مجلد
3. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]
القول
في تأويل قوله : { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض ، وسفرًا في
البلاد ، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب ، (1) فيستغنوا عن الصدقات ، رهبةَ العدوّ
وخوفًا على أنفسهم منهم. كما : -
6218 - حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " لا يستطيعون ضربًا في الأرض " حبسوا أنفسهم في سبيل الله
للعدوّ ، فلا يستطيعون تجارةً.
6219 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا
يستطيعون ضربًا في الأرض " ، يعني التجارة.
6220 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : " لا
يستطيعون ضربًا في الأرض " ، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل
الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : " يحسبهم الجاهل " بأمرهم وحالهم "
أغنياء " من تعففهم عن المسألة ، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس ، صبرًا
منهم على البأساء والضراء. كما : -
6221 - حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) في المخطوطة : " المكاسر " ، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته ،
كما أسلفت مرارًا كثيرة .
(5/593)
قوله
: " يحسبهم الجاهل أغنياء " ، يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من
التعفف. (1) .
* * *
ويعني بقوله : " منَ التعفف " ، من تَرْك مسألة الناس.
* * *
وهو " التفعُّل " من " العفة " عن الشيء ، والعفة عن الشيء ،
تركه ، كما قال رؤبة :
* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (2)
يعني بَرئ وتجنَّبَ.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " تعرفهم " يا محمد " بسيماهم
" ، يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله عز وجل : ( سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) [سورة الفتح : 29] ، هذه لغة قريش. ومن
العرب من يقول : " بسيمائهم " فيمدها.
وأما ثقيف وبعض أسَدٍ ، فإنهم يقولون : " بسيميائهم " ; ومن ذلك قول
الشاعر : (3) .
__________
(1) الأثر : 6221 - كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة : " كما حدثنا يزيد
قال حدثنا سعيد... " أسقط الناسخ من الإسناد " حدثنا بشر قال " ،
كما زدته ، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم : 6206 .
(2) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في 5 : 110 ، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا
الموضع من التفسير ، فقيده هناك .
(3) هو ابن عنقاء الفزاري ، وعنقاء أمه ، وقد اختلف في اسمه ، فقال القالي في
أماليه 1 : 237 : " أسيد " ، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف : 159 ،
وقال المرزباني في معجم الشعراء : " فيس بن بجرة " (بالجيم) ، أو "
عبد قيس بن بجرة " ، وفي النقائض : 106 " عبد قيس ابن بحرة "
بالحاء الساكنة وفتح الباء ، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي : 543 ،
وغيره العلامة الراجكوتي " بجرة " بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة
في ترجمة " قيس بن بجرة " وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة . وذكر شيخنا سيد
بن علي المرصفي في شرح الكامل 1 : 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو . وهذا كاف في
تعيين الاختلاف . وابن عنقاء ، عاش في الجاهلية دهرًا ، وأدرك الإسلام كبيرًا ،
وأسلم .
(5/594)
غُلامٌ
رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
(1)
* * *
__________
(1) يأتي في التفسير 4 : 55 /8 : 141 (بولاق) والأغاني 17 : 117 ، الكامل 1 : 14 ،
المؤلف والمختلف ، ومعجم الشعراء : 159 ، 323 ، أمالى القالي 1 : 237 ، الحماسة 4
: 68 ، وسمط اللآليء : 543 ، وغيرها كثير . من أبيات جياد في قصة ، ذكرها القالي
في أماليه . وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا ، فطال
عمره ، ونكبه دهره ، فاختلت حاله ، فمر عميلة بن كلدة الفزاري ، وهو غلام جميل من
سادات فزارة ، فسلم عليه وقال : ياعم ، ما أصارك إلى ما أدري ؟ فقال : بخل مثلك
بماله ، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من
حالك . فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله ، فقالت : لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا
بين اليأس والرجاء . فلما كان السحر ، سمع رغاء الإبل ، وثغاء الشاء وصهيل الخيل ،
ولجب الأموال ، فقال : ما هذا ؟ فقال : هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة
ماله شطرين وساهمه عليه ، فقال ابن عنقاء فيه يمجده : رَآنِي عَلَى مَا بِي
عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى
ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ
ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى
البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي
وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ
لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا
حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ
وَأتْزَرْ
وهذا شعر حر ، ينبع من نفس حرة . هذا وقد روي الطبري في 8 : 141 " رماه الله
بالحسن إذ رمي " . وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد : "
لا يروي بيت ابن عنقاء : " رماه الله بالحسن... " إلا أعمى البصيرة ،
لأن الحسن مولود ، وإنما هو : رماه الله بالخير يافعًا " .
وقوله : " لا تشق على البصر " ، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما ، بل
تجلي بها العين ، وتسر النفس وترتاح إليها .
(5/595)
وقد
اختلف أهل التأويل في " السيما " التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء
الفقراء الذين وصفَ صفتهم ، وأنهم يعرفون بها. (1)
فقال بعضهم : هو التخشُّع والتواضع.
ذكر من قال ذلك :
6222 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " تعرفهم بسيماهم " قال : التخشُّع.
6223 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد ، مثله.
6224 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، قال : كان
مجاهد يقول : هو التخشُّع.
* * *
وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم.
* ذكر من قال ذلك :
6225 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "
تعرفهم بسيماهم " ، بسيما الفقر عليهم.
6226 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ،
عن الربيع في قوله : " تعرفهم بسيماهم " ، يقول : تعرف في وجوههم الجَهد
من الحاجة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا : الجوعُ خفيّ.
* ذكر من قال ذلك :
6227 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وصفت صفتهم " ، وهو مخالف للسياق ،
والصواب ما أثبت ، وصف الله صفتهم .
(5/596)
"
تعرفهم بسيماهم " قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفي على الناس ، ولم
تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وأول الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله عز وجل أخبر
نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان
النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان
، فيعرفُهم وأصحابه بها ، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة
والضرّ ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميعَ ذلك ، وإنما تُدرك
علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضر ، بالمعاينة
دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض ، نظيرُ آثار
المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة ، فيتزيّى
بزيّ أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به
مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصف الله (2) نظير ما
يُعرف أنه مريض عند المعاينة ، دون وَصْفه بصفته.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }
قال أبو جعفر : يقال : " قد ألحف السائل في مسألته " ، إذا ألحّ "
فهو يُلحف فيها إلحافًا " .
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، لتستقيم العبارة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " كما وصفهم الله " ، والسياق يقتضي ما
أثبت . والمخطوطة التي نقلت عنها ، فيما نظن ، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها ،
مضطربة الخط ، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا ، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ
بخاصة .
(5/597)
فإن
قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف ؟
قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير
إلحاف ، (1) وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا
يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم ، لم تكن صفتُهم التعفف ، ولم يكن
بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة
الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.
وفي الخبر الذي : -
6228 - حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال
بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيتَ رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا ، فكان أوّل ما واجهني به :
" من استعفّ أعفَّه الله ، ومَن استغنى أغناهُ الله ، ومن سألنا لم ندّخر عنه
شيئًا نجده " . قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله!
فرجعت ، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة ، حتى
مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا ، إلا من عَصَم الله. (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلحافا وغير إلحاف " ، بالواو ، وهو لا يستقيم ،
والصواب ما أثبت . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 181 ، وقد قال : " ومثله
قولك في الكلام : قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من
أشباهه " وسيأتي بعد ، في ص : 599 ، وفي اللسان (لحف) ، وذكر الآية : "
أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف ، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة :
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [ إِذَا سَافَهُ العَوْدُ
النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا ]
المعنى : " ليس به منار فيهتدى به " .
(2) الحديث : 6228 - إسناده صحيح .
هلال بن حصن ، أخو بني مرة بن عباد ، من بني قيس بن ثعلبة : تابعى ثقة . ذكره ابن
حبّان في الثقات ، ص : 364 ، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2/ 204 ، وابن أبي حاتم
4 /2/ 73 - فلم يذكرا فيه جرحا . وهو مترجم في التعجيل ، ص : 434 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 14221 ، 14222 (ج 3 ص 44 حلبي) ، عن محمد بن جعفر
وحجاج ، ثم عن حسين بن محمد - ثلاثتهم عن شعبة ، عن أبي حمزة ، عن هلال بن حصن ،
عن أبي سعيد . فذكر نحوه بأطول منه .
وهذا أيضًا إسناد صحيح .
أبو حمزة : هو البصري " جار شعبة " ، عرف بهذا . واسمه : عبد الرحمن بن
عبد الله المازني " ، ثقة ، مترجم في التهذيب 6 : 219 .
وقد ثبت في ترجمة " هلال بن حصن " - في الكبير ، وابن أبي حاتم ،
والثقات ، والتعجيل ، أنه روى عنه أيضًا " أبو حمزة " . وشك في صحة ذلك
العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير ، واستظهر أن يكون صوابه
" أبو جمرة " ، يعنى نصر بن عمران الضبعي . ولكن يرفع هذا الشك أنه في
المسند أيضًا " أبو حمزة " . لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم .
" أعوز الرجل فهو معوز " : ساءت حاله وحل عليه الفقر .
" أعنق الرجل إلى الشيء يعنق " : أسرع إليه إسراعًا .
(5/598)
(1)
.
الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأنَّ
من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (2) .
* * *
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : " لا يسألون
الناس إلحافا " ، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف (3) .
قيل له : وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف ، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا
أهل مسألة بحالٍ بقوله : " يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف " ، وأنهم
إنما يُعرفون بالسيما - زاد عبادَه إبانة لأمرهم ، وحُسنَ ثناءٍ عليهم ، بنفي
الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال ، عنهم. (4) .
وقد كان بعضُ القائلين يقول : (5) ذلك نظيرُ قول القائل : " قلَّما رأيتُ
مثلَ
__________
(1) سياق الكلام : " وفي الخبر... الدلالة الواضحة... "
(2) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين : " إلحافا وغير إلحاف " "
بالواو ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 ص598 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين : " إلحافا وغير إلحاف " "
بالواو ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 ص598 .
(4) " السؤال " جمع سائل ، على زنة " " جاهل وجهال " .
والسياق : " بنفي الشره...عنهم " .
(5) في المطبوعة : و " قال : كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل
" هو كلام شديد الخلل . وفي المخطوطة : " وقال كاد بعض القائلين يقول
... " وسائره كالذي كان في المطبوعة " وهو أشدّ اختلالا وفسادًا . وصواب
العبارة ما استظهرته فأثبته . وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني
القرآن 1 : 181 ، كما سلف في ص : 598 التعليق : 1 .
(5/599)
فلان
" ! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6229 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي :
" لا يسألون الناس إلحافًا " ، قال : لا يلحفون في المسألة.
6230 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : "
لا يسألون الناس إلحافًا " ، قال : هو الذي يلح في المسألة.
6231 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
لا يسألون الناس إلحافًا " ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول : " إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف ، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء
السائلَ الملحفَ قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن
الله عز وجل كره لكم ثلاثًا : قيلا وقالا (1) وإضاعةَ المال ، وكثرةَ السؤال. فإذا
شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته ، حتى يُلقى جيفةً على فراشه ، لا
يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال[ ينفقه] في
شهوته ولذاته وملاعبه ، (2) .
وَيعدِ له عن حقّ الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه ، يسأل
الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.
..........................................................................
..........................................................................
(3) .
__________
(1) في المطبوعة : " قيل وقال " وهو صواب ، وهما فعلان من قولهم "
قيل كذا " و " قال كذا " ، وهو نهى عن القول بما لا يصح و لا يعلم
. وأثبت ما في المخطوطة ، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين ،
يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب ، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير
، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال : " القيل والقال " .
(2) في المخطوطة : " ذا مال في شهوته " وبين الكلامين بياض ، أما في
المطبوعة والدر المنثور 1 : 363 ، فساقه سياقًا مطردًا : " ذا مال في شهوته
" ، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد : " ويعدله عن حق الله " ، فلذلك
وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة .
(3) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو ، ففي المخطوطة
في إثر الأثر السالف 6231 ، الأثر الآتي : 6232 " حدثنا يعقوب بن إبراهيم . .
. " . وقد تنبه طابع المطبوعة ، فرأي أن الأثر الآتي ، هو من تفسير الآية
التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له ، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا
الموضع تفسير بقية الآتية : " وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم "
وشيء قبله ، وشيء بعده ، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر ، ولكن سياق
الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم . وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ
في هذا الموضع من الكتاب .
(5/600)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
القول
في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
[قال أبو جعفر] :
..........................................................................
..........................................................................
* * *
6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن أيمن بن نابل ، قال :
حدثني شيخ من غافق : أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين
والهُجْن. فيقول : أهل هذه - يعني الخيل - من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار
سرًّا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (1) .
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.
* ذكر من قال ذلك :
6233 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) الأثر : 6232 - " أيمن بن نابل الحبشي " أبو عمران المكي ، نزيل
عسقلان ، مولي آل أبي بكر . روي عن قدامة بن عبدالله العامرى ، وعن أبيه نابل ،
والقاسم بن محمد ، وطاوس . وروى عنه موسى بن عقبة ، وهو من أقرانه ، ومعتمر بن
سليمان ، ووكيع وابن مهدي ، وعبدالرزاق ، وغيرهم . وهو ثقة ، وكان لا يفصح ، فيه
لكنه . وعاش إلى خلافة المهدي . مترجم في التهذيب .
والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون الواو) : وهو ما
كان من الخيل من نتاج غير العراب ، وهو دون الفرس وأضعف منه . والهجن جمع هجين :
وهو من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان غير عربي ، وهي دون العرب أيضًا ، ليس من
عتاق الخيل ، وكلاهما معيب عندهم .
(5/601)
قوله
: " الذين ينفقون أموالهم " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " ، هؤلاء
أهلُ الجنة.
ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : المكثِرون هم الأسفلون. قالوا
: يا نبيّ الله إلا مَنْ ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون ، قالوا : يا نبيّ الله إلا
مَنْ ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون. قالوا : يا نبيّ الله ، إلا مَنْ ؟ حتى خشوا أن
تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ ، حتى قال : " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ،
عن يمينه وعن شماله ، وهكذا بين يديه ، وهكذا خلفه ، وقليلٌ ما هُمْ [قال] : (1)
هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى ، في غير سَرَف ولا إملاق ولا
تَبذير ولا فَساد. (2) .
* * *
وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله : " إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي " إلى
قوله : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، كان مما يُعملَ به قبل نزول
ما في " سورة براءة " من تفصيل الزَّكوات ، فلما نزلت " براءة
" ، قُصِروا عليها.
* ذكر من قال ذلك :
6234 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي " إلى قوله :
" ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنزل
" براءة " ، فلما نزلت " براءة " بفرائض الصَّدقات وتفصيلها
انتهت الصّدَقاتُ إليها.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين ، زيادة لا بد منها ، فإن هذا الكلام الآتي ولا شك من كلام
قتادة ، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 363 قال : " وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة . . . " ، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر
. وأما صدره ، فهو خبر مرسل كسائر الأخبار السالفة .
(2) قوله : " إملاق " هو من قولهم : " ملق الرجل ما معه ملقًا ،
وأملقه إملاقًا " ، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره تبذيرًا .
والفقر تابع للإنفاق والتبذير ، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب ، فقالوا :
" أملق الرجل إملاقًا " ، إذا افتقر فهو " مملق " أي فقير لا
شيء معه .
(5/602)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
القول
في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الذين يُرْبون.
* * *
و " الإرباء " الزيادة على الشيء ، يقال منه : " أربْى فلان على
فلان " ، إذا زاد عليه ، " يربي إرباءً " ، والزيادة هي "
الربا " ، " وربا الشيء " ، إذا زاد على ما كان عليه فعظم ، "
فهو يَرْبو رَبْوًا " . وإنما قيل للرابية [رابية] ، (1) لزيادتها في العظم
والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها ، من قولهم : " ربا يربو " .
ومن ذلك قيل : " فلان في رَباوَة قومه " ، (2) يراد أنه في رفعة وشرف
منهم ، فأصل " الربا " ، الإنافة والزيادة ، ثم يقال : " أربى فلان
" أي أناف [ماله ، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل للمربي : " مُرْبٍ
" ، لتضعيفه المال ، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب
الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك
قال جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ). [آل عمران : 131].
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام .
(2) في المطبوعة : " في ربا قومه " وفي المخطوطة : " في رباء قومه
" ، ولا أظنهما صوابًا ، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس : " وفلان
في رباوة قومه : في أشرافهم . وهو : في الروابي من قريش " ، فأثبت ما في
الأساس .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " أي أناف صيره زائدًا " ، وهو كلام غير
مستقيم ولا تام . والمخطوطة كما أسلفت مرارًا ، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها
كثيرًا كما رأيت آنفًا . فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر ،
حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى .
(6/7)
وبمثل
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
6235 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قال ، في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل
الدّينُ فيقول : لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله.
6237 - حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن ربا أهل
الجاهلية : يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى ، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه
قضاء ، زاده وأخَّر عنه.
* * *
قال أبو جعفر : فقال جل ثناؤه : الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا
" لا يقومون " في الآخرة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه
الشيطانُ من المس " ، يعني بذلك : يتخبَّله الشيطان في الدنيا ، (1) وهو الذي
يخنقه فيصرعه (2) " من المس " ، يعني : من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6238 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) تخبله : أفسد عقله وأعضاءه .
(2) في المطبوعة : " وهو الذي يتخبطه فيصرعه " ، وهو لا شيء ، إنما
استبهمت عليه حروف المخطوطة ، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها ، وهو لا يعد
تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة : " +يحفه " غير منقوطة إلا نقطة على
" الفاء " ، وآثرت قراءتها " يخنقه " ، لما سيأتي في الأثر
رقم : 6242 عن ابن عباس : " يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق "
، وما جاء في الأثر : 6247 . وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لذلك ، ولأن من صفة
الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه ، أعاذنا الله وإياك .
(6/8)
عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " الذين يأكلون الرّبا لا
يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، يوم القيامة ، في أكل
الرِّبا في الدنيا.
6239 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
6240 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم
قال ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الذين يأكلون الرّبا لا
يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " ، قال : ذلك حين يُبعث من
قبره. (1)
6241 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بم كلثوم قال
، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا
: " خذْ سلاحك للحرب " ، وقرأ : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المسّ " ، قال : ذلك حين يبعث من قبره.
6242 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير :
" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ
" . الآية ، قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (2)
6243 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
__________
(1) الأثر : 6240 - " ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري " ، روى عن أبيه ، وبكر
ابن عبد الله المزني ، والحسن البصري . وروى عنه القطان ، وعبد الصمد بن عبد
الوارث ، ومسلم ابن إبراهيم ، وحجاج بن منهال . قال النسائي : " ليس به بأس
" ، وقال في الضعفاء : " ليس بالقوي " ، وقال أحمد وابن معين :
" ثقة " . وأبوه : " كلثوم بن جبر " ، قال أحمد : " ثقة
" ، وقال النسائي : " ليس بالقوي " . مات سنة : 130 .
(2) انظر ما سلف في ص : 8 ، تعليق : 2 .
(6/9)
"
الذين يأكلون الربا لا يقومون " ، الآية ، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم
القيامة ، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.
6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال
: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.
6245 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله :
" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ
" ، قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة : (
لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
6246 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس " ، قال : من مات وهو يأكل الربا ، بعث يوم القيامة
متخبِّطًا ، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.
6247 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الذين
يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، يعني
: من الجنون.
6248 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " الذين
يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " . قال :
هذا مثلهم يومَ القيامة ، لا يقومون يوم القيامة مع الناس ، إلا كما يقوم الذي
يُخنق من الناس ، كأنه خُنق ، كأنه مجنون (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة " ،
وهو كلام فاسد . وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه ، فدل
على خلطه وسهوه . فحذفت من هذه الجملة " يوم القيامة " وجعلت " مع
الناس " ، " من الناس " ، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق ، وكأنه
الصواب إن شاء الله .
(6/10)
قال
أبو جعفر : ومعنى قوله : " يتخبطه الشيطانُ من المسّ " ، يتخبله من
مَسِّه إياه. يقال منه : " قد مُسّ الرجل وأُلقِ ، فهو مَمسوس ومَألوق "
، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ) [الأعراف :
201] ، ومنه قول الأعشى :
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى ، وكأَنَّمَا... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ
الجِنِّ أَوْلَقُ (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله
، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله ؟
قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم
هذه الآيات يوم نزلت ، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم ، معظّمًا
بذلك عليهم أمرَ الرّبا ، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي
قوله جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) ديوانه : 147 ، وروايته " من غب السرى " ، ورواية اللسان (ألق) ،
" ولق " ، وهو من قصيدته البارعة في المحرق . ويصف ناقته فيقول قبل
البيت ، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة : وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ
بِجَسْرَةٍ ... إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى ، وَبَيْنى وَبَيْنَها ... مَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ
ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
" الخرق " : المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح . " وناقة جسرة
" : طويلة شديدة جريئة على السير . و " خب " : جرى . و " الآل
" : سراب أول النهار . " يترقرق " : يذهب ويجيء . وقوله : "
هي الصاحب الأدنى " ، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه ، وينصره في
الملمات . و " المجوف " : الضخم الجوف . و " العلافى " : هو
أعظم الرجال أخرة ووسطًا ، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له " علاف " .
و " القطع " : طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير . و " النمرق
والنمرقة " : وسادة تكون فوق الرحل ، يفترشها الراكب ، مؤخرها أعظم من مقدمها
، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته . و " غب السرى " : أي بعد
سير الليل الطويل . و " الأولق " : الجنون . ووصفها بالجنون عند ذلك ،
من نشاطها واجتماع قوتها ، لم يضعفها طول السرى .
(6/11)
اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [سورة البقرة : 278 -
279] الآية ، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان
لكل معاني الرّبا ، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه ، (1) كالذي
تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله :
6249 - " لعن الله آكلَ الرّبا ، وُمؤْكِلَه ، وكاتبَه ، وشاهدَيْه إذا علموا
به " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا }
قال أبو جعفر : يعني بـ " ذلك " جل ثناؤه : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم
يوم القيامة من قبورهم ، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون ، فقال
تعالى ذكره : هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم ، ووَحشة
قيامهم من قبورهم ، وسوء ما حلّ بهم ، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون
ويقولون : " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده " مثلُ الرّبا
" . وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ
مالُ أحدهم
__________
(1) ولكن أهل الفتنة في زماننا ، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا ، وقد
عظمه الله وقبحه ، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله ، في الدنيا والآخرة ، ومن
أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين . فاللهم اهدنا ولا
تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا ، وثبتنا على دينك الحق ، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه
الأيام التي بقيت لنا ، وهي الفانية وإن طالت ، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ
قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا . قيل له : الناس كلهم ؟! قال
: من لم يأكله ناله من غباره " . (سنن البيهقي 5 : 275) ، فاللهم انفض عنا
وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق .
(2) الأثر : 6249 - رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا ، وقد استوفى تخريجه ابن كثير
في تفسيره 1 : 550 - 551 وساق طرقه مطولا . والسيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، من
حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد ، وأبي يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان . وانظر
سنن البيهقي 5 : 275 .
(6/12)
على
غريمه ، يقول الغَريم لغريم الحق : " زدني في الأجل وأزيدك في مالك " .
فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : " هذا ربًا لا يحل " . فإذا قيل لهما ذلك
قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع ، أو عند مَحِلّ المال " !
فكذَّبهم الله في قيلهم فقال : " وأحلّ الله البيع " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ
إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (275) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (1)
" وحرّم الربا " ، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه
في الأجل ، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل : فليست الزيادتان اللتان إحداهما من
وَجه البيع ، (2) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل ، سواء. وذلك
أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللتُ
الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته
التي يبيعها ، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل : ليست الزيادة من وجه البيع
نظيرَ الزيادة من وجه الربا ، لأنّي أحللت البيع ، وحرَّمت الرّبا ، والأمر أمري
والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض
في حكمي ، ولا أن يخالف أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *
__________
(1) انظر معنى : " البيع " فيما سلف 2 : 342 ، 343 .
(2) في المطبوعة : " وليست الزيادتان " ، والصواب ما في المخطوطة .
(6/13)
ثم
قال جل ثناؤه : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى " ، يعني بـ "
الموعظة " : التذكير ، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن ، (1)
وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب ، يقول جل ثناؤه : فمن جاءه ذلك ، "
فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (2) " فله ما سلف
" ، يعني : ما أكل ، وأخذ فمَضَى ، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك
" وأمرُه إلى الله " ، يعني : وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه
والتحريم ، وبعد انتهاء آكله عن أكله ، إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه
عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه ، وإن شاء خَذَله عن ذلك " ومن عاد " ،
يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من
الله بالتحريم ، من قوله : " إنما البيع مثل الربا " " فأولئك
أصْحاب النار هم فيها خالدون " ، يعني : ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ،
يعني نار جهنم ، فيها خالدون. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6250 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السديّ : " فمن
جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " ، أما " الموعظة
" فالقرآن ، وأما " ما سلف " ، فله ما أكل من الربا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " موعظة " فيما سلف 2 : 180 ، 181 .
(2) انظر تفسير : " انتهى " فيما سلف 3 : 569 .
(3) انظر تفسير : " أصحاب النار " و " خالدون " فيما سلف 2 :
286 ، 287/4 : 316 ، 317/5 : 429 .
(6/14)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
القول
في تأويل قوله تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) }
قال أبو جعفر : يعني عز وجل بقوله : " يمحق الله الربا " ، ينقُصُ الله
الرّبا فيذْهبه ، كما : -
6251 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال
ابن عباس : " يمحق الله الربا " ، قال : يَنقص.
* * *
وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال :
6252 - " الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ " . (1) .
* * *
وأما قوله : " ويُرْبي الصّدَقات " ، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف
أجرَها ، يَرُبُّها وينمِّيها له. (2)
* * *
وقد بينا معنى " الرّبا " قبلُ " والإرباء " ، وما أصله ، بما
فيه الكفاية من إعادته. (3)
* * *
__________
(1) 6252 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 37 من طريق إسرائيل ، عن الركين بن
الربيع ، عن أبيه الربيع بن عميلة ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " الربا إن كثر ، فإن عاقبته تصير إلى قل " ، وكذلك ذكره ابن
كثير من المسند من طريق شريك عن الركين بن الربيع ، بلفظه . ثم ساق ما رواه ابن
ماجه . غير أن ابن كثير (2 : 61) نقل لفظ الطبري ، وساق الخبر كنصه في الحديث ، لا
كما جاء في المطبوعة والمخطوطة . وانظر الدر المنثور 1 : 365 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " يضاعف أجرها لربها " ، كأنه يريد لصاحبها
، وكأن صواب قراءتها ما أثبت ، رب المعروف والصنيعة والنعمة وغيرها - يريها ربًا
+ورببها (كلها بالتشديد) : نماها وزادها وأتمها ، وجملة " يربها وينميها له
" تفسير لقوله : " يضاعف أجرها " . وانظر الأثر الآتي رقم : 6253 .
(3) انظر ما سلف قريبا ص : 7 .
(6/15)
فإن
قال لنا قائل : وكيف إرباء الله الصدقات ؟
قيل : إضعافه الأجرَ لربِّها ، كما قال جل ثناؤه : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ
فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) [سورة البقرة : 261] ، وكما قال : ( مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً ) [سورة البقرة : 245] ، وكما : -
6253 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن القاسم :
أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله عز
وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه ،
حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد ، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ
) [سورة التوبة : 104] ، و " يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات " .
(1) .
__________
(1) الحديث : 6253 - عباد بن منصور الناجي البصري القاضي : ثقة ، من تكلم فيه تكلم
بغير حجة . وقد حققنا توثيقه في شرح المسند : 2131 ، 3316 ، وبينا خطأ من جرحه
بغير حق .
القاسم : هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق ، التابعي الثقة الفقيه الإمام .
والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج 11 ص 15 بولاق) ، عن أبي كريب ، بهذا
الإسناد ولكن سقط منه هناك " حدثنا وكيع " . وهو خطأ ظاهر .
ورواه أحمد في المسند : 10090 (2 : 371 حلبي) ، عن وكيع ، وعن إسماعيل - وهو ابن
علية - كلاهما عن عباد بن منصور . بهذا الإسناد . وساقه على لفظ وكيع ، كرواية
الطبري هنا .
ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى ، ففيه : " وهو الذي يقبل
التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " . والآية المتلوة في الحديث هي التي في
رواية الطبري هنا : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ،
وهي الآية : 104 من سورة التوبة . وأما الأخرى فالآية : 25 من سورة الشورى ،
وتلاوتها : (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) وليست تكون موضع
الاستشهاد في هذا الحديث .
وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند ، من الناسخين القدماء ، بدلالة أنه ثبت هذا الخطأ
أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن المسند ، في جامع المسانيد والسنن 7 :
320 (مخطوط مصور) .
بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا . لعله من وكيع ، أو من عباد بن منصور .
لأن الترمذي روى الحديث 2 : 23 ، عن أبي كريب - شيخ الطبري هنا - عن وكيع ، به .
وثبتت فيه تلاوة الآية على الخطأ ، كرواية أحمد عن وكيع . ونقل شارحه المباركفوري
عن الحافظ العراقي أنه قال : " في هذا تخليط من بعض الرواة . والصواب : (ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية . وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي
، على الصواب " .
بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا . فذكر الحديث في الترغيب والترهيب 2
: 19 ، عن رواية الترمذي ، وذكر الآية كرواية المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة .
فإذا كان ذلك كذلك ، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله سمعه من أبي كريب عن
وكيع ، كرواية الترمذي عن أبي كريب ، وكرواية أحمد عن وكيع ، فلم يستجز أن يذكر
الآية على الخطأ في التلاوة ، فذكرها على الصواب . وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن .
وقال الترمذي - بعد روايته : " هذا حديث حسن صحيح . وقد روي عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا " .
ورواية عائشة ستأتي : 6255 .
وذكره ابن كثير في التفسير 2 : 62 ، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن عمرو بن
عبد الله الأودي ، عن وكيع ، بهذا الإسناد ، لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع
فيها الخطأ .
وذكره السيوطي 1 : 365 ، وزاد نسبته للشافعي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ،
وابن خزيمة ، وابن المنذر ، والدارقطني في الصفات .
ورواه أحمد أيضًا : 9234 ، عن خلف بن الوليد ، عن المبارك ، وهو ابن فضالة ، عن
عبد الواحد ابن صبرة ، وعباد بن منصور ، عن القاسم ، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه ،
مختصرًا ، ولم يذكر فيه الآيتين .
وأشار ابن كثير 2 : 62 ، إلى رواية المسند هذه ، ولكن وقع فيه تخليط من الناسخين .
والحديث سيأتي نحو معناه ، مطولا ومختصرًا ، عن أبي هريرة : 6254 ، 6256 ، 6257 .
وعن عائشة : 6255 .
وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها : 6257 .
(6/16)
6254
- حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن
عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال : إن
الله عز وجل يقبَلُ الصدقة ، ولا يقبلُ إلا الطيب. " (1) .
__________
(1) الحديث : 6254 - سليمان بن عمر بن خالد الأقطع ، القرشي العامري الرقي : ترجمه
ابن أبي حاتم 2/1/131 ، وذكر أن أباه كتب عنه . ولم يذكر فيه جرحًا .
ابن المبارك : هو عبد الله . وسفيان : هو الثوري .
والحديث مختصر ما قبله . والشك في رفعه - هنا - لا يضر ، فقد صح الحديث مرفوعًا
بالإسناد السابق والأسانيد الأخر .
وسيأتي الحديث أيضًا ، بهذا الإسناد (ج 11 ص 15 بولاق) ، ولم يذكر لفظه ، بل ذكر
أوله ، ثم قال : " ثم ذكر نحوه " . إحالة على الحديث السابق . فكأنه
رواه هناك مطولا ، ولكن دون ذكر سياقه كاملا .
وأشار ابن كثير ، في تفسير سورة التوبة 4 : 235 - إلى هذه الرواية والتي قبلها ،
جعلهما حديثًا واحدًا ، عن الثوري ووكيع ، عن عباد بن منصور ، به . ولكنه لم يذكر
تخريجه .
(6/17)
6255
- حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي ، قال : حدثنا ريحان بن سعيد ، قال : حدثنا
عباد ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن
الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربّيها لصاحبها كما
يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله ، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد ، وتصديق ذلك في
كتاب الله عز وجل : (يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات). (1) .
__________
(1) الحديث : 6255 - محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم ، المقدمي البصري ، ثقة ،
مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/179 ، وابن أبي حاتم 4/1/21 . ووقع في المطبوعة
هنا غلط في اسم أبيه : " عمرو " بدل " عمر " . وسيأتي بتخليط
أشد في المطبوعة : 6809 ، هكذا : " محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي
" !!
و " المقدمي " : بتشديد الدال المهملة المفتوحة ، نسبة إلى جده الأعلى
" مقدم " .
ريحان بن سعيد الناجي البصري : من شيوخ أحمد وإسحاق . وقال يحيى بن معين : "
ما أرى به بأسا " . وتكلم فيه بعضهم ، ولكن البخاري ترجمه في الكبير 2/1/301
، فلم يذكر فيه جرحًا . وكان إمام مسجد عباد بن منصور ، كما في الكبير ، وابن أبي
حاتم 1/2/517 . وتكلم فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد . ولعله
كان أعرف به إذ كان إمام مسجده .
وأيا ما كان ، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية ، كما سيظهر من التخريج .
فرواه أحمد في المسند 6 : 251 (حلبي) ، عن عبد الصمد ، عن حماد ، عن ثابت ، عن
القاسم ابن محمد ، عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن
الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة ، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى يكون مثل
أحد " .
وهذا إسناد صحيح . ولكن الحديث مختصر .
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 5 : 234 - 235 (من مخطوطة الإحسان) . من طريق عبد
الصمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن القاسم .
ورواه البزار مطولا ، من طريق يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة - ومن طريق
الضحاك بن عثمان ، عن أبي هريرة ، بنحو رواية الطبري هنا ، إلا أنه لم يذكر الآية
في آخره . نقله ابن كثير 2 : 62 - 63 .
ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة ، لأنه إنما يروى عن التابعين .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 111 مختصرًا كرواية المسند ، وقال : "
رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح " . ثم ذكره مطولا 3 : 112 ،
وقال : " رواه البزار ، ورجاله ثقات " . ولكنه ذكره من حديث عائشة وحدها
.
وذكر السيوطي 1 : 365 لفظ الطبري هنا . ثم تساهل في نسبته ، فنسبه للبزار ، وابن
جرير ، وابن حبان ، والطبراني .
(6/18)
6256
- حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ، عن أيوب ،
عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ
العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه ، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي
أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله أو قال :
" في كفِّ الله عز وجلّ حتى تكون مثلَ أحُد ، فتصدّقوا " . (1) .
6257 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت
__________
(1) الحديث : 6256 - " محمد بن عبد الملك " : الراجح عندي أنه "
محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي " ، فإنه يروي عن عبد الرزاق ، وهو من
طبقة شيوخ الطبري ، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه . ولكنه بغدادي مثله . فمن
المحتمل جدا أن يروى عنه ، بل هو هو الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال . وهو ثقة ،
وثقه النسائي وغيره . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/5 . وتاريخ بغداد 2 :
345 - 346 .
ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ : " محمد بن عبد الملك بن أبي
الشوارب " ، وهو ثقة أيضًا ، ولكن لم يذكر عنه أنه روى عن عبد الرزاق ،
والغالب أن ينص على مثل هذا . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/5 ،
وتاريخ بغداد 2 : 344 - 345 .
وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو ؟ فحين ذكر هذا الحديث 2 : 62 ، ذكر أنه
" رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق " !! ولم أجد في
الرواة من يسمى بهذا . فلا أدري أهو سهو منه ، أم تخليط من الناسخين ؟
والحديث رواه أحمد في المسند : 7622 ، عن عبد الرزاق ، بهذا الإسناد .
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 44 ، عن محمد بن رافع ، وعبد
الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد الرزاق ، به .
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 19 ، أنه رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا .
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا ، ثم قال : " وهكذا رواه
أحمد عن عبد الرزاق . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه عجيب . والمحفوظ ما
تقدم " ! يعني رواية عباد بن منصور .
ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا ، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح على شرط الشيخين .
ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر ، فقد تابعه عليه محمد بن ثور . فرواه الطبري
- فيما سيأتي (ج 11 ص 15 - 16 بولاق) ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور ،
عن معمر ، به . نحوه . وهذا إسناد صحيح أيضًا . فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد :
ثقة ، وثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق .
(6/19)
يونس
، عن صاحب له ، عن القاسم بن محمد قال ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه ، ولا يقبل منها إلا ما كان
طيِّبًا ، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله ، حتى يوافَي
بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد " . (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 6257 - وهذا إسناد فيه راو مبهم ، هو الذي روى عنه يونس ، ومن
المحتمل جدا أن يكون هو أيوب . ولكن لا يزال الإسناد ضعيفا حتى نجد الدلالة على
هذا المبهم .
وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها .
وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة ، من أوجه كثيرة :
فرواه البخاري 3 : 220 - 223 ، و 13 : 352 ومسلم ، 1 : 277 - 278 ، والترمذي 2 :
22 - 23 ، والنسائي 1 : 349 ، وابن ماجه : 1842 ، وابن حبان في صحيحه 5 : 234 -
237 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد . ص : 41 - 44 .
ورواه أحمد في المسند - غير ما أشرنا إليه سابقا - : 8363 (2 : 331 حلبي) ، 8948 ،
8949 (ص : 381 - 382) ، 9234 (ص404) ، 9413 (ص : 418) ، 9423 (ص : 419) ، 9561 (ص
: 431) ، 10958 (ص : 538) ، 10992 (ص : 541) .
ورواه البخاري في الكبير ، بالإشارة الموجزة كعادته 2/1/476 .
وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث : " في يد الله " ، و " في كف الله
" ، و " كف الرحمن " ، ونحو هذه الألفاظ . فقال الترمذي 2 : 23 -
24 .
" وقال غير واحد من أهل العلم ، في هذا الحديث ، وما يشبه هذا من الروايات من
الصفات ، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - قال : قد ثبتت
الروايات في هذا ، ونؤمن بها . ولا يتوهم ، ولا يقال : كيف ؟ هكذا رُوي عن مالك
ابن أنس ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، انهم قالوا في هذه الأحاديث :
أَمِرُّوها بلا كيفَ . وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية
، فأنكرت هذه الروايات ، وقالوا : هذا تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير
موضع من كتابه - : اليد ، والسمع والبصر . فتأولت الجهمية هذه الآيات ، وفَّسروها
على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا : إن الله لم يَخْلق آدم بيده! وقالوا :
إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم : إنما يكون التشبيه إذا قال يد
كَيدٍ ، أو مِثْل يَدٍ ، أو سمع كسَمْعٍ ، أو مثلَ سمعٍ . فإذا قال سمع كسمعٍ أو
مثل سمع - فهذا تشبيه . وأما إذا قال كما قال الله : يد ، وسمع ، وبصر . ولا يقول
: كيف ، ولا يقول : مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً . وهو كما قال الله
تبارك وتعال : (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البَصير) " .
(6/20)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
قال
أبو جعفر : وأما قوله : " والله لا يحب كل كفار أثيم " ، فإنه يعني به :
والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه ، مقيم عليه ، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه ،
" أثيم " ، متماد في الإثم ، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير
ذلك من معاصيه ، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه
بها في تنزيله وآي كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله
وبرسوله ، وبما جاء به من عند ربهم ، من تحريم الربا وأكله ، وغير ذلك من سائر
شرائع دينه " وعملوا الصالحات " التي أمرهم الله عز وجل بها ، والتي
نَدَبهم إليها " وأقاموا الصلاة " المفروضة بحدودها ، وأدّوها بسُنَنها
" وآتوا الزكاة " المفروضة عليهم في أموالهم ، بعد الذي سلف منهم من أكل
الرّبا ، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم " لهم أجرهم " ، يعني ثواب
ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم " عند ربهم " يوم حاجتهم إليه في
معادهم ولا خوف عليهم " يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم
وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم ، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا ، بما كان من
إنابتهم ، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم ،
(6/21)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وتصديقهم
بوعد الله ووعيده " ولا هم يحزنون " على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا
من أكل الربا والعمل به ، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى ، وهم على تركهم
ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة ، فوصلوا إلى ما وُعدوا على
تركه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " يا أيها الذين آمنوا " ، صدّقوا
بالله وبرسوله " اتقوا الله " ، يقول : خافوا الله على أنفسكم ، فاتقوه
بطاعته فيما أمركم به ، والانتهاء عما نهاكم عنه " وذروا " ، يعني :
ودعوا " ما بقي من الربا " ، يقول : اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على
رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها " إن كنتم مؤمنين " ،
يقول : إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم ، بأفعالكم. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً
كانوا أرْبوه عليهم ، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم ، وبقي بعضٌ ، فعفا الله جل
ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية ، (2) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما
بقي منه.
* ذكر من قال ذلك :
6258 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي :
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى : "
ولا تظلمون " ، قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني
المغيرة ، كانا
__________
(1) قوله : " بأفعالكم " متعلق بقوله : " محققين . . . " ، أي
محققين ذلك بأفعالكم .
(2) في المخطوطة : " عما كان قد اقتضوه . . . " ، وهو فاسد ، والصواب ما
في المطبوعة .
(6/22)
شريكين
في الجاهلية ، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو (1) وهم بنو عمرو
بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله " ذروا ما بقي
" من فضل كان في الجاهلية " من الربا " .
6259 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين
" ، قال : كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من
ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ ، استعمل
عتَّاب بن أسِيد على مكةَ ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني
المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم
مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام
، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد ، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم
مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله " ، إلى " ولا
تظلمون " . فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال : "
إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب " وقال ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : " اتقوا
الله وذروا ما بقي من الرّبا " ، قال : كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة
، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، بنو عمرو بن عمير ، فهم الذين كان
لهم الرّبا على بني المغيرة ، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود. (2)
6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " سلفا في الربا إلى أناس . . . " بالفعل
الماضي ، والصواب ما أثبت من الدر المنثور 1 : 366 ، والبغوي (بهامش ابن كثير) 2 :
63 . والسلف (بفتحتين) : القرض . والفعل : أسلف وسلف (بتشديد اللام) .
(2) الأثر : 6259 - انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة " هلال الثقفي
" . وقال : " وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله : " فلما كان الفتح
" نظر ، ذكرت توجيهه في أسباب النزول " .
(6/23)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
عن
الضحاك في قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين "
، قال : كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية ، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس
أموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (فإن لم تفعلوا) فإن لم تذَروا ما بقي من
الربا.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله : " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة : " فَأْذَنُوْا " بقصر الألف من "
فآذنوا " ، وفتح ذالها ، بمعنى : كونوا على علم وإذن.
* * *
وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين : " فَآذِنُوا " بمدّ الألف
من قوله : " فأذنوا " وكسر ذالها ، بمعنى : فآذنوا غيرَكم ، أعلمُوهم
وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " فأذَنوا
" بقصر ألفها وفتح ذالها ، بمعنى : اعلموا ذلك واستيقنوه ، وكونوا على إذن من
الله عز وجل لكم بذلك.
وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من
أقام
(6/24)
على
شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه ، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل
حال إلا أن يراجع الإسلام ، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (1) فإذْ
كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه
الذي لا يُقَرُّ عليه ، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان ،
فإنما نُبذ إليه بحرب ، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (2) لأن الأمر
إن كان إليه ، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب ، لم
يَلزمهم حرْبُه ، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين ، فقد علم أنه المأذون
بالحرب لا الآذن بها.
وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6261 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس في قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا
" ، إلى قوله : (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا
ينزعُ عنه ، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضَرب عنقه.
6262 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال
، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يُقال يوم القيامة لآكل
الرّبا : " خذ سلاحك للحرْب " . (3)
6263 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج ، قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال :
حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله.
6264 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وذروا
ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)
أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه " . وهو
خطأ في الرسم ، وفساد في المعنى بهذا الرسم . وصواب رسمه في المخطوطة ، وهو صواب
المعنى .
(2) في المخطوطة : " بالإنذار بها إن عزم على ذلك " ، وهي صواب في
المعنى ، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح .
(3) الأثر : 6262 - انظر الأثر السالف رقم : 6241 ، والتعليق عليه .
(4) البهرج : الشيء المباح . والمكان بهرج : غير حمى . وبهرج دمه : أهدره وأبطله .
وفي الحديث : أنه بهرج دم ابن الحارث .
(6/25)
6265
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة
، مثله.
6266 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " ، أوعد الآكلَ
الرّبا بالقتل. (1)
6267 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال
ابن عباس : قوله : (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله : (فأذنوا بحرب من الله) إيذان
من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل ، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أُمْوَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " إن تبتم " فتركتم أكلَ الربا
وأنبتم إلى الله عز وجل " فلكم رؤوس أموالكم " من الديون التي لكم على
الناس ، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم ، كما :
6268 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تبتم
فلكم رؤوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال ، (2) جعل لهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أوعد لآكل الربا . . . " وهو لا شيء ،
والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " المال الذي لهم " بإسقاط الواو ، وأثبت ما في
المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم : 6297 . وفي المخطوطة " ظهور الرحال "
بالحاء .
(6/26)
رءوس
أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن
يأخذوا منه شيئًا.
6269 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك قال : وضع الله الرّبا ، وجعل لهم رءوس أموالهم.
6270 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في
قوله : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " ، قال : ما كان لهم من دَين ،
فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.
6271 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي :
" وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " الذي أسلفتم ، وسقط الربا.
6272 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أنّ
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح : " ألا إن ربا
الجاهلية موضوعٌ كله ، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب " .
6273 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : " إنّ كل ربا موضوع
، وأول ربًا يوضع ربا العباس " . (1) .
* * *
__________
(1) الأثران : 6272 ، 6273 - حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، رواه
مسلم 8 : 182 ، 183 في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع . وسنن البيهقي 5 :
274 ، 275 . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، وقال " أخرج أبو داود
والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن
عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع . . . " ، وانظر ابن كثير 2 : 65 .
(6/27)
القول
في تأويل قوله تعالى : { لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " لا تَظلمون " بأخذكم رؤوس أموالكم التي
كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم ، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من
أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه ، أو لم يكن لكم قبلُ
" ولا تُظلمون " ، يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي
كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل ، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه ، لأن
ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما
لكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول ، وغيرُه من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6274 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون " ، فتُربون ، "
ولا تظلمون " فتنقصون.
6275 - وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فلكم
رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " ، قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا
تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من
غرمائكم رؤوسَ أموالكم " ذو عُسْرَة " يعني : معسرًا برؤوس أموالكم التي
كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم.
(6/28)
وقوله
: " ذو عسرة " ، مرفوع ب " كان " ، فالخبر متروك ، وهو ما
ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها ، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها ،
ولو وُجِّهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي
بنفسه التام ، لكان وجهًا صحيحًا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ
الكلام عند ذلك : وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم ، فنَظِرة إلى
ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ) ، بمعنى :
وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية
جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (1)
* * *
وأما قوله : ( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى
ميسرة ، كما قال : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) [سورة البقرة : 196] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما
كان من نظائرها فيما مضى قبلُ ، فأغنى عن تكريره. (2) .
* * *
و " الميسرَة " ، المفعلة من " اليُسر " ، مثل "
المرْحمة " و " والمشأمة " .
* * *
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين
الذي لكم ، (3) فيصيرَ من أهل اليُسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 186 .
(2) انظر ما سلف 4 : 34 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى يوسر بما ليس لكم " ، واجتهد مصحح
المطبوعة وقال : " لعل (ليس) زائدة من الناسخ " . ولا أراه كذلك ، بل
قوله " بما ليس " ، هي في الأصل الذي نقل عنه الناسخ " بالدين
" مرتبطة الحروف ، كما يكون كثيرا في المخطوطة القديمة ، فلم يحسن الناسخ
قراءتها ، فقرأها " بما ليس " ، وحذف " الذي " ، لظنه أنها
زائدة سهوا من الناسخ قبله ، وتبين صحة ما أثبتناه ، من كلام الطبري بعد في آخر
تفسير الآية . ولو قرئت : " برأس ما لكم " ، لكان صوابا في المعنى ، كما
يتبين من الآثار الآتية .
(6/29)
ذكر
من قال ذلك :
6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد
، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
" ، قال : نزلت في الربا.
6278 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين : أن رجلا
خاصَم رجلا إلى شُرَيح ، قال : فقضى عليه وأمرَ بحبسه ، قال : فقال رجل عند شريح :
إنه مُعسرٌ ، والله يقول في كتابه : " وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة
" ! قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه : ( إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [سورة النساء : 58] ولا
يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.
6279 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله :
" وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، قال : ذلك في الربا.
6280 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ أن الربيع
بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أيْ فلان ، إن كنت
مُوسرًا فأدِّ ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (1)
6281 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : جاء رجل إلى
شريح فكلَّمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه مُعسر! ! قال : فظننت أنه يكلِّمه في
محبوس ، فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ،
__________
(1) الأثر : 6280 - كان في المطبوعة : " مغيرة ، عن الحسن . . . " ، وفي
المخطوطة " مغيرة ، عن الحسى " مشددة الياء بالقلم ، والناسخ كثير السهو
والغفلة والتصحيف كما أسلفنا . وإنما هو " الشعبي " ، وهذا الإسناد إلى
الشعبي قد مضى مئات من المرات ، انظر مثلا : 4385 . وكان في المطبوعة : "
الربيع بن خيثم " وهو تصحيف والصواب ما أثبت ، وقد مضت ترجمته في رقم : 1430
.
(6/30)
فأنزل
الله عز وجل : " وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة " وقال الله عز
وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )
، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدّوا الأمانات إلى أهلها.
6282 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : "
وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة " ، قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.
6283 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، إنما أمر
في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النَّظِرة في الأمانة ، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى
أهلها. (1)
6284 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي :
" وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " ، يقول :
إلى غنى.
6285 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال
ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، هذا في شأن الربا.
6286 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال (2)
سمعت الضحاك في قوله : (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ، هذا في شأن الربا ،
وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمِروا أن يأخذوا رءوس
أموالهم.
__________
(1) في المخطوطة : " ولكن مؤدي الأمانة . . . " ، وهو تصحيف من الناسخ .
(2) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، والصواب من المخطوطة ، وقد مضى
الكلام على هذا الإسناد فيما سلف .
(6/31)
6287
- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس :
" وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، يعني المطلوب.
6288 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في
قوله : " وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة " ، قال : الموت.
6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ،
عن محمد بن علي مثله.
6290 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة ،
عن إبراهيم : " وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، قال : هذا في
الربا.
6291 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن منصور ،
عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فُرْقة.
6292 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم
: " فنظرة إلى ميسرة " ، قال : ذلك في الربا.
6293 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد :
" فنظرة إلى ميسرة " ، قال : يؤخّره ، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين
أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخَّره.
6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ،
عن مجاهد : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزدْ
عليه.
* * *
(6/32)
وقال
آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ (1) من أيّ وجهة كان
ذلك الحق ، من دين حلال أو ربا.
ذكر من قال ذلك :
6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قال : من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا خير لكم. قال : وكذلك كل دين
على مسلم ، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه
حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على
ذلك.
6296 - حدثني علي بن حرب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ،
عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في
الدَّين. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة " ، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل
أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رؤوس
أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس
أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن
الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله -
الذي كان أخذ منه ، أو لزمه
__________
(1) في المخطوطة : " هذه الآية عام . . . " تصحيف من الناسخ وسهو .
(2) الأثر : 6296 - " علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي " . قال النسائي
: " صالح " ، وقال أبو حاتم : " صدوق " توفي سنة 265 ، مترجم
في التهذيب .
(6/33)
من
قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا. (1) وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه
إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم
الله به : من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه ، حكم واجب لكل من
كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر : في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن
دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم
ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد
وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال
له بعينه.
فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم ، فقد بطل دين رب المال ، وذلك
ما لا يقوله أحد.
ويكون في رقبته ، (2) فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه ، فقد بطل دين رب الدين ، وإن
خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد.
فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ،
فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق
صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم
بحقه ، سبيل. (3) لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه
بالحبس. (4)
* * *
__________
(1) سياق العبارة " ويلزمه أداء رأس ماله . . . إليه . . . " ، وما
بينهما فصل .
(2) في المطبوعة : " ويكون في رقبته " ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل " قدم "
بحقه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب جيد .
(4) في المطبوعة : " فيعاقب بظلمه إياه . . . " ، وفي المخطوطة "
فيعاقب بطله إياه . . " وصواب قراءتها ما أثبت . مطله حقه يمطله مطلا ،
وماطله مطالا : سوفه ودافعه بالعدة والدين . هذا ، وأبو جعفر رضي الله عنه ، رجل
قويم الحجة ، أسد اللسان ، سديد المنطق ، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي ،
ومساقطها من الصواب . وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في بعض
تعليقي على هذا التفسير الجليل .
(6/34)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
القول
في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (280) }
قال أبو جعفر : يعني جل وعز بذلك : وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر ،
" خير لكم " أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته ، لتقبضوا رؤوس أموالكم
منه إذا أيسر " إن كنتم تعلمون " موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله
من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : " وأن تصدقوا " برؤوس أموالكم على الغني
والفقير منهم " خير لكم " .
ذكر من قال ذلك :
6297 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تبتم
فلكم رؤوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم
حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه
شيئا " وأن تصدقوا خير لكم " ، يقول : أن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم.
(1)
6298 - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 6297 - سلف برقم : 6268 . وانظر التعليق هناك .
(6/35)
"
وأن تصدقوا " ، أي برأس المال ، فهو خير لكم.
6299 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم : (وأن تصدقوا خير لكم) قال : من رؤوس أموالكم.
6300 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم
بمثله.
6301 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم : " وأن تصدقوا خير لكم " ، قال : أن تصدقوا برؤوس أموالكم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر ، خير لكم - نحو ما قلنا في
ذلك.
ذكر من قال ذلك :
6302 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأن
تصدقوا خير لكم " ، قال : وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير ، فهو خير لكم
، فتصدق به العباس.
6303 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ، يقول : وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.
6304 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
في قوله : ( وأن تصدقوا خير لكم) ، يعني : على المعسر ، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ
منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.
6305 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن
(6/36)
جويبر
، عن الضحاك : وأن تصدقوا برؤوس أموالكم ، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله
عز وجل الصدقة على النظارة. (1)
6306 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم " ، قال : من النظرة "
إن كنتم تعلمون " .
6307 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
: (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) ، والنظرة واجبة ، وخير الله عز وجل
الصدقة على النظرة ، (2) والصدقة لكل معسر ، فأما الموسر فلا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه : " وأن تصدقوا
على المعسر برءوس أموالكم خير لكم " لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي
يليه ، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.
* * *
قال أبو جعفر : وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا ، هن آخر آيات نزلت من
القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6308 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وحدثني يعقوب قال ،
حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال
: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ،
__________
(1) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال . وهو مصدر لم أجده في كتب اللغة
، ولكنه عريق في عربيته . كالنذارة ، من الإنذار ، وهو عزيز ، ولكنه عربي البناء
والقياس .
(2) يقال : " اخترت فلانا على فلان " بمعنى : فضلت فلانا على فلان ،
ولذلك عدى بعلى . ومثله " خير فلانا على فلان " ، أي فضله عليه . وقد
جاء في الأثر : " خير بين دور الأنصار " ، أي فضل بعضها على بعض . وقلما
تجد هذا التعبير .
(6/37)
وإن
نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة. (1)
6039 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عامر
: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإنه
والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح
لكم ، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل أن يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم " . (2)
__________
(1) الحديث : 6308 - سعيد : هو ابن أبي عروبة .
والحديث رواه أحمد في المسند : 246 ، عن يحيى ، وهو القطان .
و : 350 ، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة . بهذا الإسناد .
ورواه ابن ماجه : 2276 ، من طريق خالد بن الحارث ، عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ،
به .
وذكره ابن كثير 2 : 58 ، عن الموضع الأول من المسند .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 365 ، وزاد نسبته لابن الضريس ، وابن المنذر .
وأشار إليه في الإتقان 1 : 33 ، موجزا ، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط .
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد ، لانقطاعه . فإن سعيد بن
المسيب لم يسمع من عمر ، كما بينا في شرح المسند : 109 ، وانظر كتاب المراسيل لابن
أبي حاتم ، ص : 26 - 27 .
(2) الحديث : 6309 - داود : هو ابن أبي هند . عامر : هو الشعبي .
وهذا الإسناد ضعيف أيضًا ، فإن الشعبي لم يدرك عمر ، كما قلنا فيما مضى : 1608 ،
نقلا عن ابن كثير .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 153 ، منسوبا للطبري ، وقال : " وهو منقطع ، فإن
الشعبي لم يدرك عمر " .
وذكر ابن كثير 2 : 58 ، نحو معناه ، قال : " رواه ابن ماجه وابن مردويه ، من
طريق هياج ابن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ،
قال : خطبنا عمر . . . " إلخ .
وهياج بن بسطام الهروي : اختلفوا فيه جدا ، فضعفه أحمد ، وابن معين ، وابن أبي
حاتم ، وغيرهم . وقال المكي بن إبراهيم - شيخ البخاري : " ما علمنا الهياج
إلا ثقة صادقا عالما " . ووثقه محمد ابن يحيى الذهلي . وقد أنكروا عليه
أحاديث ، ثم ظهر أن الحمل فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه . والراجح عندنا هذا
، فإن البخاري ترجمه في الكبير 4/2/242 ، فلم يذكر فيه جرحا . وكأنه ذهب فيه إلى
ما اختاره شيخاه : المكي بن إبراهيم ، ومحمد بن يحيى الذهلي .
وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج . ثم لم أعرف موضعه في ابن ماجه ، وليس عندي
كتاب ابن مردويه .
ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج . فرواه الخطيب في ترجمته في تاريخ بغداد 14 : 80
- 81 ، من طريق محمد بن بكار بن الريان ، - وهو ثقة - عن الهياج ، بهذا الإسناد .
فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح ، والحمد لله .
(6/38)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
6310
- حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم
الأحول ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله
ليس به بأس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }
قال أبو جعفر : وقيل : هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6311 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا الحسين بن واقد
__________
(1) الحديث : 6310 - أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء
الموحدة - النميري النحوي : ثقة صاحب عربية وأدب . قال الخطيب : " كان ثقة
عالما بالسير وأيام الناس " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/116 ،
وتاريخ بغداد 11 : 208 - 210 .
قبيصة : هو ابن عقبة . مضت ترجمته في : 489 ، 2792 . وهذا الحديث من روايته عن
سفيان الثوري . وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة ، خلافا لمن تكلم فيها .
عاصم الأحول : هو عاصم بن سليمان . وقد مضى مرارا . ووقع في المطبوعة هنا "
عاصم عن الأحول " . وهو خطأ مطبعي . وثبت على الصواب في المخطوطة .
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح 8 : 153 (فتح) ، عن قبيصة ، بهذا الإسناد .
ولكنه اقتصر على أوله ، إلى قوله " آية الربا " لأن الباقي موقوف من
كلام ابن عباس .
وذكر السيوطي 1 : 365 رواية البخاري ، وزاد نسبتها لأبي عبيد ، والبيهقي في
الدلائل .
وقال الحافظ في الفتح : " المراد بالآخرية في الربا : تأخر نزول الآيات
المتعلقة به من سورة البقرة . وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة ،
على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران ، في أثناء قصة أحد : (يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) الآية " .
(6/39)
عن
يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه
وسلم : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " . (1)
6312 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله... " الآية ،
فهي آخر آية من الكتاب أنزلت.
6313 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك بن مغول ،
عن عطية قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
__________
(1) الحديث : 6311 - أبو تميلة - بضم التاء المثناة : هو يحيى بن واضح . مضت
ترجمته في : 392 .
الحسين بن واقد : مضت ترجمته في : 4810 . ووقع هناك في طبعتنا هذه " الحسن
" . وهو خطأ مطبعي ، مع أننا بيناه على الصواب في الترجمة ، فيصحح ذلك .
يزيد النحوي : هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي ، مولى قريش . وهو ثقة ، وثقه
أبو زرعة ، وابن معين ، وغيرهما . قتله أبو مسلم سنة 131 لأمره إياه بالمعروف .
والنحوي " : نسبة إلى " بني نحو " ، بطن من الأزد .
وهذا إسناد صحيح .
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8 : 153 ، ونسبه للطبري فقط .
وذكره ابن كثير 2 : 69 ، عن رواية النسائي ، فهو يريد بها السنن الكبرى . وكذلك
صنع السيوطي في الإتقان 1 : 33 .
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 324 ، وقال : " رواه الطبراني بإسنادين ،
رجال أحدهما ثقات " .
وفي الدر المنثور 1 : 369 - 370 زيادة نسبته لأبي عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن
المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل .
وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس ، يعارض ظاهر الرواية السابقة عنه : 6310 ، أن آخر
آية زلت هي آية الربا .
فقال الحافظ في الفتح : " وطريق الجمع بين هذين القولين ، [يريد الروايتين] :
أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا ، إذ هي معطوفة عليهن " .
ويشير إلى ذلك صنيع البخاري ، بدقته وثقوب نظره ، فإنه روى الحديث الماضي تحت
عنوان : " باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) " . فجعل بهذه الإشارة
الموضوع واحدا ، والروايتين متحدتين غير متعارضتين . رحمه الله .
(6/40)
الله
ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " . (1)
6314 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن السدي ، قال
: آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .
6315 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن
سليمان ، (2) عن الضحاك ، عن ابن عباس وحجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس آخر
آية نزلت من القرآن : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون " قال ابن جريج : يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث
بعدها تسع ليال ، وبدئ يوم السبت ، (3) ومات يوم الاثنين.
6316 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ،
حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. (4)
* * *
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واحذروا أيها الناس يوما ترجعون
__________
(1) الخبر : 6313 - سهل بن عامر : مضت ترجمته في : 1971 ، وأنه ضعيف جدا . ووقع
اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا " إسماعيل بن سهل بن عامر " ! وهو تخليط
من الناسخين ، فلا يوجد راو بهذا الاسم . ثم هذا الإسناد نفسه هو الماضي : 1971 .
ومضى أيضًا رواية محمد بن عمارة ، عن سهل ، عن مالك بن مغول : 5431 .
(2) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ،
ومن كتب التراجم .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وبدا يوم السبت " ، وهو خطأ فاحش ، وأشد
منه فظاظة شرح من شرحه فقال : " يريد أنه احتجب عن الناس لمرضه ، ثم خرج لهم
يوم السبت " ! وأولى بالمرء أن يدع ما لا يحسن! إنما هو قولهم : " بدئ
الرجل " (بالبناء للمجهول) أي مرض . يقال : متى بدئ فلان ؟ أي : متى مرض :
وفي حديث عائشة : أنها قالت في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" وا رأساه " .
وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان 1 : 33 ، وابن كثير 2 : 69 ، 70 .
(4) الحديث : 6316 - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب ، ولكنه حديث ضعيف لإرساله ،
إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به .
والحديث نقله ابن كثير 2 : 70 - 71 ، عن هذا الموضع بإسناده . وذكره السيوطي 1 :
370 " عن ابن جرير ، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب " .
(6/41)
فيه
إلى الله " فتلقونه فيه ، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم ، أو بمخزيات تخزيكم ،
أو بفاضحات تفضحكم ، فتهتك أستاركم ، (1) أو بموبقات توبقكم ، فتوجب لكم من عقاب
الله ما لا قبل لكم به ، وإنه يوم مجازاة بالأعمال ، (2) لا يوم استعتاب ، ولا يوم
استقالة وتوبة وإنابة ، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة ، توفى فيه كل نفس أجرها على
ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح ، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا
أحضرت ، (3) فوفيت جزاءها بالعدل من ربها ، وهم لا يظلمون. (4) وكيف يظلم من جوزي
بالإساءة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها ؟! (5) كلا بل عدل عليك أيها المسيء ،
وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن ، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره ، (6)
وراقبه أن يهجم عليه يومه ، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ، ومن صالحات الأعمال خفيف ،
فإنه عز وجل حذر فأعذر ، ووعظ فأبلغ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بفضيحات تفضحكم " ، ولا أدري لم غير ما كان في
المخطوطة!!
(2) في المطبوعة : " مجازاة الأعمال " ، ولا أدري لم حذف " الباء
" !!
(3) في المطبوعة : " لا يغادر . . . " بالياء ، وفي المخطوطة غير منقوطة
، والصواب ما أثبت .
(4) في المطبوعة : " فتوفى جزاءها " ، وفي المخطوطة : " فتوفيت
" غير منقوطة كلها ، وصوت قراءتها ما أثبت
(5) في المطبوعة : " كيف " بحذف الواو ، والصواب ما في المخطوطة .
(6) في المطبوعة : " فأخذ " بالفاء ، والصواب ما في المخطوطة .
(6/42)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
القول
في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : "
إذا تداينتم " ، يعني : إذا تبايعتم بدين ، أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم أو
أخذتم به " إلى أجل مسمى " ، يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد
يدخل في ذلك القرض والسلم ، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه ، يصير دينا على
بائع ما أسلم إليه فيه. (1) ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان
المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى ، إذا كانت آجالها معلومة بحد
موقوف عليه.
* * *
وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
ذكر الرواية عنه بذلك :
6317 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي ، عن سفيان ، عن ابن أبي
نجيح قال ، قال ابن عباس في : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى
أجل مسمى " ، قال : السلم في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز
السلم شرى أجل بيعه " ، وهي عبارة غير مفهومة قد أخل بها التصحيف والتحريف ،
وقد اجتهدت في تصحيحها على هذا الوجه حتى تستقيم بعض الاستقامة . والسلم (بفتحتين)
: السلف . يقال : أسلم وسلم (بتشديد اللام) : إذا أسلف ، وهو أن تعطى ذهبا وفضة في
سلعة معلومة إلى أجل معلوم ، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة . وحده عند بعض
الفقهاء : هو بيع معلوم في الذمة ، محصور بالصفة ، بعين حاضرة . أو ما في حكمها ،
إلى أجل معلوم " .
(2) الأثر : 6317 - يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي الهشلي الخزاز ، سمع سفيان
، ومات سنة 201 ، وقد تكلموا فيه قال أبو داود : " بلغني عن أحمد أنه أحسن
الثناء عليه " وقال ابن معين : " ليس بشيء " ، وقال العجلي "
ثقة " ، وقال ابن عدي : " عامة ما يرويه لا يتابع عليه " .
مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/296 ، وابن أبي حاتم 4/2/178 .
(6/43)
6318
- حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال ، حدثنا يحيى بن الصامت قال ، حدثنا ابن
المبارك ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن ابن عباس : " يا
أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " ، قال : نزلت في السلم ، في كيل معلوم
إلى أجل معلوم. (1)
6319 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن أبي حيان
، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه " ، في السلم ، في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
6320 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الحديث : 6318 - يحيى بن الصامت : هكذا وقع في المخطوطة والمطبوعة ، ولم نعرف
من ؟ ولعله محرف من شيء آخر ؟ .
والذي في هذه الطبقة ، ونرجح أنه الراوي هنا : هو " يحيى بن أيوب المقابري
أبو زكريا العابد . فهو الذي يروي عن عبد الله بن المبارك ، ويروي عنه محمد بن عبد
الله بن المبارك المخرمي ، كما في ترجمته في التهذيب 11 : 188 ، ولكن فيه "
محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرمي " ، وهو خطأ في " عبد العزيز
" بدل " عبد الله " . ويحيى بن أيوب هذا : ثقة من شيوخ مسلم في
صحيحه . و " المقابري " : نسبة إلى المقابر ، لكثرة زيارته إياها ، كما
في اللباب 4 : 167 . وله ترجمة في ابن أبي حاتم 4/2/128 ، وتاريخ بغداد 14 : 188 -
189 .
ومن المحتمل - وهو رجل عابد زاهد - أن يكون " الصامت " لقبا له ، فيكون
" يحيى الصامت " . ولكن لم أجد نصا على ذلك ، ولا ما يشير إليه .
سفيان : هو الثوري .
أبو حيان : هو التيمي ، يحيى بن سعيد بن حيان . مضت ترجمته في : 5382 .
ابن أبي نجيح : هو عبد الله بن يسار الثقفي المكي . وكنية أبيه " أبو نجيح
" . وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة ،
فإنه يروى عن التابعين .
وسيأتي الحديث صحيحا ، بإسناد آخر صحيح : 6321 .
وسيأتي بين هذين بإسنادين ضعيفين .
(2) الحديث : 6319 - زيد بن أبي الزرقاء : مضت ترجمته في : 1384 . ووقع في
المطبوعة " يزيد " بدل " زيد " . وهو خطأ فلا يوجد من يسمى
بهذا في الرواة . ثم هذا الشيخ هو الذي روى عن سفيان الثوري ، ويروي عنه علي بن
سهل الرملي ، كما مضى في ذاك الإسناد .
والحديث ضعيف كالذي قبله . فالرجل المبهم الذي يروي عنه أبو حيان - هو ابن أبي
نجيح . ولم يدرك ابن عباس .
(6/44)
أبي
حيان التيمي ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين
آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " ، في السلف في الحنطة ، في كيل معلوم
إلى أجل معلوم. (1)
6321 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن
أبي حسان ، عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون ، إلى أجل مسمى ، أن الله عز
وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
" (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6320 - محمد بن محبب بن إسحاق القرشي ، أبو همام الدلال صاحب الرقيق
: ثقة ، وثقه أبو داود ، وأبو حاتم ، وغيرهما . وأخطأ المنذري في تهذيب السنن :
2537 ، إذ قال : " لا يحتج بحديثه " . وإنما قلد ابن الجوزي حين ذكره في
الضعفاء . وغلطه في ذلك الذهبي في الميزان .
و " محبب " : بباءين موحدتين ، وزان " محمد " . كذا ضبطه عبد
الغني في المؤتلف ، ص : 123 ، والذهبي في المشتبه ، ص : 467 ، والحافظ في التهذيب
والتقريب . ووهم ابن أبي حاتم ، حين جعله " محبب " ، في الجرح 4/1/96 .
" صاحب الرقيق " : بالراء ، كما في الكبير للبخاري 1/1/247 ، والجرح
والتعديل لابن أبي حاتم . ووقع في التهذيب والخلاصة : " الدقيق " بالدال
. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش الجرح : " والرقيق -
بالراء : أشبه بقولهم الدلال " ، وهو جيد .
والحديث مكرر ما قبله ، وهو ضعيف الإسناد كمثله .
(2) الحديث : 6321 - معاذ بن هشام الدستوائي : ثقة مأمون . أخرج له الستة .
أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي : إمام ثقة حجة ، وكان ممن سمى " أمير
المؤمنين في الحديث " - سماه به أبو داود الطيالسي . وقال شعبة : " كان
هشام أحفظ مني عن قتادة " .
أبو حسان - بالسين : هو أبو حسان الأعرج ، مضت ترجمته في : 5422 . ووقع في
المخطوطة والمطبوعة " أبو حيان " - بالياء - وهو خطأ وتخليط ، كما سيبين
من التخريج .
والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 4 : 252 (مخطوط مصور) ، عن معمر ، عن قتادة ،
به .
ورواه الشافعي في الأم 3 : 80 - 81 ، عن سفيان - وهو ابن عيينة ، " عن أيوب ،
عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن ابن عباس " ، به .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 286 ، من طريق إبراهيم بن بشار ، عن سفيان ، وهو ابن
عيينة ، به .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 18 ، من طريق سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن
قتادة ، به .
وتسرع الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك ، فعقب عليه ، كأنه يريد تضعيف إسناده!
فقال : " إبراهيم ذو زوائد عن " ابن عيينة " !!
وهي كلمة مرسلة دون تحقيق . فإبراهيم بن بشار الرمادي : مضت ترجمته وتوثيقه في :
892 ، ونزيد هنا : أنه كان مكثرا عن ابن عيينة مغربا . ولكن قال ابن حبان : "
كان متقنا ضابطا ، صحب ابن عيينة سنين كثيرة ، وسمع أحاديثه مرارا " . فمثل
هذا لا يستبعد عليه أن يأتي عن شيخه بما لم يأت به غيره . هذه واحدة .
وأخرى : أنه لم ينفرد به عن ابن عيينة - كما ترى . وكفى برواية الشافعي إياه عن
ابن عيينة ثقة وحجة .
ثم لم ينفرد به ابن عيينة عن أيوب عن قتادة . كما تبين مما ذكرنا من الأسانيد ،
ومن رواية الطبري هنا . فقد رواه هشام الدستوائي ، ومعمر ، وشعبة - ثلاثتهم عن
قتادة ، كما ترى .
ولذلك ذكره ابن كثير 2 : 71 - 72 ، قال : " وقال قتادة ، عن أبي حسان الأعرج
، عن ابن عباس . . . " . فلم يذكر من رواه عن قتادة ، لثبوته عنه من غير وجه
.
وذكره السيوطي 1 : 370 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والطبراني .
(6/45)
قال
أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه قوله : " بدين " ، وقد دل بقوله :
" إذا تداينتم " ، عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن
يقال " بدين " ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولا عندها : " تداينا
" بمعنى : تجازينا ، وبمعنى : تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله :
" بدين " ، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله : " تداينتم "
، (1)
حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ ) [سورة الحجر : 30\ سورة ص : 73] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا
الموضع. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه " . ، وهو
غير مستقيم ، وفي المخطوطة : " تعريفمن قوله تداينتم حكمه " ، بين
الكلام بياض ، وبالهامش حرف (ط) إشارة إلى الخطأ ، فآثرت أن أقيم الجملة بزيادة
" سمع " حتى يستقيم الكلام بعض الاستقامة . وقوله " حكمه "
مفعول للمصدر في قوله : " تعريف من سمع " . ثم انظر الناسخ والمنسوخ
لأبي جعفر النحاس : 85 ، فإنه نقل كلام الطبري مختصرا ، آخره : " المعنى الذي
قصد له " .
(2) لم أعرف قائله ، ولكنه مشهور في كتب التفسير ، انظر تفسير أبي حيان 1 : 343 ،
والقرطبي 3 : 377 .
(6/46)
القول
في تأويل قوله تعالى : { فَاكْتُبُوهُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فاكتبوه " ، فاكتبوا الدين الذي
تداينتموه إلى أجل مسمى ، من بيع كان ذلك أو قرض.
* * *
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب.
فقال بعضهم : هو حق واجب وفرض لازم.
ذكر من قال ذلك :
6322 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه " ، قال : من باع إلى أجل مسمى ، أمر أن يكتب ، صغيرا كان أو كبيرا
إلى أجل مسمى.
6323 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، قال :
فمن ادان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد.
6324 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، فكان هذا
واجبا.
6325 - وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله وزاد
فيه ، قال : ثم قامت الرخصة والسعة. (1) قال : ( فَإِنْ أَمِنَ
__________
(1) قوله : " ثم قامت الرخصة والسعة " ، أي ثبتت واستقامت ، وهو مجاز ،
مثله قولهم : " قام الماء " إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا ، وإذا جمد
أيضًا . " وقامت عينه " : ثبتت لم تتحرك . و " قام عندهم الحق
" : أي ثبت ولم يبرح . كل ذلك مجاز .
(6/47)
بَعْضُكُمْ
بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
).
6326 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن
أبا سليمان المرعشي ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون
مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم
يكتب ولم يشهد ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى
ربه. (1)
* * *
وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : ( فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ).
ذكر من قال ذلك :
6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن
شبرمة ، عن الشعبي قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد ، لقوله : "
فإن أمن بعضكم بعضا " قال ابن عيينة ، قال ابن شبرمة ، عن الشعبي : إلى هذا
انتهى.
6328 - حدثنا المثنى ، قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر في هذه
الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه "
حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ،
قال : رخص من ذلك ، (2) فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
__________
(1) الأثر : 6326 - " أبو سلمان المرعشي " في المخطوطة " المدعس
" ، وفي ابن كثير 2 : 72 . وقد ذكر البخاري في الكنى : 37 ، " أبو
سليمان ، عن كعب قوله ، روى عن قتادة " .
(2) في المطبوعة : " رخص في ذلك " ، والذي في المخطوطة صواب ، ولكنه
سيأتي في المخطوطة كالمطبوعة هنا في رقم : 6334 .
(6/48)
6329
- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : إن
ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.
6330 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد
، عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : " فإن أمن بعضكم بعضا " ،
نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود ، رخصة ورحمة من الله.
6331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال
غير عطاء : (1) نسخت الكتاب والشهادة : " فإن أمن بعضكم بعضا " .
6332 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله :
" فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، قال : فلولا هذا
الحرف ، (2) لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن. فلما جاءت هذه
نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة.
6333 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان
التيمي قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد ؟ قال : ألم تر أن
الله عز وجل يقول : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟
6334 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " قال غيرعطاء " ، لم يمض لقول عطاء ذكر فيما سلف في قول من
قال إن الاكتتاب حق واجب وفرض لازم . ولعله سقط أثر فيه التصريح بما قال عطاء ، أو
لعله اقتصر على ما قاله ابن جريج في الأثر رقم : 6323 ، كأنه من رواية ابن جريج عن
عطاء .
(2) قوله : " فلولا هذا الحرف " ، يعني : فلولا هذا القول من الله تعالى
. واستعمال " الحرف " بمعنى القول ، لم أجده في كتاب من كتب اللغة ،
ولكنه مجاز حسن ، كما سموا القصيدة " كلمة " ، فجائز أن يقال للآية
وللقول كله " حرف " .
(6/49)
داود
، عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل
مسمى فاكتبوه " ، حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي
اؤتمن أمانته " ، قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
6335 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : "
فإن أمن بعضكم بعضا " ، قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.
6336 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي :
أرأيت الرجل يستدين ، من الرجل الشيء ، أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله :
(1) " فإن أمن بعضكم بعضا " ، قد نسخ ما كان قبله.
6337 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال ، حدثنا عبد
الملك بن أبي نضرة ، [عن أبيه] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ : " يا أيها
الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " إلى : " فإن أمن بعضكم
بعضا " (2) قال : هذه نسخت ما قبلها. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " قال فقال إلى قوله . . " بياض بين الكلمتين ، و
" فقال " ، مكان " فقرأ " والذي في المطبوعة أشبه بالصواب .
(2) في المطبوعة : " قال فقرأ إلى : فإن أمن . . . " وفي المخطوطة تكرار
بعد قوله : " إلى أجل مسمى " نصه : " قال فقرأ : يا أيها الذين
آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى . هذه نسخت ما قبلها " ولم يذكر "
فإن أمن . . . " وهي الآية الناسخة . وأثبت الصواب من الناسخ والمنسوخ : 83 ،
وروى الخبر ، كما سيأتي .
(3) الأثر : 6337 - " محمد بن مروان بن قدمة العقيلي " روى عنه البخاري
في التعاليق ، وأبو داود في المراسيل ، وروى عنه مسدد ويحيى معين وغيرهم . قال
أحمد : " رأيت محمد بن مروان العقيلي ، وحدث بأحاديث وأنا شاهد ، لم أكتبها ،
تركتها على عمد " - كأنه ضعفه . وقال ابن معين : " ليس به بأس " ،
وعن أبي داود : " صدوق " . مترجم في التهذيب . و " عبد الملك بن
أبي نضرة العبدي " روى عن أبيه . قال الحافظ في التهذيب : " ذكره ابن
حبان في الثقات وقال : ربما أخطأ . له عندهما حديث في آية الدين : يا أيها الذين
آمنوا إذا تداينتم . قلت : وقال الدارقطني : لا بأس به . وقال الحاكم في المستدرك
: من أعز البصريين حديثا " . مترجم في التهذيب . وأبوه " أبو نضرة
" هو : " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي " روى عن علي بن أبي طالب
، وأبي موسى الأشعري ، وأبي ذر ، وأبي سعيد ، وابن عباس وغيرهم من الصحابة . قال
أحمد : " ثقة " . وقال ابن سعد : " ثقة كثير الحديث ، وليس كل أحد
يحتج به " . مترجم في التهذيب .
هذا ، وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة ما وضعناه بين القوسين [عن أبيه] ، وهو سهو من
الناسخ ، وقد جاء على الصواب في الناسخ والمنسوخ : 83 بهذا الإسناد نفسه ، كما
أشرت إليه في التعليق السالف .
(6/50)
القول
في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن
والمدين " كاتب بالعدل " ، يعني : بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه
بينهما ، بما لا يحيف ذا الحق حقه ، ولا يبخسه ، (1) ولا يوجب له حجة على من عليه
دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه ، كما :
6338 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : "
وليكتب بينكم كاتب بالعدل " ، قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه
حقا ، ولا يزيدن فيه باطلا.
* * *
وأما قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، فإنه يعني : ولا
يأبين كاتب استكتب ذلك ، أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه
بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك ،
__________
(1) في المطبوعة : " لا يحيف ذا الحق " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة
، وهي فيها برسم ما أثبت غير منقوط . حاف يحف حيفا : مال وجار ، وهو فعل لازم غير
متعد . أما " تحيفه ماله وحقه " : تنقصه من حافاته .
(6/51)
نظير
اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.
ذكر من قال ذلك :
6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولا يأب كاتب " ، قال : واجب
على الكاتب أن يكتب.
6340 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت
لعطاء : قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب " ، أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟
قال : نعم قال : ابن جريج ، وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب.
6341 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، بمثله.
6342 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعطاء
قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، قالا إذا لم يجدوا
كاتبا فدعيت ، فلا تأب أن تكتب لهم.
* * *
ذكر من قال : " هي منسوخة " . قد ذكرنا جماعة ممن قال : " كل ما في
هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها " ،
(1) وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.
6343 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) انظر ما سلف من رقم : 6327 - 6337 .
(6/52)
جويبر
، عن الضحاك : " ولا يأب كاتب " ، قال : كانت عزيمة ، فنسختها : ( وَلا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ).
6344 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه ، عن
الربيع : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله
" فكان هذا واجبا على الكتاب.
* * *
وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.
ذكر من قال ذلك :
6345 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، يقول : لا
يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عز وجل أمر المتداينين
إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ،
وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره
جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ، ندب
وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه. (1)
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا
فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا
سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان ، فالفرض - إذا كان
الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله : " فاكتبوه
__________
(1) قوله : " حرجا " ، أي آثما . وانظر ما سلف مرارا في التعليق على هذه
الكلمة 2 : 423/ ثم 4 : 224 (تعليق : 1) / ثم 475 تعليق : 2/ ثم 566 تعليق : 3 ،
ثم ص 567 وما بعدها .
(6/53)
وليكتب
بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله " .
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة ، على السبيل
التي قد بيناها. (1) فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر ، فليس من الناسخ
والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا
فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) ناسخا قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " -
لوجب أن يكون قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) [سورة المائدة : 6] ناسخا الوضوء بالماء
في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل بقوله : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) [سورة المائدة : 6] وأن يكون
قوله في كفارة الظهار : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ ) [سورة المجادلة : 4] ناسخا قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن
يتماسا ) (2) [سورة المجادلة : 3].
* * *
فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل : " فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي
اؤتمن أمانته " ناسخٌ قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه
" : ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله (3) فزعم أنّ كل ما
أبيح في حال
__________
(1) يعني ما سلف له بيانه في 3 : 385 ، 563/ 4 : 582 ، وما سيأتي في هذا الجزء :
118 ، تعليق : 1 .
(2) ساق رأي الطبري مختصرًا ، أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 83 ، 84 ،
والقرطبي في تفسيره 3 : 403 ، 404 .
(3) في المطبوعة : " ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم ما ذكرنا قوله
" ، أدخل التعريف على " قائل " ، وحذف الواو من " وما ذكرنا
" فصار الكلام محفوفًا بالفساد والخلط من كل مكان ، وتخلع السياق تخلعًا
فظيعًا . وقول الطبري " وما ذكرنا " يعني ما ذكره في آية الظهار السالفة
. ويعني بقوله : " وما ذكرنا قوله " ، أي أنه منسوخ بتمام الآية .
(6/54)
الضرورة
لعلة الضرورة ، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله : نظيرَ قوله في أنّ
الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله : " وإن كنتم عَلى سَفر ولم
تجدُوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة فإن أمن بعضُكم بعضًا فليؤدّذ الذي اؤتمن أمانته) ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : " فإن أمن بعضُكم بعضًا " كلام
منقطع عن قوله : " وإن كنتم على سَفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة " ،
وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله : " فرهان مقبوضة "
. وإنما عنى بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضًا " : " إذا تداينتم
بدَين إلى أجل مسمى " ، فأمن بعضكم بعضًا ، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.
قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس ، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي
فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله : " ويُعلّمكم الله واللهُ بكل شيء عليم
" ؟ (1)
* * *
وأما الذين زعموا أن قوله : " فاكتبوا " ، وقوله : " ولا يأب كاتب
" على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم
يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه ، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا
في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
ذكر من قال : " العدل " في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل
" : الحقّ.
__________
(1) هذه حجة حبر رباني بصير بمعاني الكلام .
(6/55)
..........................................................................
.........................................................................
............................................................................
(1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا }
(2)
قال أبو جعفر : يعني بذلك : " فليكتب " الكاتب وليملل الذي عليه الحق
" ، وهو الغريم المدينُ يقول : ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين
ربّ المال على الكاتب " وليتق الله ربه " المملي الذي عليه الحقّ ،
فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا ، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به
منه تعدّيًا ، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من
سيئاته ، كما :
6346 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "
فليكتب وليملل الذي عليه الحق " ، فكان هذا واجبًا - " وليتق الله ربه
ولا يبخس منه شيئًا " ، يقول : لا يظلم منه شيئًا.
6347 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
يبخس منه شيئًا " ، قال : لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.
* * *
__________
(1) سقط من الناسخ في هذا المكان ، ما رواه أبو جعفر من أقوال القائلين في معنى
" العدل " بإسناده إليهم . ولا سبيل إلى إتمام ذلك حتى توجد نسخة من
التفسير يقل سهو ناسخها وإغفاله .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : سقط من الناسخ " فليكتب " قبل "
وليملل " ، فأثبتها .
(6/56)
القول
في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
بِالْعَدْلِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو
ضعيفًا " ، فإن كان المدين الذي عليه المال " سفيهًا " ، يعني :
جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب ، كما : -
6348 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، أما السفيه : فالجاهل
بالإملاء والأمور.
* * *
وقال آخرون : بل " السفيه " في هذا الموضع ، الذي عناه الله : الطفلُ
الصغير.
ذكر من قال ذلك :
6349 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن
كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، أما السفيه ، فهو الصغير.
6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا " ، قال : هو
الصبي الصغير ، فليملل وليُّه بالعدل.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : " السفيه في هذا
الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه " ، لما قد بينا قبل من أن
معنى " السفه " في كلام العرب : الجهلُ. (1)
__________
(1) انظر تفسير " السفه " فيما سلف 1 : 293 - 295/ 3 : 90 ، 129 ، 130 .
(6/57)
وقد
يدخل في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، كل جاهل بصواب ما
يُملّ من خطئه ، من صغير وكبير ، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن
يكون مرادًا بها : كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه : من بالغي الرجال الذين لا
يُولىَّ عليهم والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله : " يا أيها الذين
آمنوا إذا تدينتم بدَين إلى أجل مسمى " ، والصبي ومن يُولّى عليه ، لا يجوز
مُداينته ، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع
السفيه ، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله ، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه
ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم : (1) ما أنبأ عن
أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم ، غير الصنفين الآخرين. (2)
وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف ، هو ذو القوة
على الإملال ، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن
الموصوف بالضعف منهم ، هو العاجز عن إملاله ، وإن كان شديدًا رشيدًا ، إما لعيّ
لسانه أو خرس به وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ ، هو الممنوع من إملاله ،
إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه ، وإما
لغيبته عن موضع الإملال ، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.
فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك ، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم
بترك الإملال من أجلها ، وأمرَ ، عند سقوط فرض ذلك عليهم ، وليَّ
__________
(1) في المخطوطة : " فعن فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ، فالصفة ومن لا
يستطيع إملاء الكتاب التي وصف الله بها كل واحد منهم . . . " وهو كلام مضطرب
، وقد أصاب ناشر المطبوعة في تصحيحه .
(2) في المخطوطة : " . . . الذين بين الله صفاتهم " ، وهو تصحيح لما كان
في المخطوطة وهو : " الذين سن منه صفاتهم " غير منقطة ، ورجحت قراءتها
كما أثبتها .
(6/58)
الحق
بإملاله فقال : " فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن
يملّ هو فليملل وليه بالعدل " ، يعني : وليُّ الحقّ.
* * *
ولا وجه لقول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الصغير ، وأن
" الضعيفَ " هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال ، يوجب أن يكون
قوله : " أو لا يستطيعُ أن يملّ هو " هو ، العاجز من الرجال العقلاء
الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من
العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه ، لبطل معنى قوله :
" فليملل وليه بالعدل " ، (1) لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله
وإن كان أخرس أو غائبا ، (2) ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى
ذلك ، ما يقضي على فساد قول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع ، هو
الطفل الصغير ، أو الكبير الأحمق.
ذكر من قال ذلك :
6351 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو
فليملل وليه بالعدل " ، يقول : وليّ الحق.
6352 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا
يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل " ، قال يقول : إن كان عجز عن ذلك ،
أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بطل " ، وفي المخطوطة : " فبطل " ، ورجحت
قراءتها كما أثبتها .
(2) في المخطوطة : " لا يولى عليه ماله " ، وما في المطبوعة أشبه
بالصواب .
(6/59)
ذكر
الرواية عمن قال : " عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق " ، وبقوله :
" فليملل وليه بالعدل " ، ولي السفيه والضعيف.
6353 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو
" ، قال : أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.
6354 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الضعيف ،
فهو الأحمق.
6355 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : أما الضعيفُ فالأحمق.
6356 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " فإن كان الذي
عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا " لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه
بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
* * *
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.
* * *
وأما قوله : " فليملل وليه بالعدل " ، فإنه يعني : بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.
* * *
يقال : " فلان " شَهيدي على هذا المال ، وشاهدي عليه " . (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " شهيد " فيما سلف 1 : 376 ، 377 .
(6/60)
وأما
قوله : " من رجالكم " ، فإنه يعني من أحراركم المسلمين ، دون عبيدكم ،
ودون أحراركم الكفار ، كما : -
6357 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، قال : الأحرار.
6358 - حدثني يونس قال ، أخبرنا علي بن سعيد ، عن هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن
مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن لم يكونا رجلين ، فليكن رجلٌ وامرأتان
على الشهادة. ورفع " الرجل والمرأتان " ، بالرّد على " الكون
" . وإن شئتَ قلتَ : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن
شئت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت : فإن لم يكونا
رجلين فهو رجلٌ وامرأتان ، (1) كان صوابًا. كل ذلك جائز.
* * *
ولو كان " فرجلا وامرأتين " نصبًا ، كان جائزًا ، على تأويل : فإن لم
يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فرجل وامرأتان " ، والصواب ما أثبت ، وهو
الوجه الذي ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 184 .
(2) أكثر هذا نص معاني القرآن للفراء 1 : 184 . وفي المخطوطة والمطبوعة : "
فرجل وامرأتان " نصبًا ، والأجود ما أثبت .
(6/61)
وقوله
: " ممن ترضون من الشهداء " ، يعني : من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم
، كما : -
6359 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، يقول : في الدَّين
" فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان " ، وذلك في الدين " ممن
تَرْضون من الشهداء " ، يقول : عدولٌ.
6360 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا
ذَوَيْ عدل من رجالهم " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من
الشهداء " .
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الأخْرَى }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بفتح " الألف " من " أنْ
" ، ونصب " تَضلَّ " ، و " تذكرَ " ، بمعنى : فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من
المقدّم الذي معناه التأخير. لأن " التذكير " عندهم هو الذي يجب أن يكون
مكان " تضلّ " . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا : إنما نصبنا
" تذكّر " ، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله ، (1) فصار جوابه
__________
(1) في المخطوطة : " لما تقدم تضل بما قبله " ، والصواب من المخطوطة ،
ومعاني القرآن للفراء .
(6/62)
مردودًا
عليه ، كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى " ،
بمعنى : إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو : إذا سأل. فالذي يعجبك هو
الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله : " أنْ يسأل " لما تقدم ، اتصل بما
قبله وهو قوله : " ليعجبني " ، ففتح " أنْ " ونصب بها ، (1)
ثم أتبع ذلك قوله : " يعطى " ، فنصبه بنصب قوله : " ليعجبني أن
يسأل " ، نسقًا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء. (2)
* * *
وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين " الذال " من(
تُذْكِرَ ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم
إياه كذلك.
وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه : فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما ،
بمعنى : أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها ، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من
الذكور في الدَّين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه
من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة
واحد من الذكور ، (3) فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى -
صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب : " لقد أذكرت بفلان أمُّه
" ، أي ولدته ذَكرًا ، " فهي تُذْكِر به " ، " وهي امرأةٌ
مُذْكِرٌ " ، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن
عيينه أنه كان يقوله.
__________
(1) في المطبوعة : " فتح أن ونصب بها " ، وفي المخطوطة : " ففلح
ونصب بها " تصحيف ، وبإسقاط " أن " .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 184 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " منزلة شهادة واحد . . . " بإسقاط الباء ،
والصواب ما أثبت .
(6/63)
6361
- حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال
: ليس تأويل قوله : " فتذْكر إحداهما الأخرى " من الذِّكْر بعد النسيان
، إنما هو من الذَّكَر ، بمعنى : أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة
الذكر.
* * *
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى " الذكر " بعد النسيان. (1)
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى
) " بكسر " إن " من قوله : " إن تضلَ " ورفع " تذكر
" وتشديده ، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما
شهادتها ، ذكرتها الأخرى ، (2) من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك (3)
وانقطاع ذلك عما قبله. (4) ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من
رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، فإن إحداهما إن
ضَلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها ، من
تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. (5)
وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش " تضل "
، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو " إن " . وتأويل الكلام على
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وقال آخرون منهم يوجهونه " ليس صوابًا ،
والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة " تذكرها الأخرى " ، وفي المخطوطة " وذكرها الأخرى
" ، والسياق يقتضي ما أثبت . وسيأتي بعد ما يدل على صواب ما رجحت .
(3) في المخطوطة : " وتنكيرها ذلك " ، تصحيف .
(4) قوله : " وانقطاع ذلك عما قبله " معطوف على قوله آنفًا : "
بمعنى ابتداء الخبر . . . " .
(5) في المخطوطة : " من تنكير الأخرى منهما . . . " ، تصحيف ، كالسالف
في التعليق رقم : 3 .
(6/64)
قراءته
(1) " إن تَضْللْ " ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى ، حركها إلى
أخفّ الحركات ، ورفع " تذكر " بالفاء ، لأنه جواب الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك ، قراءةُ من قرأه بفتح " أن
" من قوله : " أن تضلّ إحداهما " ، وبتشديد الكاف من قوله : "
فتذكِّر إحداهما الأخرى " . ونصب الراء منه ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين ،
فليشهد رجلٌ وامرأتان ، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.
وأما نصب " فتذكر " فبالعطف على " تضل " ، وفتحت " أن
" بحلولها محل " كي " وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده ، اكتفاءً
بفتحها أعني بفتح " أن " من " كي " ، ونسق الثاني - أعني :
" فتذكر " - على " تضل " ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان
يعمل فيه وهو ظاهر ، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن " كي " .
وإنما اخترنا ذلك في القراءة ، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك
، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة
جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم ، إلى غيرها. وأما اختيارنا " فتذكر "
بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى : ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى ، وتعريفها بأنها
[نسيت] ذلك ، لتذكر. (2) فالتشديد به أولى من التخفيف.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " تأويل الكلام " بإسقاط الواو ، والصواب ،
ما أثبت .
(2) مطبوعة بولاق : " فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها
بأنها ذلك لتذكر " وهو كلام بلا معنى . وفي مطبوعة أخرى قبله ، مع "
بإنهاء ذلك " مكان " بأنها ذلك " وهو أشد خلوًا من المعنى . وفي
المخطوطة : " بمعنى يوره الذكر . . . بأنها ذلك " ، غير منقوطة . وصواب
قراءتها ما أثبت ، مع زيادة " نسيت " التي وضعتها بين القوسين .
(6/65)
وأما
ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويلٌ خطأ لا معنى له ، لوجوه شتى
:
أحدها : أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.
والثاني : أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها ، (1) إنما
هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها ، (2) كضلال الرجل في دينه : إذا تحيَّر فيه فعدَل
عن الحق (3) . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة ، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا
معها ، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ ، (4)
لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا
ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، (5)
فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، (6)
كما يقال للشيء القوي في عمله : " ذَكرٌ " ، وكما يقال للسيف الماضي في
ضربه : " سيف ذكر " ، و " رجل ذَكَر " يراد به : ماض في عمله
، قويّ البطش ، صحيحُ العزم.
فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك ؟
__________
(1) في المطبوعة : " أنه معلوم بأن ضلال . . . " بزيادة الباء ، وهو لا
خير فيه ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " إنما هو خطؤها عنها بنسيانها " ، والصواب من
المخطوطة ، غير أنها أسقطت الواو قبل " ونسيانها " .
(3) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف 1 : 195 / ثم 2 : 495 ، 496 .
(4) في المطبوعة : " فالضالة منهما " ، وفي المخطوطة : " ولا
الضالة منهما " ، والصواب ما أثبت .
(5) في المطبوعة : " ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره . . . " ، وفي
المخطوطة : " سحدتها " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت . مجاز من
قولهم : " شحذ السكين والسيف " : حدده بالمسن ومنه : " شحذ الجوع
معدته " ، إذا أضرمها وقواها على الطعام وأحدها . ويقال : " اشحذ له غرب
ذهنك " ، و " هذا الكلام مشحذة للفهم " .
(6) في المخطوطة : " فقوته بالذكر " ، وما في المطبوعة أجود .
(6/66)
إلا
أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك ، (1) صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه ،
وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى ، القراءةَ التي اخترناها. (2) ومعنى القراءة
حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : " فتذكر " .
(3) ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك ، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في
قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا. (4)
* * *
ذكر من تأول قوله : " أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى " نحو
تأويلنا الذي قُلنا فيه :
6362 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من
الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى " ، علم الله أن ستكونُ حقوق
، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربِّكم ، وأدرَكُ
لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا ، وإن كان فاجرًا
فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.
6363 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " ، يقول : أن تنسى
إحداهما فتذكِّرها الأخرى.
6364 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) في المطبوعة : " إذا تأول ذلك . . . " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " القراءة الذي اخترناها " ، وهو سهو من الناسخ
الكثير السهو!!
(3) في المطبوعة : " بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته . .
. " وهو كلام قد أريق معناه ضياعًا . وفي المخطوطة : " بأن +تعين
القراءة حينئذ الصحيح بالذي اختار قراءته . . . " ، وهو مصحف ، وأرجح أن يكون
صواب الجملة كما أثبتها ، لأنها عندئذ مصيبة معنى ما أراد أبو جعفر .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " فالصواب في قوله . . . " ، والصواب ما
أثبت . وسياق الجملة : " فالصواب في قراءته . . . ما اخترنا " .
(6/67)
عن
السدي : " أن تضل إحداهما " ، يقول : تنسى إحداهما الشهادة ، فتذكّرها
الأخرى.
6365 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " أن تضل إحداهما " ، يقول : إنْ تنسَ إحدَاهما ، كذتِّرْها
الأخرى.
6366 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أن
تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى " ، قال : كلاهما لغة ، وهما سواء ،
ونحن نقرأ : " فتذكِّر " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء
الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.
فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا ، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب
والحقوق.
ذكر من قال ذلك :
6367 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله تعالى :
" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم
فيه القوم ، (1) فيدعوهم إلى الشهادة ، فلا يتبعه أحد منهم. قال : وكان قتادة
يتأوّل هذه الآية : " ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا " ليشهدوا لرجل
على رجل.
6368 - حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله :
" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : كان الرجل يطوف في القوم
__________
(1) الحواء (بكسر الحاء) : بيوت مجتمعة من الناس على ماء .
(6/68)
الكثير
يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله عز وجل : " ولا يأبَ
الشهداء إذا ما دُعوا " .
6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : لا تأب أن تشهد إذا
ما دُعيت إلى شهادة.
* * *
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد
على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر ،
إن شاء أجاب ، وإن شاء لم يجب.
ذكر من قال ذلك :
6370 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن
الشعبي قال : " لا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - قال : إن شاء شهد ، وإن
شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للشهادة على
من أراد الدّاعي إشهادَه عليه ، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.
ذكر من قال ذلك :
6371 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عامر ، عن الحسن :
" ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا " ، قال : قال الحسن : الإقامة
والشهادة. (1)
6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر
__________
(1) الأثر 6371 - " أبو عامر " هو : " صالح بن رستم المزني "
، روى عن عبد الله بن أبي مليكة ، وأبي قلابة ، وحميد بن هلال ، والحسن البصري ،
وعكرمة وغيرهم . روى عنه ابنه عامر ، وإسرائيل ، وهشيم ، ومعتمر ، وأبو داود
الطيالسي . قال ابن معين : " ضعيف " . وقال أحمد : " صالح الحديث
" . وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : " شيخ ، يكتب حديثه " . وقال أبو
داود : " ثقة " . وسيأتي في الأسانيد رقم : 6383 ، 6384 ، 6387 .
(6/69)
في
قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : كان الحسن يقول :
جَمَعتْ أمرين : لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيتَ إلى
شهادة.
6373 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، يعني : من احتيج إليه من
المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.
6374 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن
الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : لإقامتها ، ولا يبدأ
بها ، إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للقيام
بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.
ذكر من قال ذلك :
6375 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا شهد.
6376 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانوا قد شهدوا
قبل ذلك.
6377 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، يقول : إذا كانوا قد أشْهِدوا.
6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانت عندك شهادة
فدُعيت.
6379 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ليث ، عن
(6/70)
مجاهد
في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانت شهادة
فأقمها ، فإذا دُعيت لتشهد ، فإن شئتَ فاذْهب ، وإن شئت فلا تذهب.
6380 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا عبد الملك بن الصّباح ، عن عمران بن
حُدَير ، قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد
بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.
6381 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال :
الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.
6382 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن عكرمة في
قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " . قال : لإقامة الشهادة.
6383 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي عامر ،
عن عطاء قال : في إقامة الشهادة.
6384 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا أبو عامر المزني قال ، سمعت عطاء
يقول : ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا
" . (1)
6385 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو حُرّة ، أخبرنا عن الحسن
أنه سأله سائل قال : أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال : فلا تجبْ
إن شئت. (2)
6386 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة قال : سألت إبراهيم
__________
(1) الأثران : 6383 ، 6384 - أبو " عامر " مضت ترجمته برقم : 6372 .
(2) الأثر : 6385 - " أبو حرة " البصري ، هو : " واصل بن عبد
الرحمن " . روى عن عكرمة بن عبد الله المزني ، والحسن ، وابن سيرين ، ومحمد
بن واسع وغيرهم . روى عنه حماد بن سلمة ، وهشيم ، والقطان ، وابن مهدي ، ووكيع ،
وغيرهم . قال البخاري : " يتكلمون في روايته عن الحسن " . قال عبد الله
بن أحمد : سألت يحيى بن معين عن أبي حرة فقال : " صالح ، وحديثه عن الحسن
ضعيف ، يقولون : لم يسمعها من الحسن " . مترجم في التهذيب . وكان في المطبوعة
: أبو مرة ، وهو خطأ .
(6/71)
قلت
: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئتَ.
6387 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عامر ، عن عطاء قال
: للإقامة. (1)
6388 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن
جبير : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا " ، قال : إذا كانوا قد شهدوا.
6389 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك
، عن سالم ، عن سعيد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : هو الذي
عنده الشهادة.
6390 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا " ، يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد ،
إذا كان فارغًا.
6391 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت
لعطاء : " ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : هم الذين قد شهدوا.
قال : ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دُعي
أن يكتب وجبَ عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال
: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء ، الشهداء
كثيرٌ.
6392 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي
شهادةً ويُقيمها.
6393 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 6387 - " أبو عامر " ، انظر ما سلف رقم : 6372 .
(6/72)
"
ولا يأب الشهداء " ، قال : كان الحسن يتأوّلها : إذا كانت عنده شهادة فدعي
ليقيمها.
6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كتب الرجل
شهادته ، أو أشهِد لرجل فشهد ، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق ،
فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه. (1)
* * *
وقال آخرون : هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على
ما لم يشهد عليه من الحقوق ، ابتداءً ، لا لإقامة الشهادة ، (2) ولكنه أمر نَدْب
لا فرْض.
ذكر من قال ذلك :
6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال ، حدثنا أبو قتيبة ، عن
فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا
" ، قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد. (3)
6396 - حدثني أبو العالية قال ، حدثنا أبو قتيبة ، عن محمد بن ثابت العَصَريّ ، عن
عطاء ، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : " [معنى]
__________
(1) قوله : " مقطع الحق " : هو موضع الفصل في الحكم بين الحق والباطل .
من " القطع " ، وهو الفصل بين الأجزاء .
(2) في المطبوعة : " لا إقامة الشهادة " ، وفي المخطوطة كتب " لا
إقامة " ثم ضرب على الألف ووضع تحت الألف من " لا " همزة ، وظاهر
أن الذي أثبته هو الصواب .
(3) الخبر : 6395 - إسماعيل بن الهيثم ، أبو العالية العبدي ، شيخ الطبري : لم نجد
له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع ، إلا رواية الطبري هذا الخبر والذي بعده ،
وروايته عنه في التاريخ 1 : 206 مرة واحدة ، عن أبي قتيبة أيضًا .
وأبو قتيبة : هو سلم بن قتيبة ، مضت ترجمته في : 1924 .
(6/73)
ذلك
: (1) ولا يأب الشهداء من الإجابة ، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان
أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه ، للذي هو له " .
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله عز وجل
قال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا " ، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء
للشهادة وقد ألزمهم اسم " الشهداء " . وغير جائز أن يلزمهم اسم "
الشهداء " إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم
" الشهداء " . (2) فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء ، فغير جائز أن يقال
لهم " شهداء " . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء
يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم ، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو
مستحق أن يقال له " شاهد " ، بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد.
وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، (3) أو من قد قام
شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم (4) كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله : " ولا يأبَ
الشهداءُ إذا ما دعوا " ، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً ، أو شَهد ،
فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد ،
غيرُ مستحق اسم " شهيد " ولا " شاهد " ، لما قد وصفنا قبل.
مع أن في دخول " الألف واللام " في " الشهداء " ، دلالةً
واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة ، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا
بالشهادة ،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها .
(2) في المطبوعة : " على ما ألزمهم شهادتهم عليه " ، وفي المخطوطة :
" لزمهم شهادتهم " ، والصواب في قراءة ذلك ما أثبت .
(3) في المطبوعة : " وإن كان خطأ . . . " والصواب من المخطوطة . وفي
المخطوطة : " شهادة لغيرهم " ، والصواب ما في المطبوعة .
(4) في المطبوعة : " من قد قام بشهادته " ، وفي المخطوطة : " من قد
قام شهادته " ، وصواب القراءة ما أثبت .
(6/74)
وأنهم
الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله : " واستشهدوا شهيدين من
رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء " . وإذْ كان
ذلك كذلك ، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما
استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد
عليها ، لقيل : (1) ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.
غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد
عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة ، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ
داعيه إليها ، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرضٌ
عليه أن يكتب ، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع
الإسلام ، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله ، فسأله تعليمه وبيان ذلك له ، أنْ
يعلمه ويبيِّنه له. (2) ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي
ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا.
وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم. (3)
* * *
" والشهداء " جمع " شهيد " . (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " إلى الشهادة فشهد " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) سياق هذه الجملة : كما فرض على من كان بموضع . . . أن يعلمه . . " .
(3) في المطبوعة : " وقد فرضنا على الرجل . . . " ، وهو خطأ فاسد ،
وتحريف لما في المخطوطة من الصواب المحض .
(4) انظر ما سلف في بيان " الشهداء " 1/ 377/ ثم 3 : 97 ، 145/ وما سلف
قريبًا ص : 60 .
(6/75)
القول
في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا
إِلَى أَجَلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تسأموا ، أيها الذين تُداينون الناس إلى
أجل ، أن تكتبوا صغيرَ الحق ، يعني : قليله ، أو كبيره يعني : أو كثيره إلى أجله
إلى أجل الحق ، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.
6397 - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن ليث
، عن مجاهد : " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله " ، قال
: هو الدّين.
* * *
ومعنى قوله : " ولا تسأموا " : لا تملوا. يقال منه : " سئمتُ فأنا
أسأم سَآمة وسَأمةً " ، ومنه قول لبيد :
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا... وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ : كَيْفَ
لَبيدُ ؟ (1)
ومنه قول زهير :
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ ، وَمَنْ يَعِشْ... ثَمَانِينَ عَامًا ، لا
أَبَالَكَ ، يَسْأَمِ (2)
يعني مللت.
* * *
وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : " إلى أجله " ، إلى أجل الشاهد.
ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه ، القصيدة رقم : 7 ، يذكر فيها طول عمره ، ومآثره في ماضيه .
(2) ديوانه : 9 . تكاليف الحياة : مشقاتها ومتاعبها . وهذا البيت هو مطلع أبياته
الحكيمة التي ختم بها معلقته .
(3) انظر ما قاله في " الأجل " فيما سلف قريبًا ص : 43 .
(6/76)
القول
في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ذلكم " ، اكتتاب كتاب الدين إلى
أجله.
* * *
ويعني بقوله : " أقسط " ، أعدل عند الله.
يقال منه : " أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا ، وهو مُقسط " ، إذا عدل في
حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل : " قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا " .
ومنه قول الله عز وجل : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا )
[سورة الجن : 15] ، يعني الجائرون.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6398 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
ذلكم أقسط عند الله " ، يقول : أعدل عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأصوب للشهادة.
* * *
وأصله من قول القائل : " أقمتُ من عَوَجه " ، (1) إذا سويته فاستوى.
* * *
وإنما كان الكتاب أعدل عند الله ، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أقمته من عوجه " ، والصواب ما أثبت .
(6/77)
لأنه
يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه ،
فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ، لاجتماع شهادتهم على ما حواه
الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم
إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به.
واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وأدنى " ، وأقرب ، من "
الدنو " ، وهو القرب.
* * *
ويعني بقوله : " أن لا ترتابوا " ، أن لا تَشكوا في الشهادة ، (1) كما :
-
6399 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي " ذلك أدنى
أن لا ترتابوا " ، يقول : أن لا تشكوا في الشهادة.
* * *
وهو " تفتعل " من " الرِّيبة " . (2)
* * *
ومعنى الكلام : ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من
داينتموه من الناس إلى أجل ، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا ، فإن كتابكم
ذلك أعدل عند الله ، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه ، وأقربُ لكم أن لا تشكوا فيما شهد
به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " من أن لا تشكوا " ، والصواب حذف "
من " ، أو جعلها " أي أن لا تشكوا " .
(2) في المخطوطة : " وهو تفعيل " ، وهو خطأ محض وتحريف .
(6/78)
القول
في تأويل قوله تعالى : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا
بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا }
قال أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم
على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود
الحاضرة يدًا بيد ، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم ،
أعني من الباعة والمشترين ، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا ما
وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة ، (1) فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد
الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجبَ لهم
عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم
" ، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء " فليس عليكم جُناح أن لا تكتبوها
" ، يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6400 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " ، يقول : معكم بالبلد تَرَوْنها ،
فتأخذُ وتعطى ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كان التواجب بينهم فيما يتابعونه بعد ما وجب له قبل
مبايعيه . . " وهو كلام لا معنى له . وفي المخطوطة : " إذا كان التواجب
بينهم فيما يتبايعون نقدًا ما وجب له قبل مبايعيه " ، وقوله " ++ ما وجب
" غير منقوطة . فرأيت صواب قراءة " التواجب " ، " الواجب
" وصواب الأخرى " نقدا " فاستقام الكلام . وسياق العبارة : "
لأن كل واحد منهم . . يقبض . . . ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة " وقوله
: " إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا " ، جملة فاصلة .
(6/79)
6401
- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك.
" ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله " ، إلى قوله :
" فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " ، قال : أمر الله أن لا تسأموا أن
تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه ، صغيرًا
كان أو كبيرًا ، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه.
واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة : ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ
حَاضِرَةٌ ) بالرفع.
وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. (1) وذلك وإن كان جائزًا في العربية ،
إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع " كان " ، وتضمر معها في
" كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به " ،
وترفعها فتقول : " إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به " ، فتتبع النكرةَ خبرَها
بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره ، الرفعُ
في " التجارة الحاضرة " ، لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك
نصبًا عنهم ، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر : (2)
أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا... إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا
(3)
__________
(1) في المطبوعة : " فقرأه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) لم أعرف قائله ، ولكن أخشى أن يكون هو متمم بن نويرة ، كما سترى في التعليق
التالي .
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 186 . أرجح أن " عفاقًا " هذا ، هو "
عفاق بن أبي مليل اليربوعي " ، الذي قتل يوم العظالى (انظر هذا 1 : 337 ،
تعليق : 2) فرثاه متمم بن نويرة اليربوعي ، ورثى أخاه بجيرًا ، وقد سلف شعر متمم
في رثائهما (1 : 337) . ومن أجل ذلك قلت إن الشعر خليق أن يكون لمتمم . أما ما
زعمه زاعمون من أنه في " عفاق " الذي أكلته باهلة . والذي يقول فيه
القائل : إنَّ عِفَاقًا أَكلَتْهُ باَهِلَهْ ... تمشَّشُوا عِظَامَهُ وكاهِلَهْ
فذاك " عفاق " آخر ، هو " عفاق بن مرى بن سلمة بن قشير "
(القاموس - التاج عفق) .
(6/80)
وقول
الآخر : (1)
وَلِلهِ قَومِي : أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ... إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ
أَشْنَعَا! ! (2)
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و
" كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ،
تذكروا إتباع النكرة خبرَها ، وإذا نصبوهما ، تذكروا صحبة " كان "
لمنصوب ومرفوع. (3) ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها ، وأضمروا في " كان "
مجهولا لاحتمالها الضمير.
* * *
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً " ،
إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ
يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب ،
وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثًا
بنعتها أو خبرها ، أنَّثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا :
" إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها ، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها " ،
تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا ، وتؤنث
أحيانًا.
* * *
__________
(1) هو عمرو بن شأس ، على الشك في ذلك كما سترى في التعليق التالي .
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 186 ، سيبويه 1 : 22 ، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو
بن شأس : " بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنا "
وأنا أخشى أن يكون الشعر لغير عمرو بن شأس ، ولكني لم أجده ، وإن كنت أذكر أني
قرأته في أبيات غير شعر عمرو . وقوله : " ذا كواكب " ، أي شديد عصيب ،
قد ظهرت النجوم فيه نهارًا ، كأنه أظلم فبدت كواكبه ، لأن شمسه كسفت بارتفاع
الغبار في الحرب ، وإذا كسفت الشمس ، ظهرت الكواكب . ويقال : " أمر أشنع
وشنيع " ، أي فظيع قبيح . وكان في المطبوعة : " بحرة " ، وهو خطأ ،
صوابه من المخطوطة ، ومعاني القرآن للفراء . يعني أن أمهم حرة ، فولدتهم أحرارًا .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " منصوب ومرفوع " والصواب ما أثبت . وانظر
ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 185 - 187 .
(6/81)
وقد
زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ " مرفوعة
فيه " التجارة الحاضرة " ، لأن " تكون " ، بمعنى التمام ، ولا
حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن
لها لازمًا ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذْ لم يكن يجدك لـ " كان "
منصوبًا ، (1) ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جَواز قوله :
" تديرونها بينكم " أن يكون خبرًا لـ " كان " ، فيستغني بذلك
عن إلزام نفسه ما ألزم.
* * *
والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية ، غيرَ أن الذي قلنا
بكلام العرب أشبه ، وفي المعنى أصحّ : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها
بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان
" ، و " التجارة الحاضرة " اسمها. والآخر : أنه في موضع رفع على
إتباع " التجارة الحاضرة " ، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله :
إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من
حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونَسَائه ، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب
بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم
يدًا بيدٍ ونقدًا ، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا
أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين.
أما على المشتري ، فأنْ يجحد البائعُ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إذا لم يكن يجد " ، والسياق يقتضي :
" إذ " .
(6/82)
البيع
، (1) وله بيِّنة على ملكه ما قد باع ، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه ،
فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به ، فيذهب مالُ المشتري باطل
وأما على البائع ، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ ، وقد زال ملك البائع عما باع ، ووجب
له قِبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلفُ على ذلك ، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري
من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حق أحد الفريقين
قبل الفريق الآخر.
* * *
ثم اختلفوا في معنى قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، أهو أمرٌ من الله
واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟
فقال بعضهم : " هو نَدْبٌ ، إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يُشهد " .
ذكر من قال ذلك :
6402 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن وشقيق ، عن رجل ،
عن الشعبي في قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، قال : إن شاء أشهد ، وإن
شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن
أمانته " ؟
6403 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا الربيع ابن صبيح
قال : قلت للحسن : أرأيتَ قول الله عز وجل : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ؟
قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.
6404 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الربيع بن
صبيح قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله عز وجل : " وأشهدوا إذا
تبايعتم " ، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة ، (2) أترى
__________
(1) في المطبوعة : " . . البائع المبيع . . " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ينقد في شهرين " . . . ، وأثبت ما في المخطوطة .
(6/83)
بأسًا
أن لا أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس. (1)
6405 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود ، عن
الشعبي : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، قال : إن شاؤوا أشهدوا ، وإن شاؤوا
لم يشهدوا.
* * *
وقال آخرون : " الإشهاد على ذلك واجب " .
ذكر من قال ذلك :
6406 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا
تكتبوها " ، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ ، ما كان يدًا بيد أن
يُشهدوا عليه ، صغيرًا كان أو كبيرًا.
6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قال : ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل
، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي
، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم ، لما قد بيَّنا : من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ ،
__________
(1) الأثران : 6403 ، 6404 - " الربيع بن صبيح السعدي " . روى عن الحسن
، وحميد الطويل ومجاهد بن جبر ، وغيرهم . وروى عنه الثوري ، وابن المبارك ، وابن
مهدي ، ووكيع وغيرهم . قال حرملة عن الشافعي : " كان الربيع بن صبيح غزاء -
وإذا مدح الرجل بغير صناعته ، فقد وهص ، أي دق عنقه " . وقال أحمد : "
رجل صالح لا بأس به " . وقال ابن معين وابن سعد والنسائي : " ضعيف
الحديث " . وقال ابن حبان : " كان من عباد أهل البصرة وزهادهم ، وكان
يشبه بيته بالليل ببيت النحل من كثرة التهجد ، إلا أن الحديث لم يكن من صناعته ،
فكان يهم فيما يروى كثيرًا ، حتى وقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر . لا
يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد " . مترجم في التهذيب .
(6/84)
إلا
ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد. (1)
* * *
وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال : (2) ذلك منسوخ بقوله : " فليؤدِّ الذي
اؤتمن أمانته " ، فيما مضى فأغنى عن إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ
أهله ، (4) فيكتب هذا ما لم يُملله المملي ، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد.
(5)
ذكر من قال ذلك :
6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه في قوله : " " ولا يضارّ كاتب ولا شهيد " ، "
ولا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملَّ عليه ، " ولا شهيد " فيشهد بما
لم يُستشهد.
6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، قال : كان الحسن
يقول : " لا يضارّ كاتب " فيزيد شيئًا أو يحرّف " ولا شهيد "
، قال : لا يكتم الشهادة ، ولا يشهدْ إلا بحق.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا ص : 53 .
(2) في المخطوطة : " على وهاء قول من قال " ، وقد سلف ما قلته في قول
الفقهاء " الوهاء " بمعنى " الوهى " ، وهو الضعف الشديد في 4
: 18 / ثم ص : 155 تعليق : 1/ ثم ص : 361 ، تعليق3 ، فراجعه .
(3) انظر ما سلف قريبًا ص : 53 - 55 .
(4) في المطبوعة : " نهي من الله لكاتب الكتاب " ، وأثبت ما في المخطوطة
. وقوله : " الكاتب الكتاب . . والشهيد " منصوب بالمصدر " نهى
" ، و " الكتاب " منصوب باسم الفاعل " الكاتب "
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " بما لم يستشهده الشهيد " ، وهو محال وخطأ
، وإنما " الشهيد الشاهد ، وهو لا يعني إلا " المستشهد " ، فكذلك
أثبتها .
(6/85)
6410
- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : اتقى الله شاهدٌ
في شهادته ، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه ،
فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا. (1)
6411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب "
فيكتب ما لم يُملل " ولا شهيد " ، فيشهد بما لم يستشهد.
6411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب "
فيكتب ما لم يُملل " ولا شهيد " ، فيشهد بما لم يستشهد.
6412 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن
قتادة نحوه.
6413 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب " فيكتب غير الذي
أملي عليه. قال : والكتاب يومئذ قليلٌ ، ولا يدرون أي شيء يُكتب ، فيضار فيكتبَ
غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم. قال : والشهيد : يضارّ فيحوِّل شهادته ، فيبطل
حقهم.
* * *
قال أبو جعفر : فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا
شهيد ، ثم أدغمت " الراء " في " الراء " ، لأنهما من جنس ،
وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأنّ الفتح أخفّ الحركات. (2)
* * *
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : ، " ولا يضارّ كاتب
ولا شهيد " بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.
__________
(1) الأثر : 6410 - في المطبوعة : " قال حدثنا يزيد بن قتادة " ، وفي
المخطوطة : " قال حدثنا يزيد ، قال حدثنا يزيد ، عن قتادة " ، وهو إسناد
دائر في الطبري كما أثبته ، أقربه رقم : 6393 ، هذا وقد سلف هذا الأثر مختصرًا
برقم : 6338 .
(2) انظر ما سلف 5 : 46 - 53 ، وفي " تضار " وقراءاتها ، وفي قوله :
" لأن الفتح أخف الحركات " 5 : 52 ، تعليق : 1 ، ثم هذا فيما سلف قريبا
ص : 65 س : 2 .
(6/86)
ذكر
من قال ذلك :
6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن
عطاء في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : أن يؤديا ما
قِبَلهما.
6415 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت
لعطاء. " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ؟ قال : " لا يضار " ، أن
يؤديا ما عندهما من العلم. (1)
6416 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن
يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : " لا يضار " كاتب ولا
شهيد " ، قال : أن يدعوهما ، فيقولان : إن لنا حاجة. (2)
6417 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن
عطاء ومجاهد : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قالا واجب على الكاتب أن
يكتب " ولا شهيد " ، قالا إذا كان قد شهد ، اقبلْهُ. (3)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ
والشهيدَ " . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضَارَرْ ، على وجه ما لم يسمّ
فاعله.
ذكر من قال ذلك :
6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ،
عن عكرمة قال ، كان عمر يقرأ : " ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد " .
__________
(1) في المطبوعة : " لا يضارا أن يؤديا " وهو خطأ ، وفاسد المعنى ،
وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فيقولا " ، والصواب من المخطوطة .
(3) قوله : " اقبله " ، هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا في شك منها ،
وضبطتها على أقرب المعاني إلى الصواب ، ولكني أخشى أن يكون في الكلمة تحريف لم أقف
على وجهه .
(6/87)
6419
- حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك قال :
كان ابن مسعود يقرأ : (ولا يُضَارَرْ).
6420 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال
أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ولا يُضَارَرْ كاتب ولا
شهيد " ، وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه
وشاهدَه إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة ، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ
لشغله وحاجته وقال مجاهد : لا يقمْ عن شغله وحاجته ، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.
6421 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس ، قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، والضِّرار أن يقول الرجل
للرجل وهو عنه غنىّ : إنّ الله قد أمرك أن لا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك ، وهو
مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم
" .
6422 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : إنه يكون
للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ ؛ فيقول : خلُّوا سبيله.
6423 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : "
ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول : فلا
يضاره.
6424 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد أنه كان يقول : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : لا يأت
الرجل فيقول : انطلق فاكتبْ لي ، واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمسْ غيري!
فيقول : اتق الله ، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة ، ويقول : دعه
والتمس غيره ، والشاهدُ بتلك المنزلة.
(6/88)
6425
- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في
قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : يدعو الرجل الكاتبَ أو
الشهيدَ ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما : إن الله
عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.
6426 - حدثت عن الحسن قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت
الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، هو الرجل يدعو الكاتب أو
الشاهدَ وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول :
والله لقد أمركما أن تجيبا! (1) فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما ، يعني : لا
يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.
6427 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره
فتقول له : اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته (2) ولا شاهدًا من شهودك
وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته ، وأنتَ تجد غيره.
6428 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله :
" ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : لما نزلت هذه الآية : " ولا
يأب كاتبٌ أن يكتب كما علَّمه الله " ، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول :
اكتب لي! فيقول : إني مشغول أو : لي حاجة ، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول : إنك
__________
(1) في المطبوعة : " الله أمركما أن تجيبا " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى يكتب له " ، والسياق يقتضي " لك
" . وقوله بعد " ولا شاهدًا من شهودك . . . " معطوف على قوله قبل :
" أن تعترض رجلا . . . " .
(6/89)
قد
أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول :
انطلق معي فاشهد لي! فيقول : انطلق إلى غيري فإني مشغول أو : لي حاجة! (1) فيلزمه
ويقول : قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله عز وجل :
" ولا يضار كاتب ولا شهيد " .
6429 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : إن لي حاجة
فدعني! فيقول : اكتب لي " ولا شهيد " ، كذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : " ولا
يضار كاتب ولا شهيد " ، بمعنى : ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا
، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن
يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ (2) على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا
قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه
الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه : " افعلوا أو : لا تفعلوا " ،
إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي
تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على
وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب ، كقوله : " وليكتب بينكم كاتب " ،
وكقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، وما أشبه ذلك. فالوجهُ إذْ
كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : " وإن تَفعلوا فإنه فُسوقٌ بكم "
[بأن يكون
__________
(1) في المطبوعة : " ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي . فيقول : اذهب إلى غيري
فإني مشغول " وكان في المخطوطة : " ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي إلى
غيري فإني مشغول " ، وهو فاسدًا ، وآثرت تصحيحه على وجه غير الوجه الذي كان
في المطبوعة ، ليكون أوضح وأقرب إلى معنى الشهادة .
(2) في المطبوعة : " أن يجيب " وأثبت ما في المخطوطة .
(6/90)
الأمر
مردودًا على المستكتب والمستشهد] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد.
(1) ومع ذلك ، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل : (2)
وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما ، لأنهما اثنان ، وأنهما غير مخاطبين بقوله : "
ولا يضارّ " ، بل النهي بقوله : " ولا يضار " ، نهيٌ للغائب غير
المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية ، أولى من توجيهه
إلى ما كان مُنعدِلا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ ، وما نُهيتم
عنه من ذلك " فإنه فسوق بكم " ، يعني : إثم بكم ومعصيةٌ. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
ذكر من قال ذلك :
6430 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم " ، يقول : إن تفعلوا غير الذي
آمركم به ، فإنه فسوق بكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فالواجب إذ كان المأمورون مخاطبين بقوله : وإن
تفعلوا فإنه فسوق بكم ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد " ،
وهو كلام مختل أشد الاختلال ، وهو في المطبوعة أشد اختلالا إذ جعل " إذ كان
المأمورون " - " إذ كان . . . " ، وقد وضعت بين القوسين ما هو أشبه
بسياق المعنى ، وكأنه الصواب إن شاء الله .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ومع ذلك إن الكاتب والشهيد " والصواب ما
أثبت .
(3) انظر تفسير " الفسوق " فيما سلف 1 : 409 ، 410 / ثم 2 : 118 ، 119 ،
399 / ثم 4 : 135 - 140 .
(6/91)
6431
- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس :
" وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " ، والفسوقُ المعصية.
6432 - حدثت عن عمار ، قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "
وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " ، الفسوق العصيان.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي ، ويضارّ
شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها " فإنه فسوق بكم " ، يعني : فإنه كذب.
ذكر من قال ذلك :
6433 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وإن تفعلوا
فإنه فُسوق بكم " ، الفسوق الكذب. قال : هذا فسوق ، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل
كتابه فكذَب ، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله : " ولا يضار كاتب
ولا شهيد " ، إنما معناه : لا يضارّهما المستكتب والمستشهد ، بما فيه
الكفاية. (1)
فقوله : " وإن تفعلوا " إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما ، وأنّ
من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به ، (2) وركب ما لا يحلّ له ، وخرج عن طاعة ربه في
ذلك.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا في تفسير الآية .
(2) قوله : " " أثم به " . قد سلف في 4 : 530 تعليق 3 ما نصه :
" آثما بربه " غير منقوطة ، كأنها " بربه " ولكني لم أجد في
كتب اللغة " آثم بربه " وإن كنت أخشى أن يكون صوابًا له وجه لم أتحققه
" وغيرتها هناك " أثم بريائه " ، فقد جاء هذا النص هنا محققًا ما
خشيت ، فصح أن الصواب هناك " آثمًا بربه " ، فقيده هناك ، وفي كتب اللغة
. ومعنى : " أثم بربه " : أي : قدم الإثم إلى ربه بمعصيته ، فالباء فيه
للغاية ، كما في قوله تعالى {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}
وكما قال كثير : أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي ، لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا ،
ولا مقلِيَّةً إن تَقَلَّتِ
فهذه هي الحجة الناهضة في صواب التعبير الذي جاء في كلام الطبري ، والحمد لله رب
العالمين على حسن توفيقه إيانا إلى الصواب .
(6/92)
*
* *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واتقوا الله " ، وخافوا الله ،
أيها المتداينون في الكتاب والشهود ، أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن
تُضِيعوه. ويعني بقوله : " ويُعلَّمكم الله " ، ويبين لكم الواجب لكم
وعليكم ، فاعملوا به " والله بكل شيء عليم " ، يعني : [بكل شيء] من
أعمالكم وغيرها ، (1) يحصيها عليكم ، ليجازيكم بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6434 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك قوله : " ويعلمكم الله " ، قال : هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة .
(6/93)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
القول
في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا
فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا(كَاتِبًا) ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ
الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى ، " فرهان مقبوضة " .
* * *
وقرأ جماعةٌ من المتقدمين : ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ) ، بمعنى : ولم يكن لكم
إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب
وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : " ولم تجدوا كاتبًا
" ، بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.
* * *
[قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه] : (1) وإن كنتم ، أيها المتداينون ، في سفر
بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه
إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ ، فارتهنوا بديونكم
التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ، ليكون ثقةً
لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك :
6435 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة " ،
فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا ، فرخص له
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، حتى يستقيم الكلام .
(6/94)
في
الرهان المقبوضة ، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.
6436 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله :
" وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا " ، يقول : كاتبًا يكتب لكم "
فرهان مقبوضة " .
6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه ، وذلك في
المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا] ، فرهان مقبوضة.
(1)
* * *
ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها :
6438 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم
، عن ابن عباس : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، يعني بالكتاب ، الكاتبَ
والصحيفة والدواة والقلم.
6439 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني أبي
، عن ابن عباس أنه قرأ : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، قال : ربما وجد
الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.
6440 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
كان يقرأها : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، ويقول : ربما وجد الكاتبُ ولم
تُوجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول.
6441 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا " ، يقول : مدادًا ، -
يقرأها كذلك - يقول : فإن لم تجدوا مدادًا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة "
فرهن مقبوضة " ، قال : لا يكون الرهن إلا في السفر.
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ .
(6/95)
6442
- حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحبحاب
قال : إن أبا العالية كان يقرؤها ، " فإن لم تجدوا كتابًا " ، قال أبو
العالية : تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " فرهان مقبوضة " .
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) ، بمعنى جماع
" رَهْن " كما " الكباش " جماع " كبش " ، و "
البغال " جماع " بَغل " ، و " النعال " جماع " نعل
" .
* * *
وقرأ ذلك جماعة آخرون : ( فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ) على معنى جمع : " رِهان
" ، " ورُهن " جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع "
رَهْن " : ، مثل " سَقْف وسُقُف " .
* * *
وقرأه آخرون : ( فَرُهْنٌ ) مخففة الهاء على معنى جماع " رَهْن " ، كما
تجمع " السَّقْف سُقْفًا " . قالوا : ولا نعلم اسمًا على " فَعْل
" يجمع على " فُعُل وفُعْل " إلا " الرُّهُنُ والرُّهْن
" . و " السُّقُف والسُّقْف " .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : " فرهان مقبوضة
" . لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على " فَعْل " ، كما
يقال : " حَبْلٌ وحبال " و " كَعْب وكعاب " ، ونحو ذلك من
الأسماء. فأما جمع " الفَعْل " على " الفُعُل أو الفُعْل "
فشاذّ قليل ، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل : " سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف "
" وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب " من : " قلب النخل " . (1) "
وجَدٌّ وجُدٌّ " ، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (2) وأما ما جاء من جمع "
فَعْل " على " فُعْل "
__________
(1) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة .
(2) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة ، وإنما قالوا في جمعه " أجداد
وأجد وجدود " . وكان في المطبوعة " حد وحد " بالحاء ، و "
الخط " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط .
(6/96)
ف
" ثَطٌّ ، وثُطّ " ، و " وَرْدٌ ووُرْد " و " خَوْدٌ
وخُود " .
وإنما دعا الذي قرأ ذلك : " فرُهْنٌ مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك
، مع شذوذه في جمع " فَعْل " ، أنه وجد " الرِّهان " مستعملة
في رِهَان الخيل ، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل ، الذي هو بغير
معنى " الرهان " الذي هو جمع " رَهْن " ، ووجد "
الرُّهُن " مقولا في جمع " رَهْن " ، كما قال قَعْنَب :
بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ
الرُّهُنُ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين
فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته ، " فليتق
الله " ، المدينُ " رَبّه " ، يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه
من دين صاحبه أن يجحده ، أو يَلُطّ دونه ، (2) أو يحاول الذهاب به ، فيتعرّض من
عقوبة الله لما لا قبل له ، (3) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه ، إليه.
* * *
وقد ذكرنا قول من قال : " هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي
__________
(1) مختارات ابن الشجرى 1 : 6 ، ولباب الآداب 402 - 404 ، اللسان (رهن) ، وروايته
هناك " من قبلك " ، وهي أجود فيما أرى . غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا
: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط ، فعندئذ يملك المرتهن
الرهن الذي عنده . كان هذا على رسم الجاهلية ، فأبطله الإسلام . يقول : فارقتك بعد
العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها ، فذهبت بذلك كله ، كما يذهب بالرهان من
كانت تحت يده .
(2) يقال : " لط الغريم بالحق دون الباطل " : دافع ومنع الحق . و "
لط حقه ، ولط عليه " جحده ومنعه .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ما لا قبل " بحذف اللام ، وما أثبت هو
أقرب إلى الجودة .
(6/97)
في
الآية قبلها : من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب " . وقد دللنا على أولى
ذلك بالصواب من القول فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) وقد : -
6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، إنما
يعني بذلك : في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا ، فليسَ له أن يرتهن ولا
يأمن بعضُهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله الضحاك من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو
واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر ، فكما قال ، لما قد
دللنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك ، مثل الائتمان : في أنه ليس لربّ
الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر فإنه قولٌ لا
معنى له ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : -
6444 - أنه اشترى طعامًا نَسَاءً ، ورهن به درعًا لهُ. (2)
* * *
فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بمالَهُ من حقّ ، في السفر والحضر - لصحة
الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى
الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا ، لأنه
لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ ، غير أنهما إذا
تبايعا برَهْن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد ، أو كان البيع
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا : ص 53 - 55 .
(2) الأثر : 6444 - ذكره الطبري بغير إسناد . وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5
: 100 - 102) ومسلم في صحيحه 11 : 39 ، 40 من طرق ، عن عائشة أم المؤمنين . وسنن
البيهقي 6 : 36 . يقال نسأت عنه دينه نساء : (بالمد وفتح النون) : أخرته . و
" بعته بنسيئة " ، أي : بأخرة .
(6/98)
أو
الدَّين إلى أجل مسمى (1) أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك
الكتاب والإشهاد في ذلك ، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قال أبو جعفر : وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال
بإشهادهم ، فقال لهم : " ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا " - ولا تكتموا ،
أيها الشهود ، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه ،
ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم
الذي يأخذُ له بحقه.
ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته ، وإبائه من أدائها والقيام بها
عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان ، فقال : " ومن
يَكتمها " . يعني : ومن يكتم شهادته " فإنه آثم قَلبه " ، يقول :
فاجرٌ قلبه ، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله ، (2) كما : -
6445 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه " ،
فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها
فقد ركب إثمًا عظيمًا.
6446 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي
__________
(1) في المطبوعة : " وكان البيع . . . " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الإثم " فيما سلف من فهارس اللغة .
(6/99)
قوله
: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " ، يقول : فاجر قلبه.
6447 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) (1)
[سورة المائدة : 72] ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله عز وجل يقول :
" ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه " .
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : " على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد ،
ويخبر بها حيثُ استُخبر " .
6448 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم
قال ، أخبرنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها
فأخبره بها ، ولا تقل : " أخْبِر بها عند الأمير " ، أخبره بها ، لعله
يراجع أو يَرْعَوي.
* * *
وأما قوله : " والله بما تعملون عليمٌ " ، فإنه يعني : " بما
تعملون " في شهادتكم من إقامتها والقيام بها ، أو كتمانكم إياها عند حاجة من
استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها " عليمٌ " ،
يحصيه عليكم ، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ومن يشرك بالله " ، وليست هذه قراءتها ،
أخطأ الناسخ وسها .
(6/100)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
القول
في تأويل قوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ
تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ }
(1)
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لله ما في السموات وما في الأرض
" ، لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير ، وإليه تدبير
جميعه ، وبيده صرفه وتقليبه ، لا يخفى عليه منه شيء ، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه.
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ ، يقول : لا تكتموا الشهادة أيها
الشهود ، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه ، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك ، لأني بكل شيء عليم
، وبيدي صَرْف كل شيء في السموات والأرض ومِلكه ، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه ، (2)
فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها ،
وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم
ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها ، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من
المحاسبة عليها فقال : " وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، يقول :
وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار ، أو تخفوا
ذلك فتضمروه في أنفسكم ، وغير ذلك من سيئ أعمالكم " يحاسبكم به الله " ،
يعني
__________
(1) لم تثبت المخطوطة ولا المطبوعة قوله تعالى : " فيغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء " في هذا الموضع ولا في غيره إلى القول في تفسير تمام الآية ، وأثبتها
في مكانها .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أعلمه خفي . . " ، والسياق يقتضي ما أثبت
. وفي المخطوطة : " وجليله " ، ولا بأس بها ، ولكن ما في المطبوعة أمثل
بالسياق .
(6/101)
بذلك
: يحتسب به عليكم من أعمالكم ، (1) فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله ،
(2) وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين. (3)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : " وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله " .
فقال بعضهم بما قلنا : من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة ، وأنه لاحق بهم
كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها.
ذكر من قال ذلك :
6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن
يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في
أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله " ، يقول : يعني في الشهادة. (4)
6450 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي
زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
" ، قال : في الشهادة.
6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال : سئل داود عن قوله :
" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، فحدثنا عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يحسب به عليه من أعماله " بالضمير المفرد
، والسياق يقتضي الجمع كما أثبته . ويقال : " احتسب عليه بالمال " ، أي
: عددته عليه وحاسبته به . و " احتسب " من " الحساب " مثل
" اعتد " من " العد " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فيجازي من شاء . . " والسياق يقتضي ما
أثبت .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وغافر منكم لمن شاء . . . " ، وهو تقديم
من عجلة الناسخ ، والصواب ما أثبت .
(4) الأثر : 6449 - " ابن فضيل " ، هو محمد بن فضيل ، وقد سلف مرارًا .
وكان في المخطوطة والمطبوعة " أبو نفيل " وليس في الرواة من يقال له
" أبو نفيل " يروي عن يزيد بن أبي زياد ، والذي يروي عنه هو ابن فضيل .
(6/102)
عكرمة
قال : هي الشهادة إذا كتمتها.
6452 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو
وأبي سعيد : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : " وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم
أو تخفوه " ، قال : في الشهادة.
6453 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن
الشعبي في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في
الشهادة.
6454 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ،
عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية ، " وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله " ، قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.
6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن عكرمة
في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، يعني
: كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها.
* * *
وقال آخرون : " بل نزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه
مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " .
ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك.
فقال بعضهم : " ثم نسخ الله ذلك بقوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) [سورة البقرة : 286]
"
ذكر من قال ذلك :
6456 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن
(6/103)
ثابت
، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلتْ : "
لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الله " ، اشتد ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لمؤاخذون بما
نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنزل الله عز وجل : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا ) الآية إلى قوله : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا ) ، قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال اللهُ : نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) إلى آخر الآية قال أبي : قال أبو هريرة : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : نعم. (1)
6457 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع
__________
(1) الحديث : 6456 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي : ثقة ثبت في الحديث ، متعبد
كبير ، من خيار المسلمين . أخرج له الجماعة .
مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير : تكلم فيه الأئمة ، فضعفه أحمد ، وابن معين ،
وغيرهم . وأثنى عليه الزهري . وقال أبو حاتم : " صدوق كثير الغلط ، ليس
بالقوي ، ويروي عنه إسحاق بن سليمان " ، ولكن ترجمه البخاري في الكبير
4/1/353 ، فلم يذكر فيه جرحًا . والظاهر أن من ضعفه فإنما ذهب إلى كثرة غلطه ، كما
فعل أبو حاتم . وأيًا ما كان ، فهو لم ينفرد بهذا الحديث ، كما سيأتي في التخريج .
والحديث سيأتي بعضه : 6538 ، بهذا الإسناد .
ورواه أحمد في المسند : 9333 (2 : 412 حلبي) ، عن عفان ، عن عبد الرحمن بن إبراهيم
القاص المدني ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، به ، مطولا عما هنا .
وعبد الرحمن بن إبراهيم - هذا - ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في التعجيل ،
وابن أبي حاتم 2/2/211 .
ورواه مسلم - مطولا أيضًا - 11 : 46 - 47 ، وابن حبان في صحيحه : 139 (1 : 225 -
226 - من مخطوطة الإحسان) - كلاهما من طريق يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن
العلاء ، به .
ونقله ابن كثير 2 : 79 - 80 ، عن رواية المسند .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 154 ، من رواية مسلم .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم . ولم ينسبه لصحيح ابن حبان .
(6/104)
قال
: حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد ، قال : سمعت
سعيد بن جبير يحدّث ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما
في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، دخل قلوبهم
منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سمعنا
وأطعنا وسلَّمنا. قال : فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم ، قال : فأنزل الله
عز وجل : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) قال أبو كريب
: فقرأ : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال فقال :
قد فعلت ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا ) قال : قد فعلت ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا
طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال : قال : قد فعلت ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قال
: قد فعلت. (1)
6458 - حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال ، حدثنا أبو زرعة وهب
الله بن راشد ، عن حيوة بن شريح قال ، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول : قال ابن شهاب
، حدثني سعيد ابن مرجانة قال : جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية : " وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء
" . ثم قال ابن عمر : لئن آخذَنا بهذه الآية ، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى
سالت دُموعه. قال ، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت : يا أبا عباس ، إني جئت ابن
عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، ثم
قال : لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس :
يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها
كما فَرِق ابن عمر منها ، فأنزل الله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، فنسخ الله الوَسوسة
، وأثبت القول والفعلَ. (2)
6459 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب
، عن سعيد بن مرجانة يحدث : أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية ،
" لله ما في السموات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه "
الآية ، فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع
نَشيجه ، فقال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس
__________
(1) الحديث : 6457 - سفيان بن وكيع يرويه عن أبيه . وأبوه يرويه عن سفيان ، وهو
الثوري ، ووقع في المطبوعة هنا حذف قوله " قال : حدثنا أبي " . وهو خطأ
. وسيأتي الإسناد على الصواب : 6537 ، حيث روى الطبري بعضه مختصرًا . بهذا الإسناد
.
آدم بن سليمان القرشي ، مولى خالد بن بن خالد بن عقبة بن أبي معيط : ثقة ، وهو
والد يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج .
والحديث رواه أحمد في المسند : 2070 ، عن وكيع ، بهذا الإسناد .
وكذلك رواه مسلم 1 : 47 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كريب ، وإسحاق بن إبراهيم
- وهو ابن راهويه - : ثلاثتهم عن وكيع ، به .
وفي التهذيب ، في ترجمة آدم بن سليمان ، أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد
متابعة ؛ وليس كذلك ، بل هو أصل لا متابعة ، إذ لم يروه مسلم من طريق غيره .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 286 ، من طريق ابن راهويه ، عن وكيع . وقال : "
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وذكره ابن كثير 2 : 81 ، عن رواية المسند . ثم أشار إلى رواية مسلم .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 154 ، من رواية مسلم .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته للترمذي ، والنسائي ، وابن المنذر ، والبيهقي
في الأسماء والصفات .
وسيأتي بعض معناه : 6464 ، عن سعيد بن جبير ، مرسلا غير متصل ، فيستفاد وصله من
هذه الرواية .
(2) الحديث : 6458 - أبو الرداد المصري ، عبد الله بن عبد السلام - شيخ الطبري :
ثقة ترجمة ابن أبي حاتم 2/2/107 ، وقال : " سمعنا منه بمصر ، وهو صدوق "
.
أبو زرعة وهب الله بن راشد : هذه أول مرة يثبت فيها اسمه في المطبوعة على الصواب ،
فقد مضى في : 2377 ، 2891 ، 5386 - وكان فيها كلها محرفًا في المطبوعة . وترجمنا
له في أولهن .
سعيد ابن مرجانة : هو سعيد بن عبد الله ، مولى قريش . ومرجانة - بفتح الميم وسكون
الراء : أمه . قال الحافظ في التهذيب : " فعلى هذا فيكتب : ابن مرجانة -
بالألف " . وهو تابعي ثقة . ثبت سماعه من أبي هريرة ، خلافًا لمن زعم غير ذلك
، كما بينا في المسند : 7583 .
والحديث سيأتي عقبه : 6459 ، من وجه آخر عن ابن شهاب . ونذكر تخريجه هناك .
(6/105)
فذكرتُ
لهُ ما تلا ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي
عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر
، فأنزل اللهُ بعدها( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) إلى آخر
السورة. قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر
إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل. (1)
6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ،
سمعتُ الزهري يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال
: قرأها ابن عمر فبكى وقال : إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع
نشيجه ، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له ، فقال : رَحم الله ابن عُمر!
لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ ، حتى نزلت : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ). (2)
6461 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر بن
سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : كنت عند ابن عمر فقال : " وإن
تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له
ذلك ، فضحك ابن عباس فقال : يرحم الله ابن عمر!
__________
(1) الحديث : 6459 - هو الحديث السابق ، نحوه .
وقد ذكره ابن كثير 2 : 81 - 82 ، عن هذا الموضع من الطبري .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 154 ، مختصرًا ، عن هذا الموضع أيضًا . قال : "
أخرج الطبري ، بإسناد صحيح عن الزهري . . . " - إلخ .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وأبي داود في ناسخه ، وابن جرير ،
والطبراني ، والبيهقي في الشعب .
وانظر الأحاديث الآتية : 6460 - 6464 .
(2) الحديث : 6460 - هذا حديث مرسل ، لم يسمعه الزهري ، من ابن عمر ، ولا من ابن
عباس . وهو مختصر من الحديثين قبله ، ومن الحديث : 6462 . فقد سمع الزهري القصة من
سعيد ابن مرجانة ، ومن سالم بن عبد الله بن عمر .
(6/107)
أوَ
ما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم غمًّا شديدًا وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم : قولوا : " سمعنا وأطعنا " ، فنسختها : ( آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )
إلى قوله : ( وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس ،
وأخِذوا بالأعمال. (1)
6462 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن
حسين ، عن الزهري ، عن سالم : أن أباه قرأ : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه يحاسبكم به الله " ، فدمعت عينه ، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس ، فقال :
يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين أنزلتْ ، فنسختها الآية التي بعدها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا ). (2)
__________
(1) الحديث : 6461 - جعفر بن سليمان : هو الضبعي ، وقد مضى توثيقه في : 2905 .
حميد الأعرج : هو حميد بن قيس المكي ، قارئ أهل مكة . مضى توثيقه في : 3352 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 3071 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ،
به .
فظهر من رواية الطبري هذه : أن عبد الرزاق سمعه من شيخين ، من معمر ، ومن جعفر بن
سليمان - كلاهما حدثه به عن حميد الأعرج .
وقد ذكره ابن كثير 2 : 81 ، عن رواية أحمد في المسند ، وكذلك ذكره الحافظ في الفتح
8 : 154 ، عن رواية أحمد .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وابن المنذر .
وهو في معنى الأحاديث السابقة : 6458 - 6460 .
وقوله : " كنت عند ابن عمر فقال : (وإن تبدوا ما في أنفسكم) . . . " -
هكذا في المخطوطة والمطبوعة . ولعل صوابه : " فقرأ " ، بدل " فقال
" . وهو الثابت في رواية المسند ومن نقل عنه .
وقوله في آخر الحديث : " فتجوز لهم من حديث النفس " - هكذا في المخطوطة
والمطبوعة أيضًا . ولعل صوابه " عن حديث النفس " ، كرواية المسند .
(2) الحديث : 6462 - سفيان بن حسين الواسطي : مضى الكلام في روايته عن الزهري ،
وأن فيها تخاليط ، في 3471 . ولكن يظهر لي الآن أن في هذا غلوًا من ابن حبان . فإن
البخاري ترجم له في الكبير 2/2/90 ، وأشار إلى رواية عن الزهري ، فلم يذكر فيها
قدحًا ، ثم إن الأئمة صححوا هذا الحديث من روايته عن الزهري ، كما سيجيء .
فالحديث رواه أبو جعفر بن النحاس في الناسخ والمنسوخ ، ص : 86 . والحاكم في
المستدرك 2 : 287 - كلاهما من طريق يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، بهذا
الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه
الذهبي .
ثم قد ذكره ابن كثير 2 : 82 ، عن هذا الموضع - بعد الروايات السابقة ، ثم قال :
" فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس " .
وقد رجحت توثيق سفيان بن حسين - وفي روايته عن الزهري - فيما كتبت تعليقًا على
تهذيب السنن للمنذري ، ج3 ص : 402 ، فأنسيته حين كتبت ما مضى في : 3471 .
والحديث ذكره أيضًا السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة .
(6/108)
6463
- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب
، عن سعيد بن جبير قال : نسخت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
" - ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ). (1)
6464 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان
، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " إن تُبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه " ، قالوا : أنؤاخذ بما حدِّثنا به أنفسنا ، ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال
: فنزلت هذه الآية : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا
أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، قال : ويقول : قد فعلت. قال : فأعطيت هذه الأمة خواتيم
" سورة البقرة " ، لم تُعطها الأمم قبلها. (2)
__________
(1) الحديث : 6463 - أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي .
وهو يروي عن سفيان الثوري . ويروي عنه محمد بن بشار .
وهذا الحديث مرسل ، لأنه حكاية من سعيد بن جبير عن إخبار بنسخ الآية .
وقد سبقت رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس : 6457 ، لعلها تشير إلى هذا المعنى .
(2) الحديث : 6464 - وهذا حديث مرسل أيضًا ، من رواية سعيد بن جبير ، ولكنه بعض
معنى الحديث السابق : 6457 ، الذي رواه سعيد عن ابن عباس متصلا .
وسيأتي بعضه : 6539 ، بهذا الإسناد ، مع تحريف في اسم الراوي عن سفيان ، كما سنذكر
هناك ، إن شاء الله .
(6/109)
6465
- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا إسماعيل ، عن عامر : "
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
" ، قال : فنسختها الآية بعدها ، قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
6466 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نسختها الآية التي
بعدها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) وقوله : " وإن
تُبدوا " ، قال : يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر ، فنسختها التي
بعدها.
6467 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا سيّار ، عن الشعبي ، قال : لما
نزلت هذه الآية : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ
لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، قال : فكان فيها شدّة ، حتى نزلت هذه الآية التي
بعدها : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، قال : فنسخت ما كان
قبلها.
6468 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال : ذكروا عند الشعبي :
" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " حتى بلغ( لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، قال ، فقال الشعبي : إلى هذا صار ، رجَعتْ إلى
آخر الآية.
6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال قال ابن مسعود :
كانت المحاسبة قبل أن تنزل : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )
، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.
6470 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد
(6/110)
قال
، سمعت الضحاك يذكر ، عن ابن مسعود نحوه.
6471 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي قال : نسخت "
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ ).
6472 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب
وسفيان ، عن جابر ، عن مجاهد وعن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد قالوا : نسخت هذه
الآية( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ، " وإن تبدوا ما في
أنفسكم أو تخفوه " ، الآية.
6473 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أ ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة وعامر
بمثله.
6474 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن في
قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " إلى آخر الآية ، قال :
محتها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ). (1)
6475 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه قال : نسخت
هذه الآية يعني قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) الآية
التي كانت قبلها : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
" .
6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال :
نسختها قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ).
6477 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني ابن زيد قال : لما نزلت هذه
الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " إلى آخر
__________
(1) الأثر : 6474 - " حماد " هو حماد بن سلمة ، و " حميد " هو
حميد الطويل . وكان في المطبوعة والمخطوطة " حماد بن حميد " ، وليس في
رواة الأثر من يعرف بهذا الاسم ، وحجاج بن المنهال يروي عن حماد بن سلمة ، وحماد
يروي عن خاله حميد الطويل ، وحميد الطويل يروي عن الحسن .
(6/111)
الآية
، اشتدّت على المسلمين ، وشقَّتْ مشقةً شديدة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو وَقع
في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به ؟ قال : " فلعلكم تقولون كما قال
بنو إسرائيل : " سمعنا وعصينا " ! قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول
الله! قال : فنزل القرآن يفرِّجها عنهم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلى قوله : ( لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )
، قال : فصيَّره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب.
6478 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا هشيم ، عن سيارٍ عن أبي الحكم
، عن الشعبي ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله : " وإن تُبدوا ما
في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نسخت هذه الآية التي بعدَها :
( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
6479 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : يوم نزلت هذه
الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، فقالوا : إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به ؟ والله ما نملك
الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله : (1) ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) الآية ، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. (2)
* * *
6480 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة أن عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها قالت : نسختها قوله : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا
مَا اكْتَسَبَتْ ).
__________
(1) في المطبوعة : " التي بعدها بقوله " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " مما لم تطيقوا ، الآية " أخر الناسخ
" الآية " ، فرددتها إلى مكانها قبل .
(6/112)
وقال
آخرون ممن قال معنى ذلك : " الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما
كسبته أيديهم وعملته جوارحهم ، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه " (1)
" هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة ، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من
عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه ، فيغفره للمؤمنين ،
ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق " .
ذكر من قال ذلك :
6481 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن عليّ ،
عن ابن عباس قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
" ، فإنها لم تنسخ ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة ، يقول
الله عز وجل : " إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي
" ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم ، وهو قوله :
" يحاسبكم به الله " ، يقول : يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب ،
فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، (2) وهو قوله : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) [سورة البقرة : 225] ، من الشكّ والنفاق.
6482 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
" ، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته ، يحاسبكم به الله ، فليس من عبد
__________
(1) انظر ما سلف ص : 103 وما بعدها .
(2) في المخطوطة والمطبوعة بعد قوله : " من التكذيب " ما نصه : "
وهو قوله : فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " . وهي زيادة بلا شك من الناسخ .
فإلا تكن منه ، فمكانها قبل ذلك بعد قوله " يحاسبكم به الله " وقبل قوله
: " وأما أهل الشك والريب . . . " ، ولكني آثرت إسقاطها ، لأن السيوطي
خرجه في الدر المنثور 1 : 375 بغير ذكر هذه الزيادة في الموضعين .
(6/113)
مؤمن
يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به ، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات ، وإن هو لم
يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة ، من أجل أنه مؤمن ، والله يَرْضى سرّ
المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه ، اطلع الله عليه وأخبره به يوم
تُبلى السرائر ، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به
تجاوَز الله عنه ، كما قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) [سورة الأحقاف : 16].
6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ ) ، الآية ، قال : قال ابن عباس : إن الله يقول يوم القيامة : "
إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم
فأنا أحاسبكم به اليومَ ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت " .
6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا علي بن عاصم قال ، أخبرنا بيان ، عن
بشر ، عن قيس بن أبي حازم قال : إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع
الخلائق : " إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم ، فإما ما أسررتم فلم
يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه ، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم ، فأغفر لمن شئتُ ،
وأعذّب من شئت " .
6485 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ،
كان ابن عباس يقول : إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في
أنفسهم مما لم يعملوه فيقول : " إنه كان لا يعزُب عني شيء ، وإني مخبركم بما
كنتم تسرُّون من السُّوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه " . فهذه
المحاسبة.
(6/114)
6486
- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ،
عن الضحاك ، عن ابن عباس نحوه.
6487 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "
، قال : هي محكمة ، لم ينسخها شيء يقول : " يحاسبكم به الله " ، يقول :
يعرّفه الله يوم القيامة : " إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا " ! لا
يؤاخذه.
6488 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : هي محكمة لم تنسخ.
6489 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال :
من الشك واليقين.
6490 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الله " ، يقول : في الشك واليقين. (1)
6491 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة :
(2) وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو
تخفوه فتسروه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك
لأهل الإيمان ، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في اليقين والشك " ، قدم وأخر ، وأثبت ما في
المخطوطة .
(2) هو رقم : 6481 .
(6/115)
وأما
على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، (1) وعلى ما
قاله الربيع بن أنس ، (2) فإن تأويلها : إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من
المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه ، يُعْلمكم به الله يوم القيامة ،
فيغفر لمن يشاء ، ويعذّب من يشاء.
* * *
وأما قول مجاهد ، (3) فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة.
* * *
وقال آخرون ممن قال : " هذه الآية محكمة ، وهي غير منسوخة " ، ووافقوا
الذين قالوا : " معنى ذلك : أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما
أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم " معناها : إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما
أبدَوْا من سيئ أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، وُمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم
على ما أخفوه مما لم يعملوه ، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي
يحزَنون عليها ويألمون منها.
ذكر من قال ذلك :
6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، الآية
، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من همّ بسيئة فلم يعملها ، أرسل الله
عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفّارته.
6493 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ،
__________
(1) هي رقم : 6486 .
(2) هو رقم : 6487 .
(3) هو رقم : 6489 وما بعده .
(6/116)
سمعت
الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
" ، قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهمّ بمعصية ، أو يحدّث بها نفسه ، حاسبه
الله بها في الدنيا ، يخافُ ويحزن ويهتم.
6494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو تميلة ، عن عبيد ، عن
الضحاك قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد همّ بسوء ومعصية ، وحدّث نفسه به ، حاسبه
الله في الدنيا ، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما همّ بالسوء
ولم يعمل منه شيئًا.
6495 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي
بن زيد ، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم
أو تخفوه يحاسبكم به الله " و( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) [سورة
النساء : 123] فقالت : ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال : يا عائشة ، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة
، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها ، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه ، حتى إن
المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 6495 - علي بن زيد : هو ابن جدعان .
أمية : هي بنت عبد الله ، وهي تابعية لم ترو عن عائشة غير هذا الحديث . وعلي بن
زيد ، هو بن زوجها . وقد مضى البيان عن ترجمتها في : 4897 .
ووقع في المطبوعة هنا : " عن أمه " . وهو خطأ . وقع مثل ذلك في بعض نسخ
الترمذي . ولو صحت هذه النسخ لم يكن بذلك بأس ، إذ لا يبعد أن يسميها ربيبها
" أمه " .
والحديث رواه الطيالسي : 1584 ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن " أمية
بنت عبد الله " .
ورواه أحمد في المسند 6 : 218 (حلبي) ، عن بهز ، عن حماد - وهو ابن سلمة ، وفيه :
" عن أمية " .
ورواه الترمذي 4 : 78 - 79 ، من طريق روح بن عبادة ، عن حماد بن سلمة ، به . وفيه
: " عن أمية " ، قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة
، لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة " .
ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقله عنه ابن كثير 2 : 85 - من طريق سليمان بن حرب ، عن
حماد ابن سلمة . وفيه " عن أبيه " بدل " عن أمية " ؛ وهو
تحريف مطبعي .
وقال ابن كثير : " علي بن زيد بن جدعان : ضعيف يغرب في رواياته . وهو يروي
هذا الحديث عن امرأة أبيه : أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة ، وليس لها عنها
في الكتب سواه " .
أقول : وعلي بن زيد ليس بضعيف ، كما قلنا في : 4897 ، وكما رجحنا في شرح المسند :
783 .
وذكره السيوطي 1 : 375 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، والبيهقي في الشعب .
قول " هذه متابعة الله العبد " - يعني ما يصيب الإنسان ما يؤلمه ،
يتابعه الله به ليكفر عنه من سيئاته . وهذا هو الثابت في الطبري والمسند . والذي
في الطيالسي والترمذي والدر المنثور : " معاتبة الله " ومعناه قريب من
هذا . وفي ابن كثير : " مبايعة " . وهو تحريف .
النكبة - بفتح النون : أن ينكبه الحجر إذا أصاب ظفره أو إصبعه . ومنه قيل لما يصيب
الإنسان : نكبة .
البضاعة : اليسير من المال تبعثه في التجارة ، ثم سميت السلعة : بضاعة .
الضبن - بكسر فسكون : ما بين الإبط والكشح .
التبر : فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ ، فإذا صيغ فهو ذهب أو فضة .
الكير - بكسر الكاف ، كير الحداد : وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات ، ينفخ النار حتى
تتوهج .
(6/117)
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : " إنها
محكمة ، وليست بمنسوخة " . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر ، هو
له ناف من كل وجوهه. (1) وليس في قوله جل وعز : " لا يكلف الله نفسًا إلا
وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله :
" أو تخفوه يحاسبكم به الله " . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً ، ولا
مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة
يقولون : ( يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً
__________
(1) في المطبوعة : " إلا ينفيه " ، بالياء في أوله ، وهو في المخطوطة
غير منقوط . وفيهما معًا " بآخر له ناف " ، والصواب زيادة " هو
" كما أثبت . وبذلك يستقيم الكلام .
وانظر ما قال في " النسخ " فيما سلف ص : 54 ، والتعليق : 1 .
(6/118)
إِلا
أَحْصَاهَا ) [سورة الكهف : 49]. فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم
وكبائرَها ، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها
على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من
الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر ، باجتنابهم الكبائر فقال
في تنزيله : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) [سورة النساء : 31].
فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم
، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة ، (1) بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها ،
ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها ، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الخبر الذي : -
6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت أبي ،
عن قتادة ، عن صَفوان بن مُحْرز ، عن ابن عمر ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قال : يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه ، فيقرِّره
بسيئاته يقول : هل تعرف ؟ فيقول : نعم! فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم!
ثم يظهر له حسناته فيقول : ( هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ ) [سورة الحاقة : 19]
أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد. (2)
6497 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، وهشام وحدثني يعقوب
قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن
__________
(1) في المطبوعة : " فدل أن محاسبة الله . . . " ، وأثبت ما في المخطوطة
. وفي المطبوعة والمخطوطة بعد : " غير موجبة لهم منه عقوبة " ، والسياق
يقتضي : " غير موجب . . " كما أثبتها .
(2) الحديث : 6496 - صفوان بن محرز المازني : تابعي ثقة جليل ، له فضل وورع .
والحديث مختصر من الذي بعده . وسنذكر تخريجه فيه ، إن شاء الله .
(6/119)
قتادة
، عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ
عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى
يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : " هل تعرف كذا " ؟ فيقول :
" رب اغفر " - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : "
فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : فيعطى صحيفة
حسناته - أو : كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس
الأشهاد : ( هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ ). (1) [سورة هود : 18].
* * *
__________
(1) الحديث : 6497 - سعيد : هو ابن أبي عروبة ، الثقة المأمون الحافظ . وهشام : هو
ابن أبي عبد الله الدستوائي .
ووقع في المطبوعة : " حدثنا ابن أبي عدي ، وسعيد ، وهشام " ، وهو تحريف
.
وصوابه : " عن سعيد " ، لأن ابن أبي عدي - وهو محمد بن إبراهيم - إنما
يروي عن ابن أبي عروبة وعن هشام الدستوائي . فهو ليس من طبقتهما . ثم هو لم يدرك
أن يروي عن قتادة . وكذلك ابن بشار - وهو محمد بن بشار . شيخ الطبري - إنما يروي
عن ابن أبي عدي وطبقته ، لم يدرك أن يروي عن ابن أبي عروبة والدستوائي .
وأيضًا ، فإن قوله في الإسناد - بعد تحويله إلى ابن علية عن هشام - " قالا
جميعا في حديثهما عن قتادة " ، يرجع ضمير المثنى فيه إلى سعيد وهشام ، دون
ابن أبي عدي . إذ لو كان معهما لكان القول أن يقول : " قالوا جميعا " .
ثم قد ثبت أنه " عن سعيد " في نقل ابن كثير هذا الحديث عن هذا الموضع 2
: 84 ، وإن وقع فيه خطأ مطبعي آخر ، إذ فيه : " عن سعيد بن هشام " بدل
" وهشام " . وفيه بعد ابن علية " حدثنا ابن هشام " بزيادة
" ابن " زيادة هي غلط غير مستساغ .
ثم الحديث سيأتي في تفسر الطبري 12 : 14 (بولاق) ، بهذا الإسناد ، على الصواب .
ولكنه جعله هناك إسنادين : فصل إسناد ابن علية عن إسناد ابن أبي عدي .
والحديث رواه أحمد في المسند : 5436 ، عن بهز وعفان ، كلاهما عن همام - وهو ابن
يحيى - عن قتادة ، بهذا الإسناد .
ورواه أيضًا : 5825 ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ، عن
قتادة ، به .
ورواه البخاري 5 : 70 (فتح) ، ومسلم 2 : 329 - كلاهما من طريق هشام الدستوائي ، عن
قتادة ، به .
ورواه البخاري أيضًا 8 : 266 - 267 ، من طريق سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي ،
عن قتادة .
ورواه أيضًا : 10 : 406 - 407 ، و 13 : 397 - 398 ، من طريق أبي عوانة ، عن قتادة
ورواه أبو جعفر بن النحاس ، في كتاب الناسخ والمنسوخ ، ص : 86 - 87 ، من طريق ابن
علية ، عن هشام . وقال : " وإسناده إسناد لا يدخل القلب منه لبس . وهو من
أحاديث أهل السنة والجماعة " .
وذكره ابن كثير 2 : 84 - 85 ، كما قلنا من قبل ، عن هذا الموضع من الطبري .
وذكره أيضًا 4 : 353 ، عن رواية المسند الأولى .
وذكره السيوطي 3 : 325 . وزاد نسبته لابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات .
ونسبه القسطلاني 4 : 206 ، للنسائي في التفسير والرقائق ، وابن ماجه في السنة .
ووقع في المخطوطة - هنا - " وأما الكفار أو المنافقين " ، وهو خطأ واضح
.
(6/120)
أن
الله يفعل بعبده المؤمن : (1) من تعريفه إياه سيئات أعماله ، حتى يعرفه تفضله عليه
بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما
أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه ، فيستره عليه.
وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال : " فيغفر لمن يشاء
" . (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
" ، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا
مثابين إلا بما كسبته من خير ؟
قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو
ترك ما أمر بفعله.
فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته
أنفسنا بقوله : " ويعذب من يشاء " ، إن كان لها ما كسبت وعليها
__________
(1) سياق هذه الجملة من قبل الخبرين السالفين : " كما بلغنا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم . . . أن الله يفعل بعبده المؤمن . . . " ، فجملة " أن
الله يفعل " ، هي فاعل قوله : " بلغنا " .
(2) في المطبوعة : " يغفر لمن يشاء " بغير فاء ، وأثبت نص الآية كما في
المخطوطة .
(6/121)
ما
اكتسبت ، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب ، أو إرادة لمعصية - لم
تكتسبه جوارحنا ؟
قيل له : إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به
أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم
إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله : " ويعذب من
يشاء " ، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله ، والمرية
في وحدانيته ، أو في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، أو في
المعاد والبعث - من المنافقين ، (1) على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال
بمثل قولهما ، إن تأويل قوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، على الشك
واليقين.
غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : " ويعذب من يشاء " ، هو من كان إخفاء
نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله ، (2) وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا
والموعود الغفران بقوله : (3) " فيغفر لمن يشاء " هو الذي إخفاء ما
يخفيه ، (4) الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا
ابتداءً تحليلُه وإباحته ، فحرمه على خلقه جل ثناؤه (5) أو على ترك بعض ما أمر
الله بفعله ، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي
يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به ، ويحقق ما أخفته نفسه من
ذلك
__________
(1) سياق الجملة : " على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله
. . من المنافقين " ، وما بينهما صفات فاصلة .
(2) قوله : " الشك والمرية . . . " خبر " كان " .
(3) قوله : " الموعود " منصوب معطوف على قوله " إن المتوعد . . .
" ، وقوله : " الغفران " منصوب باسم المفعول وهو " الموعود
" ، أي الذي وعد الغفران .
(4) في المطبوعة : " هو الذي أخفى وما يخفيه الهمة بالتقدم . . . " وفي
المخطوطة : " هو الذي إحفا وما يخفيه +الهمه " غير منقوطة بهذا الرسم :
وصواب قراءة المخطوطة هو ما أثبت .
(5) قوله : " أو على ترك . . . " معطوف على قوله آنفًا : " بالتقدم
على بعض ما نهاه . . . "
(6/122)
بالتقدم
عليه - لم يكن مأخوذا به ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
6498 - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم
تكتب عليه " . (1)
* * *
فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من
كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد
في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله : " ويعذب من يشاء "
.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : " وإن تبدوا ما في أنفسكم " ، أيها
الناس ، فتظهروه " أو تخفوه " ، فتنطوي عليه نفوسكم " يحاسبكم به
الله " ، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له ، ويعذب منافقكم
على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله عز وجل على العفو عما أخفته نفس هذا
المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في
توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ،
وعلى غير ذلك من الأمور قادر.
* * *
__________
(1) الأثر : 6498 - لم يذكر الطبري إسناده ، وأحاديث تجاوز الله عن حديث النفس في
مسلم 2 : 146 - 152 بغير هذا اللفظ ، ثم سائر كتب السنة .
(2) في المخطوطة : " فيعرف مؤمنيكم . . . ويعذب منافقيكم " بالجمع ،
والذي في المطبوعة أصح وأجود .
(6/123)
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
القول
في تأويل قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : صدق الرسول يعني رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فأقر " بما أنزل إليه " ، يعني : بما أوحي إليه من ربه من الكتاب
، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد وعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من
المعاني التي حواها.
* * *
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال : يحق له.
6499 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما
نزلت هذه الآية قال : ويحق له أن يؤمن. (1)
* * *
وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم
به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " ، لأن
المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما
أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم : لعلكم تقولون : " سمعنا وعصينا " كما قالت بنو إسرائيل!
فقالوا :
__________
(1) الأثر : 6499 - أخرج الحاكم في المستدرك 2 : 287 من طريق خلاد بن يحيى ، عن
أبي عقيل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس قال : " لما نزلت هذه الآية على
النبي صلى الله عليه وسلم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " قال
النبي صلى الله عليه وسلم : وأحق له أن يؤمن " . ثم قال الحاكم : " هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " واستدرك عليه الذهبي فقال : "
منقطع " .
(6/124)
بل
نقول : " سمعنا وأطعنا " ! فأنزل الله لذلك من قول النبي صلى الله عليه
وسلم وقول أصحابه : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله " ، يقول : وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله
وملائكته وكتبه ورسله ، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكتبه " .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق(وكتبه) على وجه جمع "
الكتاب " ، على معنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي
أنزلها على أنبيائه ورسله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : (وكتابه) ، بمعنى : والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " وكتابه " ، ويقول : الكتاب
أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [سورة العصر : 1 - 2] ، بمعنى جنس " الناس "
وجنس " الكتاب " ، كما يقال : " ما أكثر درهم فلان وديناره "
، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. (2) وذلك ، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ،
فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع ،
والذي بعده كذلك - أعني بذلك : " وملائكته وكتبه ورسله " - فإلحاق "
الكتب " في الجمع لفظا به ، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ
الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 6477 .
(2) انظر ما سلف 4 : 263 .
(6/125)
القول
في تأويل قوله تعالى : { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ }
قال أبو جعفر : وأما قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " ، فإنه أخبر جل
ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ : " لا
نفرق بين أحد من رسله " بالنون ، متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك
المتروك هو " يقولون " . وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر " يقولون
" لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : ( وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ )
[سورة الرعد : 23 - 24] ، بمعنى : يقولون : سلام.
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين : ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ب
" الياء " ، بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ،
لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون
بجميعهم ، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى
طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى ، والنصارى
الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحدوا نبوته ، ومن
أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله ، وأقروا ببعضه ، كما : -
6500 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " لا نفرق بين
أحد من رسله " ، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا : فلان نبي ،
وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون :
(6/126)
"
لا نفرق بين أحد من رسله " ، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض
، (1) الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط (2) بمعنى ما وصفنا من :
يقولون لا نفرق بين أحد من رسله (3) ولا يعترض بشاذ من القراءة ، على ما جاءت به
الحجة نقلا ووراثة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وقال الكل من المؤمنين : " سمعنا "
قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه " وأطعنا " ،
يعني : أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له
وقوله : " غفرانك ربنا " ، يعني : وقالوا : " غفرانك ربنا " ،
بمعنى : اغفر لنا ربنا غفرانك ، كما يقال : " سبحانك " ، بمعنى : نسبحك
سبحانك.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن " الغفران " و " المغفرة " ، الستر من
الله على ذنوب من
__________
(1) في المطبوعة : " التي قامت حجة . . . " ، وفي المخطوطة : "
التي قامت حجته " ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " التشاغر " بغين معجمة ، وهو خطأ غث . والصواب من
المخطوطة . و " تشاعروا الأمر ، أو على الأمر " ، أي تعالموه بينهم . من
قولهم : " شعر " أي " علم " . وهي كلمة قلما تجدها في كتب
اللغة ، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء . وانظر الرسالة
العثمانية للجاحظ : 3 ، وتعلق : 5 ، ثم ص : 263 ، وصواب شرحها ما قلت . وانظر ما
سيأتي ص : 155 ، تعليق 1 .
(3) في المطبوعة : " يعني ما وصفنا " ، والصواب من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " نقلا ورواية " ، وفي المخطوطة " نقلا وراثة
" ، وهي الصواب ، وآثرت زيادة الواو قبلها ، فإني أرجح أنها كانت كذلك . وقد
أكثر الطبري استعمال " وراثة " و " موروثة " فيما سلف ، من
ذلك فيما مضى في 4 : 33 " . . . بالحجة القاطعة العذر ، نقلا عن نبينا صلى
الله عليه وسلم وراثة . . . " / ثم في 5 : 238 " لخلافها القراءة المستفيضة
الموروثة . . . " . وانظر ما سيأتي ص : 155 ، تعليق : 1 .
(6/127)
غفر
له ، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة ، وعفوه عن العقوبة - عليه. (1)
* * *
وأما قوله : " وإليك " المصير " ، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا :
وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا ، فاغفر لنا ذنوبنا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : " غفرانك " ؟
قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت
محل الأمر ، وأدت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : " شكرا لله يا فلان
" ، و " حمدا له " ، بمعنى : اشكر الله واحمده. " والصلاة ،
الصلاة " . بمعنى : صلوا. ويقولون في الأسماء : " الله الله يا قوم
" ، ولو رفع بمعنى : هو الله ، أو : هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل
الأمر ، كان جائزا ، كما قال الشاعر : (3)
إن قوما منهم عمير وأشبا... ه عمير ومنهم السفاح (4) لجديرون بالوفاء إذا قا... ل
أخو النجدة : السلاح السلاح ! !
ولو كان قوله : " غفرانك ربنا " جاء رفعا في القراءة ، لم يكن خطأ ، بل
كان صوابا على ما وصفنا. (5)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 109 ، 110 .
(2) انظر ما سلف في تفسير " المصير " 3 : 56 .
(3) لم أعرف قائله .
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 188 ، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) 4 : 306 . ولم
أستطع تعييني " عمير " و " السفاح " ، فهما كثير .
(5) أكثر هذا من معاني القرآن للفراء 1 : 188 .
(6/128)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
الله
عليه وعلى أمته ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أحسن عليك
وعلى أمتك الثناء ، فسل ربك.
6501 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم بن جابر قال : لما
أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " ، قال جبريل : إن الله عز وجل قد
أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه! فسأل : " لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها " إلى آخر السورة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها ،
(2) فلا يضيق عليها ولا يجهدها.
* * *
__________
(1) الحديث : 6501 - بيان : هو ابن بشر الأحمسي ، مضت ترجمته في : 259 . "
حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي " : تابعي كبير ثقة ، أرسل عن النبي صلى
الله عليه وسلم . روى عن أبيه ، وعمر ، وابن مسعود ، وطلحة ، وعبادة بن الصامت .
وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد ، و " بيان " . ثقة . مات في آخر إمارة
الحجاج . وقيل سنة 82 ، وقيل سنة 95 . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/12 . وصرح
بأنه سمع عمر .
فهذا الحديث مرسل .
وذكره السيوطي 1 : 376 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم .
ونقله ابن كثير 2 : 89 ، عن هذا الموضع من الطبري . ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد
، من ناسخ أو طابع - هكذا : " عن سنان ، عن حكيم ، عن جابر " ؛ فصار
الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي . فيصحح من هذا
الموضع .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما
يسعها " وبين أن الناسخ عجل فزاد " إلا وسعها " ، والسياق يقتضي
تركها هنا ، فتركتها .
(6/129)
وقد
بينا فيما مضى قبل أن " الوسع " اسم من قول القائل : " وسعني هذا
الأمر " ، مثل " الجهد " و " الوجد " من : " جهدني
هذا الأمر " و " وجدت منه " ، (1) كما : -
6502 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاومة ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " قال : هم المؤمنون ، وسع
الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله جل ثناؤه : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [سورة الحج : 78] ، وقال : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [سورة البقرة : 185] ، وقال : (
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (2) [سورة التغابن : 16].
6503 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت ، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا
رسول الله ، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! (3) كيف نتوب من الوسوسة ؟ كيف
نمتنع منها ؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، " لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها " ، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.
6504 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها " ، وسعها ، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم
يطيقوا. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5 : 45 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " اتقوا الله . . " وأثبت نص القراءة .
(3) قوله : " هذا نتوب . . . " ، تعبير فصيح يكون مع التعجب ، وقد جاء
في الشعر ، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده .
(4) في المطبوعة : " مما لا يطيقون " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(6/130)
القول
في تأويل قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " لها " للنفس التي أخبر أنه لا
يكلفها إلا وسعها. يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير " وعليها " ،
يعني : وعلى كل نفس " ما اكتسبت " ، ما عملت من شر ، (1) كما : -
6505 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت " ، أي : من خير " وعليها ما
اكتسبت " ، أي : من شر - أو قال : من سوء.
6506 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط. عن السدي. " لها ما
كسبت " ، يقول : ما عملت من خير " وعليها ما اكتسبت " ، يقول :
وعليها ما عملت من شر.
6507 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتاده ، مثله.
6508 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
الزهري ، عن عبد الله بن عباس : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ، عمل
اليد والرجل واللسان.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها ،
ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ،
ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكسب " و " الاكتساب " فيما سلف 2 : 273 ،
274 / ثم 3 : 100 ، 101 ، 128 ، 129 / ثم 4 : 449 .
(6/131)
القول
في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
}
قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما
يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه : قولوا : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا "
شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله ، " أو أخطأنا " في فعل شيء نهيتنا عن
فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ ، كما :
-
6509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا ، أو
أخطأنا ، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا. (1)
6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال : بلغني أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما
حدثت به أنفسها. (2)
6511 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال ، زعم السدي أن هذه
الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال له
جبريل صلى الله عليه وسلم : فقل ذلك يا محمد.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام .
(2) الأثر : 6510 - أخرجه مسلم في صحيحه (2 : 146 ، 147) من طرق ، عن قتادة ، عن
زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ولفظه : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به
أنفسها ، ما لم يتكلموا أو يعملوا " .
(6/132)
قال
أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو
أخطأوا ، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟
قيل : إن " النسيان " على وجهين : أحدهما على وجه التضييع من العبد
والتفريط ، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به ، وضعف عقله عن
احتماله.
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منه لما أمر
بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به ، وهو "
النسيان " الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة ،
فقال في ذلك : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) [سورة طه : 115] ، وهو " النسيان " الذي قال جل
ثناؤه : ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) [سورة
الأعراف : 51]. فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن
نسينا أو أخطأنا " ، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي
وصفنا ، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا ، كفرا بالله عز
وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله ، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير
جائزة ، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما
قد أعلمهم أنه لا يفعله ، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة ، فيما كان من مثل
نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما ،
باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.
وأما الذي العبد به غير مؤاخذ ، لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل
بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه
لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ،
وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل
(6/133)
يحرص
على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز
بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان
، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له
باكتسابه.
* * *
وكذلك " الخطأ " وجهان :
أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به
مأخوذ. يقال منه : " خطئ فلان وأخطأ " فيما أتى من الفعل ، و " أثم
" ، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
الناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (3)
يعني : أخطأوا الصواب وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من
إثم عنه ، (4) إلا ما كان من ذلك كفرا.
والآخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به ، والظن منه بأن له فعله ، كالذي يأكل
في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر
__________
(1) في المطبوعة : " ما يتأثم فيه " ، والصواب من المخطوطة . وانظر معنى
" خطئ " فيما سلف 2 : 110 .
(2) هو عبيد بن الأبرص الأسدي ، وفي حماسة البحتري ، 236 " عبيد بن منصور
الأسدي " ، وكأنه تحريف .
(3) ديوانه : 54 ، وحماسة البحتري 236 واللسان (أمر) ورواية ديوانه : والناس يلحون
الأمير إذا غوى ... خطب الصواب . . . . . . . .
أما رواية اللسان ، فهي كما جاءت في الطبري . ولحاه يلحاه : لامه وقرعه . والأمير
: صاحب الأمر فيهم ، يأمرهم فيطيعونه . والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه
الله إلى الصواب . وهو شبيه بقول القطامي : والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما
يشتهى ، ولأم المخطئ الهبل
(4) استعمل أبو جعفر " الصفح " هنا بمعنى : الرد والصرف ، ولو كان من
قولهم " صفح عن ذنبه " لكان صواب العبارة " في صفحه عما كان منه من
إثم " . واستعمال أبي جعفر جيد صحيح .
(6/134)
صلاة
في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها ، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم
يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد ، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم
فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به.
* * *
وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه
لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ،
فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم (1)
وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية ، لمن وفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا }
قال أبو جعفر : ويعني بذلك جل ثناؤه : قولوا : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا
" ، يعني ب " الإصر " العهد ، كما قال جل ثناؤه : ( قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) [سورة آل عمران : 81].
وإنما عنى بقوله : " وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ) ولا تحمل علينا عهدا
فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه " كما حملته على الذين من قبلنا " ،
يعني : على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام
بها ، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه
وسلم - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها
__________
(1) انظر أمالي الشريف المرتضى 2 : 131 ، 132 .
(6/135)
أو
أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم
إياه ، مثل الذي أحل بمن قبلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
قي قوله : " لا تحمل علينا إصرا " ، قال : لا تحمل علينا عهدا وميثاقا ،
كما حملته على الذين من قبلنا. يقول : كما غلظ على من قبلنا.
6513 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن مجاهد في
قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " ، قال : عهدا (1)
6514 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " إصرا " ، قال : عهدا.
6515 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس في قوله : " إصرا " ، يقول : عهدا.
6516 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ربنا
ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " ، والإصر : العهد الذي
كان على من قبلنا من اليهود.
6517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" ولا تحمل علينا إصرا " ، قال : عهدا لا نطيقه ولا نستطيع
__________
(1) الأثر : 6513 - " موسى بن قيس الحضرمي " الفراء ، الكوفي ، لقبه :
" عصفور الجنة " . روى عن سلمة بن كهيل ، ومحمد بن عجلان ، ومسلم البطين
وغيرهم . روى عنه وكيع ، ويحيى بن آدم ، وأبو نعيم ، وغيرهم . قال أحمد : "
لا أعلم إلا خيرا " . وقال ابن سعد : " كان قليل الحديث " . ووثقه
ابن معين . وقال العقيلي : " كان من الغلاة في الرفض . . . يحدث بأحاديث
مناكير - أو : بواطيل " . مترجم في التهذيب .
(6/136)
القيام
به " كما حملته على الذين من قبلنا " ، اليهود والنصارى فلم يقوموا به ،
فأهلكتهم.
6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
: " إصرا " ، قال : المواثيق.
6519 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع : " الإصر " ، العهد. ( وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي ) [سورة آل عمران 81] ، قال : عهدي.
6520 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : ( وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، قال : عهدي.
وقال آخرون : " معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا ، كما حملت ذلك على
من قبلنا من الأمم ، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم " .
ذكر من قال ذلك :
6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن علي بن هارون ،
عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ولا تحمل علينا إصرًا كما
حملته على الذين من قبلنا " ، قال : لا تمسخنا قردة وخنازير. (1)
6522 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا
ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، لا تحمل علينا ذنبًا
ليس فيه توبةً ولا كفارة.
* * *
وقال آخرون : " معنى " الإصر " بكسر الألف : الثِّقْل " .
__________
(1) الأثر : 6521 - " سعيد بن عمرو السكوني " ، سلفت ترجمته في رقم :
5563 . أما " علي بن هارون " فلم أجده ، وأظن صوابه " يزيد بن هارون
" ، و " بقية بن الوليد " ، يروي عن " يزيد بن هارون "
ومات قبله . وهم جميعًا مترجمون في التهذيب .
(6/137)
ذكر
من قال ذلك :
6523 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله :
" ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، يقول :
التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
6524 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله :
" ولا تحمل علينا إصرًا " ، قال : الإصر ، الأمر الغليظ.
* * *
قال أبو جعفر : فأما " الأصر " ، بفتح الألف : فهو ما عَطف الرجلَ على
غيره من رَحم أو قرابة ، يقال : " أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه "
، بمعنى : عطفتني عليه. " وما يأصِرُني عليه " ، أي : ما يعطفني عليه.
" وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا " ، يعني به : عاطفة رَحم
تعطفني عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وقولوا أيضًا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما
لا نطيق القيام به ، لثِقَل حمله علينا.
وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.
ذكر من قال ذلك :
6525 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ربنا ولا
تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، تشديدٌ يشدِّد به ، كما شدّد على من كان قبلكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه " ،
وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة ، وهو الذي أثبته هنا .
(6/138)
6526
- حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قوله
: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا
نطيق.
6527 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ربنا
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا
به فنعجز عنه.
6528 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، مَسخُ القردة والخنازير.
6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال ، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال ،
حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، عن سالم بن شابور في قوله : " ربنا ولا تحملنا
ما لا طاقة لنا به " ، قال : الغُلْمة. (1)
6530 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ربنا
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من
التحريم.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق
القيام به ، على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا
يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم
،
__________
(1) الأثر : 6529 - " سلام بن سالم الخزاعي " ، سلفت ترجمته برقم : 252
. وأما " أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي " ، فهو " عمر بن سعيد بن
سليمان ، أبو حفص القرشي الدمشقي " ، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي ،
فكأنه نسب إليه . روى عن محمد بن شعيب ابن شابور . مترجم في التهذيب ، وتاريخ
بغداد (11 : 200) . و " محمد بن شعيب بن شابور " الدمشقي ، أحد الكبار .
روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي ، وغيرهما . كان يسكن بيروت ، وذكره
ابن حبان في الثقات . مات سنة 200 .
والغلمة : غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة .
(6/139)
فكان
إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين ، أولى مما خالف ذلك
المعنى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا }
قال أبو جعفر : وفي هذا أيضًا ، من قول الله عز وجل ، خبرًا عن المؤمنين من
مسألتهم إياه ذلك (1) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله :
" ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : "
واعف عنا " ، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض
ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من
فرائضه على أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6531 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واعف
عنا " ، قال : اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به.
* * *
وكذلك قوله : " واغفر لنا " ، يعني : واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما
بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.
* * *
وقد دللنا على معنى " المغفرة " فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) سياق العبارة : " وفي هذا أيضًا . . . الدلالة الواضحة " خبر ومبتدأ
.
(2) انظر ، ما سلف قريبًا : 127 ، 128 تعليق : 1 ، والمراجع هناك . وانظر فهارس
اللغة (غفر) .
(6/140)
6532
- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " واغفر لنا "
إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَارْحَمْنَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه
ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت
لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا ، كما : -
6533 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قوله : " وارحمنا
" ، قال يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا
برحمتك. (1) قال : ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (286) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أنت مَوْلانا " ، أنت وَليُّنا
بنصرك ، دون من عَاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ،
فأنت وليّ من أطاعك ، وعدوّ من كفر بك فعصاك ، " فانصرنا " ، لأنا حزْبك
__________
(1) في المطبوعة : " لا نترك " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ،
منصوبًا بقوله : " تنال " معطوفًا على قوله " العمل " .
(6/141)
"
على القوم الكافرين " ، الذين جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك
، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
* * *
و " المولى " في هذا الموضع " المفعَل " ، من : " وَلى
فلانٌ أمرَ فُلان ، فهو يليه وَلاية ، وهو وليُّه ومولاه " . (1) وإنما صارت
" الياء " من " ولى " " ألفًا " ، لانفتاح "
اللام " قبلها ، التي هي عينُ الاسم.
* * *
وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استجاب الله له في ذلك كله.
ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :
6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال ، حدثنا ورقاء ،
عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية :
" آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ، قال : قرأها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فلما انتهى إلى قوله : " غُفرانك ربنا " ، قال الله عز وجل
: " قد غفرت لكم. فلما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا
" ، قال الله عز وجل : لا أحملكم. فلما قرأ : " واغفر لنا " ، قال
الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم. فلما قرأ : " وارحمنا " ، قال الله عز
وجل : " قد رحمتكم " ، فلما قرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين
" ، قال الله عز وجل : قد نصرتُكم عليهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الولي " ، و " المولى " فيما سلف 2 : 489 ،
564 / ثم 5 : 424 .
(2) الحديث : 6534 - محمد بن خلف بن عمار العسقلاني ، شيخ الطبري : ثقة ، من شيوخ
النسائي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في : 126 .
آدم : هو ابن أبي إياس العسقلاني ، وهو ثقة مأمون . وكان مكينًا عند شعبة . وقد
مضت ترجمته في : 187 .
ورقاء : هو ابن عمر اليشكري ، أبو بشر . وهو كوفي ثقة ، أثنى عليه شعبة جدًا .
والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره ، لأنه من القدماء من
طبقة شعبة ، ولأنه كوفي ، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته .
وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من
الدواوين ، غير تفسير الطبري . فرواه هنا مرفوعًا ، ثم سيرويه بنحوه : 6540
موقوفًا على ابن عباس .
وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا ، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس . فهو
مؤيد لصحة هذا المرفوع .
ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة ، فهي مقبولة .
بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك . لأن ورقاء قديم ، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل
تغيره .
وأما ذاك الإسناد ، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء . وابن فضيل سمع من عطاء
بأخرة ، بعد تغيره . كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه 3/ 334 .
ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر ، كما مضى في : 6457 ، من رواية آدم بن سليمان
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهناك الإجابة بعد كل دعاء : " قد فعلت
" . وهنا الإجابة من لفظ الدعاء . والمعنى واحد .
والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء ، سهوًا من الناسخين ، عند قوله : "
فلما قرأ : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل : لا أحملكم
" . وفي الرواية الآتية : " قال : لا أؤاخذكم " ، ثم ذكر هناك ما
بعدها من الدعاء : (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -
" قال : لا أحمل عليكم " . وذاك هو السياق الصحيح الكامل ، الذي يدل على
نقص من هذا السياق هنا .
واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا ، لأنه كرر في متن الحديث : " فلما
انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل : قد غفرت لكم " - مرتين .
ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره .
(6/142)
6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، قل : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فعل. وقال له جبريل : قل : " ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فعل. فقال : قل " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، فقالها ، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : قد فعل. فقال : قل : " واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فَعل.
(6/143)
6536
- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال : زعم السدي أن هذه الآية
حين نزلت : " ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقال له جبريل :
فعل ذلك يا محمد " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا
على القوم الكافرين " ، فقال له جبريل في كل ذلك : فَعَل ذلك يا محمد.
6537 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي عن سفيان ،
عن آدم بن سليمان ، مولى خالد قال ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل
الله عز وجل : " آمن الرسول بما أنزل من ربه " إلى قوله : " ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا
أو أخطأنا " ، قال فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما
حملته على الذين من قبلنا " ، فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا
طاقه لنا به " ، قال : قد فعلت " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا
فانصرنا على القوم الكافرين " ، قال : قد فعلت. (1)
6538 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن العلاء
بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : أنزل الله عز وجل : "
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال : أبي : قال أبو هريرة : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : نعم. (2)
6539 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن آدم بن
__________
(1) الحديث : 6537 - هو مختصر من الحديث : 6457 ، بهذا الإسناد .
وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب ، كما أشرنا هناك .
(2) الحديث : 6538 - هو مختصر من الحديث : 6456 ، بهذا الإسناد . وقد أشرنا إليه
هناك .
(6/144)
سليمان
، عن سعيد بن جبير : " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما
اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال ويقول : قد فعلت "
ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، قال ويقول : قد
فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " ، ولم تعطها الأمم
قبلها. (1)
6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا عطاء بن السائب
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : " آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه " إلى قوله : " غفرانك ربنا " ، قال : قد غفرت لكم
" لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها " إلى قوله : " لا تؤاخذنا إن
نسينا أو أخطأنا " ، قال : لا أؤاخذكم " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما
حملته على الذين من قبلنا " ، قال : لا أحمل عليكم إلى قوله : " واعف
عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا " ، إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم
وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرُتكم على القوم الكافرين. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6539 - هو حديث مرسل . وهو بعض الحديث الماضي : 6464 ، بهذا الإسناد
.
ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة " أبو حميد " ، بدل " أبو أحمد
" . وهو خطأ يقينًا ، فإنه " أبو أحمد الزبيري ، محمد بن عبد الله بن
الزبير " ، كما بينا في : 6463 .
ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله " أبو حميد " ، وبين " سفيان
" . وآخر بين قوله " عن سعيد بن جبير " ، وبين الآية .
ولعل كاتبها شك في قوله " عن سفيان " ، وظنه كالرواية الماضية "
حدثنا سفيان " ، فترك مكان " حدثنا " بياضا . ثم شك في ذكر الآية
بعد اسم " سعيد بن جبير " ، دون تمهيد لها بقوله " فنزلت هذه الآية
" ، كما في الرواية الماضية ، فترك لذلك بياضًا .
(2) الحديث : 6540 - علي بن حرب بن محمد بن علي ، أبو الحسن الطائي الموصلي : ثقة
ثبت ، وثقه الدارقطني وغيره . وكان عالمًا بأخبار العرب ، أديبًا شاعرًا . روى عنه
النسائي ، وأبو حاتم ، وابنه ، وترجمه 3/1/183 . وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 11
: 418 - 240 .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 6534 ، بنحوه . وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى ، وذاك
مرفوع لفظًا ومعنى . وذاك أرجح إسنادًا وأصح ، كما بينا هناك .
وذكر ابن كثير 2 : 89 قطعة منه ، من رواية ابن أبي حاتم ، عن علي بن حرب الموصلي ،
بهذا الإسناد . فلا ندري : أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا ، أم اختصره ابن كثير
؟
(6/145)
وروى
عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة :
6541 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
يقول في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " : كان جبريل
عليه السلام يقول له : سلها! (1) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه ، فأعطاه إياها
، (2) فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً.
6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي
إسحاق : أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة : " وانصرنا على القوم
الكافرين " ، قال : آمين. (3)
* * *
آخر تفسير سورة البقرة
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " . . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي
الله " وما بين الكلام بياض ، وأئمته المطبوعة كما ترى . أما الدر المنثور 1
: 378 فقال : " أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال : كان 3 عليه
الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه . . . " ورقم " 3 " دلالة على
سقط في الكلام . فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ ، ولذلك ترك له السيوطي
بياضًا في نسخته من الدر المنثور .
(2) في المخطوطة : " فأعطاها إياها " ، وأثبت ما في المطبوعة ، لأنه
موافق لما في الدر المنثور .
(3) الأثر : 6542 - في تفسير ابن كثير 2 : 91 ، والدر المنثور 1 : 378 وفيهما
تخريجه .
وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه :
" آخر تفسير سورة البقرة "
" والحمد لله أولا وآخرًا ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم "
" يتلوه تفسير سورة آل عمران . الحمد لله رب العالمين " .
(6/146)
تفسير سورة آل عمران
(6/147)
الم (1)
بسم
الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّر
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد : (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }
قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن معنى قوله : " ألم " فيما مضى ،
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله : " الله "
. (3)
* * *
وأما معنى قوله : " لا اله إلا هو " ، فإنه خبرٌ من الله جل وعز ، أخبرَ
عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد ، وأن العبادة لا
تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية ، وتوحُّده بالألوهية ، وأن كل ما دونه
فملكه ، وأنّ كل ما سواه فخلقه ، لا شريك له في سلطانه ومُلكه (4) احتجاجًا منه
تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك ، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره ، ولا إشراك
أحد معه في سلطانه ، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه ، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ ،
وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه ، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه
__________
(1) في المطبوعة : " أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، رضي الله
عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1 : 205 - 224.
(3) انظر ما سلف 1 : 122 - 126.
(4) سياق العبارة : " أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... احتجاجًا منه تعالى
ذكره عليهم " .
(6/148)
ومعرِّفًا
مَنْ كان مِنْ خَلقه (1) يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنزيله
ذلك إليه ، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (2) مقيمًا على
عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت
بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (3) - (4) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا
وربًّا (5) أنه مقيم على ضلالة ، ومُنعدلٌ عن المحجة ، (6) وراكبٌ غير السبيل
المستقيمة ، بصرفه العبادة إلى غيره ، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به
: من نفي " الألوهية " أن تكون لغيره ، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في
ابتدائها ، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه ، وألحدوا في الله. فأنزل
الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها ، (7)
احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم ، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ،
فأبوا إلا المقام على
__________
(1) قوله : " ومعرفًا " ، في المطبوعة والمخطوطة " ومعرف " ،
والصواب نصبها ، لأن سياق الجملة " أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... معرفًا
من كان من خلقه... " ، أما الواو العاطفة في قوله : " ومعرفًا " ،
فليست تعطف " معرفًا " على " احتجاجًا " فهذا غير جائز ، بل
هي عاطفة على جملة " أخبر عباده... " ، كأنه قال " وأخبرهم ذلك
معرفًا " .
(2) السياق " ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن. . . " .
(3) الإلاهة : عبادة إله ، كما سلف في تفسيره 1 : 124.
(4) في المطبوعة : " ومتخذته دون مالكه... " ، وهو لا يستقيم ، وقد أشكل
عليه قوله قبل " التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته " ، فظن هذا معطوفا
عليه ، وهو خطأ مفسد للسياق ، بل هو معطوف على قوله : " مقيما على عبادة وثن
" .
(5) سياق الجملة : " ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن... أنه
مقيم على ضلالة... " .
(6) في المطبوعة : " ومنعزل " وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهي
فيها غير منقوطة ، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق : مال عنه وانحرف. يقال
: عدل عن الشيء : حاد ، وعدل عن الطريق : جار ومال واعوج سبيله.
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " نيفًا وثلاثين آية " ، وهو خطأ صرف ،
فالتنزيل بين عدده ، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا " ... إلى بضع
وثمانين آية " .
(6/150)
ضلالتهم
وكفرهم ، فدعاهم إلى المباهلة ، فأبوا ذلك ، وسألوا قَبول الجزية منهم ، فقبلها
صلى الله عليه وسلم منهم ، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك ، وإياهم قصد بالحِجاج ، فإن من كان معناه من سائر
الخلق معناهم في الكفر بالله ، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا ،
معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه ، ومحجوجون
في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (1)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا
صفتهم من النصارى : -
6543 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ،
عن محمد بن جعفر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران : (2) ستون
راكبًا ، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم ، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول
أمرُهم : " العاقب " أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم ، والذي لا
يصدرون إلا عن رأيه ، واسمهُ " عبد المسيح " و " السيد "
ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم ، واسمه " الأيهم " (3) وأبو حارثة بن
علقمة أخو بكر بن وائل ، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (4) وكان
أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم من
أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه ، وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه
الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " لرسول الله... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في ابن هشام : " وفد نصارى نجران " . ثمال القوم : عمادهم وغياثهم
ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(3) في ابن هشام : " وفد نصارى نجران " . ثمال القوم : عمادهم وغياثهم
ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(4) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم ، ويعني
بقوله : " صاحب مدراسهم " ، عالمهم الذي درس الكتب ، يفتيهم ويتكلم
بالحجة في دينهم.
(5) في المطبوعة : " في دينه " ، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد
أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق ، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2 : 222 -
223 ، كما سيأتي في التخريج.
(6/151)
قال
ابن إسحاق قال ، محمد بن جعفر بن الزبير : (1) قدموا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب
وأرْدية ، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب (2) قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! وقد حانت
صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
قال : وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم : " العاقب
" ، وهو " عبد المسيح " ، والسيد ، وهو " الأيهم " ، و
" أبو حارثة بن علقمة " أخو بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس
، ويزيد ، وُنبيه ، وخويلد ، وعمرو ، (3) وخالد ، وعبد الله. ويُحَنَّس : في ستين
راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم : " أبو حارثة بن علقمة
" ، و " العاقب " ، عبد المسيح ، و " الأيهم " السيد ،
وهم من النصرانية على دين الملك ، (4) مع اختلاف من أمرهم. يقولون : " هو
الله " ، ويقولون : " هو ولد الله " ، ويقولون : " هو ثالث
ثلاثة " ، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " ، بأنه كان يُحيي الموتى ، ويبرئ
الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا
، وذلك كله بإذن الله ، ليجعله آية للناس. (5)
__________
(1) في ابن هشام : " فلما قدموا... " .
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح
الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر ، وهو
من جياد الثياب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وخويلد بن عمرو " ، وهو خطأ ، صوابه من
ابن هشام.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وهو من النصرانية " ، والصواب من ابن
هشام.
(5) في ابن هشام : " ولنجعله آية للناس " ، كنص الآية.
(6/152)
ويحتجون
في قولهم : " إنه ولد الله " ، أنهم يقولون : " لم يكن له أب يُعلم
، وقد تكلم في المهد ، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله " . (1)
ويحتجون في قولهم : " إنه ثالث ثلاثة " ، بقول الله عز وجل : "
فعلنا ، وأمَرنا ، وخلقنا ، وقضينا " . فيقولون : " لو كان واحدًا ما
قال : إلا " فعلت ، وأمرتُ وقضيتُ ، وخلقت " ، ولكنه هو وعيسى ومريم
" .
ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن ، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه
قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلما! قالا قد
أسلمنا. قال : إنكما لم تسلما ، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال : كذبتما
، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا ، وعبادتكما الصليبَ ، وأكلكما
الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم
يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله ، صدرَ " سورة آل
عمران " إلى بضع وثمانين آية منها. فقال : " ألم الله لا إله إلا هو
الحي القيوم " ، (2) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا ،
(3) وتوحيده إياها بالخلق والأمر ، لا شريك له فيه رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من
الكفر ، (4) وجعلوا معه من الأنداد واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم ، ليعرّفهم
بذلك ضلالتهم ، فقال : " اللهُ لا إله إلا هو " ، أي : ليس معه شريك في
أمره. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " بشيء لم يصنعه... " ، وهو كلام فاسد ، والصواب من
المخطوطة. وفي ابن هشام : " وهذا لم يصنعه... " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر " ألم " ، وأثبتها من ابن هشام.
(3) في المطبوعة : " بتبرئة نفسه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وفي ابن
هشام : " بتنزيه نفسه " .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وردًا عليه " بواو العطف ، وهو خطأ ،
والصواب من ابن هشام.
(5) الأثر : 6543 - في ابن هشام : " ليس معه غيره شريك في أمره " .
والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا ، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة
ابن هشام 2 : 222 - 225.
(6/153)
6544
- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع
في قوله : " ألم اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم " ، قال : إنّ النصارى
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له : من
أبوه ؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا
، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو
يشبه أباه ؟ قالوا : بلى! قال : ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى
يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى! قال : ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء
يكلأهُ ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا : بلى! قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا ؟ قالوا :
لا! قال : أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
؟ قالوا : بلى! قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم ؟ قالوا : لا! قال
: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون ذلك ؟ قالوا : بلى! (1) قال
: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث ؟ قالوا
: بلى! قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، (2) ثم وضعته كما
تضع المرأة ولدها ، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ ، ثم كان يَطعم الطعام ، ويشرب
الشرابَ ويُحدث الحدَث ؟ قالوا بلى! قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ قال : فعرفوا
، ثم أبوا إلا جحودًا ، فأنزل الله عز وجل : " ألم * اللهُ لا إله إلا هو
الحي القيوم "
* * *
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور 2 : 3 ما نصه : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم
كيف شاء قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب " ، إلا
أن الدر المنثور قد أسقط " قال " من هذه العبارة. أما البغوي (هامش
تفسير ابن كثير) 2 : 93 : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا
يأكل ولا يشرب " . وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى
، كان فيها هذا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أن عيسى حملته امرأة... " والصواب "
أمه " ، كما في الدر المنثور والبغوي.
(6/154)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
القول
في تأويل قوله : { الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار(الْحَيُّ الْقَيُّوم).
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما : ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ).
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : ( الْحَيُّ الْقَيِّمُ ).
6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال ، حدثنا عثام بن علي قال ، حدثنا الأعمشُ ، عن
إبراهيم ، عن أبي معمر قال ، سمعت علقمة يقرأ : " الحيّ القيِّم " .
قلتُ : أنت سمعته ؟ قال : لا أدري.
6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم
، عن أبي معمر ، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك ، وهو ما : -
6547 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا شيبان ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن علقمة أنه قرأ : " الحيّ القيَّام " .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ، ما جاءت به قَرَأة
المسلمين نقلا مستفيضًا ، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ ، وراثةً ، (1) وما كان مثبتًا
في مصاحفهم ، وذلك قراءة من قرأ ، " الحي القيُّومُ " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " تشاغر " ، بالغين ، وهو خطأ ، وانظر ما سلف : 127
تعليق : 2. وانظر ما قلته عن قوله : " وراثة " فيما سبق ص : 127 تعليق :
3.
(6/155)
القول
في تأويل قوله : { الْحَيُّ } " اختلف أهل التأويل في معنى قوله : "
الحيّ " . (1)
فقال بعضهم : معنى ذلك من الله تعالى ذكره : أنه وصف نفسه بالبقاء ، ونفى الموتَ -
الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك :
6548 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ،
عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحي " ، الذي لا يموت ، وقد مات عيسى
وصُلب في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم
من نصارى أهل نجران. (2)
6549 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : " الحي " ، قال : يقول : حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون : معنى " الحي " ، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية ،
ووصف به نفسه : أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده
، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً ، ولا تزال
كذلك. وقالوا ، إنما وصف نفسه بالحياة ، لأن له حياة كما وصفها
__________
(1) انظر تفسير : " الحي " فيما سلف 5 : 386 ، 387.
(2) الأثر : 6548 - سيرة ابن هشام 2 : 225 ، وهو من بقية الأثر السالف : 6543.
(6/156)
بالعلم
، لأن لها علمًا وبالقدرة ، لأن لها قدرةٌ.
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى ذلك عندي : (1) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ
لها ولا انقطاع ، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع
الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة ،
والحي الذي لا يموت ولا يبيد ، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا ، ويبيد كلُّ من
ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى ، فلا يكون
إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت وأنّ الإله ، هو الدائم
الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى ، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله : { الْقَيُّومُ }
قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك ، والذي نختار منه ، وما العلة التي
من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها ، فمتقارب. ومعنى ذلك كله
: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل
وزيادة ونقص ، كما : -
6550 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى بن ميمون قال ،
حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : " الحي القيوم "
، قال : القائم على كل شيء.
__________
(1) انظر تفسير " الحي " فيما سلف 5 : 386 ، 387.
(6/157)
6551
- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله.
6552 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " القيوم " ، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون : " معنى ذلك : القيام على مكانه " . ووجَّهوه إلى القيام
الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال ، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها
بذلك ، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان ، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في
الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك :
6553 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " القيوم " ، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ،
وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم
من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأنّ ذلك وصفٌ من
الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءَته
وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : " فلان قائم بأمر هذه البلدة " ،
يعنى بذلك : المتولي تدبيرَ أمرها.
__________
(1) الأثر : 6553 - في المخطوطة والمطبوعة : " عمر بن إسحاق " وهو خطأ
بين ، وهذا إسناد أبي جعفر إلى " محمد بن إسحاق " ، الذي يدور في
تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين : 6543 ، 6548 ، في سيرة ابن هشام 2 :
225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر : " القيام على مكانه " ، مكان
" القائم على مكانه " والصواب من سيرة ابن هشام.
(6/158)
فـ
" القيوم " إذ كان ذلك معناه " الفيعول " من قول القائل :
" الله يقوم بأمر خلقه " . وأصله " القيووم " ، غير أن "
الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة
وهي متحركة ، قلبت " ياء " ، فجعلت هي و " الياء " التي قبلها
" ياء " مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ " الواو " المتحركة
إذا تقدمتها " ياء " ساكنة. (1)
* * *
وأما " القيَّام " ، فإن أصله " القيوام " ، وهو "
الفيعال " من " قام يقوم " ، سبقت " الواو " المتحركة من
" قيوام " " ياء " ساكنة ، فجعلتا جميعًا " ياء "
مشدّدة.
ولو أن " القيوم " " فَعُّول " ، كان " القوُّوم "
، ولكنه " الفيعول " . وكذلك " القيّام " ، لو كان "
الفعَّال " ، لكان " القوَّام " ، كما قيل : " الصوّام
والقوّام " ، وكما قال جل ثناؤه : ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ ) [سورة المائدة : 8] ، ولكنه " الفيعال " ، فقيل : "
القيام " .
* * *
وأما " القيِّم " ، فهو " الفيعل " من " قام يقوم "
، سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة ، فجعلتا " ياء
" مشددة ، كما قيل : " فلان سيدُ قومه " من " ساد يسود "
، و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود " ، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح ، فكان "
القيوم " و " القيّام " و " القيم " أبلغ في المدح من
" القائم " ، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته ، إن شاء الله ،
" القيام " ، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من
" الياء " " الواو " ، فيقولون للرجل الصوّاغ :
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " القيوم " : 5 : 388 ، 389 ، وهنا زيادة في
" القيام " و " القيم " لم يذكرها هناك.
(6/159)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
"
الصيّاغ " ، ويقولون للرجل الكثير الدّوران : " الدَّيار " . (1)
وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه : ( لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا ) [سورة نوح : 26] إنما هو " دوّار " ، " فعَّالا "
من " دار يَدُور " ، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقِرّت كذلك في
المصحف.
* * *
القول في تأويل قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : يا محمد ، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء ، هو
الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب يعني بـ " الكتاب " ، القرآن " بالحق
" يعني : بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل ، وفيما خالفك فيه
محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم " مُصَدّقًا لما بين يديه
" ، يعني بذلك القرآن ، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على
أنبيائه ورسله ، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (2) لأن منزل جميع ذلك واحد
، فلا يكون فيه اختلاف ، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6554 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 110.
(2) في المخطوطة " ومخفو ما جاءت به رسل الله " ، وهو خطأ ، والصواب ما
في المطبوعة.
(6/160)
عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مصدقًا لما بين يديه " . قال : لما قبله من
كتاب أو رسول.
6555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " مصدقًا لما بين يديه " ، لما قبله من كتاب أو رسول.
6556 - حدثني محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنى محمد بن إسحاق ، عن محمد
بن جعفر بن الزبير : " نزل عليك الكتاب بالحق " ، أي بالصدق فيما
اختلفوا فيه. (1)
6557 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " نزل عليك
الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه " ، يقول : القرآن ، " مصدّقًا لما
بين يديه " من الكتب التي قد خلت قبله.
6558 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه " ، يقول :
مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ
قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وأنزل التوراة " ، على موسى
" والإنجيل " على عيسى " من قبل " ، يقول : من قبل الكتاب
الذي نزله عليك ويعني بقوله : " هُدًى للناس " ، بيانًا للناس من الله
فيما اختلفوا فيه
__________
(1) الأثر : 6556 - هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها آنفًا رقم : 6553.
(6/161)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
من
توحيد الله وتصديق رسله ، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى ، (1) وفي غير ذلك
من شرائع دين الله ، كما : -
6559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وأنزل
التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " ، هما كتابان أنزلهما الله ، فيهما
بيانٌ من الله ، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به ، وعمل بما فيه.
6560 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " وأنزل التوراة والإنجيل " ، التوراة على موسى ، والإنجيل على
عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت
فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ " الفرْقان " ، إنما هو " الفعلان " من
قولهم : " فرق الله
__________
(1) في المطبوعة : " ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي " ، وفي المخطوطة
هكذا : " وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي " ، الحرف الأول حاء ، والثاني
" فاء " والثالث " ياء " ، والرابع كالدال ، إلا أنه بالكاف
أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة : " نعتيك " ، لأن الله لما نعت محمدًا
بأنه نبيه ورسوله ، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران
، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله " ونعتيك " معطوف على
قوله : " من توحيد الله ، وتصديق رسوله " ، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في
المطبوعة ، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا.
(2) الأثر : 6560 - هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها رقم : 6556 ، وفي
المطبوعة " على من كان قبلهما " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(6/162)
بين
الحق والباطل " ، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل ، (1) إما بالحجة
البالغة ، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل ، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين
الحق والباطل في أمر عيسى وبعضهم : إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام
الشرائع.
ذكر من قال : معناه : " الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب "
:
6561 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " وأنزل الفرقان " ، أي : الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف
فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (3)
* * *
ذكر من قال : معنى ذلك : " الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام
" :
6562 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وأنزل
الفرقان " ، هو القرآن ، أنزله على محمد ، وفرق به بين الحق والباطل ، فأحلّ
فيه حلاله وحرّم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحدّ فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضَه
، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته.
6563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " وأنزل الفرقان " ، قال : الفرقان ، القرآن ، فرق بين الحق
والباطل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يفصل بينهما... بالحق " مضارعًا ،
والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته.
(2) انظر ما سلف 1 : 98 ، 99 / ثم 3 : 448. وفي المطبوعة " بالأيدي "
بالياء في آخره ، وهو خطأ. والأيد : الشدة والقوة.
(3) الأثر : 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها : 6560.
(6/163)
قال
أبو جعفر : والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة
من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى " الفرقان " في
هذا الموضع : فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر
عيسى ، وفي غير ذلك من أموره ، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من
أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل
إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله : " نزل عليك
الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه " . ولا شك أن ذلك " الكتاب "
، هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست
في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على
توحيده وألوهته ، وأن عيسى عبدٌ له ، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا ، أو ادَّعوه
لله ولدًا ، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و " الذين كفروا " ، هم الذين جحدوا آيات الله و " آيات الله
" ، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (1)
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف " كفر " و " أبى " .
(6/164)
وهذا
القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله : (1) " وأنزل الفرقان " أنه
معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (2) لأنه عقب ذلك بقوله :
" إن الذين كفروا بآيات الله " ، يعني : إن الذين جحدوا ذلك الفصل
والفرقانَ الذي أنزله فرقًا بين المحق والمبطل " لهم عذاب شديدٌ " ،
وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له ، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة
عليه ثم أخبرهم أنه " عزيز " في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه
منهم ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ وأنه " ذو
انتقام " ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه ، وبعد وضوحها له ومعرفته
بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6564 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام
" ، أي : إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء منه
فيها. (3)
6565 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام
" ،
.........................................................................
............................................................................
(4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " يعني عن معنى قوله " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة... " ،
وقوله : " عن " زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ ، فلذلك
أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(3) الأثر : 6564 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6561.
(4) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم : 6565 ، والأخبار بعده ، إن كانت
بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.
(6/165)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
القول
في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي
السَّمَاءِ (5) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا
شيء هو في السماء. يقول : فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما
يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم ،
في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ ! كما : -
6566 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " ، أي :
قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه ربًّا
وإلهًا ، وعندهم من علمه غيرُ ذلك ، غِرّةً بالله وكفرًا به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
}
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في
أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب ، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر.
يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء ، ممنّ صوره وخلقه كيف
شاء (2) وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في
__________
(1) الأثر : 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6564 ، من سيرة ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة : " ممن صوره " بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من
المخطوطة.
(6/166)
رحم
أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه
، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على
المخلوقين ، كما : -
6567 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، أي : (1) قد كان
عيسى ممن صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صُوّر غيره من بني
آدم ، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل ؟ (2)
6568 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن
الربيع : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، أي : أنه صوّر عيسى
في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما : -
6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن
مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " هو الذي يصوّركم
في الأرحام كيف يشاء " ، قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد
أربعين يومًا ، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا ، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا ، فإذا
بلغ أن يُخلق ، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه ، فيخلطه
في المضْغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوّرها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ؟ أشقي
أو سعيد ، وما رزقه ؟ وما عمره ؟ وما أثره ؟
__________
(1) " أي " ساقطة من المخطوطة والمطبوعة ، وأثبتها من سيرة ابن هشام ،
وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.
(2) الأثر : 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6566 عن ابن إسحاق.
(6/167)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
وما
مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ ، دُفن حيث أخذ ذلك
التراب. (1)
6570 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " هو
الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في
الأرحام كيف يشاء ، من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قال أبو جعفر : وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته
ندّ أو مِثل ، أو أن تَجوز الألوهة لغيره وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما
قالوا ، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر من
كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا
، أو أقرّ بربوبية غيره. (2) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته ، وعيدًا منه لمن عبد
غيره ، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه ، فقال : " هو العزيز " الذي لا
ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ ، (3) وذلك
لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود. (4) ثم أعلمهم أنه "
الحكيم "
__________
(1) الأثر : 6569 - قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم : 168. وحديث خلق الآدمي
في بطن أمه بغير هذا اللفظ ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16 : 189 - 195 ، وفي
البخاري في كتاب " بدء الخلق " في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب "
الحيض " باب : مخلقة وغير مخلقة.
(2) قوله : " ولجميع من ادعى... " معطوف على قوله : " وتكذيب للذين
قالوا.. " .
(3) " وأل " (بفتح الواو وسكون الهمزة ، على وزن سمع) : هو الموئل ، وهو
الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و " لجأ " (بفتح اللام والجيم) : هو
الملجأ ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(4) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.
(6/168)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
في
تدبيره وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة ،
ويحيا من حيَّ عن بينة ، (1) كما : -
6571 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير قال : ثم قال - يعني الرب عز وجل - : إنزاهًا لنفسه ، وتوحيدًا لها مما
جعلوا معه : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، قال : العزيز في انتصاره
ممن كفر به إذا شاء ، (2) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (3)
6572 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، يقول : عزيز في نقمته ،
حكيمٌ في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " ،
إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب
يعني ب " الكتاب " ، القرآن.
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " في نصرته " وهو خطأ في المعنى ، فإن
" النصرة " ، اسم من " النصر " وهو لا مكان له هنا. وأما
" الانتصار " فهو : الانتقام. وانتصر منه : انتقم.
(3) في ابن هشام : " في حجته وعذره إلى عباده " ، وهي أجود لمكان "
إلى " من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا : بلغ الغاية في إرشاده حتى لم
يبق موضع للاعتذار.
(6/169)
وقد
أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن " كتابًا "
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات. يعني ب
" الآيات " آيات القرآن.
وأما " المحكمات " ، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت
حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ،
وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعِبر ، وما أشبه ذلك.
* * *
ثم وصف جل ثناؤه : هؤلاء " الآيات المحكمات " ، بأنهن : " هُنّ أمّ
الكتاب " (2) . يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض
والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في
عاجلهم وآجلهم.
* * *
وإنما سماهن " أمّ الكتاب " ، لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مَفزَع أهله
عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامعَ معظم الشيء " أمًّا
" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر : " أمّهم " ،
والمدبر معظم أمر القرية والبلدة : " أمها " .
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
ووحَّد " أمّ الكتاب " ، ولم يجمع فيقول : هن أمَّهات الكتاب ، وقد قال
: " هُنّ " لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب " ،
لا أن كل آية منهن " أم الكتاب " . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن
" أم الكتاب " ،
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 99 / ثم 3 : 86 وفهارس اللغة.
(2) في المخطوطة " بأنهن من الكتاب " وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر ما سلف 1 : 107 ، 108.
(6/170)
لكان
لا شك قد قيل : " هن أمهات الكتاب " . ونظير قول الله عز وجل : "
هن أمّ الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر
لـ " هُنّ " ، قوله تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً ) [سورة المؤمنون : 50] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا
جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (1) ولو كان مرادًا
الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده ، (2) بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا
ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت
من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا ، فكان في كل واحد منهما للناس
آية.
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : " هن أم الكتاب " ، ولم يَقل :
" هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : " ما لي
أنصار " ، فتقول : " أنا أنصارك " أو : " ما لي نظير " ،
فتقول : " نحن نظيرك " . (3) قال : وهو شبيهُ : " دَعنى من
تَمرْتَان " ، وأنشد لرجل من فقعس : (4)
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا
لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (5)
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كان المعنى وإحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة "
وهو كلام بلا معنى ، ولكن الناقل عن المخطوطة لم يحسن القراءة ، فإن الألف الأخيرة
في " واحدًا " نزلت في مستقر الفاء من " فيما " غير منقوطة ،
فظنها " وإحداثهما " ، وبدل " جعلا " فصيرها " جعلنا
" ، وهذا من عجائب الخلط.
(2) في المطبوعة : " ولو كان مراده الخبر... " والصواب الجيد من
المخطوطة.
(3) ربما كان الصواب : " ما لي نصير " ، فتقول : " نحن نصيرك
" ، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه.
(4) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال : " منظور بن فروة بن
مرثد " ، وهو نفسه " منظور بن حبة الفقعسي الأسدي " ، و " حبة
" أمه ، ويعرف بها.
(5) مجالس ثعلب : 602 (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية : 248 - 251
، وسر صناعة الإعراب 1 : 177 - 179 / ثم 235 ، واللسان (طول) (قتل) ، وغيرها.
ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب " بمجاز حل " ، والأخير " عن
قتللى " ، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته. "
والطول " (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل
الذي يطول للدابة فترعى فيه ، وإنما شدد الراجز. لم تأل : لم تقصر. والضمير في هذا
الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات : مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ
لَيْلَى? مَنْ لِي? ... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ?
(6/171)
"
حَلِّ " أي : يحلّ به. (1) على الحكاية ، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك ، كما يقول
: " نوديَ : الصلاةَ الصلاةَ " ، يحكي قول القائل : " الصلاةَ
الصلاةَ " .
وقال : قال بعضهم : إنما هي : " أنْ قتلا لي " ، ولكنه جعله "
عينًا " ، (2) لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن " ،
والنصبُ على الأمر ، كأنك قلت : " ضربًا لزيد " .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها ، (3) لا
شك أنهن حكايات حاكيهنّ ، (4) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن
معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله : " أمّ الكتاب " ، فيجوز
أن يقال : أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (5)
* * *
وأما قوله : " وأخَرُ " فإنها جمع " أخْرَى " . (6)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " كل أي يحكى به على الحكاية " ، وهو كلام فاسد ،
ولكن العجب للذي أراد أن يصححه فقال : " لعل أصلها كما هو المفهوم من السياق
: لم يقل ، عن قتل ، وأتى به على الحكاية " ، أراد أن يصحح ، فكرر الكلام ،
وهو أسخف ما يكون. بيد أن القارئ الذي نقل عن المخطوطة ، لم يحسن قراءة نصها ،
فأفسدها إفسادًا ، ولكنها بينة كما كتبتها من رسم المخطوطة.
وقوله " بمكان حل " ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين "
مكان " و " مجاز " ، وكسر الحاء من " حل " . ولا أظنه
صوابًا ، فلم أجدهم يقولون : " مكان حل " بكسر الحاء ، وإنما هو بفتحها
بالإضافة ، لا بالنعت : " : حل بالمكان حلولا وحلا " . أي : نزل به.
وقوله : " على الحكاية " في سياق قوله : " وأنشد لرجل من فقعس...
" .
(2) في المطبوعة : " جعله عن " ، ولا خير في هذا التغيير ، والذي في
المخطوطة عين الصواب.
(3) في المطبوعة : " استشهد بها " ، والذي في المخطوطة صواب عريق في
العربية.
(4) في المطبوعة : " حكايات حالهن " ، وهو كلام لا مفهوم له. وفي
المخطوطة " حالسهن " ولم يضع شرطة الكاف ، فلذلك اشتبهت على الناسخ.
(5) في المخطوطة : " أخرج ذلك محلر الحكاية " ، وكأن الصواب المحض ما في
المطبوعة ، وهذا تحريف من عجلة الناسخ ، أراد أن يكتب " مخرج " ، فزاد
القلم لامًا ، ثم راجع راء ، ثم أسقط الجيم.
(6) انظر ما سلف 3 : 459. وفي المطبوعة : " جمع آخر " ، وفي المخطوطة ،
بغير مدة على الألف ، ورجحت أن تكون " أخرى " ، لما مضى من قوله في ذلك
ولما سيأتي بعد قليل ، ولأنه القياس.
(6/172)
ثم
اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخَر " .
فقال بعضهم : لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعتٌ ، واحدتها " أخرى
" ، كما لم تصرف " جُمَع " و " كُتَع " ، لأنهن نعوتٌ.
* * *
وقال آخرون : إنما لم تصرف " الأخر " ، لزيادة الياء التي في واحدتها ،
وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا : وإنما ترك صرف " أخرى
" ، كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء " ، في النكرة
والمعرفة ، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (1) ثم افترق جمع " حمراء
" و " أخرى " ، فبنى جمع " أخرى " على واحدته فقيل :
" فُعَلٌ " و " أخر " ، (2) فترك صرفها كما ترك صرف "
أخرى " وبنى جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته
فصرف ، فقيل : " حمر " و " بيض " ، فلاختلاف حالتهما في الجمع
، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة ، اتفقت حالتاهما
فيها.
* * *
وأما قوله : " متشابهات " ، فإن معناه : متشابهات في التلاوة ، مختلفات
في المعنى ، كما قال جل ثناؤه : ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) [سورة البقرة :
25] ، يعني في المنظر ، مختلفًا في المطعم (3) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من
بني إسرائيل أنه قال : ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) [سورة البقرة :
70] ، يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه. (4)
* * *
__________
(1) تركت قوله : " بالواو " على حاله ، فإني لم أستطع أن أرجح زيادتها ،
ولم أعرف ما أراد بها إلا أن يكون أراد بها ألف التأنيث المقصورة ، كالتي في
" حبلى " . والأخرى ألف التأنيث الممدودة.
(2) المرجح عندي أن قوله : " فعل " زيادة من الناسخ.
(3) انظر ما سلف 1 : 385 - 394.
(4) انظر ما سلف 2 : 209 - 211.
(6/173)
فتأويل
الكلام إذًا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل
عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات بالبيان ، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك
وعماد أمتك في الدّين ، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع
الإسلام وآيات أخر ، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة ، مختلفات في المعاني.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب
وأخَر متشابهات " ، وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟
فقال بعضهم : " المحكمات " من آي القرآن ، المعمول بهن ، وهنّ الناسخات
أو المثبتاتُ الأحكامَ " والمتشابهات " من آية ، المتروك العملُ بهنّ ،
المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك :
6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوّام ، عمن حدثه
، عن ابن عباس في قوله : " منه آيات محكمات " ، قال : هي الثلاث الآيات
من ههنا : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) [سورة
الأنعام : 151 ، 152] ، إلى ثلاث آيات ، (1) والتي في " بني إسرائيل " :
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) [سورة الإسراء : 23 - 39] ،
إلى آخر الآيات. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " التي هاهنا " ، وهو خطأ ، فإن الآيات كما ترى من
سورة الأنعام وأثبت ما في الدر المنثور 2 : 4. وانظر التخريج في آخر الأثر.
(2) الأثر : 6573 - هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا أخشى أن يكون سقط من
إسناده " عن أبي إسحاق " ، بعد " قال أخبرنا العوام " . و
" العوام " هو العوام بن حوشب ، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في
الإسناد " عمن حدثه " فإن ذلك كذلك ، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق
السبيعي ، هو " عبد الله بن قيس " ، مذكور بروايته هذا الأثر ، وراويه
عنه هو أبو إسحاق السبيعي ، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب 5
: 365). والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك 2 : 288 من طريق : " علي بن
صالح بن حي ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس " . ونصه :
" آيات محكمات ، هي التي في الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر
الثلاث الآيات " . وقال الحاكم : " صحيح " ، ووافقه الذهبي. من أجل
ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري " عن أبي إسحاق " ، ولكني لم
أثبته في نصه.
(6/174)
6574
- حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن على بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ
أم الكتاب " ، المحكمات : ناسخه ، وحلالُه ، وحرَامه ، وحدوده وفرائضُه ، وما
يؤمن به ويعمل به قال : " وأخر متشابهات " ، والمتشابهات : منسوخه ،
ومقدّمه ومؤخره ، وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يُعمل به.
6575 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى "
وأخر متشابهات " ، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب : الناسخ الذي يُدان به
ويعمل به. والمتشابهات ، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
6576 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ،
عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن
ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه
آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله : " كل من عندنا ربنا " ، أما
" الآيات المحكمات " : فهن الناسخات التي يعمَل بهن وأما "
المتشابهات " فهن المنسوخات.
6577 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " هو الذي
أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ، و " المحكمات "
: الناسخ الذي يعمل به ، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه وأما "
المتشابهات " : فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " آيات محكمات " ، قال : المحكم ما يعمل به.
6579 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن
(6/175)
أبيه
، عن الربيع : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب
وأخر متشابهات " ، قال : " المحكمات " ، الناسخ الذي يعمل به و
" المتشابهات " : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
6580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في
قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " ، قال : الناسخات " وأخر
متشابهات " ، قال : ما نُسخ وتُرك يُتلى.
6581 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم
قال : المحكم ، ما لم ينسخ وما تشابه منه : ما نسخ.
6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " ، قال : الناسخ " وأخر
متشابهات " ، قال : المنسوخ.
6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يحدث قال ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " منه آيات محكمات " ، يعني
الناسخ الذي يعمل به " وأخر متشابهات " ، يعنى المنسوح ، يؤمن به ولا
يعمل به.
6584 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة ، عن الضحاك :
" منه آيات محكمات " ، قال : ما لم ينسخ " وأخر متشابهات " ،
قال : ما قد نسخ.
* * *
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله
وحرامه " والمتشابه " منها : ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني ، وإن
اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك :
(6/176)
6585
- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " منه آيات محكمات " ، ما فيه من الحلال والحرام ، وما
سوى ذلك فهو " متشابه " ، يصدّق بعضُه بعضًا وهو مثل قوله : ( وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) [سورة البقرة : 26] ، ومثل قوله : ( كَذَلِكَ
يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) [سورة الأنعام :
125] ، ومثل قوله : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ ) [سورة محمد : 17].
6586 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير
وجه واحد " والمتشابه " منها : ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك :
6587 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن
جعفر بن الزبير : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " ، فيهن
حجة الربّ ، وعصمةُ العباد ، ودفع الخصُوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما
وضعت عليه (1) " وأخَرُ متشابهات " ، في الصدق ، (2) لهن تصريف وتحريف
وتأويل ، (3) ابتلى الله فيهن العبادَ ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا
يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (4)
* * *
__________
(1) في نص ابن هشام : " ليس لهن تصريف... عما وضعن " .
(2) في المطبوعة : " وأخر متشابهة " ، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
وليس في نص ابن هشام : " في الصدق " ، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(3) ليس في نص رواية ابن هشام " وتحريف " .
(4) الأثر 6587 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها : 6571 ، من روايته عن ابن
إسحاق.
(6/177)
وقال
آخرون : معنى " المحكم " : ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقَصَص
الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته "
والمتشابه " ، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ،
بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى.
(1)
ذكر من قال ذلك :
6588 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد وقرأ : ( ألر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) [سورة هود :
1] ، قال : وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها :
(2) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ ) [سورة هود : 49] ، ثم ذكر( وَإِلَى عَادٍ ) ، فقرأ حتى بلغ(
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) (3) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا
وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك ، تبيين " أحكمت آياته ثم فصلت " (4) قال :
والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة
__________
(1) في المطبوعة : " فقصة اتفاق الألفاظ... وقصة باختلاف الألفاظ... "
وهو فاسد ، والصواب من المخطوطة.
(2) يعني من " سورة هود " ، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف.
(3) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود : 89 - ولكن هذه الآية في
ذكر خبر شعيب عليه السلام ، فلا أدري ما قوله بعد : " ثم مضى ، ثم ذكر صالحًا
وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا " . وظني أن نص عبارته :
" ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا... " بإسقاط " ثم
" الثانية. وانظر التعليق التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : وهذا يقين ذلك يقين أحكمت... " وكأن الصواب ما
أثبت.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان ، ولكني وجدت السيوطي في الدر المنثور 3 : 320 ، في
تفسير " سورة هود " قال : " أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد رضي
الله عنه أنه قرأ : " ألر كتاب أحكمت آياته " قال : هي كلها مكية محكمة
- يعني سورة هود - " ثم فصلت " . قال : ثم ذكر محمدًا صلى الله عليه
وسلم ، فحكم فيما بينه وبين من خالفه ، وقرأ : " مثل الفريقين " ، الآية
كلها. ثم ذكر قوم نوح ، ثم قوم هود ، فكان هذا تفصيل ذلك ، وكان أوله محكمًا. قال
: وكان أبي رضي الله عنه يقول ذلك - يعني : زيد بن أسلم " .
فمن أجل ذلك ، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي ، ورجحت أن تكون " يقين
" في الموضعين : " تبيين " .
(6/178)
كثيرة
، وهو متشابه ، وهو كله معنى واحد. ومتشابه : ( فَاسْلُكْ فِيهَا )( احْمِلْ
فِيهَا ) ، ( اسْلُكْ يَدَكَ )( أدخل يدك ) ، ( حَيَّةً تَسْعَى )( ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ ) (1) قال : ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها ، (2) وصالحًا في ثماني آيات
منها ، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى ، ولوطًا في ثماني آيات منها ، وشعيبًا في
ثلاث عشرة آية ، وموسى في أربع آيات ، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في
هذه السورة ، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود ، ثم قال : ( ذَلِكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) [سورة هود :
100]. وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة يقول : ما شأن
هذا لا يكون هكذا ؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟
* * *
وقال آخرون : بل " المحكم " من آي القرآن : ما عرف العلماءُ تأويله ،
وفهموا معناه وتفسيره و " المتشابه " : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ،
مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم ،
ووقت طُلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناءِ الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن
ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " ،
الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن ، من نحو " ألم " و
" ألمص " ، و " ألمر " ، و " ألر " ، وما أشبه ذلك
، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة
الإسلام وأهله ، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ
__________
(1) من أول قوله : " قال : والمتشابه... " معترض في سياق حديثه عن تفصيل
القصص في " سورة هود " وتعداد آيات كل قصة. أما الآيات المذكورة هنا ،
فهذا بيان مواضعها على الترتيب : " سورة المؤمنون : 27 " / " سورة
هود : 40 " / " سورة القصص : 32 " / " سورة النمل : 12 "
/ " سورة طه : 20 " / " سورة الأعراف : 107 " و " سورة
الشعراء : 22.
(2) " منها " يعني من " سورة هود " ، وكذلك سائر ما بعده.
(6/179)
محمد
وأمته ، (1) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك ، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من
قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها ، وأن ذلك لا يعلمه إلا
الله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب : (2) أن هذه الآية
نزلت فيه ، (3) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته ، في
تأويل ذلك في تفسير قوله : ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (4) [سورة
البقرة : 2]
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية.
وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم ،
فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين ، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا
حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ ، ثم لا يكون لهم إلى علم
تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك ، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة ، (5) وإن كان في
بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (6)
وذلكَ
__________
(1) في المطبوعة : " أجل أمته " ، وهو تحريف من الطابع ، وأثبت ما في
المخطوطة : والأكل (بضم فسكون) : مدة العمر ، وانظر التعليق ص : 196 ، تعليق : 1.
(2) في المطبوعة : " بن رباب " وهو خطأ ، والصواب ما أثبت و " رئاب
" بكسر الراء. وانظر ما سلف 1 : 216 وما سيأتي في التعليق : 4 ، وفيه المرجع.
(3) قوله : " فيه " ، أي : في هذا القول. لا في " جابر بن عبد الله
" .
(4) انظر ما سلف 1 : 245 - 224 في تفسير " ألم " ، والأثر رقم : 246
والتعليق عليه.
(5) في المطبوعة : " لخلقه " ، وفي المخطوطة : " محلقه " غير
منقوطة ، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة ، وصواب قراءته ما أثبت.
(6) هذه الجملة التي بين القوسين ، هكذا جاءت في المطبوعة ، ومثلها في المخطوطة
وإن كان قوله " اصطرته " غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى ،
وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع ، فاختلط الكلام علينا
وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها ،
ووضعتها بين قوسين ، وحصرتها بين الخطوط ، ليعرف مكانها ، ومكان السقط الذي رجحت
أنه سهو من الناسخ.
(6/180)
كقول
الله عز وجل : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْرًا ) [سورة الأنعام : 158] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك
الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل ذلك ، هي طُلوع الشمس من مغربها. (1) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة
من علم ذلك ، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته ، بغير تحديده بعدد السنين
والشهور والأيام. (2) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب ، وأوضحه لهم على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه ، (3) هو
العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية ، فإن ذلك
مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل
ثناؤه به دون خلقه ، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه ، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ
معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله : " ألم " و
" ألمص " و " ألر " و " ألمر " ونحو ذلك من الحروف
المقطّعة المتشابهات ، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله
، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا ، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون
محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد ، وقد استغنى بسماعه عن بيان
يُبينه (4) أو يكون محكمًا ، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في
__________
(1) انظر تفصيل ذلك والعلة في تفسير الآية من تفسير الطبري 8 : 71 - 77 (بولاق).
(2) في المطبوعة : " بعد بالسنين... " ، وفي المخطوطة : " بعد
السنين... " ، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من " بعدد " .
(3) في المطبوعة : " لا حاجة لهم " باللام ، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " مبينة " ، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست
" ميما " ، وصواب قراءة النص هو ما أثبت.
(6/181)
معان
كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه ، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه ، أو
بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد
بيَّنَّا.
* * *
القول في تأويل قوله : { هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب }
قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما
قلناه فيه. (1) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه ، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معنى قوله : " هن أم الكتاب " ، هنّ اللائي فيهن الفرائض
والحدود والأحكام ، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (2)
ذكر من قال ذلك :
6589 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا
إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : " محكمات هنّ أم
الكتاب " . قال يحيى : هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين وضرب
لذلك مثلا فقال : " أمّ القرى " مكة ، " وأم خراسان " ، مَرْو
، " وأمّ المسافرين " ، الذي يجعلون إليه أمرَهم ، ويُعنى بهم في سفرهم
، قال : فذاك أمهم. (3)
6590 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " هن أم
الكتاب " ، قال : هن جماع الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا : 170.
(2) في المطبوعة : " نحو قلنا " وهو سهو صوابه من المخطوطة.
(3) الأثر : 6589 - " عمران بن موسى الفزار " ، و " عبد الوارث بن
سعيد " مضت ترجمتهما برقم 2154. وانظر التعليق على الأثر رقم : 6591 ،
التالي.
(6/182)
وقال
آخرون : بل يعني بذلك : (1) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6591 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن
سويد ، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب
" ، قال : " أم الكتاب " فواتح السور ، منها يستخرج القرآن - ( الم
ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، منها استخرجت " البقرة " ، و( الم اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ ) منها استخرجت " آل عمران " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ
عنه.
* * *
يقال منه : " زاغ فلان عن الحق ، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة
وزُيوغًا " ، و " أزاغه الله " - إذا أماله - " فهو يُزيغه
" ، ومنه قوله جل ثناؤه : ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) لا تملها عن
الحق ( بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) [سورة آل عمران : 8].
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " معنى بذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 6591 - " أبو فاختة " هو " سعيد بن علاقة الهاشمي
" ، مولى أم هانئ ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم : 6589.
فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور 2 : 4 ، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال : "
عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية : هن أم الكتاب ،
فقال أبو فاختة... وقال يحيى بن يعمر... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا.
(6/183)
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : -
ذكر من قال ذلك :
6592 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر
بن الزبير : " فأما الذين في قلوبهم زيغٌ " ، أي : ميل عن الهدى. (1)
6593 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " في قلوبهم زيغ " ، قال : شك.
6594 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
6595 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " ، قال
: من أهل الشك.
6596 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر
ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وعن
ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ "
، أما الزيغ فالشك.
6597 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : قال : " زيغ " شك قال ابن جريج : " الذين في قلوبهم زيغ
" ، المنافقون.
* * *
__________
(1) الأثر : 6592 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6587 ، عن ابن إسحاق.
(6/184)
القول
في تأويل قوله : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فيتبعون ما تشابه " ، ما تشابهت
ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات ، ليحققوا بادّعائهم الأباطيلَ من
التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ ، تلبيسًا منهم
بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه ، كما : -
6598 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " فيتبعون ما تشابه منه " ، فيحملون المحكم على المتشابه
، والمتشابه على المحكم ، ويلبِّسون ، فلبَّس الله عليهم.
6599 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " فيتبعون ما تشابه منه " ، أي : ما تحرّف منه وتصرف ، (1)
ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (2)
6600 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد في قوله : " فيبعون ما تشابه منه " ، قال : الباب الذي ضلُّوا منه
وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما :
__________
(1) في ابن هشام : " أي : ما تصرف منه " ، وليس فيه " تحرف "
.
(2) الأثر : 6599 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6592 ، بإسناده عن
ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام 2 : 226 " لتكون لهم حجة ، ولهم على ما
قالوا شبهة " .
وتركت ما في التفسير هنا على حاله ، لأن روايته عن ابن إسحاق ، غير رواية ابن هشام
" .
(6/185)
6601
- حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط عن السدي في قوله :
" فيتبعون ما تشابه منه " ، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون : ما بال
هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية ، (1) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى
؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت ؟ وما باله يعد العذابَ
مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار ، (2) وفي مكان آخر : مَنْ عمله فإنه لم يُوجب
النار ؟
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فحاجُّوه بما حاجُّوه به ، وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أنّ عيسى
روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك :
6602 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال : عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : ألست تزعم أنه
كلمةُ الله ورُوحٌ منه ؟ قال : بلى! قالوا : فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل : "
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " ، ثم
__________
(1) في المطبوعة : " مجاز هذه الآية " ، أما المخطوطة ، فهي غير بينة ،
وآثرت قراءتها " مكان " .
(2) في المطبوعة : " يعد به النار " بالدال المهملة ، ولا معنى له. وفي
المخطوطة " عد به " غير منقوطة ، وصواب قراءتها " يعذبه " ،
وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام.
(6/186)
إن
الله جل ثناؤه : أنزل( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) [
سورة آل عمران : 59] ، الآية.
* * *
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب ، وأخيه حُييّ بن أخطب ،
والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل
أمته ، (1) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله : " ألم و " ألمص " ، و
" ألمر " و " ألر " ، فقال الله جل ثناؤه فيهم : " فأما
الذين في قلوبهم زيغ " - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى
والحق " فيتبعون ما تَشابه منه " يعني : معاني هذه الحروف المقطّعة
المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات " ابتغاءَ الفتنة " .
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل ، في أول السورة التي تذكر فيها "
البقرة " . (2)
* * *
وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به
رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة
التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك ، إما في كتابه ، وإما على لسان
رسوله.
ذكر من قال ذلك :
6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ
الفتنة " ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ
" قال : إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية ، (3) فلا أدري من هم! ولعمري لقد
كان في أهل بدر
__________
(1) في المطبوعة : " أجله وأجل أمته " ، وانظر تفسير " الأكل
" فيما سلف ص : 180 ، تعليق : 1.
(2) انظر الأثر السالف رقم : 246.
(3) " الحرورية " ، هم الخوارج ، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة ، فكان
هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا ، وأما " السبائية " ،
فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي " عبد الله بن سبأ " وهو الذي قال
لعلي : " أنت أنت " يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي ، تعالى الله عن
ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة "
السبائية " ، وفي المطبوعة " السبئية " ، وآثرت ما في المخطوطة
لأنها هكذا هي في أكثر الكتب.
(6/187)
والحديبية
الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار
خبرٌ لمن استخبر ، وعبرةٌ لمن استعبر ، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (1) إن الخوارج
خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق ،
وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط ، ولا رضوا
الذي هم عليه ، ولا مالأوهم فيه ، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به ، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ، ويعادونهم بألسنتهم
، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع ،
ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا
كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (2) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا
؟ يا سبحان الله ؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم ؟ لو كانوا على هدى ، قد
أظهره الله وأفلجه ونصره ، (3) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما
رأيتهم ، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وأهرَاق
دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم ، (4) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق
الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة ، وإن
النصرانية لبدْعة ، (5) وإن الحرورية لبدعة ، وإن السبائية لبدعة ، ما نزل بهن
كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.
6604 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " ،
طلب القوم التأويل ، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة ، فاتبعوا ما تشابه منه ،
فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان
وذكر نحو حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه.
6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية
، عن أيوب ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى قوله : " وما يذَّكر
إلا أولوا الألباب " ، فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى
الله ، فاحذرُوهم. (6)
__________
(1) يعني بذلك العبرة التي كانت في بدر ، حين أشار على رسول الله أصحابه أن يدع
منزله الأول الذي نزله ، إلى المنزل الذي أشاروا به عليه - والعبرة التي كانت في
الحديبية حين قال بعض أصحاب بيعة الرضوان ما قالوا في كراهة الصلح الذي عقده رسول
الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش. وفي ذلك برهان على فساد مقالة الخوارج ،
ومقالة السبائية.
(2) ألاص الأمر : أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر : أداره على الشيء
الذي يريده.
(3) في المطبوعة : " أفلحه " بالحاء المهملة ، وهو في المخطوطة غير
منقوطة ، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته : أظهرها ، وجعل له الفلج ، أي
الفوز والغلبة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " وإن كتموا... " ، والسياق يقتضي حذف
الواو.
(5) عنى باليهودية والنصرانية ، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير ،
وأنه ابن الله ، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح ، وأنه ابن الله ،
وغير ذلك من مقالاتهم.
(6) الحديث : 6605 - هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا ، كلها من رواية
ابن أبي مليكة ، إلا واحدًا ، وهو الحديث : 6611. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة
، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة ، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل
صحيح ، كما سيأتي.
وابن أبي مليكة : هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة ، القرشي
المكي. وهو تابعي كبير ثقة ، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في
الصغير ، ص : 131 ، وابن سعد 5 : 347 - 348 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 99 - 100 ،
والمصعب في نسب قريش ، ص : 293.
فقال الترمذي : 4 : 80 ، بعد أن روى الحديث بالوجهين ، كما سيأتي - : " هكذا
روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، ولم يذكروا فيه : عن القاسم
بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم : عن القاسم بن محمد ، في هذا الحديث. وابن
أبي مليكة ، هو " عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة
أيضًا " .
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر " القاسم " في الإسناد ، كما زعم الترمذي.
وسيجيء بيان ذلك ، إن شاء الله.
وقال الحافظ في الفتح 8 : 157 : " قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا ،
وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث.. " .
والحديث - من هذا الوجه ، من رواية ابن علية ، عن أيوب - : رواه أحمد في المسند 6
: 48 (حلبي) ، عن ابن علية ، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه : 47 ، عن محمد بن
خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية ، به.
ومحمد بن خالد بن خداش ، هذا : مترجم في التهذيب. وقال : " ذكره ابن حبان في
الثقات ، وقال : ربما أغرب عن أبيه " .
ولم يترجمه ابن أبي حاتم ، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد ، مع أنه سكنها ، كما
في التهذيب.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 97 ، عن رواية المسند. ثم قال : " هكذا وقع هذا
الحديث في مسند الإمام أحمد ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها ،
ليس بينهما أحد " . ثم أشار إلى رواية ابن ماجه ، وإلى روايات أخر ، تذكر
فيما سيأتي.
ولكن وقع في ابن كثير " يعقوب " بدل " أيوب " ! وهو خطأ ناسخ
أو طابع. وثبت في المسند على الصواب " أيوب " .
(6/188)
6606
- حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت أيوب ، عن عبد
الله بن أبي مليكة ، عن عائشة أنها قالت : قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه
الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وما يذكر إلا أولوا
الألباب " ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا رأيتم الذين
يجادلون فيه - أو قال : يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله ، فاحذرهم قال مطر ، عن
أيوب أنه قال : فلا تجالسوهم ، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (1)
__________
(1) الحديث : 6606 - ابن عبد الأعلى : هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني. مضت ترجمته
في : 1236.
مطر : هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة ، تكلم
فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة 125.
والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 75 بتحقيقنا ، من طريق
عاصم بن النضر الأحول ، عن المعتمر بن سليمان ، بهذا الإسناد.
وقال ابن حبان عقب روايته : " سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي
مليكة جميعًا " .
وهذا خطأ ، فاتنا أن ننبه إليه هناك ، إذ فهمناه على المعنى الصحيح ، لم نتنبه إلى
اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول : " سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق ، جميعًا
عن ابن أبي مليكة " .
فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان ، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان
ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة ، وهو قد ذكره في الثقات ، ص :
344 - 345 ، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك ، وأنه مات سنة 125 ، قيل : 129. ومع
ذلك فلم يسلم له هذا ، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل ، ص : 78 ، عن أبي زرعة ،
قال : " مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل " .
ولكن يعكر على كلام ابن حبان - إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا - : أن رواية
الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث.
ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا ، بلفظ " فاحذروهم " ،
وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا ، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله.
ومطر وأيوب من طبقة واحدة.
(6/190)
6607
- حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن
عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (1)
6608 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب
، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
6609 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا الحارث ، عن أيوب ، عن ابن
أبي مليكة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : قرأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ
أم الكتاب وأخر متشابهات " الآية كلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ،
أولئك الذين قال الله ، فلا تجالسوهم. (3)
__________
(1) الحديث : 6607 - عبد الوهاب : هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت ترجمته في :
2039. والحديث - من هذا الوجه - : رواه ابن ماجه : 47 ، عن أحمد بن ثابت الجحدري ،
ويحيى بن حكيم ، كلاهما عن عبد الوهاب ، به.
وأشار إليه ابن كثير 2 : 97 ، من رواية ابن ماجه. ثم قال : " ورواه محمد بن
يحيى العبدي ، في مسنده ، عن عبد الوهاب الثقفي ، به " .
(2) الحديث : 6608 - هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن
كثير 2 : 97 ، قال : " وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب. وكذا رواه
غير واحد عن أيوب " .
ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق ، مخطوطة دار
الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة ، إلى أوائل سورة النساء.
(3) الحديث : 6609 - الحارث : هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال
البخاري في الكبير 1 / 2 / 282 : " منكر الحديث " . وكذلك قال في الصغير
، ص : 185. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير ، عن البخاري : " منكر
الحديث ، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا " . وروى ابن أبي حاتم 1 / 2 / 91 - 92
، عن أحمد بن حنبل ، قال : " رجل صالح ، ولم يكن يعرف بالحديث ، ولا يحفظه ،
منكر الحديث " .
وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا ، فإن أصل الحديث صحيح ، بالأسانيد الأخر : السابقة
واللاحقة.
(6/191)
6610
- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن أبي مليكة
قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث ، عن عائشة قالت : تلا النبي صلى الله عليه وسلم
هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب
" ، ثم قرأ إلى آخر الآيات ، فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه
منه ، فأولئك الذين سمَّى الله ، فاحذروهم. (1)
6611 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد
الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزع رسول الله
__________
(1) الحديث : 6610 - ابن وكيع : هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف ، كما بينا في : 1692.
أبو أسامة : هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته : 2995.
يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ : ثقة ثبت. وثقه أحمد ، ووكيع ، وأبو حاتم
، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم.
وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث ، التي فيها زيادة " القاسم بن محمد
" ، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد :
سمعه ابن أبي مليكة من عائشة ، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين ،
تارة هكذا ، وتارة هكذا.
والحديث - من هذا الوجه - : رواه أبو داود الطيالسي : 1433 ، عن يزيد بن إبراهيم ،
بهذا الإسناد ، نحوه ، مختصرًا قليلا.
ورواه البخاري 8 : 157 - 159 (فتح). ومسلم 2 : 303 - 304. وأبو داود : 4598 -
ثلاثتهم عن القعنبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي : 4 : 80 ، عن عبد بن حميد ، عن أبي الوليد الطيالسي ، عن يزيد بن
إبراهيم ، به ، نحوه. وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 72 بتحقيقنا ، من طريق عبد الله - وهو ابن
المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم ، به.
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة " القاسم " بين ابن أبي مليكة وعائشة
، فسيأتي بإسناد آخر : 6615 ، بزيادة القاسم ، وسيأتي أيضًا عقب هذا : 6611 من
رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه.
(6/192)
صلى
الله عليه وسلم : " يتبعُون ما تَشابه منه " ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (1)
6612 - حدثنا علي قال ، حدثنا الوليد ، عن نافع بن عمر ، عن [ابن أبي مليكة ،
حدثتني] عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتموهم فاحذروهم ،
ثم نزع : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ، ولا
يعملون بمحكمه. (2)
__________
(1) الحديث : 6611 - علي بن سهل الرملي ، شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 1384.
الوليد بن مسلم الدمشقي ، عالم الشام : مضت ترجمته في : 2184.
عبد الرحمن : هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في : 2836.
وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد.
وقد نقله ابن كثير 2 : 98. ثم قال : " ورواه ابن مردويه ، من طريق أخرى ، عن
القاسم ، عن عائشة ، به " .
وانظر الحديث الآتي : 6615.
وقوله : " نزع رسول الله " - يقال : انتزع بالآية والشعر : تمثل. ويقال
للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله : " قد انتزع معنى جيدًا " و
" نزعه " ، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها " نزع " هنا - :
استشهد ، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث : 6612 - نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل ، الجمحي القرشي المكي : ثقة
، قال أحمد بن حنبل : " ثبت ثبت صحيح الحديث " . وهو مترجم في التهذيب ،
والكبير 4 / 2 / 86 ، وابن سعد 5 : 363. ونسب قريش للمصعب : 400. وابن أبي حاتم 4
/ 1 / 456 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 213.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا : " نافع عن عمر " ! بدل " نافع بن
عمر " . وهو خطأ. تصويبه عن الفتح 8 : 157 ، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث
" عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم " - " .... ونافع بن عمر ، وابن
جريج ، وغيرهما " . وكذلك صححناه عن ابن كثير ، كما سنذكر.
ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما : " عن نافع ، عن عمر ،
عن عائشة " !! فحذف " ابن أبي مليكة " من الإسناد. ثم حذف تصريحه
بالسماع من عائشة.
فصححنا الإسناد ، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين ، وهو ما زدناه بعد كلمة
" عن " ، بين علامتي الزيادة : [ابن أبي مليكة ، حدثتني].
وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير 2 : 98 ، حيث قال : " ورواه ابن جرير ، من
حديث روح بن القاسم ، ونافع بن عمر الجمحي ، كلاهما عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة.
وقال نافع في روايته : عن ابن أبي مليكة ، حدثتني عائشة. فذكره " .
فهذا هو الصواب ، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله.
ثم إن الحديث سيأتي : 6614 ، من هذا الوجه ، على الصواب ، من رواية خالد بن نزار ،
عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي - " عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة " .
(6/193)
6613
- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، أخبرنا عمي قال ، أخبرني شبيب بن سعيد ،
عن روح بن القاسم ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سُئل عن هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
" ، فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم.
(1)
6614 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا خالد بن نزار ، عن نافع ،
عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة في هذه الآية ، " هو الذي أنزل عليك الكتاب
" ، الآية ، " يتبعها " ، يتلوها ، ثم يقول : فإذا رأيتم الذين
يجادلون فيه فاحذروهم ، فهم الذين عنى الله. (2)
__________
(1) الحديث : 6613 - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب : مضت ترجمته في : 2747. وعمه : هو
عبد الله بن وهب.
شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري : قال ابن المديني : " ثقة ، كان يختلف
إلى مصر في تجارة ، وكتابه كتاب صحيح " . وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في
التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 234 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 359.
و " الحبطي " : بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى "
الحبطات " . بطن من تميم.
روح بن القاسم التميمي العنبري البصري : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما.
وقال سفيان بن عيينة : " لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن
القاسم " .
وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير 2 : 98 ، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله.
(2) الحديث : 6614 - خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي : ثقة. مترجم في التهذيب فقط.
وشيخه نافع : هو ابن عمر الجمحي.
وهذا الحديث تكرار للحديث : 6612 ، من رواية نافع الجمحي ، ومؤيد لما ذكرنا أنه
سقط من ذاك الإسناد.
فهؤلاء : أيوب ، ونافع بن عمر ، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة -
مباشرة ، دون واسطة " القاسم " بينهما ، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن
أبي مليكة إياه من عائشة ، كما مضى في : 6612.
وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز :
فرواه الترمذي 4 : 80 ، عن محمد بن بشار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر
الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة - دون ذكر القاسم.
وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته : 5458.
وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير 2 : 98 ، والحافظ في الفتح 8 : 157. وإسنادها صحيح.
ورواه أيضًا سعيد بن منصور ، عن حماد بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة ، نقله
ابن كثير 2 : 98. وهو إسناد صحيح.
وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح 8 : 157 ، ولكن لم يذكر من خرجه.
ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر.
(6/194)
6615
- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة
، عن القاسم ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : " هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى آخر الآية ، قال :
هم الذين سَمّاهم الله ، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله ، إمّا
__________
(1) الحديث : 6615 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه بزيادة " القاسم "
بين ابن أبي مليكة وعائشة ، كمثل رواية يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة ،
الماضية : 6610.
وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة ، كما ذكرنا في
6605. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة ، في هذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 1432 ، عن حماد بن سلمة ، عن ابن أبي
مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة.
وقد جمع الروايتين : رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته
عنهما. فرواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي الوليد الطيالسي ، عن يزيد بن
إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ،
عن عائشة. نقله ابن كثير 2 : 98 ، عن ابن أبي حاتم ، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8
: 157.
وقد مضت من قبل : 6611 رواية حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ،
عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم : رواه عن
عبد الرحمن بن القاسم ، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم.
وهناك متابعة أخرى عن القاسم ، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير 2 : 98
" ورواه ابن مردويه ، من طريق أخرى ، عن القاسم ، عن عائشة ، به " . فلم
يذكر ما هي ، ولا ما إسنادها ، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح.
ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2 : 5 ، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل.
(6/195)
في
أمر عيسى ، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (1)
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته
ومدّة أُمّته ، أشبُه ، لأن قوله : " وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله " ،
دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا
يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه ، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله
عليه وسلم وأمته ، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن
الآجال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3)
فقال بعضهم : معنى ذلك : ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك :
6616 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ابتغاء الفتنة " ، قال : إرادة الشرك.
6617 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إما مدة أجله وأجل أمته " ، والتصحيح من المخطوطة ،
وقد سلف مثل ذلك التحريف في ص : 180 ، تعليق : 1 ، وص : 187 ، تعليق : 1 وفي الجزء
الأول من التفسير ص : 217 تعليق : 4. والأكل " (بضم الألف وسكون الكاف) :
الرزق ، لأنه يؤكل. ومنه قيل لمدة العمر التي يعيشها المرء في الدنيا " أكل
" . يقال للميت : " انقطع أكله " ، انقضت مدته ، وفنى عمره.
(2) في المطبوعة : " ... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد " ، ولا
معنى لها. وفي المخطوطة : " أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد "
، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها ، " الآجال " جمع أجل ، وهو الذي
أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته.
(3) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف 3 : 508 / ثم 4 : 163. وتفسير
" الفتنة " فيما سلف ، 2 : 443 ، 444 / ثم 3 : 565 ، 566 ، 570 ، 571 /
ثم 4 : 301.
(6/196)
وقال
آخرون : معنى ذلك : ابتغاءَ الشّبهات.
ذكر من قال ذلك :
6618 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " ابتغاء الفتنة " ، قال : الشبهات ، بها أهْلِكوا.
6619 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " ابتغاء الفتنة " ، الشبهات ، قال : هلكوا به.
6620 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " ابتغاء الفتنة " ، قال : الشبهات. قال : والشبهات ما أهلكوا
به.
6621 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " ابتغاء الفتنة " ، أي اللَّبْس. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : " إرادةُ
الشبهات واللبس " .
* * *
فمعنى الكلام إذًا : فأما الذين في قلوبهم ميلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه ، فيتبعون من
آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه ، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (2) -
باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره ، احتجاجًا به على
باطله الذي مالَ إليه قلبه ، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي
كتابه.
* * *
__________
(1) الأثر : 6621 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم 6599 ، بإسناده عن ابن
إسحاق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " واحتمل صرفه في وجوه التأويلات " ، وقد
قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع ، والتي تليها كلها
أفراد ، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ " صرف صرفه " (بغير ألف في
: صارفه) كما كانت تكتب قديمًا ، فظنها خطأ ، فحذف الأولى " صرف " وأبقى
الأخرى " صرفه " ، فاضطربت الضمائر.
(6/197)
قال
أبو جعفر : وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك ،
فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها ، تأويلا منه لبعض
مُتشابه آي القرآن ، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه
المحكمات ، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين ، وطلبًا لعلم تأويل
ما تشابه عليه من ذلك ، كائنًا من كان ، وأيّ أصناف المبتدعة كان (1) من أهل
النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية ، أو كان سَبئيًا ، (2) أو حروريًّا ، أو
قدريًّا ، أو جهميًّا ، كالذي قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين
يجادلون به ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم " ، وكما : -
6622 - حدثني يونس قال ، أخبرنا سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن
عباس - وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن ، (3) فقال : يؤمنون بمحكمه
، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس : " وما يعلم تأويله إلا الله " ،
الآية.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله : "
ابتغاء الفتنة " ، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك ، وإنما
أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله ، اللبسَ على المسلمين ، والاحتجاجَ به عليهم ،
ليصدّوهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " البدعة " ، وصواب قراءتها إن شاء الله
" المبتدعة " ، كما يدل عليه السياق.
(2) هكذا كتبت هنا " سبئيًا " ، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع
الماضية " سبائيًا " ، فتركت هذا الرسم كما هو ، وهو صواب.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وما يلقون عند الفرار " ، وهو كلام لا
معنى له ، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة
والإخبات عند سماع القرآن ، وذلك من أمر الخوارج مشهور ، وهم الذين جاء في صفتهم :
" تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم " في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة
ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس : " يؤمنون بمحكمه ،
ويهلكون عند متشابهه " متعجبًا من فعلهم في خشوعهم ، وضلالهم في تأويلهم
المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم.
(6/198)
عما
هم عليه من الحق ، فلا معنى لأن يقال : " فعلوا ذلك إرادةَ الشرك " ،
وهم قد كانوا مشركين.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " التأويل " ، الذي عَنى الله
جل ثناؤه بقوله : " وابتغاء تأويله " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر
محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته ، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل ،
" ألم " ، و " ألمص " ، و " ألر " ، و " ألمر
" ، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك :
6623 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس أما قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " ، يعني تأويله يوم
القيامة " إلا الله " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " عواقبُ القرآن " . وقالوا : " إنما
أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل
الإسلام قبل مجيئه ، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك " .
ذكر من قال ذلك :
6624 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "
وابتغاء تأويله " ، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال
(6/199)
الله
: " وما يعلم تأويله إلا الله " ، وتأويله ، عواقبه متى يأتي الناسخ منه
فينسخ المنسوخ ؟
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن ، يتأوّلونه
- إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ ، وما
ركبوه من الضلالة " .
ذكر من قال ذلك :
6625 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " وابتغاء تأويله " ، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم
(1) " خلقنا " ، و " قضينا " .
* * *
قال أبو جعفر : والقول الذي قاله ابن عباس : من أنّ : " ابتغاء التأويل
" الذي طلبه القوم من المتشابه ، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة
والذي ذكرنا عن السدي : من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه (2)
أولى بالصواب ، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن
معناه : أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا : إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم
وعن غيرهم ، بمتشابه آي القرآن - (3) أولى بتأويل قوله : " وابتغاء تأويله
" ،
__________
(1) في المطبوعة : " في قوله " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام 2
: 226. وقوله بعد ذلك : " خلقنا ، وقضينا " ، كلام منقطع ، إشارة إلى ما
مضى من صدر هذا الأثر الطويل المتتابع ، الذي يرويه الطبري مفرقًا عن ابن إسحاق ،
وذلك مذكور في الأثر رقم : 6543 فيما سلف ص : 153 س : 3 ، 4. إذ قال : "
ويحتجون في قولهم : " إنه ثالث ثلاثة ، بقول الله : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا
، وقضينا. فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا : فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ،
ولكنه هو وعيسى ومريم " .
(2) " جاء " اسم فاعل من الفعل " جاء يجيء فهو جاء " . وسياق
الجملة : " والقول الذي قاله ابن عباس... والذي ذكرنا عن السدي... أولى
بالصواب " .
(3) قوله : " بمتشابه آي القرآن... " من صلة قولهم : " إن طلب
القوم معرفة الوقت.. " جار ومجرور ، متعلق بقوله : " طلب " .
(6/200)
لما
قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا
شكّ أن معنى قوله : " قضينا " " فعلنا " ، قد علم تأويله
كثيرٌ من جهلة أهل الشرك ، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وما يعلم وقتَ قيام الساعة ، وانقضاء مدة أكل
محمد وأمته ، (1) وما هو كائن ، إلا الله ، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا
إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون :
" آمنا به ، كل من عند ربنا " - لا يعلمون ذلك ، ولكن فَضْل عِلمهم في
ذلك على غيرهم ، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، وهل " الراسخون " معطوف على اسم
" الله " ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه ، أمْ هم مستأنَفٌ
ذكرهم ، (2) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون : آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك
لا يعلمه إلا الله ؟
فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما
الراسخون في العلم ، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه
والمحكم ، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " مدة أجل محمد... " ، والصواب ما في المخطوطة ،
وانظر التعليق السالف ص : 196 رقم : 1.
(2) في المطبوعة : " أوهم مستأنف... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(6/201)
6626
- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا خالد بن نزار ، عن نافع ، عن
ابن أبي مليكة ، عن عائشة قوله : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به "
، قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ، ولم يعلموا تأويله.
(1)
6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه قال : كان ابن عباس يقول : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول
الراسخون [في العلم] آمنا به ) (2)
6628 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن أبي الزناد قال ، قال
هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية ، " وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم " ، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم
يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .
6629 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي
نهيك الأسدي قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ،
فيقول : إنكم تَصلون هذه الآية ، وإنها مقطوعة : " وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ، فانتهى علمهم إلى
قولهم الذي قالوا.
__________
(1) الأثر : 6626 - انظر الأثر السالف رقم : 6614 ، والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة " يقول الراسخون " بحذف الواو. والصواب إثباتها ، لأنه
سيأتي في ص : 204 س : 13 أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في
الأصل " كان ابن عباس يقرأ " " وما يعلم تأويله.. " ، ولكن
الناسخ مضى على عجلته ، فكتب مكان " يقرأ " " يقول " ، ثم
أسقط الواو من " ويقول الراسخون... " . فلذلك أثبت الواو ، وهي الصواب
المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم] ، لأن هذه قراءة في
الآية ، لا تفسير من ابن عباس ، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة.
(6/202)
6630
- حدثنا المثنى قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن
موهب قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : " والراسخون في العلم " ،
انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا ، " آمنا به كلٌّ من
عند ربنا " .
6631 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب ، عن مالك في قوله : " وما يعلم تأويله
إلا اللهّ " ، قال : ثم ابتدأ فقال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا
به كل من عند ربنا " ، وليس يعلمون تأويله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وهم مع
علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون : " آمنا به كلّ من عند ربنا " .
ذكر من قال ذلك :
6632 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله.
6633 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا
به " .
6634 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " والراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به
" .
6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع :
" والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ويقولون : " آمنا به "
.
6636 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " وما يعلم تأويله " الذي أراد ، ما أراد ، (1) " إلا
الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا " ، فكيف يختلف ،
وهو قولٌ واحدٌ
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير 2 : 100 ، أما سيرة ابن هشام 2 ،
226 ففيها " أي : الذي به أرادوا ما أرادوا " وكأن الصواب ما في التفسير
، وقوله : " ما أراد " استفهام. أما قوله : " الذي أراد " ،
أي الذي أراده الله سبحانه. وما في سيرة ابن هشام صواب أيضًا ، والضمير في "
أرادوا " يعني به الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،
فهذا ما أرادوا.
(6/203)
من
ربّ واحد ؟ (1) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا
تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا ، فنفذَت
به الحجة ، وظهر به العذر ، وزاحَ به الباطل ، (2) ودُمغ به الكفر. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فمن قال القول الأول في ذلك ، وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل
ذلك ، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله ، فإنه يرفع
" الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريون ، ويجعل خبره : "
يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين ، فبالعائد من ذكرهم في "
يقولون " . وفي قول بعضهم : بجملة الخبر عنهم ، وهي : " يقولون " .
* * *
ومن قال القول الثاني ، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله ، عطف بـ " الراسخين
" على اسم " الله " ، فرفعهم بالعطف عليه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو : "
يقولون " ، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله
عز وجل في هذه الآية ، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ : ( وَيَقُولُ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (4) وفي قراءة
عبد الله : ( إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ ) .
* * *
قال أبو جعفر : وأما معنى " التأويل " في كلام العرب ، فإنه التفسير
والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى :
__________
(1) من أول قوله : " كل من عند ربنا " إلى قوله : " من رب واحد
" زيادة من نص رواية ابن هشام في السيرة 2 : 226 ، ولا شك أن الناسخ قد
أسقطها من عجلته وسهوه.
(2) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا ، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد
وزال.
(3) الأثر 6636 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6625 بإسناده عن ابن
إسحاق ، وهو في سيرة ابن هشام 2 : 226.
(4) انظر التعليق السالف على الأثر : 6627 ، ص : 202 س : 7 ، تعليق : 2.
(6/204)
عَلَى
أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ
فَأَصْحَبَا (1)
وأصلهُ من : " آل الشيء إلى كذا " - إذا صار إليه ورجع " يَؤُول
أوْلا " و " أوَّلته أنا " صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله : (
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) [سورة النساء : 59 \ سورة الإسراء : 35] أي جزاءً. وذلك أن
" الجزاء " هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله : " تأوّلُ حُبها " : تفسير حبها ومرجعه. (2) وإنما يريد
بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه ، فآلَ من الصّغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى
أصحَب ، فصار قديمًا ، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا
مثل أمه. (3)
__________
(1) ديوانه : 88 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 86 الصاحبي : 164 ، اللسان (صحب)
(ربع) (أول) (ولى) ، ثم ما سيأتي بعد قليل من ذكر رواية أخرى ، لم أجدها في غيره
بعد.
أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع) ، (ولى) فهي : عَلَى أَنَّهَا
كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
الربعي : الذي ولد في أول النتاج. والسقاب جمع سقب (بفتح فسكون) : وولد الناقة
ساعة تضعها يقال له " سليل " قبل أن يعرف أذكر هو أم أنثى ، فإذا علم
أنه ذكر فهو " سقب " . وأصحب : ذل وانقاد وأطاع. وهذا البيت بهذه
الرواية التي ذكرتها هنا ، قد فسرها الأزهري وقال : " هكذا سمعت العرب تنشده.
وفسروا " توالي ربعى السقاب " أنه من الموالاة : وهو تمييز شيء من شيء.
يقال : " والينا الفصلان عن أمهاتها فتوالت " ، أي فصلناها عنها عند
تمام الحول ، وتشتد عليها الموالاة ، ويكثر حنينها في إثر أمهاتها ، ويتخذ لها
خندق تحبس فيه وتسرح الأمهات في وجه من مراتعها. فإذا تباعدت عن أولادها سرحت
الأولاد في جهة غير جهة الأمهات ، فترعى وحدها ، فتستمر على ذلك وتصحب بعد أيام.
أخبر الأعشى أن نوى صاحبته اشتدت عليه ، فحن إليها حنين ربعى السقاب إذا وولى
(فصل) عن أمه. وأخبر أن هذا الفصيل يستمر على الموالاة ، وأنه يصحب إصحاب السقب.
قال الأزهري : وإنما فسرت هذا البيت ، لأن الرواة لما أشكل عليهم معناه ، تخبطوا
في استخراجه وخلطوا ، ولم يعرفوا منه ما يعرفه من شاهد القوم في باديتهم " .
أما الرواية الأولى ، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي ، وأما روايته الثانية ، وهي
قوله : " توابع حبها " ، فإني لم أدر ما معناها ، وأخشى أن يكون صوابها
: " نزائع حبها " . والنزائع جمع نزيعة ، يقال : ناقة نازع من نوق
نوازع. وناقة نزيعة : وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه : حن واشتاق.
(2) في المخطوطة : " وتفسير حبها... " بزيادة الواو ، وهو خطأ. وهذا نص
أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 87 ، على خطأ فيه ، إذ ظن الناشر أن قوله : "
تفسيره " ، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا : "
تفسيره : ومرجعه " وعندئذ فلا معنى للواو في " ومرجعه " ، والصواب
ما أثبتناه.
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 87.
(6/205)
وقد
يُنشد هذا البيت :
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ
فَأَصْحَبَا (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني ب " الراسخين في العلم " ، العلماء الذين قد أتقنوا
علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا ، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا
لبس.
* * *
وأصل ذلك من : " رسوخ الشيء في الشيء " ، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال
منه : " رسخ الإيمان في قلب فلان ، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا " .
(2)
* * *
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -
6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله قال ، حدثنا فياض
بن محمد الرقي قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم ، عن أبي الدرداء وأبي أمامة
قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن الراسخ في العلم ؟ قال : " من
بَرَّت يمينهُ ، وصَدقَ لسانه ، واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه ، فذلك الراسخُ في
العلم. (3)
* * *
__________
(1) انظر ص 204 ، تعليق : 4
(2) قوله : " رسخًا " ، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة.
(3) الحديث : 6637 - فياض بن محمد الرقى : ترجمه البخاري 4 / 1 / 135 ، وابن أبي
حاتم 3 / 2 / 87 ، فلم يذكرا فيه جرحًا.
عبد الله بن يزيد بن آدم : ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 197 ، قال : " روى عن
أبي الدرداء ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل :
كيف تبعث الأنبياء ؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى... سألت أبي عنه ؟ فقال : لا
أعرفه. وهذا حديث باطل " .
وترجمه الذهبي في الميزان ، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد ، قال : "
أحاديثه موضوعة " . وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد
بالوضع.
(6/206)
6638
- حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا فياض
الرقي قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي قال : وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال ، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال : من برَّت يمينه ، وصدق لسانه
، واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم " الراسخين
__________
(1) الحديث : 6638 - هو الحديث الماضي بزيادة قليلة ، وزيادة " أنس بن مالك
" .
ولكن في هذا الإسناد " عبد الله بن يزيد الأودي " . والراجح أن هذا خطأ
من أحد الرواة ، أو من الناسخين ، وأن صوابه كالإسناد السابق " عبد الله بن
يزيد بن آدم " . وأما " عبد الله بن يزيد الأودي " ، فهو غير هذا
يقينًا. وقد مضى في : 5461. وترجمته عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 200 : أنه "
روى عن سالم بن عبد الله ، عن حفصة ، في الصلاة الوسطى ، روى عنه أبو بشر جعفر بن
أبي وحشية " . والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة ، والراوي هنا
كذاب.
والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن محمد بن عوف الحمصي ، عن نعيم بن حماد ، عن
فياض الرقى " حدثنا عبد الله بن يزيد " ، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه
" الأودي " . ووقع في ابن كثير " عبيد الله " ، بدل "
عبد الله " ، وهو خطأ.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 324 " عن عبد الله بن يزيد بن آدم ، قال :
حدثني أبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك... " . وقال
: " رواه الطبراني ، وعبد الله بن يزيد : ضعيف " . فزاد في رواية
الطبراني صحابيًا رابعًا ، هو واثلة بن الأسقع.
وذكره السيوطي 2 : 7 ، عن هؤلاء الصحابة الأربعة ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والطبراني. وهو تساهل منه ، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم "
واثلة بن الأسقع " ، بل هو في رواية الطبراني فقط.
ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر : " من طريق عبد الله بن يزيد
الأودي ، سمعت أنس بن مالك يقول... " .
فهذا يرجح أن زيادة " الأودي " - خطأ من أحد الرواة ، لا من الناسخين.
(6/207)
في
العلم " ، بقولهم : " آمنا به كل من عند ربنا " .
ذكر من قال ذلك :
6639 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس قال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، (1) قال : " الراسخون
" الذين يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .
6640 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "
والراسخون في العلم " ، هم المؤمنون ، فإنهم يقولون : " آمنَّا به
" ، بناسخه ومنسوخه " كلٌّ من عند ربنا " .
6641 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ،
قال ابن عباس قال ، عبد الله بن سلام : " الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم
قال ابن جريج : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " ، وهم الذين
يقولون ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) ويقولون : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ
النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ) الآية.
* * *
وأما تأويل قوله : " يقولون آمنا به " ، فإنه يعني أنّ الراسخين في
العلم يقولون : صدقنا بما تشابه من آي الكتاب ، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله ،
وقد : -
6642 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة بن نبيط ، عن
الضحاك : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " ، قال : المحكم
والمتشابه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الراسخون في العلم... " ، بغير واو ،
وأثبت نص الآية.
(6/208)
القول
في تأويل قوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " كل من عند ربنا " ، كلّ المحكم
من الكتاب والمتشابه منه " من عند ربنا " ، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -
6643 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس في قوله : " كل من عند ربنا " ، قال : يعني مَا نُسخ منه وما لم
يُنسخ.
6644 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، قالوا : " كلّ من عند ربنا
" ، آمنوا بمتشابهه ، وعملوا بمحكمه.
6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع
قوله : " كل من عند ربنا " ، يقولون : المحكم والمتشابه من عند ربنا.
6646 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
" ، نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله
كله. (1)
6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " والراسخون في العلم " يعملون به ، يقولون : نعمل بالمحكم
ونؤمن به ، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به ، وكل من عند ربنا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يؤمن... ويدين " جميعًا بالياء ، والسياق يقتضي أن
تكون بالنون.
(6/209)
قال
أبو جعفر : واختلف أهل العربية في حكم " كلّ " إذا أضمر فيها. فقال بعض
نحويي البصريين : إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي " الكل "
إليه مضاف في هذا الموضع ، (1) لأنها اسمٌ ، كما قال : ( إِنَّا كُلٌّ فِيهَا )
[سورة غافر : 48] ، بمعنى : إنا كلنا فيها. قال : ولا يكون " كل "
مضمرًا فيها وهي صفة ، لا يقال : " مررت بالقوم كل " وإنما يكون فيها
مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان : " إنا كُلا فيها " على الصفة لم يجز ،
لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم ، سواءً. لأنه غير جائز
أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر ، وغير
جائز أن تكون كافية منه في حال ، ولا تكون كافية في أخرى. وقال : سبيل " الكل
" و " البعض " في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه
بمعنى واحد في كل حال ، صفةً كانت أو اسمًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أولى بالقياس ، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما
حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها ، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها
فهي كافية منه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا جاز حذف المراد " ، وعلق الطابعون السابقون
أنها زائدة من قلم الناسخ!! وسبب ذلك سوء كتابة الناسخ ، فلم يحسنوا قراءته.
(2) انظر ما سلف عن " كل " 3 : 195 / ثم 5 : 509.
(6/210)
القول
في تأويل قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في
متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به ، إلا أولو العقول والنهى ، (1) وقد : -
6648 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " وما يذكر إلا أولوا الألباب " ، يقول : وما يذكر في مثل هذا
يعني : في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم ، حتى يَتّسقا على
معنى واحد " إلا أولو الألباب " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنّ الراسخين في العلم يقولون : آمنا بما
تشابه من آي كتاب الله ، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا
: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " ، يعني أنهم يقولون رغبةً منهم
إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي
القرآن ، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله : يا ربنا ، لا
تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك " لا تزغ قلوبنا
" ،
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " يذكر " 5 : 580 / 6 : 5 وفي تفسير "
الألباب " : 3 : 68 / ثم 4 : 162 / ثم 5 : 80.
(2) الأثر : 6648 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6636 بإسناده عن ابن
إسحاق.
(6/211)
لا
تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له ، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه
" وهب لنا " يا ربنا " من لدنك رحمة " ، يعني : من عندك رحمة
، يعني بذلك : هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم
كتابك ومتشابهه " إنك أنتَ الوهاب " ، يعني : إنك أنت المعطي عبادك
التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك ، وتصديق كتابك ورسلك ، كما : -
6649 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن
الزبير : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " ، أي : لا تمل قلوبنا
وإن ملنا بأحداثنا (1) " وهب لنا من لدنك رحمة " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في
أن لا يزيغ قلوبهم ، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من
حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية :
(3) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها ، جَوْرٌ.
لأن ذلك لو كان كما قالوا ، لكان الذين قالوا : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ
هدَيتنا " ، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا ، لكان
القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (4) أن لا يظلمهم ولا
يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور
عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ
__________
(1) في المطبوعة : " بأجسادنا " ، وهو لا معنى له ، وهو تحريف للرواية
عن ابن إسحاق. وصوابها من المخطوطة وابن هشام 2 : 226. والأحداث جمع حدث : وهو
الفعل. يسألون الله أن يثبت قلوبهم بالإيمان ، وإن مالت أفعالهم إلى بعض المعصية.
(2) الأثر : 6649 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6648.
(3) القدرية : هم نفاة القدر والصفات ، ويعني المعتزلة.
(4) في المطبوعة : " مسألتهم " بحذف الباء ، والصواب من المخطوطة.
(6/212)
بِظَلامٍ
لِلْعَبِيدِ ) [سورة فصلت : 46]. ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم
أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك ، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل :
إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته ، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في
أن لا يزيغه ، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ، ووضعه مسألته موضعها ، مع تظاهر الأخبار
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك ، مع محله منه وكرامته
عليه.
6650 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن
حوشب ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا مقلِّب
القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ : " ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا
" ، إلى آخر الآية. (1)
6651 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن
حوشب ، عن أسماء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (2)
__________
(1) الحديث : 6650 - هذا إسناد صحيح.
عبد الحميد بن بهرام : ثقة ، مضت ترجمته في : 1605. وشهر بن حوشب : ثقة أيضًا ،
كما قلنا في : 1489.
وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في : 6652 ، ونخرجه هناك ، إن شاء الله. ويأتي
بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك ، في : 6658.
(2) الحديث : 6651 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء ،
وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم
المؤمنين.
ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري ، وإلا رواية ذكرها ابن
كثير ، عن ابن مردويه.
قال ابن كثير 2 : 102 بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية : " ورواه ابن مردويه ،
من طريق محمد بن بكار ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ،
عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، سمعتها تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يكثر من دعائه... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث.
ثم قال ابن كثير : " وهكذا رواه ابن جرير ، من حديث أسد بن موسى ، عن عبد
الحميد بن بهرام ، به ، مثله " .
ثم قال : " ورواه أيضًا عن المثنى ، عن الحجاج بن منهال ، عن عبد الحميد بن
بهرام ، به ، مثله " .
ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه " عن أم سلمة ، عن أسماء بنت
يزيد بن السكن " - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين ، في زيادة
حرف " عن " . وأن صوابه " عن أم سلمة أسماء... " .
و " أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية " : صحابية معروفة ، وهي بنت عم
معاذ بن جبل ، وكنيتها " أم سلمة " . وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها
، بل قال ابن السكن : " هو أروى الناس عنها " . وكان من مواليها.
ولم نسمع قط أن " أم سلمة أم المؤمين " روت عن أسماء هذه ، ولا روت عن
غيرها من الصحابة.
وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث " أسد بن موسى " و
" الحجاج بن منهال " - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان
الآتيتان : 6652 ، 6658 - : فهي مشكلة ، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه :
" عن أم سلمة أسماء بنت يزيد " .
ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا ، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري : 6650 ،
6652 ، 6658 ، التي فيها " عن أم سلمة " مراد بها " أم سلمة أسماء
بنت يزيد " .
فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن " أم سلمة " في هذه الروايات الثلاث
- هي أم المؤمنين يقينًا ، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا : 6652.
(6/213)
6652
- حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام
الفزاري قال ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدّث : أن رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على
دينك! قالت : قلتُ : يا رسول الله ، وإن القلب ليقلَّب ؟ قال : نعم ، ما خلق الله
من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه
، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا ، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه
رحمةً إنه هو الوهاب. قالت : قلتُ : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها
لنفسي ؟ قال : بلى ؛ قولي : اللهم ربّ النبي محمدٍ ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غَيظَ
قلبي ، وأجرني من مُضِلات الفتن. (1)
__________
(1) الحديث : 6652 - هذه هي الرواية المطولة ، التي أشرنا إليها في : 6650 ،
وسيأتي مختصرًا قليلا : 6658 ، كما قلنا من قبل.
والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - 6 : 294 (حلبي) ، عن
وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة : " أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول : يا مقلب القوب ، ثبت قلبي على دينك " . وهذا
نحو الرواية الماضية : 6650 ، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية.
ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - 6 : 301 - 302 ، عن هاشم - وهو ابن القاسم أبو
النضر - عن عبد الحميد بن بهرام ، بهذا الإسناد ، نحوه. إلا أنه قال في آخره :
" وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا " .
ثم رواه مختصرًا ، بدون ذكر الآية ، ولا قوله " فنسأل الله ربنا " - إلخ
، 6 : 315 (حلبي) ، عن معاذ بن معاذ ، قال : " حدثنا أبو كعب صاحب الحرير ،
قال : حدثني شهر بن حوشب ، قال : قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر
دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟.. " .
ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه - : سألت أبي عن أبي كعب ؟ فقال : ثقة ، واسمه عبد
ربه بن عبيد " .
وكذلك رواه الترمذي 4 : 266 ، عن أبي موسى الأنصاري ، عن معاذ بن معاذ ، به. وقال
: " هذا حديث حسن " .
وأبو كعب صاحب الحرير ، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي : وثقه أيضًا يحيى بن
سعيد ، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 41 - 42.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات ، 6 : 325 ، 7 : 210 ، 10 : 176 ، عن
رواية المسند ، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه ، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب ،
" وهو ضعيف وقد وثق " . وقال في الأخير : " إسناده حسن " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، دون فصل بين الروايات.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 55 ، من رواية ابن وهب ، عن
إبراهيم بن نشيط الوعلاني ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر
بن حوشب ، عن أم سلمة ، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا.
ورواه أبو بكر الآجري ، في كتاب الشريعة ، ص : 316 ، من وجهين آخرين ، عن أم سلمة.
ووقع في المطبوعة : " ما خلق الله من بشر ، من بني آدم " ، بالتقديم
والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة ، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه
الكلمة.
(6/214)
6653
- حدثني محمد بن منصور الطوسي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال ، حدثنا
سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يكثر أن يقول : يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله :
يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به ؟! قال : إن القلب بين إصبعين من أصابع
الرحمن تبارك وتعالى ، يقول بهما هكذا وحرّك أبو أحمد إصبعيه قال أبو جعفر : وإن
الطوسي وَسَق بين إصبعيه. (1)
__________
(1) الحديث : 6653 - محمد بن منصور بن داود ، الطوسي العابد ، شيخ الطبري : ثقة ،
أثنى عليه أحمد ، ووثقه النسائي وغيره.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 288 - 289 ، من طريق الأعمش ، بهذا الإسناد.
وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده ، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور ، لأن في
أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي.
وذكره السيوطي 2 : 9 : وزاد نسبته للطبراني في السنة.
وأشار إليه الترمذي 3 : 199 ، كما سنذكر في الحديث بعده.
وقوله : " يقول بهما " هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة
" يقول به " .
قوله : " وسق بين إصبعيه " ، وسق الشيء : جمعه. يريد : ضم إصبعيه.
(6/215)
6654
- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا أبو معاوية قال ، حدثنا الأعمش ، عن أبي
سفيان ، عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول : "
يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا : يا رسول الله ، قد آمنا بك ،
وصدّقنا بما جئت به ، فيُخاف علينا ؟! قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع
الله ، يقلبها تبارك وتعالى. (1)
__________
(1) الحديث : 6654 - رواه أحمد في المسند : 12133 ، (ج 3 ص : 112 حلبي) ، عن أبي
معاوية ، عن الأعمش ، بهذا الإسناد.
ثم رواه : 13731 (ج 3 ص : 257 حلبي) ، عن عفان ، عن عبد الواحد ، عن سليمان بن
مهران - وهو الأعمش - به.
ورواه الترمذي 3 : 199 ، عن هناد ، عن أبي معاوية ، به. ثم قال : " هذا حديث
حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس. وروى بعضهم عن
الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان
عن أنس - أصح " .
يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع
: تابعي ثقة ، سمع من جابر ومن أنس ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع
التابعي الحديث الواحد من صحابيين.
ورواه الحاكم 1 : 526 ، مختصرًا ، من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، وصححه هو
والذهبي.
ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر ، فرواه : 3834 ، من طريق ابن نمير ، عن
الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده : " مدار الحديث
على يزيد الرقاشي ، وهو ضعيف " .
وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى - في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي ؛ وها هو
ذا من رواية الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس ، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به.
وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد ، ص : 100. فرواه مختصرًا ، من طريق أبي
الأحوص : " عن الأعمش ، عن أبي سفيان ويزيد ، عن أنس " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
(6/216)
6655
- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا بشر بن بكر وحدثني علي بن سهل
قال ، حدثنا أيوب بن بشر جميعًا ، عن ابن جابر قال : سمعت بُسْر بن عبيد الله قال
، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن : إن
شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا مقلِّب
القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن ، يرفع أقوامًا ويخفضُ
آخرين إلى يوم القيامة. (1)
__________
(1) الحديث : 6655 - بشر بن بكر التنيسي : ثقة مأمون. روى عنه الشافعي ، والحميدي
، وغيرهما. وأخرج له البخاري.
أيوب بن بشر : لم أجد راويًا بهذا الاسم ، ولا ما يقاربه في الرسم ، إلا رواة باسم
" أيوب بن بشير " ليسوا من هذه الطبقة ، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن
الرواة عن ابن جابر : " أيوب بن سويد الرملي " . ومن القريب جدًا أن
يروي عنه بلديه " علي بن سهل الرملي " . ولكن تصحيف " سويد "
إلى " بشر " صعب.
ابن جابر : هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة ،
أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني : " يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل
الشأم بعد الصحابة " .
بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي : تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر :
" هو أحفظ أصحاب أبي إدريس " يعني الخولاني.
و " بسر " : بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه " عبيد
الله " : بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا " بشر " . وهو تصحيف.
وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر ، ووقع في بعضها اسم أبيه " عبد
الله " . وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع.
أبو إدريس الخولاني : عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في : 4840.
النواس : بفتح النون وتشديد الواو ، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند
: 17707 (ج 4 ص : 182 حلبي) ، عن الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر ، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه : 199 ، من طريق صدقة بن خالد ، عن ابن جابر ، به. وقال البوصيري
في زوائده : " إسناده صحيح " .
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 54 ، وأبو بكر الآجري ، في
كتاب الشريعة ، ص : 317 - 318 ، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 289 ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، ص : 248 - عن
الحاكم ، من طريق محمد بن شعيب بن شابور ، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على
شرط الشيخين.
وهذا الموضع في المستدرك ، مخروم في أصله المطبوع عنه ، فأثبته الناشر عن مختصر
الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم.
ورواه الحاكم أيضًا 4 : 321 ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا ، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا 1 : 525. عن الأصم ، عن بحر بن نصر ، عن بشر بن بكر ، عن ابن جابر ،
به.
وقال الحاكم في الموضعين : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم " ! ومن عجب أن
يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور ، وإن
كان ثقة ، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين ؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم
من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري ، ولم يخرج له مسلم شيئًا!!
والحديث ذكره السيوطي 2 : 9 ، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى ، لأنه
لم يروه في السنن الصغرى.
(6/217)
6656
- حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال ، حدثنا محمد بن عبيدة قال ، حدثنا الجرّاح
بن مليح البهراني ، عن الزبيدي ، عن جويبر ، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
الموازين بيد الله ، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا ، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من
أصابع الرحمن ، إذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه. (1)
__________
(1) الحديث : 6656 - عمر بن عبد الملك بن حكيم الطائي الحمصي - شيخ الطبري : لم
أجد له إلا ترجمة موجزة في التهذيب ، فيها : " روى عنه النسائي وقال : صالح
" .
محمد بن عبيدة : لا أدري من هو ؟ ولا وجدت له ترجمة ، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا
لعمر بن عبد الملك الطائي ، وذكره باسم : " محمد بن عبيدة ، المددي ، اليماني
" . ولم أجد معنى لنسبة " المددي " هذه ، بدالين. ومن المحتمل أن
تكون محرفة عن " المدري " بالراء ، نسبة إلى " مدر " بفتح
الميم والدال وآخرها راء ، وهي قرية باليمن ، على عشرين ميلا من صنعاء ، كما في
معجم البلدان 7 : 416.
الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي : ثقة ، وهو
مشهور في أهل الشام. وهو غير " الجراح بن مليح بن عدي " والد "
وكيع بن الجراح " .
الزبيدي - بضم الزاي : هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي ، أبو الهذيل الحمصي ،
قاضيها. وهو ثقة ثبت ، قال ابن سعد 7 / 2 / 169 : " كان أعلم أهل الشأم
بالفتوى والحديث " . وكان الأوزاعي " يفضل محمد بن الوليد على جميع من
سمع من الزهري " .
جويبر : هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين ، ولا شأن
لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر : ضعيف جدًا ، كما بينا في
: 284. وإنما الحديث معروف عن " جبير بن نفير " ، كما سيأتي.
سمرة بن فاتك الأسدي : هكذا ثبت في الطبري " سمرة " بالميم ، فتكون
مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه.
والصحيح الراجح أن اسمه " سبرة " ، بفتح السين المهملة وسكون الباء
الموحدة.
وهناك صحابي آخر ، اسمه : " سمرة بن فاتك الأسدي " . غير هذا. وكذلك فرق
البخاري بينهما في التاريخ الكبير : 2 / 2 / 188 ، في " سبرة " و : 178
في " سمرة " . وذكر هذا الحديث في " سبرة " وكذلك فرق بينهما
ابن أبي حاتم 1 / 2 / 295 ، " سبرة " و : 155 ، " سمرة " .
وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر ، الذي اسمه " سمرة " - " سبرة
" . وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة 3 :
63 - 64 ، 131 - 132 : أنهما اثنان ، كما قلنا ، وأن راوي هذا الحديث هو "
سبرة " .
ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح : " سبرة " - لوجود
القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا.
و " سبرة " : بسكون الباء الموحدة ، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته
في الإصابة خطأ شديد ، إذ قال الحافظ : " بفتح أوله وكسر ثانيه " ؛ ولم
يقل أحد ذلك في ضبط اسم " سبرة " مطلقًا ، بل هو نفسه ضبط اسم "
سبرة " ، في غير هذه الترجمة " بسكون الموحدة " . وضبط اسم هذا
الصحابي بالسكون أيضًا ، في المشتبه للذهبي ، ص : 255. ولم يذكر اسم آخر بهذا
الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما
هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم.
و " الأسدي " - في هذه الترجمة : " بفتح الهمزة وسكون السين "
. وهو : الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص
" . قاله الحافظ في الإصابة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير ، في ترجمة " سبرة بن فاتك " . قال
: " حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عمن حدثه ، عن
جبير بن نفير ، عن سبرة بن فاتك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : الموازين بيد
الله ، يرفع قومًا ويضع قومًا ، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل ،
فإذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه " .
فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير - عنه البخاري.
وقال الحافظ في الإصابة : " وقد وقع لي في غرائب شعبة ، لابن مندة ، من طريق
جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
الميزان بيد الرحمن ، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى ،
فقال : سمرة " .
فلم نعرف رواية ابن مندة : أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير ، أم عرف باسمه
فيها ؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون
هذا المبهم - هو " عبد الرحمن بن جبير بن نفير " فإنه يروي عن أبيه ،
ويروي عنه الزبيدي.
ومما يرجح - عندي - أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات : أن الهيثمي ذكر
هذا الحديث في مجمع الزوائد 7 : 211 " عن سمرة بن فاتك الأسدي " ، ثم
قال : " رواه الطبراني ، ورجاله ثقات " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، ونسبه للبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطبراني. ولم يزد.
في المطبوعة : " إن شاء... وإن شاء " . وأثبت ما في المخطوطة. وهو
الموافق لرواية الكبير للبخاري.
(6/218)
6657 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
(6/219)
حيوة
بن شريح قال ، أخبرني أبو هانئ الخولاني : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول :
سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن
قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد ، يصرّف كيف يشاء. ثم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى
طاعتك. (1)
6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا عبد الحميد بن
بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت : قلت : يا
رسول الله ، وإن القلوب لتقلَّب ؟ قال : نعم ، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا
إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، إن شاءَ أقامه ، وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله
ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو
الوهاب. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6657 - أبو هانئ الخولاني - بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو : هو
حميد بن هانئ المصري. وهو ثقة معروف.
أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة : هو عبد الله بن يزيد
المعافري - بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من
التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر
دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي ، ج 1 ص : 64 - 65 ، وطبقات علماء
إفريقية لأبي العرب ، ص : 21.
والحديث رواه أحمد في المسند : 6569 ، عن أبي عبد الرحمن ، وهو المقرئ ، عن حيوة
بن شريح ، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم 2 : 301 ، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن
المقرئ.
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة ، ص : 316 ، بإسنادين ، والبيهقي في الأسماء
والصفات ، ص : 248 - كلاهما من طريق المقرئ.
وذكره السيوطي 2 : 9 ، وزاد نسبته للنسائي.
(2) الحديث : 6658 - هو مختصر من الحديث : 6652. وقد وفينا تخريجه ، وأشرنا إلى
هذا هناك.
ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة : " من بني آدم بشر " . ولعل الأجود أن
يكون " من بشر " ، كالروايات الأخر.
(6/220)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
القول
في تأويل قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا مع قولهم : آمنا بما تشابه
من آي كتاب ربّنا ، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا : يا ربنا ، "
إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد " .
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام :
ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة ، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا ، فإنك لا تخلف
وَعْدك : أنّ من آمن بك ، واتَّبع رَسُولك ، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك ، أنك
غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم ،
(1) بالإيمان بالله ورسوله ، وما جاءهم به من تنزيله ، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم
وإيمانهم ، فإنه إذا فعل ذلك بهم ، وجبتْ لهم الجنة ، لأنه قد وعد من فعل ذلك به
من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية ، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر ، فإن تأويلَها من القوم : مسألةٌ ودعاءٌ
ورغبة إلى ربهم.
* * *
وأما معنى قوله : " ليوم لا ريب فيه " ، فإنه : لا شك فيه. وقد بينا ذلك
بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من حسن نصرتهم " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة :
" نصرتهم " . غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر ما سلف 1 : 228 ، 378 / ثم 6 : 78.
(6/221)
ومعنى
قوله : " ليوم " ، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء
بينهم في موقف العَرضْ والحساب.
* * *
" والميعاد " " المفعال " ، من " الوعد " .
* * *
(6/222)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
القول
في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنّ الذين كفروا " ، إن الذين
جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل
ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم ، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب
الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا
أولادهم من الله شيئًا " ، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من
عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم ،
(1)
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم ، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا ،
وهم في الآخرة " وقودُ النار " ، يعني بذلك : حَطبُها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بعد تثبيتهم " ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة "
تثبيتهم " غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر تفسير " الوقود " فيما سلف 1 : 380.
(6/222)
كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
القول
في تأويل قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(11) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا
أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم ، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم (1)
" والذين من قبلهم " من الأمم الذين كذبوا بآياتنا ، فأخذناهم بذنوبهم
فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا ، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا
حين جاءهم بأسنا ، (2) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون
: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كدأب آل فرعون " .
فقال بعضهم : معناه : كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك :
6659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " كدأب آل فرعون " ، يقول :
كسنتهم.
* * *
وقال بعضهم : معناه : كعملهم.
ذكر من قال ذلك :
6660 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان
__________
(1) في المخطوطة : " ودعاتهم " غير منقوطة ، والصواب ما في المطبوعة ،
وإنما هو سبق قلم من الناسخ ، وهذا اللفظ هو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 87.
(2) في المطبوعة : " فلن تغني عنهم... " ، وهو مخالف للسياق. وفي
المخطوطة : " فلن تغن عنهم... " وهو سهو من الناسخ ، والصواب ما أثبت.
(6/223)
وحدثني
المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان جميعًا ، عن جويبر ، عن الضحاك :
" كدأب آل فرعون " ، قال : كعمل آل فرعون.
6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك في
قوله : " كدأب آل فرعون " ، قال : كعمل آل فرعون.
6662 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " كدأب
آل فرعون " ، قال : كفعلهم ، كتكذيبهم حين كذّبوا ا