اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 5 و6. كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد


مجلد 5 من كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد
يقول: هي مدلة بجمالها، فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر، لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها.
وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزومي حيث يقول:
فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكل فأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمقتل ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا1
قوله:
كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا2
يقول: لسواد الذفرى، وهذا من كرمها، قال أوس بن حجر:
كأن كحيلاً معقداً أو عنية ... على رجع ذفراها من الليت واكف3
وهذا معنى يسأل عنه، لأن الليتين صفحتا العنق. والذفرى في أعلى القفا، فيكف يكف على الذفرى من الليت! والمعنى إنما هو كأن كحيلاً معقداً أو عنية واكف على رجع ذفراها.
وقوله: من الليت كقولك: كموضع دجلة من بغداد، إنما هو للحد بينهما، لا أنه وكف من شيء على شيء: وأما قوله:
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا 4
يقول: ليست تستقر، فكأن ابن آوى يكلمها بنابيه أو يخلبها بظفره، فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر:
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 الذفري: من نصف المقذ إلى أصول الأذنين. وقارفت: قاريت. وبعصرون الصنوبر: يستخرجون ما فيه. "من شرح الديوان".
3 زيادات ر "الكحيل: القطران. والعنية: ضرب منه".
4 موثق: مكتوف. ويكلم: يجرح. وظفر ,أصابها بأظافيره.
كأن هراً جنيباً تحت غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير1
والغرض والغرضة واحد، وهو حزام الرحل.
وقال آخر:
كأن ذراعيها ذراعا بذية ... مفجعة لاقت خلائل عن عفر2
سمعن لها واستفرغت في حديثها ... فلا شيء يفري باليدين كما تفري
قال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعذل، وأنشدنيه سعيد بن سلم3. ولو قيل إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف ما كان ذلك بعيداً، وصفها بأنها بذية، وقد فجعت بما أسمعت ونيل منها؛ ولقيت خلائلها بعد زمان وتلك الشكوى كامنة فيها، وأصغين لها فتسمعن4.
والفري: الشق، يقال: فرى أوداجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت، فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: إني والله ما أهم إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت. يقول: إذا قدرت قطعت. يقال: فريت القربة والمزادة، فهما مفريتان، قال ذو الرمة5:
كأنه من كلى مفرية سرب
وقال امرؤ القيس:
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا6
ـــــــ
1 ديك: "ديك بحقوبها".
2 الخلائل: جمع خليلة, وهن اللائي أصفين الود.
3 ما بين العلامتين من زيادات ر.
4 ر: "إليها يتسمعن".
5 ديوانه, وصدره:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
والكلى: جمع كلية, وهي رقعة تكون في أصل عروة المزادة.
6 ديوانه 64, قال في شرحه: "يقول إذا سارت فرقت الحصى إلي كل جهة لشدة سيرها, وشبه فعلها ذلك برمي الأعسر, وهوالذي يرمي برجله اليسرى. وخصه لأن رميه لا يذهب مستمكا. وكذلك الحصى إذا رمت الناقة به. ومعنى "نجلته" فرقته به. والخذف: بالحصى ونحوها, فإن كان بالعصا وشبهها فهو الحذف. بالحاء غير معجمة.
كأن صليل المرو حين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا1
قوله: حذف أعسرا يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف يقال: إن الزائف2 شديد الصوت صافيه.
وقال آخر:
كأن يديها يدا ماتح3 ... أتى يوم ورد لغب زرودا
يخاف العقاب وفي نفسه ... إذا هو أنهل ألا يعودا
يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصر، ولا عودة له إليه ثانية، فهو يستقي4 سقية في مرة واحدة.
وقد أكثروا في هذا، فمن الإفراط في السرعة قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب
يقال: عفرية وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة، وهو ملحق بقنديل، يقال: فلان [عفرية زبنية. والزبنية: المنكر، وجمعه زبانية، وأصله من الحركة، يقال: زبنه، إذا دفعه، ويقال]5: عفرية نفرية، على التوكيد، [وعفريت نفريت، ويقال: عفارية، ولم يتبع بنفارية]6.
ومن الإفراط قول الحطيئة:
ـــــــ
1 قال في شرح الديوان, "شبه صوت الحجارة إذا رميت بها ووقوع بعضها على بعض بصوت الدراهم الزيوف, إذا انتقدها الصيرف وقلبها. والزيوف: الرديئة. واحدها زائف وزيف. وإنما خصها لأن صوتها أشد من صوت غيرها لكثرة نحاسها. والصليل: الصوت. والمرو: الحجارة. ومعنى "تشده" تفرقه. وعبقر: موضع باليمين. وكانت دراهمه زيوفا".
2 ر:"الزيف".
3 الماتح: المستقى بالدلو من أعلى البئر. وزرود: اسم رمال بطريق الحاج من الكوفة.
4 ر: "فهي تستقي".
5 مابين العلامتين من زيادات نسخة ر.
6 مابين العلامتين من زيادات ر.
وإن نظرت يوماً بمؤخر عينها ... إلى علم بالغور قالت له ابعد
ومن الإفراط قوله:
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنه ... بها راكب موف على ظهر قردد1
ومن ذلك قوله:
وكادت على الأطواء أطواء ضارج ... تساقطني والرحل من صوت هدهد
وقال آخر:
مروح برجليها إذا هي هجرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها
وقال الشماخ:
مروح تغتلي في البيد حرف ... تكاد تطير من رأي القطيع
وكذلك الأعرابي الذي يقول:
لو ترسل الريح لجئنا قبلها
وقد مضى خبره.
وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فجعله للوحش كالقيد.
وحدثت أن رجلاً نظر إلى ظبية ترود، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك? قال: نعم، قال: فأعطني أربع دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص2 في إثرها، فجدت وجد، حتى أخذ بقرنيها، فجاء بها، وهو يقول:
وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها
كيف ترى عدو غلام ردها
ـــــــ
1 القردد: ما غلظ من الأرض.
2 يقال: محص الظى في عدوه يمحص محصا: أسرع وعدا عدوا شديدا, وفي ر: "يفحص".
قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه وقريبه، وصريح الكلام وبلغيه1 قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جللته المظلمات الحنادس2
الحندس: اشتداد الظلمة، وهو توكيد لها، يقال: ليل حندس، وليل أليل، كما يقال: ليل3 مظلم.
وقال الشماخ في صفة الفرس:
مفج الحوامي عن نسور كأنها ... نوى القسب ترت عن جريم ملجلج
قوله: مفج الحوامي يريد مفرق الحوامي، فالحوامي: نواحي الحافر. والنسور، واحدها نسر، وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبه بنوى القسب4، وترت: سقطت. والجريم: المصروم، والملجلج: الذي قد لجلج مضغاً في الفم، ثم قذف لصلابته.
وقوله: مفج ليس يريد الذي هو شديد التفرقة، ولكن الانفصال عن النسر، فإنه إن اتسع واستوى أسفله فذلك الرحح5، وهو مذموم في الخيل، وكذلك إن ضاق وصغر قيل له: مضطر، وكان عيباً قبيحاً. قال حميد الأرقط:
لا رحح فيها ولا اضطرار ... ولم يقلب أرضها البيطار6
[ولا لحبليه بها حبار]
الحبار: الأثر]7. ويروى: ولم يقلم8، وتأويل ذلك: أن حوافرها
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 يقول: هذا الرمل حقف كأوراك العذارى. جللته: لبسته. الخنادس. الليالي المظلمة. والخندس: الظلام."من شرح الديوان".
3 ر: "وليل أليل مظلم". س: "وليل أليل. وهويم. كما يقال: ليل مظلم". وما أثبته عن الأصل.
4 القسب: التمر اليابس يتفتت في الفم. ونواه أصلب النوى.
5 الرحح: انبساط الحافر في رقة.
6 ر: "ولم يقلم".
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.
8 ر: "ولم يقلب".
لا تتشعث فيقلمها البيطار، لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة:
لا في شظاها ولا أرساغها عنت ... ولا السنابك أفناهن تقليم1
وإنما يحمد الحافر المقعب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب، وإن كان كذلك قيل: حافر وأب2. قال ابن الخرع3:
لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا
يريد: لو دخل الفأر فيه لصلح، كقول القائل: فأتى بحفنة يقعد عليها عشرة، أي لو عقد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز:
وأب حمت نسوره الأوقارا
[يقال: حافر موقور، وهو أن يصيبه داء يشبه الرهصة]4 وفي كل حافر حاميتان. وهما حرفاه من5 عن يمين وشمال، ومقدمه السنبك، ومؤخره الدابرة.
مثل قوله: عن جريم ملج قول علقمة بن عبدة:
سلاءة كعصا النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم6
شبهها بالشوكة من شوك النخل؛ لأن الفرس الأنثى يخمد منها أن يدق صدرها وينخرط على امتلاء إلى مؤخرها، والحمام يحمد منهن أن يعرض الصدر ثم ينخرط إلى ذنبه ضموراً، فيقال في صفته: كأنه جلم.
وقوله: كعصا النهدي، يريد في الصلابة، كما قال:
وكل كميت كالهراوة صلدم
وقوله: ذو فيئة من نوى قران يقول: ذو رجعة، يقول: مضغته الإبل فلم
ـــــــ
1 رواية المفضليات 4.3: "ولا أرساغها عتب", والعتب: العيب. والشظى: عظم لاصق بالركبة. والسنابك: مقاديم الحوافر, يقول: هي وافيه السنبك لم تاكلة الأرض.
2 حافر وأب: صلب قوي.
3 هو عوف بن عطية بن الخرع. من بني تيم من عبد مناة.
4 ما بين العلامتين تكملة من س وزيادات ر.
5 ساقطة من ر.
6 السلاءة: شوكة النخل.
تكسره ثم بعرته صحاحاً. ومعجوم: ممضوغ، يقال: عجمته أعجمه عجماً1 إذا مضغته، فالعجم، ويقال للنوى من كل شيء: العجم، متحرك الجيم2، قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم
وقال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً ... في حالك اللون صدق، غير ذي أود
ومثل البيت الأول قول عقبة بن سبق العنزي:
له بين حواشيه ... نسور كنوى القسب
فهذا تشبيه مقارب جداً.
ومن التشبيه الحسن قول الشاعر3:
كأن المتن والشرخين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
يريد سهماً رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} 4. وفي الحديث: "اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم" 5، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت:
ـــــــ
1 ساقطة من ر. وهي في الأصل. س.
2 ر: "العين" وهما بمعنى.
3 في زيادات ر: "هو الشماخ". والبيت ليس في ديوانه, وهو معمر بن الداخل الهذلى, ديوان الهذليين 104.3, وروايته :
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيح
وهو أيضا بهذه الرواية في 195.12 من غير نسبة.
4 سورة الإنسان.
5 أورده ابن الأثير في النهاية 210:2وقال في شرحه: "أراد بالشيوخ الرجال, المسان هو هل الجلد والقوة على القتال. ولم يرد الهرمي. والشرخ: الصغار الذين لم يدركو".
إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث:
إن شرخ الشباب تألفه البيض ... وشيب القذال شيء زهيد
فأما قول الشنفرى:
كأن لها في الأرض نسياً تقصه ... على أمها وإن تحدثك تبلت
فإنما أراد شدة استحيائها، يقول: لا ترفع رأسها، كأنها تطلب شيئاً في الأرض.
والنسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى ينسى، والآخر ما أضله أهله فيطلب ويطمع فيه. وتقصه: تتبعه، قال الله جل وعز: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 1 أي اتبعي أثره، والأم: القصد.
وقوله: وإن تحدثك تبلت، تقطع الحديث لاستحيائها.
وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثير:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين2
قال: فقال: الله أبو صخر! جعلها عصا، ثم يعتذر لها! والله لو جعلها عصا من مخ3 أو زبد لكان قد نجنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر من معد ... كأن حديثها قطع الجنان
إذا قامت لسبحتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران4
والخيزرانة: كل غصن لين يتثنى، ويقال للمردي: خيزرانة؛ إذا كان تثنى إذا اعتمد عليه، قال النابغة:
ـــــــ
1 سورة القصص 11.
2 قبله.
قد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسن وعيون
3 ر: "من مخ".
4 السبحة: صلاة النافلة.
يظل من خوفه الملاح معتصماً1 ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد2
الأين: الإعياء، والنجد: العرق3.
وقد عاب بعض الناس قول كثير:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها4
بمنخرق من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطارة تجارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين? قال: نعم، قالت: فض الله فاك! أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب! ألا قلت كما قال سيدك5 امرؤ القيس:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب6
قوله: جثجاثها وعرارها الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية؛ من أحرار البقل؛ قال جرير يهجو خالد عينين العبدي:
كم عمة لك يا خليد وخالة ... خضر نواجذها من الكراث
نبتت بمنبته فطاب لريحها ... ونأت عن القيصوم والجثجاث
وإنما هجاه بالكراث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركال، قال أحد العبديين:
ألا حبذا الأحسا وططيب ترابها ... وركالها غاد علينا ورائح7
ـــــــ
1 ر: "معتمدا", وما أثبته رواية الأصل والديوان.
2 الملاح: صاحب السفينة. والخيزرانة: السكان, وهو ذنب السفينة.
3 النجد: العرق والكرب.
4 الحزن: موضع لبنى يربوع. فيه رياض كثيرة.
5 ساقطة من ر.
6 قبله:
خليلي مرا بي على أم جندب ... لنقضي لبانات الفؤاد المعذب
وانظر تفصيل الخبر في الأغاني 57:14 طبعة الساسي. والموشح للمرزابي 151-153.
7 الإحساء: مدينة بالبحرين.
وقول كثير: وعرارها فالعرار البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، قال الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفـ ... ـراء العشية كالعراره1
وقوله: موهناً يريد بعد هديء من الليل2، يقال: أتانا بعد هديء من الليل، وبعد وهن من الليل3، أي بعد دخولنا في الليل، وأنشد أبو زيد:
هبت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
والمندل: العود. يقال له: المندل والمندلي. قال الشاعر4:
أمن زينب ذي النار ... قبيل الصبح ما تخبو
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندل الرطب
قال أبو العباس: ذي معناه ذه يقال: ذا عبد الله، وذي أمة الله، وذة أمة الله، وته أمة الله، وتا أمة الله؛ فإذا قلت: هذا عبد الله: فالإسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا القول5: هذي أمة الله [وهذه أمة الله]6. وإن شئت أسكنت في الوصل فقلت: هذه أمة الله. وإذا قلت: هذهي أمة الله. فالياء زائدة. لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء. نحو: مررت بهي يا فتى! ولا7 يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو، لأن هاء الإضمار أصلها الضم. تقول: رأيتهو يا فتى، ورأيتهم يا فتى! وهذه الهاء ليست من هذه، إنما هي مشبهة وتقول: هاته هند، وهاتي هند، وهاتا هند، على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:
ـــــــ
1 العرار: شجر له نور أصفر قدر شبر, وقبله:
ياجارتي ما كنت جاره ... بانت لتحزننا عفاره
ترضيك من دل ومن ... حسن مخالطه غراره
وانظر ديوانه 111.
2 من الليل. ساقط من ر.
3 "من الليل". ساقط من ر.
4 ينسب البيتان لعمر بن ابي ربيعة. وهما في ملحق: ديوانه 478.
5 ر: "تقول"
6 تكملة من نسخة الاصل.
7 ر: "لا يجوز" بدون الواو.
هذي التي جدعت تيماً معاطسها ... ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي1
وقال عمران بن حطان:
وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا بدار
قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل فيقولون: مهاه. وتقديره: فعال. ومعناه اللمع والصفاء2. يقال: وجه له مهاه يا فتى! والأصمعي يقول: مهاة. تقديرها حصاة. يجعل الهاء زائدة. وتقديرها في قوله3 فعلة والمهاة: البلورة. والمهاة: البقرة والوحشية، وجمعها المها.4.
فإذا صغرت: ذه قلت: تيا، كأنك صغرت تا. ولا تصغر ذه على لفظها، لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيا. فلو صغرت ذي فقلت: ذيا، لالتبس المؤنث بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر.
وهذه، المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك فيباب نفرده له إن شاء الله.
عاد القول إلى التشبيه.
أنشدتني5 أم الهيثم في صفة جمل:
كأن صوت نابه بنابه ... صرير خطاف على كلابه
أرادت الصريف، وهو أن يحك أحد نابيه بالآخر.
ـــــــ
1 يهجو التيم. وقبله:
ما بين تيم وإسماعيل من نسب ... إلا القرابة بين الزنج والروم
إن ابن تيم لمنسوب لوالده ... داني القرابة من حام ويحموم
وانظر ديوانه 489-450.
2 ر: "والبهاء".
3 "في قوله" ساقط من ر.
4 زيادات ر :"حكى يعقوب بن السكيت: "مهاة". من أسماء الشمس. وأنشد:
ثم تجلى الظلام رب رحيم ... بمهاة ضياؤها منشور
5 ر: "وأنشدتني".
وقوله: صرير خطاف على كلابه فالخطاف ما تدور عليه البكرة. والكلاب ما وليه.
وقد قال النابغة:
مقذوفة بدخيس النخض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
القعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف. وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك.
وقوله: مقذوفة يقول: مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد ركب بعضه بعضاً. والنخض: اللحم. وبازلها: نابها. ومعنى بزل، وفطر، واحد: وهو أ، ينشق الناب. قال ذو الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك1
يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلاناً يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق. ورأيته يعض عليك الأرم، قال زهير في مدح حصن بن حذيفة2:
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله3
وقال آخر:
نبئت أحماء سليمى أنما ... ظلوا غضاباً يعلوكون الأرما
وقال بعض النحويين: يعني الشفاة. وقال بعضهم: يعني الأصابع.
فأما قولهم: عض على ناجذه وهو آخر الأسنان، فيكون على وجهين: أحدهما أنه قد احتنك وبلغ، والآخر: أن يكون للإطراق والتشدد.
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب وعضوا على النواجذ، فإن ذلك ينبي4 السيوف عن الهام.
ـــــــ
1 السدفة: بقية من سواد الليل, فشبه أنيابه بأصوات البزاة, يقول: لاك يلوك, إذا مضغ "من شرح ديوانه".
2 زيادات ر :"ابن بدر الفزاري".
3 أفضى: سار إلى الفضاء. وقبله:
من مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر بحاوله
4 ر: "يثني".
ثم نعود إلى التشبيه.
قال الراجز1:
كأنها حين بناها الباس2 ... جنية في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس3 ... يخرج منها الحجر الكباس
يمر لا يحبسه حباس ... لا نافذ الطعن ولا تراس
يصف المنجنيق. والأمراس: الحبال، والواحد مرس4. والكباس: الضخم. يقال: هامة كبساء يا فتى؛ ورأس أكبس. والحباس: الذي من شأنه أن يحبس. يقال: رجل ضارب للذي يضرب، كثيراً كان منه ذلك أو قليلاً، فإذا قلت: ضراب وقتال، فإنما يكثر الفعل، ولا يكون للقليل.
قال الراجز:
أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس
يرمى به في البلد الدهاس
يصف معولاً. وذو قساس: معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والحيد: ما أشرف من الجبل أو غير ذلك، يقال للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الإفريز؛ يقال طنف حائطك، ويقال للناتئ في وسط الكتف: حيد وعير، وكذا الناتئ في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعوللحدته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس. والدهاس: ما لآن من الرمل. قال دريد بن الصمة في يوم حنين: أين مجتلد القوم? فقالوا: بأوطاس5. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس6، ولا لين دهس!
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أبو النجم".
2 ر: "تناهي".
3 الشماس والشموس. شرود الدابة نفارها.
4 ر: "مرسية".
5 أوطاس: موضع في ديار هوازن.
6 الحزن: ما غلظ من الارض. والضرس: الشديد خشونة.
وقال العجاج يصف حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا1
هذا يصف العير2 الوحشي الذي قد أسن3 تراه لا يشتد نهيقه، وكأنه يعالجه علاجاً. قال الشماخ:
إذا رجع التعشير شجاً كأنه ... بناجذه من خلف قارحه شجي4
فأما قول عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
فإنما يصف الناقة ويذكر حنينها. يقال إنه يخرج منها كأشجى صوت، فإنما شبهه بالزمير، وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصباً ومقنعة الحنين عجولا
المقنع: الرافع رأسه، في هذا الموضع، ويقال في غيره: الذي يحط رأسه استخذاء وندماً؛ قال الله جل وعز: {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} 5. ومن قال هو الرافع رأسه: فتأويله عندنا أن يتطاول فينظر ثم يطأطئ رأسه، فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والإنكسار.
والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألافه إذا أخذ من القطيع. قال: وأكثر ما يحن عند العطش. قال الشاعر6:
وتفرقوا بعد الجميع لنية ... لا بد أن يتفرق الجيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
ـــــــ
1 الشحيج: صوت البغل والحمار إذا أسن.
2 ر: "هذا يوصف به العير". وما أثبته عن الأصل. س.
3 ر: "إذا أسن".
4 التعشير: نهيق الحمار.
5 سورة إبراهيم 43.
6 هو مالك بن الصمصامة الجعدي.
وقال آخر:
وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب!
وإذا رجعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام، ولالتياح البروق.
وقال عوف1 بن محلم، وسمع نوح حمامة:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح2
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح!
وكل مطوقة عند لعرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك؛ قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنما3
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو بيلملما
مطوقة خطباء تسجع كلما4 ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في شجوها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما!
ـــــــ
1 قال المرصفي: الشعر لأبي كبير الهذلي. لا لعوف, وإنما ذكر لعبد الله بن طاهر العندليب. فالتفت إلي ابن محلم وقال: هل سمعت بأشجى من هذا؟ فقال: لا والله أبا كبير حيث يقول. وذكر الأبيات.
2 ر: "ميال". وما أثبته عن الأصل. س.
3 من قصيدة طويلة في ديوانه 1-3مطلعها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما.
4 الديوان "تصدح".
فلما أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وقال ابن الرقاع وذكر حمامة:
[قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب]:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة ... تردد مبكاها بحسن الترنم1
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى2 شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
أما قول حميد دعت ساق حر فإنما حكى صوتها، ويقال للواحد ذكراً كان أو أنثى: حمامة، والجمع الحمام، والحمامات، فإذا كان ذكراً قلت هذا حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة. وكذلك هذا بطة وهذه بطة. ويقال بقرة للذكر والأنثى، ودجاجة لهما، فإذا قلت: ثور، أو ديك بينت الذكر، واستغنيت عن تقديم التذكير.
ويقال للحمامة: تغنت وناحت، وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبه مرة بهذا ومرة بهذا، قال قيس بن معاذ:
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمائم ورق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع
وقوله: وانجال الربيع يقال؛ انجال عنا، أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا. وإن قلت: أثجم فمعناه لزم ووقع، فهو خلاف أنجم. وإن قلت: انجاب فمعناه انشق. يقال: المجوب للحديدة التي يثقب بها المسيب. ويقال: جبت البلاد أي دخلتها وطوقتها. وفي القرآن: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 3 أي شقوه.
وقوله: لم يكن من تميمة التميمة المعاذة وقد مضى هذا.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 ر: "سعدي" وما أثبته عن الأصل.
3 سورة الفجر 9.
وقوله: وما تفغر بمنطقها فما. يقول: لم تفتح. يقال: فغرفاه. إذا فتحه1.
وقوله:
ولا عربياً شاقه صوت أعجما
يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته، فحننت له.
ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول. فيبكيه ذلك ويرققه. ويذكر به غي ما قصدت له.
قال أبو العباس: وحدثت أن بعض المحدثين2 سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما هو. غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك:
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسي من غناها
الغناء، الأول: المدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية: من المال مقصور:
ومسمعه يحار السمع فيها ... ولا تصممه لا يصمم صداها3
مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى ... بحب الغانيات وما يراها
[وقال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا]4
ـــــــ
1 زيادات ر: "حكى ثعلب: "فغر فاه" و"فغر نفسه". وكذلك شجى فاه. وشجى نفسه".
2 هو أبو تمام.
3 قال المرصفي: يدعو لها بطول العمر. والعرب تقول: أصم الله صداه. تريد أهلكه. وإذا مات قالت: صم صداه. والصدى: ما تسمعه عقيب صياحك راجع إليك من جبل أو مكان مرتفع.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.
قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما.
وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ، وأحرى أن يمثل به الأشراف، وتسود به الصحف، وهو قوله:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داء".
ثم نرجع إلى التشبيه.
قال أبو العباس: والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه: وهو أخشن الكلام.
فمن التشبيه المفرط المتجاوز، قولهم للسخي: هو كالبحر. وللشجاع: هو كالأسد. وللشريف: سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك. من ذاك قول بعضهم وهو بكر بن النطاح، يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها ... على البر صار البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في مسك فارس1 ... وبارزه كان الخلي من العمر
وقد قيل: إن امرأة عمران بن حطان قالت له: أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قط! قال: أو فعلت? قالت: أنت القائل:
فهناك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامة
أفيكون رجل أشجع من الأسد! قال: فقال: أنا رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يفتح مدينة.
ـــــــ
1 المسك: الجلد.
ومن عجيب التشبيه في إفراط، غير أنه خرج من كلام جيد وعني به رجل جليل، فخرج من باب الاحتمال إلى باب الاستحسان، ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه، واستواء نظمه، في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح1
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح
فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي الحي وهو ينوح
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النظم ما قد2 ذكرناه، وهو قول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3
ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير4 في يوم قر في مشيته. فقال له: ممن أنت يا مقرور? فقال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخيزلى5، ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد? فقال: بلى والله، ولكن أذكر حسبي فأدفأ.
وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قر عما يجد، فقال: ما علي منه كبير مؤونة6. فقيل: وكيف ذلك7 ? فقال: دام بي العري، فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم!
ـــــــ
1 جنوح: مصدر جنح إليه, إذا مال وسكن.
2 ساقطة س ر.
3 الجزع: ضرب من الخرر, وقيل: هو الخرز اليملني, الذي فيه بياض وسواد, تشبهبه الأعين.
4 الأزير: تصغير إزار, قال المرصفي: يريد أنه يختال في إزار قصير.
5 الخيزلي: مشيه فيها تبختر وتثاقل وتراجع وتفكك.
6 ر: "وقيل".
7 ساقطة من ر.
ومن التشبيه القاصد1 الصحيح، قول النابغة:
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع2
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع3
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع4
فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الآخر5:
تبيت الهموم الطارقات يعدنني ... كما تعتري الأوصاب رأس المطلق
والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله:
تطلقه طوراً وطوراص تراجع
وذاك أن المنهوش إذا ألح الوجع به تارة، وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من برئه.
وإنما ذكر خوفه من النعمان وما يعتريه من لوعة، في إثر لوعة، والفترة بينهما، والخائف لا ينام إلا غراراً، فلذلك شبهه بالملدوغ المسهد.
وقوله:
لحلي النساء في يديه قعاقع
لأنهم كانوا يعلقون حلي النساء على الملدوغ. يزعمون أن ذلك من أسباب البرء، لأنه يسمع تقعقعها النوم فلا ينام، فيدب السم فيه. ويسهد لذلك.
وقال الآخر:
ـــــــ
1 القاصد: المستقيم الواضح القريب.
2 راكس والضواجع: موضعان في بلاد غطفان.
3 من المساورة, وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. والرقش: جمع رقشاء, وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض.
4 تناذرها الراقون, أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرض لها.
5 هو شأس بن نهار العبدي.
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل1
يقال لكل مستطيل كفة. يقال كفة الثوب لحاشيته، وكفة الحابل، إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفة، ويقال: ضعه في كفة الميزان، فهذه جملة هذا وكفة الحابل، يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصيد.
وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه، فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار
فإما أراد الصحة، فهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز وهذا البين الواضح: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 2 والسفر الكتاب، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} 3 في أنهم قد تعاموا عنها. وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.
وهجا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم روايته، فقال:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس من التشبية المستحسن عندهم, وعن أصل أخذوه أن يشبهوا4 عين المرأه في الكحل بعين الظبية5 أو البقرة الوحشية، والأنف بحد السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضة، والساق بالجمار6. فهذا كلام جار على الألسن.
ـــــــ
1 يؤتى إليه. أي يجئ إليه في وهمه.
2 سورة الجمعة 5.
3 الزوامل: جمع زاملة. وهي البعير بحمل المتاع والطعام. والغرائر: جمع الغرارة, وهي الأوعية, التي تسمى الجوالق.
4 ر: "أن شبهوا. وما أثبته عن الأصل. س."
5 ر: "الظبى".
6 الجمارة: شحمة بيضاء في رأس النخلة وفي س "الجمار".
وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وساقاه ناديتان في غرزه كأنهما جمارتان، فأرده فوقعت في مقنب1 من خيل الأنصار، فقرعوني بالرماح، وقالوا: أين تريد?
وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر تبلج وجهه فصار كأنه البدر.
وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور، وشعرهم المنظوم، من جاري ما تكلمت به العرب، وكثر في أشعارها، قال الشاعر2:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك رقيق3
وقال ذو الرمة:
أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى ... مشابه جنبت اعتلاق الحبائل
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا أنها غير عاطل4
وقال آخر5:
فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
طلعن بأعناق الظباء أعين ال ... جآذر وامتدت بهن الروادف6
ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد. فهذا الجاري في الكلام، كما يقال للطويل: كأنه رمح. ويقال للمهتز للكرم: كأنه غصن تحت بارح.
ومن عجيب7 التشبيه قول القائل:
لعينك يوم البين أسرع واكفاً ... من الفنن الممطور وهو مروح8
وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن، فإذا هبت به الريح لم تلبثه أن تقطره.
ـــــــ
1 المقنب: جماعة الخيل والفرسان.
2 هو مجنون بني عامر. وقبله:
وياشبه ليلى لو تلبثت ساعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق
3 ر: "دقيق". وما أثبته عن الأصل. س.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.
5 ر: "الآخر". ونسبه المرصفي إلى هدبة بن خشرم العذرى.
6 في البيت إقواء.
7 ر: "من مليح".
8 نسبه القالي في أماليه "70:1" إلى أبي حية النميري. ورواه: "لعيناك". والفنن: الغصن. وجمعه أفنان.
طرائف من تشبيهات المحدثينثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله.
قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه1، واتساع مذهبه2 الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك:
وكنا إذا ما الحائن الجد غره ... سنا برق غاو أو ضجيج رعاد
تردى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظبا أزهاه طول نجاد
أما خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناً وجياد
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي
قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً3 إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف
ويروى جد، وقرأ بعض القراء: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 4 فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} 5 فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} 6 عن أنس بن
ـــــــ
1 كذا في س والأصل, وفي ر: "تفننه".
2 ر: "مذاهبه".
3 تكملة من س.
4 سورة هود 108.
5 سورة الأنبياء.
6 سورة الجن 3.
مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: "جدا ربنا". ولو قرأ قارئ "جدا ربنا" على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط1.
وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها
ومثله2:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجداء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف ولا يخشى السماة ربيبها3
القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد.
ينشد هذا البيت:
أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقاً جديد
يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين زيادات من ر.
2 زيادات ر: "قول الأعشى". والبيت في ديوانه 103. وروايته: "نبي الغله".
3 البين في الكتاب 1: 294: 1442. ونسبه إلى العنبري, وروايته.
وجداء يرجى بها ذو قراية ... لعطف وما يخشى السماة ربيبها
إلى العنبري.
ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ1، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً.
وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2. والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر:
وهم قوم كرام الحي طراً ... لهم خول إذا ذكر السناء
وضربه الحسن3 ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.
وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه.
وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تأنق قينها فأطالها
وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام4
وقال جرير للفرزدق:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
ـــــــ
1 ر: "أي حظ".
2 سورة النور 43.
3 يريد الحسن بن هانئ.
4 غمر الجماجم. أي فرع القوم وعلاهم بطول قامته.
وقال الآخر:
لما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة:
وأي خميس لا أفأنا تهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر1. قال الشاعر:
عشية غادرت خيلي حميداً ... كأن عليه حلة أرجوان
والجياد: الخيل. وفي القرآن: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 2.
ومن تشبيهه3 الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهما رجلا دبى وجراد4
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد
ومن التشبيه الجيد قوله5:
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال:
ـــــــ
1 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.
2 سورة ص 21.
3 أي الحسن بن هانئ.
4 الدبا: مقصور قبل أن يطير.
5 زيادات ر:"أي الحسن بن هانئ".
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما1
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد.
قال: وحدثت أن العماني2 الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا3
فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه.
ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع4 العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها:
غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال:
ـــــــ
1 القعدي: من يرى رأي القعد, وهم الخوارج الذين يرون القعود والتحكيم ولا يخرجون إلى القتال.
2 العماني: هو محمد بن ذؤيب بن محجن البصري.
3 قادمة: واحدة القوائم, وهن أربع ريشات في مقدم الجناح. واللواتي بعدهن المناكب إلى أسفل الجناح.
4 هو الوليد بن عبد الملك, وابن الرقاع هو عدي.
قلما أصاب من الدواة مدادها
قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت.
ومن التشبيه1 الحسن الذي نستطرفه قوله:
تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري
ومن التشبيه المليح قوله:
وكأن سلمى إذ تودعنا2 ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا3
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا4
وفي هذا الشعر من التشبيه5 الجيد قوله:
خير فؤادك أو ستخبره ... قسماً لينتهين أو حلفا
الحب ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
ومن التشبيه الجيد قوله6:
إليك رمت بالقوم خوص كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور
ـــــــ
1 ر: "تشبيهه".
2 ر: "كأن سعدي" وما أثبته عن الأصل, س.
3 زيادات ر: "يقال: اشرأب لأن يكلمني" إذا تهيأ لكلالمك. واشرأب الدمع, إذا تهيأ للوكف".
4 الرشأ: الظبي إذا قوى وأشتد, وتواصين, أوصى بعضهم بعضا.
5 ساقط من ر.
6 من كلمة يمدح بها الخصيب, أمير مصر, وقيله:
ومازلت توليه النصيحة يافعا ... إلى أن بدا في العارضين قتير
إذا غاله أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفاة تشير
وله أيضاً:
سأرحل من قود المهارى شملة ... مسخرة ما تستحث بحادي1
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... نهور برأس كالعلاة وهادي2
العلاة: السندان، قال جرير:
أيفخر بالمحمم قين ليلى ... وبالكير المرقع والعلاة
وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولاءم بينها ... طبقان من قير ومن ألواح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح
وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا3
فأما قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم
ـــــــ
1 قود المهاري. القود: جمع قوداء, وهي الطويلة الظهر والعتق, والمهري: المنسوبة إلي مهرة بن حيدان. أي حي من العرب.
2 النهوز, مبالغة من النهز, وهو الدفع.
3 قبله.
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلي الافق الاعلى شعاعا مطنبا
فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله:
جوانبها محفوفة بنجوم
فإنما يريد ما تطوق به من الزبد.
وقد قال في أخرى.
[أول الشعر من غير الأم1:
ودار ندامى خلفوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضعاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فألفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس]2
أقمنا بها يوماً ويوماً وليلة ... ويوماً له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها3 كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما ذرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب.
وقال المثقب العبدي:
قالت ألا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد
إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجني ويجني له ... سبعون قنطاراً من العسجد
وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل:
ـــــــ
1 الأم هنا أصل الكتاب.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 قراراتها: منصوب على الظرفية.
وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري
وقال الحسن بن هانئ:
ما حطك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب1
كأنما أثنوا ولم يعلموا2 ... عليك عندي بالذي عابوا
وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته.
قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك.
والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب.
وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} 3.وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها.
قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه4 ... سبحن واسترجعن من تألهي5
يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة:
ـــــــ
1 ر: "ما اغتابوا". وهذه رواية الاصل.
2 ر: "كأنهم".
3 سورة الأعراف 18.
4 المده: اللاتي يمتدحن بالجمال.
5 استرجعن: قلن: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
براق أصلاد الجبين الأجله1
يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج:
مع الجلا ولائح القتير
ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب:
كأن محرشاً في بيت سعدي ... يعل بعيبها عندي شفيع2
وفي قصيدة الحسن هذه:
إن جئت لم تأت وإن لم أجئ ... جئت، فهذا منك لي داب!
كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذاب
وهذا كلام طريف.
ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي3:
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا4
وتخال ما جمعت عليه ... بنانها ذهباً وعطرا
وهذا التشبيه الجامع.
ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد:
كأن فيسرجه بدراً وضرغاما
ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف:
ـــــــ
1 أي لا شعر فوق جبينه. تشبيها بالحجر الصلد.
2 يعل, من العل, وهو السقية الثانية.
3 ساقطة من ر.
4 قبلها:
حوراء إن نظرت إليك ... سقتك بالعينين خمرا
وكان رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق1
فهذا حسن في هذا جداً.
ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد:
أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل فضل ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال:
يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقة آسي2
فالناس حسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس
والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز:
بتنا بحسان ومعاه تئط3 ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط4
حتى إذا كاد الظلام يختلط5 ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط!
يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد6 وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي:
وتشربه محضاً وتسقي عيالها ... سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا
ـــــــ
1 الذبالة: الفتيلة.
2 الرتق: ضد الفتق, وهو لأم الفتق وإصلاحة.
3 تثط: من الأطيط, وهو صوت الامعاء من الجوع.
4 الالتباط: العدو والوثوب.
5 ر: "كان الظلام". وما أثبته من الأصل. س.
6 جهد اللبن: "أخرج زبده كله".
السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب1، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب الرجل.
والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً.
ومن مليح التشبيه للمحدثين2 قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب:
تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله مراً ومراً ترجعه3
في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل خطار تلوح شعه4
أسود كالسبجة فيه مبضعه ... لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه5
وفي هذه الأرجوزة أيضاً:
بات بها حين حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيراً مضعه6
ذا سنة آمن ما يروعه ... حتى دنت منه لحتف تزمعه
فاظت تجم سمها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه7
فشرعت أم الحمام إصبعه ... أنحت عليه كالشهاب تلذعه8
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ساقطة من ر.
3 تزحله: تنحيه.
4 السبت: الجلد المدبوغ. وخلق. مخلوق. يريد ذنبها. تفظعه: تراه فضيعا. أعصل. من العصل, وهو الالتواء في الشئ. وخطار: كثير الحركة يمينا وشمالا. "من رغبة الآمل".
5 السبجة: بردة من صوف فيها سواد وبياض, والرقشاء: الحية فيها نقط سود وبيض.
6 حبيش هنا: اسم اللديغ, والحين: الهلاك., ووثيرا, من الوثارة. وهي لين الفراش.
7 فاظت: أخرجت سمها.
8 شرعة: دنت.
عطك سربال حرير تخلعه ... فكل خل ظاهر تفجعه1
يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقعه
وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة2.
قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت:
وكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت3
ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال:
يأتيك في جبة محرقة ... أطول أعمار مثلها يوم
وطيلسان كالآل يلبسه ... على قميص كأنه غيم
والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني.
ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل:
تقريبه المرطى والجون معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله.
قال الراجز:
كأنه والطرف منه سامي ... مشتمل جاء من الحمام
وقال الأعشى:
ـــــــ
1 العط: شق الثوب وغيره من غير أن يبين.
2 تكملة من س, وفي ر: "أو للعرجم", ولعله: "أو للعرجى".
3 حاشية الاصل: "في غيرها الموضع إنه لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفي".
يعادي النحوص ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستجم
النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة1 وتكفيه ذراع التجفرة2، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة:
فتى غير مبطان العشيات أروعا3
فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان نآه الغل حتى تكنعا4
وقالوا في قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف.
وقال رجل لبعض أهله5: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح6 فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.
ـــــــ
1 الشطبة: السعفة التي تشطب من الجريد.
2 التجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من ولد الشاة.
3 المبطان: العظيم البطن من كثرة الأكل. وصدره:
لقد كفن المنهال تحت ردائه
4 قال الأصمعي: إذا ضل الرجل أرغى بعيره. أي حمله على الرغاء لتجيبه الغبل برغائها, أو تنبح لرغائه الكلاب فيقصد الحي". والعاني: الاسير, والطروق. الإتيان ليلا. وتكنع الأسير: تقبض واجتمع.
5 ر: "لابن له".
6 الأرسخ: قليل لحم الفخذين والأليتين.
فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس1 مهفهف الخصرين2، متوقد العينين، حمش الذراعين3. وأنشد الأصمعي:
كأنما ساعداه ساعد ذيب
قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً.
وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسته صدرته ... وتنحيت له في الحاشيه4
وإذا سايرته قدمته ... وتأخرت مع المستأنيه5
وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيه6
وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبياً داهيه7
فاحمد الله على صحبته ... وأسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عير وعند يساره ميسور8
ـــــــ
1 ر: "ينبغي للفارس ان يكون".
2 مهفهف الخصرين: ضامرهما.
3 حمش الذراعين. دقيقهما.
4 حاشية كل شئ طرفه وجانبه.
5 المستأنية: المتمهلة البطيئة.
6 ياسرته: لاينته وساهلته.
7 شرس الرأي: سيئ الخلق.
8 هو بشر بن مروان, أخو عبد الملك بن مروان.
باب تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار، إن شاء الله.
الحجاج بن يوسف والوليد بن عبد الملك
...
كان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنت الوفود عل الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن أحد بعد أخف على قلب الحجاج منه.
لابن قيس الرقيات في معاتبة المهلبولزياد يقول ابن قيس الرقيات في معاتبته المهلب بن أبي صفرة:
أبلغا جاري المهلب عني ... كل جار مفارق لا محاله
إن جاراتك اللواتي بتكريت ... لتنبيذ رجلهن مقاله1
لو تعلقن من زياد بن عمرو ... بحبال لما ذممن حباله
غلبت أمه أباه عليه ... فهو كالكابلي أشبه خاله2
ولقد غالني يزيد وكانت ... في يزيد خيانة ومغاله3
عتكي كأنه ضوء بدر ... يحمد الناس قوله وفعاله
ـــــــ
1 تكريت: بلد بين بغداد والموصل.
2 قال المرصفي: "يريد أن شهوة أمه سبقت شهوة أبيه فسرت أعراقها فيه" فلم يشبه أباه في صلابة عوده ونجابته. والكابلي: منسوب إلي كابل, وهو ثغور طخارستان, نسبة إلي العجم".
3 المغالة: الخيانة.
نبذ من أقوال الحكماءوقال أسماء بن خارجة الفزاري: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، إنما هو كريم أسد خلته، وأو لئيم اشتري عرضي منه.
وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله وقبل استفتاحها، كما بدئ بالنعمة قبل استحقاقها.
وكان يقول عند التعزية: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
وأراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج يودعه، فقال له شعبة: أما إنك إن لم تر الحلم ذلاً، والسفه أنفاً! سلم لك حجك.
وقال أويس القرني: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماً.
لدعبل يذم رجلاً
وقال دعبل بن علي الخزاعي يذم رجلاً:
رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحن إلى الخبز
لبعض آل المهلبوقال آخر1 :
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم2 ... ولا تكف يد عن حرمة الجار3
ـــــــ
1 نسبه أبو تمام في الحماسه 90:4 إلي بعض آل الهلب. وقال التبريزي في شرحه: "هو عبد الله بن عبد الرحمن, ولقبه ابو الأنوار".
2 القبس: الشعلة من النار, والقابس: طالب النار.
3 زيادات ر: أظن تمامه:
حتى إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
قامت بأحمرها تبدي مشافره ... كانه رئة في كف جزار
والبيت الاول للأخطل, وروايته في ديوانه "قوم إذا استنبح...."
لرجل من طيئ وكان قتل رجلاً من بني أسد
وقال رجل من طيئ، وكان رجل منهم، يقال له زيد، من ولد عروة بن زيد الخيل، قتل رجلاً من بني أسد يقال له زيد، ثم أقيد به بعد:
علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مصقول الغرار يمان
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان
[قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان]
لشمعل التغلبي حين ضربه عبد الملك بن مروانقال: كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجرز1 فخدش وهشم، فقال شمعل:
أمن جذبه بالرجل مني تباشرت ... عداتي، فلا عيب علي ولا سخر
فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر!
وقال الحجاج بن يوسف: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد.
وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجواد مجداً أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:
ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود!
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالا وإما حسن مردود
إلا يكن ورق يوماً أراج به ... للخابطين فإني لين العود
قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق، فجعل الخابط الطالب، والورق المال، كما قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
ـــــــ
1 الجرز: عمود من حديد.
بخل الحطيئةويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال
الضيف: يا راعي الغنم [ما عندك?]1، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سلم2، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها!.
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 العجراء: التي فيها عقد. والسلم: شجر من العضاه.
متفرقات من شعر دعبلوقال دعبل:
وابن عمران يبتغي عربياً ... ليس يرضى البنات للأكفاء
إن بدت حاجة له ذكر الضيـ ... ـف وينساه عند وقت الغداء
وقال أيضاً:
أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال أيضاً:
ما يرحل الضيف عني بعد تكرمة ... إلا برفد وتشييع ومعذرة
وقال أيضاً:
لم يطيقوا أن يسمعوا وسمعنا ... وصبرنا على رحى الأسنان
صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان
وقال القرشي من بني أمية:
إذا ما وترنا لم ننم عن تراتنا ... ولم نك أوغالاً نقيم البواكيا3
ولكننا نمضي الجياد شوازباً ... فنرمي بها نحو التارت المراميا4
ـــــــ
3 وترنا: قتل منا قتيل, والترات: جمع ترة. وهي النسل, والأوغال: جمع وغل, وهو النذل الضعيف من الرجال.
4 الشوازب من الخيل: الضوامر.
لجرير يفتخر ويهجو الأخطل وقومهوقال جرير:
إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا1
مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا!
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا2
إن الفرزدق إذ تحنف كارهاً ... أضحى لتغلب والصليب خدينا3
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
هل تشهدون من المشاعر مشعراً ... أو تسمعون من الأذان أذينا4!
قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: لما بلغ الوليد قوله:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا
قال الوليد: أما والله لو قال: "لو شاء ساقكم"، لفعلت ذاك به، ولكنه قال: "لو شئت" فجعلني شرطياً له.
ويروى أن بلالاً5 قعد يوماً ينظر بين الخصوم، ورجل منهم ناحياً يتمثل قول الأخطل على غير معرفة6:
وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالاً7
ـــــــ
1 الخرز: ضيقو الجفون, يصفهم بأنهم ينظرون بمؤخر عيونهم حقدا وغيظا وعداوة.
2 القطين: الخدم والمماليك.
3 تحنف: تنسك وتأله.
4 الأذين: المؤذن.
5 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري القاضي.
6 في هجاء جرير.
7 المراغة في الأصل: الموضع تتمرغ فيه الدواب, وتقال أيضا للأتيان التي لا تمتنع من الفحول. والأعيار: جمع عير, وهو الحمار والقصية: الموضع المتنحى البعيد. والبلال: ما بل الحلق من ماء غيره.
فسمعه بلال، فلما تقدم مع خصمه قال له بلال: أعد علي1 إنشادك، فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل: إني والله ما أدري من قاله، ولا فيمن قيل? فقال بلال: أجل، هو أسير من ذاك، هلما فاحتجا.
وقال جرير:
مررت على الديار فما رأينا ... كدار بين تلعة والنظيم
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم2
وقال آخر:
لقد تبلت فؤادك إذ تولت ... ولم تخش العقوبة في التولي3
عرفت الدار يوم وقفت فيها ... بريح المسك تنفح في المحل
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 جثوم: جمع جاثمة, من جثم الطائر إذا لصق بالأرض فلم يبرح.
3 تبلت فؤادك: أسقمته وأدنفته.
باب من أخبار الخوارج
في بيعتهم لعبد الله بن وهب الراسبيقال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج1 لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، تكره ذلك، فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره. فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم، استبيتوا الرأي، أي دعوه يغب2.
وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري.
قوله: استبينوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة ثم تعقبوه، يقال: بيت فلان كذا كذا، إذا فعله ليلاً، وفي القرآن: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 3، أي أداروا ذلك بينهم ليلاً، وأنشد أبو عبيدة:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر!
والرأي الدبري: الذي يعرض4 بعد وقوع الشيء، كما قال جرير5:
ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا
وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم، ولسان وشجاعة، وإنما لجأوا إليه وخلعوا معدان الإيادي، لقول معدان:
ـــــــ
1 من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا. سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين, أم كان بعدهم علي التابعين بإحسان, والأئمة في كل زمان. والصفرية: طائفة من الخوارج, تابعوا زياد بن الأصفر, ويقال لهم: الزيادية أيضا. الملل والنحل للشهرستاني 123:1
2 يغب: أي يبيت.
3 سورة النساء 108.
ر: "ليلا بينهم".
4 ر: "من بعد".
5 في هجاء الفرزدق وقومه من بني مجاشع.
سلام على من بايع الله شارياً1 ... وليس على الحزب المقيم سلام
فبرئت منه الصفرية، وقالوا: خالفت، لأنك برئت من القعد2. والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة.
ـــــــ
1 شاريا, أي بائعا نفسه في طاعة الله.
2 القعد: طائفة من الخوارج يرون التحكيم حقا, غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس.
شأنهم مع واصل بن عطاءوحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويفهموا1 حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا! قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 2، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم3 حتى بلغوهم المأمن.
ـــــــ
1 ر: "ويعرفا".
2 سورة التوبة 6.
3 ر: "بأجمعهم".
مناظرة عبد الله بن عباس لهموذكر أهل العلم من غير وجه أن علياً رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه، ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين? قالوا: قد كان للمؤمنين أميراً، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد إقراره بالكفر نعد له. فقال ابن عباس: ما ينبغي1 لمؤمن لم يشب إيمانه أن يقر على نفسه بالكفر! قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فكيف في إمامه قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان
ـــــــ
1 ر: "لا ينبغي".
2 سورة المائدة 95.
لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم: " بل هم قوم خصمون " " الزخرف: 58 " ، وقال عز وجل: " وتنذر به قوماً لدا " " مريم: 97 " .
الفتوى فيمن أصاب صيداً وهو محرم
والشيء يذكر بالشيء. وجاء في الحديث أن رجلاً أعرابياً1 أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل، فقال عبد الرحمن: يهدي شاة، فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره! فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! إن الله عز وجل قال: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وفي هذا الحديث ضروب من الفقه؛ منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أولاً، ليكون قول الإمام حكماً قاطعاً ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية، كما قال الله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وأنه لم يسأله: أخطأ قتلته3 أم عمداً? وجعل الأمرين واحداً. ومنها أنه لم يسأله: أقتلت صيداً قبله وأنت محرم? لأن قوماً يقولون: إذا أصاب ثانية لم يحكم عليه، ولكنا نقول له4: اذهب فاتق الله، لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 5.
ـــــــ
1 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه قبيصة بن هانئ أحد التابعين.
2 سورة المائدة 95.
3 ر: "قتله". وما أثبته عن الأصل.
4 كلمة "له" ساقطة من ر.
5 سورة المائدة 95.
قول قطري بن الفجاءة لأبي خالد القناني ورد أبي خالد عليهمن طريف أخبار الخوارج قول قطري بن الفجاءة المازني لأبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج:
أبا خالد إنفر فلست بخالد ... وما جعل الرحمن عذراً لقاعد
أتزعم أن الخارجي على الهدى ... وأنت مقيم بين لص وجاحد!
فكتب إليه أبو خالد:
لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي، إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولو لا ذاك قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف
أبانا من لنا إن غبت عنا ... وصار الحي بعدك في اختلاف !
من أخبار عمران بن حطان وأشعارههذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان1 رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إلى بغضاً ... وحباً للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرا العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبالي
فمن يك همه الدنيا فإني ... لها والله رب البيت قال
وفيه يقول:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
ـــــــ
1 ر: "وقد كان".
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعد يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول:
نزلنا في نبي سعد بن زيد ... وفي عك وعامر عوبثان1
وفي لخم وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحي بني العدان
ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده2، فانتمى له من الأزد.
وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.
رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا3
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه.
ـــــــ
1 في الأصل: "عوثبان", وما أثبته عن ر. وهو يوافق ما في القاموس.
2 أثيرا: مكرما.
3 زيادات ر: "قلبه الفقيه الطبري" فقال:
ياضربة من شقى ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها والعن عمران بن حطانا
قال محمد بن أحمد الطبيب يرد على عمران بن حطان:
ياضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا
فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له1 عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك نم لخم وغسان
حتى إذا جفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولاً ما تروعني ... فيه روائع من إنس ومن جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
وكنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند الولاية في طه وعمران
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أأزدياً2 مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك3، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها:
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 ر: "أزديا؟"
3 ر: "آمناك".
إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع
قال أبو العباس: أنشدن1 الرياشي:
أعيا عياها على روح بن زنباع
وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور:
ما زال يسألني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقعطت عني وسائله ... كف السؤال ولم يولع بإهلاعي
فاكفف كما كف عني إنني رجل ... إما صميم وإما فقعة القاع
واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع!
أما الصلاة فإني لست تاركها2 ... كل امرئ للذي يعني به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلا داع
جاوزتهم سنة فيما أسر به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل3 عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول:
نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسر بما فيه من الإنس والخفر
نزلنا بقوم يجمع لله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة4 ... يمانية قربوا إذا نسب البشر
فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحي قحطان? فتلكم سفاهة ... كما قال روح لي وصاحبه زفر5
وما منهما إلا يسر بنسبة ... تقربني منه وإن كان ذا نفر
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
ـــــــ
1 ر: "أنشدنيه".
2 ر: "غير تاركها".
3 ر: "أهل".
4 ر: "معشر".
5 ر: "لي روح".
قوله:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة1، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}2، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ:
طال الثواء على رسم بيمؤود ... أودى وكل جديد مرة مودي
وقوله:
فيه روائع من إنس ومن جان
الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} 3. ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 4، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب.
وقوله:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
ـــــــ
1 ر: "الضيافة".
2 سورة يوسف 21.
3 سورة هود 74.
4 سورة النور 43.
يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمصال النساء العوارك1!
العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي المحافل أولاداً لعلات!
قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ.
وقوله:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تقتلك الفئة الباغية".
وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
ـــــــ
1 الأعيار: جمع عير, وهو الحمار. والبيت من شواهد الكتاب 1-172
2 سورة الأنفال 72.
وقوله:
حتى إذا ما انقضت مني وسائله
وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج:
والناس إن فصلتهم فصائلا ... كل إلينا يبتغي الوسائلا
وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل1: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً,إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 2. وقل الشاعر:
ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع
وقوله:
إما صميم وإما فقعة القاع
الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك:
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم
وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر:
قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر3
وقال بعض القرشيين:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم!
ـــــــ
1 ر: "وهو أصدق القائلين".
2 سورة المعارج 19-21.
3 القرقر: الأرض المطمئنة اللينة.
وقوله:
نسر بما فيه من الإنس والخفر
فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقوله:
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة
يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره.
وينشد:
يمانية قربوا إذا نسب البشر
يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل1:
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله2
وقال آخر:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة.
وقوله:
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة:
ـــــــ
1 يهجو كعب بن جعيل.
2 البازل من الإبل: ما دخل في التاسعة. ودبرت. من الدبر, وهو الجرح في ظهر الدابة. والصفحتان: الجانبان.
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع? وقال التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر!
الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أ ذا أم ذا? والأملح1 في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين2 عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?.
ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً3 فقالت صفية:
كيف رأيت زبرا
...
أأقطاً أو تمرا
أم قرشياً صقرا
لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان4 محالاً على هذا الوجه.
وقوله:
وما منهما إلا يسر بنسبة
معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 5. أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر6:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريج فمنهما تارة.
ـــــــ
1 ر: "والأصلح".
2 ر: "لأن أحد هذين عندك".
3 مفلولا: مهزوما.
4 ر: "كان".
5 سورة النساء 159.
6 هو تميم بن أبي بن مقبل.
وقوله:
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 2. وقال نهار بن توسعة اليشكري:
دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ـــــــ
1 سورة الحجرات 15.
2 سورة هود 46.
أول من حكم من الخوارجويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية1 - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي.
ـــــــ
1 ر: "جدة له جاهلية".
أول سيف سل من سيوفهمفأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية1 يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل! ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل.
ـــــــ
1 ر: "الدنيئة".
وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه؟ فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره؟ فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط.
مناظرة علي بن أبي طالب لهموكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما1 قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى2 خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم3 تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته4، فقال تبارك وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 5. وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم6، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 7? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك
ـــــــ
1 ر: "فكان مما".
2 ر: "فإن".
3 ر: طأو أنتم".
4 ر: "وامرأة".
5 سورة النساء 35.
6 ر: "يساوي ربع دينار".
7 سورة المائدة 95.
أن تقول في كتابك: "هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين" محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: "هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو" فقال: لو أقررت1 بأنك رسول الله ما خالفتك2، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال لي: "يا علي امح رسول الله"، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: "فقفني 3 عليه" فمحاه بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "اكتب محمد بن عبد الله"، ثم تبسم إلي فقال: "يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي". فرجع معه منهم ألفان من حروراء4، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء.
والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري.
ـــــــ
1 ر: "أقررنا".
2 ر: "ما خلفناك".
3 ر: "قفني".
4 حروراء: قرية من الكوفه.
للصلتان العبديوقال الصلتان العبدي في كلمة له:
أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
بنجدية وحرورية ... وأزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... مر الغداة وكر العشي1
أذا ليلة عرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
ـــــــ
1 ر: مرور الليالي وكر العشى
قوله:
وقد زيد في سوطها الأصبحي
فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه.
والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة1 من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
ـــــــ
1 ر: "منفردة".
للراعي في عبد الملك بن مروانقال الراعي يخاطب عبد الملك:
إني حلفت على يمين برة ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافداً ... يوماً أريد ببيعتي تبديلا
ولا أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي ... إني أعد له علي فضولا
وفي هذه القصيدة:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائماً مغلولا1
قوله:
وأزرق يدعو إلى أزرقي
يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله.
ـــــــ
1 العريف: القيم بأمور القبيلة.
وقوله:
على دين صديقنا والنبي
فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره1، قال الله عز اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4. وقال حسان بن ثابت:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
يعني بني هاشم
ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد5. وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة6، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج7 بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم:
[قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه:]
سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر ... وماذا الذي يبقى على عقب الدهر8!
ولو كنت فيه إذ أبيح حريمه ... لمت كريماً أو صدرت على عذر
أبيح فلم أملك له غير عبرة ... تهيب بها أن حاردت لوعة الصدر9
ـــــــ
1 ر: "وغيرة المقدم".
2 سورة التغابن 2
3 سورة الرحمن33.
4 سورة آل عمران 43.
5 الحد, بفتح الحاء: البأس والنفاذ في النجدة, والجد بالكسر: الجتهاد والسرعة في الأمر, قاله المرصفي.
6 ر: "الترحل".
7 صاحب الزنج: رجل ظهر أيام المهتدى بالله, وزعم أنه من ولد على بن الحسين بن على بن أبي طالب, ودعا الناس إلى طاعتة, واستمال عددا كبيرا من الزنوج, يستعين بهم على العبث والفساد, سنة 27
8 عقب الدهر: نوبه وأرزاؤه
9 العبرة: الدمعة.
ونحن رددنا أهلها إذ ترحلوا ... وقد نظمت خيل الأزرق بالجسر
ومن يخش أطراف المنايا فإننا ... لسنا لهن السابغات من الصبر
فإن كريه الموت عذب مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر
وفي هذا الشعر:
ليشكو بنو العباس نعمى تجددت ... فقد وعد الله المزيد على الشكر
لقد جنبتكم أسرة حسدتكم ... فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر
وقد نغصتهم جولة بعد جولة ... يبيتون فيها المسلمين على ذعر
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
ألا طرقت من أهل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق حمته الأزارقه2
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه
ـــــــ
1 ر: "بيبة".
2 سولاف: قرية من أرض خوزستان. والرستاق اسم للسواد والقرى.
من أخبارهم يوم النهروانوكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول:
أقتلهم ولا أرى عليا ... ولو بدا أوجره الخطيا
فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال
رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية.
وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم1 من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ.
وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان:
ما كان أغنى اليشكري عن التي ... تصلى بها جمراً من النار حاميا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... خلعت علياً بادياً ومعاويا2
وجاء في الحديث، أن علياً رضي الله عنه تلي بحضرته: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً, الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، فقال علي: أهل حروراء منهم.
وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته.
ـــــــ
1 كلمة"ثم" ساقطة من ر.
2 تنوخم: تناله.
3 سورة الكهف 104,103.
من شعر علي بن أبي طالبومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرفقة في الدين أرجع كافراً!:
يا شاهد الله علي فاشهد ... أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتدي
ويروى:
أني توليت ولي أحمد
في تقسيم غنائم خيبرويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: ألا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: "إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ".
وفي حديث آخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل?" ثم قال لأبي بكر: "اقتله" فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله".
قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل
مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورد خداه، ثم قل: "أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? " ! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل 1 فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف 2 فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق" 3.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ضئضئ هذا" أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق4، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة:
أقبلن من ثهلان أو وادي حيم ... على قلاص مثل خيطان السلم5
إذا قطعن علماً بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم
ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي:
وقد أختلس الضربـ ... ـة لا يدمى لها نصلي
فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع.
ـــــــ
1 النصل: حديدة السهم والسيف.
2 الرصاف: عصب يشد على سنخ النصل.
3 الفوق: مشق رأس السهم.
4 ر: "ومن مجتد".
5 الخيطان: جمع خوط, وهي الأغصان.
من أخبار واصل بن عطاءوذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب
ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حباً ... به أرجو غداً حسن الثواب
فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!.
وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء:
ماذا منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا1
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفروا رجلا!
ويروى: لا بل2، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
فهذا ما يرويه المتكلمون.
وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي،
ـــــــ
1 النقنق: الظليم. والدو:الفلاة الواسعة. ومثل: أي أيام.
2 قال الملرصفي: هذه عبارة سخيفة, يريد أن السبب في هجائه ليس ما ذكره بشار من نسبه الكفر إلى أصحابه, إذ نسبوه إلي واصل, وإنما السبب ما بلغه من إنكار واصل قوله يفضل النار وبصوب رأي إبليس. وكلمة" كأنه لا شك فيه" معترضة.
فذكرت قرابتهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمسكت عنهم1. [إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم ... كبابليين حفاً بالعفاريت
لا يرجيان ولا يرجى نوالهما ... كما سمعت بهاروت وماروت]2
وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به3 إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا4 اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة.
وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك5 لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه:
عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
وقال آخر:
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر
ومما حكي6 عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لو لا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً.
فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم
ـــــــ
1 د: "منهم".
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 كلمة "به" ساقطة من ر.
4 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
5 ر: "بذاك".
6 ر: "يحكى".
يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم.
واجتناب الحروف شديد.
وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست1 قال: والله لو لا الخطبة والنساء ما حفلت بها.
قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد2 الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين3 الحروف وحسن مخارج الكلام.
فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك:
صحت مخارجها وتم حروفها ... فله بذاك مزية ولا تنكر
المزية: الفضيلة.
وأما قوله: ابن باب فهو4 عمرو بن عبيد بن باب، وهو5 مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما.
فقال:
ومن قوم إذا ذكروا علياً ... أشاروا بالسلام على السحاب
ويروى:
يردون السلام على السحاب
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "فأجاد".
3 ر: "يتمكن".
4 ر: "فإنه".
5 ر: "وكان".
مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنهثم نرجع إلى ذكر الخوارج.قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه1 معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث2 أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف3 لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت4 إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها5، وفي ذلك يقول6:
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم7
ـــــــ
1 ر: "فوجه".
2 ر: "الأحاديث".
3 ر: "فكيف".
4 ر: "سرت".
5 أي قال لها نعم.
6 قال المرصفي: بل قائله ابن أبي مياس المرادي.
7 قبله:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة.
فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له1! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن.
ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه2، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا3 السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه.
ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كلمة "إياه" ساقطة من ر.
3 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي.
فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج1 مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد2 من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له،وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم3 على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي4، وإن5 أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم6 ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته7 السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم.
ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن8 رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "بالمسجد".
3 ساقط من ر.
4 ر: "إي".
5 "وإن أصبت فاضربوه ضربة في مقتله".
6 هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, زوج عمر بن الخطاب.
7 ر: "أسقيته".
8 ر: "فدعا به الحسن".
رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك1 ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين2 مضاضين3، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله.
ويروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا4 نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه:
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا5
ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول:
حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد.
قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً:
ـــــــ
1 ر: "في يديك".
2 الملمول: الحبل يكتحل به.
3 أي جارين.
4 ر: "فلا".
5 الحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر, يقال للرجل: اشدد حيازيمك, أي وطن نفسك على الأمر.
لسعد بن الضباب إذا غدا ... أحب إلينا منك فا فرس حمر1
وإنما الشعر:
لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا
وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته2، وكان معاوية عظيم الأوراك, فقطع منه عرقا يقال له3 عرق النكاح, فلم يولد لمعاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ4 زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين.
ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم5 الناس.
وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج6 خارجة7، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة8.
ـــــــ
1 لامرئ القيس بن حجر. ديوانه 139.
2 المأكمة: واحدة المأكمتين, وهما اللحمتان اللتان على رءوس الوركين.
3 كلمة "له" ساقطة من ر.
4 ر:"فبلغ".
5 يبهظهم: يغلبهم.
6 ر: "دخرج".
7 هو خارجة بن حذافة, له صحبة.
8 ر: "والله أراد".
لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالبوقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
إن الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرئ خاره للدين مختار
طب بصير بأضغان الرجال ولم ... يعدل بخبر رسول الله أخبار
وقطرة قطرت إذ حان موعدها ... وكل شي له وقت ومقدار
حتى تنصلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا
حمت ليدخل جنات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار
قوله خاره يعني1: اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه.
وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} 2. والخبر: العالم.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك3.
وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها.
وقوله: حمت، معناه قدرت.
ـــــــ
1 ر: "إنما هو".
2 سورة محمد 73.
3 ر: "أجى لك".
للكميت في رثائه أيضاقال الكميت:
والوصي الذي أمال التجوبي ... به عرش أمة لانهدام
قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه ... حكماً لا كغابر الحكام
الإمام الزكي والفارس المعلم ... تحت العجاج غير الكهام
راعياً كان مسجحاً ففقدنا ... ه وفقد المسيم هلك السوام1
وله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات:
نحن منا النبي أحمد الصديـ ... ـق منا التقي والحكماء
ـــــــ
1 مسجحا: سهلا.
وعلي وجعفر ذو الجناحين ... هناك الوصي والشهداء
وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المحبوس في سجن عارم
وصي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أعناق وقاضي مغارم
أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر:
صبحن من كاظمة الخص الخرب ... يحملن عباس بن عبد المطلب
يريد ابن عباس رضي الله عنه.
وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك:
ورثتم ثياب المجد فهي لبوسكم ... عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم
يريد ابني عبد مناف.
لأبي الأسود الدؤلي في آل البيتوقال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
أحبهم لحب الله حتى ... أجيء إذا بعثت على هويا
هوى أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا1
يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر ما تنسى عليا!
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا2
ـــــــ
1 زيادات: "السوي والسواء: الذي قد سوى الله خلقه, لا زمانة به ولاداء, وفي القرآن: "بشر سويا" وتقول: ساويت ذاك بهذا الأمر, أي جعلته مثلا له.
2 زيادات ر: "ويروى: وليست".
وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له1: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني.
قال: وكان نقش خاتمه:
يا غالبي حسبك من غالب ... إرحم علي بن أبي طالب
وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله:
راعياً كان مسجداً فقدناه ... وفقد المسيم هلك السوام
فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم.
قال ابن قيس الرقيات:
أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء
لو تقفى ويترك الناس كانوا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء
وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه:
كان المسيم ولم يكن إلا لمن ... لزم الطريقة واستقام مسيما
ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة.
ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر2 والبغيبغة فهذا3 غلط، لأن وقفه هذين4 الموضعين لسنتين من خلافته.
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كذا ضبط في الأصل. بفتح النون, وفي حاشية عن الصحاح: "نبرز" بكسر النون.
3 ر: "وهذا".
4 ر: "لهذين".
وقف عين أبي نيزرحدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - 1يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة2، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة3، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً4 من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول5 وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقا6ً. فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم7 فانثالث8 كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق9 لهما، وليس لأحد غيرهما.
قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 البغيبغة: عين لآل رسول الله صلى الله علية وسلم غزيرة الماء كثيرة النخل.
3 الإهالة: ما أذيب من الشحم والسنخة: المتغيرة الريح.
4 حسا: جمع حسوة, وهي الشربة ملء الفم.
5 المعول: الفأس العظيمة ينقر بها في الصخور.
6 تفضج جبينة عرقا: سال.
7 بهمهم, من الهمهمة, وهي ترديد الصوت في الصدر.
8 يقال انثال الرمل انثيالا, إذا تبع بعضة بعضا, وهو هنا علي الإستعارة.
9 طلق: أي حلال.
كتاب معاوية إلى مروان بن الحكموتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك1 كتابي هذا2 فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق.
فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية3 وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك4 تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي5 بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه.
ـــــــ
1 ر: "وصل إليك".
2 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
3 في لاأصل: "أمير المؤمنين", وما أثبته عن ر.
4 الإملاك: عقد النكاح.
5 ر: "يدي".
حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه
قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.
قال: ويروى1 أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج2 فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع3، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة4 لطول السجود، وأيدياً كثفنات5 الإبل، وعليهم6 قمص مرحضة7، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من
ـــــــ
1 ر: "يروى".
2 فلج: انتصر.
3 الكراع: اسم جماعة الخيل.
4 قرحة: بها قروح.
5 ثفنات الإبل: ما يصيب الارض منها إذا بركت.
6 ر: "وعليهم".
7 قمص مرحضة مغسولة, من أرحض الثوب, غسله.
عند صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل1 علمتم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى2 جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان3، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن.
ـــــــ
1 ر: "هل".
2 ر: "متى".
3 زيادات ر: "قال الأخفش: كذا كان يقول المبرد: "النهروان. بكسر النون والراء, وإنما هو النهروان" بالفتح, وأنشد للطرماح: "قل في شط نهروان" بفتح النون.
خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم لهقال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم1.
ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له2: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال3: ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله،
ـــــــ
1 س: "احفظو ذمة نبيكم".
2 كلمة "له" سلقطة من ر, وهي في الأصل, س.
3 ر,س :"قال".
فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل".
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما1 تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم2، وأشد توقياً على دينه، وأبعد3 بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها.
ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.
وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?.
ـــــــ
1 ر: "فما تقول".
2 ر: "أعلم بكتاب الله".
3 ر:"وأنفذ".
غيلان بن خرشة ونيله منهمومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك1 برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة.
ـــــــ
1 الحضنان: ناحيتا الإنسان. والجمع أحضان.
مرداس بن أدية وزيادومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً
إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص ، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " " النجم: 37 - 41 " وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم.
والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك.
آراء الفقهاء في مذهب الخوارجوهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً1، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس.
ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني2 كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر3.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 حاشية س: "قد يتوهم من هذا الكلام من لا معرفة له بالأخبار والتواريخ أن المذكور هنا مالك بن أنس الفقيه المدني المشهور صاحب المذهب. وليس الأمر كذلك. وهذا تقصير أو قصور من أبي العباس, حيث أبهم في موضع البيان, لأن مالكا المذكور هنا هو مالك بن أنس بن مالك بن مسمع البكري. ثم البصري. أحد رؤساء أهل البصرة. وأعظم فقهائها في زمانه. لشرف بيته وتقدمة في معرفة كل فن, وشهرة وزهده وكثرة تهجده, لكنه كان متهما برأي الخوارج. ولم يوقف لأمره على حقيقته, الله أعلم أي ذلك كان. وأما الإمام مالك بن أنس المدني الأصبحي الحميري فهو الذهب الأبريز صفاء. والكبريت الأحمر عزة".
3 الثريد الأعفر: الأبيض. ليس بالشديد البياض. يريد الثريد الممتلئ بالإدام, قاله المرصفي.
فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه1 النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق!
قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة2 يقول:
رب العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبالكا
فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة [وأشهد أن الخلق جميعاً عباده]3.
وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه:
أبني عقيل لا أبا لأبيكم ... أيي وأي بني كلام أكرم
وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري:
يا قرط قرط حيي لا أبالكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر
أأن روى مرقس واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر
قلتم له اهج تميماً لا أبالكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر
فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمت وأرست عزها مضر
ـــــــ
1 س: "يتعرفه".
2 ر: "جديبة".
3 تكملة من ر.
قوله: "يا قرط قرط حيي" نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا "يا قرط حيي" فأقحموا" قرطاً" توكيداً، وكذلك لجرير1:
يا تيم تيم عدي لا أبالكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
ومثله لعمر بن لجا2:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل3
فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: "يا زيد زيد اليعملات" و"يا تيم تيم عدي"، كما تقول: "يا زيد أخا عمرو" على النعت. ومثل الأول في التوكيد "يا بؤس للحرب" فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء "لا أبالك" و"لا أبا لزيد" ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت "لا أباك" كما قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقي لا أباك تخوفيني
وقال آخر:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد!
وقوله: "أأن روى مرقس" "مرقس" رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة4 فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة5 فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة6، وأصغرهن الطبع7:
ـــــــ
1 قال المرصفي: "يهجو عمر بن لجأ التيمي", وقبله كما في الديوان 285:
أتبتغي التيم عذرا بعد ما غدروا ... لايقبل الله من تيم إذا اعتذروا
لا تمنعون لكم عرسا وما لكم ... إلا بغيركم ورد ولا صدر
2 قال المرصفي: هذا غلط, وصوابه: لعبد الله بن رواحة الخزرجي يقوله لزيد بن أرقم.
3 اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة السريعة. والذبل: الضوامر.
4 المزاده هي التي تكون من جلدبن يزاد بينهما نصف جلد.
5 آدمه :جمع أديم, وهو الجلد.
6 السطيحة: التي تكون من جلدين, يقابل أحدهما بالأخر.
7 الطبع, قال المرصفي: لم أر أحدا من أهل اللغة ذكره إلا في الأسقية, وإنما هو لملْ السقا.
وقوله: "واصطاف أعنزه"، يريد "افتعلت"، من الصيف، أي أصابت البقل فيه.
والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع.
وقوله: "ذو سمعت به" يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى "الذي"، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال:
إني أرى في عامر ذو ترون
وقال عارق الطائي:
فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم ... لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه1
يريد الذي.
ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه.
قال الحسن بن هانئ الحكمي:
حب المدامة ذو سمعت به ... لم يبق في لغيرها فضلا
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذال
وقال الحسن بن وهب الحارثي:
عللاني بذكرها عللاني ... واسقياني أو لا فمن تسقيان
أنا ذو لم يزل يهون على الند ... مان إن عز جانب الندمان
ويكون العزيز في ساعة الروع ... بصدق الطعان يوم الطعان
ـــــــ
1 لأنتجين: لأقصدن. وعارقه, من عرق العظم يعرقه, بالضم عرقا, أخذ اللحم عنه بأسنانه نهشا, وبهذا البيت سهي عارقا.
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج1 :
قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} 2.
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما وصفهم قال: "سيماهم التحليق 3 يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد" 4.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: "رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة"، أو "الخنيصرة".
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: "ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: "ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل لكان أول فتنة وآخرها".
ـــــــ
1 ر: "عاد الحديث إلى ذكر الخوارج".
2 سورة طه 84.
3 سيماهم التحليق, أي علامتهم حلق الرءوس.
4 مخدج اليد: ناقصها.
حديث المخدجويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى
صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها.
من أخبار نافع بن الأزرقويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم.
قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله.
حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} 1، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:
ـــــــ
1 سورة الإنشقاق 17.
إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير.
قوله: "حقائقا" إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على "فعلية" مثل "حقيقة" ولذلك جمعها على "حقائق" ويقال: "استوسق" القوم، إذا اجتمعوا.
وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} 1 فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده:
سلماً ترى الدالج منها أزورا ... إذا يعج في السري هرهرا
السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال:
لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد2
والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: "تر الدالي منه أزورا" وهذا خطأ لا وجه له.
وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 3: ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة4، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك.
ـــــــ
1 سورة مريم 24.
2 أفتلان, من القتل, وهو اندماج مرفق الناقة.
3 سورة القلم 3.
4 زيادات ر:" الأم :زعنفة بالكسر".
قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه.
ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 1، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرتعن ساقها الحرب شمرا
قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي ليت صبحك نورا
أخاف على نفس ابن أحوز2 إنه ... جلا حمماً فوق الوجوه فأسفرا
جعلت لقبر للخيار ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا3
وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا4
فلم تبق منهم راية يعرفونها ... ولم تبق من آل المهلب عسكرا
ألا رب سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت:
ـــــــ
1 سورة القيامة 29.
2 زيادات ر :"قال الشيخ أبو يعقوب: الذي رويت في شعر جرير:
حذرارا على نفس ابن أحوز إنه ... جلا كل وجه من معد فأسفرا
3 زيادات ر عن الشيخ أبي يعقوب: "وقوله: "عدى" يعني عدي بن أرطاة الفزاري. قتله معاوية بن يزيد بن مهلب بواسطة. وكان عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله". وفيها الخيار أيضا "ويروى: للخيار بواسط.الخيار: موضع بعمان فيه قبر الخيار بن سبرة المحاشعي. وواسط بها قبر عدي بن أرطاة الفزاري".
4 زيادات ر: "المزون عمان بالفارسية".
فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
وقال آخر يعني الحرب:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فويهاً حذيف ولا تسأم1
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء2، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر.
ومما سأله عنه: {آلم, ذَلِكَ الْكِتَابُ} 3، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن.
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 4؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 5، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو-أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه
ـــــــ
1 زيادات ر: "تقول: "ويها لزيد" إذا زجرته عن الشئ فأغريته به. وواها له, إذا تعجبت منه. وحذيف. يريد "حذيفة" فرخم".
2 قناء: عالم بمواضع الماء من الأرض, مأخوذ من القناة. وهي كطيمة تحفر تحت الارض. قاله المرصفي.
3 سورة البقرة 1.
4 سورة البقرة 89.
5 سورة البقرة 146.
معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل1، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد2 بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت3 حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت هالكا
وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا4
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: "يأطر متنه" أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 5"، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرجـ ... ـع منيناً كأنه إهباء6
قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:
يا ريها إن سلمت يميني ... وسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنين
ـــــــ
1 صميم الخيل: قال المرصفي: "يريد بالخيل الفرسان, وصميمها: عميدها الذي تعتمد عليه, من الصميم, وهو العظم الذي به قوام العضو".
2 لفظ "هو" ساقط من ر.
3 رمت: برحت.
4 خام: جبن وضعف.
5 سورة فصلت 8.
6 يصف خيلا. والرجع: رد الدابة يديها في السير. وأهباء: جمع هبوة, يريد كأنه أهباء الزوبعة ترتفع في الجو قاله المرصفي.
يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله1 "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم.
ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً2 فجعل يسأله3 حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر!
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر
إذا زرت نعماً لم يزل ذ قرابة ... لها كلما لاقيته يتنمر
عزيز عليه أن أمر ببابها ... مسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه ... يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها ... بمدفع أكنان أهذا المشهر!
قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر!
فقالت: نعم، لا شك غير لونه ... سرى الليل يحيي نصه والتهجر4
لئن كان إياه لقد حل بعدنا ... عن العهد، والإنسان قد يتغير
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
ـــــــ
1 ر: "يجعله".
2 ساقطة من ر.
3 ر: "يسائله".
4 النص: ضرب من السير, والتهجر: السير في الهجارة.
حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال "فيضحى وأما بالعشي فيخصر" قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها1.
وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي.
وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن2، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3، والضح: الشمس، وليس من: "ضحيت"، يقال: "جاء فلان بالضح والريح" يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغر أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: "دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم"، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كن أبا خيثمة"، فكانه.
وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 البردان: الغداة والعشي.
3 سورة طه 119.
الحجاج وامرأة من الخوارجوذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي.
والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.
عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارجوذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً1، فرغب فيه، فاستدعاه2 إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا3 أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا4 الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول5، والله لأقتلنك إن لم تطع.
فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.
قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي6 ؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى
ـــــــ
1 الأرب: البصر بالأمور, والدهى, مصدر دهى, كرضي, إذ كان صاحبه عاقلا مجربا.
2 كذا في الأصل, س, وفي ر: "واستدعاء".
3 ر: "وأبى".
4 ر: "سلطني".
5 ر: "بالقول".
6 ر: "يبك" وكلاهما جائز.
عليه عينه إذا حضرته طاعة الله1، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك.
ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع.
ـــــــ
1 ر: "طاعة ربه".
وفود رجل من أهل الكتاب على معاويةوتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب1 هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال2، ويصطنع الرجال، ويجنب3 الخيول، ويبيح حرمة الرسول4، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة5 تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته6، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه7 ظاهراً، ويكون له قرين8 مبير9 لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قال:
ـــــــ
1 ر: فاختبر, ويقال: اجتبيت الخراج اجتباء, أي جمعته.
2 احتجن الشئ أخذه وحبسه.
3 يجنب الخيل: يقودها إلى ما يركب منها اختيالا وعجبا بها.
4 قال المرصفي: ذلك ما كان من قتل الحسين ومن معه من فتيان بني هاشم وإهانة آل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
5 هي الفتنة التي وقعت بعد موت معاوية بن يزيدةبن معاوية, وافتراق الناس فرقتين, فريق يدعو إلى ابن الزبير. وفريق يدعو إلى بني أمية.
6 قال المرصفي: "يريد به عبد الملك بن مروان: ولم يذكر معاوية بن يزيد ولا مروان لقصر مدتهما".
7 ناوأه: عاداه.
8 يريد به الحجاج بن يوسف, وقاله المرصفي.
9 مبير: مهلك, وفي س :"مبين".
شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض،قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت1 إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت.
فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته.
وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}.
ـــــــ
1 ر: "رأيت".
صديق عبد الملك بن مروانقال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.
حديث ابن جعدبة للمنصورقال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه
ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ؟ قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها؟ قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله؟ قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد؟ قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء.
قتال أهل النخيلةقال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، "فرأى تعطيل إحداهما طعناً"1 على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده2 الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه،
ـــــــ
1 ر: "فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى". وما أثبته عن الأصل. س.
2 ساقطة من ر.
ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، فكل أجاب وبايع.
فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً.
وفيهم يقول عمران بن حطان:
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب3
وقال الحميري يعارض هذا المذهب:
إني أدين بما دان الوصي به ... يوم النخيلة من قتل المحلينا
وبالذي دان يوم النهر دنت به ... وشاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ... ومثلها فاسقني آمين آمينا
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 سورة هود 56.
3 الجوسق الخرب: بظاهر الكوفة عند النخيلة, والبيت في معجم البلدان "17:3" من أبيات نسبها إلى قيس بن الأصم الضبي.
مناظرة أهل النخيلة لابن عباسوكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان1 علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً.
ـــــــ
1 ر: "إذ كان".
المستورد التيميوكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه.
كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك.
وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب.
وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك.
وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد.
وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت.
الخوارج ومعاويةقال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار.
فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين1، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر
ـــــــ
1 البندنيجين. بلظ المثنى: بلد طرف النهروان من أعمال بغداد.
الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة.
ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً "أكثره أهل الكوفة"1 ثم قال لأبيه أبي حوثرة: قم فاكفني2 أمر أبنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع, فأبى فأداره, فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر3، فقال: يا أبا حوثرة، عتا4 هذا جداً!.
فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!.
فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول:
أكرر على هذي الجموع حوثره ... فعن قليل ما تنال المغفرة
فحمل عليه رجل من طيئ5 فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً.
وأنا أحسب أن قول القائل:
وأجرأ من رأيت بظهر عيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
ـــــــ
1 ر: جيشا أكثرهم من أهل الكوفة.
2 ر: "اكفني امر ابنك".
3 ساقطة من ر.
4 عتا: استكبر.
5 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه عبد الله بن عوف قائد ذلك الجيش.
إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه.
وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره:
تعتبت تطلب ما استحق ... بها لهجر منك ولا تقدر
وماذا يضيرك من شهرتي1 ... إذا كان سرك لا يشهر
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر
ولو لم تكن في بقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
ـــــــ
1 ر: "يضرك" بتشديد الراء.
من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه
ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لعلي: "يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: "أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه" - ووضع يده على لحيته – "من هذا"، ووضع يده على قرنه.
ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه.
ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!
ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه1 عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت.
وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان:
وكنا قبل مهلكه زماناً ... نرى نجوى رسول الله فينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وأكرمهم ومن ركب السفينا
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا
ـــــــ
1 الترفيه: التنفس.
ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور!
وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا1 مفرداً لهم، ولكنا2 نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 "لكنا".
الخوارج وزيادخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي:
لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام1
فعرد عنهم2 الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون،
ـــــــ
1 شحذ السيف: إجلاؤه.
2 عرد الرجل تعريدا, إذا عدا فزعا.
وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم.
ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لو لا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً1. وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره.
وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
قتل مصعب لامرأة المختارولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول1
قتلت باطلاً عل غير ذنب ... إن لله درها من قتيل!
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول2
قال: وكان3 الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم.
ـــــــ
1 العطبول: المرأة التامة الخلق.
2 المحصنات: العفيفات.
3 ر: "وكانت".
ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 2.
ـــــــ
1 سورة الفرقان 22.
2 سورة الإسراء 36.
عبد الله بن زياد والخوارجعاد الحديث إلى أمر الخوارج.
وكانت1 من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 2 وقال جل ثناؤه: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} 3 - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية4 فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي.
فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس.
ـــــــ
1 ر: "وكان".
2 سورة التحريم 12
3 سورة الشعراء 171.
4 التقية: حفظ النفس بما يستطاع من المكروه.
ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج1 إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به.
ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم2. لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع3.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?!
ـــــــ
1 الإدلاج: السير من آخلر الليل.
2 بنجم: يطلع.
3 اليراع: القصب الفارسي.
من أخبار مرداس أبي بلالويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ1 بعيراً له، فهرج2 البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً!
وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد
ـــــــ
1 يهنا بعيرا: يطلية بالهناء, وهو القطران.
2 هرج: تعب وتحير.
ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل1. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي2، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله:
أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى ... ومن خاض في تلك الحروب المهالكا3
أحب بقاء أو أرجي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا!
فيا رب سلم نيتي وبصيرتي ... وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قوله: "وقد قتلوا" ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل4: هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال
ـــــــ
1 الفصل: قول الحق.
2 لفظ: "ياأخي" من ر.
3 ابن وهب: هو عبد الله بن وهب الراسبي.
4 ر: "قوم".
علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له.
وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى.
ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله1 بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد
ـــــــ
1 ر: "أدين بأنه محق".
يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً!
وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللات بن ثعلبة، في كلمة له:
فلما أصبحوا صلوا وقاموا ... إلى الجرد العتاق مسومينا1
فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا
بقية يومهم حتى أتاهم ... سواد الليل فيه يراوغونا
يقول بصيرهم لما أتاهم ... بأن القوم ولوا هاربينا
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!
ـــــــ
1 مسومين: معلمين بعلامات يعرفون بها في الحرب.
وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول:
أقاتلهم وليس علي بعث ... نشاطاً ليس هذا بالنشاط
أكر على الحروريين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال.
وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال1: فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف.
فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله.
فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي.
وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لو لا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي:
ألا في الله لا في الناس شالت ... بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً ... تحوم عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وقال عمران بن حطان:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
عباد بن أخضر المازنيقال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك1. فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة
ـــــــ
1 ذمره: لامه.
له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق:
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة ... إذا ذم طلاب التراث الأخاضر
هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر ... فنالوا التي ما فوقها نال ثائر
أفادوا به أسداً لها في اقتحامها ... إذا برزت نحو الحروب بصائر1
ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه:
كفعل كليب إذ أخلت بجارها ... ونضر اللئيم معتم وهو حاضر2
وما لكليب حين تذكر أول ... وما لكليب حين تذكر آخر
وقال معبد بن أخضر:
سأحمي دماء الأخضريين إنه ... أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا
ـــــــ
1 أقادوا أسدا. قتلوهم به.
2 يقال: اعتم الرجل في الشئ, إذا أبطأ فيه.
عروة بن أدبةوكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في
طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من في الحبس1 منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب2 العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر3! وكان مع هذا ألكن يرتضخ4 لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو "في سرب العلاء بن سوية". ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ.
فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره5. وأصحه عندنا أنه قال: لقد6 جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد7 لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما
ـــــــ
1 ر: "السجن".
2 السرب: الطريق والمسلك.
3 س: "وللشعر".
4 يرتضخ: يميل إليها في نطقه.
5 ر: "وقد اختلف الناس في خبره".
6 كلمة "لقد" ساقطة من ر.
7 ر: "مأريده".
أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا1 نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد2 مضى ذكره.
قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي:
ولقد قالت لجارات لها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد!
فتهانفن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد
ـــــــ
1 ر: "كلنا".
2 ساقطة من ر.
أمر زياد مع الخوارجوكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه.
فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي1. قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر
ـــــــ
1 ر: "أدخل إلى منزلي".
أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون.
وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة1 فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة2، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم3، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف.
قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات.
ـــــــ
1 الرجلة: المشي على الرجلين.
2 الذرة: واحدة الذر, وهو النمل الصغار.
3 ر: "في شأمهم".
الرهين المرادي وشعرهوقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم.
وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي1 الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي:
يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي ... لا تأمنن لصرف الدهر تنقيصا2
إني لبائع ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا3
وأسأل الله بيع النفس محتسباً ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
[قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية].
وابن المنيح ومرداساً وإخوته ... إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا4
قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم.
وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد5 كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به.
فأما قول جرير:
ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع.
وقوله:
ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
ـــــــ
1 ر: "والشعر".
2 ر. س: "تنغيصا".
3 التربيص: الانتظار.
4 المخاميص: جمع مخامص, وهو الضامر البطن.
5 ساقطة من ر.
يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم1 بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد.
وأما قول ابن الرقيات:
والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
فأباح العراق يضربهم بالسيف ... صلتاً وفي الضراب غلاء2
فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره.
وقوله: "ما توحي الشياطين"، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة3 لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل.
فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة.
وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً.
ـــــــ
1 ر: "من تميم".
2 الصلت: الماضي في الشئ. والغلاء: مجاوزة القدر في كل شئ.
3 السجاعة: صناعة السجع.
المختار بن عبيد وبعض أخبارهويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع.
وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً:
بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم
وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده1، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل2.
فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم
ـــــــ
1 الأيد: القوة.
2 الافكل: اسم للرعدة تعلو الإنسان.
ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك1، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء2 من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه3 نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة4 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر5 وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين6 بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول.
[قال أبو الحسن: السكوني أكثر]7، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "من يشاء".
3 ر: "فتوجه".
4 حصتم حيصة: ذهبتم تطلبون الفرار.
5 خازر: نهر بين إربل والموصل.
6 ر: "حضين", وما أثبته عن الأصل.
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.
فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج1. وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم.
قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي2 وملاءة، وهو متوشح3 السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً.
فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه4 راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا.
فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد.
وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في
ـــــــ
1 قتلى المرج, يريد مرج راهط, وقد قتلت يوم ذلك قبائل قيس مقتلة لم تر مثلها. قاله المرصفي.
2 هروي: منسوب على هراة إحدى مدن خراسان.
3 ر: "متشح".
4 ر: "ومنه".
براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين1.
وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر2:
وليس بمنقذ لك منه إلا ... براكاء القتال أو الفرار
ـــــــ
1 ر: "بدرهمين من بخار".
2 حاشية الأصل: "البيت لبشر بن خازم" ويروى:
ولا ينجى من الغمرات إلا
وهذا باب 1 اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة
...
إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم.
وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا2.
فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس.
والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يبعث لي بعد النبي طربا3
ـــــــ
1 ر: "هذا".
2 ر: "لالتبستا".
3 لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي.
وقال آخر:
تكنفني الوشاة فأعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع1
وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!.
وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار2
فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم.
وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت.
والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم.
فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في "عمرو" وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في "زيد" لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله.
ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من "زيداً"? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً.
ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر:
يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب!
فقد أحكمت كل ما في هذا الباب.
ـــــــ
1 نسبة المرصفي إلي قيس بن ذريح وقبله:
فواكبدي وعاودني رداعي ... وكان فراق لبني كالخداع
2 سمعان: بفتح السين وكسرها. وكلامها صحيح.
ثم نعود إلى ذكر الخوارج
خالد بن عباد السدوسيقال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم1، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة2 تعرف برحبة الزينبي.
فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً3، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح4، يتتبعها5 فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران6
ـــــــ
1 ر: "دلني عليهم".
2 الرحبة: الفجوة الواسعة بين الدور.
3 الشاسف: اليابس من الهزل.
4 اللقحة: الناقة التي لها لبن.
5 ر: "يتتبعها".
6 الودع: اللطخ بالطيب والزعفران.
فلقيه بالمربد1 وهو يسأل عن لقحة صفي2، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ3 فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي.
فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس4 عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل5 ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال:ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته6 وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي:
آليت لا أغدو إلى رب لقحة ... أساومه حتى يعود المثلم7
ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة.
ـــــــ
1 المربد" المكان الذي تحبس فيه الفبل وتصان. ومنه سمي مربد البصر’. وكان موضع سوق اللإبل.
2 الصفي: الناقة الغزيرة اللبن, والجمع صفايا.
3 تبلغ: يريد إن كنت تبلغ بها ثمنا جيدا. قاله المرصفي.
4 ر: "وتحسن".
5 ر: "فتحامل".
6 ر: "وأنا قاتله".
7 بعده كما ذكره المرصفي:
وقال له كوماء حمراء جلدة ... وقاربه في السوم والقتل يكتم
فأصبح قد عمى على الناس أمره ... وقد بات يجري فوق أثوابه الدم
وقد كان فيما كان منه بمعزل ... ولكن حين المرء للمرء مسلم
تفرق الخوارجومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب.
الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض.
والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار1 وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم..
ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس2.
ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي.
وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته3 الخوارج بامتناعه من قتال علي.
ـــــــ
1 هو عبد الله بن الصفا.
2 هو هيصم بن جابر.
3 ضللته: نسبته إلى الضلال.
الخوارج وابن الزبيرفكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك.
فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع1 من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع:
ـــــــ
1 ر: "تجمع".
لسانك لا ينكى به القوم إنما ... تنال بكفيك النجاة من الكرب
فجاهد أناساً حاربوا اله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غوي بني حرب
ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً1 كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة.
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير.
ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن2 في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى
ـــــــ
1 الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها.
2 يشير على قوله تعالى في سورة الأحزاب 33: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}.
التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن "أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا"1.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه2 من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى" فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار4 الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني5 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 6, وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 7. وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ـــــــ
1 كذا وردت العبارة في الأصل. س. وفي ر: "وإن ابيت إلا نصر رأيك الأول. وتصويب أبيك وصاحبه. والتحقيق بعثمان, والتولي على الست التي أحلت دمه. ونقضت......وافدت إمامته, خذلك الله وانتصر من بأيدينا".
2 في ر: "بارأف".
3 سورة طه 44.
4 غمار الناس:جماعتهم.
5 لم تحفظوني: لم تغظبوني.
6 سورة لقمان 15.
7 سورة البقرة 83.
وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض".
فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.
فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه.
وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان3 حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
ـــــــ
1 سورة الفتح 18.
2 سورة الاحزاب 6.
3 ر: "أن كان".
يا صاحبي ارتجلا ثم املسا ... لا تحسبا لدى الحصين محبسا
إن لدى الأركان ناسناً بؤسا
- [قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا] -
وبارقات يختلسن الأنفسا ... إذا الفتى حكم يوماً كلسا
قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد.
ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام1، من رهط الفرزدق:
يا ابن الزبير أتهوى عصبة قتلوا ... ظلماً أباك ولما تنزع الشكك
ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية ... ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا!
فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها.
الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر:
ومدججاً يسعى بشكته ... محمرة عيناه كالكلب
فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري2 وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج3، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً.
ـــــــ
1 ر: "قيس بن همام".
2 كذا في الأصل. وفي ر: "النميري".
3 ر: "محرج".
خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهوازويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم
فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز1 في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس.
وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس:
سيكفيك عبس أخو كهمس ... مواقفة الأزد بالمربد
وتكفيك عمرو على رسلها ... لكيز بن أقصى وما عددوا
- لكيز هو عبد القيس -
وتكفيك بكراً إذا أقبلت ... بضرب يسيب له الأمرد
فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء.
ـــــــ
1 الاهواز: سبع كور بين البصرة وفارس.
خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهماولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك1، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا
ـــــــ
1 ر: س: "وأدللت".
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 1، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم. وقال: الدار دار كفر إلا من اظهر ايمانه, ولا يحل أكل ذبائحهم2, تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} 3، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 4. فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 5 وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 6، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 7.
ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان.
فلما تتابع8 نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم9 في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة10 والعرمة كالسكر11، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 12، وقل النابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر13 القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع.
ـــــــ
1 سورة نوح: 26 – 27.
2 س: "لا تحل".
3 سورة النساء 77.
4 سورة المائدة 54.
5 سورة آل عمران 28.
6 سورة غافر 28.
7 سورة النساء 95.
8 التتابع في الشر وهو التهافت عليه.
9 خضارم: اسم واد باليمامة.
10 العرمة: أرض صلبة تتاخم الدهناء.
11 السكر, بكسر فسكون: اسم لما سد به فم النهر.
12 سورة سبأ 16.
13 ر: "كفر".
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1. ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} 2. ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3, وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} 5، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافع:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول
ـــــــ
1 سورة التوبه 91.
2 سورة التوبة 91.
3 سورة الأنعام 164.
4 سورة النساء 95.
5 سورة لقمان 33.
فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله.
أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} 1. فقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. وقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} 4، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 6، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} 7، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق8، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به.
ـــــــ
1 سورة النساء 97.
2 سورة النساء 97.
3 سورة التوبة 81.
4 سورة التوبة 90.
5 سورة التوبة 90.
6 سورة نوح 27,26.
7 سورة القمر 43.
8 الطلق: الحلال.
كتاب نافع إلى ابن الزبيروكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره:
أما بعد، فإني أحذرك من الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 1. فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 2. وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف3 ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 4.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 30.
2 سورة آل عمران 28.
3 ر: "وكيف".
4 سورة المائدة 51.
كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرةوكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 1، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 2! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك
ـــــــ
1 سورررة التوبة 36.
2 سورة التوبة 41.
المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة2. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه3 ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4. والسلام على من اتبع الهدى.
فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق5 ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم6، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته.
وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم:
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 الحبرة: النعمة وسعة العيش.
3 تؤنقه: تعجبه.
4 سورة البقرة 197.
5 طلق: حلال.
6 ر: "فيها".
سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً:
فارقت نجدت والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب1
والصفرة الأذان الذين تخيروا ... ديناً بلا ثقة ولا بكتاب
- خفف الهمزة من الآذان ولو لا ذلك لانكسر الشعر -
وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج.
إلى ههنا انتهت المقالة.
ـــــــ
1 يعني بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد الثقفي.
مقتل نافع بالأهوازوتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد1، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة2 - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس3 بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار4، ذهب ولا فضة وإني
ـــــــ
1 يريد بالسواد أرض العراق وضياعه.
2 الببة في الأصل: كثرة اللحم وتراكبه. لقب به عبد الله بن الحارث, وكانت أمه ترقصه وتقول:
لأنكحن ببه ... جارية كالقبه
مكرمة محببه ... تحب أهل الكعبه
3 هو ميلم بن عبيس.
4 الأمتيار هنا: جلب الطعام.
لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب1 خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى2، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق.
وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً.
وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد3، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن4، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد
ـــــــ
1 دولاب: قرية بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ.
2 ر: "والقتلى".
3 الورد: لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شئ.
4 الجواشن: جمع جوشن, وهو الدرع.
أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه:
الله أيد عمراناً وطهره ... وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سراً وإعلاناً ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر
ولى صحابته عن حر ملحمة ... وشد عمران كالضرغامة الهصر
قول الربيع: "استشلتني"، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث "إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها"، قال رؤبة:
إن سليمان اشتلانا ابن علي
وقول الناس: "اشليت كلبي" أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته.
وقولها: "بيدي ملحادة" "مفعال" من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة.
و"غدر" "فعل" من الغدر، ول"فعل" باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة.
والضرغامة: من أسماء الأسد.
والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب "فعل".
لقطري في يوم دولابقال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري:
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم1
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جد لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان لعبد القيس أول جدها ... وأحلافها من يحصب وسليم2
وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى ... تعوم وظلنا في الجلاد نعوم3
فلم أر يوماً كان أكثر مقعصاً ... يمج دماً من فائظ وكليم4
وضاربة خدا كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب ودير حميم5
فلو شهدتنا يوم ذاك وخلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
قوله: "ولو شهدتنا يوم دولاب" فلم ينصرف "دولاب" فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير
ـــــــ
1 أم حكيم امرأة من الخوارج كانت مع قطري. وكانت من أجمل النساء وجها, وأحسنهم بدينهم تمسكا. كانت تحمل على الناس وترجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
2 يحصب بن مالك بن حمير, وسليم بن منصور. من قيس عيلان, وأصله مصغر وكبر للوزن.
3 في البيت إقواء.
4 المقعص: المطعون. والفائظ. من قولهم: فاظ الرجل إذا مات.
5 دير حميم: موضع بالأهواز.
الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب،" فوعال" مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب.
وقوله:
غداة طفت علماء بكر بن وائل
وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون "علماء بنو فلان" كما قال الفرزدق:
وما سبق القيسي من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء قلفة خالد
وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم.
وقال آخر نم الخوارج:
يرى من جاء ينظر من دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها1
وقال رجل منهم:
شمت ابن بدر والحوادث جمة ... والحائرون بنافع بن الأزرق
والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبحه نهاراً يطرق
فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يغلق
ـــــــ
1 دجيل: نهر بالأهواز.
نصب بعد "إن" لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب:
لا تجزعي إن منفساً أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال ذو الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر1
لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى.
ـــــــ
1 الوصل: واحد الأوصال, وهي المفاصل.
هذا باب فعل
اعلم أن كل اسم على مثال "فعل" مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال:
قد لفها الليل بسواق حطم
وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} 1.
فإن كان الاسم على "فعل" معدولاً عن "فاعل" لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث.
وإنما قالت: "بيدي ملحادة غدر" في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به "ملحادة" كما قال الحطيئة:
أجول ما أجول ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها "غدر" بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة "فعل" في المذكر، ولو سميت رجلاً "حطماً" لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة "صرد" في الأسماء.
ـــــــ
1 سورة البلد.
هذا
باب النسب إلى المضاف
النسب إلى العلم المضافاعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري.
قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي.
النسب إلى المضاف غير العلمفإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي.
النسب إلى الجماعةفأما قولهم: "صفري" فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا "صفراً" اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة.
فأما قولهم: "الأزارقة"، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة.
ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك.
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " " الصافات: 130 " ، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال:
قدني من نصر الخبيبيين قد
يريد أبا خبيب ومن معه.
وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره.
عاد القول في الخوارجقال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة.
الأزارقة وولاة البصرةويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا1 أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً.
ـــــــ
1 ر: "أهل العراق", بحذف النداء.
وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته1، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب2، وفيه يقول رجل من قومه3:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار
ألم تر أن للفتيان حظاً ... وحظك في البغايا والقمار
فكتب إليه القباع: تكفيني4 حربهم إن شاء الله.
فقام حارثة يدافعهم.
فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر:
مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان
فضحت قريشاً غثها وسمينها ... وقيل بنو تيم بن مرة عزلان5
فلولا ابن بدر لعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حام الحقيقة أومأت ... إليه معد بالأنوف وقحطان
قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله:
أرعد وأبرق يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر
وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله:
ـــــــ
1 ر: "أن يولية".
2 ر: "صاحب".
3 نسبه المرصفي إلى علقمة بن عبد المازني.
4 ر: "تكفي".
5 عزلان: جمع أعزل, وهو من لا سلاح معه.
أنبضوا معجس القسي وأبرقنا كما ترعد الفحول الفحولا1
وأنه لا يقال إلا "رعد وبرق" إذا أوعد وتهدد، وهو "يرعد ويبرق" وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر:
فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد
وروى غير الأصمعي "أرعد" وأبرق على ضعف.
وقوله: و"البرق اليماني خوان"، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن "يمني" ويجوز "يمان" بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز "يماني" فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب:
ضربناهم ضرب الأحامس غدوة ... بكل يماني إذا هز صمما2
ـــــــ
1 الإنباض: جذب الونر ليرن, ومعجس القوس: مقبضها, أو موضع السهم منها.
2 الأحامس: جمع أحمس, وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7
الصفحة الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة
ISLAMICBOOK.WS © 2022 | جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين
اتصل بنا | Other languages | الصفحة الرئيسية
مكتبة القرآن مكتبة علوم القران مكتبة الحديث مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ مكتبة الأدب المكتبة العامة
كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد
يقول: هي مدلة بجمالها، فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر، لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها.
وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزومي حيث يقول:
فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكل فأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمقتل ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا1
قوله:
كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا2
يقول: لسواد الذفرى، وهذا من كرمها، قال أوس بن حجر:
كأن كحيلاً معقداً أو عنية ... على رجع ذفراها من الليت واكف3
وهذا معنى يسأل عنه، لأن الليتين صفحتا العنق. والذفرى في أعلى القفا، فيكف يكف على الذفرى من الليت! والمعنى إنما هو كأن كحيلاً معقداً أو عنية واكف على رجع ذفراها.
وقوله: من الليت كقولك: كموضع دجلة من بغداد، إنما هو للحد بينهما، لا أنه وكف من شيء على شيء: وأما قوله:
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا 4
يقول: ليست تستقر، فكأن ابن آوى يكلمها بنابيه أو يخلبها بظفره، فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر:
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 الذفري: من نصف المقذ إلى أصول الأذنين. وقارفت: قاريت. وبعصرون الصنوبر: يستخرجون ما فيه. "من شرح الديوان".
3 زيادات ر "الكحيل: القطران. والعنية: ضرب منه".
4 موثق: مكتوف. ويكلم: يجرح. وظفر ,أصابها بأظافيره.
كأن هراً جنيباً تحت غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير1
والغرض والغرضة واحد، وهو حزام الرحل.
وقال آخر:
كأن ذراعيها ذراعا بذية ... مفجعة لاقت خلائل عن عفر2
سمعن لها واستفرغت في حديثها ... فلا شيء يفري باليدين كما تفري
قال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعذل، وأنشدنيه سعيد بن سلم3. ولو قيل إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف ما كان ذلك بعيداً، وصفها بأنها بذية، وقد فجعت بما أسمعت ونيل منها؛ ولقيت خلائلها بعد زمان وتلك الشكوى كامنة فيها، وأصغين لها فتسمعن4.
والفري: الشق، يقال: فرى أوداجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت، فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: إني والله ما أهم إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت. يقول: إذا قدرت قطعت. يقال: فريت القربة والمزادة، فهما مفريتان، قال ذو الرمة5:
كأنه من كلى مفرية سرب
وقال امرؤ القيس:
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا6
ـــــــ
1 ديك: "ديك بحقوبها".
2 الخلائل: جمع خليلة, وهن اللائي أصفين الود.
3 ما بين العلامتين من زيادات ر.
4 ر: "إليها يتسمعن".
5 ديوانه, وصدره:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
والكلى: جمع كلية, وهي رقعة تكون في أصل عروة المزادة.
6 ديوانه 64, قال في شرحه: "يقول إذا سارت فرقت الحصى إلي كل جهة لشدة سيرها, وشبه فعلها ذلك برمي الأعسر, وهوالذي يرمي برجله اليسرى. وخصه لأن رميه لا يذهب مستمكا. وكذلك الحصى إذا رمت الناقة به. ومعنى "نجلته" فرقته به. والخذف: بالحصى ونحوها, فإن كان بالعصا وشبهها فهو الحذف. بالحاء غير معجمة.
كأن صليل المرو حين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا1
قوله: حذف أعسرا يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف يقال: إن الزائف2 شديد الصوت صافيه.
وقال آخر:
كأن يديها يدا ماتح3 ... أتى يوم ورد لغب زرودا
يخاف العقاب وفي نفسه ... إذا هو أنهل ألا يعودا
يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصر، ولا عودة له إليه ثانية، فهو يستقي4 سقية في مرة واحدة.
وقد أكثروا في هذا، فمن الإفراط في السرعة قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب
يقال: عفرية وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة، وهو ملحق بقنديل، يقال: فلان [عفرية زبنية. والزبنية: المنكر، وجمعه زبانية، وأصله من الحركة، يقال: زبنه، إذا دفعه، ويقال]5: عفرية نفرية، على التوكيد، [وعفريت نفريت، ويقال: عفارية، ولم يتبع بنفارية]6.
ومن الإفراط قول الحطيئة:
ـــــــ
1 قال في شرح الديوان, "شبه صوت الحجارة إذا رميت بها ووقوع بعضها على بعض بصوت الدراهم الزيوف, إذا انتقدها الصيرف وقلبها. والزيوف: الرديئة. واحدها زائف وزيف. وإنما خصها لأن صوتها أشد من صوت غيرها لكثرة نحاسها. والصليل: الصوت. والمرو: الحجارة. ومعنى "تشده" تفرقه. وعبقر: موضع باليمين. وكانت دراهمه زيوفا".
2 ر:"الزيف".
3 الماتح: المستقى بالدلو من أعلى البئر. وزرود: اسم رمال بطريق الحاج من الكوفة.
4 ر: "فهي تستقي".
5 مابين العلامتين من زيادات نسخة ر.
6 مابين العلامتين من زيادات ر.
وإن نظرت يوماً بمؤخر عينها ... إلى علم بالغور قالت له ابعد
ومن الإفراط قوله:
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنه ... بها راكب موف على ظهر قردد1
ومن ذلك قوله:
وكادت على الأطواء أطواء ضارج ... تساقطني والرحل من صوت هدهد
وقال آخر:
مروح برجليها إذا هي هجرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها
وقال الشماخ:
مروح تغتلي في البيد حرف ... تكاد تطير من رأي القطيع
وكذلك الأعرابي الذي يقول:
لو ترسل الريح لجئنا قبلها
وقد مضى خبره.
وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فجعله للوحش كالقيد.
وحدثت أن رجلاً نظر إلى ظبية ترود، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك? قال: نعم، قال: فأعطني أربع دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص2 في إثرها، فجدت وجد، حتى أخذ بقرنيها، فجاء بها، وهو يقول:
وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها
كيف ترى عدو غلام ردها
ـــــــ
1 القردد: ما غلظ من الأرض.
2 يقال: محص الظى في عدوه يمحص محصا: أسرع وعدا عدوا شديدا, وفي ر: "يفحص".
قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه وقريبه، وصريح الكلام وبلغيه1 قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جللته المظلمات الحنادس2
الحندس: اشتداد الظلمة، وهو توكيد لها، يقال: ليل حندس، وليل أليل، كما يقال: ليل3 مظلم.
وقال الشماخ في صفة الفرس:
مفج الحوامي عن نسور كأنها ... نوى القسب ترت عن جريم ملجلج
قوله: مفج الحوامي يريد مفرق الحوامي، فالحوامي: نواحي الحافر. والنسور، واحدها نسر، وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبه بنوى القسب4، وترت: سقطت. والجريم: المصروم، والملجلج: الذي قد لجلج مضغاً في الفم، ثم قذف لصلابته.
وقوله: مفج ليس يريد الذي هو شديد التفرقة، ولكن الانفصال عن النسر، فإنه إن اتسع واستوى أسفله فذلك الرحح5، وهو مذموم في الخيل، وكذلك إن ضاق وصغر قيل له: مضطر، وكان عيباً قبيحاً. قال حميد الأرقط:
لا رحح فيها ولا اضطرار ... ولم يقلب أرضها البيطار6
[ولا لحبليه بها حبار]
الحبار: الأثر]7. ويروى: ولم يقلم8، وتأويل ذلك: أن حوافرها
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 يقول: هذا الرمل حقف كأوراك العذارى. جللته: لبسته. الخنادس. الليالي المظلمة. والخندس: الظلام."من شرح الديوان".
3 ر: "وليل أليل مظلم". س: "وليل أليل. وهويم. كما يقال: ليل مظلم". وما أثبته عن الأصل.
4 القسب: التمر اليابس يتفتت في الفم. ونواه أصلب النوى.
5 الرحح: انبساط الحافر في رقة.
6 ر: "ولم يقلم".
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.
8 ر: "ولم يقلب".
لا تتشعث فيقلمها البيطار، لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة:
لا في شظاها ولا أرساغها عنت ... ولا السنابك أفناهن تقليم1
وإنما يحمد الحافر المقعب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب، وإن كان كذلك قيل: حافر وأب2. قال ابن الخرع3:
لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا
يريد: لو دخل الفأر فيه لصلح، كقول القائل: فأتى بحفنة يقعد عليها عشرة، أي لو عقد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز:
وأب حمت نسوره الأوقارا
[يقال: حافر موقور، وهو أن يصيبه داء يشبه الرهصة]4 وفي كل حافر حاميتان. وهما حرفاه من5 عن يمين وشمال، ومقدمه السنبك، ومؤخره الدابرة.
مثل قوله: عن جريم ملج قول علقمة بن عبدة:
سلاءة كعصا النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم6
شبهها بالشوكة من شوك النخل؛ لأن الفرس الأنثى يخمد منها أن يدق صدرها وينخرط على امتلاء إلى مؤخرها، والحمام يحمد منهن أن يعرض الصدر ثم ينخرط إلى ذنبه ضموراً، فيقال في صفته: كأنه جلم.
وقوله: كعصا النهدي، يريد في الصلابة، كما قال:
وكل كميت كالهراوة صلدم
وقوله: ذو فيئة من نوى قران يقول: ذو رجعة، يقول: مضغته الإبل فلم
ـــــــ
1 رواية المفضليات 4.3: "ولا أرساغها عتب", والعتب: العيب. والشظى: عظم لاصق بالركبة. والسنابك: مقاديم الحوافر, يقول: هي وافيه السنبك لم تاكلة الأرض.
2 حافر وأب: صلب قوي.
3 هو عوف بن عطية بن الخرع. من بني تيم من عبد مناة.
4 ما بين العلامتين تكملة من س وزيادات ر.
5 ساقطة من ر.
6 السلاءة: شوكة النخل.
تكسره ثم بعرته صحاحاً. ومعجوم: ممضوغ، يقال: عجمته أعجمه عجماً1 إذا مضغته، فالعجم، ويقال للنوى من كل شيء: العجم، متحرك الجيم2، قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم
وقال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً ... في حالك اللون صدق، غير ذي أود
ومثل البيت الأول قول عقبة بن سبق العنزي:
له بين حواشيه ... نسور كنوى القسب
فهذا تشبيه مقارب جداً.
ومن التشبيه الحسن قول الشاعر3:
كأن المتن والشرخين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
يريد سهماً رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} 4. وفي الحديث: "اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم" 5، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت:
ـــــــ
1 ساقطة من ر. وهي في الأصل. س.
2 ر: "العين" وهما بمعنى.
3 في زيادات ر: "هو الشماخ". والبيت ليس في ديوانه, وهو معمر بن الداخل الهذلى, ديوان الهذليين 104.3, وروايته :
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيح
وهو أيضا بهذه الرواية في 195.12 من غير نسبة.
4 سورة الإنسان.
5 أورده ابن الأثير في النهاية 210:2وقال في شرحه: "أراد بالشيوخ الرجال, المسان هو هل الجلد والقوة على القتال. ولم يرد الهرمي. والشرخ: الصغار الذين لم يدركو".
إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث:
إن شرخ الشباب تألفه البيض ... وشيب القذال شيء زهيد
فأما قول الشنفرى:
كأن لها في الأرض نسياً تقصه ... على أمها وإن تحدثك تبلت
فإنما أراد شدة استحيائها، يقول: لا ترفع رأسها، كأنها تطلب شيئاً في الأرض.
والنسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى ينسى، والآخر ما أضله أهله فيطلب ويطمع فيه. وتقصه: تتبعه، قال الله جل وعز: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 1 أي اتبعي أثره، والأم: القصد.
وقوله: وإن تحدثك تبلت، تقطع الحديث لاستحيائها.
وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثير:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين2
قال: فقال: الله أبو صخر! جعلها عصا، ثم يعتذر لها! والله لو جعلها عصا من مخ3 أو زبد لكان قد نجنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر من معد ... كأن حديثها قطع الجنان
إذا قامت لسبحتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران4
والخيزرانة: كل غصن لين يتثنى، ويقال للمردي: خيزرانة؛ إذا كان تثنى إذا اعتمد عليه، قال النابغة:
ـــــــ
1 سورة القصص 11.
2 قبله.
قد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسن وعيون
3 ر: "من مخ".
4 السبحة: صلاة النافلة.
يظل من خوفه الملاح معتصماً1 ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد2
الأين: الإعياء، والنجد: العرق3.
وقد عاب بعض الناس قول كثير:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها4
بمنخرق من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطارة تجارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين? قال: نعم، قالت: فض الله فاك! أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب! ألا قلت كما قال سيدك5 امرؤ القيس:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب6
قوله: جثجاثها وعرارها الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية؛ من أحرار البقل؛ قال جرير يهجو خالد عينين العبدي:
كم عمة لك يا خليد وخالة ... خضر نواجذها من الكراث
نبتت بمنبته فطاب لريحها ... ونأت عن القيصوم والجثجاث
وإنما هجاه بالكراث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركال، قال أحد العبديين:
ألا حبذا الأحسا وططيب ترابها ... وركالها غاد علينا ورائح7
ـــــــ
1 ر: "معتمدا", وما أثبته رواية الأصل والديوان.
2 الملاح: صاحب السفينة. والخيزرانة: السكان, وهو ذنب السفينة.
3 النجد: العرق والكرب.
4 الحزن: موضع لبنى يربوع. فيه رياض كثيرة.
5 ساقطة من ر.
6 قبله:
خليلي مرا بي على أم جندب ... لنقضي لبانات الفؤاد المعذب
وانظر تفصيل الخبر في الأغاني 57:14 طبعة الساسي. والموشح للمرزابي 151-153.
7 الإحساء: مدينة بالبحرين.
وقول كثير: وعرارها فالعرار البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، قال الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفـ ... ـراء العشية كالعراره1
وقوله: موهناً يريد بعد هديء من الليل2، يقال: أتانا بعد هديء من الليل، وبعد وهن من الليل3، أي بعد دخولنا في الليل، وأنشد أبو زيد:
هبت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
والمندل: العود. يقال له: المندل والمندلي. قال الشاعر4:
أمن زينب ذي النار ... قبيل الصبح ما تخبو
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندل الرطب
قال أبو العباس: ذي معناه ذه يقال: ذا عبد الله، وذي أمة الله، وذة أمة الله، وته أمة الله، وتا أمة الله؛ فإذا قلت: هذا عبد الله: فالإسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا القول5: هذي أمة الله [وهذه أمة الله]6. وإن شئت أسكنت في الوصل فقلت: هذه أمة الله. وإذا قلت: هذهي أمة الله. فالياء زائدة. لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء. نحو: مررت بهي يا فتى! ولا7 يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو، لأن هاء الإضمار أصلها الضم. تقول: رأيتهو يا فتى، ورأيتهم يا فتى! وهذه الهاء ليست من هذه، إنما هي مشبهة وتقول: هاته هند، وهاتي هند، وهاتا هند، على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:
ـــــــ
1 العرار: شجر له نور أصفر قدر شبر, وقبله:
ياجارتي ما كنت جاره ... بانت لتحزننا عفاره
ترضيك من دل ومن ... حسن مخالطه غراره
وانظر ديوانه 111.
2 من الليل. ساقط من ر.
3 "من الليل". ساقط من ر.
4 ينسب البيتان لعمر بن ابي ربيعة. وهما في ملحق: ديوانه 478.
5 ر: "تقول"
6 تكملة من نسخة الاصل.
7 ر: "لا يجوز" بدون الواو.
هذي التي جدعت تيماً معاطسها ... ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي1
وقال عمران بن حطان:
وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا بدار
قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل فيقولون: مهاه. وتقديره: فعال. ومعناه اللمع والصفاء2. يقال: وجه له مهاه يا فتى! والأصمعي يقول: مهاة. تقديرها حصاة. يجعل الهاء زائدة. وتقديرها في قوله3 فعلة والمهاة: البلورة. والمهاة: البقرة والوحشية، وجمعها المها.4.
فإذا صغرت: ذه قلت: تيا، كأنك صغرت تا. ولا تصغر ذه على لفظها، لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيا. فلو صغرت ذي فقلت: ذيا، لالتبس المؤنث بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر.
وهذه، المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك فيباب نفرده له إن شاء الله.
عاد القول إلى التشبيه.
أنشدتني5 أم الهيثم في صفة جمل:
كأن صوت نابه بنابه ... صرير خطاف على كلابه
أرادت الصريف، وهو أن يحك أحد نابيه بالآخر.
ـــــــ
1 يهجو التيم. وقبله:
ما بين تيم وإسماعيل من نسب ... إلا القرابة بين الزنج والروم
إن ابن تيم لمنسوب لوالده ... داني القرابة من حام ويحموم
وانظر ديوانه 489-450.
2 ر: "والبهاء".
3 "في قوله" ساقط من ر.
4 زيادات ر :"حكى يعقوب بن السكيت: "مهاة". من أسماء الشمس. وأنشد:
ثم تجلى الظلام رب رحيم ... بمهاة ضياؤها منشور
5 ر: "وأنشدتني".
وقوله: صرير خطاف على كلابه فالخطاف ما تدور عليه البكرة. والكلاب ما وليه.
وقد قال النابغة:
مقذوفة بدخيس النخض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
القعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف. وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك.
وقوله: مقذوفة يقول: مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد ركب بعضه بعضاً. والنخض: اللحم. وبازلها: نابها. ومعنى بزل، وفطر، واحد: وهو أ، ينشق الناب. قال ذو الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك1
يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلاناً يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق. ورأيته يعض عليك الأرم، قال زهير في مدح حصن بن حذيفة2:
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله3
وقال آخر:
نبئت أحماء سليمى أنما ... ظلوا غضاباً يعلوكون الأرما
وقال بعض النحويين: يعني الشفاة. وقال بعضهم: يعني الأصابع.
فأما قولهم: عض على ناجذه وهو آخر الأسنان، فيكون على وجهين: أحدهما أنه قد احتنك وبلغ، والآخر: أن يكون للإطراق والتشدد.
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب وعضوا على النواجذ، فإن ذلك ينبي4 السيوف عن الهام.
ـــــــ
1 السدفة: بقية من سواد الليل, فشبه أنيابه بأصوات البزاة, يقول: لاك يلوك, إذا مضغ "من شرح ديوانه".
2 زيادات ر :"ابن بدر الفزاري".
3 أفضى: سار إلى الفضاء. وقبله:
من مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر بحاوله
4 ر: "يثني".
ثم نعود إلى التشبيه.
قال الراجز1:
كأنها حين بناها الباس2 ... جنية في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس3 ... يخرج منها الحجر الكباس
يمر لا يحبسه حباس ... لا نافذ الطعن ولا تراس
يصف المنجنيق. والأمراس: الحبال، والواحد مرس4. والكباس: الضخم. يقال: هامة كبساء يا فتى؛ ورأس أكبس. والحباس: الذي من شأنه أن يحبس. يقال: رجل ضارب للذي يضرب، كثيراً كان منه ذلك أو قليلاً، فإذا قلت: ضراب وقتال، فإنما يكثر الفعل، ولا يكون للقليل.
قال الراجز:
أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس
يرمى به في البلد الدهاس
يصف معولاً. وذو قساس: معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والحيد: ما أشرف من الجبل أو غير ذلك، يقال للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الإفريز؛ يقال طنف حائطك، ويقال للناتئ في وسط الكتف: حيد وعير، وكذا الناتئ في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعوللحدته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس. والدهاس: ما لآن من الرمل. قال دريد بن الصمة في يوم حنين: أين مجتلد القوم? فقالوا: بأوطاس5. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس6، ولا لين دهس!
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أبو النجم".
2 ر: "تناهي".
3 الشماس والشموس. شرود الدابة نفارها.
4 ر: "مرسية".
5 أوطاس: موضع في ديار هوازن.
6 الحزن: ما غلظ من الارض. والضرس: الشديد خشونة.
وقال العجاج يصف حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا1
هذا يصف العير2 الوحشي الذي قد أسن3 تراه لا يشتد نهيقه، وكأنه يعالجه علاجاً. قال الشماخ:
إذا رجع التعشير شجاً كأنه ... بناجذه من خلف قارحه شجي4
فأما قول عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
فإنما يصف الناقة ويذكر حنينها. يقال إنه يخرج منها كأشجى صوت، فإنما شبهه بالزمير، وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصباً ومقنعة الحنين عجولا
المقنع: الرافع رأسه، في هذا الموضع، ويقال في غيره: الذي يحط رأسه استخذاء وندماً؛ قال الله جل وعز: {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} 5. ومن قال هو الرافع رأسه: فتأويله عندنا أن يتطاول فينظر ثم يطأطئ رأسه، فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والإنكسار.
والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألافه إذا أخذ من القطيع. قال: وأكثر ما يحن عند العطش. قال الشاعر6:
وتفرقوا بعد الجميع لنية ... لا بد أن يتفرق الجيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
ـــــــ
1 الشحيج: صوت البغل والحمار إذا أسن.
2 ر: "هذا يوصف به العير". وما أثبته عن الأصل. س.
3 ر: "إذا أسن".
4 التعشير: نهيق الحمار.
5 سورة إبراهيم 43.
6 هو مالك بن الصمصامة الجعدي.
وقال آخر:
وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب!
وإذا رجعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام، ولالتياح البروق.
وقال عوف1 بن محلم، وسمع نوح حمامة:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح2
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح!
وكل مطوقة عند لعرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك؛ قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنما3
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو بيلملما
مطوقة خطباء تسجع كلما4 ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في شجوها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما!
ـــــــ
1 قال المرصفي: الشعر لأبي كبير الهذلي. لا لعوف, وإنما ذكر لعبد الله بن طاهر العندليب. فالتفت إلي ابن محلم وقال: هل سمعت بأشجى من هذا؟ فقال: لا والله أبا كبير حيث يقول. وذكر الأبيات.
2 ر: "ميال". وما أثبته عن الأصل. س.
3 من قصيدة طويلة في ديوانه 1-3مطلعها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما.
4 الديوان "تصدح".
فلما أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وقال ابن الرقاع وذكر حمامة:
[قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب]:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة ... تردد مبكاها بحسن الترنم1
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى2 شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
أما قول حميد دعت ساق حر فإنما حكى صوتها، ويقال للواحد ذكراً كان أو أنثى: حمامة، والجمع الحمام، والحمامات، فإذا كان ذكراً قلت هذا حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة. وكذلك هذا بطة وهذه بطة. ويقال بقرة للذكر والأنثى، ودجاجة لهما، فإذا قلت: ثور، أو ديك بينت الذكر، واستغنيت عن تقديم التذكير.
ويقال للحمامة: تغنت وناحت، وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبه مرة بهذا ومرة بهذا، قال قيس بن معاذ:
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمائم ورق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع
وقوله: وانجال الربيع يقال؛ انجال عنا، أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا. وإن قلت: أثجم فمعناه لزم ووقع، فهو خلاف أنجم. وإن قلت: انجاب فمعناه انشق. يقال: المجوب للحديدة التي يثقب بها المسيب. ويقال: جبت البلاد أي دخلتها وطوقتها. وفي القرآن: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 3 أي شقوه.
وقوله: لم يكن من تميمة التميمة المعاذة وقد مضى هذا.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 ر: "سعدي" وما أثبته عن الأصل.
3 سورة الفجر 9.
وقوله: وما تفغر بمنطقها فما. يقول: لم تفتح. يقال: فغرفاه. إذا فتحه1.
وقوله:
ولا عربياً شاقه صوت أعجما
يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته، فحننت له.
ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول. فيبكيه ذلك ويرققه. ويذكر به غي ما قصدت له.
قال أبو العباس: وحدثت أن بعض المحدثين2 سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما هو. غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك:
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسي من غناها
الغناء، الأول: المدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية: من المال مقصور:
ومسمعه يحار السمع فيها ... ولا تصممه لا يصمم صداها3
مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى ... بحب الغانيات وما يراها
[وقال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا]4
ـــــــ
1 زيادات ر: "حكى ثعلب: "فغر فاه" و"فغر نفسه". وكذلك شجى فاه. وشجى نفسه".
2 هو أبو تمام.
3 قال المرصفي: يدعو لها بطول العمر. والعرب تقول: أصم الله صداه. تريد أهلكه. وإذا مات قالت: صم صداه. والصدى: ما تسمعه عقيب صياحك راجع إليك من جبل أو مكان مرتفع.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.
قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما.
وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ، وأحرى أن يمثل به الأشراف، وتسود به الصحف، وهو قوله:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داء".
ثم نرجع إلى التشبيه.
قال أبو العباس: والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه: وهو أخشن الكلام.
فمن التشبيه المفرط المتجاوز، قولهم للسخي: هو كالبحر. وللشجاع: هو كالأسد. وللشريف: سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك. من ذاك قول بعضهم وهو بكر بن النطاح، يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها ... على البر صار البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في مسك فارس1 ... وبارزه كان الخلي من العمر
وقد قيل: إن امرأة عمران بن حطان قالت له: أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قط! قال: أو فعلت? قالت: أنت القائل:
فهناك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامة
أفيكون رجل أشجع من الأسد! قال: فقال: أنا رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يفتح مدينة.
ـــــــ
1 المسك: الجلد.
ومن عجيب التشبيه في إفراط، غير أنه خرج من كلام جيد وعني به رجل جليل، فخرج من باب الاحتمال إلى باب الاستحسان، ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه، واستواء نظمه، في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح1
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح
فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي الحي وهو ينوح
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النظم ما قد2 ذكرناه، وهو قول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3
ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير4 في يوم قر في مشيته. فقال له: ممن أنت يا مقرور? فقال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخيزلى5، ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد? فقال: بلى والله، ولكن أذكر حسبي فأدفأ.
وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قر عما يجد، فقال: ما علي منه كبير مؤونة6. فقيل: وكيف ذلك7 ? فقال: دام بي العري، فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم!
ـــــــ
1 جنوح: مصدر جنح إليه, إذا مال وسكن.
2 ساقطة س ر.
3 الجزع: ضرب من الخرر, وقيل: هو الخرز اليملني, الذي فيه بياض وسواد, تشبهبه الأعين.
4 الأزير: تصغير إزار, قال المرصفي: يريد أنه يختال في إزار قصير.
5 الخيزلي: مشيه فيها تبختر وتثاقل وتراجع وتفكك.
6 ر: "وقيل".
7 ساقطة من ر.
ومن التشبيه القاصد1 الصحيح، قول النابغة:
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع2
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع3
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع4
فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الآخر5:
تبيت الهموم الطارقات يعدنني ... كما تعتري الأوصاب رأس المطلق
والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله:
تطلقه طوراً وطوراص تراجع
وذاك أن المنهوش إذا ألح الوجع به تارة، وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من برئه.
وإنما ذكر خوفه من النعمان وما يعتريه من لوعة، في إثر لوعة، والفترة بينهما، والخائف لا ينام إلا غراراً، فلذلك شبهه بالملدوغ المسهد.
وقوله:
لحلي النساء في يديه قعاقع
لأنهم كانوا يعلقون حلي النساء على الملدوغ. يزعمون أن ذلك من أسباب البرء، لأنه يسمع تقعقعها النوم فلا ينام، فيدب السم فيه. ويسهد لذلك.
وقال الآخر:
ـــــــ
1 القاصد: المستقيم الواضح القريب.
2 راكس والضواجع: موضعان في بلاد غطفان.
3 من المساورة, وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. والرقش: جمع رقشاء, وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض.
4 تناذرها الراقون, أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرض لها.
5 هو شأس بن نهار العبدي.
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل1
يقال لكل مستطيل كفة. يقال كفة الثوب لحاشيته، وكفة الحابل، إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفة، ويقال: ضعه في كفة الميزان، فهذه جملة هذا وكفة الحابل، يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصيد.
وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه، فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار
فإما أراد الصحة، فهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز وهذا البين الواضح: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 2 والسفر الكتاب، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} 3 في أنهم قد تعاموا عنها. وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.
وهجا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم روايته، فقال:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس من التشبية المستحسن عندهم, وعن أصل أخذوه أن يشبهوا4 عين المرأه في الكحل بعين الظبية5 أو البقرة الوحشية، والأنف بحد السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضة، والساق بالجمار6. فهذا كلام جار على الألسن.
ـــــــ
1 يؤتى إليه. أي يجئ إليه في وهمه.
2 سورة الجمعة 5.
3 الزوامل: جمع زاملة. وهي البعير بحمل المتاع والطعام. والغرائر: جمع الغرارة, وهي الأوعية, التي تسمى الجوالق.
4 ر: "أن شبهوا. وما أثبته عن الأصل. س."
5 ر: "الظبى".
6 الجمارة: شحمة بيضاء في رأس النخلة وفي س "الجمار".
وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وساقاه ناديتان في غرزه كأنهما جمارتان، فأرده فوقعت في مقنب1 من خيل الأنصار، فقرعوني بالرماح، وقالوا: أين تريد?
وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر تبلج وجهه فصار كأنه البدر.
وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور، وشعرهم المنظوم، من جاري ما تكلمت به العرب، وكثر في أشعارها، قال الشاعر2:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك رقيق3
وقال ذو الرمة:
أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى ... مشابه جنبت اعتلاق الحبائل
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا أنها غير عاطل4
وقال آخر5:
فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
طلعن بأعناق الظباء أعين ال ... جآذر وامتدت بهن الروادف6
ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد. فهذا الجاري في الكلام، كما يقال للطويل: كأنه رمح. ويقال للمهتز للكرم: كأنه غصن تحت بارح.
ومن عجيب7 التشبيه قول القائل:
لعينك يوم البين أسرع واكفاً ... من الفنن الممطور وهو مروح8
وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن، فإذا هبت به الريح لم تلبثه أن تقطره.
ـــــــ
1 المقنب: جماعة الخيل والفرسان.
2 هو مجنون بني عامر. وقبله:
وياشبه ليلى لو تلبثت ساعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق
3 ر: "دقيق". وما أثبته عن الأصل. س.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.
5 ر: "الآخر". ونسبه المرصفي إلى هدبة بن خشرم العذرى.
6 في البيت إقواء.
7 ر: "من مليح".
8 نسبه القالي في أماليه "70:1" إلى أبي حية النميري. ورواه: "لعيناك". والفنن: الغصن. وجمعه أفنان.
طرائف من تشبيهات المحدثينثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله.
قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه1، واتساع مذهبه2 الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك:
وكنا إذا ما الحائن الجد غره ... سنا برق غاو أو ضجيج رعاد
تردى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظبا أزهاه طول نجاد
أما خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناً وجياد
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي
قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً3 إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف
ويروى جد، وقرأ بعض القراء: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 4 فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} 5 فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} 6 عن أنس بن
ـــــــ
1 كذا في س والأصل, وفي ر: "تفننه".
2 ر: "مذاهبه".
3 تكملة من س.
4 سورة هود 108.
5 سورة الأنبياء.
6 سورة الجن 3.
مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: "جدا ربنا". ولو قرأ قارئ "جدا ربنا" على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط1.
وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها
ومثله2:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجداء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف ولا يخشى السماة ربيبها3
القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد.
ينشد هذا البيت:
أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقاً جديد
يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين زيادات من ر.
2 زيادات ر: "قول الأعشى". والبيت في ديوانه 103. وروايته: "نبي الغله".
3 البين في الكتاب 1: 294: 1442. ونسبه إلى العنبري, وروايته.
وجداء يرجى بها ذو قراية ... لعطف وما يخشى السماة ربيبها
إلى العنبري.
ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ1، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً.
وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2. والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر:
وهم قوم كرام الحي طراً ... لهم خول إذا ذكر السناء
وضربه الحسن3 ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.
وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه.
وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تأنق قينها فأطالها
وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام4
وقال جرير للفرزدق:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
ـــــــ
1 ر: "أي حظ".
2 سورة النور 43.
3 يريد الحسن بن هانئ.
4 غمر الجماجم. أي فرع القوم وعلاهم بطول قامته.
وقال الآخر:
لما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة:
وأي خميس لا أفأنا تهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر1. قال الشاعر:
عشية غادرت خيلي حميداً ... كأن عليه حلة أرجوان
والجياد: الخيل. وفي القرآن: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 2.
ومن تشبيهه3 الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهما رجلا دبى وجراد4
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد
ومن التشبيه الجيد قوله5:
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال:
ـــــــ
1 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.
2 سورة ص 21.
3 أي الحسن بن هانئ.
4 الدبا: مقصور قبل أن يطير.
5 زيادات ر:"أي الحسن بن هانئ".
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما1
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد.
قال: وحدثت أن العماني2 الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا3
فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه.
ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع4 العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها:
غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال:
ـــــــ
1 القعدي: من يرى رأي القعد, وهم الخوارج الذين يرون القعود والتحكيم ولا يخرجون إلى القتال.
2 العماني: هو محمد بن ذؤيب بن محجن البصري.
3 قادمة: واحدة القوائم, وهن أربع ريشات في مقدم الجناح. واللواتي بعدهن المناكب إلى أسفل الجناح.
4 هو الوليد بن عبد الملك, وابن الرقاع هو عدي.
قلما أصاب من الدواة مدادها
قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت.
ومن التشبيه1 الحسن الذي نستطرفه قوله:
تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري
ومن التشبيه المليح قوله:
وكأن سلمى إذ تودعنا2 ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا3
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا4
وفي هذا الشعر من التشبيه5 الجيد قوله:
خير فؤادك أو ستخبره ... قسماً لينتهين أو حلفا
الحب ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
ومن التشبيه الجيد قوله6:
إليك رمت بالقوم خوص كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور
ـــــــ
1 ر: "تشبيهه".
2 ر: "كأن سعدي" وما أثبته عن الأصل, س.
3 زيادات ر: "يقال: اشرأب لأن يكلمني" إذا تهيأ لكلالمك. واشرأب الدمع, إذا تهيأ للوكف".
4 الرشأ: الظبي إذا قوى وأشتد, وتواصين, أوصى بعضهم بعضا.
5 ساقط من ر.
6 من كلمة يمدح بها الخصيب, أمير مصر, وقيله:
ومازلت توليه النصيحة يافعا ... إلى أن بدا في العارضين قتير
إذا غاله أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفاة تشير
وله أيضاً:
سأرحل من قود المهارى شملة ... مسخرة ما تستحث بحادي1
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... نهور برأس كالعلاة وهادي2
العلاة: السندان، قال جرير:
أيفخر بالمحمم قين ليلى ... وبالكير المرقع والعلاة
وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولاءم بينها ... طبقان من قير ومن ألواح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح
وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا3
فأما قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم
ـــــــ
1 قود المهاري. القود: جمع قوداء, وهي الطويلة الظهر والعتق, والمهري: المنسوبة إلي مهرة بن حيدان. أي حي من العرب.
2 النهوز, مبالغة من النهز, وهو الدفع.
3 قبله.
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلي الافق الاعلى شعاعا مطنبا
فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله:
جوانبها محفوفة بنجوم
فإنما يريد ما تطوق به من الزبد.
وقد قال في أخرى.
[أول الشعر من غير الأم1:
ودار ندامى خلفوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضعاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فألفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس]2
أقمنا بها يوماً ويوماً وليلة ... ويوماً له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها3 كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما ذرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب.
وقال المثقب العبدي:
قالت ألا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد
إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجني ويجني له ... سبعون قنطاراً من العسجد
وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل:
ـــــــ
1 الأم هنا أصل الكتاب.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 قراراتها: منصوب على الظرفية.
وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري
وقال الحسن بن هانئ:
ما حطك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب1
كأنما أثنوا ولم يعلموا2 ... عليك عندي بالذي عابوا
وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته.
قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك.
والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب.
وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} 3.وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها.
قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه4 ... سبحن واسترجعن من تألهي5
يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة:
ـــــــ
1 ر: "ما اغتابوا". وهذه رواية الاصل.
2 ر: "كأنهم".
3 سورة الأعراف 18.
4 المده: اللاتي يمتدحن بالجمال.
5 استرجعن: قلن: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
براق أصلاد الجبين الأجله1
يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج:
مع الجلا ولائح القتير
ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب:
كأن محرشاً في بيت سعدي ... يعل بعيبها عندي شفيع2
وفي قصيدة الحسن هذه:
إن جئت لم تأت وإن لم أجئ ... جئت، فهذا منك لي داب!
كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذاب
وهذا كلام طريف.
ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي3:
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا4
وتخال ما جمعت عليه ... بنانها ذهباً وعطرا
وهذا التشبيه الجامع.
ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد:
كأن فيسرجه بدراً وضرغاما
ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف:
ـــــــ
1 أي لا شعر فوق جبينه. تشبيها بالحجر الصلد.
2 يعل, من العل, وهو السقية الثانية.
3 ساقطة من ر.
4 قبلها:
حوراء إن نظرت إليك ... سقتك بالعينين خمرا
وكان رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق1
فهذا حسن في هذا جداً.
ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد:
أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل فضل ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال:
يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقة آسي2
فالناس حسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس
والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز:
بتنا بحسان ومعاه تئط3 ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط4
حتى إذا كاد الظلام يختلط5 ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط!
يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد6 وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي:
وتشربه محضاً وتسقي عيالها ... سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا
ـــــــ
1 الذبالة: الفتيلة.
2 الرتق: ضد الفتق, وهو لأم الفتق وإصلاحة.
3 تثط: من الأطيط, وهو صوت الامعاء من الجوع.
4 الالتباط: العدو والوثوب.
5 ر: "كان الظلام". وما أثبته من الأصل. س.
6 جهد اللبن: "أخرج زبده كله".
السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب1، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب الرجل.
والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً.
ومن مليح التشبيه للمحدثين2 قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب:
تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله مراً ومراً ترجعه3
في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل خطار تلوح شعه4
أسود كالسبجة فيه مبضعه ... لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه5
وفي هذه الأرجوزة أيضاً:
بات بها حين حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيراً مضعه6
ذا سنة آمن ما يروعه ... حتى دنت منه لحتف تزمعه
فاظت تجم سمها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه7
فشرعت أم الحمام إصبعه ... أنحت عليه كالشهاب تلذعه8
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ساقطة من ر.
3 تزحله: تنحيه.
4 السبت: الجلد المدبوغ. وخلق. مخلوق. يريد ذنبها. تفظعه: تراه فضيعا. أعصل. من العصل, وهو الالتواء في الشئ. وخطار: كثير الحركة يمينا وشمالا. "من رغبة الآمل".
5 السبجة: بردة من صوف فيها سواد وبياض, والرقشاء: الحية فيها نقط سود وبيض.
6 حبيش هنا: اسم اللديغ, والحين: الهلاك., ووثيرا, من الوثارة. وهي لين الفراش.
7 فاظت: أخرجت سمها.
8 شرعة: دنت.
عطك سربال حرير تخلعه ... فكل خل ظاهر تفجعه1
يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقعه
وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة2.
قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت:
وكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت3
ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال:
يأتيك في جبة محرقة ... أطول أعمار مثلها يوم
وطيلسان كالآل يلبسه ... على قميص كأنه غيم
والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني.
ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل:
تقريبه المرطى والجون معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله.
قال الراجز:
كأنه والطرف منه سامي ... مشتمل جاء من الحمام
وقال الأعشى:
ـــــــ
1 العط: شق الثوب وغيره من غير أن يبين.
2 تكملة من س, وفي ر: "أو للعرجم", ولعله: "أو للعرجى".
3 حاشية الاصل: "في غيرها الموضع إنه لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفي".
يعادي النحوص ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستجم
النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة1 وتكفيه ذراع التجفرة2، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة:
فتى غير مبطان العشيات أروعا3
فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان نآه الغل حتى تكنعا4
وقالوا في قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف.
وقال رجل لبعض أهله5: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح6 فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.
ـــــــ
1 الشطبة: السعفة التي تشطب من الجريد.
2 التجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من ولد الشاة.
3 المبطان: العظيم البطن من كثرة الأكل. وصدره:
لقد كفن المنهال تحت ردائه
4 قال الأصمعي: إذا ضل الرجل أرغى بعيره. أي حمله على الرغاء لتجيبه الغبل برغائها, أو تنبح لرغائه الكلاب فيقصد الحي". والعاني: الاسير, والطروق. الإتيان ليلا. وتكنع الأسير: تقبض واجتمع.
5 ر: "لابن له".
6 الأرسخ: قليل لحم الفخذين والأليتين.
فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس1 مهفهف الخصرين2، متوقد العينين، حمش الذراعين3. وأنشد الأصمعي:
كأنما ساعداه ساعد ذيب
قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً.
وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسته صدرته ... وتنحيت له في الحاشيه4
وإذا سايرته قدمته ... وتأخرت مع المستأنيه5
وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيه6
وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبياً داهيه7
فاحمد الله على صحبته ... وأسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عير وعند يساره ميسور8
ـــــــ
1 ر: "ينبغي للفارس ان يكون".
2 مهفهف الخصرين: ضامرهما.
3 حمش الذراعين. دقيقهما.
4 حاشية كل شئ طرفه وجانبه.
5 المستأنية: المتمهلة البطيئة.
6 ياسرته: لاينته وساهلته.
7 شرس الرأي: سيئ الخلق.
8 هو بشر بن مروان, أخو عبد الملك بن مروان.
باب تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار، إن شاء الله.
الحجاج بن يوسف والوليد بن عبد الملك
...
كان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنت الوفود عل الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن أحد بعد أخف على قلب الحجاج منه.
لابن قيس الرقيات في معاتبة المهلبولزياد يقول ابن قيس الرقيات في معاتبته المهلب بن أبي صفرة:
أبلغا جاري المهلب عني ... كل جار مفارق لا محاله
إن جاراتك اللواتي بتكريت ... لتنبيذ رجلهن مقاله1
لو تعلقن من زياد بن عمرو ... بحبال لما ذممن حباله
غلبت أمه أباه عليه ... فهو كالكابلي أشبه خاله2
ولقد غالني يزيد وكانت ... في يزيد خيانة ومغاله3
عتكي كأنه ضوء بدر ... يحمد الناس قوله وفعاله
ـــــــ
1 تكريت: بلد بين بغداد والموصل.
2 قال المرصفي: "يريد أن شهوة أمه سبقت شهوة أبيه فسرت أعراقها فيه" فلم يشبه أباه في صلابة عوده ونجابته. والكابلي: منسوب إلي كابل, وهو ثغور طخارستان, نسبة إلي العجم".
3 المغالة: الخيانة.
نبذ من أقوال الحكماءوقال أسماء بن خارجة الفزاري: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، إنما هو كريم أسد خلته، وأو لئيم اشتري عرضي منه.
وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله وقبل استفتاحها، كما بدئ بالنعمة قبل استحقاقها.
وكان يقول عند التعزية: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
وأراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج يودعه، فقال له شعبة: أما إنك إن لم تر الحلم ذلاً، والسفه أنفاً! سلم لك حجك.
وقال أويس القرني: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماً.
لدعبل يذم رجلاً
وقال دعبل بن علي الخزاعي يذم رجلاً:
رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحن إلى الخبز
لبعض آل المهلبوقال آخر1 :
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم2 ... ولا تكف يد عن حرمة الجار3
ـــــــ
1 نسبه أبو تمام في الحماسه 90:4 إلي بعض آل الهلب. وقال التبريزي في شرحه: "هو عبد الله بن عبد الرحمن, ولقبه ابو الأنوار".
2 القبس: الشعلة من النار, والقابس: طالب النار.
3 زيادات ر: أظن تمامه:
حتى إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
قامت بأحمرها تبدي مشافره ... كانه رئة في كف جزار
والبيت الاول للأخطل, وروايته في ديوانه "قوم إذا استنبح...."
لرجل من طيئ وكان قتل رجلاً من بني أسد
وقال رجل من طيئ، وكان رجل منهم، يقال له زيد، من ولد عروة بن زيد الخيل، قتل رجلاً من بني أسد يقال له زيد، ثم أقيد به بعد:
علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مصقول الغرار يمان
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان
[قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان]
لشمعل التغلبي حين ضربه عبد الملك بن مروانقال: كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجرز1 فخدش وهشم، فقال شمعل:
أمن جذبه بالرجل مني تباشرت ... عداتي، فلا عيب علي ولا سخر
فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر!
وقال الحجاج بن يوسف: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد.
وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجواد مجداً أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:
ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود!
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالا وإما حسن مردود
إلا يكن ورق يوماً أراج به ... للخابطين فإني لين العود
قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق، فجعل الخابط الطالب، والورق المال، كما قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
ـــــــ
1 الجرز: عمود من حديد.
بخل الحطيئةويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال
الضيف: يا راعي الغنم [ما عندك?]1، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سلم2، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها!.
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 العجراء: التي فيها عقد. والسلم: شجر من العضاه.
متفرقات من شعر دعبلوقال دعبل:
وابن عمران يبتغي عربياً ... ليس يرضى البنات للأكفاء
إن بدت حاجة له ذكر الضيـ ... ـف وينساه عند وقت الغداء
وقال أيضاً:
أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال أيضاً:
ما يرحل الضيف عني بعد تكرمة ... إلا برفد وتشييع ومعذرة
وقال أيضاً:
لم يطيقوا أن يسمعوا وسمعنا ... وصبرنا على رحى الأسنان
صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان
وقال القرشي من بني أمية:
إذا ما وترنا لم ننم عن تراتنا ... ولم نك أوغالاً نقيم البواكيا3
ولكننا نمضي الجياد شوازباً ... فنرمي بها نحو التارت المراميا4
ـــــــ
3 وترنا: قتل منا قتيل, والترات: جمع ترة. وهي النسل, والأوغال: جمع وغل, وهو النذل الضعيف من الرجال.
4 الشوازب من الخيل: الضوامر.
لجرير يفتخر ويهجو الأخطل وقومهوقال جرير:
إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا1
مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا!
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا2
إن الفرزدق إذ تحنف كارهاً ... أضحى لتغلب والصليب خدينا3
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
هل تشهدون من المشاعر مشعراً ... أو تسمعون من الأذان أذينا4!
قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: لما بلغ الوليد قوله:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا
قال الوليد: أما والله لو قال: "لو شاء ساقكم"، لفعلت ذاك به، ولكنه قال: "لو شئت" فجعلني شرطياً له.
ويروى أن بلالاً5 قعد يوماً ينظر بين الخصوم، ورجل منهم ناحياً يتمثل قول الأخطل على غير معرفة6:
وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالاً7
ـــــــ
1 الخرز: ضيقو الجفون, يصفهم بأنهم ينظرون بمؤخر عيونهم حقدا وغيظا وعداوة.
2 القطين: الخدم والمماليك.
3 تحنف: تنسك وتأله.
4 الأذين: المؤذن.
5 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري القاضي.
6 في هجاء جرير.
7 المراغة في الأصل: الموضع تتمرغ فيه الدواب, وتقال أيضا للأتيان التي لا تمتنع من الفحول. والأعيار: جمع عير, وهو الحمار والقصية: الموضع المتنحى البعيد. والبلال: ما بل الحلق من ماء غيره.
فسمعه بلال، فلما تقدم مع خصمه قال له بلال: أعد علي1 إنشادك، فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل: إني والله ما أدري من قاله، ولا فيمن قيل? فقال بلال: أجل، هو أسير من ذاك، هلما فاحتجا.
وقال جرير:
مررت على الديار فما رأينا ... كدار بين تلعة والنظيم
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم2
وقال آخر:
لقد تبلت فؤادك إذ تولت ... ولم تخش العقوبة في التولي3
عرفت الدار يوم وقفت فيها ... بريح المسك تنفح في المحل
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 جثوم: جمع جاثمة, من جثم الطائر إذا لصق بالأرض فلم يبرح.
3 تبلت فؤادك: أسقمته وأدنفته.
باب من أخبار الخوارج
في بيعتهم لعبد الله بن وهب الراسبيقال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج1 لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، تكره ذلك، فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره. فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم، استبيتوا الرأي، أي دعوه يغب2.
وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري.
قوله: استبينوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة ثم تعقبوه، يقال: بيت فلان كذا كذا، إذا فعله ليلاً، وفي القرآن: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 3، أي أداروا ذلك بينهم ليلاً، وأنشد أبو عبيدة:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر!
والرأي الدبري: الذي يعرض4 بعد وقوع الشيء، كما قال جرير5:
ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا
وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم، ولسان وشجاعة، وإنما لجأوا إليه وخلعوا معدان الإيادي، لقول معدان:
ـــــــ
1 من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا. سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين, أم كان بعدهم علي التابعين بإحسان, والأئمة في كل زمان. والصفرية: طائفة من الخوارج, تابعوا زياد بن الأصفر, ويقال لهم: الزيادية أيضا. الملل والنحل للشهرستاني 123:1
2 يغب: أي يبيت.
3 سورة النساء 108.
ر: "ليلا بينهم".
4 ر: "من بعد".
5 في هجاء الفرزدق وقومه من بني مجاشع.
سلام على من بايع الله شارياً1 ... وليس على الحزب المقيم سلام
فبرئت منه الصفرية، وقالوا: خالفت، لأنك برئت من القعد2. والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة.
ـــــــ
1 شاريا, أي بائعا نفسه في طاعة الله.
2 القعد: طائفة من الخوارج يرون التحكيم حقا, غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس.
شأنهم مع واصل بن عطاءوحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويفهموا1 حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا! قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 2، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم3 حتى بلغوهم المأمن.
ـــــــ
1 ر: "ويعرفا".
2 سورة التوبة 6.
3 ر: "بأجمعهم".
مناظرة عبد الله بن عباس لهموذكر أهل العلم من غير وجه أن علياً رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه، ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين? قالوا: قد كان للمؤمنين أميراً، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد إقراره بالكفر نعد له. فقال ابن عباس: ما ينبغي1 لمؤمن لم يشب إيمانه أن يقر على نفسه بالكفر! قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فكيف في إمامه قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان
ـــــــ
1 ر: "لا ينبغي".
2 سورة المائدة 95.
لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم: " بل هم قوم خصمون " " الزخرف: 58 " ، وقال عز وجل: " وتنذر به قوماً لدا " " مريم: 97 " .
الفتوى فيمن أصاب صيداً وهو محرم
والشيء يذكر بالشيء. وجاء في الحديث أن رجلاً أعرابياً1 أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل، فقال عبد الرحمن: يهدي شاة، فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره! فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! إن الله عز وجل قال: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وفي هذا الحديث ضروب من الفقه؛ منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أولاً، ليكون قول الإمام حكماً قاطعاً ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية، كما قال الله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وأنه لم يسأله: أخطأ قتلته3 أم عمداً? وجعل الأمرين واحداً. ومنها أنه لم يسأله: أقتلت صيداً قبله وأنت محرم? لأن قوماً يقولون: إذا أصاب ثانية لم يحكم عليه، ولكنا نقول له4: اذهب فاتق الله، لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 5.
ـــــــ
1 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه قبيصة بن هانئ أحد التابعين.
2 سورة المائدة 95.
3 ر: "قتله". وما أثبته عن الأصل.
4 كلمة "له" ساقطة من ر.
5 سورة المائدة 95.
قول قطري بن الفجاءة لأبي خالد القناني ورد أبي خالد عليهمن طريف أخبار الخوارج قول قطري بن الفجاءة المازني لأبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج:
أبا خالد إنفر فلست بخالد ... وما جعل الرحمن عذراً لقاعد
أتزعم أن الخارجي على الهدى ... وأنت مقيم بين لص وجاحد!
فكتب إليه أبو خالد:
لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي، إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولو لا ذاك قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف
أبانا من لنا إن غبت عنا ... وصار الحي بعدك في اختلاف !
من أخبار عمران بن حطان وأشعارههذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان1 رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إلى بغضاً ... وحباً للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرا العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبالي
فمن يك همه الدنيا فإني ... لها والله رب البيت قال
وفيه يقول:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
ـــــــ
1 ر: "وقد كان".
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعد يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول:
نزلنا في نبي سعد بن زيد ... وفي عك وعامر عوبثان1
وفي لخم وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحي بني العدان
ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده2، فانتمى له من الأزد.
وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.
رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا3
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه.
ـــــــ
1 في الأصل: "عوثبان", وما أثبته عن ر. وهو يوافق ما في القاموس.
2 أثيرا: مكرما.
3 زيادات ر: "قلبه الفقيه الطبري" فقال:
ياضربة من شقى ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها والعن عمران بن حطانا
قال محمد بن أحمد الطبيب يرد على عمران بن حطان:
ياضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا
فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له1 عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك نم لخم وغسان
حتى إذا جفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولاً ما تروعني ... فيه روائع من إنس ومن جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
وكنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند الولاية في طه وعمران
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أأزدياً2 مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك3، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها:
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 ر: "أزديا؟"
3 ر: "آمناك".
إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع
قال أبو العباس: أنشدن1 الرياشي:
أعيا عياها على روح بن زنباع
وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور:
ما زال يسألني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقعطت عني وسائله ... كف السؤال ولم يولع بإهلاعي
فاكفف كما كف عني إنني رجل ... إما صميم وإما فقعة القاع
واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع!
أما الصلاة فإني لست تاركها2 ... كل امرئ للذي يعني به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلا داع
جاوزتهم سنة فيما أسر به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل3 عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول:
نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسر بما فيه من الإنس والخفر
نزلنا بقوم يجمع لله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة4 ... يمانية قربوا إذا نسب البشر
فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحي قحطان? فتلكم سفاهة ... كما قال روح لي وصاحبه زفر5
وما منهما إلا يسر بنسبة ... تقربني منه وإن كان ذا نفر
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
ـــــــ
1 ر: "أنشدنيه".
2 ر: "غير تاركها".
3 ر: "أهل".
4 ر: "معشر".
5 ر: "لي روح".
قوله:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة1، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}2، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ:
طال الثواء على رسم بيمؤود ... أودى وكل جديد مرة مودي
وقوله:
فيه روائع من إنس ومن جان
الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} 3. ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 4، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب.
وقوله:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
ـــــــ
1 ر: "الضيافة".
2 سورة يوسف 21.
3 سورة هود 74.
4 سورة النور 43.
يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمصال النساء العوارك1!
العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي المحافل أولاداً لعلات!
قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ.
وقوله:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تقتلك الفئة الباغية".
وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
ـــــــ
1 الأعيار: جمع عير, وهو الحمار. والبيت من شواهد الكتاب 1-172
2 سورة الأنفال 72.
وقوله:
حتى إذا ما انقضت مني وسائله
وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج:
والناس إن فصلتهم فصائلا ... كل إلينا يبتغي الوسائلا
وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل1: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً,إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 2. وقل الشاعر:
ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع
وقوله:
إما صميم وإما فقعة القاع
الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك:
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم
وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر:
قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر3
وقال بعض القرشيين:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم!
ـــــــ
1 ر: "وهو أصدق القائلين".
2 سورة المعارج 19-21.
3 القرقر: الأرض المطمئنة اللينة.
وقوله:
نسر بما فيه من الإنس والخفر
فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقوله:
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة
يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره.
وينشد:
يمانية قربوا إذا نسب البشر
يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل1:
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله2
وقال آخر:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة.
وقوله:
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة:
ـــــــ
1 يهجو كعب بن جعيل.
2 البازل من الإبل: ما دخل في التاسعة. ودبرت. من الدبر, وهو الجرح في ظهر الدابة. والصفحتان: الجانبان.
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع? وقال التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر!
الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أ ذا أم ذا? والأملح1 في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين2 عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?.
ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً3 فقالت صفية:
كيف رأيت زبرا
...
أأقطاً أو تمرا
أم قرشياً صقرا
لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان4 محالاً على هذا الوجه.
وقوله:
وما منهما إلا يسر بنسبة
معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 5. أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر6:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريج فمنهما تارة.
ـــــــ
1 ر: "والأصلح".
2 ر: "لأن أحد هذين عندك".
3 مفلولا: مهزوما.
4 ر: "كان".
5 سورة النساء 159.
6 هو تميم بن أبي بن مقبل.
وقوله:
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 2. وقال نهار بن توسعة اليشكري:
دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ـــــــ
1 سورة الحجرات 15.
2 سورة هود 46.
أول من حكم من الخوارجويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية1 - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي.
ـــــــ
1 ر: "جدة له جاهلية".
أول سيف سل من سيوفهمفأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية1 يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل! ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل.
ـــــــ
1 ر: "الدنيئة".
وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه؟ فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره؟ فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط.
مناظرة علي بن أبي طالب لهموكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما1 قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى2 خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم3 تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته4، فقال تبارك وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 5. وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم6، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 7? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك
ـــــــ
1 ر: "فكان مما".
2 ر: "فإن".
3 ر: طأو أنتم".
4 ر: "وامرأة".
5 سورة النساء 35.
6 ر: "يساوي ربع دينار".
7 سورة المائدة 95.
أن تقول في كتابك: "هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين" محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: "هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو" فقال: لو أقررت1 بأنك رسول الله ما خالفتك2، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال لي: "يا علي امح رسول الله"، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: "فقفني 3 عليه" فمحاه بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "اكتب محمد بن عبد الله"، ثم تبسم إلي فقال: "يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي". فرجع معه منهم ألفان من حروراء4، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء.
والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري.
ـــــــ
1 ر: "أقررنا".
2 ر: "ما خلفناك".
3 ر: "قفني".
4 حروراء: قرية من الكوفه.
للصلتان العبديوقال الصلتان العبدي في كلمة له:
أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
بنجدية وحرورية ... وأزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... مر الغداة وكر العشي1
أذا ليلة عرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
ـــــــ
1 ر: مرور الليالي وكر العشى
قوله:
وقد زيد في سوطها الأصبحي
فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه.
والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة1 من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
ـــــــ
1 ر: "منفردة".
للراعي في عبد الملك بن مروانقال الراعي يخاطب عبد الملك:
إني حلفت على يمين برة ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافداً ... يوماً أريد ببيعتي تبديلا
ولا أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي ... إني أعد له علي فضولا
وفي هذه القصيدة:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائماً مغلولا1
قوله:
وأزرق يدعو إلى أزرقي
يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله.
ـــــــ
1 العريف: القيم بأمور القبيلة.
وقوله:
على دين صديقنا والنبي
فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره1، قال الله عز اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4. وقال حسان بن ثابت:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
يعني بني هاشم
ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد5. وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة6، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج7 بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم:
[قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه:]
سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر ... وماذا الذي يبقى على عقب الدهر8!
ولو كنت فيه إذ أبيح حريمه ... لمت كريماً أو صدرت على عذر
أبيح فلم أملك له غير عبرة ... تهيب بها أن حاردت لوعة الصدر9
ـــــــ
1 ر: "وغيرة المقدم".
2 سورة التغابن 2
3 سورة الرحمن33.
4 سورة آل عمران 43.
5 الحد, بفتح الحاء: البأس والنفاذ في النجدة, والجد بالكسر: الجتهاد والسرعة في الأمر, قاله المرصفي.
6 ر: "الترحل".
7 صاحب الزنج: رجل ظهر أيام المهتدى بالله, وزعم أنه من ولد على بن الحسين بن على بن أبي طالب, ودعا الناس إلى طاعتة, واستمال عددا كبيرا من الزنوج, يستعين بهم على العبث والفساد, سنة 27
8 عقب الدهر: نوبه وأرزاؤه
9 العبرة: الدمعة.
ونحن رددنا أهلها إذ ترحلوا ... وقد نظمت خيل الأزرق بالجسر
ومن يخش أطراف المنايا فإننا ... لسنا لهن السابغات من الصبر
فإن كريه الموت عذب مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر
وفي هذا الشعر:
ليشكو بنو العباس نعمى تجددت ... فقد وعد الله المزيد على الشكر
لقد جنبتكم أسرة حسدتكم ... فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر
وقد نغصتهم جولة بعد جولة ... يبيتون فيها المسلمين على ذعر
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
ألا طرقت من أهل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق حمته الأزارقه2
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه
ـــــــ
1 ر: "بيبة".
2 سولاف: قرية من أرض خوزستان. والرستاق اسم للسواد والقرى.
من أخبارهم يوم النهروانوكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول:
أقتلهم ولا أرى عليا ... ولو بدا أوجره الخطيا
فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال
رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية.
وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم1 من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ.
وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان:
ما كان أغنى اليشكري عن التي ... تصلى بها جمراً من النار حاميا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... خلعت علياً بادياً ومعاويا2
وجاء في الحديث، أن علياً رضي الله عنه تلي بحضرته: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً, الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، فقال علي: أهل حروراء منهم.
وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته.
ـــــــ
1 كلمة"ثم" ساقطة من ر.
2 تنوخم: تناله.
3 سورة الكهف 104,103.
من شعر علي بن أبي طالبومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرفقة في الدين أرجع كافراً!:
يا شاهد الله علي فاشهد ... أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتدي
ويروى:
أني توليت ولي أحمد
في تقسيم غنائم خيبرويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: ألا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: "إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ".
وفي حديث آخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل?" ثم قال لأبي بكر: "اقتله" فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله".
قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل
مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورد خداه، ثم قل: "أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? " ! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل 1 فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف 2 فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق" 3.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ضئضئ هذا" أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق4، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة:
أقبلن من ثهلان أو وادي حيم ... على قلاص مثل خيطان السلم5
إذا قطعن علماً بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم
ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي:
وقد أختلس الضربـ ... ـة لا يدمى لها نصلي
فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع.
ـــــــ
1 النصل: حديدة السهم والسيف.
2 الرصاف: عصب يشد على سنخ النصل.
3 الفوق: مشق رأس السهم.
4 ر: "ومن مجتد".
5 الخيطان: جمع خوط, وهي الأغصان.
من أخبار واصل بن عطاءوذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب
ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حباً ... به أرجو غداً حسن الثواب
فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!.
وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء:
ماذا منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا1
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفروا رجلا!
ويروى: لا بل2، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
فهذا ما يرويه المتكلمون.
وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي،
ـــــــ
1 النقنق: الظليم. والدو:الفلاة الواسعة. ومثل: أي أيام.
2 قال الملرصفي: هذه عبارة سخيفة, يريد أن السبب في هجائه ليس ما ذكره بشار من نسبه الكفر إلى أصحابه, إذ نسبوه إلي واصل, وإنما السبب ما بلغه من إنكار واصل قوله يفضل النار وبصوب رأي إبليس. وكلمة" كأنه لا شك فيه" معترضة.
فذكرت قرابتهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمسكت عنهم1. [إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم ... كبابليين حفاً بالعفاريت
لا يرجيان ولا يرجى نوالهما ... كما سمعت بهاروت وماروت]2
وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به3 إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا4 اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة.
وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك5 لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه:
عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
وقال آخر:
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر
ومما حكي6 عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لو لا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً.
فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم
ـــــــ
1 د: "منهم".
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 كلمة "به" ساقطة من ر.
4 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
5 ر: "بذاك".
6 ر: "يحكى".
يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم.
واجتناب الحروف شديد.
وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست1 قال: والله لو لا الخطبة والنساء ما حفلت بها.
قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد2 الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين3 الحروف وحسن مخارج الكلام.
فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك:
صحت مخارجها وتم حروفها ... فله بذاك مزية ولا تنكر
المزية: الفضيلة.
وأما قوله: ابن باب فهو4 عمرو بن عبيد بن باب، وهو5 مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما.
فقال:
ومن قوم إذا ذكروا علياً ... أشاروا بالسلام على السحاب
ويروى:
يردون السلام على السحاب
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "فأجاد".
3 ر: "يتمكن".
4 ر: "فإنه".
5 ر: "وكان".
مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنهثم نرجع إلى ذكر الخوارج.قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه1 معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث2 أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف3 لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت4 إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها5، وفي ذلك يقول6:
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم7
ـــــــ
1 ر: "فوجه".
2 ر: "الأحاديث".
3 ر: "فكيف".
4 ر: "سرت".
5 أي قال لها نعم.
6 قال المرصفي: بل قائله ابن أبي مياس المرادي.
7 قبله:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة.
فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له1! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن.
ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه2، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا3 السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه.
ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كلمة "إياه" ساقطة من ر.
3 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي.
فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج1 مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد2 من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له،وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم3 على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي4، وإن5 أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم6 ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته7 السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم.
ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن8 رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "بالمسجد".
3 ساقط من ر.
4 ر: "إي".
5 "وإن أصبت فاضربوه ضربة في مقتله".
6 هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, زوج عمر بن الخطاب.
7 ر: "أسقيته".
8 ر: "فدعا به الحسن".
رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك1 ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين2 مضاضين3، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله.
ويروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا4 نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه:
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا5
ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول:
حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد.
قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً:
ـــــــ
1 ر: "في يديك".
2 الملمول: الحبل يكتحل به.
3 أي جارين.
4 ر: "فلا".
5 الحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر, يقال للرجل: اشدد حيازيمك, أي وطن نفسك على الأمر.
لسعد بن الضباب إذا غدا ... أحب إلينا منك فا فرس حمر1
وإنما الشعر:
لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا
وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته2، وكان معاوية عظيم الأوراك, فقطع منه عرقا يقال له3 عرق النكاح, فلم يولد لمعاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ4 زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين.
ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم5 الناس.
وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج6 خارجة7، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة8.
ـــــــ
1 لامرئ القيس بن حجر. ديوانه 139.
2 المأكمة: واحدة المأكمتين, وهما اللحمتان اللتان على رءوس الوركين.
3 كلمة "له" ساقطة من ر.
4 ر:"فبلغ".
5 يبهظهم: يغلبهم.
6 ر: "دخرج".
7 هو خارجة بن حذافة, له صحبة.
8 ر: "والله أراد".
لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالبوقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
إن الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرئ خاره للدين مختار
طب بصير بأضغان الرجال ولم ... يعدل بخبر رسول الله أخبار
وقطرة قطرت إذ حان موعدها ... وكل شي له وقت ومقدار
حتى تنصلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا
حمت ليدخل جنات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار
قوله خاره يعني1: اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه.
وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} 2. والخبر: العالم.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك3.
وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها.
وقوله: حمت، معناه قدرت.
ـــــــ
1 ر: "إنما هو".
2 سورة محمد 73.
3 ر: "أجى لك".
للكميت في رثائه أيضاقال الكميت:
والوصي الذي أمال التجوبي ... به عرش أمة لانهدام
قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه ... حكماً لا كغابر الحكام
الإمام الزكي والفارس المعلم ... تحت العجاج غير الكهام
راعياً كان مسجحاً ففقدنا ... ه وفقد المسيم هلك السوام1
وله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات:
نحن منا النبي أحمد الصديـ ... ـق منا التقي والحكماء
ـــــــ
1 مسجحا: سهلا.
وعلي وجعفر ذو الجناحين ... هناك الوصي والشهداء
وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المحبوس في سجن عارم
وصي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أعناق وقاضي مغارم
أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر:
صبحن من كاظمة الخص الخرب ... يحملن عباس بن عبد المطلب
يريد ابن عباس رضي الله عنه.
وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك:
ورثتم ثياب المجد فهي لبوسكم ... عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم
يريد ابني عبد مناف.
لأبي الأسود الدؤلي في آل البيتوقال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
أحبهم لحب الله حتى ... أجيء إذا بعثت على هويا
هوى أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا1
يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر ما تنسى عليا!
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا2
ـــــــ
1 زيادات: "السوي والسواء: الذي قد سوى الله خلقه, لا زمانة به ولاداء, وفي القرآن: "بشر سويا" وتقول: ساويت ذاك بهذا الأمر, أي جعلته مثلا له.
2 زيادات ر: "ويروى: وليست".
وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له1: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني.
قال: وكان نقش خاتمه:
يا غالبي حسبك من غالب ... إرحم علي بن أبي طالب
وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله:
راعياً كان مسجداً فقدناه ... وفقد المسيم هلك السوام
فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم.
قال ابن قيس الرقيات:
أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء
لو تقفى ويترك الناس كانوا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء
وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه:
كان المسيم ولم يكن إلا لمن ... لزم الطريقة واستقام مسيما
ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة.
ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر2 والبغيبغة فهذا3 غلط، لأن وقفه هذين4 الموضعين لسنتين من خلافته.
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كذا ضبط في الأصل. بفتح النون, وفي حاشية عن الصحاح: "نبرز" بكسر النون.
3 ر: "وهذا".
4 ر: "لهذين".
وقف عين أبي نيزرحدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - 1يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة2، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة3، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً4 من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول5 وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقا6ً. فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم7 فانثالث8 كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق9 لهما، وليس لأحد غيرهما.
قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 البغيبغة: عين لآل رسول الله صلى الله علية وسلم غزيرة الماء كثيرة النخل.
3 الإهالة: ما أذيب من الشحم والسنخة: المتغيرة الريح.
4 حسا: جمع حسوة, وهي الشربة ملء الفم.
5 المعول: الفأس العظيمة ينقر بها في الصخور.
6 تفضج جبينة عرقا: سال.
7 بهمهم, من الهمهمة, وهي ترديد الصوت في الصدر.
8 يقال انثال الرمل انثيالا, إذا تبع بعضة بعضا, وهو هنا علي الإستعارة.
9 طلق: أي حلال.
كتاب معاوية إلى مروان بن الحكموتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك1 كتابي هذا2 فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق.
فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية3 وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك4 تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي5 بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه.
ـــــــ
1 ر: "وصل إليك".
2 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
3 في لاأصل: "أمير المؤمنين", وما أثبته عن ر.
4 الإملاك: عقد النكاح.
5 ر: "يدي".
حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه
قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.
قال: ويروى1 أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج2 فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع3، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة4 لطول السجود، وأيدياً كثفنات5 الإبل، وعليهم6 قمص مرحضة7، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من
ـــــــ
1 ر: "يروى".
2 فلج: انتصر.
3 الكراع: اسم جماعة الخيل.
4 قرحة: بها قروح.
5 ثفنات الإبل: ما يصيب الارض منها إذا بركت.
6 ر: "وعليهم".
7 قمص مرحضة مغسولة, من أرحض الثوب, غسله.
عند صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل1 علمتم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى2 جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان3، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن.
ـــــــ
1 ر: "هل".
2 ر: "متى".
3 زيادات ر: "قال الأخفش: كذا كان يقول المبرد: "النهروان. بكسر النون والراء, وإنما هو النهروان" بالفتح, وأنشد للطرماح: "قل في شط نهروان" بفتح النون.
خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم لهقال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم1.
ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له2: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال3: ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله،
ـــــــ
1 س: "احفظو ذمة نبيكم".
2 كلمة "له" سلقطة من ر, وهي في الأصل, س.
3 ر,س :"قال".
فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل".
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما1 تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم2، وأشد توقياً على دينه، وأبعد3 بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها.
ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.
وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?.
ـــــــ
1 ر: "فما تقول".
2 ر: "أعلم بكتاب الله".
3 ر:"وأنفذ".
غيلان بن خرشة ونيله منهمومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك1 برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة.
ـــــــ
1 الحضنان: ناحيتا الإنسان. والجمع أحضان.
مرداس بن أدية وزيادومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً
إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص ، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " " النجم: 37 - 41 " وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم.
والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك.
آراء الفقهاء في مذهب الخوارجوهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً1، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس.
ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني2 كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر3.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 حاشية س: "قد يتوهم من هذا الكلام من لا معرفة له بالأخبار والتواريخ أن المذكور هنا مالك بن أنس الفقيه المدني المشهور صاحب المذهب. وليس الأمر كذلك. وهذا تقصير أو قصور من أبي العباس, حيث أبهم في موضع البيان, لأن مالكا المذكور هنا هو مالك بن أنس بن مالك بن مسمع البكري. ثم البصري. أحد رؤساء أهل البصرة. وأعظم فقهائها في زمانه. لشرف بيته وتقدمة في معرفة كل فن, وشهرة وزهده وكثرة تهجده, لكنه كان متهما برأي الخوارج. ولم يوقف لأمره على حقيقته, الله أعلم أي ذلك كان. وأما الإمام مالك بن أنس المدني الأصبحي الحميري فهو الذهب الأبريز صفاء. والكبريت الأحمر عزة".
3 الثريد الأعفر: الأبيض. ليس بالشديد البياض. يريد الثريد الممتلئ بالإدام, قاله المرصفي.
فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه1 النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق!
قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة2 يقول:
رب العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبالكا
فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة [وأشهد أن الخلق جميعاً عباده]3.
وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه:
أبني عقيل لا أبا لأبيكم ... أيي وأي بني كلام أكرم
وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري:
يا قرط قرط حيي لا أبالكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر
أأن روى مرقس واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر
قلتم له اهج تميماً لا أبالكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر
فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمت وأرست عزها مضر
ـــــــ
1 س: "يتعرفه".
2 ر: "جديبة".
3 تكملة من ر.
قوله: "يا قرط قرط حيي" نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا "يا قرط حيي" فأقحموا" قرطاً" توكيداً، وكذلك لجرير1:
يا تيم تيم عدي لا أبالكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
ومثله لعمر بن لجا2:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل3
فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: "يا زيد زيد اليعملات" و"يا تيم تيم عدي"، كما تقول: "يا زيد أخا عمرو" على النعت. ومثل الأول في التوكيد "يا بؤس للحرب" فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء "لا أبالك" و"لا أبا لزيد" ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت "لا أباك" كما قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقي لا أباك تخوفيني
وقال آخر:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد!
وقوله: "أأن روى مرقس" "مرقس" رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة4 فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة5 فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة6، وأصغرهن الطبع7:
ـــــــ
1 قال المرصفي: "يهجو عمر بن لجأ التيمي", وقبله كما في الديوان 285:
أتبتغي التيم عذرا بعد ما غدروا ... لايقبل الله من تيم إذا اعتذروا
لا تمنعون لكم عرسا وما لكم ... إلا بغيركم ورد ولا صدر
2 قال المرصفي: هذا غلط, وصوابه: لعبد الله بن رواحة الخزرجي يقوله لزيد بن أرقم.
3 اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة السريعة. والذبل: الضوامر.
4 المزاده هي التي تكون من جلدبن يزاد بينهما نصف جلد.
5 آدمه :جمع أديم, وهو الجلد.
6 السطيحة: التي تكون من جلدين, يقابل أحدهما بالأخر.
7 الطبع, قال المرصفي: لم أر أحدا من أهل اللغة ذكره إلا في الأسقية, وإنما هو لملْ السقا.
وقوله: "واصطاف أعنزه"، يريد "افتعلت"، من الصيف، أي أصابت البقل فيه.
والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع.
وقوله: "ذو سمعت به" يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى "الذي"، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال:
إني أرى في عامر ذو ترون
وقال عارق الطائي:
فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم ... لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه1
يريد الذي.
ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه.
قال الحسن بن هانئ الحكمي:
حب المدامة ذو سمعت به ... لم يبق في لغيرها فضلا
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذال
وقال الحسن بن وهب الحارثي:
عللاني بذكرها عللاني ... واسقياني أو لا فمن تسقيان
أنا ذو لم يزل يهون على الند ... مان إن عز جانب الندمان
ويكون العزيز في ساعة الروع ... بصدق الطعان يوم الطعان
ـــــــ
1 لأنتجين: لأقصدن. وعارقه, من عرق العظم يعرقه, بالضم عرقا, أخذ اللحم عنه بأسنانه نهشا, وبهذا البيت سهي عارقا.
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج1 :
قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} 2.
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما وصفهم قال: "سيماهم التحليق 3 يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد" 4.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: "رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة"، أو "الخنيصرة".
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: "ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: "ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل لكان أول فتنة وآخرها".
ـــــــ
1 ر: "عاد الحديث إلى ذكر الخوارج".
2 سورة طه 84.
3 سيماهم التحليق, أي علامتهم حلق الرءوس.
4 مخدج اليد: ناقصها.
حديث المخدجويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى
صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها.
من أخبار نافع بن الأزرقويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم.
قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله.
حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} 1، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:
ـــــــ
1 سورة الإنشقاق 17.
إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير.
قوله: "حقائقا" إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على "فعلية" مثل "حقيقة" ولذلك جمعها على "حقائق" ويقال: "استوسق" القوم، إذا اجتمعوا.
وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} 1 فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده:
سلماً ترى الدالج منها أزورا ... إذا يعج في السري هرهرا
السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال:
لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد2
والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: "تر الدالي منه أزورا" وهذا خطأ لا وجه له.
وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 3: ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة4، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك.
ـــــــ
1 سورة مريم 24.
2 أفتلان, من القتل, وهو اندماج مرفق الناقة.
3 سورة القلم 3.
4 زيادات ر:" الأم :زعنفة بالكسر".
قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه.
ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 1، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرتعن ساقها الحرب شمرا
قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي ليت صبحك نورا
أخاف على نفس ابن أحوز2 إنه ... جلا حمماً فوق الوجوه فأسفرا
جعلت لقبر للخيار ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا3
وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا4
فلم تبق منهم راية يعرفونها ... ولم تبق من آل المهلب عسكرا
ألا رب سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت:
ـــــــ
1 سورة القيامة 29.
2 زيادات ر :"قال الشيخ أبو يعقوب: الذي رويت في شعر جرير:
حذرارا على نفس ابن أحوز إنه ... جلا كل وجه من معد فأسفرا
3 زيادات ر عن الشيخ أبي يعقوب: "وقوله: "عدى" يعني عدي بن أرطاة الفزاري. قتله معاوية بن يزيد بن مهلب بواسطة. وكان عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله". وفيها الخيار أيضا "ويروى: للخيار بواسط.الخيار: موضع بعمان فيه قبر الخيار بن سبرة المحاشعي. وواسط بها قبر عدي بن أرطاة الفزاري".
4 زيادات ر: "المزون عمان بالفارسية".
فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
وقال آخر يعني الحرب:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فويهاً حذيف ولا تسأم1
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء2، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر.
ومما سأله عنه: {آلم, ذَلِكَ الْكِتَابُ} 3، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن.
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 4؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 5، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو-أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه
ـــــــ
1 زيادات ر: "تقول: "ويها لزيد" إذا زجرته عن الشئ فأغريته به. وواها له, إذا تعجبت منه. وحذيف. يريد "حذيفة" فرخم".
2 قناء: عالم بمواضع الماء من الأرض, مأخوذ من القناة. وهي كطيمة تحفر تحت الارض. قاله المرصفي.
3 سورة البقرة 1.
4 سورة البقرة 89.
5 سورة البقرة 146.
معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل1، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد2 بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت3 حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت هالكا
وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا4
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: "يأطر متنه" أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 5"، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرجـ ... ـع منيناً كأنه إهباء6
قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:
يا ريها إن سلمت يميني ... وسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنين
ـــــــ
1 صميم الخيل: قال المرصفي: "يريد بالخيل الفرسان, وصميمها: عميدها الذي تعتمد عليه, من الصميم, وهو العظم الذي به قوام العضو".
2 لفظ "هو" ساقط من ر.
3 رمت: برحت.
4 خام: جبن وضعف.
5 سورة فصلت 8.
6 يصف خيلا. والرجع: رد الدابة يديها في السير. وأهباء: جمع هبوة, يريد كأنه أهباء الزوبعة ترتفع في الجو قاله المرصفي.
يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله1 "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم.
ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً2 فجعل يسأله3 حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر!
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر
إذا زرت نعماً لم يزل ذ قرابة ... لها كلما لاقيته يتنمر
عزيز عليه أن أمر ببابها ... مسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه ... يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها ... بمدفع أكنان أهذا المشهر!
قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر!
فقالت: نعم، لا شك غير لونه ... سرى الليل يحيي نصه والتهجر4
لئن كان إياه لقد حل بعدنا ... عن العهد، والإنسان قد يتغير
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
ـــــــ
1 ر: "يجعله".
2 ساقطة من ر.
3 ر: "يسائله".
4 النص: ضرب من السير, والتهجر: السير في الهجارة.
حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال "فيضحى وأما بالعشي فيخصر" قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها1.
وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي.
وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن2، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3، والضح: الشمس، وليس من: "ضحيت"، يقال: "جاء فلان بالضح والريح" يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغر أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: "دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم"، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كن أبا خيثمة"، فكانه.
وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 البردان: الغداة والعشي.
3 سورة طه 119.
الحجاج وامرأة من الخوارجوذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي.
والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.
عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارجوذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً1، فرغب فيه، فاستدعاه2 إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا3 أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا4 الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول5، والله لأقتلنك إن لم تطع.
فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.
قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي6 ؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى
ـــــــ
1 الأرب: البصر بالأمور, والدهى, مصدر دهى, كرضي, إذ كان صاحبه عاقلا مجربا.
2 كذا في الأصل, س, وفي ر: "واستدعاء".
3 ر: "وأبى".
4 ر: "سلطني".
5 ر: "بالقول".
6 ر: "يبك" وكلاهما جائز.
عليه عينه إذا حضرته طاعة الله1، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك.
ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع.
ـــــــ
1 ر: "طاعة ربه".
وفود رجل من أهل الكتاب على معاويةوتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب1 هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال2، ويصطنع الرجال، ويجنب3 الخيول، ويبيح حرمة الرسول4، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة5 تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته6، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه7 ظاهراً، ويكون له قرين8 مبير9 لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قال:
ـــــــ
1 ر: فاختبر, ويقال: اجتبيت الخراج اجتباء, أي جمعته.
2 احتجن الشئ أخذه وحبسه.
3 يجنب الخيل: يقودها إلى ما يركب منها اختيالا وعجبا بها.
4 قال المرصفي: ذلك ما كان من قتل الحسين ومن معه من فتيان بني هاشم وإهانة آل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
5 هي الفتنة التي وقعت بعد موت معاوية بن يزيدةبن معاوية, وافتراق الناس فرقتين, فريق يدعو إلى ابن الزبير. وفريق يدعو إلى بني أمية.
6 قال المرصفي: "يريد به عبد الملك بن مروان: ولم يذكر معاوية بن يزيد ولا مروان لقصر مدتهما".
7 ناوأه: عاداه.
8 يريد به الحجاج بن يوسف, وقاله المرصفي.
9 مبير: مهلك, وفي س :"مبين".
شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض،قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت1 إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت.
فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته.
وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}.
ـــــــ
1 ر: "رأيت".
صديق عبد الملك بن مروانقال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.
حديث ابن جعدبة للمنصورقال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه
ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ؟ قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها؟ قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله؟ قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد؟ قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء.
قتال أهل النخيلةقال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، "فرأى تعطيل إحداهما طعناً"1 على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده2 الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه،
ـــــــ
1 ر: "فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى". وما أثبته عن الأصل. س.
2 ساقطة من ر.
ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، فكل أجاب وبايع.
فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً.
وفيهم يقول عمران بن حطان:
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب3
وقال الحميري يعارض هذا المذهب:
إني أدين بما دان الوصي به ... يوم النخيلة من قتل المحلينا
وبالذي دان يوم النهر دنت به ... وشاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ... ومثلها فاسقني آمين آمينا
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 سورة هود 56.
3 الجوسق الخرب: بظاهر الكوفة عند النخيلة, والبيت في معجم البلدان "17:3" من أبيات نسبها إلى قيس بن الأصم الضبي.
مناظرة أهل النخيلة لابن عباسوكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان1 علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً.
ـــــــ
1 ر: "إذ كان".
المستورد التيميوكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه.
كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك.
وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب.
وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك.
وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد.
وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت.
الخوارج ومعاويةقال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار.
فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين1، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر
ـــــــ
1 البندنيجين. بلظ المثنى: بلد طرف النهروان من أعمال بغداد.
الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة.
ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً "أكثره أهل الكوفة"1 ثم قال لأبيه أبي حوثرة: قم فاكفني2 أمر أبنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع, فأبى فأداره, فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر3، فقال: يا أبا حوثرة، عتا4 هذا جداً!.
فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!.
فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول:
أكرر على هذي الجموع حوثره ... فعن قليل ما تنال المغفرة
فحمل عليه رجل من طيئ5 فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً.
وأنا أحسب أن قول القائل:
وأجرأ من رأيت بظهر عيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
ـــــــ
1 ر: جيشا أكثرهم من أهل الكوفة.
2 ر: "اكفني امر ابنك".
3 ساقطة من ر.
4 عتا: استكبر.
5 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه عبد الله بن عوف قائد ذلك الجيش.
إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه.
وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره:
تعتبت تطلب ما استحق ... بها لهجر منك ولا تقدر
وماذا يضيرك من شهرتي1 ... إذا كان سرك لا يشهر
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر
ولو لم تكن في بقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
ـــــــ
1 ر: "يضرك" بتشديد الراء.
من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه
ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لعلي: "يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: "أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه" - ووضع يده على لحيته – "من هذا"، ووضع يده على قرنه.
ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه.
ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!
ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه1 عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت.
وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان:
وكنا قبل مهلكه زماناً ... نرى نجوى رسول الله فينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وأكرمهم ومن ركب السفينا
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا
ـــــــ
1 الترفيه: التنفس.
ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور!
وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا1 مفرداً لهم، ولكنا2 نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 "لكنا".
الخوارج وزيادخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي:
لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام1
فعرد عنهم2 الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون،
ـــــــ
1 شحذ السيف: إجلاؤه.
2 عرد الرجل تعريدا, إذا عدا فزعا.
وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم.
ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لو لا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً1. وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره.
وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
قتل مصعب لامرأة المختارولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول1
قتلت باطلاً عل غير ذنب ... إن لله درها من قتيل!
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول2
قال: وكان3 الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم.
ـــــــ
1 العطبول: المرأة التامة الخلق.
2 المحصنات: العفيفات.
3 ر: "وكانت".
ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 2.
ـــــــ
1 سورة الفرقان 22.
2 سورة الإسراء 36.
عبد الله بن زياد والخوارجعاد الحديث إلى أمر الخوارج.
وكانت1 من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 2 وقال جل ثناؤه: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} 3 - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية4 فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي.
فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس.
ـــــــ
1 ر: "وكان".
2 سورة التحريم 12
3 سورة الشعراء 171.
4 التقية: حفظ النفس بما يستطاع من المكروه.
ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج1 إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به.
ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم2. لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع3.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?!
ـــــــ
1 الإدلاج: السير من آخلر الليل.
2 بنجم: يطلع.
3 اليراع: القصب الفارسي.
من أخبار مرداس أبي بلالويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ1 بعيراً له، فهرج2 البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً!
وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد
ـــــــ
1 يهنا بعيرا: يطلية بالهناء, وهو القطران.
2 هرج: تعب وتحير.
ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل1. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي2، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله:
أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى ... ومن خاض في تلك الحروب المهالكا3
أحب بقاء أو أرجي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا!
فيا رب سلم نيتي وبصيرتي ... وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قوله: "وقد قتلوا" ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل4: هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال
ـــــــ
1 الفصل: قول الحق.
2 لفظ: "ياأخي" من ر.
3 ابن وهب: هو عبد الله بن وهب الراسبي.
4 ر: "قوم".
علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له.
وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى.
ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله1 بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد
ـــــــ
1 ر: "أدين بأنه محق".
يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً!
وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللات بن ثعلبة، في كلمة له:
فلما أصبحوا صلوا وقاموا ... إلى الجرد العتاق مسومينا1
فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا
بقية يومهم حتى أتاهم ... سواد الليل فيه يراوغونا
يقول بصيرهم لما أتاهم ... بأن القوم ولوا هاربينا
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!
ـــــــ
1 مسومين: معلمين بعلامات يعرفون بها في الحرب.
وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول:
أقاتلهم وليس علي بعث ... نشاطاً ليس هذا بالنشاط
أكر على الحروريين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال.
وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال1: فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف.
فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله.
فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي.
وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لو لا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي:
ألا في الله لا في الناس شالت ... بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً ... تحوم عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وقال عمران بن حطان:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
عباد بن أخضر المازنيقال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك1. فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة
ـــــــ
1 ذمره: لامه.
له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق:
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة ... إذا ذم طلاب التراث الأخاضر
هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر ... فنالوا التي ما فوقها نال ثائر
أفادوا به أسداً لها في اقتحامها ... إذا برزت نحو الحروب بصائر1
ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه:
كفعل كليب إذ أخلت بجارها ... ونضر اللئيم معتم وهو حاضر2
وما لكليب حين تذكر أول ... وما لكليب حين تذكر آخر
وقال معبد بن أخضر:
سأحمي دماء الأخضريين إنه ... أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا
ـــــــ
1 أقادوا أسدا. قتلوهم به.
2 يقال: اعتم الرجل في الشئ, إذا أبطأ فيه.
عروة بن أدبةوكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في
طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من في الحبس1 منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب2 العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر3! وكان مع هذا ألكن يرتضخ4 لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو "في سرب العلاء بن سوية". ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ.
فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره5. وأصحه عندنا أنه قال: لقد6 جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد7 لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما
ـــــــ
1 ر: "السجن".
2 السرب: الطريق والمسلك.
3 س: "وللشعر".
4 يرتضخ: يميل إليها في نطقه.
5 ر: "وقد اختلف الناس في خبره".
6 كلمة "لقد" ساقطة من ر.
7 ر: "مأريده".
أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا1 نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد2 مضى ذكره.
قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي:
ولقد قالت لجارات لها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد!
فتهانفن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد
ـــــــ
1 ر: "كلنا".
2 ساقطة من ر.
أمر زياد مع الخوارجوكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه.
فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي1. قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر
ـــــــ
1 ر: "أدخل إلى منزلي".
أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون.
وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة1 فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة2، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم3، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف.
قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات.
ـــــــ
1 الرجلة: المشي على الرجلين.
2 الذرة: واحدة الذر, وهو النمل الصغار.
3 ر: "في شأمهم".
الرهين المرادي وشعرهوقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم.
وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي1 الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي:
يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي ... لا تأمنن لصرف الدهر تنقيصا2
إني لبائع ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا3
وأسأل الله بيع النفس محتسباً ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
[قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية].
وابن المنيح ومرداساً وإخوته ... إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا4
قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم.
وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد5 كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به.
فأما قول جرير:
ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع.
وقوله:
ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
ـــــــ
1 ر: "والشعر".
2 ر. س: "تنغيصا".
3 التربيص: الانتظار.
4 المخاميص: جمع مخامص, وهو الضامر البطن.
5 ساقطة من ر.
يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم1 بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد.
وأما قول ابن الرقيات:
والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
فأباح العراق يضربهم بالسيف ... صلتاً وفي الضراب غلاء2
فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره.
وقوله: "ما توحي الشياطين"، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة3 لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل.
فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة.
وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً.
ـــــــ
1 ر: "من تميم".
2 الصلت: الماضي في الشئ. والغلاء: مجاوزة القدر في كل شئ.
3 السجاعة: صناعة السجع.
المختار بن عبيد وبعض أخبارهويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع.
وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً:
بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم
وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده1، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل2.
فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم
ـــــــ
1 الأيد: القوة.
2 الافكل: اسم للرعدة تعلو الإنسان.
ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك1، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء2 من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه3 نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة4 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر5 وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين6 بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول.
[قال أبو الحسن: السكوني أكثر]7، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "من يشاء".
3 ر: "فتوجه".
4 حصتم حيصة: ذهبتم تطلبون الفرار.
5 خازر: نهر بين إربل والموصل.
6 ر: "حضين", وما أثبته عن الأصل.
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.
فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج1. وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم.
قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي2 وملاءة، وهو متوشح3 السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً.
فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه4 راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا.
فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد.
وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في
ـــــــ
1 قتلى المرج, يريد مرج راهط, وقد قتلت يوم ذلك قبائل قيس مقتلة لم تر مثلها. قاله المرصفي.
2 هروي: منسوب على هراة إحدى مدن خراسان.
3 ر: "متشح".
4 ر: "ومنه".
براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين1.
وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر2:
وليس بمنقذ لك منه إلا ... براكاء القتال أو الفرار
ـــــــ
1 ر: "بدرهمين من بخار".
2 حاشية الأصل: "البيت لبشر بن خازم" ويروى:
ولا ينجى من الغمرات إلا
وهذا باب 1 اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة
...
إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم.
وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا2.
فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس.
والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يبعث لي بعد النبي طربا3
ـــــــ
1 ر: "هذا".
2 ر: "لالتبستا".
3 لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي.
وقال آخر:
تكنفني الوشاة فأعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع1
وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!.
وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار2
فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم.
وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت.
والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم.
فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في "عمرو" وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في "زيد" لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله.
ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من "زيداً"? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً.
ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر:
يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب!
فقد أحكمت كل ما في هذا الباب.
ـــــــ
1 نسبة المرصفي إلي قيس بن ذريح وقبله:
فواكبدي وعاودني رداعي ... وكان فراق لبني كالخداع
2 سمعان: بفتح السين وكسرها. وكلامها صحيح.
ثم نعود إلى ذكر الخوارج
خالد بن عباد السدوسيقال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم1، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة2 تعرف برحبة الزينبي.
فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً3، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح4، يتتبعها5 فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران6
ـــــــ
1 ر: "دلني عليهم".
2 الرحبة: الفجوة الواسعة بين الدور.
3 الشاسف: اليابس من الهزل.
4 اللقحة: الناقة التي لها لبن.
5 ر: "يتتبعها".
6 الودع: اللطخ بالطيب والزعفران.
فلقيه بالمربد1 وهو يسأل عن لقحة صفي2، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ3 فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي.
فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس4 عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل5 ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال:ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته6 وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي:
آليت لا أغدو إلى رب لقحة ... أساومه حتى يعود المثلم7
ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة.
ـــــــ
1 المربد" المكان الذي تحبس فيه الفبل وتصان. ومنه سمي مربد البصر’. وكان موضع سوق اللإبل.
2 الصفي: الناقة الغزيرة اللبن, والجمع صفايا.
3 تبلغ: يريد إن كنت تبلغ بها ثمنا جيدا. قاله المرصفي.
4 ر: "وتحسن".
5 ر: "فتحامل".
6 ر: "وأنا قاتله".
7 بعده كما ذكره المرصفي:
وقال له كوماء حمراء جلدة ... وقاربه في السوم والقتل يكتم
فأصبح قد عمى على الناس أمره ... وقد بات يجري فوق أثوابه الدم
وقد كان فيما كان منه بمعزل ... ولكن حين المرء للمرء مسلم
تفرق الخوارجومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب.
الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض.
والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار1 وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم..
ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس2.
ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي.
وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته3 الخوارج بامتناعه من قتال علي.
ـــــــ
1 هو عبد الله بن الصفا.
2 هو هيصم بن جابر.
3 ضللته: نسبته إلى الضلال.
الخوارج وابن الزبيرفكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك.
فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع1 من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع:
ـــــــ
1 ر: "تجمع".
لسانك لا ينكى به القوم إنما ... تنال بكفيك النجاة من الكرب
فجاهد أناساً حاربوا اله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غوي بني حرب
ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً1 كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة.
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير.
ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن2 في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى
ـــــــ
1 الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها.
2 يشير على قوله تعالى في سورة الأحزاب 33: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}.
التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن "أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا"1.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه2 من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى" فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار4 الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني5 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 6, وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 7. وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ـــــــ
1 كذا وردت العبارة في الأصل. س. وفي ر: "وإن ابيت إلا نصر رأيك الأول. وتصويب أبيك وصاحبه. والتحقيق بعثمان, والتولي على الست التي أحلت دمه. ونقضت......وافدت إمامته, خذلك الله وانتصر من بأيدينا".
2 في ر: "بارأف".
3 سورة طه 44.
4 غمار الناس:جماعتهم.
5 لم تحفظوني: لم تغظبوني.
6 سورة لقمان 15.
7 سورة البقرة 83.
وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض".
فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.
فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه.
وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان3 حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
ـــــــ
1 سورة الفتح 18.
2 سورة الاحزاب 6.
3 ر: "أن كان".
يا صاحبي ارتجلا ثم املسا ... لا تحسبا لدى الحصين محبسا
إن لدى الأركان ناسناً بؤسا
- [قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا] -
وبارقات يختلسن الأنفسا ... إذا الفتى حكم يوماً كلسا
قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد.
ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام1، من رهط الفرزدق:
يا ابن الزبير أتهوى عصبة قتلوا ... ظلماً أباك ولما تنزع الشكك
ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية ... ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا!
فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها.
الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر:
ومدججاً يسعى بشكته ... محمرة عيناه كالكلب
فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري2 وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج3، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً.
ـــــــ
1 ر: "قيس بن همام".
2 كذا في الأصل. وفي ر: "النميري".
3 ر: "محرج".
خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهوازويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم
فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز1 في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس.
وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس:
سيكفيك عبس أخو كهمس ... مواقفة الأزد بالمربد
وتكفيك عمرو على رسلها ... لكيز بن أقصى وما عددوا
- لكيز هو عبد القيس -
وتكفيك بكراً إذا أقبلت ... بضرب يسيب له الأمرد
فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء.
ـــــــ
1 الاهواز: سبع كور بين البصرة وفارس.
خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهماولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك1، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا
ـــــــ
1 ر: س: "وأدللت".
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 1، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم. وقال: الدار دار كفر إلا من اظهر ايمانه, ولا يحل أكل ذبائحهم2, تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} 3، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 4. فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 5 وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 6، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 7.
ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان.
فلما تتابع8 نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم9 في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة10 والعرمة كالسكر11، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 12، وقل النابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر13 القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع.
ـــــــ
1 سورة نوح: 26 – 27.
2 س: "لا تحل".
3 سورة النساء 77.
4 سورة المائدة 54.
5 سورة آل عمران 28.
6 سورة غافر 28.
7 سورة النساء 95.
8 التتابع في الشر وهو التهافت عليه.
9 خضارم: اسم واد باليمامة.
10 العرمة: أرض صلبة تتاخم الدهناء.
11 السكر, بكسر فسكون: اسم لما سد به فم النهر.
12 سورة سبأ 16.
13 ر: "كفر".
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1. ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} 2. ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3, وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} 5، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافع:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول
ـــــــ
1 سورة التوبه 91.
2 سورة التوبة 91.
3 سورة الأنعام 164.
4 سورة النساء 95.
5 سورة لقمان 33.
فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله.
أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} 1. فقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. وقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} 4، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 6، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} 7، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق8، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به.
ـــــــ
1 سورة النساء 97.
2 سورة النساء 97.
3 سورة التوبة 81.
4 سورة التوبة 90.
5 سورة التوبة 90.
6 سورة نوح 27,26.
7 سورة القمر 43.
8 الطلق: الحلال.
كتاب نافع إلى ابن الزبيروكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره:
أما بعد، فإني أحذرك من الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 1. فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 2. وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف3 ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 4.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 30.
2 سورة آل عمران 28.
3 ر: "وكيف".
4 سورة المائدة 51.
كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرةوكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 1، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 2! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك
ـــــــ
1 سورررة التوبة 36.
2 سورة التوبة 41.
المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة2. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه3 ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4. والسلام على من اتبع الهدى.
فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق5 ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم6، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته.
وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم:
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 الحبرة: النعمة وسعة العيش.
3 تؤنقه: تعجبه.
4 سورة البقرة 197.
5 طلق: حلال.
6 ر: "فيها".
سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً:
فارقت نجدت والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب1
والصفرة الأذان الذين تخيروا ... ديناً بلا ثقة ولا بكتاب
- خفف الهمزة من الآذان ولو لا ذلك لانكسر الشعر -
وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج.
إلى ههنا انتهت المقالة.
ـــــــ
1 يعني بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد الثقفي.
مقتل نافع بالأهوازوتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد1، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة2 - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس3 بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار4، ذهب ولا فضة وإني
ـــــــ
1 يريد بالسواد أرض العراق وضياعه.
2 الببة في الأصل: كثرة اللحم وتراكبه. لقب به عبد الله بن الحارث, وكانت أمه ترقصه وتقول:
لأنكحن ببه ... جارية كالقبه
مكرمة محببه ... تحب أهل الكعبه
3 هو ميلم بن عبيس.
4 الأمتيار هنا: جلب الطعام.
لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب1 خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى2، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق.
وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً.
وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد3، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن4، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد
ـــــــ
1 دولاب: قرية بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ.
2 ر: "والقتلى".
3 الورد: لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شئ.
4 الجواشن: جمع جوشن, وهو الدرع.
أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه:
الله أيد عمراناً وطهره ... وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سراً وإعلاناً ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر
ولى صحابته عن حر ملحمة ... وشد عمران كالضرغامة الهصر
قول الربيع: "استشلتني"، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث "إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها"، قال رؤبة:
إن سليمان اشتلانا ابن علي
وقول الناس: "اشليت كلبي" أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته.
وقولها: "بيدي ملحادة" "مفعال" من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة.
و"غدر" "فعل" من الغدر، ول"فعل" باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة.
والضرغامة: من أسماء الأسد.
والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب "فعل".
لقطري في يوم دولابقال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري:
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم1
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جد لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان لعبد القيس أول جدها ... وأحلافها من يحصب وسليم2
وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى ... تعوم وظلنا في الجلاد نعوم3
فلم أر يوماً كان أكثر مقعصاً ... يمج دماً من فائظ وكليم4
وضاربة خدا كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب ودير حميم5
فلو شهدتنا يوم ذاك وخلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
قوله: "ولو شهدتنا يوم دولاب" فلم ينصرف "دولاب" فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير
ـــــــ
1 أم حكيم امرأة من الخوارج كانت مع قطري. وكانت من أجمل النساء وجها, وأحسنهم بدينهم تمسكا. كانت تحمل على الناس وترجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
2 يحصب بن مالك بن حمير, وسليم بن منصور. من قيس عيلان, وأصله مصغر وكبر للوزن.
3 في البيت إقواء.
4 المقعص: المطعون. والفائظ. من قولهم: فاظ الرجل إذا مات.
5 دير حميم: موضع بالأهواز.
الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب،" فوعال" مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب.
وقوله:
غداة طفت علماء بكر بن وائل
وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون "علماء بنو فلان" كما قال الفرزدق:
وما سبق القيسي من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء قلفة خالد
وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم.
وقال آخر نم الخوارج:
يرى من جاء ينظر من دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها1
وقال رجل منهم:
شمت ابن بدر والحوادث جمة ... والحائرون بنافع بن الأزرق
والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبحه نهاراً يطرق
فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يغلق
ـــــــ
1 دجيل: نهر بالأهواز.
نصب بعد "إن" لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب:
لا تجزعي إن منفساً أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال ذو الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر1
لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى.
ـــــــ
1 الوصل: واحد الأوصال, وهي المفاصل.
هذا باب فعل
اعلم أن كل اسم على مثال "فعل" مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال:
قد لفها الليل بسواق حطم
وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} 1.
فإن كان الاسم على "فعل" معدولاً عن "فاعل" لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث.
وإنما قالت: "بيدي ملحادة غدر" في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به "ملحادة" كما قال الحطيئة:
أجول ما أجول ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها "غدر" بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة "فعل" في المذكر، ولو سميت رجلاً "حطماً" لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة "صرد" في الأسماء.
ـــــــ
1 سورة البلد.
هذا
باب النسب إلى المضاف
النسب إلى العلم المضافاعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري.
قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي.
النسب إلى المضاف غير العلمفإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي.
النسب إلى الجماعةفأما قولهم: "صفري" فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا "صفراً" اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة.
فأما قولهم: "الأزارقة"، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة.
ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك.
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " " الصافات: 130 " ، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال:
قدني من نصر الخبيبيين قد
يريد أبا خبيب ومن معه.
وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره.
عاد القول في الخوارجقال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة.
الأزارقة وولاة البصرةويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا1 أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً.
ـــــــ
1 ر: "أهل العراق", بحذف النداء.
وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته1، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب2، وفيه يقول رجل من قومه3:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار
ألم تر أن للفتيان حظاً ... وحظك في البغايا والقمار
فكتب إليه القباع: تكفيني4 حربهم إن شاء الله.
فقام حارثة يدافعهم.
فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر:
مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان
فضحت قريشاً غثها وسمينها ... وقيل بنو تيم بن مرة عزلان5
فلولا ابن بدر لعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حام الحقيقة أومأت ... إليه معد بالأنوف وقحطان
قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله:
أرعد وأبرق يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر
وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله:
ـــــــ
1 ر: "أن يولية".
2 ر: "صاحب".
3 نسبه المرصفي إلى علقمة بن عبد المازني.
4 ر: "تكفي".
5 عزلان: جمع أعزل, وهو من لا سلاح معه.
أنبضوا معجس القسي وأبرقنا كما ترعد الفحول الفحولا1
وأنه لا يقال إلا "رعد وبرق" إذا أوعد وتهدد، وهو "يرعد ويبرق" وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر:
فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد
وروى غير الأصمعي "أرعد" وأبرق على ضعف.
وقوله: و"البرق اليماني خوان"، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن "يمني" ويجوز "يمان" بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز "يماني" فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب:
ضربناهم ضرب الأحامس غدوة ... بكل يماني إذا هز صمما2
ـــــــ
1 الإنباض: جذب الونر ليرن, ومعجس القوس: مقبضها, أو موضع السهم منها.
2 الأحامس: جمع أحمس, وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.
==============

===========
كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد
تولية المهلب لقتال الخوارج وأخباره معهمثم إن حارثة تفرق الناس عنه أقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب وأصحابه يركض، حتى أتى دجيلاً، فجلس في سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه، فكانوا معه، وأتاه رجل من بني تميم وعليه سلاحه، والخوارج وراءه وقد توسط حارثة، فصاح به: يا حارث؛ ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف، ولا فرضة هناك1.
فطفر2 بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعاً. وأقام ابن الماحوز يجبي كور الأهواز ثلاثة أشهر، ثم وجه الزبير بن علي نحو البصرة، فضج الناس إلى الأحنف، فأتى القباع فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزلاً، قال: فسموا رجلاً، فقال الأحنف: الرأي لا يخيل3، ما أرى لها إلا المهلب بن أبي صفرة،
ـــــــ
1 الجرف: ماأكله السيل من أسفل شقى الوادي والنهر. والفرضة: ثلمة في النهر يسقى منها.
2 طفر: وثب.
3 لا يخيل: لا يشتبه.
فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة! اجتمعوا إلي في غد. وجاء الزبير حتى نزل الفرات، وعقد الجسر ليعبر إلى ناحية البصرة، فخرج أكثر أهل البصرة إليه.
وقد اجتمع للخوارج أهل الأهواز وكورها، رغبة ورهبة، فأتاه البصريون في السفن وعلى الدواب ورجالة. فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما رآهم: أبى قومنا إلا كفراً، فقطع1 الجسر، وأقام الخوارج بالفرات بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً، وكانوا ثلاث فرق، فسمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، فصرفهم، ثم اختبر ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن ذلك2، وعاد إليه من أشار بهما وقالوا: قد رجعنا عن رأينا، ما نرى لها إلا المهلب، فوجه الحارث إليه فأتاه، فقال له: يا أبا سعيد، قد ترى ما رهقنا3 من هذا العدو، وقد اجتمع أهل مصرك عليك، وقال الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك بها ولكنا لم نر من يقوم مقامك. فقال الحارث - وأومأ إلى الأحنف - إن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثاراً للدين، وكل من في مصرك ماد عينه إليك، راج أن يكشف الله عز وجل هذه الغمة بك، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبياً ما دعوتم4 إليه، على شروط أشترطها. قال الأحنف: قل، قال: على أن أنتخب من أحببت، قال: ذاك لك، قال: ولي إمرة كل بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال: ولي فيء كل بلد أظفر به.
قال الأحنف: ليس ذاك لك ولا لنا، إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم، ولكن لك أن تعطي أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت، وتنفق "منه ما شئت5 "على محاربة عدوك، فما فضل عنكم كان للمسلمين. فقال المهلب: فمن لي بذلك? قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك، قال: قد قبلت.
ـــــــ
1 ر: "فقطعوا".
2 ر: "عن ذاك".
3 رهقنا: أتعبنا.
4 س: "مما دعوتم".
5 ساقطة من ر.
فكتبوا بذلك كتاباً ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، وانتخب المهلب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته اثني عشر ألفاً، ونظروا ما في بيت المال، فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت، فبعث المهلب إلى التجار: إن تجارتكم مذ حول قد كسدت، عليكم بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلم بايعوني واخرجوا معي أوفكم إن شاء الله حقوقكم، فتاجروه، فأخذ من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوة بالصوف.
ثم نهض وأكثر أصحابه رجالة، حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأحضرت وأصلحت، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها، ثم أمر الناس بالعبور إلى الفرات، وأمر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس، فلما قاربوا الشاطئ خاضت إليهم الخوارج، فحاربهم المغيرة ونضحهم1 بالسهام حتى تنحوا، فصار هو وأصحابه على الشاطئ، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم، حتى عقد المهلب الجسر، وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن اتباعهم. ففي ذلك يقول شاعر من الأزد:
إن العراق وأهله لم يخروا ... مثل المهلب في الحروب فسلموا
أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة ... وأقل تهليلاً إذا ما أحجموا
التهليل: التكذيب2 والانهزام.
وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، وكان من فرسان بني تميم وشجعانهم، فقال عطية:
يدعى رجال للعطاء وإنما ... يدعى عطية للطعان الأجرد
وقال الشاعر:
وما فارس إلا عطية فوقه ... إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
به هزم الله الأزارق بعدما ... أباحوا من المصرين حلاً ومحرما
فأقام المهلب أربعين يوماً يجبي الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلب التجار
ـــــــ
1 نضحهم بالسهام: رماهم بها.
2 قال المرصفي: "التكذيب: مصدر كذب في القتال إذا فر ونكس".
وأعطى أصحابه، فأسرع إليه الناس رغبة في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم، وللتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رياح ومعاوية بن قرة المربي - وكان يقول - يعني معاوية -: لو جاء الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية - وأبو عمران الجوني، وكان يقول: كان كعب يقول: قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أنوار.
ثم نهض المهلب إليهم إلى نهر تيرى، فتنحوا عنه إلى الأهواز، وأقام المهلب يجبي مال حواليه من الكور، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج، فإأتوه بأخبارهم ومن في عسكرهم، فإذا حشوة1 ؛ ما بين قصار وصباغ وداعر وحداد.
فخطب المهلب الناس، فذكر من هناك، وقال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم! فلم يزل مقيماً حتى فهمهم وأحكم أمره، وقوى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتام إليه زهاء عشرين ألفاً.
ثم مضى يؤم سوق الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، وفي مقدمته المغيرة بن المهلب، حتى قاربهم المغيرة، فناوشوه، فانكشف عنه بعض أصحابه، وثبت المغيرة بقية يومه وليلته، يوقد النيران، ثم غاداهم القتال، فإذا القوم قد أوقدوا النيران في ثقلة متاعهم، وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة، وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز، وكتب بذلك إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كتاباً يقول فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم". أما بعد: فإنا منذ خرجنا نؤم هذا العدو في نعم من الله متصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين، الذي من عنده النصر، وهو العزيز الحكيم.
فكتب إليه الحارث: هنيئاً لك أخا الأزد، الشرف في الدنيا، والذخر في الآخرة، إن شاء الله! فقال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز! أما ترونه عرف2 اسمي واسم أبي وكنيتي!
ـــــــ
1 حشوة الناس: رذالهم.
2 ر: "يعرف".
وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن، كما يبثهم في الخوف، ويذكي العيون في الأمصار، كما يذكيها في الصحارى، ويأمر أصحابه بالتحرز، ويخوفهم البيات1، وإن بعد منهم العدو، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا: هزمنا وغلبنا، فإن القوم خائفون وجعون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيباً فقال: يا أيها الناس؛ إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم. فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله، والمعصي المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعاً وقتلوا، فالقوهم بجد وحد، فإنما هم مهنتكم وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطأوا حريمكم.
ثم سار يريدهم، وهم بمناذر الصغرى، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلاً، فيهم صالح بن مخراق، إلى نهر تيرى، وبها المعارك بن أبي صفرة، فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيرى وقد خرج واقد منها، فاستنزله ودفنه، وسكن الناس، واستخلف بها، ورجع إلى أبيه وقد حل بسولاف2، والخوارج بها، فواقعهم، وجعل على بني تميم الحريش بن هلال، فخرج رجل من أصحاب المهلب، يقال له عبد الرحمن الإسكاف، فجعل يحض الناس وهو على فرس له صفراء، فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب، فيحض الناس ويهون أمر الخوارج، ويختال بين الصفين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحية?
فحمل جماعة منهم على الإسكاف، فقاتلهم وحده فارساً، ثم كبا به فرسه3، فقاتلهم راجلاً، قائماً وباركاً، ثم كثرت به الجراحات، فذبب بسيفه، وجعل يحثو
ـــــــ
1 البيات: الإيقاع بالقوم وهم غارون.
2 سولاف: قرية غربي دجيل.
3 كبا به الفرس: أي عثر.
التراب في وجوههم، والمهلب غير حاضر، ثم قتل رحمه الله، وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وعطية العنبري: أأسلمتما سيد أهل العسكر، لم تعيناه ولم تستنقذاه، حسداً له، لأنه رجل من الموالي! ووبخهما، وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه وقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتلوا سبعين رجلاً، وثبت المهلب، وأبلى المغيرة يومئذ وعرف مكانه، ويقال: حاص المهلب يومئذ حيصة1. وتقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أبارهم، فقال رجل من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعد بن مناة بن تميم:
بسولاف أضعت دماء قومي ... وطرت على مواشكة درور
قوله: مواشكة يريد سريعة، ويقال: نحن على وشك رحيل. ويقال: ذميل مواشك، إذا كان سريعاً، قال ذو الرمة:
إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظمي المواشك2
ودرور، فعول من در الشيء، إذا تتابع.
وقال رجل من بني تميم آخر:
تبعنا الأعور الكذاب طوعاً ... يزجي كل أربعة حمارا3
فيا ندمى على تركي عطائي ... معاينة وأطلبه ضمارا
إذا الرحمن يسر لي قفولاً ... فحرق في قرى سولاف نارا
قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب، ويقال: غارت عينه بسهم كان أصابها. وقال: الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: "كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد".
وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما أنت رجل، فخذل عنا، فإنما الحرب خدعة".
ـــــــ
1 حاص حيصة: أي جال جولة يطلب بها الفرار.
2 الشيظمي: الطويل الجسم.
3 يزجى: يسوق.
وقال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وهما سيدا الحيين، الخزرج والأوس: "إيتيا بني قريظة، فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحناً أعرفه. ولا تفتا في أعضاد المسلمين". فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقرة. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبشروا فإن الأمر ما تحبون"
قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما: عضل والقارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأرادا في الانحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين.
قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج. فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم:
أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول
فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصار في أربعة آلاف. فخطب أصحابه فقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن الضعف والطمع والطبع، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. فسيروا إلى عدوكم على بركة الله.
فقام إليه الحريش بن هلال فقال: أنشدك الله1 أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك! فإن بالقوم جراحاً وقد أثخنتهم هذه الجولة.
فقبل منه ومضى المهلب في عشرة، فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منهم أحداً يتحرك فقال الحريش: ارتحل عن هذا الموضع، فارتحل، فعبر دجيلاً، وصار إلى عاقول2 لا يؤتى إلا من وجه واحد. فأقام به وستراح الناس ثلاثاً، وقال ابن قيس الرقيات:
ـــــــ
1 أنشدك الله: أي أذكرك الله.
2 العاقول: الأرض لا يهتدى لها.
ألا طرقت من آل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاف حمته الأزارقه
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه
أجازت إلينا العسكرين كليهما ... فباتت لنا دون اللحاف معانقه
وقد ذكرنا الضمار ومعناه الغائب. وأصله من قولك: أضمرت الشيء أي أخفيته عنك، ويقال: مال عين، للحاضر. ومال ضمار، للغائب. قال الأعشى:
ومن تضيع له ذمة ... فيجعلها بعد عين ضمارا
وقال أيضاً:
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د تجفي وتقطع منا الرحم
والفعل من هذا أضمر يضمر، والمفعول به مضمر، والفاعل مضمر، والضمار، اسم للفعل في معنى الإضمار. وأسماء الأفعال تشرك المصادر في معانيها، تقول أعطيته عطاء، فيشر كالعطاء الإعطاء في معناه، ويسمى به المفعول. وتقول: كلمته تكليماً وكلاماً في معناه. والمصدر ينعت به الفاعل في قولك: رجل عدل، ورجل كرم، ورجل نوم، ويوم غم وغيم، وينعت به المفعول في قولك: رجل رضحاً، وهذا درهم ضرب الأمير، وجاءني الخلق، تعني المخلوقين.
وقال رجل من الخوارج في ذلك اليوم:
وكائن تركنا يوم سلاف منهم ... أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها
قوله: وكائن معناه كم وأصله كاف التشبيه دخلت على أي فصارتا بمنزلة كم، ونظير ذلك له كذا وكذا درهماً، إنما هي ذا دخلت عليها الكاف. والمعنى له كهذا العدد من الدراهم. فإذا قال له كذا كذا درهماً، فهو كناية عن
ـــــــ
1 ر: "بيبة": س: "مية".وما أثبته رواية الأصل.
أحد عشر درهماً إلى تسعة عشر، لأنه ضم العددين. فإذا قال: كذا وكذا، فهو كناية عن أحد وعشرين إلى ما جاز فيه العطف بعده. لكن كثرت كأي فخففت، والتثقيل الأصل، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} 1 {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} 2, وقد قرئ بالتخفيف. كما قال الشاعر:
وكائن رددنا عنكم من مدجج ... يجيء أمامك الألف يردي مقنعاً3
وقال آخر:
وكائن ترى يوم الغميصاء من فتى ... أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا4
قال أبو العباس: وهذا أكثر على ألسنتهم، لطلب التخفيف، وذلك الأصل، وبعض العرب يقلب فيقول: كيئ يا فتى. فيؤخر الهمزة لكثرة الاستعمال. قال الشاعر:
وكيئ في بني دودان منهم ... غداة الروع معروفاً كمي
قال أبو العباس: فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى وسلبرى.
قال الأخفش: سلى وسلبرى بفتح السين فيهما: موضعان بالأهواز، وسلى بكسر السين موضع بالبادية. وكذا ينشد هذا البيت:
كأن غديرهم بجنوب سلى ... نعام قاق في بلد قفار
فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدهم? فقال له وافد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة, فإن
ـــــــ
1 سورة الحج 48.
2 سورة آل عمران 146.
3 يردى: يعدو. والمقنع: المغطى بالسلاح.
4 الغميصاء: موضع بالبادية قرب مكة.
أصبتهم لم يكن ظفراً هنيئاً. لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا. فإن غلبوا ذهب الدين، فقال أصحابه، نافق وافد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم. فإنه إنما قال هذا نظراً لكم، ثم توجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم، فأتاهم في مائتين. فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس. حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبية صحيحة، فالتقوا بسلى وسلبرى فتصافوا. فخرج من الخوارج مائة فارس، فركزوا رماحهم بين الصفين واتكأوا عليها. وأخرج إليهم المهلب عدادهم، ففعلوا مثل ما فعلوا، لا يريمون إلا لصلاة حتى أمسوا، فرجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هذا ثلاثة أيام.
ثم إن الخوارج تطاردو لهم في اليوم الثالث، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة. ثم إن رجلاً من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه، فحمل الخوارج بأجمعهم، كما صنعوا يوم سولاف، فضعضعوا الناس، وفقد المهلب. وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم المهلب1 في مائة فارس، وقد انغمست كفاه في الدماء، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر2 محشوة قزاً، وقد تمزقت. وإن حشوها ليتطاير. وهو يلهث. وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحارهم إلى الليل. حتى كثر القتل في الفريقين.
فلما كان الغد غاداهم، وقد كان وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم بن الأزد يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده. فقال: إن الأمير أذن لي، فبعث إلى المهلب فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف، وقد تفرق أكثر الناس، فغاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلة، أيعجز أحدكم أن يرمي رمحه ثم يتقدم فيأخذه، ففعل لك رجل من كندة يقال له عياش، وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة. وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس وتصرع الراجل، ففعلوا. ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه. يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو. ففعل، حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا
ـــــــ
1 نجم: ظهر.
2 المغفر: ما يقي الرأس: وهو حلق يتقنع بها المسلح.
المهلب بسيدهم. وهو معاوية بن عمرو، فجعل يركله1 برجله وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير! أعفني من أم كيسان والركبة تسميها الأزد أم كيسان. ثم حمل المهلب وحملوا. فاقتتلوا قتالاً شديداً. فجهد الخوارج، فنادى مناديهم: ألا إن المهلب قد قتل! فركب المهلب برذوناً قصيراً أشهب، وأقبل يركض بن الصفين، وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر بها، وهو يصيح: أنا المهلب! فسكن الناس مع العصر، فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم، ففعل، وصاح بذكوان مولاه، قدم رايتك، ففعل. فقال له رجل من ولده: إنك تغرر بنفسك. فذمره2 ثم صاح: يا بني تميم، أآمركم فتعصونني! فتقدم وتقدم الناس، واجتلدوا أشد جلاد. حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز. وانصرف الخوارج، ولم يشعر المهلب بقتله. فقال لأصحابه: ابغوني رجلاً جلداً يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا: إنا لم نر رجلاً قط أشد منه، قطوف ومعه النيرا، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال: كافر ورب الكعبة! فأجهز عليه، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله.
وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان نصف الليل وجه رجلاً من اليحمد.
[قال الأخفش: اليحمد من الأزد، والخليل من بطن منهم، يقال لهم الفراهيد. والفرهود في الأصل الحمل. فإن نسبت إلى الحي قلت: "فراهيدي"، وإن نسبت إلى الحملان قلت: "فرهودي" لا غير].
في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج. فإذا القوم قد تحملوا إلى أرجان. فرجع إلى المهلب فأعلمه. فقال: أنا لهم الساعة أشد خوفاً، فاحذروا البيات.
قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوماً: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات. فإن كان ذلك
ـــــــ
1 الركل: الرفس بالرجل.
2 فذمره: حضه.
فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون. فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بها ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
فلما أصبح المهلب غدا على القتلى، فأصاب ابن الماحوز فيهم.
ففي ذلك يقول رجل من الخوارج:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وجرحى لم توسد خدودها
وقال آخر:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وعقرى من كميت ومن ورد1
وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت بحجر واحد ثلاثة. رميت به رجلاً فأصبت أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر فضربت به آخر على هامته فصرعته، ثم صرعت به ثالثاً.
وقال رجل من الخوارج:
أتانا بأحجار ليقتلنا بها ... وهل تقتل الأبطال ويحك، بالحجر!
وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز:
ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم ... منا صواعق ما تبقي ولا تذرد
حتى تركنا عبيد الله منجدلاً ... كما تجدل جذع مال منقعر
قال أبو العباس: تقول العرب: صاعقة وصواعق. وهو مذهب أهل الحجاز، وبه نزل القرآن، وبنو تميم يقولون: صاقعة وصواقع.
والمنقعر: المنقلع من أصله. قال الله أصدق القائلين: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} 2.
ـــــــ
1 نسبه ابن بري إلى أبي المقدام بيهس بن صهيب بن عامر الجرمي, وهو فارس شاعر كان مع المهلب في هذه الحرب, وله مواقف مشهورة وبلاء حسن. وعقري: جمع عقير, بمعنى معقور, من عقر الفرس, إذا قطع قوائمه. "رغبة الأمل".
2 سورة القمر 20.
ويورى أن رجلاً من الخوراج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله بمثلك المسلمين! فضحك الخارجي وقال:
أمك خير لك مني صاحبا ... تسقيك محضاً وتعل رائبا
وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس سرجه، وحمل من تحتها فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، حتى تخرمت الميمنة من أجله. وكان أشد ما تكون الحرب أشد ما يكون تبسماً، فكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشر في وجهه.
وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم:
فإن تلك قتلى يوم سلى تتابعت ... فكم غادرت أسيافنا من قماقم!1
غداة نكر المشرفية فيهم ... بسولاف يوم المأزق المتلاحم
المأزق: هو يوم تضايق الحرب. والمتلاحم: نعت له. والمشرفية: السيوف. نسبت إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب موته الذي قتل به جعفر بن أبي طالب وأصحابه.
[قال الأخفش: كان المبرد لا يهمز "مؤتة". ولم أسمعها من علمائنا إلا بالهمز].
قال أبو العباس: فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع.
ـــــــ
1 القماقم: السيد الكثير الخير الواسع الفضل.
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنا لقينا لأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر، بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد. فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة رماحنا، وضرائب سيوفنا1. وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، ارجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام.
وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام، وقولوا له: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف. فلما لم يره قال لأصحابه: أما كتب إلينا? فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه. فقال: هذه أحب إلي من هذه الكتب.
واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بني سليط بن يربوع. من رهط ابن الماحوز. فرأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً. فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف. وقد أصبتم فيهم2 مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر. وأشجيتم المهلب. وقتلتم
ـــــــ
1 الدرئة: الحلقة يتعلم فيها الرمي والطعن, والضرائب جمع ضريبة. وهي كل ما ضربت بسيفك.
2 ر: "منهم".
أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 1، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين.
ثم تحمل لمحاربة المهلب، فنفحهم2 المهلب نفحة، فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض3، يقرب من عسكره، مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوماً يطوف بعسكره ويتفقد سواده، فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كميناً. فبعث عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة. فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا، وكسفت الشمس، فصاحوا بهم: يا أعداء الله! لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعاً إلى أرجان، وقد جمع جموعاً. وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعاً، فلا ترهبوهم فتخبث قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان فألفوه مستعداً آخذاً بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهوراً بيناً. ففي ذلك يقول رجل من بني تميم، أحسبه من بني رياح بن يربوع:
سقى الله المهلب كل غيث ... من الوسمي ينتحر انتحارا4
فما وهن المهلب يوم جاءت ... عوابس خيلهم تبغي الغوارا
وقال المهلب يومئذ: ما وقعت في أمر ضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق5. وكانوا صبروا معه في غير موطن.
ـــــــ
1 سورة ىل عمران 140.
2 فنفحهم: دفعهم.
3 الغموض: جمع غمض, وهو المطمئن من الأرض.
4 ينتحر انتحارا, كذا تقول العرب للسحاب إذا أنبعق بماء كثير, قال الراعي:
فمر على منازلهم وألقى ... بها الأثقال وانتحر انتحارا
5 العقاعق: جمع عقعق, وهو طائر ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب.
وقال رجل من بني تميم، من بني عبشمس بن سعد:
ألا يا من لصب مستحن1 ... قريح القلب قد صحب المزونا
لهان على المهلب ما لقينا ... إذا ما راح مسروراً بطينا
يجر السابري ونحن شعث ... كأن جلودنا كسيت طحينا2
المزون: عمان. وهو اسم من أسمائها، قال الكميت:
فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
وقال جرير:
واطفأت نيران المزن وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا
وحمل يومئذ الحريش بن هلال على قيس الإكاف، وكان قيس من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدق صلبه. وقال:
قيس الإكاف غداة الروع يعلمني ... ثبت المقام إذا لاقيت أقراني
وقد كان فل المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة. ذكروا أن المهلب أصيب، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره. فأقام الناس، وتراجع من كان ذهب منهم. فعند ذلك يقول الأحنف بن قيس: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يقال له فلان بن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: رأيت رجلاً من الخوارج وقد مكن رمحه من صلبه. فقدم المنعي، فقيل له ذلك. فقال: صدق ابن أرقم، لما أحسسن برمحه بين كتفي صحت: البقية! فرفعه عني، وتلا: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.
ـــــــ
1 مستحسن: من الحنين.
2 الثوب السابري: الرقيق.
3 سورة هود 86.
ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأي عبيد الله بن بشير بن الماحو إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع. فلما صار بكربج1 دينار لقيه حبيب وعبد الملك وعلي، بنو بشير بن الماحوز، فقالوا له: ما الخبر? ولا يعرفهم. فقال: قتل الله المارق ابن الماحوز، وهذا رأسه معي. فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا الرأس، فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا? فخبر فقتله. ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول، وكانت زين بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها.
ـــــــ
1 موضع قريب من الأهواز.
توليه مصعب بن الزبير على البصرة واستقدامه للمهلبفلم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع، حتى عزل الحارث وولي مصعب بن الزبير، فكتب إليه أن أقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، ففعل، فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبراً وتبجيلاً، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صواباً قط إلاسبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب. وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته. وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليتك، فشمر واتزر وجد واجتهد.
ثم شخص المصعب إلى المذار1 فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد. وقال للمهلب: أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك فقال: أذكر لك واحداً من ثلاثة: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي. أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي. أو داود بن قحذم. فقال: أو تكفيني? قال: أكفيك إن شاء الله. فولاه الموصل. فشخص المهلب إليها.
ـــــــ
1 المذار: بلد في ميسان بين واسط والبصرة, وهي قصبة ميسان بينها وبين البصرة اربعة ايام.
مشاورة مصعب الناس فيمن يكفيه أمر الخوارجوصار مصعب إلى البصرة، فسأل: من يستكفي أمر الخوارج وفد إلى أخيه? فشاور الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم.
وبلغت المشورة الخوارج. فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره؛ وإن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه لا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر1 والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم.
فولى عليهم عمر بن عبيد الله. وولاه فارس، والخوارج بأرجان، وعليهم الزبير بن علي السليطي. فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعباً ولى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها.
فجمعوا له وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور، فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ. فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت? قال: قد سلم الله عز وجل، ولم
ـــــــ
1 المبر: الغالب.
يكونوا يطمعون من المهلب مثلها. فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا لعدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيراً.
ثم زحف الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرة. فكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها، ثم عبروا، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل فقال قطري: لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور. ولم يعلم عمر بقتل ابنه؛ حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد، فصاح به: يا نعما، أين ابني? فقال: احسبه "أيها الأمير"1 فقد استشهد رحمه الله صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها. وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً من الخوارج، فلما استقروا قال لهم قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف! فجعلوه وجوههم حتى خرجوا من فارس.
وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره، وأراد قتله، فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له:
وشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي2 ... إلى قطري ذي الجبين المفلق
وحاججتهم في دينهم وحججتهم3 ... وما دينهم غير الهوى والتخلق
ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا.
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 ألجوا: أصله ألجئوا.
3 حاججتهم: نازعتهم.
قال الأخفش: تكانفوا أعان بعضهم بعضاً واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض.
وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر، وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة. فرزق الله عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة. ورزقنا عليهم الظفر. فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة، فيممتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل.
فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعيد، فالتقوا، فألح عليهم حتى أخرجهم. وانفرد عمر1 من أصحابه. فعمد له أربعة عشر رجلاً منهم، من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلاً منهم ضرة إلا صرعه. فركض إليه قطري على فرس طمرة2. وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة! إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري عن قربوسه. فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط عنه جلده ونجا.
ارتحل القوم إلى أصبهان فأقاموا بها3 برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر، فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعاً، فقال له4: كم جبيت? قال: تسعمائة ألف. فقال: هي لك. فقال يزيد بن الحكم الثقفي لمجاعة:
ودعاك دعوة مرهق فأجبته5 ... عمر وقد نسي الحياة وضاعا
فرججت عادية الكتيبة عن فتى6 ... قد كاد يترك لحمه أوزاعا7
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 ر: "طمر". والطمرة: الطويلة الخفيفة القوائم.
3 ساقطة من ر.
4 ساقطة من ر.
5 المرهق: الذي ادرك ليقتل.
6 العادية: الخيل تعدو.
7 أوزاعا: قطعا.
وعزل مصعب بن الزبير وولي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجه المهلب إليهم، فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم رد مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك شيئاً يجبون القرى. ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يحاربك! والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك، وخرج مصعب من البصرة يريدهم. وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم. فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا المدائن، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، ففي ذلك يقول الشاعر:
تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ ... بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها، وواليها الحارث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخروج وكان جباناً. فذمره1 إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر:
إن القباع سار سيراً نكرا ... يسير يوماً ويقيم شهرا
وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج. والخوارج يفشون2، حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها. وكانت جميلة، ثما أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها، ثم قربوا أخرى، وهم بحذاء القباع والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع، وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقول3: علام تقتلونني? فوالله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت! والناس يتفلتون إلى الخوارج، والقباع يمنعهم، فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر، فأقام بين دباها ودبيرى4 خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غداً فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح،
ـــــــ
1 الذمر: الحض.
2 ر: "يعيثون".س: يعبثون.
3 ر: "وتقول".
4 دباها ودبيري: قربتان من قرى بغداد.
ثم السلة1، فثكلت رجلاً أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل? وقال الراجز:
إن القباع سار سيرا ملسا ... بين دباها ودبيرى خمساً2
فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وصاروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق3 سواء.
وإنما سمي الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة القباع، لأنه ولي البصرة فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرآة العين وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه، يقال: انقبع الرجل، إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع، وذلك أنه يخنس رأسه.
قال أبو العباس: وأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا منه بكبير، فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها.
وشاور المصعب الناس فيهم4، فاجتمع5 رأيهم على المهلب، فبلغ الخوارج مشاورته6، فقال لهم القطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب7 ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء اللازم، والمكروه الدائم.
وعزم المصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك، فلما أحس به الزبير بن علي خرج إلى الري، وبها يزيد بن الحارث بن رؤيم. فحاربه
ـــــــ
1 السلة: استلال السيوف.
2 الملس: السير الشد.
3: "من الحق".
4 ساقطة من ر.
5 ر: "فأجتمع".
6 ر: "مشورته"
7 المقنب: جماعة الخيل.
ثم حصره. فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن رؤيم، ونادى يومئذ ابنه حوشباً ففر عنه وعن أمه لطيفة، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رؤيم يعود ابنه يزيد، فقال له: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ. وفي ذلك يقول الشاعر:
مواقفنا في كل يوم كريهة ... أسر وأشفى من مواقف حوشب
دعاه يزيد والرماح شوارع ... فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
ولو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى. وقال آخر:
نجى حليلته وأسلم شيخه ... نضب الأسنة حوشب بن يزيد
وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف ابن عمر: يا ابن حوراء. فقال بلال وكان جلداً: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة.
وزعم الكلبي أن بلالاً كان جلداً حين ابتلي1 قال الكلبي:
ويعجبني أن أرى الأسير جلداً قال وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف بن عمر: الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للعصبية فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن علي: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب. وإنما جرى إلى هذا، لأنه يقال إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وإنهم أشابة2 دخلت في بني منقر من الروم.
ثم انحط الزبير بن علي على أصبهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن. فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون? والله ما تؤتون من قلة، وإنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم
ـــــــ
1 ر: "حيث ابتلي".
2 الأشابة: الأخلاط من الناس ليس أصلهم واحدا. كالأوباش والاوشاب قاله المرصفي.
مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد، صلى بهم الصبح، ثم خرج بهم1 إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوا بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقاً كثيراً وقتلوا الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر:
ويوم بجي تلافيته ... ولولاك لاصطلم العسكر2
- قال أبو العباس: نفسر قول: ولولاك في آخر هذا الخبر إن شاء الله - وقال رجل من بني ضبة في تلك الوقعة:
خرجت من المدينة مستميتاً ... ولم أك في كتيبة ياسمينا
أليس من الفضائل أن قومي ... عدوا مستلمين مجاهدينا
وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة لغير حرب3، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن علي:
يا ابن أبي الماحور والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار!
شد أبي هريرة الهرار ... يهركم بالليل والنهار4
ألم تروا جياً على المضمار ... تمسي من الرحمن في جوار5
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الصلم في الاصل. قطع الاذن.
3 ر: "بغير حرب".
4 أصل الهرير في الكلب والذئب, إذا كشر كل منهما عن نابه, واستعمل في الرجل تجاوزا.
5 المضمار: الغاية.
فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا توافقوا نادوهم: ما فعل الهرار? فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأساً! فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية، في النار الحامية.
قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح. من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جياً ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار.
أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالإبتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي1
النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه.
فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفاً? وإن كان هذا جائزاً فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 2. ومن خالفنا "فهو لا بد"3 يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده.
وأما جي فالأجود فيها أن تقول:
ألم تروا جي على المضمار
فلا تنون، لأنها مدينة، والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف ينصرف إذا كان مؤنثاً، وإن كان أوسطه سكاناً، نحو جور وحمص وماه4. وما كن مثل ذلك، ولو كان اسماً لمذكر لانصرف، فإن صرفته
ـــــــ
1 منهوي: ساقط.
2 سورة سبأ 31.
3 ساقط من ر.
4 ساقطة من ر.
جعلته اسماً لبلد، وإن لم تصرفه جعلته اسماً لبلدة أو لمدينة، ألا ترى أنك تصرف نوحاً ولوطاً، وهما أعجميان? وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدماً لو سميت بها1 رجلاً، فالأعجمي بمنزلة المؤنث، لأن امتناعها واحد.
وأما قوله: يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف وكان متعدياً، فإن المضارع منه على يفعل، نحو شده يشده، وزره يزره، ورده يرده، وحله يحله وجاء منه حرفان على يفعل، ويفعل، فيهما جيد: هره يهره، إذا كرهه، يهره أجود، وعله بالحناء يعله، ويعله أجود. ومن قال: حبته قال: يحبه لا غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. وذلك أن بني تميم تدغم في موضع الجزم، وتحرك أواخره لالتقاء الساكنين.
ـــــــ
1 ر: "به".
2 سورة آل عمران 31.وهي قراءة شاذة. وقرأها الأربعة عشر: "يحببكم" بفك الإدغام.
ولاية قطري بن الفجاءة على الخوارج ومبايعتهم لهرجع الحديث: قال أبو العباس: ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم، فأرادوا تولية عبيد بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير مني! من يطاعن في قبل، ويحمي في دبر، عليكم قطري بن الفجاءة المازني. فبايعوه، فوقف بهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمض بنا إلى فارس، فقال: إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر، لكن نصير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب بن الزبير من البصرة دخلناها. فأوا الأهواز، ثم ترفعوا عنها إلى إيذج1 وكان المصعب2 قد عزم على الخروج إلى باجميرا3، فقال لأصحابه: إن قطرياً قد أطل علينا، وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به القطري، يمم4 كرمان، فأقام المهلب بالأهواز، ثم كر قطري عليه وقد استعد، فكان الخوارج في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجنن، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز.
وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة هو الذي تولى قتله وحاص إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان:
ـــــــ
1 إيذج: بالمد بين خوزستان واصبهان.
2 ر: "مصعب".
3 باجميرا: بلد دون تكريت.
4 ر: "تبسم".
إن المكارم أكملت أسبابها ... لابن الليوث الغر من قحطان
لفارس الحامي الحقيقة معلماً ... زاد الرفاق إلى قرى نجران1
الحارث بن عميرة الليث الذي ... يحمي العراق إلى قرى كرمان
ود الأزارق لو يصاب بطعنة ... ويموت من فرسانهم مائتان
وتأويله: أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما قال جرير وأراد ابن له سفراً، وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زودني فقال جرير:
أزاداً سوى يحيى تريد وصاحباً ... ألا إن يحيى نعم زاد المسافر
فما تنكر الكوماء ضربة سيفه ... إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر2
وقوله: ويموت من فرسانهم يكون على وجهين: مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على العطف، ويدخل في التمني. والنصب على الشرط والخروج من العطف، وفي مصحف ابن مسعود: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} والقراءة {فَيُدْهِنُونَ}3 على العطف. وفي الكلام: ود لو تأتيه فتحدثه، وإن شئت نصبت الثاني.
قال أبو العباس: وخرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب? قالوا: إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشأم فاجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب? قالوا: لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله! بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا، عليكم لعنة الله!
وولي خالد بن عبد الله بن أسيد، فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب، فأشير عليه بألا يفعل، وقيل له: إنما أمن أهل هذا المصر، بأن المهلب بالأهواز،
ـــــــ
1 زيادات ر: ويروى.
زاد الرفاق وفارس الفرسان
2 أرملوا: نفد زادهم.
3 سورة القلم 9.
وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة من الأزارقة1. فأبى إلا عزله، فقدم المهلب البصرة، وخرج خالد إلى الأهواز، فأشخصه، فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله، وحاربه ثلاثين يوماً. ثم أقام قطري بإزائه، وخندق على نفسه، فقال المهلب: إن قطريا ً ليس بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلاً إلى شق نهر تيرى، واتبعه قطري، فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها وخندق عليها، فقال المهلب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا آمن عليك البيات، فقال: يا أبا سعيد، الأمر أعجل من ذلك، فقال المهلب لبعض ولده: إني أرى أمراً ضائعاً، ثم قال لزياد بن عمرو: خندق علينا، فخندق المهلب وأمر بسفنه ففرغت، وأبى خالد أن يفرغ سفنه، فقال المهلب لفيروز حصين: صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، الحزم ما تقول، غير أني أكره أن أفارق أصحابي. قال: فكن بقربنا، قال: أما هذه فنعم.
وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً بجيش كثيف، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن، فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوماً، فقال المهلب لمولى لأبي عيينة: انتبذ إلى ذلك الناووس2 فبت عليه في كل ليلة، فمتى أحسست خبراً من الخوارج أو حركة أو صهيل خيل فاعجل إلينا. فجاء ليلة فقال: قد تحرك القوم. فجلس المهلب بباب الخندق، وأعد قطري سفناً فيها حطب فأشعلها ناراً، وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم. فجعل لا يمر برجل إلى قتله، ولا بدابة إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه. فأمر المهلب يزيد ابنه3 فخرج في مائة فارس، فقاتل وأبلى يومئذ، وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأبلى بلاء حسناً؛ وخرج فيروز حصين في مواليه، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، فصرع يزيد بن المهلب يومئذ، وصرع عبد الرحمن، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز حصين في
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الناووس: مقابر النصارى.
3 ساقطة من ر.
الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه، فوهب له فيروز حصين عشرة آلاف درهم، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو صريعاً، فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدن نفتضح، فقال خندق على نفسك، فإلا تفعل عادوا إليك؛ فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس1، فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم. وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر، لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم، فقال أعشى همدان لابن الأشعث في كلمة طويلة:
ويوم أهوازك لا تنسه ... ليس الثنا والذكر بالداثر2
وقد ذكرنا في قصر المدود، من أن مد المقصور لا يجوز، ما يغني عن إعادته.
ـــــــ
1 الأحماس. جمع حمس "بضم فسكون".جمع الاحمس, وهم الشجعان المتشددون في القتال.
2 في الديوان 34: بالباد.
فيروز حصين وبعض أخبارهونذكر فيروز حصين لما مر من ذكره: وكان فيروز حصين رجلاً جيد البيت في العجم، كريم المحتد، مشهر الآباء، فلما أسلم والي حصيناً، وهو حصين بن عبد الله العنبري، من بني العنبر بن تميم بن مر، ثم من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز حصين شجاعاً جواداً، نبيل الصورة، جهير الصوت، وتروي الرواة أن رجلاً من العرب كانت أمه فتاة، فقاول بني عم له. فسبوه بالعجمية، ومر فيروز حصين، فقال: هذا خالي، فمن منكم له خال مثله? وظن الفتى1 أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى، فاشترى له منزلاً وجارية، ووهب له عشرة آلاف درهم.
ومن مآثره المعروفة أن الحجاج بن يوسف لما واقف ابن الأشعث برستقاباذ نادى منادي الحجاج: من أتى برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم. ففصل فيروز من الصف، فصاح بالناس: من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي، من أتى برأس الحجاج فله مائة ألف، فقال الحجاج، فوالله1 لقد تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتى به الحجاج فقال له: أأنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم2 ? قال: قد فعلت، فقال: والله لأمهدنك3 ثم لأحملنك؛ أين المال? قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل? قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرق علي! ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحل الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه، وتصدق بماله، ثم رد إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشد في القصب الفارسي، ثم سل حتى شرح، ثم نضح بالخل والملح، فما تأوه حتى مات.
قال أبو العباس: ومضى قطري إلى كرمان، فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهراً، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلاً، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة، فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفاً، والخوارج بدراب جرد، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب، فسيعلمون! قال صعب بن زيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس حاجب المهلب فقال: أجب الأمير، فجئت إلى المهلب وهو في سطح وعليه ثياب هروية، فقال: يا صعب، أنا ضائع، كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً م قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً به إلي، فوجهت رجلاً يقال له عمران بن فلان، فقلت: اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إلي بخبر يوم يوم، أورده على المهلب.
فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا يوم صالح، فينبغي أن تنزل4 - أيها الأمير - حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب،
ـــــــ
1 ر: والله.
2 ساقطة من ر.
3 لأمهدانك.من مهدت الفراش مهدا. بسطة ووطأته. يريد لأجعلنك طريحا كالفراش الممهود. قاله المرصفي.
4 ر: "تترك".
فنزل الناس على غير أمره، فلم يستتم النزول حتى ورد عليهم سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود. فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة، فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم. والناس ينهونه، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي، الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع القيسي وعلى شرطته رجلاً من بني ضبيعة بن نزار، فنزلوا عن العقبة ونزل خلفهم، وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين. وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق فقتل، وقتل مقاتل بن مسمع، وقتل الضبعي1 صاحب الشرطة، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج على فرسخين يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد خرج معه بأم حفص ابنة المنذر بن الجارود امرأته. فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه.
وقال رجل حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بأسيافهم وما تحيك في جنته2.
يقال ما أحاك فيه السف، وما يحيك فيه، وما حك ذا الأمر في صدري، وما حكى في صدري، وما احتكى في صدري. ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك؛ إذا تبختر.
ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً، وذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج، ففرض لكل واحد منهم خمسمائة، فكاد يأخذها، فشق ذلك على قطري وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً، إن هذه لفتنة3، فوثب إليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتي به قطري فقال له4: يا أبا الحديد، مهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين قد تزايدوا في هذه المشركة، فخشيت عليهم الفتنة. فقال قطري: قد أصبت وأحسنت! فقال رجل من الخوارج:
ـــــــ
1 ر"الضبيعي".
2 ر: "جسده".
3 ر. "فتنة".
4 ساقطة من ر.
كفانا فتنة عظمت وجلت ... بحمد الله سيف أبي الحديد
أهاب المسلمون بها وقالوا ... على فرط الهوى: هل من مزيد?
فزاد أبو الحديد بنصل سيف ... رقيق الحد فعل فتى رشيد
قوله: أهاب يريد أعلن، يقال أهبت به، إذا دعوته، مثل صوت، قال الشاعر:
أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب
وقوله: مهيم حرف استفهام1، معناه: ما الخبر وما الأمر، فهو دال على ذلك محذوف الخبر، وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بعبد الرحمن بن عوف ردع خلوق2 فقال: "مهيم"! فقال: تزوجت يا رسول الله، فقال: "أولم ولو بشاة"، وكان تزوج على نواة، وأصحاب الحديث يروونه على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم. وهذا خطأ وغلط. العرب تقول نواة فتعني بها خمسة دراهم، كما تقول: النش لعشرين درهماً، والأوقية لأربعين درهماً، فإنما هو اسم لهذا المعنى.
وكان العلاء بن مطرف السعدي ابن عمر عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في تلك الحروب مبارزة، فلحقه عمرو القنا وهو منهزم، فضحك عمرو وقال متمثلاً:
تمناني ليلقاني لقيط ... أعام لك ابن صعصعة بن سعد
ثم صاح به: انج أبا المصدى! وكان عمرو القنا يكنى أيضاً أبا المصدى.
وهذا البيت الذي تمثل به عمرو ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، يقوله يعني لقيط بن زرارة، وكان يطلبه. وقوله: "أعام لك" يريد يا عامر، فرخم، وإنما يريد الحي تعجباً، أي لكم أعجب من تمنيه للقائي! فدعا بني عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ياقل إن عامر بن صعصعة هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، لا ابن
ـــــــ
1 قال المرصفي: يريد كلمة "استفهام" هي مبتدأ محذوف الخبر.
2 الخلوق: الطيب.
معاوية، وإنهم ناقلة1 في قيس، ولذلك امتنعت2 بنو سعد من محاربتهم مع بني تميم يوم جبلة، ولذلك أنذرهم كرب بن صفوان.
وهذا البيت وضعه سيبويه في باب النداء الذي معناه معنى التعجب، وشبيه به قول الصلتان العبدي:
فيا شاعرا ًلا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن كليب تواضع
على معنى قوله: فلله دره شاعراً! وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين له، إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، وهي فلانة بنت عقيل، فطلق الضبية وتخلص بهما يومئذ، وحمل الضبية أولاً. ففي ذلك يقول:
ألست كريماً إذ أقول لفتيتي ... قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
ولو لم يكن عودي نضاراً لأصبحت ... تجر على المتنين أم جميل3
قال الصعب بن يزيد: بعثني المهلب لآتيه بالخبر، فضربت4 إلى قنطرة أربك5 على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم، فلم أحسس خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت، فلما أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم6، فقلت: ما وراءك? فقال: الشر، فقلت: فأين عبد العزيز? قال: أمامك، فلما كان من آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارساً معهم لواء، فقلت، لواء7 من هذا? فقالوا: هذا لواء عبد العزيز؛ فتقدمت إليه، فسلمت وقلت: أصلح الله الأمير! لا يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه. قال لي: أو كنت معنا? قلت: لا، ولكن كأني شاهد أمرك، قال: كأنك كنت معنا، قلت: أرسلني المهلب لآتيه بخبرك. ثم تركته وأقبلت إلى المهلب، فقال لي: ما وراءك? قلت ما يسرك، قد
ـــــــ
1 الناقلة: القبيلة تنتمي إلى أخرى.
2 ر: "تمنعت".
3 ر: "تخر".
4 ر: "قصرت".
5 أربك إحدى قرى خوزسنان.
6 الجهاضم: يريد بني جهضم بن عوف بن مالك.
7 ساقطة من ر.
هزم عبد العزيز1 وقل جيشه. فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وقل جيش المسلمين! قلت: قد كان ساءك أو سرك، فوجه رجلاً إلى خالد يخبره. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً قال: كذبت ولؤمت. ودخل رجل من قريش فكذبني. وقال لي خالد: والله لهممت أن أضرب عنقك. قلت: أصلح الله الأمير! إن كنت كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً مطرف هذا المتكلف. فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل بعض الفل.
وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على خالد، واستخلف ابنه حبيباً، وقال له: تحسس عن الأخبار، فإن أحسست بخبر الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى، فلما دخلها أعلم خالد، فغضب عليه، واستتر حبيب في بني هلال بن عامر بن صعصعة. فتزوج هناك في استتاره الهلالية أم عباد بن حبيب.
وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه، أي يخطئه:
بعثت غلاماً من قريش فروقة2 ... وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا
أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت ... قواه وقد ساس الأمور وجربا
وقال الحارث بن خالد المخزومي:
فر عبد العزيز لما رأى الأب ... طال بالسفح نازلوا قطريا
ويروى:
فر عبد العزيز إذ راء عيسى ... وابن داود نازلاً قطريا
عاهد الله إن نجا ملمنايا ... ليعودن بعدها حرميا
يسكن الخل والصفاح فمرا ... ن وسلعا وتارة نجديا
حيث لا يشهد القتال ولا يس ... مع يوماً لكر خيل دويا
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الفروقة: الشديد الفزع.
قوله: إذ راء عيسى، الأصل رأى ولكنه قلب فقدم الألف وأخر الهمزة، كما قال كثير:
وكل خليل راءني فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد
والقلب كثير في كلام العرب، وسنذكر منه شيئاً في موضعه إن شاء الله.
وقوله: ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام، فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما، ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة، فيقولون في بني الحارث وبني العنبر وما أشبه ذلك: بلحارث وبلعنبر وبلهجيم كما يقولون: علماء بنو فلان فحذفون إحدى اللامين.
وقوله: ليعودن بعدها حرميا العرب تنسب إلى الحرم فيقولون حرمي وحرمي على قولهم حرمة البيت وحرمة البيت، وقال النابغة الذبياني:
من قول حرمية قالت وقد رحلوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما1
والخل: ها هنا موضع، وأصله الطريق في الرمل.
وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى عبد الملك صانعاً بي? قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي? قال: نعم، قد2 أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين، وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس! قال أبو العباس: فكتب عبد الملك إلى خالد3:
أما بعد، فإني كنت حددت لك حداً في أمر المهلب، فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي واستبددت برأيك، فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك حرب الأزارقة، فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الحروب للحرب4، وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب تشغله بالجباية،!
ـــــــ
1 المحف: الخفيف المتاع.
2 ساقطة من ر.
3 في س بعدها: "بسم الله الرحمن الرحيم". ولم تذكر في الأصل. ر.
4 ساقطة من ر.
أما لو كافأتك على قدر ذبنك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه، ولكن تذكرت رحمك فلفتني عنك، وقد جعلت عقوبتك عزلك.
وولى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالداً لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية، فانظر المهلب بن أبي صفرة، فوله حرب الأزارقة، فإنه سيد بطل مجرب، فأمدده1 من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل.
فشق عليه ما أمره به2 في المهلب، وقال: والله لأقتلنه، فقاله له موسى بن نصير3: أيها الأمير3، إن للمهلب حفاظاً وبلاء ووفاء.
وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى وعكرمة إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به. فتلقاه المهلب على بغل، فسلم عليه في خمار الناس، فلما جلس بشر مجلسه قال: ما فعل أميركم المهلب? قالوا: قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك.
فهم بشر أو يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله، فقال أسماء بن خارجة: إنما ولاك أمير المؤمنين لنرى رأيك. فقال له عكرمة ابن ربعي: اكتب إلى أمير المؤمنين وأعلمه علة المهلب. فكتب إليه يعلمه علة المهلب وأن بالبصرة من يغني غناءه، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكم المجاشعي، فلما قرأ الكتاب خلا بعبد الله بن حكيم فقال: إن لك ديناً ورأياً وحزماً، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة? قال: المهلب. قال: إنه عليل. قال: ليست علته بمانعة4، فقال عبد الملك: أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد.
فكتب 5إلى بشر5 يعزم عليه أن يولي المهلب، فوجه إليه. قال المهلب: أنا عليل ولا يمكنني الإختلاف، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فاعترض بشر عله، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم6 ألا يقيم بعد ثالثة، وقد
ـــــــ
1 أمدده: أعنه.
2 ساقطة من ر.
3 ساقطة من ر.
4 ر: "بمانعته".
5 ساقطة من ر.
6 ساقطة من ر.
أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم وصاروا بالفرات، فخرج إليهم المهلب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بني تميم، فقال: أصلح الله الأمير! إن سني ما ترى، فهبني لعيالي قال: على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد، كيف تحثنا على الجهاد وأنت تحبس أشرافنا وأهل النجدة منا? ففعل الشيخ ذلك، فقال بشر: وما1 أنت وذاك? قال: لا شيء، وأعطى المهلب رجلاً ألف درهم على أن يأتي بشراً فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرط والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك، فقال له بشر: ما أنت وذاك? قال نصيحة حضرتني2 للأمير والمسلمين، ولا أعود إلى مثلها، فأمده بالشرطة والمقاتلة.
وكتب بشر إلى خليفته بالكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين، ويوجه به مدداً إلى المهلب، فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فعقد له، واختار له من كل ربع ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير البجلي، وعلى ربع تميم وهمدان عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وعلى ربع كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث الكندي، وعلى مذحج وأسد حر بن قيس المذاحجي، فقدموا على بشر، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف، فقال له: قد عرفت رأي فيك وثقتي بك، فكن عند ظني، انظر هذا المزوني فخالفه في أمره، وأفسد عليه رأيه، فخرج عبد الرحمن بن مخنف وهو يقول: ما أعجب ما طمع مني فيه هذا الغلام! يأمرني أن أصغر شيخاً من مشايخ أهلي وسيداً من ساداتهم! فلحق بالمهلب.
فلما أحس الأزارقة بدنوه منهم انكشفوا من الفرات، فاتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز، فنفاهم عنها، ثم اتبعهم3 إلى رام هرمز فهزمهم منها، فدخلوا فارس وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديداً4، تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فلما صار القوم بفارس وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صبح: أيها الأمير! إنه5 ليس برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم وكل بهم، فقال: ليس هذا من الوفاء.
ـــــــ
1 ر: "ما أنت".
2 ساقطة من ر.
3 ر: "نتبعهم".
4 ر: "حسنا".
5 ر: "أتاه".
فلم يلبث برام هرمز إلا شهراً حتى أتاهم1 موت بشر، فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجه إلى محمد بن إسحاق بن الأشعث ابن زحر واستحلفهما ألا يبرحا، فحلفا له ولم يقيا، ف-جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا بسوق الأهواز، وأراد أهل الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة، إنما تبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم فأقام منهم قوم وتسلل منهم ناس كثير.
وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز، يحلف فيه بالله مجتهداً، لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد منهم إلا قتله فجاء مولاه، فجعل يقرأ الكتاب عليهم ولا يرى في وجههم قبوله، فقال: إني لأرى وجوهاً ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب وانصرف إلى صاحبك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا، وجعلوا2 يستحثونه بقراءته، ثم قصدوا قصداً الكوفة، فنزلوا النخيلة، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في الدخول فأبى، فدخلوها بغير إذن.
ـــــــ
1 ر: "أتاه".
2 ر: "يستحثونه في قراءته".
ولاية الحجاج العراق وأمره مع المهلب والخوارجفلم يزل المهلب ومن معه من قواده ابن مخنف في عدد قليل، فلم ينشبوا أن ولي الحجاج العراق، فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم وتهددهم، وقد ذكرنا الخطبة متقدماً. ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة? فقالوا: كانت تضرب وتحبس، فقال الحجاج: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو ولا جبي فيء، ولا عز دين.
ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجلتكم ثلاثاً، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها ولا من أهل الثغور إلا قتلته، ثم قال لصاحب حرسه وصاحب شرطه: إذا مضت ثلاثة أيام فاتخذا سيوفكما عصياً، فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا أنف لكم مني، وهو أشد بني تميم أيداً، وأجمعهم سلاحاً، وأربطهم جأشاً، وأنا شيخ كبير عليل،
واستشهد جساءه، فقال له1 الحجاج: إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبين ولكني أكره أن يجترئ بك الناس علي. وبعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان، ثم أمر به فقتل، فاحتمل الناس، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول ابن الزبير الأسدي:
أقول لعبد الله يوم لقيته ... أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ... يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
وهرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج وقال:
أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا
وقد مرت هذه الأبيات.
وخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة، فكان عليهم أشد إلحاحاً2 وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمل الناس قبل قدومه، فأتاه رجل م بني يشكر، وكن شيخاً كبيراً أعور، وكان يجعل على عينه العوراء صوفة، فكان يلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير! إن بي فتقاً، وقد عذرني بشر، وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب، الأشقري أو الفرزدق:
لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة ... تقرقر منها بطن كل غريف
ويروى عن ابن ميرة قال: إنا لنتغدى معه يوماً إذ جاء رجل من بني سليم برجل قوده، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً، وإني لحائك أخذت من تحت الحف3، فقال: اضربوا عنقه، فلما أحس بالسيف سجد،
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "حاء".
3 الحف: المنسج.
فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل1، فأقبل علينا الحجاج فقال: مالي أراكم صفرت أيديكم واصفرت وجوهكم وحد نظركم من قتل رجل واحد! إن العاصي يجم خلالاً: يخل بمركزه، ويعصي أميره، ويغر المسلمين وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل وإن شاء عفا.
ثم كتب الحجاج إلى المهلب: أما بعد؛ فإن بشراً رحمه الله استكره نفسه عليك، وأراك غناءه عنك، وأنا أريك حاجتي إليك، فأرني الجد في قتال عدوك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله، فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي من ولي من هرب عنك فأعلمني مكانه، فإني أرى أن آخذ الولي بالولي، والسمي بالسمي.
فكتب إليه المهلب: ليس قبلي إلا مطيع، وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذب، وإذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك، فهب لي هؤلاء الذي سميتهم عصاة، فإنما هم فريقان2 أبطال، أرجو أن يقتل الله بهم لعدو ونادم على ذنبه.
فلما رأى المهلب كثرة الناس عليه قال: اليوم قوتل هذا العدو، ولما رأى ذلك قطري قال: انهضوا بنا نريد السردان3 فنتحصن فيها، فقال عبيدة بن هلال: أو نأتي سابور، وخرج المهلب في آثارهم، فأتى أرجان، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن، وليست بمدينة، ولكن جبال محدقة منيعة، فلم يصب بها أحداً، فخرج نحوهم فعسكر بكازرون، واستعدوا لقتاله، وخندق على نفسه، ثم وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف: خندق على نفسك، فوجه إليه: خنادقنا سيوفنا، فوجه إليه المهلب: إني لا آمن عليك البيات، فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل! فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال: لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة، فلما أصبح القوم غادوه الحرب، فبعث إلى ابن مخنف يستمده، فأمده بجماعة، وجعل عليهم ابنه جعفراً، فجاؤوا وعيهم أقبية بيض جدد، فقاتلوا يومئذ حتى عرف مكانهم، وحاربهم المهلب، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد، ثم نظر إلى رئيس منهم يقال له صالح بن مخراق، وهو ينتخب
ـــــــ
1 ر: "الطعام".
2 ر: "فريسان".
3 السردان: موضع ببلاد فارس بإزاء كازرون "البكري". وفي ر: "السردان".
قوماً من جلة العسكر، حتى بلغوا أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما يعد هؤلاء إلا للبيات. وانكشف الخوارج والأمر للمهلب عليهم، وقد كثر فيهم القتل والجراح.
وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجه الرجال، فكان يحسبهم نهاراً، ويفتح الحبس ليلاً، فينسل الناس إلى ناحية المهلب، وكأن الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثل:
إن لها لسائقاً عشنزرا ... إذا ونين ونية تغشمرا
العشنزر: الصلب، والغشمرة1: ركوب الرأس. والمتغشمر: الجاد على ما خيلت.
وكتب إلى المهلب من قبل الوقعة: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشي وعباد بن حصين الحبطي. واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح.
فشاور بنيه فقالوا: إنه أمير، فلا تغلظ عليه في الجواب.
فكتب إليه المهلب: ورد علي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن حصين الحبطي، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغنائهما وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شراً من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل، لم تستقر في واحدة منهن. وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا، في مكان كذا، أشرعت إلي صدر الرمح، فلو فعلت لقبلت إليك ظهر المجن، والسلام.
ثم كانت الواقعة. فلما انصرف الخوارج قال المهلب لابنه الميغرة: إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم.
ـــــــ
1 ر: التغشمر.
فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا? قال له فليبت آمناً، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله.
فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخارق في القوم الذي أعدهم إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول:
إني لمذك للشراة نارها ... ومانع ممن أتاها دارها
وغاسل بالطعن عنها عارها
فوجد بني تميم أيقاظاً متحارسين، فخرج إليهم الحريش بن هلال وهو يقول:
لقد وجدتم وقراً أنجادا ... لا كشفاً ميلاً ولا أوغادا
هيهات لا تلفوننا رقادا ... لا بل إذا صيح بنا آسادا
ثم حمل على القوم فرجعوا عنه، فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين كلاب النار! فقالوا: إنما أعدت النار لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار إن دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان.
قوله: وجدتم وقراً جمع وقر. والنجد: ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل فيه قولان: قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: هو الذي لا سيف معه. والأكشف: الذي لا ترس معه. والأجم: الذي لا رمح معه. والحاسر: الذي لا درع عليه. والأعزل: الذي لا يتقوم على ظهر الدابة. والوغد: الضعيف.
ثم قال بعضهم لبعض: نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليهم، وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلب، وقد زعموا أنا أهون علهم من ضرطة جمل، فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه بهم إلا وقد خالطوهم في عسكرهم.
وكان ابن مخنف شريفاً. يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل:
تروح وتغدو كل يوم معظماً ... كأنك فينا مخنف وابن مخنف
فترجل عبد الرحمن بن مخنف فجالدهم فقتل، وقتل معه سبعون من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ونفر من أصحاب ابن مسعود، وبلغ الخبر المهلب، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب، فجاءهم مغيثاً فقاتلهم حتى ارتث1 وصرع، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً فكشفهم، ثم جاء المهلب حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه رحمهم الله، وصار جنده في جند المهلب، فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، فقال رجل لجعفر بن عبد الرحمن:
تركت أصحابنا تدمى نحورهم ... وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل2
قوله: خضفة الجمل يريد ضرطة الجمل، يقال: خضف البعير. وأنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلاً اتخذ وليماً:
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف ... أغلق عنا بابه م حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف ... عبداً3 إذا ما ناء بالجمل خضف4
يقال: ناء بحمله، إذا حمله في ثقل وتكلف، وفي القرآن: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 5، والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح. وقد مضى تفسير هذا.
فلامهم المهلب، وقال: بئسما قلتم! والله ما فروا ولا جبنوا، ولكنهم خالفا أميرهم، أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب، وفراركم بدارس6 عن عثمان، وفراركم عني! ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه إليهم، فخرج إليهم من الخوارج جمع، فاقتتلوا إلى الليل، فقال لهم الخوارج: ويلكم أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، قالوا: فمن أنتم?
ـــــــ
1 ارتث: حمل من المعركة وبه بقية من الحياة.
2 أي يا أيا خضفة.
3 ر: "عبد".
4 زيادات ر: "تقول العرب: حبج الرجل وخبق وخضف وردم. كل ذلك إذا ضرط".
5 سورة القصص: 76.
6 دارس: موضع قريب من البصرة.
قالوا: تميم، قالت الخوارج: ونحن بنو تميم، فلما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب وخرج إليهم عشرة من الخوارج، فاحتفر كل واحد حفيرة وأثبت قدمه فيها، فكلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام1 مكانه، حتى أعتموا2، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، فقالوا إلى الحجاج، فقال له: مه! قال: رأيت قوماً لا يعين عليهم إلا الله.
وكتب إليه المهلب: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مضر، أو اختلاف من أهوائهم.
وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد، كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين بولده وبمن يحل محلهم في الثقة عنده.
وقال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب:
عدمتك يا مهلب من أمير ... أما تندى يمينك للفقير!
بدولاب أضعت دماء قومي ... وطرت على مواشكة درور3
فقال المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت، قال: ويحك! وهل عنه محيص? قال: لا، ولكنا نكره التعجيل، وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: أما سمعت قول هبيرة4 الكلحبة اليربوعي:
فقلت لكأس ألجميها فإنما ... نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا
قال: بلى والله قد سمعته، ولكن قولي أحب إلي منه، وهو5:
فلما وقفتم غدوة وعدوكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحف مقالة عاجز ... يساقي المنايا بالرجينية السمر
ـــــــ
1 ر: "ووقف".
2 أعتموا: صارواإلى العتمة وهي ثلث الليل الأول.
3 ر: "دماء قوم", ومواشكة دور: سريعة.
4 ساقطة من ر.
5 ساقطة من ر.
فقال له1 المهلب :بئس حشو الكتيبة والله أنت! فإن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك، فقال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه:
يرى حتماً عليه أبو سعيد ... جلاد القوم في أولى النفير
إذا نادى الشراة أبا سعيد ... مشى في رفل محكمة القتير2
الرفل: الذيل.
وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول، فأنا آمن أن يعتقل، فلو كان مكانه ألف شجاع قلت: إنهم ينشامون3 حين يحتاج إليهم4
ومطرت السماء مطراً شديداً وهم بسابور، وبين المهلب وبين الشراة عقبة، فقال المهلب: من يكفينا هذه العقبة الليلة? فلم يقم أحد، فلبس المهلب سلاحه وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه يقال له عبد الله: دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ في ذلك لنا فلم نطعه، فلبس سلاحه واتبعه جماعة من أهل العسكر فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة لا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير، فنحن نكفيك إن شاء الله، فلما أصبحوا إذا بالشراة على العقبة، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فارس، فجعل يحمل وفرسه يزلق، وتلقاه مدرك بن المهلب في جماعة حتى ردهم.
فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس، إذا الشراة قد تألبوا، فقال المهلب: سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة أكفنيهم، فخرج إليهم المغيرة بن المهلب وأمامه سعد بن نجد القردوسي، وكان سعد شجاعاً متقدماً في
ـــــــ
1 ر: "وقال المهلب".
2 القتير: رءوس مسامير حلق الدروع.
3 ينشامون. من إنشام الشيء. دخل وأختبأ. يريد أنهم يكون بمعزل مخافة أن ينتفلوا.
4 ر: "حتى يحتاج إليهم".
شجاعته، وكان الحجاج1 إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا - وقردوس من الأزد.
فخرج أمام المغيرة، وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلب، فالتقوا، وأما الخوارج غلام جامع السلاح، مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة، صحيح الفروسية، فأقبل يحمل على الناس وهو يقول:
نحن صبحناكم غداة النحر ... بالخيل أمثال الوشيج تجري2
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد، ثم تجاولا ساعة، فطعنه سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع يومئذ المغيرة، فحامى عليه سعد بن نجد وذبيان السختياني وجماعة من الفرسان حتى ركب، وانكشف الناس عند سقطة المغيرة، حتى صاروا إلى أبيه المهلب، فقالوا: قتل المغيرة، ثم أتاه ذبيان السختياني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان بحضرته.
ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكنك اتخذت أكلاً3، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام.
فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت جيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصر وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره! ثم ناهضهم ثلاثة أيام، يغاديهم القتال، ولا يزالوا كذلك إلى العصر، وينصرف4 أصحابه وبهم قرح، وبالخوارج قرح وقتل، فقال [له الجراح5]: قد أعذرت.
ـــــــ
1 ر: "وكان المهلب". وما أثبته عن الأصل. س.
2 الوشيج: ما نبت من شجر الرماح متلفا دخل بعضه في بعض.
3 الأكل: الرزق.
4 من هنا خرم في نسخة الأصل ينتهي في ص 384 من هذا الجزء.
5 تكلمة من س.
فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظن بي معصية ولا جبناً، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي، فاسأل1 الجراح، والسلام.
فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك? قال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قط ولا ظننت أن أحداً يبقى على مثل ما هو عليه. ولقد شهدت أصحابه أياماً ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئاً، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال: الحجاج: لشد ما مدحته أبا عقبة! قال: الحق أولى.
وكانت ركب2 الناس قديماً من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فيتقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي:
ضربوا الدراهم في إمارتهم ... وضربت للحدثان والحرب
حلقاً ترى منها مرافقهم ... كمناكب الجمالة الحرب3
وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وهو والي إصبهان، يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف، فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلداً فتحه لأهل الكوفة فأنت أمير الجماعة [فيه]4، والمهلب على أهل البصرة.
فقد عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب، وهو بسابور، وهي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس، وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج في أيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي.
ـــــــ
1 س: "فسيل"
2 الركب: جم ركاب. وهو ما يعتمد عليه راكب السرج بقدميه.
3 أي ضربت حلفا. ومرافقهم. أي معتمدات أرجلهم. والجمالة: أصحاب الجمال.
4 من س.
فوجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه مناجزة القوم، أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن، من بني عامر بن صعصعة، والآخر من آل أبي عقيل جد الحجاج، فضم زياداً إلى ابنه حبيب، وضم الثقفي إلى يزيد ابنه، وقال لهما: خذا يزيد وحبيباً بالمناجزة، فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن، وفقد الثقفي، ثم باكروهم في اليوم الثاني وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب ودعا بالغداء، فجعل النبل يعق قريباً منهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي:
ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق ... وقبل اختراط القوم مثل العقائق
غداة حبيب في الحديد يقودنا ... نخوض المنايا في ظلال الخوافق
حرون إذا ما الحرب طار شرارها ... وهاج عجاج الحرب فوق البوارق1
فمن مبلغ الحجاج أن أمينه ... زياداً أطاحته رماح الأزارق
قوله:
وقبل اختراط القوم مثل العقائق
يعني السيوف، والعقائق: جمع عقيقة، يقال: سيف كأنه عقيقة برق، أي كأنه لمعة برق، ويقال انعق البرق إذا تبسم. وللعقيقة مواضع: يقال فلان بعقيقة الصبي2، أي بالشعر الذي ولد به لم يحلقه، ويقال: عققت الشيء أي قطعته، ومن ذا فلان يعق أبويه، وكذا عققت عن الصبي، إذا ذبحت عنه، قوال أعرابي:
ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أجدبت أو كان خصباً جنابها
أحب بلاد الله ما بين مشرف ... إلي أن يصوب سحابها3
بلاد بها عق الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر، حتى ظهر شبيب، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير4 إليه ليوجه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب
ـــــــ
1 قال المرصفي: "الحزون: لقب حبيب؛ لأنه كان يحرن في الأرض فلا يبرح". والبوارق والسيوف.
2 ر: "الصبي" بكسر الصاد وألف مقصورة.
3 مشرف: رمل بالدهناء.
4 س: "بالمسير".
[يأمره]1 بأن يرزق الجند، فرق المهلب أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جباناً. وكان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلاً، فقال له المهلب: يا ابن اللخنا! فقال له عتاب: لكنك معم مخول2، فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب ابن تيم بن هبيرة بن أبي3 مصقلة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً للحلف، فلما رأى نصرهة بكر بن وائل سره الحلف واغتبط به، ولم يزل يؤكده فغضبت تميم البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب.
فلما رأى ذلك المغيرة بن المهلب مشى بين أبيه وبين عتاب، فقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير لك إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، فأجابه، فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب، وقال عتاب: إني لأعرف فضله على أبيه، وقال رجل من الأزد من بني إياد بن سود:
ألا أبلغ أبا ورقاء عنا4 ... فلولا أننا كنا غضابا
على الشيخ المهلب إذ جفانا ... للاقت خيلكم منا ضرابا
وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوهم بقتال حتى يبدأوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم.
فشخص عتاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب، فقتله شبيب، وأقام المهلب على حربهم، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهراً اختلفوا.
وكان سبب اختلافهم أن رجلاً حداداً من الأزارقة كان يعمل نصالاً مسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلب، فرفع ذلك إلى المهلب فقال: أنا قطري فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطري واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم، فاقبضها وزدنا من هذه النصال، فوقع الكتاب والدراهم إلى
ـــــــ
1 تكملة ر.س.
2 معم مخول. أي كريم الأعمام والأخوال.
3 ر: "أخي".
4 كذا في س, وفي ر: "بني ورقاء".
قطري. فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب? قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم? قال: ما أعلم علماها، فأمر به فقتل، فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً إلى غير ثقة ولا تبين! فقال له: ما حال هذه الدراهم! قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً، فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه، فتنكر له عبد ربه في جماعة [معه]1، ولم يفارقوه.
فبلغ ذلك الملهب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني، فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك، فقال له رجل من الخوارج قد عبدك من دون الله، وتلا: {إنكم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 2، فقال قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئاً، فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة فبلغ ذلك المهلب، فوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه، فأتاهم الرجل فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم، فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما? فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها. وقال قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيزا المحنة، فكثر الاختلاف.
فخرج قطري إلى حدود إصطخر، فأقام شهراً والقوم في اختلافهم، ثم أقبل، فقال لهم صالح بن مخراق: يا قوم، إنكم قد قررتم أعين عدوكم وأطعمتوهم لكم، لما ظهر من اختلافكم، فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة.
وخرج عمرو القنا فنادى: يا أيها المحلون3. هل لكم في الطراد، فقد طال العهد به! ثم قال:
ألم تر أنا مذ ثلاثون ليلة ... قريب وأعداء الكتاب على خفض
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 سورة الأنبياء 98.
3 المحلون: الذين لاعهد لهم ولاحرمة.
فتهايج القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه1 وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه، فجعلت السيوف لا تعمل فيه شيئاً، واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال، وهو يقول:
أنا ابن خير قومه هلال ... شيخ على دين أبي بلال
وذاك ديني آخر الليالي
فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه، أفوكلتم به أغار على السرح، فشق ذلك على المهلب، وقال: كل أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم، فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك، فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله لا يعدل أحدنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فثار بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح2، أي يطرده، وهو يقول:
نحن أقمعناكم بشل السرح ... وقد نكأنا القرح بعد القرح3
الشل: الطرد: ويقال: نكأت القرحة، مهموز، ونكيت العدو، غير مهموز، من النكاية، ونكأت القرحة نكأ، قال ابن هرمة:
ولا أراها تزال ظالمة4 ... تحدث لي قرحة وتنكؤها
ولحقه المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود، فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة، فقال المهلب: ممن الرجل? قال: رجل من همدان، قال: إنك لشين همذان، وخلى سبيله.
ـــــــ
1 هنا آخر الخرم في النسخة الأصل, وأوله في ص 377 من هذا الجزء.
2 السرح: المال الذي يسام في المرعى من الأنعام.
3 أقمناكم: قهرناكم.
4 أي لاتزال.
وكان عياش الكندي شجاعاً بئيساً1، فأبلى يومئذ، ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت نفس الجبان بعد عياش! وقال المهلب: ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم! ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين: أحدهما من كلب، والآخر من سليم، يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
الشعر لأوس بن حجر، وقوله: زبنته يقول: دفعته، ولم يترمرم، أي لم يتحرك، يقال: قيل له كذا وكذا فما ترمرم.
وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم!
وحمل يزيد عليه وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب، وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرس له أدهم، وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني مولى العيتك من لهذين? قال: أنا، فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشني فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطا جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانقه امرأة، فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت! أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال له غلام له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فأستلب مما هناك جاريتين. فقال مولاه: وكيف تمنيت اثنتين? قال: لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب:
ـــــــ
1 البئيس: الشديد البأس.
أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... شرقاً بها الجادي كالتمثال
حتى تلاقي في الكتيبة معلمة ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال
وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً ... في عصبة قسطوا مع الضلال
أو أن يعلمك المهلب غزوة ... وترى جبالاً قد دنت لجبال
قوله: طفلة يقول: ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت: طفلة فهي الصغيرة. والجادي: الزعفران، والكتيبة: الجيش، وإنما سمي الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض. وبهذا سمي الكتاب. ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة إذا خرزت ذلك الموضع منها. وكتبت القربة. والمعلم: الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ، وإما بمشهرة، وإما بغير ذلك. وكان حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه معلماً يوم بدر بريشة نعامة في صدره وكان أبو جدانة - وهو سماك بن خرشة الأنصاري - يوم أحد لم قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من يأخذ سيفي هذا بحقه?" قالوا: وما حقه يا رسول الله? قال: "أن يضرب به في العدو حتى ينحني"، فقال أبو دجانة: أنا، فدفعه إليه، فلبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون لما بلوا منه أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية، ففعل، وخرج يمشي بين الصفين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع". ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع علياً صلوات الله عليه يقول لفاطمة ورمى إليها بسيف، فقال: هاك حميداً فاغسلي عنه الدم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدقه معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة". وفي بعض الحديث "وقيس بن الربيع" وكل هؤلاء من الأنصار.
عاد الحديث إلى ذكر الخوارج: وعمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل، والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بني تميم. قال: ولا أدري أعمرو هو أم غيره. والمقعطر من عبد القيس.
وقوله: قسطوا أي جاروا، يقال قسط فهو قاسط، إذا جار، قال الله جل ثناؤه: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 1. ويقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2.
وكان بدر بن الهذيل شجاعاً، وكان لحانة، فكان إذا أحس بالخوارج نادى يا خيل3 الله اركبي، وله يقول القائل:
وإذا طلبت إلى المهلب حاجة ... عرضت توابع دونه وعبيد
العبد كردوس وعبد مثله ... وعلاج باب الأحمرين شديد
كردوس: رجل من الأزد، وكان حاجب المهلب. وقوله: "وعلاج باب الأحمرين شديد"، العرب تسمي العجم الحمراء، وقد مر تفسير ذا.
وقوله: توابع أراد به الرجال، فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على فاعل فجمعه فاعلون لئلا يلتبس بجمع فاعله التي هي نعت، وقد قلنا في هذا: ولم قالوا: فوارس وهالك في الهوالك.
وكان بشر بن المغيرة أبلى يوماً بلاء حسناً عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين بني المهلب جفوة، فقال لهم: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب، وجاوزت شكاة المستعتب4 ؛ حتى كأني لا موصول ولا محروم، فاجعلوا لي فرجة أعش بها وهبوني امرأ رجوتم نصره، أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوا، وكلموا فيه المهلب فوصله.
وولى الحجاج كردماً فارس، فوجهه الحجاج إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب:
ولو رآها كردم لكردما ... كردمة العير أحس الضيغما
الضيغم: الأسد. والكردمة: النفور.
ـــــــ
1 سورة الجن.
2 سورة الحجرات 9.
3 بكسر اللام, وهو موضع اللحن.
4 العاتب: الساخط المستعتب: طالب الرضا.
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودراب جرد لأرزاق الجند، ففعل، وقد1 كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا، فاشتراها منه آزاد مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها، فواقعه المهلب فهزمه، ونفاه إلى كرمان، واتبعه ابنه المغيرة وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلد به، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه، فسر المهلب بذلك وقال: ما يسرني أن أكون كنت قد1 دفعته إلى غيرك من ولدي، اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل منهم، وأحسبه من بني تميم، في كلمة له:
ولو علم ابن يوسف مانلاقي ... من الآفات والكرب الشداد
لفاضت عينه جزعاً علينا ... وأصلح ما استطاع من الفساد
ألا قل للأمير جزيت خيراً ... أرحنا من مغيرة والرقاد
فما رزقا الجنود بها قفيزاً ... وقد ساست مطامير الحصاد2
يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس، وداد وأداد، من الدود، وروى أبو زيد: ديد فهو مدود في هذا المعنى.
فحاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت، واتبعهم فنزل قرباً منهم، واختلفت كلمتهم.
وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكري أتهم بامرأة رجل رأوه مراراً يدخل منزله بغير إذن، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتوني3 يا أمير المؤمنين، فما ترى? قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 المطامير: جمع مطمورة, وهي حفرة تحت الأرض تخبأ فيها الحبوب.
3 من المقارة وهي السكون والطمأنينة.
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1 الآيات. فبكوا وقاموا إليه فاتنقوه، وقالوا: استغفر لنا، ففعل، فقال لهم عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم، فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتاً.
وكان قطري قد استعمل رجلاً من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة، فأتوا قطرياً فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم، وبلغ ذلك المهلب، فقال: إن اختلافهم أشد عليهم مني.
وقالوا لقطري: ألا تخرج بنا إلى عدونا? فقال: لا، ثم خرج، فقالوا: قد كذب وارتد! فاتبعوه يوماً فأحس بالشر، فدخل داراً مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة، اخرج إلينا، فخرج إليهم، فقال: رجعتم بعدي كفاراً! فقالوا: أو لست دابة! قال الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2, ولكنك قد كفرت بقولك: إنا قد رجعنا كفاراً، فتب إلى الله عز وجل، فشاور عبيدة، فقال: إن تبت لم يقبلوا منك، ولكن قل: إنما استفهمت فقلت: أرجعتم بعدي كفاراً? فقال ذلك لهم، فقبلوه منه، فرجع إلى منزله، وعزم أن يبايع المقعطر العبدي، فكرهه القوم وأبوه، فقال له صالح بن مخراق عنه وعن القوم: ابغ لنا غير المقعطر، فقال لهم3 قطري: أرى طول العهد قد غيركم، وأنتم بصدد عدوكم، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدوا للقاء القوم، فقال صالح بن مخراق: إن الناس قبلنا قد3 ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي ففعل، ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزله، فقال له القوم: إنا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر، وجلهم الموالي والعجم، وكان هناك منهم ثمانية آلاف، وهم القراء، ثم نم صالح بن مخراق، فقال لقطري: هذه نفحة من نفحات الشيطان.
ـــــــ
1 سورة النور 11وما بعدها.
2 سورة هود 6
3 ساقطة من ر.
فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأجره الرمح فقتله.
ومعنى أجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة:
وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع
فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا، ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل، فلما كان الغد باكروهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة. وأقام عبد ربه بها، وصار قطري خرجاً من مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق. فخندق على باب المدينة، وجعل يناوشهم.
وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه فقال له: أصلح الله الأمير! عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلب: إنهم لن يصطلحوا، ولكن دعهم، فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها، ثم دس رجلاً من أصحابه فقال: إيت عسكر قطري، فقل: إني لم أزل أرى قطرياً يصيب الرأي حتى نزل منزلة هذا فبان خطؤه؛ أنقيم بني المهلب وعبد ربه، يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا! فنمى الكلام إلى قطري، فقال: صدق، تنحوا بنا عن هذا الموضع، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون، فقال له الصلت بن مرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت إنما1 تريد الله فاقدم على القوم، وإن كنت إنما1 تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، وأنشأ الصلت يقول:
قل للمحلين قد قرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناسا على دين فغيرنا ... طول الجدال وخلط الجد باللعب
ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب
إني لأهونكم في الأرض مضطرباً ... ما لي سوى فرسي والرمح من نشب
ثم قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه، فارتحل قطري، وبلغ ذلك المهلب، فقال لهريم بن عدي بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا آمن أن يكون
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
قطري كادنا بترك موضعه، فاذهب فتعرف الخبر، فمضى هريم في إثني عشر فارساً، فلم ير في العسكر إلا عبداً وعلجاً، فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا: مضوا يرتادون غر هذا المنزل، فرجع هريم إلى المهلب فأخبره، فارتحل المهلب حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتلهم أحياناً بالغداة، وأحياناً بالعشي، ففي ذلك يقول رجل من سدوس، يقال له المعنق، وكان فارساً:
ليت الحرائر بالعراق شهدننا ... ورأيننا بالسفح ذي الأجيال
فنكحن أهل الجزء من فرساننا1 ... والضربين جماجم الأبطال
ووجه المهلب يزيد إلى الحجاج يخبره أنه قد نزل منزل قطري، وأنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في إثر قطري رجلاً جلداً في جيش، فسر ذلك الحجاج سروراً أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه مع عبيد بن موهب؛ وفي الكتاب.
أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي، فترجع بعذرك، وذل أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، ويجم الناس2. ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم3. ولعمري ما أنت والقوم سواء؛ لأن من ورائك رجالاً وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما معهم. ولا يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير.
فقال المهلب لأصحابه: إن الله عز وجل قد أراحكم من أقران أربعة قطري بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه، في خشار من خشار4 الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله.
فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون، فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون كأنما انصرفوا من
ـــــــ
1 أهل الجزء: أهل الكفاية والغناء في الحرب.
2 يجم الناس: يسترخون.
3 قصم قرن الحيوان: كسره, ضربة مثلا لهلاك القوم.
4 الخشار: الردئ من كل شيء
مجلس كانوا يتحدثون فيه، فيضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلب: قد بان عذرك، وأنا مخبر الأمير. فكتب المهلب إليه.
أما بعد: فإني لم أعط رسلك على قول رسلك على قول الحق أجراً، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقي، ذكرت أني أجم القوم، ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أن في ذلك الجمام ما ينسي القتلى، وتبرأ منه الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، تأبى ذلك قتلى لم تجن، وقروح لم تتقرف1. ونحن القوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا. وإن ملوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذ وقفوا، ونطلب إذا هربوا فإن تركتين والرأي كان القرن مقصوماً، والداء بإذن الله محسوماً، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله، ومقت الناس.
ولما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه، وقد أراحكم الله من غلظة قطري، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال، ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا؛ من قتل منكم قتل شهيداً. ومن سلم من القتل فه المحروم.
وقدم في هذا الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي، يستحثه بالقتال، ومعه أمينان، فقال له: خالفت وصية الأمير، وآثرت المدافعة والمطاولة، فقال له المهلب: ما تركت جهداً، فلما كان العشي خرج الأزارقة وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا، فقال المهلب لأصحابه: الزموا مصافكم، وأشرعوا رماحكم2، ودعوهم والذهاب، فقال له عبيد: هذا لعمري أيسر عليك، فقال للناس: ردوهم عن وجههم3، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس،
ـــــــ
1 لم نتفرق: يم تنقشر ولم تيبس.
2 أشرع الرمح: صوبه.
3 "وجههم".
وقال لعبيد بن أبي ربيعة: كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ، وقال لأحد الأمينين: كنا مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى عقرت الدواب وصرع الفرسان، وقتلت الرجال فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط رمح برجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يقول:
الليل ليل فيه ويل ويل ... وسل بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول
فلما عظم الخطب فيه بعث المهلب إلى المغيرة1: خل لهم عن الرمح، عليهم لعنة الله1، فخلوا لهم عنه.
ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على أربعة فراسخ من جيرفت، ودخلها المهلب، فأمر بجمع ما كان لهم فيها من المتاع، وما خلفوه من دقيق2 وختم عليه هو والثقفي والأمينان، ثم أتبعهم، فإذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها إلا قوي، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها، فغاداهم القتال. وضم الثقفي إلى يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، واقتتل القوم إلى نصف النهار، فقال المهلب لأبي علقمة العبدي - وكان شجاعاً عاتياً: أمدد بخيل اليحمد، وقل لهم: فليعيرونا جماجمهم ساعة، فقال له: إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وليست أعناقهم كردان3 فتنبت - قال أبو العباس4: تقول العرب لأعذاق النخل: كرادن، وهو فراسي أعرب -.
وقال لحبيب بن أوس: كر على القوم، فلم يفعل، وقال:
يقول لي الأمير بغير علم ... تقدم حين جد به المراس
فما لي إن أطعتك من حياة ... وما لي غير هذا الرأس رأس
ـــــــ
1 ر"خل عن الرمح عليهم لعنهم الله" والجود ما أثبته عن الأصل, س.
2 ر: "رفيق". وما أثيته من الأصل, س.
3 ر: "كردي".
4 ر: "أبو الحسن الأخفش". وما أثبته من الأصل, س.
نصب: غير، لأنه استثناء مقدم، وقد مضى تفسيره.
وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني أم مالك بنت المهلب، ففعل، فحمل على القوم فكشفهم، وطعن فيهم، وقال:
ليت من يشتري الغداة بمال ... هلكه اليوم عندنا فيرانا
نصل الكر عند ذاك بطعن ... إن للموت عندنا ألوانا
ثم جل الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت عند ذلك المهلب إلى المغيرة فقال: ما فعل الأمين الذي كان معك? قال: قتل، وكان الثقفي قد هرب، وقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة? قال: لم أره منذ كانت الجول، فقال الأمين الآخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي، فلما كان العشي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة:
ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا ... وتغعمنا بوصية الحجاج
حتى إذا ما الموت أقبل زاخراً ... وسما لنا صرفاً بغير مزاج
وليت يا ثقفي غير مناظر ... تنساب بين أحزة وفجاج
ليست مقارعة الكماة لدى الوغى ... شرب المدامة في إناء زجاج
قوله: بين أحزة هو جمع حزيز، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلظ، والفجاج: الطرق، واحدها فج.
وقال المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما قتلت صاحبي. قال: ذاك إليك، وضحك المهلب، ولم تكن للقوم خنادق، فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهم في زهاء ثلاثين ألفاً، فلما أصبح أشرف على واد، فإذا هو برجل معه رمح مكسور وقد خضبه بالدماء، وهو ينشد:
جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي ... إذ بت أطواء بني الأصاغر
أخادعهم عنه ليغبق دونهم ... وأعلم غير الظن أني مغاور
كأني وأبدان السلاح عشية ... يمر بنا في بطن فيحان طائر
فدعاه المهلب فقال: أتميمي أنت? قال: نعم، قال: أحنظلي? قال: نعم، قال: أيربوعي? قال: نعم، قال: أثعلبي? قال: نعم، قال: أمن آل نويرة? قال:
نعم، أنا من ولد مالك بن نويرة، وسبحان الله أيها الأمير! أيكون مثلي في عسكرك لا تعرفه! قال: عرفتك بالشعر.
قوله: ذو الخمار يعني فرساً. وكان ذو الخمار فرس مالك بن نوير. قال جرير يهجو الفرزدق:
بيربوع فخرت وآل سعد ... فلا مجدي بلغت ولا افتخاري
بيربوع فوارس كل يوم ... يواري شمسه رهج الغبار
عتيبة، والأحيمر وابن عمرو ... وعتاب، وفارس ذي الخمار
قوله: أطواء يقال: رجل طوي البط، أي منطو يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده، فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله:
أخادعهم عنه ليغبق دونهم
والغبوق شرب آخر النهار، وهذا شيء تفخر1 به العرب، قال الأشعر الجعفي:
لكن قعيدة بيتنا مجفوة ... باد جناجن صدرها ولها غنى2
نقفي بعيشه أهلها وثابة ... أو جرشعاً نهد المراكل والشوى3
قال: فمكثوا أياما على غير خنادق يتحارسون ودوابهم مسرجة، فلم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان، فلم كانت الليلة التي قتل في صبحتها عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين، إن قطرياً وعبيدة هربا طلب البقاء، ولا سبيل إليه، فالقا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم، والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة.
فلما أصبحوا غادوا المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً، نسي به ما كان قبله، فقال رجل من الأزد من أصحاب المهلب: من يبايعني على الموت? فبايعه أربعون رجلاً
ـــــــ
1 ر: "تفتخر".
2 الجناجن" عظائم الصدر.
3 الجرشع: المنتقخ الجنين. والمركل: موضع رجل الفارس من الفرس.
من الأزد وغيرهم، فصرع بعضهم وقتل بعض، وجرح بعض. وقال عبد الله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلب، احملوا، فقال: المهلب: أعرابي مجنون! وكان من أهل نجران، فحمل وحده، فاخترق القوم حتى نجم من ناحية أخرى ثم رجع، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس، فترجلت الخوارج وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو وأصحابه من العرب، وكانوا زهاء أربعمائة: موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها فقالوا: إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار.
فاقتتلوا، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض، قال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادى الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب، وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالاً شديداً ألى فيه، فقال له أبوه: يا بني إني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب.
وكسرت الخوارج أجفان سيوفهم، وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقولاً، فهرب عمرو القنا وأصحابه، وأستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجرحى كثر من الخوارج، فأمر المهلب بأن يدفع كل جريح إلى عشيرته، وظفر عسكرهم فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت، فقال: الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا بعيش، ثم نظر إلى قوم في عسكر لم يعرفهم، فقال: ما أشد عادة السلاح! ناولني درعي: فلبسها ثم قال: خذوا هؤلاء، فلما سير بهم إليه قال: ما أنتم? قالوا: نحن قوم جئنا لنطلب غرتك لنفتك بك، فأمر بهم فقتلوا.
قال أبو العباس: ووجه المهلب كعب بن معدان الأشقري، ومرة بن تليد الأزدي، من أزد شنوءة، فوفدا على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده:
يا حفص إني عداني عنكم السفر ... وقد سهرت فأودى نومي السهر1
فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى
ـــــــ
1 وضع الشطر الثاني في ر بين علامتي الزيادة, وهو غير زائد في الصل, س.
بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة! قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم1 ? قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد? قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم? قال: كنا إذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، 2إذا اجتهدوا واجتهدنا بلغنا فيهم2 آمالنا بإدراك الفرصة منهم، فقال الحجاج إن العاقبة للمتقين، كيف أفلتكم قطري قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى التي3 نحب، قال: فهلا اتبعتموه? قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: فيكيف كان لكم المهلب وكنتم له? قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس? قال:فشا فيهم الأمن، وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب? قال: لا يعلم الغيب إلا الله قال: فقال: هكذا تكون والله الرجال! المهلب كان أعلم بك حيث وجهك.
وكان كتاب المهلب إلى الحجاج:
بسم الله الرحمن الرحيم:الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما ساه، الذي 4وصل المزيد بالشكر، والنعمة بالحمج، وقضى ألا ينقطع المزيد منه4 حتى ينقطع الشكر من عباده.
أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك، وكنا ونحن وعدونا على حالين مختلفين، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة، ونوم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وق إمكانها، وأدنيت السواد من السواد، حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5.
ـــــــ
1 ر: "فيكم".
2 كذا في الأصل, س. وفي ر. "وإذا اجتهد واجتهدنا طمعنا فيهم".
3 ر. "الذي".
4 كذا في الأصل, س. وفي ر "الذي حكم بألا ينقطع المزيد منه".
5 سورة الأنعام: 45.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فإن الله عز وجل قد فعل المسلمين خيراً، وأراحهم من حد الجهاد، وكنت أعلم بما قبلك، والحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم في المجاهدين فيئهم، ونفل الناس على قدر بلائهم، وفضل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلاً تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وول الخيل شهماً من ولدك، ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي، وعجل القدوم، إن شاء الله.
فولى المهلب ابنه يزيد كرمان، وقال له: يا بني، إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك، فأحسن إلى من معك، وإن أنكرت من إنسان شيئاً فوجهه إلي، وتفضل على 1قومك إن شاء الله 2.
قال أبو العباس: وقدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه، وأظهر إكرامه وبره، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا يطعم النوع إلا ريث يبعثه ... هم يكاد حشاه يقصم الضلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا
حتى استمرت على شر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا
فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو يقول: المهلب كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر، فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً.
قوله: نفل إي أقسم بينهم، والنفل: العطية التي تفضل، كذا كان الأصل، وإنما فضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد:
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل1
وقال جل جلاله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}, ويقال: نفلتك كذا وكذا. أي أعطيتك، ثم صار النفل لازماً واجباً.
وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل.
يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن عل سهولة الأمر عليه. قال الشاعر:
رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن قيلت العوراء ضاق بها ذرعا
وكذلك قوله جل وعز: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2. وقوله: مضطلعاً إنما هو مفتعل من الضليع، وهو الشديد، يريد أنه قوي عل أمر الحرب، مستقل بها. وقوله: يكون متبعاً طرواً ومتبعاً أي قد اتبع الناس فعلم ما يصلح به أمر الناس، واتبع فعلم ما يصلح الرئيس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد ألناوإيل3 علينا. أي قد أصلحنا أمور الناس، وأصلحت أمورنا. وقوله: على شرز مريرته فهذا مثل، يقال: شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعاً عليه. المريرة: الحبل. والضرع: لصغير الضعيف. والقحم: آخر سن الشيخ، قال العجاج:
رأين قحماً شاب وأقلحما ... طال عليه الدهر فاسلهما
والمقلحم مثل القحم، وهو الجاف،ويقال للصبي مقلحم، إذا كان سيء الغذاء، أو ابن هرمين، ويقال: رجل إنقحل وامرأة إنقحلة، إذا أسن حتى ييبس. والمسلهم: الضامر. قال الشاعر:
لما رأتني خلقا ًإنقحلا
ويقال في معنى: قحم قحر، ويقال: بعير قحارية، في هذا المعنى، وقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم. فريث وعوض ما يضاف إلى الأفعال، وتأويله أنه لا يطعم النوم إلا يسيراً حتى يبعثه الهم، فمعناه مقدار ذلك
ـــــــ
1 الشطر الثاني ساقطة من ر.
2 سورة الأنعام: 125.
3 من الإيالة: وهي سياسة الحكم.
ومما يضاف إلى الأفعال أسماء الزمان، كقوله عز ذكره: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 1؛ فأسماء الزمان كلها تضاف إلى الفعل، نحو قولك: آتيك يوم يخرج زيد. وجئتك يوم قام عبد الله، وما كان منها في معنى الماضي جاز أن يضاف إلى الابتداء والخبر، فتقول: جئتك يوم زيد أمير، ولا يجوز ذلك في المستقبل، وذلك لأن الماضي في معنى إذ، وأنت تقول: أجيئك إذ زيد أمير، والمستقبل في معنى إذا، فلا يجوز أن تقول: أجئتك إذا زيد أمير، فلذلك لا يجوز: أجيئك يوم زيد أمير. فأما الأفعال في إذا وإذ فهي بمنزلة واحدة، تقول: جئتك إذ قام زيد، وأجيئك إذا قام زيد، فهذا واضح بين، ومما يضاف إلى الفعل ذو في قولك: افعل ذاك بذي تسلم، وافعلاه بذي تسلمان معناه: بالذي يسلمكما، ومن ذلك "آية" في قوله:
بآية تقدمون الخيل شعثاً ... كأن على سنابكها مداما2
والنحو يتصل ويكثر، وإنما تركه الاستقصاء لأنه موضع اختصار، 3وقد أتينا على جمع هذا في الكتاب المقتضب3. فقال المهلب: إنا والله ما كنا أشد على عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة، والعاقبة للتقوى، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً مما أحببناه من العجلت. فقال له الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم، فأمر الناس فكتبوا ذلك للحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله. ثم ذكرهم للحجاج على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة، ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً وقال: إنه والله لو قدمهم أحد في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. قال الحجاج: صدقت، وما أنت بأعلم بهم مني وإن حضرت وإبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة بن أبي صفرة والرقاد وأشباههما، فقال الحجاج: أين الرقاد? فدخل رجل طويل أجنأ4، فقال المهلب هذا فارس العرب، فقال الرقاد: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلب، فكنت
ـــــــ
1 سورة المائدة: 119.
2 نسبة سيبويه في الكتاب "1: 460"إلى الأعشى.
3 ساقطة من ر.
4 من الجنأ؛ وهو ميل في الظهر.
كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني أسوة نفسه وولده ويجاريني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرساناً؛ فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلب ألفين، وفعل بالرقاد وجماعة شبيهاً بذلك.
قال يزيد بن حبناء من الأزارقة:
دعي اللوم إن العيش ليس بدائم ... لا تعجلي باللوم يا أم عاصم
فإذ عجلت منك الملامة فاسمعي ... مقالة مقني بحقك عالم
ولا تعذلينا في الهدية إنما ... تكون الهدايا من فضول المغانم
فليس بمهد من يكون نهاره ... جلاداً ويمسي ليله غير نائم
يريد ثواب الله يوماً بطعنة ... غموس كشدق العنبري بن سالم
أبيت وسربالي دلاص حصينة ... ومغفرها والسيف فوق الحيازم1
حلفت برب الواقفين عشية ... لدى عرفات حلقه غير آثم
لقد كان في القوم الذين لقيتهم ... بسابور شغل عن بروز اللطائم
توقد في أيديهم زاعبية ... ومقهة تقري شؤون الجماجم
قوله: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم يريد يمسي هو في ليله ويكون ه في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2. والمعنى بل مكركم في الليل والنهار، وقال من أهل البحرين من اللصوص:
أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في جوف منحوت من الساج
وقال آخر:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
ولو قال: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم.
فكان جيداً، وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلاداً، كما تقول: إنما
ـــــــ
1 الدلص من كل شيء البراق, ومنه سميت الدرع دلاسا.
2 سورة سبأ: 33.
أنت سيراً، وإنما أنت ضرباً تريد تسير سيراً، وتضرب ضرباً، فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيراً، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد، على قوله: أنت سير أي أنت جائز كما قالت الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
وفي القرآن: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} 1 أي غائراً، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح، ولو قال: ويسمي ليله غير نائم لجاز: يصير اسمه في يمسي، ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره على السعة التي ذكرنا.
وقوله: غموس يريد واسعة محيطة. والعنبري بن سالم رجل منهم كان يقال له الأشدق. واللطائم: واحدتها: لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البز والعطر. وقوله: توقد في أيديهم زاعبية يعني الرماح، والتوقد للأسنة، والزاعبية منسوبة إلى زاعب، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح. وتفري: تقد، يقال فرى إذا قطع، وأفرى إذا أصلح.
وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب:
أبا سعيد جزاك الله صالحة ... فقد كفيت ولم تعنف على أحد
داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا ... وكنت كالوالد الحاني على الولد
وقال عبيدة بن هلال في هربهم مع قطري:
ما زالت الأقدار حتى قذفنني ... بقومس بين الفرخان وصول
ويروى أن قاضي قطري، وهو رجل من بني عبد القيس، سمع قول عبيدة بن هلال:
علا فوق عرش فوق سبع ودونه ... سماء ترى الأرواح من دونها تجري
فقال له العبدي: كفرت إلا أن تأتي بمخرج، قال: نعم، روح المؤمن تعرج إلى السماء، قال: صدقت. وقال يذكر رجلاً منهم:
ـــــــ
1 سورة الملك 30.
يطوي وترفعه الرياح كأنه ... شلو تنشب في مخالب ضار1
فثوى صريعاً والرماح تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار
تنوشه: تأخذه وتتناوله، قال الله عز وجل: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 2 أي التناول. ومثل بيته هذا قول حبيب الطائي:
فيم الشماتة إعلاناً بأسد وغى ... أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع
وقال أيضاً في شبيه بهذا المعنى:
إن ينتحل حدثان الموت أنفسكم ... ويسلم الناس بين الحوض والعطن
فالماء ليس عجيباً أن أعذبه ... يفنى ويمتد عمر الآجن الأسن
وقالأيضاً:
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر
وقال القاسم بن عيسى:
أحبك يا جنان فأنت مني ... مكان الروح من بدن الجبان
ولو أني أقول كان روحي ... لخفت عليك بادرة الزمان3
لإقدامي إذا ما الحرب جاشت ... وهاب حماتها حر الطعان
وقال معاوية بن أبي سفيان في خلاف هذا المعنى:
أكان الجبان يرى أنه ... يدافع عنه الفرار الأجل
فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل
رجع الحديث: وقال رجل من عبد القيس من أصحاب المهلب:
سائل بنا عمرو القنا وجنوده ... وأبا نعامة سيد الكفار
أبو نعامة: قطري.
ـــــــ
1 الشلو: العضو.
2 سورة سبأ: 52.
3 بادرة الرجل: ما بدر منه من قول أو فعل.
وقال المغيرة بن حبناء الحنظلي من أصحاب المهلب:
إني امرؤ كفني ربي وأكرمني ... عن الأمور التي في رعيها وخم
وإنما أنا إنسان أعيش كما ... عاشت رجال وعاشت قبلها أمم
ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا ... عني بما صنعوا عجز ولا بكم
ولو أردت قفولاً ما تجهمني ... إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا
إن المهلب إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا
أن الأريب الذي ترجى نوافله ... والمستعان الذي تجلى به الظلم
القائل الفاعل الميمون طائره ... أبو سعيد إذا ما عدت النعم
أزمان أزمان إذ عض الحديد بهم ... وإذ تمنى رجال أنهم هزموا
قال أبو العباس: وهذا الكتاب لم نبتدئه لتتصل فيه أخبار الخوارج ولكن ربما اتصل الشيء بالشيء، والحديث ذو شجون، ويقترح المقترح ما يفسخ به عزم صاحب الكتاب، ويصده عن سننه، ويزيله عن طريقه.
ونحن راجعون إن شاء الله إلى ما ابتدأ له هذا الكتاب، فإن مر من أخبار الخوارج شيء مر كما مر غيره ولو نسقناه على ما جرى من ذكرهم لكان الذي يلي هذا خبر نجدة، وأبي فديك، وعمارة الرجل الطويل، وشبيب، ولكان يكون الكتاب للخوارج مخلصاً.
المجلد الرابع
باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ
نبذ من كلام الحكماء في الموعظة...
قال أبو العباس: كان الحسن يقول: الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره، لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بد لنا منه.
يقول: كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر، ولا بد لنا من الرجوع إليه.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه1 يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم، وإليه يلجأ2 الجازع.
وقال للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور.
وقال الخزيمي:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع3
وفي هذا الشعر وإن لم يكن من هذا الباب:
وأعددته ذخراً لكل ملمةٍ ... وسهم المنايا بالذخائر مولع
ـــــــ
1 ر: "صلوات الله عليه".
2 ر, س: "يعود".
3 قبله:
وأني وإن أظهرت في جردة ... وصانعت أعدائي عليه لموجع
ملكت دموع العين حتى ردتها ... إلى ناظري وأعين القلب تدمع
خطبة لأبي طالبوخطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تزوجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها، فقال؛ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس؛ ثم إن محمد بن عبد الله، ابن أخي، من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قل1، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي.
وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية.
ـــــــ
1 قل: "قليل".
وفود النابغة الجعدي على ابن الزبيرومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة، عن أبيه عن جده، قال: أقحت السنة علينا، النابغة الجعدي، فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه يقول:
حكيت لنا الصديق حين وليتنا ... وعثمان والفارق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في العدل فاستووا ... فعاد صباحاً حالك الليل مظلم
أتاك أبو ليلى يشق به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عثمثم
لترفع منه جانباً ذعذعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق بحقك في المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توقر له حباً وتمراً. فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما استرجمت قريش
فرحمت وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت، فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين".
قوله: أقحمت السنة يكون على وجهين: يقال: اقتحم إذا دخل قاصداً، وأكثر ما يقال من غير أن يدخل، ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والآخر حسن.
والسنة: الجدب، يقال: أصابتهم سنة إذا أصابهم1 جذب، ومن ذا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 2، أي بالجدب.
وقوله: صفوة، فهي في معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر3 كقولك: حسن الجلسة والركبة والمشية3 والنيمة، كأنها خلقة.
والعفوة إنما هو ما عفا، أي ما فضل، {خُذِ الْعَفْوَ} 4، قالوا: الفضل، وكذلك قوله جل اسمه: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 5
وقوله: عثمثم، يريد الموثق الخلق الشديد.
وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرقت حاله.
وقوله: راحلة رحيل، أي قوية على الرحلة معودة لها. ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة، وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشاً لأضحي به، أملح، واجعله أقرن فحيلاً.
وقوله: "فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين"، الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا، ومن ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً. وجاء في
ـــــــ
1 كذا الأصل, س, وفي ر: "أي جدب".
2 سورة الأعراف: 130
3 تكملة من ز.
4 سورة الأعراف 199.
5 سورة البقرة 219.
الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا فرطكم على الحوض". وكان يقال: يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسباً، ومن بيت الله بيتاً. ويقال: إن دار أسد ابن عبد العزى كان يقال لها: رضع الكعبة، وذلك أنها تفيء عليها الكعبة صباحاً، وتفيء على الكعبة عشياً، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها إليه، وفي ذلك يقول القائل:
لهاشم وزهير فضل مكرمة ... بحيث حلت نجوم الكبش والأسد1
مجاور البيت ذي الأركان بيتهما ... ما دونهم في جوار البيت من أحد
وقال آخر:
سمين قريش مانع منك لحمه ... وغث قريش حيث كان سمين
وقال آخر:
وإذا ما أصبته من قريش ... هاشمياً أصبت قصد الطريق
وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة:
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكنفك الندامى من قريش
وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتسكن بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
صلاح: اسم من أسماء مكة وكانت بلداً لقاحاً، واللقاح: الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيماً لها، حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذ قاتلوا في الحرم. وكانت قريش تعز الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدم.
ـــــــ
1 حاشية الأصل: هما هاشم وزهير, أبنا الحارث بن أسد.
تحريض سديف على بني أميةودخل سديف مولى أبي العباس السفاح0 على أبي العباس أمير المؤمنين، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها، فلما رأى ذلك سديف أٌبل على أبي العباس، وقال:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داءً ودوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أموياً
فأقبل عليه سليمان فقال: قتلتني أيها الشيخ قتلك الله! وقام أبو العباس فدخل، فإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل.
تحريض شبل بن عبد الله على بني أميةودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي، وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سمط الطعام، فمثل بين يديه، فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس
لا تقلين عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربة وتناسي
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس!
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها، ودعا بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً وقال لشبل: لولا أنك
خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم.
قوله: الآساس واحدها أس، وتقديرها فعل وأفعال وقد يقال للواحد: أساس، وجمعه أسس.
والبهلول: الضحاك.
وقوله:
بعد ميل من الزمان ويأس
يقال: فيك ميل علينا، وفي الحائط ميل، وكذلك كل منتصب.
وقوله: واقطعن كل رقلة، الرقلة: النخلة الطويلة، ويقال إذا وصف الرجل بالطول: كأنه رقلة.
والأواسي، ياؤه مشددة في الأصل وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام لجاز في الشعر؛ لأن القافية تقتطعه، وكل مثقل فتخفيفه في القوافي جائز، كقوله:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر1
وواحدها أسية وهي أصل البناء بمنزلة الأساس.
وقوله: وغاظ سوائي تقول: ما عندي رجل سوى زيد، فتقصر إذا كسرت أوله، فإذا فتحت أوله على هذا المعنى مددت، قال الأعشى:
تجانف عن جو اليمامة، ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا2
والسواء ممدود في كل موضع وإن اختلفت معانيه، فهذا واحد منه، والسواء: الوسط، ومنه قوله عز وجل: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} 3, وقال
ـــــــ
1 مطلع قصيدة لطرفة: ديوانه 36.
2 تجانف: تميل وتعدل
3 سورة الصافات 55.
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
والسواء: العدل والاستواء، ومنه قوله عز وجل: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 1، ومن ذلك: عمرو وزيد سواء، والسواء: التمام، يقال: هذا درهم سواء، وأصله من الأول، وقوله عز وجل: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} 2، معناه تماماً. ومن قرأ: سَواءٍ فإنما وضعه في موضع مستويات.
والنمارق، واحدتها نمرقة، وهي الوسائد، قال الفرزدق:
وإنا لتجري الكأس بين شروبنا ... وبين أبي قابوس فوق النمارق
وقال نصيب:
إذا ما بساط اللهو مد وقربت ... للذاته أنماطه ونمارقه
وقوله: مصرع الحسين وزيد يعني زيد بن علي بن الحسين، كان قد خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفي وصلبه بالكناسة3 عرياناً، هو وجماعة من أصحابه.
ويروى الزبيريون أنه كان بين يوسف بن عمر وبين رجل إحنة، فكان يطلب عليه علة، فلما ظفر بزيد بن علي وأصحابه أحسوا بالصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدوا4، فصلبوا عراة، وأخذ يوسف عدوه ذلك، فنحله أنه كان من أصحاب زيد فقتله وصلبه، ولم يكن استحد5، لأنه كان عند نفسه آمناً، وكان بالكوفة رجل معتوه عقده6 التشيع، فكان يجيء فيقف على زيد وأصحابه فيقول: صلى الله عليك يا ابن رسول الله، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ودافعت الظالمين؛ ثم يقبل عليهم رجلاً رجلا فيقول: وأنت يا فلان
ـــــــ
1 سورة أل عمران 64.
2 سورة فصلت 10.
3 الكناسة: محلة بالكوفة.
4 الاستحداد: الحلق.
5 ر: "استمد".
6 عقد: اعتقاده.
فجزاك الله خيراً، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ونصرت ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقف على عدو يوسف فيقول: فأما أنت يا فلان، فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قرفت1 به!.
[قال أبو العباس: وقال حبيب بن جدرة - ويقال: ابن جدرة، وهي السلعة2 - الهلالي.
قال الأخفش: الصحيح عندنا ابن خدرة بالخاء وكسرها، وقال المبرد: لم أسمعه إلا جَدَرَةَ ويقال: جُدرةَ]3.
وهو من الخوارج، يعني زيد بن علي:
يابا حسين لو شراة عصابة ... صحبوك كان لوردهم إصدار4
يابا حسين والجديد إلى بلى ... أولاد درزة أسلموك وطاروا
تقول العرب للسفلة والسقاط: أولاد درزة، وتقول لمن تسبه: ابن فرتنى، وأولاد فرتنى. وتقول للصوص: بنو غبراء، وفي هذا الباب.
ويروى أن شاعراً لبني أمية قال معارضاً للشيع في تسميتهم زيداً المهدي [والشاعر هو الأعور الكلبي]3:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب
ونظر بعد زمين إلى رأس زيد ملقى في دار يوسف وديك ينقره، فقال قائل من الشيعة:
اطردوا الديك عن ذؤابة زيد ... طالما ما كان لا تطاه الدجاج
وقوله:
وقتيلاً بجانب المهراس
ـــــــ
1 فرقت: اتهمت.
2 السلعة: خلقة في البدن من ضرب أو جراحة.
3 مابين العلامتين من زيادات ر.
4 ر: "صبحوك" والبيت لم يذكر في س.
يعني حمزة بن عبد المطلب، والمهراس ماء بأحد، ويروى في الحديث أن رسول الله صلى الله علية وسلم عطش يوم أحد، فجاءه علي في درقة بماء من المهراس فعافه فغسل به الدم عن وجهه.
وقال ابن الزبعري في يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فاسأل المهراس من ساكنه ... بعد أبدان وهام كالحجل
وإنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أمية؛ لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد.
والقتيل الذي بحران هو إبراهيم بن محمد بن علي، وهو الذي يقال له الإمام.
وكان يقال: ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر؛ فيوم كربلاء يوم الحسين بن علي بن أبي طالب وأصحابه، ويوم النقر يوم قتل يزيد بن المهلب وأصحابه.
وإنما ذكرنا هذا لتقدم في إكرام مواليها.
من أخبار المواليولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيش موتة زيداً مولاه، وقال: إن قتل فأميركم جعفر. وأمر رسول الله أسامة بن زيد، فبلغه أن قوماً طعنوا في إمارته، وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: "إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله، ولقد كان لها أهلاً، وإن أسامة لها لأهل"، وقالت عائشة: لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره. وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي وأنا وهو سيان? فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك. وأوصى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب، فكأنها تكرهته، فتولى منه ذلك رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده. وقال له يوماً، ولم يكن أسامة من أجمل الناس: "لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك". وفي بعض الحديث أنه قال: "أسامة من أحب الناس إلي".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: سلمان منا أهل البيت.
ويروى أن أمير المؤمنين المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت والله أن تقول: ومولاي فأنفض والله يدك. فتبسم أمير المؤمنين المهدي.
ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب؛ زعم الليثي أنه كانت بين جعفر ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه، ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت عنه، وإن وجه إلي مولى مثل هذا - وأومأ إلى مولاه1 مولى مثل هذا، عاضاً لما يكره1 - فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه الذي تبهى بمثله العرب.
وقد قيل: الرجل من أبيه، والمولى من مواليه. وفي بعض الحديث2 أن المعتق من فضل طينة المعتق.
ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه، فانتزعها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا أبا عبد الله، إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا".
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "الأحاديث".
ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن، يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلة الرجال، نازع عمرو بن هداب المازني، وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة1، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو، فلما قلع من سطحه سافاً2 كف عنه، ثم قال يا عمرو! أريتك القدرة وسأريك العفو.
وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة. كان نافع بن جبير، أحد بني نوفل بن عبد مناف، إذا مر عليه بالجنازة سأل عنها، فإن قيل: قرشي قال: وا قوماه! وإن قيل: عربي قال: وا مادتاه! وإن قيل: مولى أو عجمي قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت! ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك.
وزعم الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة? قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ واله رقابنا قبل ذلك.
وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره، ولكن الحديث يجر بعضه بعضاً، ويحمل بعضه على لفظ بعض.
ـــــــ
1 قاطبة, أي جميعهم.
2 الساف: كل سطر من الطين واللبن.
ثم نعود إلى ما ابتدأناه إن شاء الله، وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ، والزهد في الدنيا المتصل بذلك، وبالله التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو العابس: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا، أنا نذكر فيه خطباً ومواعظ: فمما نذكره في1 ذلك أمر التعازي والمراثي؛ فإنه باب جامع، وقد قيل إنه لم يقل في شيء قط كما قيل في هذا الباب؛ لأن الناس لا ينفكون من المصائب، ومن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يعدم نفيساً كان هو المعدوم دون النفيس، وحق الإنسان الصبر على النوائب، واستشعار ما صدرناه، إذ كانت الدنيا دار فراق ودار بوار، لا استواء. وعلى فراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد، وإنما يفاضل الناس بصحة الفكر، وحسن العزاء، والرغبة في الآخرة، وجميل الذكر.
ـــــــ
1 ر: "من".
من مراثي الآباء والإخوة والأبناءفقد قال أبو خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب، يذكر أخاه عروة بن مرة:
تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل
وقال عمرو بن معدي كرب:
كم من أخ لي حازم ... بوأته بيدي لحدا
أعرضت عن تذكاره ... وخلقت يوم خلقت جلدا
وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب فعاجز الرأي.
وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك? قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه.
وقال إبراهيم بن المهدي يذكر ابنه:
وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت عنك قريب1
وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة خبيب
وكفى باليأس معزياً، وبانقطاع الطمع زاجراً! كما قال الشاعر:
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوباً وإني لموجع ... كما صبر العطشان في البلد القفر
وقال بعض المحدثين وليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث، يقوله لرجل رثاه [قال أبو الحسن: وهو أبو تمام]:
عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وحدثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2 فليعلم ذوو النهي منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله
ـــــــ
1 ر: "منك".
2 سورة آل عمران 185.
مسألة فاحصة، قال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 ، وله يقول القائل:
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدم ... لكل على حوض المنية مورد
وقال رجل من قريش يرثي ابنه [قال أبو الحسن: هو العتبي]:
بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وودعني بماء شبابه2
كيف السلو وكيف صبري بعده ... وإذا دعيت فإنما أكنى به!
وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر:
فإن يك حزن أو تجزع غصة ... أماراً نجيعاً من دم الجوف منقعا
تجرعته في عاصم واحتسيته ... لأعظم منه ما احتس وتجرعا
وقال أبو سعيد إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبناها، وكان حدباً عليها كلفاً بها:
أمست أميمة معموراً بها الرجم ... لقى صعيد عليها الترب مرتكم3
يا شقة النفس إن النفس والهة ... حرى عليك ودمع العين منسجم4
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
ـــــــ
1 سورة الحجر: 92-93.
2 يقال: عبأت الطيب عبئا؛ إذا صنعته وخلطته.
3 الرجم: القبر, واللقى: الشيء الملقى لهونه.
4 الشفة: نصف الشيء
فالآن نمت فلا هم يؤرقني ... يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم1
للموت عند أياد لست أنكرها ... أحيا سروراً وبي مما أتى ألم
وهذا المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح والحزن المفرط، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع، وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي، والركون إلى التعزي، وقول من كان له واعظ من نفسه، أو مذكر من ربه، ومن غلبت عليه الجساوة2، وكان طبعه إلى القساوة، فقد اختلط كل بكل.
وقال رجل من المحدثين يرثي أباه3:
تحل رزيات وتعرو مصائب4 ... ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر
لقد عركتنا للزمان ملمة ... أذمت بمحمود الجلادة والصبر5
فهذا يحسن من قائله أن الرزء كان جليلاً بإجماع، فللقائل أن يتفسح في القول فيه.
وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عبد الرحيم من جلة أهله لسناً ونعمة وسناً وولاية، ومات معزولاً عن اليمن في حبس الخليفة. وأم جعفر بن سليمان أم حسن بنت جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم. فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة:
ـــــــ
1 ألهت: هلكت.
2 الجساوة: الغلظ.
3 ر: "أخاه".
4 حاشية الأصل: "ش: تحل".
5 أذمت: تركته مذموما.
بموتك يا عبد الرحيم بن جعفر ... تفاحش صدع الدين عن ألأم الكسر
فيا ابن النبي المصطفى وابن بنته ... ويا ابن علي والفواطم والحبر1
ويا ابن اختيار الله من آل آدم ... أباً فأباً طهراً يؤدي إلى طهر
ويا ابن سليمان الذي كان ملجأ ... لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر
ومن ملأ الدنيا سماحاً ونائلاً ... وروى حجيجاً بالملمعة القفر2
لعز بما قد نالنا من رزيئة ... بموتك محبوساً على صاحب القبر
فإن تضح في حبس الخليفة ثاوياً ... أبياً لما يعطي الذليل على القشر
لكم من عدو للخليفة قد هوى ... بكفك أو أعطى المقادة عن صغر
فوا حزناً! لو في الوغى كان موته ... بكينا عليه بالردينية السمر
وكنا وقيناه القنا بنحورنا ... وفات كذا في غير هيج ولا نفر
وحدثت أن عمر بن الخطاب لما ولى كعب بن سور الأزدي قضاء البصرة، أقام عاملاً له عليها إلى أن استشهد، على أنه كان قد عزله ثم رده، فلما قام عثمان بن عفان أقره، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له - قالوا ثلاثة، وقالوا أربعة - وفي عنقه مصحف، فقتلوا جميعاً، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت:
يا عين جودي بدمع سرب ... على فتية من خيار العرب
وما لهم غير حين النفو ... س أي أميري قريش غلب!
هذه الرواية سرب وقالوا معناه: جار في طريقه، من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمة يختار فيه الفتح:
كأنه من كلى مفرية سرب
ـــــــ
1 الحبر: هو عبد الله بن العباس.
2 الملمعة: الأرض يلمع فيها السرب.
لأنه اسم، والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت موضع1 المنعوت غير المخصوص.
[قال أبو الحسن: حق النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدل عليه فيكون خاصاً له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز؛ لأن طويلاً أعم من قولك: إنسان، فلا بدل عليه. فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد: جاءني متكلم جاز؛ لأنك تدل به على الإنسان، فهذا شرح قوله: المخصوص].
وقولها: غير حين النفوس نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحاً.
والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر والمتمثل به السائر.
فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه:
[قال أبو الحسن: يقال إنه2 لأبي العتاهية]
قلب يا قلب أوجعك ... ما تعدى فضعضعك
يا أبي ضمك الثرى ... وطوى الموت أجمعك
ليتني يوم مت صرت ... إلى حفرة معك3
رحم الله مصرعك ... برد الله مضجعك
ـــــــ
1 ر: "موضع".
2 ر: "يقال إنه ابن لأبي التاهية".
3 ر: "تربة معك".
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة:
نأى آخر الأيام عنك حبيب ... فللعين سح دائم وغروب1
دعته نوى لا يرتجي أوبة لها ... فقلبك مسلوب وأنت كئيب
يؤوب إلى أوطانه كل غائب ... وأحمد في الغياب ليس يؤوب
تبدل داراً غير داري وجيرة ... سواي، وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطناً غير أنه ... على طول أيام المقام غريب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى ... سقاه الندى فاهتز وهو رطيب2
كأن لم يكن كالدر يلمع نوره ... بأصدافه لما تشنه ثقوب
كأن لم يكن زين الفناء ومعقل الن ... ساء إذا يوم يكون عصيب
وريحان صدري كان حين أشمه ... ومؤنس قصري كان حين أغيب
وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت ... بحمد إلهي وهي منه سليب
قليلاً من الأيام لم يرو ناظري ... بها منه حتى أغلقته شعوب3
كظل سحاب لم يقم غير ساعة ... إلى أن أطاحته فطاح جنوب
أو الشمس لما من غمام تحسرت ... مساء وقد ولت وحان غروب
سأبكيك ما أبقت دموعي والبكا ... بعيني ماء يا بني يجيب
وما غار نجم أو تغنت حمامة ... أو اخضر في فرع الأراك قضيب
حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ... ثويت وفي قلبي عليك ندوب
وأضمر إن أنفدت دمعي لوعة ... عليك لها تحت الضلوع وجيب
دعوت أطباء العراق فلم يصب ... دواءك منهم في البلاد طبيب
ـــــــ
1 السح: الصب, وغروب: جمع غرب وهو الدمع حين يجري
2 ميعة كل شيء: أوله؛ أي في أول شبابه.
3 شعوب: اسم للموت.
ولم يملك الآسون دفعأً لمهجة ... عليها لأشراك المنون رقيب
قصمت جناحي بعد ما هد منكبي ... أخوك، فرأسي قد علاه مشيب
فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة ... تذاب بنار الحزن فهي تذوب
توليتما في حقبة فتركتما ... صدى يتولى تارة ويثوب
فلا ميت إلا دون رزئك رزؤه ... ولو فتتت حزناً عليه قلوب
وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتتابع له بنون:
كل لساني عن وصف ما أجد ... وذقت ثكلا ما ذاقه أحد
وأوطنت حرقة حشاي فقد ... ذاب عليها الفؤاد والكبد
ما عالج الحزن والحرارة في ... الأحشاء من لم يمت له ولد
فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليال ليست لها عدد
فكل حزن يبلى على قدم الد ... هر وحزني يجده الأبد
وذكر بعض الرواة أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى علي، واستخلف على اليمن عمرو بن أركة الثقفي، فوجه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن أرطاة، أحد بني عامر ابن لؤي، فقتل عمرو بن أراكة، فجزع عليه عبد الله أخوه جزعاً شديداً، فقال أبوه:
لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمهرين من ثبج البحر
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً ... بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجر
وقلت لعبد الله إذ حن باكياً ... تعز، وماء العين منهمر يجري
تبين فإن كان البكار رد هالكا ... على أهله فاشدد بكابك على عمرو
ولاتبك ميتاً بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
قوله: من ثبج البحر فثبج كل شيء وسطه، ويروى في الحديث1: كنت إذا ُفاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن هو مثل، يقال: "مريت الناقة" إذا مسحت ضرعها لتدر، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: "مريت برجلي الأرض"، إذا مسحتها، والأصل ذلك، فإنما أراد: ولو كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر.
وكان بسر بن أرطاة ي تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب، هما، طفلان أمهما من بني الحارث بن كعب، فوارتهما الحارثية، فيقال إنه أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثية:
ألا من بين الأخوين ... أمهما هي الثكلى
تسائل من رأى ابنيها ... وتستبغي فما تبغى
وفي ذلك تقول أيضاً:
يا من أحسن بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف2
يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف
ـــــــ
1 قال المرصفي: "الصواب ما ذكره ابن الأثير في نهايته, قال: "وفي حديث أم حرام قوم "يركبون ثبج هذا البحر", أي معظمه ووسطه, ومنه حديث الزهري: كنت إذا فاتحت عروة بن الزبير فتقت به ثبج بحري" يريد غزارة علمه وفهمه".
2 تشظي: تشقق وتفرق شظايا.
يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف1
نبئت بسراً، وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي طفلي مرهفة ... مشحوذة، وعظيم الإفك يقترف
من دل والهة حرى مفجعة ... على صبيين غابا إذ مضى السلف
ويرى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل:
إذا سار من خلف امرئ وأمامه ... وأوحش من أصحابه فهو سائر
فلما أتاه موت زياد تمثل:
وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمي به أو يكسر السهم كاسر
وماتت امرأة للفرزدق بِجُمع ومعنى جمع ولدها في بطنها وإن شئت قلت: جِمعٌ يا فتى، فقال الفرزدق:
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا!
وهذا من البغي في الحكم والتقدم.
وقال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله بن طاهر أصيبا في يوم واحد وهما طفلان شبيهاً بهذا، ولكنه اعتذر فحسن قوله وصح معناه باعتذاره، وهو الطائي:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً
ـــــــ
1 مزدحف: أصيب به.
الفرزدق يرثي حدراء الشيبانيةوقال الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية:
يقول ابن صفوان بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا
يقولون زر حدراء، والترب دونها ... وكيف بشيء عهده قد تقطعا
ولست وإن عزت علي بزائر ... تراباً على مرموسة قد تضعضعا1
وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء من أصحابه من تقنعا
وما مات عند ابن المراغة مثلها ... ولا تبعته ظاعناً يوم ودعا
ـــــــ
1 المرسوسة: يقال رمس الميت يرمسه, إذا دفنه.
لجرير يرثي امرأتهوقال جرير يرثي امرأته:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
نعم الخيل وكنت علق مضنة ... ولدي منك سكينة ووقار
لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
صلى الملائكة الذين تخيروا ... والصالحون عليك والأبرار
أفأم حزرة يا فرزدق عبتم ... غضب المليك عليكم الجبار2
ـــــــ
1 حزرة, هو ابن جرير.
لرجل من خزاعة يرثي عمر بن عبد العزيزوقال رجل من خزاعة - وينحله كثير - يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان:
[1قال أبو الحسن: الشعر لقطرب النحوي؛ وهو الذي صح عنه1]:
ـــــــ
1 ر: "قال الحسن: الذي صح عندنا أن الشعر لقطرب النحوي.
أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور
جلت رزيئته فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
يثني عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ومثله قول عمارة يمدح خالد بن يزيد بن مزيد:
أرى الناس طراً حامدين لخالد ... وما كلهم أفضت إليه صنائعه
ولن يترك الأقوام أن يمدحوا الفتى ... إذا كرمت أخلاقه وطبائعه
فتى أمعنت ضراؤه في عدوه ... وخصت وعمت في الصديق منافعه
ومن قوله:
والناس مأتمهم عليه واحد
أخذ الطائي في مرثيته:
لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده ... لعهدي به حياً يحب به الدهر
لئن عظمت فيه مصيبة طيئ ... لما عريت منها تميم ولا بكر
وقال القرشي: قد كنت أبكي على من سلفي وأهل ودي جميع غير أشتات
فاليوم إذ فرقت بيني وبينهم ... نوى بكيت على أهل المروءات
وما بقاء امرئ كانت مدامعه ... مقسومة بين أحياء وأموات!
ما تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمةويروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة رحمها الله:
[الكل اجتماع من خليلين فرقة ... وإن الذي دون الفراق قليل]1
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على ألا يدوم خليل
ـــــــ
1 البيت من زيادات ر.
لعقيل بن علفة يرثي ابنهوقال عقيل بن علفة المري، من غطفان:
لعمري لقد جاءت قوافل خبرت ... بأمر من الدنيا علي ثقيل
وقالوا ألا تبكي لمصرع هالك ... أصاب سبيل الله خير سبيل!
كأن المنايا تبتغي في خيارنا ... لها ترة أو تهتدي بدليل
لتأت المنايا حيث شاءت فإنها ... محللة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل
ما تمثلت به عائشة على قبر أخيهاوتمثلت عائشة رحمها الله عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمم بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومات صديق لسلميان بن عبد الملك، يقال له شراحيل، فتمثل عند قبره:
وهون وجدي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه
لأعرابي
وقال أعرابي:
ألا لهف الأزامل واليتامى ... ولهف الباكيات على قصي!
لعمرك ما خشيت على قصي ... متالف بين حجر والسلي1
ولكني خشيت على قصي ... جريرة رمحه في كل حي
فتى الفتيان محلول ممر ... وأمار بإرشاد وغي2
فهذا من أجفى أشعار العرب، ينبئ صاحبه أن تقديره في المرثي أن تكن منيته قتلاً، ويتأسف من موته حتف أنفه، ويقول في مدحه:
وأمار بإرشاد وغي
ـــــــ
1 حجرة: موضع باليمامة, والسلى: واد بها أيضا.
2 ممر من أمر الشيء, ضد حلا 5.
خبر عامر بن الطفيل وأربد أخي لبيدوشبيه بهذا قول لبيد في أخيه أربد، لما أصابته الصاعقة وأصابت عامراً الغدة1 بدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عامر قد قدم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2 ومعه أربد، فقال لأربد: أنا أشغله لك واضربه أنت بالسيف من ورائه، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام على أن يجعل له أعنة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم! ولكن إن شئت ذلك المدر ولي الوبر، أو لي المدر ولك الوبر. فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فاجعل لي هذا الأمر بعدك، فأعلمه النبي أن ذلك ليس بكائن، قال: فأبشر بخيل أولها عندك وآخرها عندي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يأبى الله ذلك وابنا قيلة" يعني الأوس والخزرج.
ويروى أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، علام يسحب هذا الأعرابي لسانه عليك! دعني أقتله.
ويروى أن عامراً قال للنبي عليه السلام: لأغزونك على ألف أشقر وألف شقراء، فلما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اكفنيهما". وتروي قيس أنه قال:
ـــــــ
1 الغدة: طاعون الإبل.
2 ر: "وكان عامر بن الطفيل صار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
"اللهم إن لم تهد عامراً فاكفنيه". وقال عامر لأربد: قد شغلته عنك مراراً فألا ضربته! قال: أربد: أردت ذلك مرتين فاعترض لي في إحداهما حائط من حديد، ثم رأيتك الثانية بيني وبينه، أفأقتلك! فلم يصل واحد منهما إلى منزله، أما عامر فغد في ديار بني سلول بن صعصة، فجعل يقول: أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية! وأما أربد فارتفعت له سحابة فرمته بصاعقة فأحرقته، وكان أخا لبيد لأمه، فقال يرثيه:
أحشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد
ما إن تعري المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
فجعني الرعد والصواعق بالق ... ارس يوم الكريهة النجد1
يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام العدو في كبد2
وقال أيضاً:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتحدثون مخانة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
يا أربد الخير الكريم جدوده ... غادرتني أمشي بقرن أعضب
إن الرزيئة لا رزيئة مثلها ... فقدان كل أخ كضوء الكوكب
قوله: في خلف يقال: هو خلف فلان لمن يخلفه من رهطه، وهؤلاء خلف فلان؛ إذا قاموا مقامه من غير أهله، وقلما يستعمل خلف إلا في الشر، وأصله ما ذكرنا. والمخانة: مصدر من الخيانة. والملوذ: الذي لا يصدق في مودته، يقال: رجل ملوذ وملذان، وملاذة مصدره. والأعضب: المقطوع. وفي الحديث: "لا يضحى بعضباء".
ويروى أن رجلاً قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما من الله به من بقائك، لكنا كما قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجر
فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس؛ هلا قلت كما قال نهار بن توسعة:
قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور
ثم نرجع إلى ذكر المراثي:
ـــــــ
1 النجدة: البطل الشجاع.
2 الكبد: الجهد والمشقة.
لأعرابيوقال أعرابي:
لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعي حيي أن سيدكم هوى
أجل صادقاً والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى1
فتى قبل لم تعنس السن وجهه ... سوى وضح في الرأس كالبرق في الدجى2
أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى3
ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآس وآداه فكان كمن جنى4
ـــــــ
1 أنبط الماء في الثري, قال المرصفي: "مثل لانجاز ذلك الوعد, وإنباط الماء استخراجه كاستنباطه" اسم ذلك الماء, بالتحريك.
2 قيل, قال المرصفي: هو في الأصل أن يرى الهلال ساعة يطلع من غير أن يتطلب لوضوحه؛ يريد أنه حين يبدو واضح الوجه ظاهره, ولم تعنس السن وجهه؛ أي لم تحوله إلى الكبر, والوضح: بياض الشيب.
3 القعقة ل: اضطراب السلاح بعضه ببعض, والأقرب: جمع بسكون الراء وضمها, يريد أقرب الخيل.
4 آداه: أعانه
صدار الخنساءويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الخنساء وعليها صدر من شعر، فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه! فقالت:
رجلاً متلافاً فأخفق1، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخراً فأسأله. فأتيته فشاطرني ماله، فأتلفه زوجي، فعدت له فعاد لي بمثل ذلك، فأتلفه زوجي، فعدت له. فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالت له امرأة: إن هذا المال متلف، فامنحها شرارها، فقال صخر:
والله لاأمنحها شرارها ... ولو هلكت خرقت خمارها
واتخذت من شعر صدارها
فلما هلك اتخذت هذا الصدار؛ وكان صخر أخا الخنساء لأبيها فقط.
ويروى عن بعض نساء بني سليم أنها نظرت إليها في صدر وهي تصنع طيباً لابنتها لتنقلها إلى زوجها، فقاولتها في شيء كرهته الخنساء، فقالت لها: اسكتني، فوالله لقد كنت أبسط منك عرفاً2، وأطيب منك ورساً، وأحسن منك عرساً، وأرق منك نعلاً، وأكرم منك بعلاً.
وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء! فقال: تلك كان لها أربع حصى.
ـــــــ
1 أخفق: ذهب ماله.
2 العراق: الرائحة.
لبعض القرشيين يرثي أخاهوقال القرشي وتتابعه له بنون:
أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فديتم وأعطينا بكم ساكني الظهر
فيا ليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيماً إلى الحشر
فماتوا كأن لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر على قبر
قد شمت الأعداء بي وتغيرت ... عيون أراها بعد موت أبي عمرو
تجري علي الدهر لما فقدته ... ولو كان حياً لاجترأت على الدهر
وقاسمني دهري بني مشاطراً ... فلما توفى شطره مال في شطري1
ـــــــ
1 توفى أي استوفى , وشطر الشيء: نصفه.
لآخر يرثي أبناءه أيضاً
وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: قدم رجل من البادية، فلما صار بجبل سنام مات له بنون، فدفنهم هناك، وقال:
دفنت الدافعين الضيم عني ... برابية مجاورة سناما
أقول إذا ذكرت العهد منهم ... بنفسي تلك أصداء وهاما
فلم أر مثلهم ماتوا جميعاً ... ولم أر مثل هذا العام عاما
[قال أبو الحسن الأخفش: وفيها عن غير أبي العباس:
فليت حمامهم إذ فارقوني ... تلقانا فكان لنا حماما]
للحارث بن عبد الله الباهلي يرثي أبناءهقال أبو العباس: ويورى أن رجلاً كان له بنون سبعة - يروي ذلك أبو الحسن المدائني - قال أبو العباس: فاختلف علي فيهم، فقال قوم: كانوا تحت حائط، وقال قوم آخرون: بل حلب لهم في علبة فمج فيها أفعى فبعث بها إليهم فشربوها فماتوا جميعاً.
والرجل يقال له الحارث بن عبد الله الباهلي، وهلكت لجار له شاة فجعل يعلن بالبكاء علهيا، فقال قائل:
يا أيها الباكي على شاته ... يبكي جهاراً غير إسرار
إن الرزيئات وأمثالها ... ما بقي الحارث في الدار
دعا بني معن وإخوانهم ... فكلهم يعدو بمحفار
قال أبو العباس: والمصائب، ما عظم منها وما صغر، تقع على ضربين؛ فالحزم التسلي عما لا يغني فيه، والاحتيال لدفع ما يدفع بالحيلة.
ومن أحسن القول في هذا المعنى في الإسلام، قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حين مات ابنه فلم ير منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره. وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل.
والعرب تقول: الحذر أشد من الوقيعة. وقال رجل من الحكماء: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضا والتسليم.
ومن هذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه.
يقال: لهيت عن الأمر ألهى؛ إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو، من اللعب.
الأوس بن حجر يرثي فضالة بن شريكومن أقدم ما قيل في هذا المعنى قول أوس بن حجر الأسيدي، من بني أسيد بن عمرو بن تميم، يرثي فضالة بن كلدة، أحد بني أسد بن خزيمة:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحـ ... ـة والنجدة والحزم والقوى جمعا
أودى فما تنفع الإشاحة من ... شيء لمن قد يحاول [البدعا]1
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
المخلف المتلف المرزأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا
والحافظ الناس في تحوط إذا ... لم يرسلوا خلف عاتئذ ربعا
وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمس كميع الفتاة ملتفعا
وشبه الهيدب العبام من ... الأقوام سقباً ملبساً فرعا
وكانت الكاعب الممنعة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا
ليبكك الشرب والمدامة والفتيان ... طراً وطامع طمعا
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولباً جدعا
ـــــــ
1 البيت من زيادات ر.
وفيها زيادة. لكنا اخترنا.
قوله: الألمعي: الحديد اللسان والقلب، وقد أبانه بقوله: الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا.
وقوله المخلف المتلف أراد أنه يتلف ماله كرماً ويخلفه نجدة، كما قال:
ناقته ترقل في النقال1 ... متلف مال ومفيد مال
وقال آخر:
فاتلف ذاك متلاف كسوب
والمرزأ: الذي تناله الرزيئات في ماله لما يعطي ويسأل. والإمتاع: الإقامة، فيقول: لم يقم وهو ضعيف.
والطبع: أسوأ الطمع، وأصله أن القلب يعتاد الخلة الدنيئة فتركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه، وهذا مثل وأصله في السيف وما أشبه، يقال: طبع السيف، إذا ركبه صدأ يستر حديده و{طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 2 من ذا.
وتحوط وقحوط: اسمان للسنة الجدبة، كما يقال: حجرة وكحل.
وقوله:
لم يرسلوا خلف عائذ ربعا
فالعائذ الحديثة النتاج، والربع: الذي ينتج في الربيع، ومن شأنهم في سنة الجدب أن ينحروا الفصال، لئلا ترضع فتضر بالأمهات.
وقوله: وعزت الشمأل الرياح يقول: غلبتها، وتلك علامة الجدب
ـــــــ
1 النقال: وانظر رغبة الأمل.
الإرقال: ضرب من المشي, والنقال: الحجارة.
2 سورة محمد 16.
وذهاب الأمطار، ومن ذلك قولهم: من عز بز أي من غلب استلب، وفي القرآن: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 1، أي غلبني في المخاطبة.
وقوله: وقد أمسى كميع الفتاة فالكميع الضجيع، وهو الكمع، قال الشاعر2:
ومشحوذ الغرار يبيت كمعي
يعني السيف، أي يبيت مضاجعي.
ملتفعاً، يقال: تلفع في مطرفه وفي كسائه، إذا تلفف وتزمل فيه، فيقول: من شدة الصر يلتفع به دون ضجيعه.
والكاعب: التي كعب ثديها، يقول: تصير كالسبع في زاد أهلها بعد أن كانت تعاف طيب الطعام.
وقوله: وذات هدم، يعني امرأة ضعيفة، والهدم: الكساء الخلق الرث. وقوله: عار نواشرها، النواشر: عروق الساعد. والتولب: الصغير. والجدع: السيئ الغذاء، وهو الجحن والقتين.
ـــــــ
1 سورة ص33.
2 في ر: "الرجز", والصواب ما أثبته من الأصل, والبيت من البحر الوافر.
لأعرابيوقال أعرابي1.
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد
فذاك الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد2
إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عيياً ولا عبئاً على من يقاعد
ـــــــ
1 نسبة أبو تمام في "الحماسة 2: 977 – شرح المرزوقي" إلى امرأة مكن بني أسد, ونقل المصفي عن الأغاني أن الأبيات لهفان بن همام.
2 النفنف: المهواة بين الجبلين.
لليلى الأخيلية في رثاء توبةوقالت ليلى الأخيلية:
دعا قابضاً والمرهفات ينشنه ... فقبحت مدعواً ولبيك داعيا!
فليت عبيد الله كان مكانه ... صريعأً ولم أسمع لتوبة ناعيا
وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حمير العقيلي ثم الخفاجي، غزا فغنم، ثم انصترف فعرس1 في طريقه فأمن فقال2، فندت فرسه، فأحاط به عدوه، ومعه عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما، فذبب عبيد الله شئياً وانهزما وقتل توبة، ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية:
أعيني ألا فابكي على ابن حمير ... بدمع كفيض الجدول المتفجر
لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحدر
سمعن بهيجا أزحفت فذكرنه ... وقد يبعث الأحزان طول التذكر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور
ولم يرد الماء السادام إذا بدا ... سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر
ولم يقدع الخصم الألد ويملإ ... الجفان سديفاً يوم نكباء صرصر
ألا رب مكروب أجبت وخائف ... أجرت ومعروف لديك ومنكر
فيا توب للمولى ويا توب للندى ... ويا توب للمستنبح المتنور
قولها:
لتبك عليه من خفاجة نسوة
تعني، خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والهيجاء تمد وتقصر، وقد مر هذا. وقولها:
بنجد ولم يطلع مع المتغور
ـــــــ
1 التعريس: المسافر أي حين.
2 فقال: من القيلولة؛ وهي النوم نصف النهار.
فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض، ويقال: ماء سدام ومياه سدم، وهي القديمة المندفقة، قال الشاعر:
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تحدى في طريق طلائح
وسنا الصبح: ضوؤه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت. والأخضر: الذي ذكرت: الليل، والعرب تسمي الأسود أخضر، وقولها: ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام. والسديف: شقق السنام.
والنكباء: الريح بين الريحين الشديدة الهبوب.
والصرصر: الشديدة الصوت. والمستنبح: الذي يسري فلا يعرف مقصداً فينبح لتجيبه الكلاب فيقصدها.
والمتنور: الذي يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعير جريراً.
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
فيقال إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم؛ منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة.
وقال آخر:
وإني لأطوي البطن من دون ملئه ... لمختبط في آخر الليل نابح
وإن امتلاء البطن في حسب الفتى ... قليل الغناء وهو الجسم صالح1
وقالت ليلى الأخيلية:
نظرت وركن من بوانة دوننا ... وأركان حسمى أي نظرة ناظر!2
ـــــــ
1 الغناء: الإجزاء.
2 بوانة وحمسي: موضعان.
إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر
ولم يبن أبراداً رقاقاً لفتية ... كرام ويرحل قبل فيء الهواجر
فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالاً دون جار مجاور
وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يقنع سواك بناصر
قولها: أي نظرة ناظر؛ يصلح فيه الرفع، والنصب على قوله: نظرت أي وتأويله مررت برجل كامل، فأيما في موضع كامل، وتقول: مررت بزيد أيما مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة ناظر فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة هي! كما تقول: سبحان الله، أي رجل زيد! وهذا البيت ينشد على وجهين:
فأومأت إيماء خفيا لحبتر ... وللله عينا حبتر أيما فتى
وأيما إن شئت على ما فسرنا.
وقولها:
إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيره
شأوها: طلقها1
وقولها:
لعاقرها فيها عقيرة عاقر
أي قد أصابوا عقيرة نفيسة؛ كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون. وهذا نظير قوله:
ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر ... أصابوا به وتراً ينيم ذوي الوتر
ـــــــ
1 الطلق: الشوق والغاية.
يقال: ثأر منيم، إذا أصابه المثئر هدأ واستقر، لأنه أصاب كفؤاً، وهذا خلاف قول الآخر:
قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وخلاف قول الحارث بن عباد:
لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلال
ولكن كما قال دريد بن الصمة:
قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي، من بني تيم اللات بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النابي بن زياد:
أن عبيد الله ما دام سالماً ... لسار على رغم العدو وغادي
ونحن قتلنا ابن الزبير ورأسه ... حززنا برأس النابي بن زياد
كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيات:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب
ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم، فلا علة فيه ولا ضرورة.
[قال الأخفش: المعروف فيه الهمز، والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبو، فصار مثل رام وقاض وما أشبههما].
وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله:
فإن تقتلوا منا كريماً فإننا ... قتلنا أمير المؤمنين بخالد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا وليداً عن بناء الولائد
تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكباً على خيشومه غير ساجد
وقال الخزاعي1 بعد:
قتلنا بالفتى القسري منهم ... وليدهم أمير المؤمنينا
ومرواناً قتلنا عن يزيد ... كذاك قضاؤنا في المعتدينا
وبابن السمط منا قد قتلنا ... محمداً بن هارون الأمينا
فمن يك قتله سوقاً فإنا ... جعلنا مقتل الخلفاء دينا
وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر تريد أنه متيقظ ظعان والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامة يحتمل ضروباً، فالمولى ابن العم، وقوله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2؛ يريد بني العم؛ قال الفضل بن العباس:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ويكون المولى المعتق؛ ويكون المولى من قوله جل ثناؤه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 3 ويكون المولى الذي هو أحق وأولى منه قوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} 4، أي أولى بكم. والمولى: المالك. وقولها: ولم يبن أبراداً تريد الخيام.
قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 5.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك إن ترد إقامتها، تكسرها، فدارها تعش بها".
ـــــــ
1 هو دعبل.
2 سورة مريم 5.
3 سورة محمد11.
4 سورة الحديد15.
5 سورة الزخرف18.
فممن ندر1 من النساء في باب من الأبواب: أم أيوب الأنصارية2، أم الدرداء3، ورابعة القيسية4 ومعاذة العدوية5، فإن هؤلاء النسوة تقدمن في الفضل والصلاح، على تقدم بعضهن بعضاً.
حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفاً من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها.
وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ربطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع.
ـــــــ
1 ندر: ظهر وبرز
2 أم أيوب بنت قيس الخزرجية, زوج أبو أيوب الأنصاري الصحابي.
3 أم الدرداء: زوج أبي الدرداء الخزرجي الصحابي
4 رابعة بنت إسماعيل العدوية من ولد مالك بن ضبيعة بن قيس
5 معاذة بنت عبد الله العدوية
من مراثي الخنساءفمما ندر من شعر الخنساء قولها ترثي صخراً:
يا صخر وراد ماء قد تناذره1 ... أهل المياه وما في ورده عار
مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة ... له سلاحان: أنياب وأظفار2
وما عجول على بو تحن له ... لها حنينان: إغلان وإسرار
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوماً بأوجع مني يوم فارقني ... صخر، وللعيش إخلاء وإمرار
وإن صخراً لوالينا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار
ـــــــ
1 تناذره, أي أنذر بعضهم بعضا وأخافه
2 الهيجاء: الحرب.
قولها:
يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عار
تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب.
والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر، وأصله في النمر.
والعجول: التي فارقها ولدها.
والبو، قد مضى تفسيره، وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو.
وقولها: إلى هيجاء معضلة تعني الحرب.
وقولها: بأنه علم في رأسه نار فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}1}، وقال جرير2:
إذا قطعن علماً بدا علم
ومن حسن شعرها قولها:
أعيني جوداً ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ـــــــ
1 سورة الرحمن 24.
2 من أرجورة له في ديوانه520, وبعده:
فهن بحثا كمضلات الخدم
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
قولها: طويل النجاد، النجاد: حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته، وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير:
فإني لأرضي عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
وقال مروان لأمير المؤمنين المهدي1:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تألق قينها فأطالها
وقال رجل من طيئ:
جدير أني يقل السيف حتى ... ينوس إذا تمطى فقي النجاد2
وقال الكمي [أبو نواس]3:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام
وقال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذي نعال السبت ليس بتوأم4
وقولها: رفيع العماد إنما تريد ذاك، يقال: رجل معمد، أي طويل، ومنه قوله عز وجل: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 5، أي الطوال.
وقولها: ما عالهم أي ما نابهم ونزل بهم، تقول العرب: ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثير:
يا عين بكي للذي عالني ... منك بدمع مسبل هامل
ـــــــ
1 كذا في الأصل, س, وفي ر: "المهدي".
2 قل الشيء: رفعه, وينوس: يتحرك.
3 مكتملة من ر.
4 سورة الفجر7.
5 سورة الفجر 7.
ومن جيد قولها:
أبعد ابن عهمرو من آل الشريد ... حلت به الأرض أثقالها
لعمر أبيه لنعم الفتى ... إذا النفس أعجبها ما لها
فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فخر الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها!
لأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
قولها: حلت به الأرض أثقالها حلت من الحلي1، تقول: زينت به الأرض الموتى. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 2، قالوا الموتى.
وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها؛ تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد.
والشوامخ: الجبال، والشامخ: العالي، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه.
وقولها: على آلة أي على حالة وعلى خطة، هي الفصيل، فإما ظفرت وإما هلكت.
وقولها: فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له! وإذا أفلت من عظيمة قال: أولى لي! ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات ميت في جواره أو في داره: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسراً.
وأنشد لرجل يقتنص، فإذا أفلته الصيد، قال: أولى لك! فكثر ذلك منه فقال:
ـــــــ
1 الحلى: اسم لكل ما يتزين به.
2 سورة الزلزلة 2.
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم1 ... ولكن أولى يترك القوم جوعا
وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو - وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها بعيداً2، وكان صخر يستحق ذلك منها بأمور: منها أنه كان موصوفاً بالحلم، ومشهوراً بالجود، ومعروفاً بالتقدم في الشجاعة، ومحظوظاً في العشيرة -:
أريقي من دموعك واستفيقي ... وصبراً إن أطقت، ولن تطيقي
وقولي إن خير بني سليم ... وفارسها بصحراء العقيق
ألا هل ترجعن لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق3
وإذ نن الفوارس كل يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق
وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق4
فبكيه فقد أودى حميداً ... أمين الرأي محمود الصديق
فلا واله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق
ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق
قولها:
أريقي من دموعك واستفيقي
معناه أن الدمعة تذهب الوعة
ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب، لعمر بن
ـــــــ
1 قال المرصفي: "يريد صدت لهم"
2 ساقطة من ر.
3 العقيق: ماء لبني أسيد بن عمرو بن تميم
4 أدماء؛ أي ناقة أدماء, في الإبل: البياض مع سواد المقلتين, والجمل الفنيق: كريم على أهله لا يهان.
عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم، وقال: "العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا يا إبراهيم لمحزونون" فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التراب، وقال: يا غلام، دابتي، ثم التفت1 إلى قبره، فقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
رجعنا إلى تفسير قولها: وقولها:
وصبراً إن أطقت ولن تطيقي
كقول القائل: إن قدرت على هذا فافعل، ثم أبانت عن نفسها فقالت: ولن تطيقي.
وقولها:
فلا والله لا تسلاك نفسي
تريد:لا تسلو عنك, كقوله عزوجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2, أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقولها:
لفاحشة أتيت ولا عقوق
معناه: لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر، فقالت:
ـــــــ
1 كذا في الأصل, س, وفي ر, "ثم وقف متلفتا"
2 سورة المطففين 3.
ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق
تأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفق1 بهما وجهها وصدرها.
قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا
إذا تأوب نوح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا
قوله:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما
يعني أختيه، يقول: ماذا يرد عليهما العويل والسهر!
وقوله:
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً
أراد لترديد النائحة صوتاً كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، كما قال الراعي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصبا ومقنعة الحنين عجولا
[قال الأخفش: الزجل: اختلاط الصوت الذي لصوته تطريب. والحيزوم: الصدر, وقصبا يعني زمارا2, شبه صوت الحادي بالمزمار, ومقنعة، أراد: وصوت مقنعة، يعني ناقة، ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه.
ـــــــ
1 تصفق: تضرب؛ "من صفق الطائر بجناحيه" أي ضرب بهما.
2 قال المرصفي: "صوابه مزمار, فهو صوت النعامة".
وقال عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
قال الأصمعي: نرمناي1
وقوله: لا رطباً ولا نقداً يقول: ليس برطب لا يبين فيه الصوت ولا بمؤتكل، يقال: نقدت السن، إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن، قال الشاعر2:
يألم قرناً أرومه نقد
وقوله: بسبت يعني النعل المنجردة.
ويلعج: يؤثر، واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع آخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل [شيء]3 ساكن. وأما قول الفرزدق:
خلعن حليهن فهن عطل ... وبعن به المقابلة التؤاما4
يعني اشترين النعال، فليس [هذا]5 من هذا الباب، وإنما سبين فاشترين نعالاً للخدمة.
وكذلك قوله:
أجذن حريرات وأبدين مجلداً ... ودارت عليهن المنقشة الصفر6
يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح.
ـــــــ
1 نرمناي: هو الناي
2 حاشية الأصل:
تيس تيوس إذا يناطحها
وهو لصخر الغي.
3 من ر.
4 عطل: جمع عاطل بدون هاء؛ وهن اللوائي لم يكن عليهن حلي. وخلت أجيادهن من القلائد, والمقابلة, النعال؛ التي جعل لها قبالان.
5 من ر.
6 حريرات: حزينات جمع حريرة, وهي التي تجد حر الحزن في صدرها
وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله.
وكان معاوية فارساً شجاعاً، فأغار في جمع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خليهم فنذر به1 القوم فاحتربوا، فلم يزل يطعن فيهم ويضرب، فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة: دريد، وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الآخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم: قتل معاوية! فقال خفاف بن ندبة: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به! فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة، فطعنه فقتله، وقال:
فإن تك خليلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت مالكا
وقفت له علوي وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا2
أقول له والرمح يأطر متنه3 ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا
فلما دخلت الأشهر الحرم ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي? فقال أحد ابني حرملة للآخر: خبره. فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك، أما إنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه السمى? قالوا: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها، فقيل لصخر: ألا تهجوهم? قال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظن به عي فقال:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي إذ أهجوهم ثم ماليا!
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاويا4
ـــــــ
1 نذر به القوم: عملوا.
2 علوي: اسم فرسه, وخام القوم: جبنوا وخافوا.
3 بأطر رمحه: يثنية.
4 ر: "رب العرش".
وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريداً زاد فيها:
وذي رحم قطعت أرحام بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا1
[قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله: معاويا:
لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بزه ... إذا راح فحل الشول أجدب عاريا]2
قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خليه بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السمى، فقيل: كلا! السمى غراء3، وهذه بهيمة3، وكان قد حمم غرتهم، فأصاب فيهم، وقتل دريد بن حرملة. وأما هاشم، فإن قيس بن الأسوار الجشمي - من بني جشم بن بكر بن هوازن بن خصفة بن منصور، والخنساء من بني سليم بن منصور - لقيهم منصرفين؛ كل واحد منهم من وجهه، فرآه، وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم، فأرسل عليه سهماً ففلق قحقحه4 فقتله، فقالت الخنساء:
فدى للفارس الجشمي نفسي ... وأفديه بمن لي من حميم
فداك الحي حي بني سليم ... بظاعنهم وبالأنس المقيم
كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم5
ـــــــ
1 "وذي إخوة".
2 ما بين العلامتين لم يذكر في الأصل, وهو في ر, س.
3 لم يرد في ر, س.
4 الفحقح: العظم الناتئ من الظهر بين الأليتين.
5 في البيت إقواء.
فأما صخر فسندرك مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخنساء:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهراً طويلا
بكيتك في نساء معولات ... وكنت أق من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا!
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضاً:
تعرفني الدهر نهساً وحزا ... وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا1
وأفنى رجالي فبادوا معاً ... فأصبح قلبي بهم مستفزا
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
وكانوا سراة بني مالك ... فخر العشيرة مجداً وعزا2
وهم في القديم سراة الأديم ... والكائنون من الخوف حرزا3
وهم منعوا جارهم والنسـ ... ـاء يحفز أحشاءها الخوف حفزا
عداة لقوهم بملومة ... رداح تغادر للأرض ركزا4
وخيل تكدس بالدارعين ... تحت العجاجة يجمزن جمزا5
ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا6
ـــــــ
1 النهس: أخذ الشيء بمقدم الأسنان, وتعرفني الدهر: نالني, من قولهم: تعرق العظم إذا أخذ ما عليه من اللحم.
2 ر "زين العشيرة".
3 الأديم الجلد, قال المرصفي: تكنى بذلك عن أنهم أشراف, لم تدنس أعراضهم.
4 الملمومة: الكتيبة مجتمعة, رداح: ضخمة.
5 تكدس: يركب بعضها بعضا, والجمزة: نوع من العدو.
6 الواخز: الطعن.
جزرنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون ألا تجزا
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بألا يصاب فقد ظن عجزا
نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد ذخراً وكنزا
ونلبس طوراً ثياب الوغى ... وطوراً بياضاً وعصباً وخزا1
وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحاب صخر عنه. وطعن طعنة2 في جنبه استقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها، فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم? فقالت: لا ميت فينعى، ولا صحيح فيرجى! فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليه، فقال:
أرى أم صخر ما تجف دموعها ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنارة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان!
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
لعمري لقد أنبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقي وهوان
ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال:
أيا جارتا إن الخطوب قريب ... من الناس، كل المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب
كأني وقد أدنوا إلي شفارهم ... من الأدم مصقول السراة نكيب
ـــــــ
1 هذا البيت لم يرد في الأصل, س.
2 ر: "وطعنه أبو ثور".
مرثية ابن مناذر لعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفيقال أبو العباس: ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر، فإنه كان رجلاً عالماً مقدماً وشاعراً مفلقاً، وخطيباً مصقعاً، وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته ولا يزال، وقد رمى في شعره بالمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المتسق النبيل، وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي ما اخترنا من نحو ما وصفنا.
قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي - وكان به صباً، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة، وكان من أجمل الفتيان وآدبهم وأظرفهم، فذلك حيث يقول ابن مُناذر:
حين تمت آدابه وتردى ... برداء من الشباب جديد
وسقاه ماء الشبيبة فاهتز ... اهتزاز الغصن الندي الأملود
وسمت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائد من مزيد
وكأني أدعوه وهو قريب ... حين أدعوه من مكان بعيد
فلئن صار لا يجيب لقد كان ... سميعاً هشا إذا هو نودي
يا فتى كان للمقامات زيناً ... لا أراه في المحفل المشهود
لهف نفسي أما أراك، وما عن ... دك لي إن دعوت من مردود!
كان عبد المجيد سم الأعادي ... ملء عين الصديق رغم الحسود
عاد عبد المجيد رزءاً وقد كان ... رجاء لريب دهر كنود1
خنتك الود لم أمت كمداً بعدك ... إتي عليك حق جليد2
لو فدى الحي ميتاً لفدت نفسك ... نفسي بطارفي وتليدي
ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ... ن عليه لأبلغن مجهودي
ـــــــ
1 كنود: معاند
2 قال المرصفي: "يريد جليد حق جليد".
لأقيمن مأتماً كنجوم اللي ... ل زهراً يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحرى ... عليه وللفؤاد السعيد
ولعين مطروفة أبداً قا ... ل لها الدهر: لا تقري وجودي
كلما عزك البكاء فأنفذ ... ت لعبد المجيد سجلا فعودي
لفتى يحسن البكاء عليه ... وفتى كان لامتداح القصيد
وأول هذا الشعر:
كل حي لاقي الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود
لا تهاب المنون شيئاً ولا ترعي ... على والد ولا مولود
يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحط الصخور من هبود1
ولقد تترك الحوادث والأيام ... وهياً في الصخرة الصيخود2
وفي هذا الشعر مما استحسنته:
أين رب الحصن الحصين بسوراء ... ورب القصر المنيف المشيد3
شاد أركانه وبوبه بابي ... حديد وحفه بجنود
كان يجبى إليه ما بين صنعا ... ء فمصر إلى قرى بيرود4
وترى خلفه زرافات خيل ... جافلات تعدو بمثل الأسود
فرمى شخصه فأقصده الدهر ... ر بسهم من المنايا سديد
ثم لم ينجه من الموت حصن ... دونه خندق وبابا حديد
ـــــــ
1 يقدح: يؤثر, شماريخ: جمع شمراخ, وهو رأس مستدير طويل دقيق في الجبل من أعلاه, ورضوي: جيل بالمدينة وهبود: جبل أيضا.
2 صيخود: الصخرة الملساء.
3 سوراء موضع قريب من بغداد.
4 بيرد: ناحية بين الأهواز ومدينة الطيب.
وملوك من قبله عمروا الأر ... ض أعينوا بالنصر والتأييد
فلو أن الأيام أخلدن حياً ... لعلاء أخلدن عبد المجيد
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود!
ويح أيد حثت عليه وأيد ... دفنته، ما غيبت في الصعيد!
إن عبد المجيد يوم تولى ... هد ركناً ما كان بالمهدود
[وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد
وكأنا للموت ركب مخبو ... ن سراعاً لمنهل مورود]1
هد ركني عبد المجيد وقد كن ... ت بركن أنوء منه شديد
فبعبد المجيد تأمور نفسي ... عثرت بي بعد انتعاش جدودي2
وبعبد المجيد شلت يدي اليم ... نى وشلت به يمين الجود
وفي هذا الشعر:
فبرغمي كنت المقدم قبلي ... وبكرهي دليت في الملحود
كنت لي عصمة وكنت سماء ... بك تحيا أرضي ويخضر عودي
ـــــــ
1 من زيادات ر
2 التأمور: دم القلب
مرثية أعشى باهلة للمنتشر بن وهبقال أبو العباس: وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن، وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة، التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وكان أحد رجليي العرب1. [قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل]، وهم السعاة السابقون في سعيهم.
وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افتد2 نفسك. فأبى، فقال: لأقطعنك أنملة أنملة، وعضواً عضواً ما لم تفتد نفسك؛ فجعل يفعل
ـــــــ
1 الرجلي: الشديد العدو.
2 ر: "أفد".
ذلك به حتى قتله، ثم حج من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة - وهو بيت كانت خثعم تحجه، زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين؛ فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة. ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر? قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر، وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا، فلما صار في أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من عل لا عجب منها ولا سخر
فبت مرتفقاً للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر!
فجاشت النفس لما جاء جمعهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر
يأتي على الناس لا يلوي على أحد ... حتى التقينا وكانت دوننا مضر
ينعى امرأ لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
من ليس في خيره شر يكدره ... على الصديق ولا في صفوة كدر
طاوي المصير على العزاء منصلت ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
لا تنكر البازل الكوماء ضربته ... بالمشرفي إذا ما اجلوذ السفر
وتفزع الشؤل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا تراه أمام القوم يقتفر
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
مهفهف أهضم الكشحين منخرق ... عنه القميص، لسير الليل محتقر
عشنا بذلك دهراً ثم فارقنا ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر
[فإن جزعنا فقد هدت مصيبتنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر
إني أشد حزيمي ثم يدركني ... منك البلاء ومن آلائك الذكر]
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر
إما يصبك عدو في مباوأة ... يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر
لو لم تخنه نفيل وهي خائنة ... ألم بالقوم ورد منه أو صدر
وراد حزب شهاب يستضاء به ... كما يضيء سواد الطخية القمر
إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
من ليس فيه إذا قاولته رهق ... وليس فيه إذا عاسرته عسر
قوله: إني أتتني لسان يقال: هو اللسان وهي اللسان. فمن ذكر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار وأحمرة، وفراش وأفرشة، وإزار وآزرة؛ ومن أنث قال: لسان وألسن، كما تقول: ذراع وأذرع، وكراع وأكرع؛ لا تبالي أمضموم الأول كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا كان مؤنثاً، ألا ترى أنك تقول: شمال وأشمل1 قال أبو النجم:
يأتي لها من أيمن وأشمل
وقال آخر، أنشدنيه المازني:
فظلت تكوس على أكرع ... ثلاث وكان لها أربع2
وأراد باللسان ها هنا الرسالة:
وقوله: من عل يقول: من فوق. فإذا كان معرفة مفرداً بني على الضم. كقبل وبعد. وإذا جعلته نكرة نونته وصرفته، كما قال جرير:
إني انصببت من السماء عليكم ... حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
والقوافي مجرورة. وإن شئت رددت ما ذهب منه. وهي ألف منقلبة منن واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز:
ـــــــ
1 في وصف الإبل, وبعده:
ذو خرق طلس وشخص مذأل
2 قال المرصفي: "يريد عفرت إحدى قوائمها الأربع, وتكوس كوسا: مشى على ثلاث قوائم".
وهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا1
وقوله: فبت مرتفقاً وهو المتكئ على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب:
إني أرقت فبت الليل مرتفقاً ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح2
وقوله: جاشت النفس يقول: خبثت، يكون ذلك من تذكرها للتهوع3 ومن جزعها منه.
ويورى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار، فما يردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبي بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح4
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي5
ـــــــ
1 نسبة صاحب اللسان "8: 255" إلى غيلان بن حريث وقال في شرحه: "الضمير في قوله: "فهي" للإبل وتنوش الحوض تتناول ملأه وقوله "من علا" أي من فوق يريد أنها عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك النوش الذي تناله هو الذي يعينها على قطع الفلوات والأجواز: جمع جوز وهو الوسط أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر".
2 ديوان الهذليين 1: 104, وروايته هناك:
نام الخلي وبت الليل مشتجرا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح
والصاب: شجرة مرة لها لبن يمض العين إذا إصابها ومذبوح: مشقوق.
3 التهوع: التقيؤ.
4 المشيح: المجد.
5 جشأت: نهضت.
يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز وتثليث موضع بعينه1
وقوله: لا يلوي على أحد يقال: استقام فلان فما لوى على أحد، ويقال: ألوى بالشيء إذا ذهب به.
وقوله:
إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
فالنوء عندهم طلوع نجم وسقوط آخر، وليس كل الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقولون هذا في أشياء بعينها؛ ويورى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا" يعني أمر الأنواء، لم يختلف في ذلك المفسرون، وعنه عليه السلام في غب سماء: "أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى? قال: اصبح عبادي مؤمناً بي وكافراً بالكواكب، وكافراً بي ومؤمناً بالكواكب وأما المؤمن بي الكافر بالكواكب فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا".
والنوء، مهموز، وهو من قولك: ناء بجمله، أي استقل به في ثقل، فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر، وكان الأصمعي لا يفسر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء، بل كان لا يسمع ما كان فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسر ما وافق تفسيره بعض ما في القرآن إلا ساهياً. فيما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه وزجر السائل.
وقوله: طاوي المصير يقال لواحد المصران مصير. وتقديره: قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان.
والعزاء: الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزاء. وكذلك اللأواء، وكذلك الجلى مقصور. فأما العزاء واللأواء فممدودان.
وقوله: منصلت، يقال: سيف منصلت، وصلت: إذا جرد من غمده.
ـــــــ
1 تثليث: موضع بالحجاز قرب مكة.
وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر يريد: القفر، ووقت الصعوبة.
وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي.
يقول: قد عود الإبل أن ينحرها، ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر. والمشرفي: السيف. وهو منسوب إلى المشارف1
وقوله: اجلوذ، امتد، وأنشدني الزيادي لرجل من أهل الحجاز، أحسبه ابن أبي ربيعة:
ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت منه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه ... إذا أظلم الليل واجلوذا
وقوله:
حتى تقطع في أعناقها الجرر2
يقول: حتى اعتادت أن ينحرها، فهي تفزع منه حتى تقطع حرتها، ومثل هذا قول الخنوت:3
سأبكي خليلي عنتراً بعد هجعة ... وسيفي مرداساً قتيل قنان4
قتيلان لا تبكي اللقاح عليهما ... إذا شبعت من قرمل وأفان
يقول: كانا ينحران الإبل، فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان: ضربان من النبت. وشبيه بهذا قوله حيث يقول:
فلو كان سيفي باليمين تباشرت ... ضباب الملا من جمعهم بقتيل
ـــــــ
1 المشارف: قرى من أرض العرب تدنو من الريف.
2 والجرر: جمع جرة وهي ما يفيض من البعير من كرشه فيقرضه.
3 الخنوت: لقب ربيعة بن مضرس شاعر جاهلي
4 قنان: جبل لبني أسد.
يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرت بذلك الضباب واستبشرت.
وقوله:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه
يقول: لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري1؛ لأنه محبس الدابة.
وقوله:
ولا تراه أمام القوم يقتفر
يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد.
وقوله:
ولا يعض على شرسوفه الصفر
الشراسيف: أطراف الضلوع، ولاصفر: ها هنا: حية البطن، وله مواضع. وقوله: مهفهف يعني ضامراً، وأهضم الكشحين توكيد له.
وقوله:
إما يصبك عدو في مباوأة
يقول: في وتر، يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل: بؤ بشسع كليب. أي هو ثأر بالشسع.
والطُّخيةُ، والطَّخيةُ، والطِّخية، ثلاث لغات: شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثي، ففي ذلك يقول:
أصبت في حرم منا أخا ثقة ... هند بن أسماء لا يهنئ لك الظفر
يقال: هنأ له، كما تقول هنياً له، قال الأخطل:
ـــــــ
1 الأرى: الأخية.
إلى إمام تغادينا فواضله ... أظفره الله فليهنئ له الظفر
وقوله:
وليس فيه إذا غامرته عسر
مدح شريف، مثل قولهم: "إذا عز أخوك فهن"؛ وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله، بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذل، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد. ومدافعته أمدح، كما قال جرير:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عسر، وعند يساره ميسور
مراثي متمم بن النويرة في أخيه مالكقال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتاً نختارها، من ذلك قوله:
أقول وقد طتار السنا في ربابه ... وغيث يسح الماء حتى تريعا
سقى الله أرضاً حلها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
وأثر سيل الواديين بديمة ... ترشح وسمياً من النبت خروعا
تحيته مني وإن كان نائياً ... وأضحى تراباً فوقه الأرض ومصرعا
يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معا
بأوجع مني يوم فارقت مالكاً ... ونادى به الناعي الرفيع فأسمعا
وفيها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محموداً أخي يوم ودعا
قتول ابنة العمري مالك بعدما ... أراك حديثاً ناعم البال أفرعا
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ... ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا
وفقد بني أم تفانوا فلم أكن ... خلافهم أن أستكين وأضرعا
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزاء بزوار القرائب أخضعا
ولا فرح إن كنت يوماً بغبطة ... ولا جزع إن ناب دهر فأوجعا
ولكنني أمضي على ذاك مقدماً ... إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا
فعمرك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا
وقصرك إني قد شهدت فلم أجد ... بكفي عنه للمنية مدفعا
فلو أن ما ألقى أصاب متالعاً ... أو الركن من سلمى إذاً لتضعضا
وفي هذه القصيدة:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
ولا برم تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
لبيباً أعان اللب منه سماحة ... خصيباً إذا ما زائد الجدب أوضعا
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا
إذا ابتدر القوم القداح وأوقدت ... لهم نار أيسار كفي من تضجعا
بمثنى الأيادي ثم لم تلف مالكاً ... على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا
قوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا: الضوء، وهو مقصور، قال جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 1 والسناء، من الحسب ممدود. والرباب: سحاب دون السحاب كالمتعلق بما فوق. قال المازني:
ـــــــ
1 سورة النور 43.
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل1
وقوله: يسح معناه يصب، فإذا قلت: يسحو، أو يسحى، فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحابته، ومنه قيل للحديدة التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة، قال عنترة:
سحاً وساحية فكل قرارة ... يجري عليها الماء لم يتصرم2
وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب، يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام؛ لأنه يرجع بفضل. قال مزرد:
خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
والذهاب: الأمطار اللينة. والمدجنات من السحاب: السود، وهو مأخوذ من الدجن والدجنة. ومعناه إلباس الغيم وظلمته، قال طرفة:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف الممدد3
ويقال: أمرع الوادي، إذا أخصب، من ذلك قول مولاة بن الأجيد عن أوفى بن دلهم. قال أبو العباس: حدثني به ابن المهدي أحمد بن محمد النجوي، يحدث به عن الأصمعي عن أبيه، عن مولاة بن الأجيد عن أوفى، قال: في النساء أربع، فمنهن الصدع4، تفرق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن عيث وقع في بلد فأمرع، ومنهن التبع5، ترى ولا تسمع. قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرثع، قلت: وما هي? قال: التي تكحل عيناً وتدع الأخرى، وتلبس ثوبها مقلوباً.
ـــــــ
1 نسبة المرصفي إلى زهير بن عروة بن جلهمة المازني.
2 الساحية: المطرة الشديد الوقع تقشر وجه الأرض.
3 البهكنة: الجارية المليحة والطراف: البيت من وجه الأرض.
4 قال المرصفي: "يريد ذات الصدع "بسكون الدال وحركها للسجع وهو مصدر صدع الشيء فتصدع فرقة فتفرق".
5 التبغ: العجوز.
[قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعي، وذكر نحو ذلك]
وقوله:
وآثر سيل الواديين بديمة
زعم الأمعي وغيره من أهل العمل أن الديمة المطر الدائم أياماً برفق.
وقوله: ترشح وسمياً أي تهيئه لذلك، يقال: فلان يرشح للخلافة، والوسمي: أول مطر يسم الأرض، والولي: كل مطرة بعد مطرة، فالثانية ولي للأخرى؛ لأنها تليها.
والخروع: كل عود ضعيف.
وقوله:
فما وجد أظآر ثلاث روائم
أظآر: جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم، واحدتها رؤوم، ومعنى ترأمه: تشمه.
والحوار: ولد الناقة، ويقال له حيث يسقط من أمه سليل، قبل أن تقع عليه الأسماء، فإن كان ذكراً فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة.
وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزدي، وكان ملكاً، وهو الذي قتلته الزباء، وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المجانيق للحرب، وله قصص تطول، وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار. ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل
والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه، كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب:
وكل أخ مفتارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال هذا من قبل أن يسلم. وقال إسماعيل بن القاسم:
ولم أر ما يدوم له اجتماع ... سيفترق اجتماع الفرقدين
وقوله:
أراك حديثاً ناعم البال أفرعا
الأفرع: التام شعر الرأس وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان? فقال: بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع، فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر. والأسفع: الأسود، يقال: سفعته النار، أي غيرت وجهه إلى السواد.
وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله أي أذكرك الله؛ قال:
عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم!
وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في آخر نهاره انتظاراً للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك? فقال: نعم، في قولي: غير مبطان، وكان ذا بطن، ويقال في غير هذا الحديث: إن من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس، فيه طرش.
وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح1 فتكون فارساً.
وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق2 السادة، ولا مطلت3 مطل الفرسان. والأروع: ذو الروعة والهيئة.
ـــــــ
1 الرسح: قلة لحم العجز والفخذين وذلك لملازمته الركوب.
2 ما فتقت قال المرصفي: من الفتق وهو شق العصا وتصدع الكلمة ووقوع الحرب تسيل منها الدماء وتكثر الجراحات.
3 مطلت بالبناء للمجهول قال المرصفي: وهو في الأصل ضرب الحداد الحديدة لتطول يريد ليس بذي رأي يرتق ما فتق بين القوم ولا بفاريناله قرع السيوف.
والبرم: الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر؛ ولا ينزع إلا نكداً، قال النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأسمط البرما1
وقوله: إذا القشع وهو الجلد اليابس، ويقال لكناسة الحمام القشع، قال أبو هريرة: وكذبت حتى رميت بالقشع.
وحدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، في إسناد ذكره، قال: صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه؛ وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة، يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسدي فقتله، وكتان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع، قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية2 قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا الريح تناوحت ... خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور
ولنعم حشو الدرع كنت وخاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور
أدعوته بالله ثم غررته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال:
لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر
ثم بكى وانحط على سية قوسه - وكان أعور دميماً - فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك! فقال يا أبا حفص! والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكان
ـــــــ
1 تغشى: تلبس والأشمط الذي خالطه الثيب.
2 سية القوس: ما عطف من صرفيها.
زيد بن الخطاب قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر بثول: إني لأهش للصبا؛ لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول؛ لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت أخاك مالكاً! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد.
ومن طريف شعره:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع والموت يذهب بالفتى1
لئن مالك خلى علي مكانه ... لفي إسوة إن كنت باغية الأسا2
كهول ومرد من بني عم مالك ... وأيفاع صدق قد تمليتهم رضا
سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا ... كدأب ثمود إذ رغا سقيهم ضحى3
إذا القوم قالوا: من فتى لملمة ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى
ومثل هذا الشعر قول النهشلي:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
وأول هذا المعنى لطرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقال متمم أيضاً في كلمة له يرثي بها مالكاً:
جميل المحيا ضاحك عند ضيفه ... أغر جميع الرأي مشترك الرجل
ـــــــ
1 ما دهري: ما همي وغايتي.
2 أيفاع؛ وهو الشاب الذي شارف البلوغ وتمليتهم: عشت معهم وتمتعت بهم ملاة من الدهر.
3 العقار: الخمر والصرف: التي لم يريد به الموت على الاستعارة.
وقوراً إذا القوم الكرام تقاولوا ... فحلت حباهم واستطيروا من الجهل1
وكنت إلى نفسي أشد حلاوة ... من الماء بالماذي من عسل النحل2
وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كساقطة إحدى يديه من الخبل
وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ظل إلا أن تعد من النخل
وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجزل؛ فأين كان أخوك منك? فقال: كان والله في الليلة المظلمة ذات الأزير والصراد3، يركب الجمل الثفال، ويجنب4 الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح أهله متبسماً.
الجمل الثفال: البطيء الذي لا يكاد ينبعث.
والفرس الجرور: الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه، إنما يجر الحبل، والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها.
وذكر لنا أن مالكاً كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع:
منهم عتيبة والمحل وقعنب ... والحنتفان ومنهم الردفان5
فأحد الردفين مالك بن نويرة اليربوعي، والردف الآخر من بني رياح بن يربوع. وللردافة موضعان: أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريف أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس، والوجه الآخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده.
ـــــــ
1 حباهم: جمع حبوة وهي الثوب الذي يحتبي به الرجل يجمع به ظهره وساقه.
2 الماذي: العسل الأبيض.
3 الأزير: البرد, والصراد: سحاب بارد ندي ليس فيه ماء.
4 يجنب الفرس: يقوده إلى جنبه.
5 عتبة بن الحارث بن شهاب, والمحل وقعنب: رجلان من بني حنظلة بن يربوع.
باب من أخبار من جزعوا عند الموت
مدخل...
قال أبو العباس: لما احتضر إبراهيم النخعي رحمه الله، جزع جزعاً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم من هذا! إنما أتوقع رسولاً يرد على من ربي، إما بالجنة وإما بالنار.
ولما احتضر بان سيرين، جعل يقول: نفسي واله أعز الأنفس علي.
ولما احتضر حجر بن عدي ليقتل، سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وظهر منه جزع شديد،، فقال له قائل: أتجزع! فقال: وكيف لا أجزع! سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري أيؤديني إلى جنة، أم إلى نار.
[قال أبو الحسن: ما يقوم بقتل حجر بن عدي شيء! وإني لأعجب من قوله هذا: ولست أدري أيدنيني إلى جنة أو إلى نار، وهو شهيد الشهداء، رحمه الله!].
وقد ذكرنا موت عمرو بن العاص وكلامه عند الموت.
ممن ظهرت عليهم القسوة عند الموتومن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاري، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاري، فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبراً حلحل! فقال إي والله:
أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك1
ثم قال لابن الأسود الكلبي: أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة
ـــــــ
1 قال المرصفي: يريد من بعير ذي ضاغط, والضاغط: أن يتحرك مرفق البعير حتى يقع في الجنة فيحرقه وعركوك: به أثر من العرك البعير جنبه بمرفقه فيؤثر فيه. وبواني زوره: أضلاعه والواحدة بانية وزوره: صدره.
أسلحته، فعددت النجوم في سلحته. ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان: صبراً سعيد! فقال: إي والله!.
أصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب1
ومنهم وكيع بن أبي سود، أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول? فقال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه، فقال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج? قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك! قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، قال: ويلي على ابن الخبيثة! والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر.
ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق:
لقد رزئت بأساً وحزماً وسودداً ... تميم بن مر يوم مات وكيع
وما كان وقافاً وكيع إذا دنت ... سحائب موت وبلهن نجيع
إذا التقت الأبطال أبصرت لونه ... مضيئاً وأعناق الكماة خضوع
فصبراً تميم إنما الموت منهل ... يصير إليه صابر وجزوع
وقال أيضاً:
لتبك وكيعاً خيل ليل مغيرة ... تساقي المنايا بالردينية السمر2
ـــــــ
1 العود: الجمل المسن: والجلب: حمع جلبة وهي القرحة تعلوها قشرة البره والبطان: حزام الرجل. والحقب:: الحزام الذي يلي حقو البعير.
2 الويل: غزارة المطر والنجيع: الدم.
لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة ... دعوها وكيعاً والجياد بهم تجري1
ومن الجفاة عند الموت هدبة نب خشرم العذري، وكان قتل زيادة بن زيد العذري، فلما حمل إلى معاوية، تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول? قال: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً? قال: بل شعراً فإنه أمتع، فقال هدبة:
فلما رأيت أنما هي ضربة ... من السيف أو إغضاء عين على وتر
عمدت لأمر لا تعير والدي ... خزايته ولا يسب به قبري2
رمينا فرامينا فصاد سهمنا ... منية نفس في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر3
فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر4
فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة! قال: هو ذاك، فقال عبد الرحمن: أقدني، فكره ذاك معاوية وضن بهدبة عن القتل - وكان ابن زيادة صغيراً - فقال له معاوية: أوما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك! ثم وجه به إلى المدينة فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ.
وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فمما وقف عليه من قسوته قوله:
ولما دخلت السجن يا أم مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
ـــــــ
1 قال المرصفي أنه لما مات منع والي البصرة عدي بن أرطاة الفزاري أن يناح عليه فوضعوا نعشه وقالوا: لا يحمل حتى يجئ الفرزدق فجاء وعليه قميص أسود مشقوق والناس يترحمون ويذكرون الله فأخذ بقائمة السرير فنهض به ثم أنشأ يقول: لتبك وكيعا...البيتين.
2 الخزاية: الاستحياء.
3 من معدي: من متجاوز إلى غيرك ولا عنك من قصر يريد ولا منع في أمري عنك"رغبة الآمل".
4 فإن تك يريد الدية, والصبر: الحبس.
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يذكر بالأمر
فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد - وكان سعيد حسن الثغر جداً - وذكرت به ثغرها.
ويقال إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا، الحسين بن علي وعبيد الله بن جعفر، عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار، فلما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينية: ما رأيت أقسى قلباً منك! أتنشد الأشعار وأنت يمضى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنه ظبي عطشان تولول! تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبى فقال:
ما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد حبي بابن أم كلاب
رأته طويل الساعدين شمردلا ... كما انتعتت من قوة وشباب1
فأغلقت حبى الباب في وجهه وسبته.
وعرض له عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال له: أعلى هذه الحال! قال: نعم، فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وحربني مولاي حتى غشيته ... متى ما يحربك ابن عمك تحرب2
فلما قدم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال:
فإن يك أنفي بان منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا
ـــــــ
1 الشمردل: الفتى القوي الجلد. وانتعشت.
2 حربني: حملني على الغضب.
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
فقالت: قفوا عنه ساعة، ثم مضت ورجعت وقد اصطلمت أنفها! فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال:
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً منكما اليوم لشر
ما أظن الموت إلا هيناً ... إن بعد الموت دار المستقر
ثم قال:
أ ذا العرش إني عائذ بك مؤمن ... مقر بزلاتي إليك فقير
وإني وإن قالوا أمير مسلط ... وحجاب أبواب لهن صرير
لأعلم أن الأمر أمرك إن تدن ... فرب وإن تغفر فأنت غفور
ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة.
وبزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، وآية ذلك أني أضرب برجيل اليسرى بعد القتل ثلاثاً؛ وهو باطل موضوع، ولكن سأل فك قيوده، ففكت، فذلك حيث يقول:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد
من أخبار من وقفوا على القبورقال أبو العباس: ووقف حبار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل، ولم يكن حضره، فقال: أنعم صباحاً أبا علي! فوالله لقد كنت سريعاً إلى المولى بوعدك، بطيئاً عنه بإيعادك، ولقد كنت أهدى من النجم، وأجرى من السيل. ثم التفت إليهم فقال: كان ينبغي أن تجعلوا قبر أبي علي ميلاً في ميل!
وذكر الحرمازي أن الأحنف بن قيس لما مات، وكان موته بالكوفة، مشى المصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سيد العرب، فلما دفن قامت امرأة على قبره - أحسبها من بني منقر - فقالت: لله درك من مجن في جنن1، ومدرج في كفن! فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، وفوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنت في الحي مسوداً، وإلى الخليفة موفداً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. قال: فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها.
ووقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك لأطنبت، بل لأسهبت. ثم عقر ناقته على قبره، وقال:
عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيض عضب أخلصته صياقله
على قبر من لو أنني مت قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله
وروى ابن دأب أن حسان بن ثابت الأنصاري اجتاز بقبر ربيعة بن مكدم فأنشد:
لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... نصبت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب2
لولا السفار وطول قفر مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب3
ـــــــ
1 مجن: اسم مفعول من أجنه إذا ستره والجنن: القبر.
2 مسعر للحروب: أي يسعرها ويشبها.
3 المهمه: القفر من الأرض.
نعم الفتى أدى نبيشة رحله ... يوم الكديد نبيشة بن حبيب
وربيعة بن مكدم - رجل من بني كنانة، وكان قتله أهبان بن غادية الخزاعي، وقيس تقول: قتله نبيشة بن حبيب السلمي، وكان أهبان أخا نبيشة لأمه، وكان أتاه زائراً. وأغار ربيعة بن مكدم على بني سليم، فخرج أهبان مع أخيه، فحمل عليه فقتله، وحمل أخو ربيعة على أهبان فقتله، فلأنه في بني سليم، قال حسان:
نفرت قلوصي من حجارة حرة
لأن الحرة هناك لبني سليم، وفي تصداق ما تدعيه خزاعة يقول أهبان:
ولقد طعنت ربيعة بن مكدم ... يوم الكديد فخر غير موسد
في عارض شرق بنات فؤاده ... منه بأحمر كالنقيع المجسد
ولقد وهبت سلاحه وجواده ... لأخي نبيشة قبل لوم الحسد
وقال أخو ربيعة يجيبه:
فات ابن غادية المنية بعد ما ... رفعت أسفل ذيله بالمطرد1
قل لابن غادية المتاح لقتلنا ... ما كان يقتلنا الوحيد المفرد
يريد أن أهبان مفرد من قومه في أخواله.
وقال أيضاً:
فإن تذهب سليم بوتر قومي ... فأسلم من منازلنا قريب
ـــــــ
1 المطر: الرمح القصير يطارد به الفارس.
لليلى الأخيلية ترثي توبةوقالت ليلى الأخيلية:
آليت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقاء المنايا دارعاً مثل حاسر
ويورى:
فلا يبعدنك الله يا توب هالكاً ... أخا الحرب إن دارت عليه الدوائر
فكل جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر
وذكر المدائني أن رجلاً عزى رجلاً أفرط عليه الجزع على ابنه فقال: يا هذا، سررت به وهو حزن وفتنة، وجزعت عليه وهو صلاة ورحمة، فسري عنه. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تعزوا عن مصائبكم بي". وقال رجل لابن عمر: أعظم الله أجرك، فقال: نسأل الله العافية! معناه: أنه لما قال له: "أعظم الله أجرك"، إنما دعا بأن يكثر ما يؤجر عليه، ودل على أنه من باب المصائب تعزيته إياه.
وهذا
باب طريف من أشعار المحدثين
لمطيع بن إياس في يحيى بن زيادقال مطيع بن إياس الليثي يرثي يحيى بن زياد الحارثي وكان صديقه، وكانا مرميين جميعاً بالخروج عن الملة:
يا أهل بكوا لقلبي القرح ... ولدموع الهوامل السفح1
راحوا بيحيى إلى مغيبه ... في القبر بين التراب والصفح2
راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأقـ ... دار لم يبتكر ولم يرح
يل خير من يحسن البكاء له الـ ... يوم ومن كان أمس للمدح3
وفي يحيى يقول مطيع لنبوة كانت بينهما:
كنت ويحيى كيدي واحد ... نرمي جميعاً ونرامي معا
إن سره الدهر فقد سرني ... أو حادث ناب فقد أفظعا
أو نام نامت أعين أربع ... منا، وإن هب فلن أهجعا
حتى إذا ما الشيب في عارضي ... لاح وفي مفرقه أسرعا
سعى وشاة طبن بيننا ... فكاد حبل الوصل أن يقطعا4
فلم ألم يحيى على حادث ... ولم أقل خان ولا ضيعا
ـــــــ
1 الهوامل: الذوارف.
2 الصفح: جمع صفيحة وهي القطعة العريضة من الصخر.
3 ذكر المرصفي: بعده:
قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهنا من الفرح
4 طبن: جمع طابن, وهو الفطن.
لأبي عبد الرحمن العتبي يرثي على بن سهلوقال أبو عبد الرحمن العتبي يرثي علي بن سهل بن الصباح وكان له صديقاً:
يا خير إخوانه وأعطفهم ... عليهم راضياً وغضبانا
أمسيت حزناً وصار قربك لي ... بعداً وصار اللقاء هجرانا
إنا إلى الله راجعون لقد ... أصبح حزني عليك ألوانا
حزن اشتياق وحزن مرزئة ... إذا انقضى عاد كالذي كانا
قوله: يا خير إخوانه محال وباطل، وذلك أنه لا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو جزء منه. وقال أيضاً:
دعوتك يا أخي فلم تجبني ... فردت دعوتي حزناً عليا
بموتك ماتت اللذات مني ... وكانت حية إذ كنت حيا
فيا أسفي عليك وطول شوقي ... إليك لو أن ذاك يرد شيا
وقوف رجل على قبر عدوهوحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده1، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم2 سهمه من
ـــــــ
1 أقصده: لم يخطئه.
2 نجم سهمه: ظهر وبرز
صفحة الظبي1، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة2 السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا
قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب.
ـــــــ
1 صفحة الظبي: جانبه.
2 ظبة السهم: حده.
مراثي يعقوب بن الربيع في جارية لهومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله:
لله آنسة فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدنس!
أتت البشارة والنعي معاً ... يا قرب مأتمها من العرس!
يا ملك نال الدهر فرصته ... فرمى فؤاداً غير محترس
كم من دموع لا تجف ومن ... نفس عليك طويلة النفس
أبكيك ما ناحت مطوقة ... تحت الظلام تنوح في الغلس
يا ملك في وفيك معتبر ... ومواعظ يوحشن ذا الأنس
ما بعد فرقة بيننا أبداً ... في لذة درك لملتمس
وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل:
رب مغروس يعاش به ... فقدته كف مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها1:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس
من لليتامى إذا هم سغبوا ... وكل عان وكل محتبس!
أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس!
ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله:
ليت شعري بأي ذنب لملك ... كان هجري لقبرها واجتنابي!
ألذنب حقدته كان منها ... أم لعلمي بشغلها عن عتابي!
أم لامني لسخطها رضاها ... حين واريت وجهها في التراب!
ما وفى في العباد حي لميت ... بعد يأس منه له في الإياب
وفي هذا الشعر:
إنما حسرتي إذا ما تذكر ... ت عنائي بها وطول طلابي
لم أزل في الطلاب سبع سنين ... أتأتى لذاك من كل باب2
فاجتمعنا على اتفاق وقدر ... وغنينا عن فرقة باصطحاب
أشهراً ستة صحبتك فيها ... كن كالحلم أو كلمع السراب
وأتاني النعي منك مع البش ... رى فيا قرب أوبة من ذهاب!
ـــــــ
1 نسبة بعضهم إلى لبانة بنت موسى الهادي في محمد المين.
2 أتاتي: أتعرض له.
ومن مليح شعره قوله يرثيها:
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسللت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تحثه بتنفس
رجع اليقين مطامعي يأساً كما ... رجع اليقين مطامع المتلمس1
ومن مليح شعره أيضاً قوله:
فجعت بملك وقد أينعت ... وتمت فأعظم بها من مصيبه!
فأصبحت مغترباً بعدها ... وأمست بحلوان ملك غريبة2
أراني غريباً وإن أصبحت ... منازل أهلي مني قريبه
فأقبلت أبكي وتبكي ومعي ... بكاء كئيب بحزن كئيبه
وقلت لها مرحباً مرحباً ... بوجه الحبيبة أخت الحبيبة
سأصفيك ودي حفاظاً لها ... فذاك الوفاء بظهر المغيبة
أراك كملك وإن كمل تكن ... لملك من الناس عندي ضريبه
ـــــــ
1 المتلمس: المتطلب.
2 حلوان: مدينة في آخر حدود العراق.
مرثية يزيد المهلبي في المتوكلومما اخترنا من مرثية يزيد المهلبي للمتوكل على الله قوله:
لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد!
لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى عن عطاء الزبية الأسد1
لا يدفع الناس ضيماً بعد ليلتهم ... إذ لا تمد إلى الجاني عليك يد
لو أن سيفي وعقلي حاضران له ... أبليته الجهد إذ لم يبله أحد
ـــــــ
1 الزبية: حفيرة تحفر للأسد في عال الأرض تغطي فيمر بها السد فيهوي ويصاد.
جاءت منيته العين هاجعة ... هلا أتته المنايا والقنا قصد1!
هلا أتته أعاديه مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تجتلد
فخر فوق سرير الملك منجدلاً ... لم يحمه ملكه لما انقضى الأمد
قد كان أنصاره يحمون حوزته ... وللردى دون أرصاد الفتى رصد2
وأصبح الناس فوضى يعجبون له ... ليثاً صريعاً تنزى حوله النقد3
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصمد
جاؤوا عظيماً لدنيا يسعدون بها ... فقد شقوا بالذي جاؤوا وما سعدوا
ضجت نساؤك بعد العز حين رأت ... خداً كريماً عليه قارت جسد
أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكل ذي عزة في رأسه صيد4
حليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يضع مثله روح ولا جسد
كم في أديمك من فوهاء هادرة ... من الجوائف يغلي فوقها الزبد5
إذا بكيت فإن الدمع منهمل ... وإن رثيت فإن القول مطرد
قد كنت أسرف في مالي وتخلف لي ... فعلمتني الليالي كيف أقتصد
لما اعتقدتم أناساً لا حلوم لهم ... ضعتم وضيعتم من كان يعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المذكورة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعهم ... والمجد والدين والأرحام والبلد6
ـــــــ
1 قصد: جمع قصد: وهي ما تكسر من الرماح.
2 الرصد: القوم الراصدون
3 تنزي: تثب والنقد: جنس من الغنم قصار الأرجل.
4 الصيد: مصدر صيد يصيد فهو أصيد والأصيد: الذي يرفع رأسه أكبر.
5 فوها يريد طعنة واسعة وهاردة من هدر الشرب إذا غلا وقذف بالزبد والجوائف: جمع جائفة وهي التي تبلغ الجوف.
6 الجذام: الأصل.
إذا قريش أرادوا شد ملكهم ... بغير قحطان لم يبرح به أود
قد وتر الناس طراً ثم قد صمتوا ... حتى كأن الذي نيلوا به رشد
من الألى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا
[قال أبو الحسن، قوله: قارت، يقال: قرت الدم يقرت قروتاً. ودم قارت. قد يبس بين الجلد واللحم، ومسك قارت، وهو أخفه وأجوده، قال:
يعل بقرات من المسك قاتن
وقرات، فعال، وقاتن، مسك قاتن قد قتن قتوناً، أي يابس لا ندوة فيه]
باب ذكر الأذواء من اليمن في الإسلام
مدخل...
[فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع وذي نواس وذي رعين وذي أصبح وذي المناور وذي القرنين: فأما في الإسلام، فمنهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنصاري, ومنهم قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العين. كانت عينه أصيبت فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت أحسن عينيه. وكانت تعتل عينه الصحيحة فلا تعتل المردودة معها, ومنهم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ذو السيفين؛ كان يتقلد سيفين في الحرب, ومنهم حباب بن المنذر بن الجموح ذو الرأي، وهو صاحب المشورة يوم بدر، أخذ برأيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له آراء في الجاهلية مشهورة, ومنهم سعد بن صفيح ذو السيال، ومنهم ذو المشهرة، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة، وكانت له مشهرة إذا لبسها وخرج يختال بين الصفين لم يبق ولم يذر وكل هؤلاء من الأنصار].
ومن اليمن من غيرهم عبد الله بن الطفيل الأزدي ثم الدوسي ذو النور، أعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوراً في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هذه مثلة1، فجعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سوطه، فلما ورد على قومه بالسراة2 جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة.
ومنهم، ثم من خزاعة، ذو اليدين، سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا اليدين، وكان قبل يدعى ذا الشمالين: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم الظهر فسلم في الركعة
ـــــــ
1 مثله: أي تنكيل.
2 السراة: الجبل المشرف على عرفة ويمتد إلى صنعاء.
الثانية، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت? فقال: "ما كان ذاك"، فقال: بلى يا رسول الله، فالتفت إلى أصحابه فقال: "ما يقول ذو اليدين?" فقالوا: صدق يا رسول الله، فنهض فأتم، ثم قال: "إني لأنسى أو أنسى لأستن" 1.
ـــــــ
1 لأستن: من السنن وهو المذهب.
وهذه تسمية من كان بينه وبين الملائكة
سبب من اليمانية
منهم سعد بن معاذ الأنصاري، وهبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رجليه في المشي لئلا يطأ على جناح ملك، واهتز لموته عرش الله جل وعز. وفي ذلك، يقول حسان:
وما اهتز عرش اله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
وكبر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعاً؛ كما كبر على حمزة بن عبد المطلب، وشم من تراب قبره رائحة المسك.
ومنهم حسان بن ثابت الأنصاري. قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهجهم وروح القدس معك". وقال في حديث آخر: "إن الله مؤيد حساناً بروح القدس ما نافح عن نبيه". وقالت عائشة: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد فينافح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهم حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. غسلته الملائكة، وذاك أنه خرج يوم أحد فأصيب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صاحبكم هذا قد غسلته الملائكة". فسئل عن ذلك، فقالت امرأته: كان معي على ما يكون الرجل مع امرأته. فأعجلته حطمة بلغته في المسلمين فخرج فأصيب، ففي ذلك يقول الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حمي الدبر1، وكان خال أبيه:
غسلت خالي الملائكة الأبـ ... رار ميتاً أكرم به من صريع!
وأنا ابن الذي حمت ظهره الدبـ ... ـر قتيل اللحيان يوم الرجيع!
ومنه حارثة بن النعمان، رأى جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين، وأقرأه جبريل السلام.
ـــــــ
1 الدير: النحل.
ومنهم، ثم من خزاعة عمران بن حصين، كانت تصافحه الملائكة وتعوده، ثم افتقدها. فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله؛ إن رجالاً كانوا يأتونني لم أر أحسن مهم وجوهاً، ولا أطيب أرواحاً، ثم قد انقطعوا عني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصابك جرح فكنت تكتمه? فقال: أجل، قال: ثم أظهرته? قال: قد كان ذلك. قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت.
ومنهم جرير بن عبد الله البجلي. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك".
ومنهم دحية بن خليفة الكلبي، كان جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهبط في صورته، فمن ذلك يوم بني قريظة. لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق وهبط عليه جبيل عليه السلام فقال: "يا محمد أقد وضعتم سلاحكم! ما وضعت الملائكة أسلحتها بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، وهأنذا سائر إليهم فمزلزل بهم". فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فجعل يمر بالناس فيقول: "أمر بكم أحد?" فيقولون: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة عليها قطيفة خز نحو بني قريظة، فيقول: "ذلك جبرائيل"، ثم مر دحية بعد ذلك، وكان لا يزال عليه السلام في غير هذا اليوم ينزل في صورته، كما ظهر إبليس في صورة الشيخ النجدي.
وهذا
باب قد تقدم ذكرنا إياه ووعدنا استقصاءه
الفرق بين تعريف الحيوان وتنكيره وبين تذكيره وتأنيثه.
قال أبو العباس: اعلم أن كل شيء من الحيوان؛ كان مما يخبر الناس عنه كما يخبرون عن أنفسهم ومما يقتنونه ويتخذونه، فبهم حاجة إلى الفصل بين معرفته ونكرته ومذكره ومؤنثه، تقول: جاءني رجل إذا لم تدر من هو بعينه، أو دريت فلم ترد أن تبين. ثم تعرفه لصاحبك إذا أردت ذلك إما بألف ولام، وإما باسم معروف، أو إضافة أو غير ذلك.
وكذلك يفصل الناس بين الخيل بأسماء أو نعوت يعرفون بها بعضها من بعض، وكذلك الشاء والكلاب والإبل، ولولا تمييز بعضها من بعض لم يستقم الإخبار عنها والاختصاص بما أريد منها؛ فإذا كان الشيء لي مما يتخذونه لم يحتاجوا إلى التمييز بين بعضه وبعض، يقول الرجل: رأيت الأسد؛ فليس يعني أسداً بعينه، ولكن يريد الواحد من الجنس الذي قد عرفت، وكذلك الذئب والعقرب والحية وما أشبه ذلك، ألا ترى أن ابن عرس وسام أبرص وأم حبين وأبا الحارث وأبا الحصين معارف لا على أن تميز بعضها من بعض ولكن تعريف الجنس. وقولك: ابن مخاض وابن لبون، وابن ماء، نكرات، لأن هذا مما يتخذه الناس، وابن ماء إنما هو مضاف إلى الماء الذي يعرف.
فإذا أردت التعريف من هذا لهذه النكرات أدخلت فيما أضيفت إليه الألف واللام، أو لقبتها ألقاباً تعرف بها، كزيد وعمرو.
واعلم أن كل جمع مؤنث؛ لأنك تريد معنى جماعة. ولا تذكر من ذلك إلا ما كان فعله يجري بالواو والنون في الجمع، وذلك كل ما يعقل، تقول: مسلم ومسلمون؛ كما تقول: قوم يسلمون، وتقول للجمال: هي تسير وهن يسرن,

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...