الطالبيين طالبأ بحق أوآمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، فقتل
في أيامهم، وكذلك مَنْ تلاهم من بني العباس إلى خلافة المتقي للّه من سنتنا هذه
وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة وما ذكرنا في هذا الباب من جوامع التاريخ قد
يخالف ما تقدم بسطه باليوم. أو العشرة أو الشهر عند ذكرنا لدولة كل واحد منهم
وأيامه وهذا هو المُعَوَّل عليه من تاريخهم وَسِنِيهِمْ، والمفصل من مدتهم، واللّه
أعلم، ومنه التوفيق.
ذكر الدوله العباسية ولمع من أخبار مروان
ومقتله وجوامع من حروبه، وسيره
قول الراوندية في الخلافة
قد قدَّمْنَا في الكتاب الأوسط ما ذكرته الراوندية وهم شيعة ولد العباس بن عبد
المطلب، من أهل خراسان وغيرهم من أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قُبِضَ، وأن
أحق الناس بالإمامة بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمفُه ووارثة. وعَصَبَته، لقول
الله عز وجل: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه " وأن
الناس اغتصبوه حقه، وظلموه أمره، إلى أن رَفَهُ اللّه إليهم، وتبرؤا من أبي بكر
وعمر رضي اللّه عنهما، وأجازوا بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإزجاته لها،
وذلك لقوله: يا ابن أخي، هَلُمَّ إلى أن أبايعك فلا يختلف عليك اثنان، ولقول داود
بن عليّ على منبر الكوفة يوم بويع لأبي العباس: يا أهل الكوفة، لم يقم فيكم إمام
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم يعني
أبا العباس السفاح.
من حوار فاطمة الزهراء وأبي بكر الصديق
وقد صنف هؤلاء كتباً في هذا المعنى الذي ادَّعَوْهُ هي متداولة في أيدي أهلها وَمُنْتَحِليها،
منها كتاب صَنَفه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو المترجم بكتاب إمامة ولد العباس يحتج
فيه لهذا المذهب، ويذكر فعل أبي بكر في فدَكَ وغيرها وقصته مع فاطمة رضي اللّه
عنها، ومطالبتها بإرثها من أبيها صلى الله عليه وسلم، واستشهادها ببعلها وابنيها
وام أيْمَنَ، وما جري بينها وبين أبي بكر من المخاطبة، وما كثر بينهم من المنازعة،
وما قالت، وما قيل لها عن أبيها عليه السلام، من أنه قال: " نحن معاشر
الأنبياء نَرث ولا نورث " وما احتجت به من قوله عز وجل: " وورث سليمان
داوُد " على أن النبوة لا تورث، فلم يبق إلا التوارث، و غير ذلك من الخطاب،
ولم يصنف الجاحظ هذا الكتاب، ولا استقصى فيه الحَجَاجَ للراوندية، وهم شيعة ولد
العباس، لأنه لم يكن مذهبه، ولا كان يعتقده، ولكن فعل ذلك تماجناً وتطربَاَ.
العثمانية للجاحظ
وقد صنف أيضاً كتاباً استقصى فيه الحِجَاجَ عند نفسه، وأيده بالبراهين وَعَضّده
بالأدلة فيما تصوره من عقله، وترجمه بكتاب العثمانية، يحل فيه عند نفسه فضائل علي
رضي الله عنه ومناقبه، ويحتج فيه لغيره، طلباً لإماتة الحق، ومضادة لأهله، والله
متم نوره ولو كره الكافرون.
كتب أخرى للجاحظ
ثم
لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب العثمانية حق أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة
المروإنية وأقوال شيعتهم، ورأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي
سفيان، في الانتصار له من علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وشيعته الرافضة، يذكر فيه
رجال المروإنية، ويؤيد فيه إمامة بني أمية وغيرهم.
ثم صنف كتاباً اخر بكتاب مسائل العثمانية، يذكر فيه ما فاته ذكرأ ونقضه عند نفسه،
من فضائل أمير المؤمنين علي ومناقبه فيما ذكرنا.
وقد نقضتُ عليه ما ذكرنا من كتبه ككتاب العثمانية وغيره، وقد نقضها جماعة من
متكلمي الشيعة: كأبي عيسى الوراق، والحسن بن موسى النخعي، وغيرهما من الشيعة ممن
ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعاً ومفترقاً.
وقد نقض على الجاحظ كتاب العثمانية أيضاً رجل من شيوخ المعتزلة البغداديين
ورؤسائهم، وأهل الزهد والديانة منهم، ممن يذهب إلى تفضيل علي والقول بإمامة
المفضول وهو أبو جعفر محمد بن عبد اللّه الإسكافي وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين،
وفيها مات أحمد بن حنبل، وسنذكر وفاة الجاحظ فيما يرد من هذا الكتاب، ووفاة غيره
من المعتزلة، وإن كنا قد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا.
رأي الجريإنية في الإمامة
والذي ذهب إليه مَنْ تأخر من الراوندية وانتقل وتحبر عن جملة الكيسانية القائلة
بإمامة محمد بن الحنفية وهم الجريإنية أصحاب أبي مسلم عبد الرحمن بن محمد صاحب
الدولة العباسية، وكان يلقب بجريان أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد علي بن أبي
طالب، وأن محمداً أوصى إلى ابنه أبي هاشم، وأن أبا هاشم أوصى إلى علي بن عبد اللّه
بن العباس بن عبد المطلب، وأن علي بن عبد اللّه أوصى إلى ابنه محمد بن علي، وأن
محمداً أوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام المقتول بحران، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه
أبي العباس بن عبد الله بن الحارثية المقتول.
أصل أبي مسلم الخراسإني
وقد تنوزع في أمر أبي مسلم: فمن الناس من رأى أنه كان من العرب، ومنهم من رأى أنه
كان عبداً فأعتق، وكان من أهل البرس والجامعين من قرية يُقال لها خرطينة، وإليها
تضاف الثياب البرسية المعروفة بالخرطينية، وتلك من أعمال الكوفة وسَوَادها، وكان
قهرماناً لإدريس بن إبراهيم العجلي، ثم آل أمره ونمت به الأقدار إلى أن أتصل بمحمد
بن علي، بإبراهيم بن محمد الإِمام، فأنفذه إبراهيم إلى خُرَاسان، وأمر أهل الدعوة
بإطاعته والإنقياد إلى أمره ورأيه، فقوي أمره وظهر سلطانه، وأظهم السواد، وصار
زينة في اللباس والأعلام والبنود، وكان أول من سَوَّدَ من أهل خراسان بنيسابور
وأظهر ذلك فيهم أسيد بن عبد اللّه، ثم نمى ذلك في الأكثر من المحن والكُوَر
بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، وضعف أمر نصر بن سَتار صاحب مروان بن محمد الجعدي على
بلاد خراسان، وكانت له مع أبي مسلم حروب أكثر فيها أبو مسلم الحَيَل والمكايد من
تفريقه بين اليمإنية والنزارية بخراسان وغير ذلك مما احتال به على عدوه، وقد كان
لنصر بن سَيَّار حروب كثيرة مع الكرمإني إلى أن قتل، أتَيْنَا على ذكرها في
كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وذكرنا بدء أخبار الكرمإني جديع بن علي، وما كان
بينه وبين سلم بن أحْوَزَ صاحب نصر بن سَيَّار، وما كان من أمر خالد بن بَرْمَك،
وقَحْطبة بن شبيب، وغيرهما من الدُّعَاة والمقيمين بخراسان للدعوة العباسية:
كسليمان بن كثير، وأبي داود خالد بن إبراهيم، ونظرائهم، وما كان من شعارهم عند
إظهار الدعوة، وندائهم حين الحروب: محمد يا منصور، والسبب الذي له ومن أجله أظهروا
استعمال السواد دون سائر الألوان.
بين نصر بن سيار ومروان بن محمد الجعدي
وطالت مكاتبة نصر بن سَيَّارٍ مروانَ، وإعلامه بما هو فيه، وإظهار أمر العباسية،
وتزايده في كل وقت فكان فيما كتب به إليه إعلامه بحال أبي مسلم وحال مَنْ معه،
وأنه كشف عن أمره وبحث عن حاله، فوجده يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد
اللهّ بن العباس، وضمن كتابه أبياتاً من الشعر، وهي:
أرى بين الرَّمَادِ وميض جَمْر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذْكَى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم تطفؤها تَجْنِ حرباً ... مشمرة يشيب لها الغلام
أقول
من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام؟
فإن يَكُ قومنا أضحوا نياماً ... فقل: قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك، ثم قولي: ... على الإسلام والعرب السلام
فلما ورد الكتاب على مروان وَجده مشتغلاً بحروب الخوارج بالجزيرة وغيرها، وما كان
من خبره في حروبه مع الضحاك بن قيس الحَرُوري حتى قتله مروان بعد وقائع كثيرة بين
كفر توثي ورأس العين، وكان الضحاك خرج من بلاد شهرزور، ونضبت الخوارج بعد قتل
الضحاك عليها الحري الشيبإني فلما قتل الحري ولًتِ الخوارج عليها أبا الذلفاء
شيبان الشيبإني، وما كان من حروب مروان مع نعيم بن ثابت الجذامي، وكان خرج عليه
ببلاد طبرية والأردن من بلاد الشام حتى قتله مروان، وذلك في سنة ثمانية وعشرين
ومائة، فلم يدر مروان كيف يصنع في أمر نصر بن سَيَّار وخراسان وإنجازه لما هو فيه
من الحروب والفتن، فكتب إليه مروان مجيباً عن كتابه: إن الشاهد يَرَى ما لا يراه الغائب
فاحسم الثؤلولَ قَبَلَكَ، فلما ورد الكتاب على نصر قال لخواص أصحابه: أمَّا صاحبكم
فقد أعلمكم أن لانَصْرَعنده،
بعض خلال وأعمال مروان بن محمد الجعدي
وأقامَ مروان أكثر أيامه لا يدنو من النساء إلى أن قتل، وبرزت له جارية من جواريه،
فقال لها واللّه لادنوت منك، ولا حَللَتُ لك عقدة، وخراسَانُ ترجُفُ وتتضرم بنصر
بن سيار، وأبو مجرم قد أخذ منه بالمخنَّق.
وكان مع ما هو فيه يُدِيم قراءة سير الملوك، وأخبارها في حروبها، من الفرس وغيرها
من ملوك الأمم.
وَعَذَله بعضُ أوليائه ممن كان يأنس إليه في ترك النساء والطيب وغير ذلك من
اللذات، فقال له مروان: يمنعني منهن ما منع أمير المؤمنين عبد الملِك، فقال له
الرجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ حَمَل صاحب إفريقية إليه جارية ذات بهاء وكمال،
تامة المحاسن، شهية للمتأمِّل، فلما وقَفَتْ بين يديه تأمل حسنها وبيده كتاب ورد
من الحجاج وهو بدير الجماجم مُوَاقعاً لابن الأشْعَثِ، فرمى بالكتاب عن يده، وقال
لها: أنت واللهّ منية النفس، فقالت الجارية: ما يمنعك يا أمير المؤمنين إذ كنتُ
بهذا الوصف؟ قال: يمنعني واللّه منك بَيْتٌ قاله الأخطل:
قوم إذا حَارَبُوا شدوا مَآزِرَهُم ... دونَ النساءِ ولو بَاتَتْ بأطْهَار
أألتذ بالعيش وابن الأشعث مُصَافٌّ لأبي محمد وقد هلكَتْ فيه زعماء العرب؟ لاها
الله إداً، ثم أمر بصيانتها، فلما قتل ابن الأشعث كانت أول جارية خلابها.
نصريكتب لابن هبيرة يستنجده
ولما يئس نصر بن سَيَّار من إنجاد مروان كتب إلى يزيد بنٍ عمر هُبَيرة الفَزَاري
عامل مروان على العراق يستمدُّه، ويسأله النّصْرَة على عدوه، وضَمّن كتابه أبياتاً
من الشعر، وهي:
ابْلِعْ يزيد، وخيرُ القول أَصْدَقُه ... وقدتَبَيَّنْتُ أن لاَ خَيْرَ في الكَذب
بأنَّ أرضَ خُرَاسان رأيتُ بها ... بَيْضاً لَوَ افْرَخ قد حدثت بالعجب
فِرَاخُ عامينِ إلا أنَهَا كبِرَت ... لما يَطِرْنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّعَب
فإنْ يَطِرْنَ ولم يًحْتَلْ لَهُنَّ بها ... يُلْهِبْنَ نيرانَ حرب أيما لهب
فلم يجبه يزيد بن عمر عن كتابه، وتشاغل بدفع فتن العراق.
دعاة إلى طالب الحق بالحجاز
ودخلت خوارج اليمن مكة والمدينة وعليهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن
عقبة الأزدي، وهما فيمن معهما يدعون إلى عبد الله بن يحيى الكندي، وكان قد سمى
نفسه بطالب الحق، وخُوطِبَ بأمير المؤمنين، وكأن أباضِيَّ المذهب من رؤساء
الخوارج، وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة.
مروان يجهز لحرب الخوارج
وفي
سنة ثلاثين ومائة جَهَّز مروان بن محمد جيشاً مع عبد الملك بن محمد بن عطية
السعدي، فلقي الخوارج بوادي القرى، فقُتِلَ بلخ، وفَرَّ أبوحمزة في بقيتهم إلى
مكة، فلحقه عبد الملك، فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من
الخوارج، وسار عبد الملك في جيش مروان من أهل الشام يريد اليمن، وخرج عبد اللّه بن
يحي الكندي الخارجي من صنعاء، فالتقَوْا بناحية الطاثف وأرض جرش، فكانت بينهبم حرب
عظيمة قتل فيها عبد اللّه بن يحيى وأكثر من كان معه من الأباضية، ولحق بقية
الخوارج ببلاد حضرموت، فأكثرها أباضية إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين
وثلاثمائة ولا فرق بينهم وبين من بعُمَانَ من الخوارج في هذا المذهب، وسار عبد
الملك في جيش مروان فنزل صنعاء، وذلك في سنة ثلاثين ومائة، وقد كان سليمان بن هشام
بن عبد الملك اتصل بالخوارج بالجزيرة خوفاً من مروان، واحتوى عبدُ اللّه بن معاوية
بن عبد الله بن جعفر على بلاد إصْطَخْرَ وغيرها من أرض فارس، إلى أن رفع عنها وصار
إلى خراسان، فقبض عليه أبو مسلم، وقد ذكرنا من يقول بإمامته، وينقاد إلى دعوته، في
كتابنا " المقالات، في أصول الديانات " في باب تفرق الشيعة ومذاهبهم.
موت نصر بن سيار
وقوي أمر أبي مسلم، وغلب على أكثر خراسان، وضعف أمر نصربن سيار من عدم النَّجْدة،
فخرج عن خراسان حتىِ أتى الريَّ، وخرج عنها، فنزل ساوة بين بلاد همذان والري، فمات
بها كمداَ.
وقد كان نصر بن سيار لما صار بين الريِّ وخُرَاسان كتب كتاباً إلى مروان يذكر فيه
خروِجه عن خراسان، وأن هذا الأمر الذي أزْعَجه سينمو حتى يملأ البلاد، وضمَّن ذلك
أبياتاً من الشعر، وهي:
إنا وما نكْتُمُ من أمرنا ... كالثور إذ قُرِّبَ للناخع
أوكالتي يحسبها أهلها ... عَنْراء بكرا ًوَهْيَ في التاسع
كفا نَرفِّيهَا فقد مُزِّقَت ... واتسع الخرق على الراقع
كالثَّوْب إذ أنهج فيه البلى ... أعياعلى في الحيلة الصانع
خديعة مروان للقبض على إبراهيم الإمام
فلم يستتم مروان قراءة هذا الكتاب حتى مثل أصحابه بين يديه ممن كان قد وكل بالطرق
رسولاً من خراسان من أبي مسلم إلى إبراهيم بن محمد الإِمام يخبره فيه خبره، وما آل
إليه أمره، فلما تأمل مروان كتاب أبي مسلم قال للرسول: لا تُرَعْ، كم دفع لك
صاحبك؟ قال: كذا وكذا، قال فهذه عشرة آلاف درهم لك، وإنما دفع اليك شيئاً يسيراً،
وامْض بهذ الكتاب إلى إبراهيم، ولا تعلمه بشيء مما جرى، وخذ جوابه فائتِنِي به
ففعل الرسول ذلك، فتأمل مروان جواب إبراهيم إلى أبي مسلم بخطه يأمر فيه بالجد
والاجتهاد والحيلة على عدوه وغير ذلك من أمره ونَهْيِه، فاحتبس مروان الرسول، وكتب
إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء
فيسير إلى القرية المعروفة بالكرار والحُمَيْمة ليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده
وثاقاً، ويبعث به إليه في خيل كثيفة، فوجهَ الوليد إلى عامل البلقاء فأخذ إبراهيم
وهو جالس في مسجد القرية فأخذ وهو مُلَفف، وحمل إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه
في السجن شهرين، وقد كان جرى بين إبراهيم ومروان خطب طويل حين مَثَلَ بين يديه، وأغلظ
له إبراهيم، وأنكر كل ما ذكره له مروان من أمر أبي مسلم، فقال له مروان: يا منافق،
اليس هذا كتابك إلى أبي مسلم جواباً عن كتابه اليك، وأخرج إليه الرسول، وقال:
أتعرف هذا؟ فلما رأى ذلك إبراهيم أمْسَكَ، وعلم أنه أتى من مَأْمَنِهِ.
مقتل إبراهيم وجماعة معه
واشتد
أمر أبي مسلم، وكان في الحبس مع إبراهيم جماعة من بني هاشم وبني أمية: فمن بني
أمية عبد اللّه بن عمربن عبد العزيز بن مروان، والعباس بن الوليد بن عبد الملك بن
مروان، وكان مروان قد خافهما على نفسه وخشي أن يخرجا عليه، ومن بني هاشم: عيسى بن
علي، وعبد اللّه بن علي، وعيسى بن موسى، فذكر أبو عبيدة الثعلبي - وكان معهم في
الحبس - أنه هَجَمَ عليهم في الحبس وذلك بحران جماعة من موالي مروان من العجم
وغيرهم فدخلوا البيت الذي كان فيه أبراهيم والعباس وعبد اللّه، فأقاموا عندهم
ساعة، ثم خرجوا وأغلق باب البيت، فلماِ أصبحنا دخلنا عليهم، فوجدناهم قد أتى
عليهم، ومعهم غلامان صغيران من خدَمهم كالموتى، فلما رأونا أنسوا بنا، فسألناهم
الخبر، فقالا: أما العباس وعبد اللّه فجعل على وجوههما مخاد وقعد فوقهما فاضطربا
ثم بردا، وأما إبراهيم فإنهم جعلوا رأسه في جراب كان معهم فيه نورة مسحوقة، فاضطرب
ساعة تم خمد.
وكان في الكتاب الذي قرأه مروان من إبراهيم إلى أبي مسلم أبيات من الرجز بعد خطب
طويل، منها:
دونك أمراً قد بَدَتْ أشْرَاطه ... إن السبيل واضح صِرَاطُه
لم يَبْقَ إلا السيف واخْتِرَاطُه
وقد ذكر في كيفية قتل إبراهيم الإمام من الوجوه غيرها ما ذكرنا، وقد أتينا على
جميع ما قيل في ذلك في الكتاب الأوسط، وكذلك ما كان من قَحْطَبة وابن هُبَيْرة على
الفرات، وغرق قحطبة فيه، ودخول ابنه الحسن بن قحطبة الكوفة.
موقعة الزاب بين عبد اللّه بن علي ومروان
وسار مروان حتى نزل على الزاب الصغير، وعقد عليه الجسر، وأتاه عبد اللّه بن علي في
عساكر أهل خراسان وقوَادهم، وذلك لليلتين خلتا من جمادي الآخرة من سنة اثنتين
وثلاثين ومائة، فالتقى مروان وعبد اللّه بن علي، وقد كَرْدَسَ مروان خيله كراديس
الفاً والذين، فكانت على مروان، فانهزم، وقتل وغرق من أصحابه خلق عظيم، فكان فيمن
غرق في الزاب من بني أمية ذلك اليوم ثلثمائة رجل، دون من غرق من سائر الناس، وكان
فيمن غرق في الزاب في ذلك اليوم من بني أمية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
المخلوع، وهو أخو يزيد الناقص، وقد قيل في رواية آخرى: إن مروان كان قد قَتَلَ
إبراهيم بن الوليد قبل هذا الوقت وصَلَبه، وكانت هزيمة مروان من الزاب في يوم
السبت لإِحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
أهل حران ومروان
ومضى مروان في هزيمته حتى أتى الموصل فمنعه أهلها من الدخول إليها، وأظهروا السواد
لما رأوه من توليه الأمر عنه، وأتى حران وكانت داره، وكان مقامه بها وقد كان أهل
حران قاتلهم اللّه تعالى حين أزيل لعن أبي تراب يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عن المنابر يوم الجمعة امتنعوا من إزالته، وقالوا: لا صلاة إلا بلعن أبي تراب،
وأقاموا على ذلك سنة حتى كان من أمر المشرق وظهور المسودة ما كان، وامتنع مروان من
ذلك لانحراف الناس عنهم، وخرج مروان في أهله وسائر بني أمية عن حران، وعَبَرَ
الفرات، ونزل عبد اللّه بن علي على باب حران، فهدم قصر مروان، وقد كان أنفق عليه
عشرة ألاف ألف درهم، واحتوى على خزائن مروان وأمواله، وسار مروان فيمن معه من
خواصه وعياله حتى انتهى إلى نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين والأردن فنزل عليه، وسار
عبد اللّه بن علي حتى نزل دمشق فحاصرها وفيها يومئذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك
في خمسين ألف مقاتل، فوقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ونزار على اليمن
فقتل الوليد بن معاوية، وقد قيل: إن أصحاب عبد اللّه بن علي قتلوه.
مقتل مروان
وأتى
عبد اللّه بن علي يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعبد الجبار بن يزيد بن
عبد الملك بن مروان، فحملهما إلى أبي العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة،
وقَتَلَ عبد اللّه بن علي بدمشق خلقاً كثيراً، ولحق مروان بمصر، ونزل عبد اللّه بن
عليّ عَلَى نهر أبي فطرس، فقتل من بني أمية هناك بضعاً وثمانين رجلأ، وذلك في يوم
الأربعاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقتل بالبلقاء سليمان بن
يزيد بن عبد الملك، وحمل رأسه إلى عبد اللّه بن عليّ، ورحل صالح بن علي في طلب مروان
ومعه أبو عوف عبد الملك بن يزيد، وعامر بن إسماعيل المذ حِجي، فلحقوه بمصر وقد نزل
بُوصِيرَ، فبايتوه، وهجموا على عسكره وضربوا بالطبول، وكبروا ونادوا: يالثارات
إبراهيم، فظن مَنْ في عسكر مروان أن قد أحاط بهم سائر المسوّدة فقتل مروان، وقد
اختلف في كيفية قتله في المعركة في تلك الليلة، وكان قتله ليلة الأحد لثلاث
بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ولما قَتَلَ عامرُ بن إسماعيل مروانَ وأراد الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساؤه
إذا بخادم لمروان. " شاهر السيف يحاول الدخول عليهن، فأخفوا الخادم، فسئل عن
أمره، فقال: أمرني مروان إذا هو قُتِل أن أضرب رقاب بناته ونسائه فلا تقتلوني
فإنكم واللّه إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا له:
انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني، ففعلوا، فأخرجهم من القرية
إلى موضع رمل، فقال: اكشفوا هنا، فكشفوا، فإذا البُرْد وَالقَضِيب ومِخْصَر قد
دفنها مروان لئلا تصير إلى بني هاشم، فوجَّه بها عامر ابن إسماعيل إلى عبد اللّه
بن علي، فوجهَ بها عبد اللّه إلى أبي العباسَ السفاح، فتداولت ذلك خلفاء بني
العباس إلى أيام المقتدر، فيقال: إن البُرْد كان عليه في يوم مقتله، ولست أدري أكل
ذلك باق مع المتقي للّه إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في نزوله
الرقَّة أم قد ضَيع ذلك.
بنات مروان بين يدي صالح بن علي
ثم وجه عامر بنات مروان وجواريه والأسارى إلى صالح بن علي، فلما دخلن عليه تكلمت
ابنة مروان الكبرى، فقالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين، حفظ اللّه لك من أمرك ما يحبُّ
لك حفظه، وأسعدك في الأمور كلها بخواص نعمه، وَعَمَّك بالعافية في الدنيا والآخرة،
نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذا لا
نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة ألم يقتل أبوك بالأمس ابْنَ أخي إبراهيمَ بن
محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس الإِمام في محبسه بحران؟ ألم يقتل هشام بن عبد
الملك زيد بن علي بن الحسين بن علي وصلبه في كُنَاسة الكوفة، وقتل امرأة زيد
بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه
بخراسان؟ ألم يقتل عبيد اللّه بن زياد الدعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟
ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسينَ بن عليّ عَلَى يدي عمربن سعد مع من قتل بين يديه
من أهل بيته؟ ألم يخرج بحُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سَبَايَا حتى ورد بهنَّ
على يزيد بن معاوية وقبل مَقْدَمِهِنَ بعث إليه برأس الحسين بن عليّ قد ثقب دماغه
على رأس رُمْحٍ يُطَاف به كورَ الشام ومدائنها حتى قدموا به على يزيد بدمشق كأنما
بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك.؟ ثم أوقف حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
موقف السبي يتصفحهن جنودُ أهل الشام الجُفَاةُ الطَّغْام ويطلبون منه أن يهب لهمِ
حُرَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، استخفافا بحقه صلى الله عليه وسلم، وجراءةً
على اللّه عز وجل، وكفراَ لأنْعُمِهِ، فما الذي استبقيتم منا أهل البيت؟ لو عدلتم
فيه علينا!! قالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين ليسعنا عفوكم إذاً، قال: أما العفو فنعم
قد وسعكم، فإن أحببت زوجتك من الفضل بن صالح بن علي، وزوجت أختك من أخيه عبد اللّه
بن صالح، فقالت: يا عم أمير المؤمنين، وأيّ أوان عرس هذا؟ بل تلحقنا بحرَّان، قال:
فإذاً أفعل ذلك بكُنَّ إن شاء اللّه، فالحقهنَ بحرَّان، فَعَلَتْ أصواتهن عند
دخولهن بالبكاء على مروان، وشَقَقْنَ جيوبهن، وَأعْوَلْنَ بالصياح والنحيب، حتى
ارتج العسكر بالبكاء منهم على مروان.
فكان
مُلك مروان إلى أن بويع أبو العباس السَّفاح خمس سنين وشهرين وعشرة أيام على حسب
ما قَدَّمنا ذكره في هذا الكتاب من التنازع في مدة أيامه، ومن وقت أن بويع أبو
العباس السًفاح إلى أن قتل ببوصير ثمانية أشهر، فكانت مدة أيامه إلى أن قتل خمس
سنين وعشرة أشْهُر وعشرة أيام، وقدمنا ما تنازعوا فيه من مقدار سنة وغير ذلك من
أخباره، وقد أتينأ على مبسوط أخباره فيما سلف من كتبنا.
عبد الحميد بن يحيى الكانب
وكان كاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعد صاحب الرسائل والبلاغات، وهو أول من أطال
الرسائل، واستعمل التحميدات في فصول الكتب، واستعمل الناسُ ذلك بعده.
وذكر أن مروان قال لكاتبه عبد الحميد حين أيْقَنَ بزوال ملكه: قد احْتَجْتُ أن
تصير مع عدوي وتظهر الغدرَ بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى
حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حُرَمِي بعد
وفاتي، فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرتَ به عليَّ أنْفَعُ الأمرين لك، وأقبحهما
بي، وما عندي إلا الصبرحتى يفتح اللّه أو أُقتل معك، وقال:
أسِر وَفَاء ثم أظهر غدره ... فمن لي بعذرٍ يُوسِعَ الناس ظاهره؟
وقد أتينا على خبر أبي الوِرد ومقتله، وخبر بشربن عبد اللّه الواحدي ومقتله، في
كتابنا الأوسط، فأغْنى ذلك عن ذكره.
وذكر إسماعيل بن عبد الله القشيري قال: دعإني مروان وقد وافى على الهزيمة إلى
حران، فقال: يا أبا هاشم، وما كان يكنيني قبلها، قد ترى ما جاء من الأمر وأنت
الموثوق به، ولا مخبأ لِعِطْرٍ بعد عَرُوس، فما الرأي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين،
علام أجْمَعْت؟، قال: على أن أرتحل بموالي ومَنْ تبعني من الناس حتى أقطع
الدَّرْبَ وأميل إلى مدينة في مدن الروم فأنزلها، وأكاتب صاحبها، وأستوثق منه، فقد
فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم، وليس هذا عاراً بالملوك، فلا يزال يأتيني من
أصحابي الخائفُ والهارب والطامعُ فيكثر مَنْ معي، ولا أزال على ذلك حتى يكشف اللّه
أمري وينصرني على عدوي، فلما رأيت ما أجمع عليه وكانَ الرَّأْيَ، ورأيت أثاره في
قومي من قحطان وبلاءه عندهم، فقلت: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين من هذا الرأْي،
تحكم أهل الشرك في بناتك وحرمك، وهم الروم، ولا وفاء لهم، ولا تدري ما تأتي به
الأيام، وأنت إن حدث عليك حادث بأرض النصرإنية ولا يحدث عليك الا خير ضاع مَنْ
بعدك، ولكن اقطع الفرات، ثم استنفر أهل الشام جنداً جنداً فإنك في كنف وعزة، ولك
في كل جند صنائع، يسيرون معك حتى تأتي مصر، فإنها أكثر أرض اللهّ مالاً وخيلاً
ورجالاً، ثم الشام أمامك وإفريقية خلفك، فإن رأيت ما تحبُّ انصرفت إلى الشام، وإن
كانت الآخرى مضيت إلى إفريقية قال: صدقت، وأستخير اللّه، فقطع الفرات، واللّه ما
قطعه معه من قيس إلا رجلان: ابن حمزة السلمي، وكان أخاه من الرضاعة، والكوثر بن
الأسود الغنوي، ولم ينفع مروان تعصبه مع النزارية شيئاً، بل غدروا به وخذلوه، فلما
اجتاز ببلاد قنسرين وَخُنَاصرة أوقعت تَنُوخُ القاطنةُ بقنسرين بساقته، ووثب به
أهل حمص، وسار إلى دمشق، فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، ثم أتى الأردن فوثب
به هاشم بن عمرو القيسي، والمذحجيون جميعاً، ثم مر بفلسطين فوثب الحكم بن صنعان بن
روح بن زنباع، لما رأوا من إدبار الأمر عنه، وعلم مروان أن إسماعيلِ بن عبد اللّه
القشيري قد غَشًه في الرأي ولم يمحضه النصيحة، وأنه فرّط في مشورته إياه، إذ شاور
رجلاً من قحطان موتوراً متعصباً مع قومه على أضدادهم مننزار، وأن الرأي كان الذي
هَمَّ بفعله من قطع الدرب ونزول بعض حُصُون الروم ومكاتبته ملكها إلى أن يرتئي في أمره.
وذكر
المدائني والعتبي وغيرهما أن مروان حين نزل على الزاب جَردَ من رجاله، وَمَنِ
اختاره من سائر جيشه من أهل الشام والجزيرة وغيرهم، مائة الفِ فارس على مائة الف
قارح، فلما كان يوم الوقعة وأشرف عبد اللّه بن عليّ في المسودة، وفي أوائلهم
البنود السُّودُ يحملها الرجال على الجمال البُخْت، وقد جعلت أقتابها من خشب
الصفصاف والغرب، قال مروان لمن قَرُبَ منه: أما ترون رماحهم كأنها النخل غلظاً.
أما ترون إلى أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع من الغمام سود. فبينا هو كذلك إذ
طار من أفرجة هنالك قطعة من الغرابيب سود، فاجتمعت على أول رايات عبد اللّه بن
عليّ، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود، ومروان ينظر، فتطير من ذلك فقال:
أما ترون السواد قد اتصل بالسواد، وكأنَّ الغرابيب كالسحب سواداً، ثم نظر إلى
أصحابه المحاربين - وقد استشعروا الجزَعَ والفزع والفَشَل - فقال: إنها لعُدَّة،
وما تنفع العدة إذا. انقضت المدة.
ولمروان على الزاب أخبار غير هذه قد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان
والأوسط، فأغْنَى ذلك عن إعادة ذكرها، واللّه ولي التوفيق.
ذكر خلافة أبي العباس عبد اللّه بن محمد السّفّاح
وبويع أبو العباس السَّفاح - وهو عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس
بن عبد المطلب - ليلَةَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر من سنة
اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه بويع يوم الأربعاء لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من
شهرربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: في النصف من شهر جمادي الآخرة من
هذه السنة، وامه رَيْطَة بنت عبيد اللّه بن عبد المَدَان الحارثية، وركب إلى
المسجد الجامعِ في يوم الجمعة، فخطب على المنبر قائماً، وكانت بنوأمية تخطب
قُعُوداَ، فضجَّ الناسُ وقالوا: أحييت السُّنة يا ابن عَمِّ رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وعشرين يوماً، ومات بالأنبار في
مدينته التي بَنَاهَا، وذلك في يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست
وثلاثين ومائة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل: ابن تسع وعشرين سنة، وكانت امه
تحت عبد الملك بن مروان، فكان له منها الحجاج بن عبد الملك، فلما توفي عبد الملك
تزوجها محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، فولدت منه عبد اللّه بن محمد السفاح،
وعبيد اللّه، وداود، وميمونة.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
وصية إبراهيم الإمام له
ولما
حبس إبراهيم الإمام بحرَّان، وعلم أن لا نجاة له من مروان، أثبت وصيته وجعلها إلى
أخيه أبي العباس عبد اللّه بن محمد، وأوصاه بالقيام بالدولة والجدِّ والحركة وأن
لا يكون له بعده بالحميمة لُبْثٌ ولا عَرَجَة حتى يتوجَّه إلى الكوفة فإن هذا
الإمر صائر إليه لا محالة، وأنه بذلك أتتهمِ الرواية، وأظهره - على أمر الدُّعَاة
بخراسان والنُّقَبَاء، ورسم له بذلك رسماَ أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعدَّاه،
ودفع الوصية بجميع ذلك إلى سابق الخوارزمي مولاه، وأمره إنْ حَدَث به حَدَثٌ من
مروان في ليل أو نهار أن يجدَّ السير إلى الحميمة حتى يدفع وصيته إلى أخيه أبي العباس،
فلما قضى إبراهيم نَحْبَه أسرع سابق في السير حتى أتى الحميمة فدفع الوصية إلى أبي
العباس ونَعَاه إليه، فأمره أبو العباس بستر الوصية وأن ينعاه، ثم أظهر أبو العباس
أهلَ بيته على أمره، ودعا إلى مؤازرته ومكاشفته أخاه أبا جعفر عبد اللهّ بن محمد،
وعيسى بن موسى بن محمد ابن أخيه، وعبد اللّه بن علي عمه، وتوجَّه أبو العباس إلى
الكوفة مسرعاً، وهؤلاء معه في غيرهم ممن خَفَّ من أهل بيته، فلقيتهم أعرابية على
بعض مياه العرب في طريقهم إلى الكوفة، وقد تقدمَ أبو العباس وأخوهُ أبو جعفر وعمه
عبد اللهّ بن علي فيمن كان معهم إلى الماء، فقالت الأعرابية: تاللّه ما رأيت
وجوهاً مثل هذه ما بين خليفة وخليفة وخارجي، فقال لها أبوجعفر المنصور: كيف قلت يا
أمَةَ اللّه. قالت: واللهّ ليلينّهَا هذا، وأشارت إلى السفاح، ولتخلُفَنَّهُ أنت،
وليخرجَنَّ عليك هذا، وأشارت إلى عبد اللّه بن علي، فلما انتهوا إلى دومة الجندل
لقيهم داود بن علي وموسى بن داود، وهما منصرفان من العراق إلى الحميمة من أرض
الشراة، فسأله داود عن مسيره، فأخبره بسببه، وأعلمه بحركة أهل خراسان لهم مع أبي
مسلم، وأنه يريد الوثوب بالكوفة، فقال له داود: يا أبا العباس، تَثِبُ بالكوفة
ومروان شيخ بني أمية وزعيمهم في أهل الشام والجزيرة مُطِلٌّ على أهل العراق، وابن
هُبَيْرة شيخ العرب في جلّة العرب بالعراق، فقال أبو العباس: يا عَمَّاه، من أحب
الحياة ذل، وتمثل بقول الأعشى:
فما مَيْتَةٌ إن مُتُّهَا غيرعاجز ... بِعَار،إذا ما غالت النفسَ غُولُهَا
فالتفت داود إلى ابنه موسى، فقال: أيْ بني، صدق ابن عمك، ارجع بنا معه نحيا أعزاء
أو نموت كراماً، فعطفا ركابهما معه، وسار أبو العباس حتى دخل الكوفة.
وقد كان أبو سَلَمة حفص بن سليمان - حين بلغه مقتل إبراهيم الإمام - أضْمَرَ
الرجوع عما كان عليه من الدعوة العباسية إلى آل أبي طالب.
مقدم السفاح الكوفة
وقدم أبو العباس الكوفة فيمن ذكرنا من أهل بيته سراً، والمسودة مع أبي سلمة
بالكوفة، فأنزلهم جميعاً دار الوليد بن سعد في بني أوْدٍ حي من اليمن، وقد ذكرنا
مناقب أود وفضائلها فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار الحجاج، وبراءتهم من عليّ
والطاهرين من ذريته، ولم أر إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة -
فيما دُرْتُ من الأرض وتغربت من الممالك رجلاً من أود الا وجدته - إذا استبطنت ما
عنده - ناصبياً متولياً لآل مروان وحزبهم.
وأخفى
أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه، ووكل بهم وكيلاً، وكان قدوم أبي العباس الكوفة
في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفيها جرىَ البريد بالكتب لولد العباس، وقد
كان أبو سَلَمة لما قتل إبراهيم الإِمام خاف انتقاض الأمر وفساده عليه، فبعث بمحمد
بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكتب معه
كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد اللّه جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب، وإلى أبي محمد عبد اللّه بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي
اللّه عنهم أجمعين، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه. ليصرف الدعوة إليه،
ويجتهد في بيعة أهل خراسان له، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ، فلا تكونَنَّ
كوافد عاد، فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفربن محمد فلقيه
ليلاً، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة، ودفع إليه كتابه، فقال له أبو
عبد اللهّ وما أنا وأبو سَلَمة. وأبو سَلَمة شيعة لغيري، قال: إني رسول، فتقرأ
كتابه وتجيبه بما رأيت، فدعا أبو عبد اللّه بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على
السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرف صاحبك بما رأيت، ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول
الكميت بن زيد:
أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوءها ... ويا حاطباً في غيرحبلك تحطب
فخرج الرسول من عنده وأتى عبد اللّه بن الحسن فدفع إليه الكتاب فقبله وقرأَه
وابتهج به، فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتابُ ركب عبد اللّه
حماراً حتى أتى منزل أبي عبد اللّه جعفربن محمد الصادق، فلما راه أبو عبد اللّه
أكبر مجيئه، وكان أبو عبد اللّه أسَنِّ من عبد اللهّ، فقال له: يا أبا محمد، أمْرٌ
ما أتى بك، قال: نعم وهوأجَلُّ من أن يوصف، فقال: وما هو يا أبا محمد. قال: هذا
كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله، وقد تقدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان، فقال له
أبو عبد اللّه: يا أبا محمد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك. أنت بعثت أبا مسلم إلى
خراسان، وأنت أمرته بلبس السواد. وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو
وَجَّهت فيهم، وهل تعرف منهم أحداً. فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام، إلى أن قال:
إنما يريد القوم ابني محمداً لأنه مهديُّ هذه الأُمة، فقال أبو عبد اللهّ جعفر:
واللّه ما هو مهدي هذه الأُمة، ولئن شهر سيفه ليقتلن، فنازعه عبد اللهّ القول، حتى
قال له: واللّه ما يمنعك من ذلك الا الحسد، فقال أبوعبد اللّه: واللّه ما هذا نصح
مني لك، ولقد كتب اليً أبوسلمة بمثل ما كتب به اليك، فلم يجد رسوله عندي ما وجد
عندك، ولقد أحرقْتُ كتابه من قبل أن أقرأه، فانصرف عبد اللّه من عند جعفر مغضباً،
ولم ينصرف رسول أبي سلمة إليه إلى أن بويع السفاح بالخلافة وذلك أن أبا حميد
الطوسي دخل ذات يوم من المعسكر إلى الكوفة فلقي سابقاً الخوارزمي في سوق الكناسِة
فقال له: اسابق، قال: سابق فسأله عن إبراهيم الإِمام، فقال: قتله مروان في الحبس،
وكان مروان يومئذ بحرَّان، فمال أبو حميد: فإلى مَنِ الوصية، قال: إلى أخيه أبي
العباس، قال: وأين هو، قال: معك بالكوفة هو وأخوه وجماعة من عمومته وأهل بيته،
قال: مُذْ متى هم هنا، قال: من شهرين، قال: فتمضي بنا إليهم، قال: غداً بيني وبينك
الموعد في هذا الموضع، وأراد سابق أن يستأذن أبا العباس في ذلك، فانصرف إلى أبي
العباس فأخبره، فلامه إذ لم يأت به معه إليهم، ومضى أبو حميد فأخبر جماعة من
قوَّاد خراسان في عساكر أبي سَلَمة بذلك، منهم أبو الجهم وموسى بن كعب، وكان
زعيمهم، وغدا سابقٌ إلى الموضع، فلقي أبا حميد، فمضَيَا حتى دخلا على أبي العباس
ومن معه فقال: أيكم الإمام، فأشار داود بن علي إلى أبي العباس، وقال: هذا لخيفتكم،
فأكبَّ على أطرافه يقبلها، وسَلّم عليه بالخلافة، وأبو سلمة لا يعلم بذلك، وأتاه
وجوهُ القواد فبايعوه، وعلم أبو سلمة بذلك فبايعه، ودخلوا إلى الكوفة في أحسن زي،
وضربوا له مصافاً، وقُدِّمت الخيول، فركب أبو العباس ومن معه حتى أتوا قصر
الإمارة، وذلك في يوم الجمعة لاثنتي عشرَةَ ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين
وثلاثين ومائة.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب تنازُعَ الناس في أي شهر بويع له من هذه السنة.
ثم
دخل المسجد الجامع من دار الإمارة، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر تعظيم الرب ومننه،
وفضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهت إليه، ووعَدَ
الناس خيراً، ثم سكت، فتكلم عمه داود بن علي وهو على المنبر دون أبي العباس، فقال:
إنه واللّه ما كان بينكم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، خليفة الا عليٌّ
عليه السلام وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي، ثم نزلا.
ثم خرج أبو العباس إلى عسكر أبي سَلَمة فنزل في حجرته، واستخلف على الكوفة وأرضها
عَمَّه داود بن علي، وبعث بعمه عبد اللهّ بن على إلى أبي عون عبد الملك بن يزيد،
فسارا معاً إلى مروان، فكان من أمرهم ما قدمنا ذكره من التقائهم على الزاب، وهزيمة
مروان بن محمد.
عامر بن إسماعيل قاتل مروان
واتصل بأبي العباس السفاح ما كان من عامر بن إسماعيل وقتله لمروان ببوصير وقيل: إن
ابن عم لعامر يِقال له نافع بن عبد الملك كان قتله في تلك الليلة في المعركة وهو
لا يعرفه، وإن عامراً لما احتز رأس مروان واحتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة التي
كان فيها مروان، فقعد علي فرشه وأكل من طعامه، فخرجت إليه ابنة مروان الكبرى،
وتعرف بأم مروان، وكانت أسَنَّهُنَّ، فقالت: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن
فُرُشه حتى أقعدك عليها فأكلت من طعامه واحتويت على أمره، وحكمت في مملكته،
لقادرأن يغيرما بك من نعمة.
بين السفاح وعامر بن إسماعيل
وبلغ السفاح فعلُه وكلامها، فاغتاظ من ذلك، وكتب إليه: ويلك أما كان لك في أدب
الله عز وجل ما يزجرك عن أن تأكل من طعام مروان وتقعد على مهاده، وتتمكن من وساده.
أما واللّه لولا أن أمير المؤمنين تأول ما فعلت على غير اعتقاد منك لذلك ولا شهوة
لمَسَّك من غضبه وأليم أدبه ما يكون لك زجراً، ولغيرك واعظاً، فإذا أتاك كتابُ
أمير المؤمنين فتقرب إلى اللّه تعالى بصدقة تطفىء بها غَضَبه، وصلاة تظهربها
الاستكانة، وصُمْ ثلاثة أيام، ومُرْ جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك.
رأس مروان بينِ يدي السفاح
ولما أتي أبو العباس برأس مروان ووضع بين يديه سجد فأطل السجود ثم رفع رأسه فقال:
الحمد للّه الذي لم يبق ثأري قبلك رهطِك، والحمد للّه الذي أظفرني بك، وأظهرني
عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني المرت، قد قتْلتً بالحسين وبني أبيه من بني أمية
مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم. وتمثل:
لويشربون دمي لَمْ يُرْوِشاربهم ... ولادماؤهُم للغيظ ترويني
ثم حَوَّلَ وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقوله
العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومُنَا أن ينصفونا، فأنْصَفَتْ ... قَوَاطِعُ في أيماننا تقطر الدما
تورثن من أشياخ صدق تقربوا ... بهن إلى يوم الوغى فتقدما
إذا خالطَتْ هام الرجال تركنها ... كَبَيْض نعام في الوغى متحطما
وقالت الشعراء في أمر مروان فأكثرت.
وذكر
أبو الخطاب عن أبي جعدة بن هبيرة المخزومي - وكان أحَدَ وزراء مروان وسُمَّاره،
وقد كان لما ظهر أمر أبي العباس انضاف إلى جملته وصار في عداد أصحابه وخواصه الذين
اتخذهم - أنه كان في ذلك اليوم حاضراً لمجلس أبي العباس ورأسُ مروان بين يديه، وهو
يؤمئذ بالحميمة،و أن أبا العباس التفت إلى أصحابه فقال: أيكم يعرف هذا. قال أبو
جعدة: فقلت أنا أعرفه، هذا رأس أبي عبد اللّه مروان بن محمد خليفتنا، بالأمس رضي
اللّه عنه، قال: فحدقت اليَّ الشيعة فأخذتني بأبصارها، قال لي أبو العباس: في أي
سنة كان مولده، قلت: سنة ست وسبعين، فقام وقد تغير لونه غيظاً علي، وتفرق الناس من
المجلس، وانصرفْتُ وأنا،نادم على ما كان مِني، وتكلم الناس في ذلك وتحدثوا به،
فقلت: هذه زلة واللّه لا تُستقال ولا ينساها القوم أبداً، فأتيت منزلي، فلم أزل
باقي يومي أعهد وأوصي، فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت للصلاة، وكان أبو العباس إذا
هَم بأمر بعث فيه ليلاً، فلم أزل ساهراً حتى أصبحت، فلما أصبحت ركبت بغلتي
واستعرضت بقلبي إلى مَنْ أقصد في أمري، فلم أجد أحداً أوْلى من سليمان بن خالد
مولى بني زُهْرَةَ، وكانت له من أبي العباس منزلة عظيمة، وكان من شيعة القوم،
فأتيته، فقلت: أذَكَرني أمير المؤمنين البارِحَةَ. فقال: نعم، جرى ذكرك، فقال: هو
ابن أختنا، وَفّي لصاحبه، ونحن إن أوليناه خيراً كان لنا أ شْكَرَ، فشكرت ذلك له،
وجزيته خيراً، ودعوت له، وانصرفت، فلم أزل آتي أبا العباس على ما كُنْتَ عليه لا
أرى الا خيراً، ونُمِيَ الكلام الذي كان في مجلس أبي العباس - حين أتي برأس مروان
- فبلغ أبا جعفر وعبدَ اللهّ بن علي، فكتب عبدُ اللهّ بن علي إلى أبي العباس
يًعْلمه بما بلغه من كلامي، وأنه ليس هذا يحتمل، وكتب أبو جعفر يخبر بما بلغه من
ذلك، ويقول: هو ابن أختنا، ونحن أولى باصطناعه واتخاذ المعروف عنده، وبلغني ما كان
منهما فأمسكت، وضرب الدهرضرباته، فبينا أنا ذات يوم عند أبي العباس بعد حين وقد
تزايدت حالي عنده وأحْظَإني، فنهض الناس ونهضتُ، فقال لي أبو العباس: على رِسْلِكَ
يا ابن هُبَيْرة، اجلس، ونهض ليدخل فقمت لقيامه، فقال: اجلس، فرفع الستر ودخل،
وثبتُّ في مجلسي، فأقام مَلِيّاً ثم رفع الستر فخرج في ثوبَيْ وَشْي رادء وجبة،
فما رأيت أحسن منه ولا مما عليه قَطُّ، فلما رفع الستر نهضت، فقال: اجلس، فقال: يا
ابن هُبَيْرة، إني ذاكر لك أمراً فلا يخرجَنَّ من رأسك إلى أحَدٍ من الناس، ثم
قال: قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر وولاية العهد لمن قَتَلَ مروان، وعبد اللّه بن
علي عمي هو الذي قتله، لأن ذلك كان بجيشه وأصحابه، وأخي أبو جعفر - مع فضله وعلمه
وسنه وإيثاره لأمر اللهّ - كيف يسوغ إخراجه عنه. قال: فأطال في مديح أبي جعفر،
فقلت: أصلح اللهّ أمير المؤمنين لا أشير عليك، ولكني أحدثك حديثاً تعتبره، فقال:
هاته، فقلت: كنا مع مَسْلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية إذ ورد عليه
كتاب عمر بن عبد العزيز بنعي سليمان ومصير الأمر إليه، فبعث إلى فدخلتً عليه، فرمى
بالكتاب الي فقرأته، ثم اندفع يبكي، فقلت: أصلح اللّه الأمير لا تَبْكِ على أخيك،
ولكن ابْكِ على خروج الخلافة من ولد أبيك إلى ولد عمك، فبكى حتى اخضلتْ لحيته،
قال: فلما فرغت من حديثي قال لي أبو العباس: حسبك قد فهمت عنك، ثم قال: إذا شئت فانهض،
فما مضيت غيربعيد حتى قال لي: يا ابن هبيرة، فالتفت،راجعاً، فقال لي: امْض، أما
إنك قد كافأت هذا، وأدركت بثأرك من هذا، قال: فما أدري من أي الأمرين أعجب، أمن
فِطْنته أم من ذكره لما كان،.
وأبوجعدة بن هُبَيْرة هذا هو من ولد جعدة بن هبيرة المخزومي من فاختة ام هانىء بنت
أبي طالب، وعليٌ وجعفر وعقيل أخْوَاله، وقد قدمنا خبَرَه فيما سلف من هذا الكتاب.
بين عبد اللّه بن علي وأخيه داود في ولاية عهد السفاح
قال المسعودي: ووجدت في أخبار المدائني، عن محمد بن الأسود، قال: بينما عبد اللّه
بن علي يُسَاير أخاه داود بن علي ومعهما عبد اللّه بن الحسن بن الحسن: فقال داود
لعبد اللّه: لم لا تأمر ابنيك، بالظهور، فقال عبد اللّه: هيهات لم يَئِنْ لهما
بعدُ فالتفت إليه عبد اللهّ بن علي فقال: كأنك تحسب أن ابنيك هما قاتلا مروان،
فقال: إن ذلك كذلك، فقال عبد اللّه: هيهات، وتمثل:
سيكفيك
المقالةَ مستميت ... خفيف اللحم من أولاد حام
أنا واللّه قاتله.
وقيل لعبد اللّه بن علي: إن عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز يذكر أنه قرأ في بعض
الكتب أنه يقتل مروان عَيْنٌ ابن عين، وقد أمَّلَ أن يكون هو، فقال عبد اللّه بن
علي: أنا واللّه ذلك، ولي عليه فضل ثلاثة أعين، أنا عبد اللّه بن علي بن عبد اللهّ
بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو عمروبن عبد مناف.
فلما صافَّ مروان عبد اللّه بن علي أقبل مروان على رجل إلى جنبه فقال: من الرجل
الذي كان يخاصم عندك عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر الأقنى الحديد
البصر الحسن الوجه. فقلت: يرزق اللّه البيان من يشاء، قال: إنه لهو، قلت : نعم،
قال: من ولد العباس بن عبد المطلب هو، قلت: أجَلْ، فقال مروان: إنا للّه وإنا إليه
راجعون، ويحك، إني ظننت أن الذي يحاربني من ولد أبي طالب وهذا الرجل من ولد العباس
واسمه عبد اللّه أتدري لم صيرت الأمر بعدي لابني عبيد اللهّ بعد عبد اللّه ومحمد
أكبر من عبد اللّه. قلت: لم. قال: لأنا خُبِّرْنَا أن الأمر صائر بعدي إلى عبد
اللّه وعبيد اللّه، فنظرت فإذا عبيد اللّه أقرب إلى عبد اللّه من محمد، فوليته
دونه.
قال: وَبَعَثَ مروان بعد أن حدَث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد اللّه ابن عليَ في
خِفية: إن الأمر يا ابن عم صائر اليك فاتق اللّه في الحرم، قال: فبعث إليه عبد
اللّه: إن الحق لنا في دمك، والحق علينا في حرمك.
زواج السفاح بأم سلمة بنت يعقوب
وذكر مصعب الزبيري عن أبيه قال: كانت ام سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد اللّه بن
الوليد بن المغيرة المخزومي عند عبد العزيزبن الوليد بن عبد الملك، فهلك عنها، ثم
كانت عند هشام فهلك عنها، فبينا هي ذات يوم جالسة إذ مر بها أبو العباس السفاح،
وكان جميلاً وسيماً
فسألت عنه، فنسب لها، فأرسلت له مولاةً لها تعرض عليه أن يتزوجها، وقالت لها: قولي له هذه سبعمائة دينار أوجه بها إليك، وكان معها مال عظيم وجوهر وحشم، فأتته المولاة فعرضت عليه ذلك، فقال: أنا ممْلِقُ لا مال عندي، فدفعت إليه المال، فأنعم لها، وأقبل إلى أخيها فسأله التزويج فزوجه إياها، فأصدقها خمسمائة دينار، وأهدى مائتي دينار، ودخل عليها من ليلته، وإذا هي عَلَى مِنَصَّةٍ، فصعد عليها، فإذا كل عضو منها مكلل بالجواهر فلم يصل إليها، فدعت بعض جواريها فنزلت وغيرت لبسها ولبست ثياباً مصبغة وفرشت له فراشاً عَلَى الأرض دون ذلك، فلم يقدر يصل إليها، فقالت: لا يضرك هذا، كذلك الرجال كان يصيبهما مثل ما أصابك، فلم تزل به حتى وصل إليها من ليلته، وحَظِيت عنده، وحلف أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فولدت منه محمداً ورَيْطَة، وغلبت عليه غلبة شديدة، حتى ما كان يقطع أمراً الاَ بمشورتها وبتأميرها حتى أفضت الخلافة إليه، فلم يكن يدنو إلى النساء غيرها لا إلى حرة ولا إلى أُمة، ووفى لها بما حلف أن لا يغيرها، فلما كان ذات يوم في خلافته خلا به خالد بن صفوان فقال: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وسعة ملكك، وقد مَلَّكْتَ نفسك امرأة واحدة واقتصرت عليها، فإن مرضت ومرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ باستظراف الجواري ومعرفة أخبار حالاتهن والتمتع بما تشتهي منهن فإن منهن يأ أمير المؤمنين الطويلة الغَيْداء، وإن منهن البَضَّة البيضاء، والعتيقة الأدْمَاء، والدقيقة السمراء، والبربرية العَجْزاء، من مولدات المدينة تفتن بمحادثتها، وتلذ بخلوتها، وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن وحسن الحديث منهن. ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء، والسمراء واللعساء، والصفراء العجزاء، والمولدات من البصريات والكوفيات، ذَوَات الالسن العَذبة، والقدود المهذهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المًزَرْفَنَة، والعيون المكحلة، والثدي المحققة وحسن زيهن وزينتهن وشكلهن، لرأيت شيئاً حسناً، وجعل خالد يجيد في الوصف، ويكثرفي الإطناب بحلاوة لفظه وجودة وصفه، فلما فرغ كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد ما صَكَّ مسامعي واللّه قط كلام أحسن مما سمعته منك، فأعِدْ علي كلامك فقد وقع مني موقعاً، فأعاد عليه كلامه خالد أحسن مما ابتدأه، ثم انصرف، وبقي أبو العباس مفكراً فيما سمع منه، فدخلت عليه ام سلمة امرأته، فلما رأته مفكراً مغموماً قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حَدَث أمر تكرهه، أو أتاك خبر فارتَعْتَ له. قال: لم يكن من ذلك شيء، قالت: فما قصتك. فجعل ينزوي عنها، فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد له، فقالت: فما قُلْت لابن الفاعلة. قال لها: سبحان اللهّ ينصحني وتشتمينه. فخرجت من عنده مُغْضَبة، وأرسلت إلى خالد جماعة من النجارية ومعهم الكامر كوبات، وأمرتهم أن لا يتركوا منه عضواً صحيحاً، قال خالد: فانصرفت إلى منزلي، وأنا على السرور بما رأيت من أمير المؤمنين، وإعجابه بما ألقيته إليه، ولم أشك أن صلته ستأتيني، فلم ألبث حتى صار إلى أولئك النجارية وأنا قاعد على باب داري، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوى أيقنت بالجائزة والصلة، حتى وقفوا عَلَيَّ، فسألوا عني، فقلت: ها أنا ذا خالد، فسبق إلى أحدهم بهَرَاوة كانت معه فلما أهْوَى بها الي وَثَبْتُ فدخلت منزلي، وأغلقت الباب عَلَيَ، واستترت، ومكثت أياماً على تلك الحال لا أخرج من منزلي، ووِقع في خَلَدِي إني أوتيت من قبل أم سَلَمة، وطلبني أبو العباس طلباً شديداَ، فلم أشعر ذات يوم الا بقوم قد هجموا
عليَ،
وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنت بالموت، فركبت وليس عليَّ لحم ولا دم، فلم أصل
إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل، فدخلت عليه فالذيته خالياً، فسكنت بعض السكون،
فسلمت فأومأ الي بالجلوس، ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أرخيت، وحركة خلفها،
فقال لي: يا خالد، لم أرك منذ ثلاث، قلت: كنت عليلاً يا أمير المؤمنين، قال: ويحك
إنك كنت وصفت لي في اخر دَخْلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام
أحسن منه، فأعده عليَّ، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم
الضرة من الضر، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة الا كان في جَهْد،
فقال: ويحك لم يكن هذا في الحديث، قلت: بلى واللهّ يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن
الثلاث من النساء كأثافيَ القدرِ يُغْلَى عليهن، قال أبو العباس: برئت من قرابتي
من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،إن كنت سمعت هذا منك في حديثك، قال: وأخبرتك أن
الأربعة من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويسقمنه، قال: ويلك واللّه ما
سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت، قال خالد: بلى واللّه، قال: ويلك
وتكذبني. قال: وتريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين، قال: مُرّ في حديثك، قال:
وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال، ولكن لاخصي لهنَّ، قال خالد: فسمعت الضحك من وراء
الستر، قلت: نعم وأخبرتك أيضاً أن بني مخزوم رَيْحَانَةُ قريش، وأن عندك ريحانة من
الرياحين، وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإِماء، قال خالد: فقيل من
وراء الستار: صدقت واللّه يا عماه وبَرِرْتَ، بهذا حَدَّثْتَ أمير المؤمنين، ولكنه
بدل وغير ونطق عن لسانك، فقال لي أبو العباس: مالك قاتلك اللّه وأخزاك وفعل بك
وفعل، قال: فتركته وخرجت وقد أيقنت بالحياة، قال خالد: فما شعرت الا برسل ام سلمة
قد صاروا اليَّ ومعهم عشرة الاف درهم وتَخْتٌ وبرذون وغلام.
كان السفاح يحب مسامرة الرجال
ولمِ يكن أحد من الخلفاء يحب مسامرة الرجال مثل أبي العباس السفَّاح وكان كثيراَ
ما يقول: إنما العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلاً، فقال له أبو
بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين، قال: يترك مجالسة مثلك وأمثال
أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفاً، ويروي نقصاً، فقال له
الهذلي: لذلك فضلكم اللّه على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.
السفاح وأبو نخيلة
ودخل عليه أبونخيلة الشاعر، فسلم عليه، وانتسب له، وقال: عبدك يا أمير المؤمنين
شاعرك، أفتأذن. لي في إنشادك. فقال له: لعنك اللّه ألست القائل في مسلمة بن عبد
الملك بن مروان:
أمَسْلَمَ، إني يا ابن كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك، إن الشكرحَبْلٌ من التقى ... وماكان من أوليته نعمة يقضي
واحييْتَ لي ذِكْرِي وما كان خامل ... ولكنَّ بعض الذكرأنبهُ من بعض
قال: فأنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:
لما رأينا استمسكت يداكا ... كنا اناساً نَرْهَبُ الملاكا
ونركب الأعجاز والأوراكا ... من كل شيء ما خلا الإشراكا
فكلما قد قلت في سواكا ... زُورٌ، وقد كَفَّرَ هذا ذاكا
إنا انتظرنا قبلها أباكا ... ثم انتظرنا بعدها أخاكا
ثم انتظرناك لها إياكا ... فكنت أنت للرجاء ذاكا
قال: فرضي عنه ووَصَله وأجازه.
وكان أبو العباس إذا حضر طعامه أبْسَطَ ما يكون وجهاً، فكان إبراهيم ابن
مَخْرَمَةَ الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخرها حتى يحضر طعامه ثم يسأله، فقال له
يوماً: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك. قال: يدعوني إلى ذلك
التماس النُّجْح لما أسال، قال أبو العباس: إنك لحقيق بالسؤعد لحسن هذه الفِطنَة.
بعض عادات وسياسات السفاح.
وكان إذا تعادى رجلان من أصحابه وبطانته لم يسمع من أحدهما في الآخر شيئاً ولم
يقبله، وإن كان القائل عَدْلاً في شهادته، وإذا اصطلح الرجلان لم يقبل شهادة واحد
منهما لصاحبه ولا عليه، ويقول: إن الضغينة القديمة تولد العداوة المُمِضَّة، وتحمل
على إظهار المسالمة، وتحتها الأفعى التي إذا تمكنت لم تُبْقِ.
وكان
في أول أيامه يَظْهَر لندمائه، ثم احتجب عنهم، وذلك لسنة خلت من ملكه، لأمر قد
ذكرناه فيما سلف من كتبنا، وكان قعوده من وراء الستارة، على حسب ما ذكرناه فيما
سلف من هذا الكتاب في سيرة أردشير بن بابك وأيامه.
وكان يطرب من وراء الستر على حسب ما ذكرنا، ويَصيحُ بالمطرب له من المغنين: أحسنت
والله، أعِدْ هذا الصوت.
وكان لا ينصرف عنه أحد من ندمائه ولا من مُطْرِبيه الا بصلة من مال أو كسوة، يقول:
لا يكون سرورنا معجلاً، ومكافأة من سرنا وأطربنا. مؤجلاً، وقد سبقه إلى هذا الفعل
ملك من الملوك التي للفرس، وهو بَهْرَام جور.
وحضره أبو بكر الهذلي ذات يوم، والسفاح مُقْبِل عليه يحادثه بحديث لأنوشروين في
بعض حروبه بالمشرق مع بعض ملوك الأمم، فعصفت الريح فأذْرَت تراباً وقطعاً من الاجر
من أعلى السطح إلى المجلس، فجزع من حضر المجلس لوقوع ذلك، وارتاع له، والهذلي شاخص
نحو أبي العباس لم يتغير كما تغير غيره، فقال له أبو العباس: للهّ أنت يا أبا بكر،
لم أر كاليوم، أما راعَكَ ما راعَنَا ولا أحسست بما ورد علينا، فقال: يا
أميرالمؤمنين، ما جعل اللهّ لرجل من قلبين في جَوْفهِ، وإنما جُعل للرجل قلب واحد،
فلما غمره السرور بفائدة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، واللّه عز وجل إذا
أفرد بكرامته أحداً وأحب أن يبقى له ذكرها جعل تلك الكرامة على لسان نبي أو خليفة،
وهذه كرامة خُصِصْت بها فمال إليها ذهني، وشغل بها فكري، فلوا انقلبت الخضراء على
الغَبْراء ما احسست بها، ولا وَجَمْتُ لها، إلا بما يلزمني من نفسي لأمير المؤمنين
أعزه اللّه تعالى، فقال له السفاح: لئن بقيتُ لك لأرفعنَّ منك وضيعاً لا تُطِيفً
به السباع، ولا ينحطُّ عليه العقاب.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وصية عبد الملك للشعبي في فضل الإنصات للملوك.
من النصائح في مخالظة الملوك
وقد حكي عن عبد اللّه بن عياش المنتوف أنه قال: لم تتقرب العامة إلى الملوك بمثل
الطاعة، ولا العبيد بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع.
وقد حكي عن روح بن زنباع الجذامي أنه كان يقول: إذا أردْتَ أن يمكنك الملك من أذنه
فأمكن أذنك من الإِصغاء إلى حديثه، ولا يتعتب الرجل عندي إذا كان يصغي إلى حديثه،
ولا يقدح ما قيل فيه في قلبي لما تقدم له من حسن الاستماع عندي.
وقد حكى عن معاوية أنه كان يقول: يُغْلَب الملك حتى يُرْكَب لشيئين: بالحلم عند
سَوْرَته، والأَصغاء إلى حديثه.
ووجدت
في سير الملوك من الأعاجم أن شيروَيْةِ بن أبرويز بينا هو في بعض منتزهاته بأرض
العراق، وكان لا يسايره أحد من الناس مبتدئاً، وأهل المراتب العالية خَلْفَ ظهره
على مراتبهم، فإن التفَتَ يميناً دنا منه صاحب الجيش، وإن التفت شمالاً دنا منه
المُوبِذَانُ، فأمر مَنْ دنا منهما بإحضار مَنْ أراد مسامرته، فالتفت في مسيره هذا
يميناً، فدنا منه صاحب الجيش، فقال: أين شداد بن جرثمة؟ فأحضر، فسايره، فقال له
شيرويه: أفكَرْتُ في حديث جَدِّنَا أردشير بن بابك حين واقع ملك الخزر، فحدثْنِي
به إن كنت تحفظه، وكان شداد قد سمع هذا الحديث من أنو شروان، وعرف المكيدة، وكيف
كان أردشير أوقعها بملك الخزر، فاستعجم عليه شداد، وأوهمه أنه لا يعرفه، فحدثه
شيرويه بالحديث، فأصغى إليه الرجل بجوارحه كلها، وكان مسيرهم على شاطىء نهر، فترك
الرجل لإِقباله على شيرويه النَّظَرَ إلى موطىء حافر دابته، فزلّتْ إحدى قوائم
الدابة، فمالت بالرجل إلى اليمين، فوقع في الماء، ونفرت الدابة، فابتدرها حاشية
الملك وغلمانه فأمالوها عن الرجل، وجذبوه فحملوه على أيديهم حتى أخرجوه فاغتمَّ
الملك لذلك، ونزل عن دابته وبسط له هنالك حتى تغذَى في موضعه، ودعا بثياب من خاص
كسوته فألقيت على شداد وأكل معه، وقال له: غفلت عن النظر إلى موضع حافر دابتك،
فقال: أيها الملك، إن اللّه إذا أنعم على عبد نعمةَ قابلها بمحنة، وعارضها ببلية،
وعلى قدر النعم تكون المحن، وإن اللهّ أنعم عليَّ بنعمتين عظيمتين هما إقبال الملك
عليَّ بوجهه من بين هذا السواد الأعظم وهذه الفائدة وهي تدبير الحرب حتى حدذَثَ
بها عن أردشير حتى إني لو دخلت إلى حيث تطلع الشمس أو تغرب لكنت رابحأ، فلما
اجتمعت نعمتان جليلتان في وقت واحد قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك
ويُمْن جده لكنت بعرض هلكة، وعلىِ ذلك فلو غرقت حتى ذهبت عن جديد الأرض لكان قد
أبقى لي الملكُ ذكراَ مخلداً ما بقي الضياء والظلام والجنوب والصَبا فسُر الملك
بذلك، وقال: ما ظننتك بهذا المقدار الذي أنت فيه، فحشا فاه جوهراً ودراً رائقاً
ثميناً، واستبطنه حتى غلب على أكثر أمره.
وإنما ذكرنا هذا الخبر من أخبار من سلف منْ ملوك الفرس ليعلم أن أبا بكر الهذلي لم
يبتدىء بحال لم يسبقه إليها غيره، ويتقدمه بها سواه.
أحسن المواقع من الملوك
وأحسن المواقع من الملوك الاستماعُ منها، والأخذ عنها، وقد كانت حكماء اليونإنيين
تقول: إن الواجب على من أقبل عليه ملك أو ذو رياسة بحديث أن يصرف قلبه كله إلى
ذلك، وإن كان يعرف الحديث الذي يسمعه من الملك، كأنه لم يسمعه قط، ويظهر السرور
بالفائدة من الملك والاستبشار بحديثه، وإن في ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسني
أدبه، فإنه يعطي الملك حقه بحسن الاستماع لحديثه والاستغراب له منه كأنه لم يسمعه،
وإظهار السرور والاستفادة منه، فالنفس إلى الفوائد من الملوك والحديت عنهم أشْهَى
وأقرب منها إلى فوائد السوقة وما أشبهها.
معاوية وابن شجرة الرهاوي
وقد
ذكر جماعة من الأخباريين كابن دأب وغيره نحو هذا المعنى عن معاوية بن أبي سفيان،
ويزيد بن شجرة الرهاوي، وهو أن ابن شجرة كان يُسَاير ذات يوم معاوية وكان آنساً
به، وإلى حديِثه تائقاً، ومعاوية مقبل عليه يحدثه عن جزعان يوم كان لبني مخزوم
وغيرهم من قريش، كان فيه حرب عظيمة فني فيه خلق من الناس، وذلك قبل الإِسلام،
وقيل: إن ذلك كان قبل الهجرة، وكانت لأبي سفيان فيه مكرمة وسابقة في الرياسة، وهو
أنه لما أشرف الفريقان على الفَنَاء صعد على نَشَزٍ من الأرض ثم صاح بالفريقين،
وأشار بكمه، فانصرف الفريقان جميعاَ انقياداً إلى أمره، وكان معاوية مُعْجَباً
بهذا الحديث، فبينما هو يحدثه به ويزيد بن شجرة مقبل عليه، وقد استخفتهما لذة
المحدث والمستمع إذ صك جبين يزيد بن شجرة حجر عائر فأدماه، فجعلت الدماء تسيل على
وجهه ولحيته وثوبه، وغير ذلك، ولم يتغير عما كان عليه من الاستماع، فقال له
معاوية: للّه أنت يابن شجرة، أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا دَمٌ يسيل على ثوبك، قال: أعتق ما أملك إن لم يكن حديث أمير المؤمنين
الهإني حتى غمر فكري وغَطّى على قلبي، فما شعرت بشيء مما حَدَثَ، حتى نبهني عليه
أمير المؤمنين، فقال معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء، وأخرجك عن عطاء
أبناء المهاجرين والجماهير ممن حضر معنا بِصِفينَ، ثم أمر له وهو في مسيره
بخمسمائة ألف درهم، وزاده في عطائه ألفاً من الدراهم، وجعله بين جلده وثوبه.
تعليق
وقد قال بعض أهل المعرفة والأدب من مصنفي الكتب في هذا المعنى وغيره مما حكيناه عن
معاوية وابن شجرة: لئن كان ابن شجرة خَدَعَ معاوية في هذا ومعاوية ممن لا يخادع
فما مثله إلا كما قال الأول:
من يَنِكِ العير ينك نياكا
وإن كان قد بلغ من بلادة ابن شجرة، وقلة حسه، ما وصف به نسه فما كان جديرآ
بخمسمائة ألف درهم صِلة، وزيادق ألف في عطائه، وما أظن ذلك خفي عن معاوية.
حسن الاستماع
قال المسعودي: وقد قالت الحكماء في هذا وأكثرت، وأمرت بحسن الاستماع والصمت
وأطْنَبْتُ، فقالوا: لا تحسن المحادثة إلا بحسن الفهم، وقالوا: تعلم حسن إلاستماع
كما تتعلم حسن الكلام، وحسن إلاستماع هو إمهال المحدث حتى ينقضي حديثه.
من أدب الحديث
ومن أدب الحديث وواجباته: أن لا يقتضب اقتضاباً، ولا يهجم عليه، وأن يتوصل إلى
إجرائه بما يشاكله، وأن يستنسب له ما يحسن أن يجري في عرضه حتى يكون بعض المفاوضة
متعلقاً ببعض، على حسب ما قالوا في المثل: إن الحديث ذو شجون، يريدون بذلك تشعبه
وتفرعه عن أصل واحد إلى وجوه من المعانىِ كثيرة، إذ كان العيش كله في الجليس
الممتع، وقال رجل: واللّه ما أمَل الحديث، فقال السامع: إنما يمل العتيق لا
الحديث.
وقد أكثرت الشعراء من إلاغراق في هذا المعنى، ومن ذلك قول علي بن العباس الرومي:
وسئمت كل مآربي ... فكأنَّ أطيبها غَثِيتُ
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول إبراهيم بن العباس:
إن الزمان وما تَرَيْنَ بِمَفْرِقِي ... صَرَفَ الغواية فانصرفْتُ كريماً
وضَجِرْتُ إلامن لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
وقد ذكر بعض المحدثين من أهل الأدب أن من الأدب عَدَمَ إطالة الحديث من النديم،
وأن أحْلَى الحديث وأحْسَنَه موقعاً أن تجتنب منه الأحاديث الطِّوَال ذات المعإني
المغلغلة والألفاظ الحَشْوِية التي ينقضي باقتصاصها زمان المجلس، وتتعلق بها
النفوس، وتحتسى على أواخرها الكؤوس، فإن ذلك بمجالس القًصَّاص، أشبه منه بمجالس
الخواص.
وقد ذكر هذا المعنى فأجاد فيه عبد الله بن المعتز باللهّ، ووصف ذلك من أصحاب
الشراب على المعاقرة، فقال:
بين أقْدَاحهم حديث قصير ... هو سحر، وما عَدَاهُ كلام
وكأن السُّقَاةَ بين الندامى ... ألفَات بين السطورقيام
وهذه طريقة مَنْ ذهب ني هذا المعنى إلى استماع الملح.
أول وزير في الدولة العباسية
وكان
أول من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العباس أبو سَلَمة حفص بن سليمان الخَلال
الهمدإني، مولى لسبيغ، وكان في نفس أبي العباس منه شيء، لأنه كان حاول في رد الأمر
عنهم إلى غيرهم، فكتب أبو مسلم إلى السفاح يشير عليه بقتله، ويقول له: قد أحَلَّ
اللّه لك دمه، لأنه قد نكث وغير وبدل، فقال السفاح: ما كنت لأفتتح دولتى بقتل، رجل
من شيعتي، لاسيما مثل أبي سَلَمة، وهو صاحب هذه الدعوة، وقد عرض نفسه، وبذل مهجته،
وأنفق ماله، وناصح إمامه، وجاهد عدوه، وكلمه أبو جعفر أخوه وداود بن علي عمه في
ذلك، وقد كان أبو مسلم كَتب إليهما يسألهما أن يشيرا على السفاح بقتله، فقال أبو
العباس: ما كنت لأفسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّةٍ كانت منه، وهي
خَطْر من خطرات الشيطان، وغفلة من غفلات إلانسان، فقالا له: فينبغي يا أمير
المؤمنين أن تحترس منه، فإنا لا نأمنه عليك، فقال: كلا إني لآمنه في ليلي ونهاري
وسري وجهري ووحدتي وجماعتي، فلما اتصل هذا القول من أبي العباس بأبي مسلم كبره
وأعظمه، وخاف من ناحية أبي سَلَمة يقصده بمكروه، فوجَّه جماعة من ثقات أصحابه في
إعمال الحيلة في قتل أبي سَلَمة، وقد كان أبو العباس يأنس بأبي سَلَمة ويسمر عنده،
وكان أبو سَلَمة فكهاً ممتعاً أديباً عالماً بالسياسة والتدبير، فيقال: إن أبا
سَلمة انصرف ليلة من عند السفاح من مدينته بالأنبار، وليس معه أحد، فوثب عليه
أصحاب أبي مسلم فقتلوه، فلما اتصل خبره بالسفاح أنشأ يقول:
إلى النار فليذهب، ومن كان مثله ... على أي شيء فَاتَنَا منه نأسَف
وكان أبو مسلم يقال له: أمين آل محمد، وأبو سَلَمة حفص بن سليمان يدعى وزيرآل
محمد، فلما قتل غيلة على ما ذكرنا قال في ذلك الشاعر من أبيات:
إن المساءَة قد تسرُّ، وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أوْدَى، فمن يَشْنَاكَ كان وزيرا
وقد أتينا على خبر مقتله وكيفية أمره في الكتاب الأوسط.
مسامرات السفاح
وكان السفاح يعجبه المحادثة، ومفاخرات العرب من نزار واليمن والمذاكرت بذلك،
ولخالد بن صفوان ولغيره من قحطان أخبار حسان، ومفاخرات ومذاكرات ومنادمات ومسامرات
مع أبي العباس السفاح قد أتينا على مبسوطها وما أخترناه من غررها في كتابَيْنَا
أخبار الزمان والأوسط فأغنى ذلك عن ذكرها.
ومما ذكر من أخباره واستفاض من أسماره، ما ذكره البهلول بن العباس عن الهيثم بن
عدي الطائي، عن يزيد الرقاشي، قال: كان السفاح يعجبه مسامرة الرجال، وإني سمرت
عنده ذات ليلة، فقال: يا يزيد، أخبرني بأظْرَفِ ما سمعته من الأحاديث، فقلت: يا
أمير المؤمنين، وإن كان في بني هاشمِ. قال: ذلك أعجب إلي، قلت: يا أمير المؤمنين،
نزل رجل من تَنُوخ بحي من بني، عامر بن صَعْصَعَة، فجعل لا يحط شيئاً من متاعه إلا
تمثل بهذا البيت:
لعمرك ما تَبْلَى سرائرعامرٍ ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها
فخرجت إليه جارية من الحي، فحادثته وآنسته، وسألته حتى أنس بها، ثم قالت: ممن أنت
مُتِّعْت بك؟! قال: رجل من بني تميم، فقالت: أتعرف الذي يقول:
تميمٌ بِطُرْقِ اللؤم أهْدَى من القطا ... ولو سلكت سُبْلَ المكارم ضَلّتِ
ولوأن برغوثاًعلى ظهر قَمْلة ... يكر على جَمْعَيْ تميم لولتِ
ذبحنا فسمينا فتم ذبيحنا ... وماذبحت يوماً تميم فسمت
أرى الليل يَجْلوه النهار، ولا أرى ... عظام المخازي عن تميم تجلت
فقال: لا واللهّ ما أنا منهم، قالت: فممن أنت؟ قال: من عِجْلٍ، قالت: أتعرف الذي
يقول:
أرى الناس يُعْطُونَ الجزيل، وإنما ... عطاء بني عجل ثلاث وأربع
إذا مات عجليٌّ بأرض فإنما ... يشق له منها ذراع وإصبع
قال: لا واللّه ما أنا من عجل، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني يشكر، قالت: أتعرف
الذي يقول:
إذا يشكريٌ مَسَّ توبَكَ ثوبه ... فلا تذكرن اللّه حتى تطهرا
قال: لا واللّه ما أنا من يشكر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبد القيس، قالت:
أتعرف الذي يقول:
رأيت
عبدالقيس لاقت ذلا ... إذا أصابوا بصلا وخلا
ومالحاً مصنعاً قد طلا ... باتوا يسلون النساء سلا
سَلَّ النبيط القَصَبَ المبتلا
قال: لا واللّه ما أنا من عبد القيس، قالت: فممن أنت؟ قال رجل من باهلة، قالت:
أتعرف الذي يقول:
إذا ازدحم الكرام على المعالي ... تنحَّى الباهليُّ عن الزحام
فلو كان الخليفة باهلياً ... لقصرعن مناوأة الكرام
وعِرْضُ الباهلي وإن تَوَقّى ... عليه مثل منديل الطعام
قال: لا واللّه ما أنا من باهلة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني فَزَارَة، قال:
أتعرف الذي يقول:
لا تأمننَّ فزاريَاَ خَلَوْت به ... على قَلُوصِكَ، واكْتُبْهَا بأسيار
لا نأمننَ فزارياً على حمر ... بعد الذي امتلَّ أير العير في النار
قوم إذا نزل الأضياف ساحتهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
قال: لا والله ما أنا من فزارة، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من ثقيف، قالت: أتعرف
الذي يقول:
أضل الناسبون أبا ثقيف ... فما لهمُ أبٌ إلا الضلال
فإن نُسِبَتْ أو انتسبت ثقيف ... إلى أحد فذاك هوالمحال
خنازيرالحُشًوش فقتِّلوها ... فإن دماءها لكم حلال
قال: لا واللهّ ما أنا من ثقيف، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبس، قالت: أتعرف
الذي يقول:
إذا عَبْسِية ولدت غلاماً ... فبشِّرها بلؤم مستفاد
قال: لا واللّه ما أنا من عبس، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من ثعلبة، قالت: أتعرف
الذي يقول:
وثعلبة بن قيس شر قوم ... وألأمهم وأغدرهم بجار
قال: لا واللّه ما أنا من ثعلبة، قالت: فممن أنت؟ قاك: رجل من غنيٍّ، قالت أتعرف
الذي يقول:
إذا غنَوِية ولدت غلاماً ... فبشرها بخياط مجيد
قال: لا واللّه ما أنا غنيٍّ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني مرة، قالت: أتعرف
الذي يقول:
إذا مُرِّية خضبت يداها ... فزوجها ولا تأمن زناها
قال: لا واللّه ما أنا من بني مرة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني ضبة، قالت:
أتعرف الذي يقول:
لقد زَرِقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كل ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرق
قال: لا واللّه ما أنا من بني ضبة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بجيلة، قالت:
أتعرف الذي يقول:
سألناعن بجيلة حين حَلت ... لنخبر أين قرَّبها القرار؟
فماتدري بجيلة حين تُدْعَى ... أقحطان أبوها أم نزار؟
فقد وقَعت بجيلة بين بين ... وقد خلعت كما خلع العذار
قال: لا واللّه ما أنا من بجيلة، قالت: فممن أنت ويحك؟! قال: رجل من بني الأزْدِ،
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا أزدية ولدت غلأماً ... فبشرها بملاح مجيد
قال: لا والله ما أنا من الأزد، قالت: فممن أنت ويلك؟! أما تستحي؟! قل الحق، قال:
أنا رجل من خُزَاعة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وَجَدْنَا فخرها شرب الخمور
وباعت كعبة الرحمن جهرا ... بزقّ، بئس مفتخر الفخور
قال: لا واللّه ما أنا من خُزَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سليم، قالت: أتعرف
الذي يقول:
فما لِسُلَيْم شتَت الله أمرها ... تنيك بأيديها وتَعْيا أيورها
قال: لا واللّه ما أنا من سليم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من لقيط، قالت: أتعرف
الذي يقول:
لعمرك ما البحار ولا الذيافي ... بأوسع من فِقَاح بني لقيط
لقيطٌ شرمَنْ ركب المطايا ... وأنذل من يدب على البسيط
ألالعن الإلهُ بني لقيط ... بقايا سبية من قوم لوط
قال: لا واللّه ما أنا من لقيط، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كندة، قالت أتعرف
الذي يقول:
إذا ما افتخرالكندي ... ذو البهجة والطُّرهْ
فبالنسج وبالخف ... وبالسدل وبالحفرهْ
فدع كِنْدَةَ للنسج ... فأعلى فخرها عُرَّهْ
قال:
لا واللهّ ما أنا كِنْدَةَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من خَثْعَم، قالت: أتعرف
الذي يقول:
وَخَثْعَم لو صَفَرْتَ بها صفيراً ... لَطَارَتْ في البلاد مع الجرَاد
قال: لا واللّه ما أنا من خَثْعَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من طيء، قالت: أتعرف
الذي يقول:
وماطيء إل نَبِيطٌ تجمَّعَت ... فقالت طيانا كلمة فاستمرت
ولو أن حُرْقوصاً يمدُّ جناحه ... على جبلَيْ طي إذا لاستظلت
قال: لا واللّه ما أنا من طيء، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُزَينة، قالت: أتعرف
الذي يقول:
وهل مزينة إلامن قَبَيِّلة ... لايُرْتَجَى كرم فيها ولادين
قال: لا واللّه ما أنا من مُزَينة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من النَّخَع، قالت:
أتعرف الذي يقول:
إذا النخع اللئام غدَوْا جميعاً ... تأذّى الناس من وفر الزحام
وما تسمو إلى مجد كريم ... وما هم في الصميم من الكرام
قال: لا واللّه ما أنا من النَّخَع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أوْدٍ، قالت:
أتعرف الذي يقول:
إذا نَزَلْتَ بأوْدٍ في ديارهم ... فاعلم بأنك منهم لست بالناجي
لاتركنَنَ إلى كهل ولاحَدَث ... فليس في القوم إلا كل عفّاج
قال: لا واللّه ما أنا من أوْدٍ، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من لخم، قالت:
أتعرف الذي يقول:
إذا ما أنتمى قوم لفخر قديمهم ... تباعَدَ فخرالقوم من لخم أجمعا
قال: لا واللّه ما أنا من لخم، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من جُذَام، قالت:
أتعرف الذي يقول:
إذا كأسُ المُدَام أدِيرَيوماً ... لمكرمة تنحَى عن جُذَام
قال: لا واللّه ما أنا من جُذَام، قالت: فممن أنت ويلك؟!! أما تستحي، أكثرت من
الكذب!! قال: أنا رجل من تَنوخ، وهو الحق، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا تَنُوخٌ قَطَعَت مَنْهلا ... في طلب الغارات والثار
آبَتْ بِخِزْيٍ من إلهِ العلى ... وشهرة في الأهل والجار
قال: لا واللهّ ما أنا من تَنُوخَ، قالت: فممن أنت ثَكلَتْكَ أُمك؟! قال: أنا رجل
من حِمْير، قالت: أتعرف الذي يقول:
نبئْت حِمْير تهجوني، فقلت لهم: ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خُلِقُوا
لأن حِمْير قومٌ لا نصاب لهم ... كالعود بالقاع لا ماء ولا وَرَق
لا يكثروِن وإن طالت حياتُهُم ... ولو يبول عليَهم ثعلب غرقوا
قال: لا واللّه ما أنا من حِمْير: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من يُحَابر، قالت: أتعرف
الذي يقول:
ولو صَرَّصَرَّار بأرض يُحَابر ... لماتوا وأضْحَوْا في التراب رميما
قال: لا والله ما أنا من يُحَابر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُشَيْر، قالت:
أتعرف الذي يقول:
بني قشير قَتَلْتُ سيدكم ... فاليوم لافِدْيَة ولاقَوَدُ
قال: لا واللهّ ما أنا من قُشَيْر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أمية، قالت: أتعرف
الذي يقول:
وَهى من أمية بنيانُهَا ... فهان على اللَّه فقدَانها
وكانت أمية فيما مضى ... جريء على اللَّه سلطانها
فلا آل حرب أطَاعُوا الرَّسُول ... ولم يَتَّقِ اللَه مَرْوانها
قال: لا واللّه ما أنا من بني أمية، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني هاشم، قالت:
أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عُوعدوا إلى نَخَلاَتِكُم ... فقد صار هذا التمرصاعاً بدرهم
فإن قُلتمُ رَهْطُ النبي محمد ... فإن النصارى رهط عيسى بن مريم
قال: لا والله ما أنا من بني هاشم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من هَمْدَان، قالت:
أتعرف الذيى يقول:
إذا هَمْدَانُ دارت يوم حَرْب ... رحاها فَوْقَ هامات الرجال
رأيتهمُ يحثونَ المطايا ... سراعاً هاربين مِنَ القتال
قال: لا والله ما أنا من هَمْدَانَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُضَاعَة، قالت:
أتعرف الذي يقول:
لايفخرَنَ قضاعيٌّ بأسرته ... فليس من يَمَنِ محضاً ولامُضَر
مُذَبْذَبين
فلا قَحْطَانُ والدهم ... ولا نزار، فَخلوهم إلى سقر
قال: لا والله ما أنا من قُضَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من شيبان، قالت: أتعرف
الذي يقول:
شيبان قومٌ لهم عديدٌ ... فكلهم مُقْرِف لئيم
مافيهمُ ماجدٌ حسيب ... ولا نجيب ولا كريم
قال: لا واللّه ما أنا من شَيْبَان، قالت: فممن أنت؟ قالت: رجل من بني نُمَيْر،
قالت: أتعرف الذي يقول:
فغضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كِلابَا
فلو وضعت فِقَاحُ بني نُمير ... على خَبَثِ الحديد إذاً لَذَابَا
قال: لا واللهّ ما أنا من نُمير، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَغْلب، قالت:
أتعرف الذي يقول:
لا تطلبنَ خؤولة في تغلب ... فالزنج أكْرَمُ منهمُ أخوالا
والتغلبيُّ إذا تنحنح للقرى ... حَكَّ اسْتَه وتمثَّلَ الأمثالا
قال: لا واللّه ما أنا من تغلب، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُجَاشع، قالت: أتعرف
الذي يقول:
تبكي المُغِيبَةُ من بنات مُجَاشع ... ولها إذا سُمِعت نهيقُ حمارِ
قال: لا واللّه ما أنا من مُجَاشع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كَلْب، قالت:
أتعرف الذي يقول:
فلا تَقْرَبَا كلبا ولا بَاب دارها ... فما يطمع الساري يرى ضوء نارها
قال: لا واللّه ما أنا من كلب، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَيْم، قالت:
أتعرف الذي يقول:
تَيْمية مثلُ أنف الذيل مقبلها ... تهدي الرحا ببنان غيرمخدوم
قال: لا والله ما أنا من تَيْم، قالت، فممن أنت؟ قال: رجل من جَرْم، قالت: أتعرف
الذي يقول:
تُمَنِّينِي سَوِيقَ الكَرْمِ جَرْم ... وماجَرْم وماذاك السويق؟
فماشربوه لما كَان حِلا ... ولا غَالوْا به في يوم سوق
فلمَّا أنزل التحريمُ فيها ... إذا، لجرمِيُ منها لا يفيق
قال: لا واللّه ما أنا من جَرْم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سُلَيم، قالت: أتعرف
الذي يقول:
إذاسُلَم جئتَهَا لغدائها ... رَجَعْت كما قد جئت غَرثانَ جائعا
قال: لا واللّه ما أنا من سُلَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من الموالي، قالت: أتعرف
الذي يقول:
ألا من أراد الفُحْشَ وَاللُّؤْمَ والخنا ... فعند الموالي الجِيدُ وَالطّرَفَان
قال: أخطأتُ نسبي وربِّ الكعبة، أنا رجل من الخوز، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا بارك اللَّه رَبِّي فِيكُمُ أبداً ... يا معشر الخُوزِ، إن الخوز في النار
قال: لا واللّه ما أنا من الخوز، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أولاد حام، قالت:
أتعرف الذي يقول:
فلا تنكحَنْ أولاد حام، فإنهم ... مَشَاويبهُ خلق اللَّه حَاشَا ابن أكْوَع
قال: لا واللّه ما أنا من ولد حام، لكني من ولد الشيطان الرجيم، قالت: فلعنك اللهّ
ولعن أباك الشيطان معك، أفتعرف الذي يقول:
ألا يا عباد اللَّه هذا عدوكم ... وهذا عدُوُّ الله إبليس فاقتلوا
فقال لها: هذا مقام العائذ بك، قالت: قم فارْحَلْ خاسئاً مذموماً، وإذا نزلْتَ
بقوم فلا تنشد فيهم شعراً حتى تعرف مَنْ هم، ولا تتعرض للمباحث عن مساوي الناس،
فلكل قوم إساءة وإحسان، إلا رسول رب العالمين، ومن اختاره اللهّ على عباده،
وعَصَمه عن عدوه، وأنت كما قال جرير للفرزدق:
وكُنْتَ إذا حَلَلتَ بدار قوم ... رحلْتَ بِخَزْيَةٍ وتركت عَاراً
فقال لها: واللّه لا أنشدت بيت شعر أبداً، فقال السفاح: لئن كُنْت عملتَ هذا الخبر
ونظمت فيمن ذكرت هذه الأشعار فلقد أحسنت، وأنت سيد الكاذبين، وإن كان الخبر صدقاً
وكنت فيما ذكرته محقاً فإن هذه الجارية العامرية لمن أحْضَرِ الناس جواباً،
وأبصرهم بمثالب الناس.
قال المسعودي: وللسفاح أخبار غير هذه وأسمار حسان قد أتينا على مبسوطها في كتابينا
أخبار الزمان والأوسط.
ذكر خلافة أبي جعفر المنصور
وبويع
أبوجعفر المنصور عبدُ اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس ابن عبد المطلب
وهو بطَرِيقِ مكة، أخَذَ له البيعة عَمُّه عيسى بن علي ثم لعيسى بن موسى من بعده،
يوم الأحد لاثنتَيْ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة،
والمنصور يومئذ ابن إحدى وأربعين سنة، وكان مولده في ذي الحجة سنة خمس وتسعين،
وكانت أُمه أم ولد يقال لها سلامة بربرية، وكانت وفاته يوم السبت لست خَلَوْنَ من
ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة فكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة إلا تسعة أيام،
وهو حاجٌ عند وصوله إلى مكة في الموضع المعروف ببستان بني عامر من جَاّدةِ العراق،
ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودُفن بمكة مكشوف الوَجْهِ لأنه كان مُحْرِماً،
وقيل: إنه مات بالبطحاء عند بئر ميمون، ودُفن بالحجُون، وهو ابن خمس وستين سنة،
واللّه أعلم.
ذكر جمل من أخباره وسيره
ولمع مما كان في أيامه
رؤيا أم المنصور
ذكر عن سلامة أُم المنصور أنها قالت: رأيت لما حملت بأبي جعفر المنصور كأنَّ أسداً
خرج من قبُلي فأقْعَى وزَار وضرب بذنبه، فأقبلت إليه الأسْدُ من كل ناحيةٍ، فكلما
انتهى إليه أسدٌ منها سَجَدَ له.
المنصور ورفيق سفر ضرير شاعر
وحدث علي بن محمد المدائني أن المنصور قال: صحبت رجلاً ضريراً إلى الشام وكان يريد
مروان بن محمد بشعر قاله فيه، قال: فسألته أن ينشدني فأنشدني:
ليت شعري أفاح رائحةُ الم ... سك وما إن إخال بالخيف إنسي
حين غابَتْ بنوأمية عنهُ ... والبَهَاليل من بني عبد شمس
خطباءُ على المنابرفُرْسا ... نٌ عليها، وقَالةٌ غير خُرْس
لا يُعابون قائلين، وإن قا ... لوا أصابوا، ولم يقولوا بلبس
وحُلُوم إذا الحلوم اسْتُخِفّت ... ووجوه مثل الدنإنير مُلْس
قال المنصور: فواللهّ ما فرغ من شعره حتى ظننت أن العمى قد أدركَنِي، وكان واللهّ
ممتع الحديث حسن الصحبة.
قال: وحججت سنة إحدى وأربعين ومائة، فنزلت على الحمارة في جبلي زَرُود في الرمل
أمشي لنذرٍ كان عليَّ، فإذا أنا بالضرير، فأومأت إلى من كان معي أن يتأخروا،
فتأخروا، ودنوت منه، فأخذت بيده فسلمت عليه: فقال: من أنت جعلني اللّه فداك فما
أثبتك معرفة؟ قلت: رفيقك إلى الشام في أيام بني أمية وأنت متوجه إلى مروان، فسلم
عليّ وتنفس وأنشأ يقول:
آمَتْ نساءُ بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعة أيتامُ
نامت جدودهُمُ وأسقط نهمهم ... والنجم يسقط والجدود نيام
خَلَتِ المنابر والأسِرَّةُ منهم ... فعليهمُ حتى الممات سلام
فقلت له: كم كان مروان أعطاك؟ فقال: أغنإني فلا أسال أحداً بعده، فقلت: كم؟ فقال:
أربعة ألاف دينار وخلع وحملان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قلت: أتثبتني
معرفَةً؟ فقال: أما معرفة الصحبة فقد لعمري وأما معرفة النسب فلا، فقلت: أنا أبو
جعفر المنصور أمير المؤمنين، فوقِع عليه الإفكل، وقال: يا أمير المؤمنين اعذر فإن
ابن عمك محمداَ صلى الله عليه وسلم قال " حُبِلَت النفوسُ على حب من أحسن
إليها، وبغض من أساء إليها " ، قال أبو جعفر: فهمَمْت واللّه به ثم تذكرت
الحرمة والصحبة، فقلت للمسيب: أطلقه فأطلق ثم بدا لي في مُسَامرته رأي، فأمرت
بطلبه فكأن البيداء أبادته.
المنصور وأهله يتحدثون عن سير بني أمية
وحدث
الربيع قال: اجتمع عند المنصور عيسى بن علي، وعيسى بن موسى، ومحمدبن علي، وصالح بن
علي، وقُثَم بن العباس، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن إبراهيم، فذكروا خلفاء بني أمية
وسيرهم وتدبيرهم، والسبب الذي به سُلِبُوا عزهم، فقال المنصور: أما عبد الملك فكان
جباراً لا يبالي ما صنع، وأما سليمان فكانت همته بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد
العزيز فكان أعْوَرَ بين عُمْيَان، وكان رجل القوم هشام، ولم تزل بنو أمية ضابطين
لما مُهِّدَ لهم من السلطان يحوطونه ويحفظونه، ويصونون ما وهب اللّه لهم منه مع
كسبهم معالي الأمور ورفضهم أدإنيها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت
همتهم قصد الشهوات، وركوب اللذات، من معاصي اللّه عز وجل، جهلاً منهم باستدراجه،
وأمْناً منهم لمكره، مع اطّرَاحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم بحق اللهّ تعالى وحق
الرياسة، وضعفهم عن السياسة، فسلبهم اللّه العز، وألبسهم الذل، ونَفَى عنهم
النعمة، فقال صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد اللّه بن مروان لما دخل أرض
النُّوبَةِ هارباً فيمن اتبعه سال ملك النوبة عن حالهم وهيئتهم وما نزل بهم، وكيف كانت
سيرتهم، فأخبره بجميع ذلك، فركب إلى عبد اللّه ليسأله عن شيء من أمورهم، والسبب
الذي به زالت النعمة عنهم، وكلمُه بكلام سقط عني حفظه، ثم أشْخَصَه عن بلده، فإن
رأى أمير المؤمنين أن يدعو به ليحدثه عن أمره فعل، فأمر المنصور بإحضاره في مجلسه،
فلما مَثَلَ بين يديه قال له: يا عبد اللّه قصَّ عليَّ قصتك وقصة ملك النُّوبَة،
قال: يا أمير المؤمنين، قدمت إلى النُّوبَةِ، فأقصت بها ثلاثاً، فأتإني ملكها،
فقعد على الأرض وقد أعددت له فراشاً له قيمة فقلت له: ما منعك من القعود على
فراشنا؟ فقال: لإني ملك، وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه اللهّ،
ثم قال: لم تشربوا الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا
وأتباعنا، قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم والفسادُ محرم عليكم في كتابكم. فقلت: فعل
ذلك عبيدنا وأتباعنا لجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير والذهب وهو محرم
عليكم في كتابكم ودينكم، فقلت ذهب منا الملك فانتصرنا بقوم من العجم دَخلُوا في
ديننا فلبسوا ذلك على الكره منه، فأطرق إلى الأرض يقلب يده مرة وينكت في الأرض
أخرى ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا علينا في ديننا، ثم رفع رأسه فقال ليس
كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرَّم اللّه، وركبتم ما عنه نُهِيتم، وظلمتم
فيما ملكتم فسلبكم اللّه العز، والبسكم الذلَّ بذنوبكم، وللّه فيكم نقمة لم تبلغ
غايتَهَا فيكم، وأنا خائف أن يحلَّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالذي معكم، وإنما حق
الضيافة ثلاث، فتزوَّدْ ما احتجْتَ إليه وارحل عن أرضي ففعلت، فتعجب المنصور وأطرق
ملياً، فرقَّ له وها بإطلاقه، فأعلمه عيسى بن علي أن في عنقه بيعة له، فأعاده إلى
الحبس.
وفاة محمد بن جعفر الطالبي
قال المسعودي: ولعشر سنين خلت من خلافة المنصورتوفي أبوعبد اللّه محمدبن جعفربن
محمدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، سنة ثمان وأربعين ومائة،
ودفن بالبقيع مع أبيه وجدَه، وله خمس وستون سنة، وقيل: إنه سم، وعلى قبورهم في هذا
الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه مبيد
الأمم، ومحيى الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء
العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب،
ومحمد بن علي، وجعفربن محمد رضي اللّه عنهم.
وزراء المنصور
واستوزر
أبو جعفر المنصورا بْنَ عطية الباهلي، ثم استوزر أبا أيوب الموريإني الخوزي، وكان
له بأبي جعفر أسباب: منها أنه كان يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلّب، وقد كان
سليمان ضرب المنصور بالسوط في أيام الأمويين، وأراد هتكه، فخلصه كاتبه أبو أيوب من
يده، فكان ذلك سبب الاتصال به، فلما استوزره اتُّهِمَ بأشياء منها احْتِجَان
الأموال وسوء الذية، فكان على إلايقاع به، وتطاول ذلك، فكان كلما دخل عليه ظن أنه
سيوقع به، ثم يخرج سالماً، فقيل: إنه كان معه دهن قد عمل فيه شيئاً من السح يطليه
على حاجبيه إذا أراد الدخول على المنصور، فسار في العامة دهن أبي أيوب لما ذكرنا،
ثم أوقع به، واستكتب أبان بن صدقة إلى أن مات.
المنصور يسأل عن تدبيرات هشام بن عبد الملك
وذكر لأبي جعفر تدبير هشام في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان ينزل برُصَافة هشام
يسأله عن تلك الحرب، فقدم عليه الرجل، فقال له: أنت صاحب هشام، فقال: نعم يا أمير
المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا، قال: فعل رضي اللّه
عنه فيها كذا وكذا، وفعل رحمه اللّه كذا وكذا، فأغاظ ذلك المنصور، فقال له: قم
عليك غضب اللّه، تطأ بِساطي وتترحَّم على عدوي، فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك
قلادة في عنقي، ومنَّه في رقبتي لا ينزعها إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: كيف
قلت: قال: إنه كفإني الطلَبَ، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا عجمي
منذ رأيته، أفلا يجب لي أن أذكره إلا بخير وأتبعه بثنائي: فقال: للّه نهضت عنك!
أشهد أنك نهيض حرة وغِرَاسُ كريم، ثم أستمع منه، وأمر له بجائزة، فقال: يا أمير
المؤمنين، ما آخذها لحاجة، وما هو إلا أن اتبجَّحَ بحبائك وأتشرف بصلتك، فأخذ
الصلة، ققال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت
لهم مجداً وقال لجلسائه بعد خروجه عنه: في مثل هذا تحسن الصَنِيعة، ويُوضع
المعروف، وُيجَاد بالمَصُونِ، وأنّه في عسكرنا مثله.
المنصور ومعن بن زائدة
ودخل معن بن زائدة على المنصور، فلما نظر إليه قال: هِيهِ يا معن، تعطي مروان بن
أبي حفصة مائة درهم على قوله:
مَعْنُ بن زائدة الذي زيدت به ... شَرَفاً على شَرَفٍ بَنو شَيْبَان
فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله:
مازِلْتَ يومَ الهاشمية مُعْلِناً ... بالسيف دونَ خليفةِ الرحمن
فمَنْعت حَوْزَتَهُ، وكُنت وِقَاءَه ... مِنْ وَقْع كلِّ مُهَنَّدٍ وسِنَان
فقال: أحسنت يا مَعْن، وكان مَعْن مِنْ أصحاب يزيد بن عمر بن هُبَيْرَة، وكان
مستتراً حتى كان يوم الهاشمية - وقد كان سَعَت فيه عدة من أهل خراسان - فإنه حضر
وهو مُعْتم متلثم، فلما نظر إلى القوم قد وَثَبوا على المنصور تقدم، ثم جعل يضربهم
بالسيف قدامه، فلما أفرجوا وتفرق عنه قال: مَنْ أنتَ: فحسر عن وجهه، وقال: أنا
طَلَبَتُكَ يا أمير المؤمنين مَعْن بن زائدة، فلما انصرف المنصور آمَنَهُ وحَبَاه
وأكرمه وكساه ورتبه.
ودخل مَعْن بن زائدة يوماً على المنصور، فقال له: ما أسْرَعَ الناسَ إلى حسد قومك،
فقال: يا أمير المؤمنين.
إن الغَرإنيقَ تَلْقَاها محسّدة ... ولن ترى للئام الناس حُسَّادا
المنصور يقع بين يديه سهم كتب عليه شعر وظلامة
وذكر
ابن عياش المنتوف أن المنصور كان جالساً في مجلسه المبني على طاق باب خراسان من
مدينته التي بناها وأضافها إلى اسمه، وسماها مدينة المنصور، مُشْرِفا على دجلة،
وكانَ قد بنى على كل باب من أبواب المدينة في الاعلى من طاقه المعقود مجلساً
يُشرِفُ منه على ما يليه من البلاد من ذلك الوجه، وكانت أربعة أبواب شوارع محدقة
وطاقات معقودة، وهي باقية إلى وقتنا هذا الذي هو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة،
فأول أبوابها باب خراسان، وكان يسمى باب الدولة، لإقبال الدولة العباسية من
خُرَاسان، ثم باب الشام، وهو تلقاء الشام، ثم باب الكوفة، وهو تلقاء الكوفة، ثم
باب البصرة، وهوتلقاء البصرة، وقد أتينا على كيفية خبربناء تلك المدينة، واختيار
المنصور لهذه البقعة بين دجلة والفرات ودُحَيْل والصَّرَاة، وهذه أنهار تأخذ من
الفرات، وأخبار بغداد وعلة تسميتها بهذا الاسم، وما قاله الناسُ فىِ ذلك، وخبر
القبة الخضراء وسقوطها في هذا العصر، وقصة قبة الحجاج الخضراء التي كان الحجاج
بناها بواسط العراف، وبقاؤها إلى ذلك الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، في
كتابنا الاوسط الذي كتابُنَا هذا تال له، فبينما المنصور جالس في هذا المجلس مِنْ
أعالي باب خُرَاسان إذ جاء سهم عائر حتى سقط بين يديه، فذُعِرَ منه المنصور ذعراً
شديداً ثم أخذه فجعل يقلبه فإذا هو مكتوب عليه بين الريشتين:
أتطمع فىِ الحياة إلى التَّنَاد ... وتحسبَ أن مالك مِنْ مَعَادِ
ستسأل عن ذنوبكَ والخطَايَا ... وتُسأل بعد ذاكَ عن العباد
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
أحسنْتَ ظَنَك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء مايأْتي به القدر
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
هي المقاديرُ تجرِي في أعِنَتها ... فاصبرفليس لها صَبْرٌ على حال
يوماً ثُرِ بك خَسِيس القوم ترفعه ... إلى السماء، ويوماً تخفض العالي
وإذا على جانب السهم مكتوب: همذان منها رجل مظلوم في حبسك، فبعث مِنْ فَوْره بعدة
مِنْ خاصته، ففتشوا الحبوس والمَطَابِقَ فوجدوا شيخاً في بَنِيَّةٍ من الحبس فيه
سراج يسرج وعلى بابه بارية مسبلة، وإذا الشيخ مُوثَقٌ بالحديد متوجه نحو القبلة
يردد هذه الآية " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون " فسألوه عن
بلده، فقال همذان، فحمل، ووضع بين يدي المنصور، فسأله عن حاله فأخبره أنه رجل من
أبناء مدينة همذان، وأرباب نعمها، وأن واليك علينا دخل بلدنا ولي ضَيْعَة في بلدنا
تُسَاوي الف الف درهم، فأراد أخذهَا مني، فامتنعت فكبلني في الحديد، وحملني وكتب
اليك إني عَاصٍ، فطرحت في هذا المكان، فقال: منذ كم لك في الحبس. قال: منذ أربعة
أعوام، فأمر بفَكِّ الحديد عنه، وإلاحسان إليه، وإلاطلاق له، وأنزله أحسن منزل
ورده إليه، فقال له: يا شيخ قد رَدَدنا عليك ضيعتك بخراجها ما عشت وعشنا، وأما
مدينتك همذان فقد وليناك عليها، وأما الوالي فقد حكمناك فيه، وجعلنا أمره اليك،
فجزاه خيرآ، ودعا له بالبقاء، وقال: يا أمير المؤمنين أما الضيعة فقد قبلتها، وأما
الولاية فلا أصلح لها، وأما واليك فقد عفوت عنه، فأمر له المنصور بمال جزيل، وبر
واسع، واستحلَّه وحمله إلى بلده مكرماً، بعد أن صرف الوالي وعاقبه على ما جنى من
انحرافه عن سنة العدل وواضحة الحق، وسال الشيخ مكاتبته في مهماته وأخبار بلده،
وإعلامه بما يكون من ولاته على الحرب والخراج، ثم أنشأ المنصور يقول:
من يصحب الدهر لا يأمن تَصَرفه ... يوماً، وللدهر إحلاء وإمرار
لكل شيء وإن دامت سلامته ... إذا انتهى فله لا بدَ إقصار
المنصور يستشير في أمر أبي مسلم
وقال المنصور يوماً لسالم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم. قال: لوكان فيهما
الهة إلا اللّه لفسدتا، فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.
وذكر ابن دأب وغيره عن عيسى بن علي قال: ما زال المنصور يشاورنا في جميع أموره حتى
امتدحه إبراهيم بن هَرْمَة فقال في قصيدة له:
إذا ما أراد إلامر ناجى ضميره ... فناجى ضميراً غير مختلف العقل
ولم
يشرك الأذنين في سرأمره ... إذا انتقضت بإلاصبعين قوى الحبل
ولما أراد المنصور قتل أبىِ مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشورة فيه، فأرقه
ذلك، فقال:
تَقسمَني أمران لم أمتحنهما ... بحزم، ولم تعرك قواي الكراكر
وما ساور إلاحشاء مثل دفينة ... من الهم رَدَّتْهَا عليك المصادر
وقد علمت آبناء عدنان أنني ... على مثلها مِقدامة متجاسر
خروج عبد اللهّ بن علي
وقد كان عبد اللّه بن علي خالف على المنصور، ودعا إلى نفسه مَنْ كان معه من أهل
الشام وغيرهم، فبايعوه وزعم أن السفاح جعل الخلافة من بعده لمن انتدب لقتل مروان،
فلما بلغ المنصور ذلك من فعل عبد اللهّ كتب إليه:
سأجعل نفسي منك حيث جعلتها ... وللدهرأيام لهنّ عواقب
ثم بعث إليه بأبي مسلم، فكانت له معه حروب كثيرة ببلاد نصيبين في الموضع المعروف
بدير الاعور، وصبر الفريقان جميعاً شهوراً على حربها، واحتفروا الخنادق، ثم انهزم
عبد اللّه بن علي فيمن كان معه، وسار في نفر من خواصه إلى البصرة، وعليها أخوه
سليمان بن علي عم المنصور، فظفر أبومسلم بما كان في عسكر عبد اللهّ، فبعث إليه
المنصور بيقطين بن موسى لقبض الخزائن، فلما دخل يقطين على أبي مسلم قال: السلام
عليك أيها الامير، قال: لا سَلّم اللهّ عليك يا ابن اللَّخْناء، أؤتمن على الدماء
ولا أؤتمن على الامور. فقال له: ما أبدى هذا منك أيها الأمير، قال: أرسلك صاحبك
لقبض ما في يديَّ من الخزائن، فقال له: امرأته طالق ثلاثا إن كان أمير المؤمنين
وَجَهَنِي إليك لغير تهنئتك بالظفر، فاعتنقه أبو مسلم، وأجلسه إلى جانبه، فلما
انصرف قال لاصحابه: والله إني لأعلم انه قد طلق زوجته ثلاثا ولكنه وَفّي لصاحبه.
خلاف أبي مسلم للمنصور وقتله