اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 3. تفسير الطبري

 

مجلد 3. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

القول في تأويل قوله : { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض ، وسفرًا في البلاد ، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب ، (1) فيستغنوا عن الصدقات ، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما : -
6218 - حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " لا يستطيعون ضربًا في الأرض " حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ ، فلا يستطيعون تجارةً.
6219 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يستطيعون ضربًا في الأرض " ، يعني التجارة.
6220 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : " لا يستطيعون ضربًا في الأرض " ، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : " يحسبهم الجاهل " بأمرهم وحالهم " أغنياء " من تعففهم عن المسألة ، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس ، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما : -
6221 - حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) في المخطوطة : " المكاسر " ، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته ، كما أسلفت مرارًا كثيرة .

(5/593)


قوله : " يحسبهم الجاهل أغنياء " ، يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. (1) .
* * *
ويعني بقوله : " منَ التعفف " ، من تَرْك مسألة الناس.
* * *
وهو " التفعُّل " من " العفة " عن الشيء ، والعفة عن الشيء ، تركه ، كما قال رؤبة :
* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (2)
يعني بَرئ وتجنَّبَ.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " تعرفهم " يا محمد " بسيماهم " ، يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله عز وجل : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) [سورة الفتح : 29] ، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول : " بسيمائهم " فيمدها.
وأما ثقيف وبعض أسَدٍ ، فإنهم يقولون : " بسيميائهم " ; ومن ذلك قول الشاعر : (3) .
__________
(1) الأثر : 6221 - كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة : " كما حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد... " أسقط الناسخ من الإسناد " حدثنا بشر قال " ، كما زدته ، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم : 6206 .
(2) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في 5 : 110 ، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير ، فقيده هناك .
(3) هو ابن عنقاء الفزاري ، وعنقاء أمه ، وقد اختلف في اسمه ، فقال القالي في أماليه 1 : 237 : " أسيد " ، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف : 159 ، وقال المرزباني في معجم الشعراء : " فيس بن بجرة " (بالجيم) ، أو " عبد قيس بن بجرة " ، وفي النقائض : 106 " عبد قيس ابن بحرة " بالحاء الساكنة وفتح الباء ، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي : 543 ، وغيره العلامة الراجكوتي " بجرة " بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة " قيس بن بجرة " وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة . وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل 1 : 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو . وهذا كاف في تعيين الاختلاف . وابن عنقاء ، عاش في الجاهلية دهرًا ، وأدرك الإسلام كبيرًا ، وأسلم .

(5/594)


غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (1)
* * *
__________
(1) يأتي في التفسير 4 : 55 /8 : 141 (بولاق) والأغاني 17 : 117 ، الكامل 1 : 14 ، المؤلف والمختلف ، ومعجم الشعراء : 159 ، 323 ، أمالى القالي 1 : 237 ، الحماسة 4 : 68 ، وسمط اللآليء : 543 ، وغيرها كثير . من أبيات جياد في قصة ، ذكرها القالي في أماليه . وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا ، فطال عمره ، ونكبه دهره ، فاختلت حاله ، فمر عميلة بن كلدة الفزاري ، وهو غلام جميل من سادات فزارة ، فسلم عليه وقال : ياعم ، ما أصارك إلى ما أدري ؟ فقال : بخل مثلك بماله ، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك . فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله ، فقالت : لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء . فلما كان السحر ، سمع رغاء الإبل ، وثغاء الشاء وصهيل الخيل ، ولجب الأموال ، فقال : ما هذا ؟ فقال : هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه ، فقال ابن عنقاء فيه يمجده : رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وهذا شعر حر ، ينبع من نفس حرة . هذا وقد روي الطبري في 8 : 141 " رماه الله بالحسن إذ رمي " . وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد : " لا يروي بيت ابن عنقاء : " رماه الله بالحسن... " إلا أعمى البصيرة ، لأن الحسن مولود ، وإنما هو : رماه الله بالخير يافعًا " .
وقوله : " لا تشق على البصر " ، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما ، بل تجلي بها العين ، وتسر النفس وترتاح إليها .

(5/595)


وقد اختلف أهل التأويل في " السيما " التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم ، وأنهم يعرفون بها. (1)
فقال بعضهم : هو التخشُّع والتواضع.
ذكر من قال ذلك :
6222 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " تعرفهم بسيماهم " قال : التخشُّع.
6223 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
6224 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، قال : كان مجاهد يقول : هو التخشُّع.
* * *
وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم.
* ذكر من قال ذلك :
6225 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " تعرفهم بسيماهم " ، بسيما الفقر عليهم.
6226 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " تعرفهم بسيماهم " ، يقول : تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا : الجوعُ خفيّ.
* ذكر من قال ذلك :
6227 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وصفت صفتهم " ، وهو مخالف للسياق ، والصواب ما أثبت ، وصف الله صفتهم .

(5/596)


" تعرفهم بسيماهم " قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفي على الناس ، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وأول الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان ، فيعرفُهم وأصحابه بها ، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميعَ ذلك ، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضر ، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض ، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة ، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصف الله (2) نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة ، دون وَصْفه بصفته.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }
قال أبو جعفر : يقال : " قد ألحف السائل في مسألته " ، إذا ألحّ " فهو يُلحف فيها إلحافًا " .
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، لتستقيم العبارة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " كما وصفهم الله " ، والسياق يقتضي ما أثبت . والمخطوطة التي نقلت عنها ، فيما نظن ، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها ، مضطربة الخط ، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا ، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة .

(5/597)


فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف ؟
قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف ، (1) وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم ، لم تكن صفتُهم التعفف ، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.
وفي الخبر الذي : -
6228 - حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا ، فكان أوّل ما واجهني به : " من استعفّ أعفَّه الله ، ومَن استغنى أغناهُ الله ، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده " . قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت ، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة ، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا ، إلا من عَصَم الله. (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلحافا وغير إلحاف " ، بالواو ، وهو لا يستقيم ، والصواب ما أثبت . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 181 ، وقد قال : " ومثله قولك في الكلام : قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه " وسيأتي بعد ، في ص : 599 ، وفي اللسان (لحف) ، وذكر الآية : " أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف ، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة : عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [ إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا ]
المعنى : " ليس به منار فيهتدى به " .
(2) الحديث : 6228 - إسناده صحيح .
هلال بن حصن ، أخو بني مرة بن عباد ، من بني قيس بن ثعلبة : تابعى ثقة . ذكره ابن حبّان في الثقات ، ص : 364 ، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2/ 204 ، وابن أبي حاتم 4 /2/ 73 - فلم يذكرا فيه جرحا . وهو مترجم في التعجيل ، ص : 434 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 14221 ، 14222 (ج 3 ص 44 حلبي) ، عن محمد بن جعفر وحجاج ، ثم عن حسين بن محمد - ثلاثتهم عن شعبة ، عن أبي حمزة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد . فذكر نحوه بأطول منه .
وهذا أيضًا إسناد صحيح .
أبو حمزة : هو البصري " جار شعبة " ، عرف بهذا . واسمه : عبد الرحمن بن عبد الله المازني " ، ثقة ، مترجم في التهذيب 6 : 219 .
وقد ثبت في ترجمة " هلال بن حصن " - في الكبير ، وابن أبي حاتم ، والثقات ، والتعجيل ، أنه روى عنه أيضًا " أبو حمزة " . وشك في صحة ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير ، واستظهر أن يكون صوابه " أبو جمرة " ، يعنى نصر بن عمران الضبعي . ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا " أبو حمزة " . لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم .
" أعوز الرجل فهو معوز " : ساءت حاله وحل عليه الفقر .
" أعنق الرجل إلى الشيء يعنق " : أسرع إليه إسراعًا .

(5/598)


(1) .
الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (2) .
* * *
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : " لا يسألون الناس إلحافا " ، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف (3) .
قيل له : وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف ، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله : " يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف " ، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما - زاد عبادَه إبانة لأمرهم ، وحُسنَ ثناءٍ عليهم ، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال ، عنهم. (4) .
وقد كان بعضُ القائلين يقول : (5) ذلك نظيرُ قول القائل : " قلَّما رأيتُ مثلَ
__________
(1) سياق الكلام : " وفي الخبر... الدلالة الواضحة... "
(2) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين : " إلحافا وغير إلحاف " " بالواو ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 ص598 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين : " إلحافا وغير إلحاف " " بالواو ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 ص598 .
(4) " السؤال " جمع سائل ، على زنة " " جاهل وجهال " . والسياق : " بنفي الشره...عنهم " .
(5) في المطبوعة : و " قال : كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل " هو كلام شديد الخلل . وفي المخطوطة : " وقال كاد بعض القائلين يقول ... " وسائره كالذي كان في المطبوعة " وهو أشدّ اختلالا وفسادًا . وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته . وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن 1 : 181 ، كما سلف في ص : 598 التعليق : 1 .

(5/599)


فلان " ! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6229 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يسألون الناس إلحافًا " ، قال : لا يلحفون في المسألة.
6230 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا يسألون الناس إلحافًا " ، قال : هو الذي يلح في المسألة.
6231 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يسألون الناس إلحافًا " ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف ، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا : قيلا وقالا (1) وإضاعةَ المال ، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته ، حتى يُلقى جيفةً على فراشه ، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال[ ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه ، (2) .
وَيعدِ له عن حقّ الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه ، يسأل الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.
..........................................................................
..........................................................................
(3) .
__________
(1) في المطبوعة : " قيل وقال " وهو صواب ، وهما فعلان من قولهم " قيل كذا " و " قال كذا " ، وهو نهى عن القول بما لا يصح و لا يعلم . وأثبت ما في المخطوطة ، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين ، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب ، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير ، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال : " القيل والقال " .
(2) في المخطوطة : " ذا مال في شهوته " وبين الكلامين بياض ، أما في المطبوعة والدر المنثور 1 : 363 ، فساقه سياقًا مطردًا : " ذا مال في شهوته " ، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد : " ويعدله عن حق الله " ، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة .
(3) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو ، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف 6231 ، الأثر الآتي : 6232 " حدثنا يعقوب بن إبراهيم . . . " . وقد تنبه طابع المطبوعة ، فرأي أن الأثر الآتي ، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له ، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا الموضع تفسير بقية الآتية : " وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم " وشيء قبله ، وشيء بعده ، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر ، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم . وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب .

(5/600)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
[قال أبو جعفر] :
..........................................................................
..........................................................................
* * *
6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن أيمن بن نابل ، قال : حدثني شيخ من غافق : أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول : أهل هذه - يعني الخيل - من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (1) .
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.
* ذكر من قال ذلك :
6233 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) الأثر : 6232 - " أيمن بن نابل الحبشي " أبو عمران المكي ، نزيل عسقلان ، مولي آل أبي بكر . روي عن قدامة بن عبدالله العامرى ، وعن أبيه نابل ، والقاسم بن محمد ، وطاوس . وروى عنه موسى بن عقبة ، وهو من أقرانه ، ومعتمر بن سليمان ، ووكيع وابن مهدي ، وعبدالرزاق ، وغيرهم . وهو ثقة ، وكان لا يفصح ، فيه لكنه . وعاش إلى خلافة المهدي . مترجم في التهذيب .
والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون الواو) : وهو ما كان من الخيل من نتاج غير العراب ، وهو دون الفرس وأضعف منه . والهجن جمع هجين : وهو من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان غير عربي ، وهي دون العرب أيضًا ، ليس من عتاق الخيل ، وكلاهما معيب عندهم .

(5/601)


قوله : " الذين ينفقون أموالهم " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " ، هؤلاء أهلُ الجنة.
ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : المكثِرون هم الأسفلون. قالوا : يا نبيّ الله إلا مَنْ ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون ، قالوا : يا نبيّ الله إلا مَنْ ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون. قالوا : يا نبيّ الله ، إلا مَنْ ؟ حتى خشوا أن تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ ، حتى قال : " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، عن يمينه وعن شماله ، وهكذا بين يديه ، وهكذا خلفه ، وقليلٌ ما هُمْ [قال] : (1) هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى ، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد. (2) .
* * *
وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله : " إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي " إلى قوله : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، كان مما يُعملَ به قبل نزول ما في " سورة براءة " من تفصيل الزَّكوات ، فلما نزلت " براءة " ، قُصِروا عليها.
* ذكر من قال ذلك :
6234 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي " إلى قوله : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنزل " براءة " ، فلما نزلت " براءة " بفرائض الصَّدقات وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين ، زيادة لا بد منها ، فإن هذا الكلام الآتي ولا شك من كلام قتادة ، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 363 قال : " وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة . . . " ، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر . وأما صدره ، فهو خبر مرسل كسائر الأخبار السالفة .
(2) قوله : " إملاق " هو من قولهم : " ملق الرجل ما معه ملقًا ، وأملقه إملاقًا " ، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره تبذيرًا . والفقر تابع للإنفاق والتبذير ، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب ، فقالوا : " أملق الرجل إملاقًا " ، إذا افتقر فهو " مملق " أي فقير لا شيء معه .

(5/602)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الذين يُرْبون.
* * *
و " الإرباء " الزيادة على الشيء ، يقال منه : " أربْى فلان على فلان " ، إذا زاد عليه ، " يربي إرباءً " ، والزيادة هي " الربا " ، " وربا الشيء " ، إذا زاد على ما كان عليه فعظم ، " فهو يَرْبو رَبْوًا " . وإنما قيل للرابية [رابية] ، (1) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها ، من قولهم : " ربا يربو " . ومن ذلك قيل : " فلان في رَباوَة قومه " ، (2) يراد أنه في رفعة وشرف منهم ، فأصل " الربا " ، الإنافة والزيادة ، ثم يقال : " أربى فلان " أي أناف [ماله ، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل للمربي : " مُرْبٍ " ، لتضعيفه المال ، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ). [آل عمران : 131].
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام .
(2) في المطبوعة : " في ربا قومه " وفي المخطوطة : " في رباء قومه " ، ولا أظنهما صوابًا ، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس : " وفلان في رباوة قومه : في أشرافهم . وهو : في الروابي من قريش " ، فأثبت ما في الأساس .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " أي أناف صيره زائدًا " ، وهو كلام غير مستقيم ولا تام . والمخطوطة كما أسلفت مرارًا ، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا . فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر ، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى .

(6/7)


وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
6235 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول : لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
6237 - حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن ربا أهل الجاهلية : يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى ، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاده وأخَّر عنه.
* * *
قال أبو جعفر : فقال جل ثناؤه : الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا " لا يقومون " في الآخرة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس " ، يعني بذلك : يتخبَّله الشيطان في الدنيا ، (1) وهو الذي يخنقه فيصرعه (2) " من المس " ، يعني : من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6238 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) تخبله : أفسد عقله وأعضاءه .
(2) في المطبوعة : " وهو الذي يتخبطه فيصرعه " ، وهو لا شيء ، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة ، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها ، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة : " +يحفه " غير منقوطة إلا نقطة على " الفاء " ، وآثرت قراءتها " يخنقه " ، لما سيأتي في الأثر رقم : 6242 عن ابن عباس : " يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق " ، وما جاء في الأثر : 6247 . وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لذلك ، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه ، أعاذنا الله وإياك .

(6/8)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، يوم القيامة ، في أكل الرِّبا في الدنيا.
6239 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6240 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " ، قال : ذلك حين يُبعث من قبره. (1)
6241 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بم كلثوم قال ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا : " خذْ سلاحك للحرب " ، وقرأ : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، قال : ذلك حين يبعث من قبره.
6242 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " . الآية ، قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (2)
6243 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
__________
(1) الأثر : 6240 - " ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري " ، روى عن أبيه ، وبكر ابن عبد الله المزني ، والحسن البصري . وروى عنه القطان ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، ومسلم ابن إبراهيم ، وحجاج بن منهال . قال النسائي : " ليس به بأس " ، وقال في الضعفاء : " ليس بالقوي " ، وقال أحمد وابن معين : " ثقة " . وأبوه : " كلثوم بن جبر " ، قال أحمد : " ثقة " ، وقال النسائي : " ليس بالقوي " . مات سنة : 130 .
(2) انظر ما سلف في ص : 8 ، تعليق : 2 .

(6/9)


" الذين يأكلون الربا لا يقومون " ، الآية ، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة ، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.
6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.
6245 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة : ( لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
6246 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " ، قال : من مات وهو يأكل الربا ، بعث يوم القيامة متخبِّطًا ، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.
6247 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " ، يعني : من الجنون.
6248 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " . قال : هذا مثلهم يومَ القيامة ، لا يقومون يوم القيامة مع الناس ، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس ، كأنه خُنق ، كأنه مجنون (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة " ، وهو كلام فاسد . وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه ، فدل على خلطه وسهوه . فحذفت من هذه الجملة " يوم القيامة " وجعلت " مع الناس " ، " من الناس " ، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق ، وكأنه الصواب إن شاء الله .

(6/10)


قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " يتخبطه الشيطانُ من المسّ " ، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه : " قد مُسّ الرجل وأُلقِ ، فهو مَمسوس ومَألوق " ، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ) [الأعراف : 201] ، ومنه قول الأعشى :
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى ، وكأَنَّمَا... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله ، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله ؟
قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت ، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم ، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا ، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) ديوانه : 147 ، وروايته " من غب السرى " ، ورواية اللسان (ألق) ، " ولق " ، وهو من قصيدته البارعة في المحرق . ويصف ناقته فيقول قبل البيت ، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة : وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ ... إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى ، وَبَيْنى وَبَيْنَها ... مَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" الخرق " : المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح . " وناقة جسرة " : طويلة شديدة جريئة على السير . و " خب " : جرى . و " الآل " : سراب أول النهار . " يترقرق " : يذهب ويجيء . وقوله : " هي الصاحب الأدنى " ، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه ، وينصره في الملمات . و " المجوف " : الضخم الجوف . و " العلافى " : هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا ، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له " علاف " . و " القطع " : طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير . و " النمرق والنمرقة " : وسادة تكون فوق الرحل ، يفترشها الراكب ، مؤخرها أعظم من مقدمها ، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته . و " غب السرى " : أي بعد سير الليل الطويل . و " الأولق " : الجنون . ووصفها بالجنون عند ذلك ، من نشاطها واجتماع قوتها ، لم يضعفها طول السرى .

(6/11)


اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [سورة البقرة : 278 - 279] الآية ، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا ، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه ، (1) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله :
6249 - " لعن الله آكلَ الرّبا ، وُمؤْكِلَه ، وكاتبَه ، وشاهدَيْه إذا علموا به " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا }
قال أبو جعفر : يعني بـ " ذلك " جل ثناؤه : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم ، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون ، فقال تعالى ذكره : هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم ، ووَحشة قيامهم من قبورهم ، وسوء ما حلّ بهم ، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون : " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده " مثلُ الرّبا " . وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ مالُ أحدهم
__________
(1) ولكن أهل الفتنة في زماننا ، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا ، وقد عظمه الله وقبحه ، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله ، في الدنيا والآخرة ، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين . فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا ، وثبتنا على دينك الحق ، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا ، وهي الفانية وإن طالت ، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا . قيل له : الناس كلهم ؟! قال : من لم يأكله ناله من غباره " . (سنن البيهقي 5 : 275) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق .
(2) الأثر : 6249 - رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا ، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره 1 : 550 - 551 وساق طرقه مطولا . والسيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد ، وأبي يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان . وانظر سنن البيهقي 5 : 275 .

(6/12)


على غريمه ، يقول الغَريم لغريم الحق : " زدني في الأجل وأزيدك في مالك " . فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : " هذا ربًا لا يحل " . فإذا قيل لهما ذلك قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع ، أو عند مَحِلّ المال " ! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال : " وأحلّ الله البيع " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (1) " وحرّم الربا " ، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل : فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع ، (2) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل ، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللتُ الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها ، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل : ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا ، لأنّي أحللت البيع ، وحرَّمت الرّبا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *
__________
(1) انظر معنى : " البيع " فيما سلف 2 : 342 ، 343 .
(2) في المطبوعة : " وليست الزيادتان " ، والصواب ما في المخطوطة .

(6/13)


ثم قال جل ثناؤه : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى " ، يعني بـ " الموعظة " : التذكير ، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن ، (1) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب ، يقول جل ثناؤه : فمن جاءه ذلك ، " فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (2) " فله ما سلف " ، يعني : ما أكل ، وأخذ فمَضَى ، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك " وأمرُه إلى الله " ، يعني : وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم ، وبعد انتهاء آكله عن أكله ، إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه ، وإن شاء خَذَله عن ذلك " ومن عاد " ، يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم ، من قوله : " إنما البيع مثل الربا " " فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون " ، يعني : ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم ، فيها خالدون. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6250 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السديّ : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " ، أما " الموعظة " فالقرآن ، وأما " ما سلف " ، فله ما أكل من الربا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " موعظة " فيما سلف 2 : 180 ، 181 .
(2) انظر تفسير : " انتهى " فيما سلف 3 : 569 .
(3) انظر تفسير : " أصحاب النار " و " خالدون " فيما سلف 2 : 286 ، 287/4 : 316 ، 317/5 : 429 .

(6/14)


يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) }
قال أبو جعفر : يعني عز وجل بقوله : " يمحق الله الربا " ، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه ، كما : -
6251 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " يمحق الله الربا " ، قال : يَنقص.
* * *
وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
6252 - " الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ " . (1) .
* * *
وأما قوله : " ويُرْبي الصّدَقات " ، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها ، يَرُبُّها وينمِّيها له. (2)
* * *
وقد بينا معنى " الرّبا " قبلُ " والإرباء " ، وما أصله ، بما فيه الكفاية من إعادته. (3)
* * *
__________
(1) 6252 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 37 من طريق إسرائيل ، عن الركين بن الربيع ، عن أبيه الربيع بن عميلة ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا إن كثر ، فإن عاقبته تصير إلى قل " ، وكذلك ذكره ابن كثير من المسند من طريق شريك عن الركين بن الربيع ، بلفظه . ثم ساق ما رواه ابن ماجه . غير أن ابن كثير (2 : 61) نقل لفظ الطبري ، وساق الخبر كنصه في الحديث ، لا كما جاء في المطبوعة والمخطوطة . وانظر الدر المنثور 1 : 365 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " يضاعف أجرها لربها " ، كأنه يريد لصاحبها ، وكأن صواب قراءتها ما أثبت ، رب المعروف والصنيعة والنعمة وغيرها - يريها ربًا +ورببها (كلها بالتشديد) : نماها وزادها وأتمها ، وجملة " يربها وينميها له " تفسير لقوله : " يضاعف أجرها " . وانظر الأثر الآتي رقم : 6253 .
(3) انظر ما سلف قريبا ص : 7 .

(6/15)


فإن قال لنا قائل : وكيف إرباء الله الصدقات ؟
قيل : إضعافه الأجرَ لربِّها ، كما قال جل ثناؤه : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) [سورة البقرة : 261] ، وكما قال : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) [سورة البقرة : 245] ، وكما : -
6253 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن القاسم : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد ، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) [سورة التوبة : 104] ، و " يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات " . (1) .
__________
(1) الحديث : 6253 - عباد بن منصور الناجي البصري القاضي : ثقة ، من تكلم فيه تكلم بغير حجة . وقد حققنا توثيقه في شرح المسند : 2131 ، 3316 ، وبينا خطأ من جرحه بغير حق .
القاسم : هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق ، التابعي الثقة الفقيه الإمام .
والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج 11 ص 15 بولاق) ، عن أبي كريب ، بهذا الإسناد ولكن سقط منه هناك " حدثنا وكيع " . وهو خطأ ظاهر .
ورواه أحمد في المسند : 10090 (2 : 371 حلبي) ، عن وكيع ، وعن إسماعيل - وهو ابن علية - كلاهما عن عباد بن منصور . بهذا الإسناد . وساقه على لفظ وكيع ، كرواية الطبري هنا .
ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى ، ففيه : " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " . والآية المتلوة في الحديث هي التي في رواية الطبري هنا : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، وهي الآية : 104 من سورة التوبة . وأما الأخرى فالآية : 25 من سورة الشورى ، وتلاوتها : (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) وليست تكون موضع الاستشهاد في هذا الحديث .
وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند ، من الناسخين القدماء ، بدلالة أنه ثبت هذا الخطأ أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن المسند ، في جامع المسانيد والسنن 7 : 320 (مخطوط مصور) .
بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا . لعله من وكيع ، أو من عباد بن منصور . لأن الترمذي روى الحديث 2 : 23 ، عن أبي كريب - شيخ الطبري هنا - عن وكيع ، به . وثبتت فيه تلاوة الآية على الخطأ ، كرواية أحمد عن وكيع . ونقل شارحه المباركفوري عن الحافظ العراقي أنه قال : " في هذا تخليط من بعض الرواة . والصواب : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية . وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي ، على الصواب " .
بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا . فذكر الحديث في الترغيب والترهيب 2 : 19 ، عن رواية الترمذي ، وذكر الآية كرواية المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة .
فإذا كان ذلك كذلك ، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله سمعه من أبي كريب عن وكيع ، كرواية الترمذي عن أبي كريب ، وكرواية أحمد عن وكيع ، فلم يستجز أن يذكر الآية على الخطأ في التلاوة ، فذكرها على الصواب . وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن .
وقال الترمذي - بعد روايته : " هذا حديث حسن صحيح . وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا " .
ورواية عائشة ستأتي : 6255 .
وذكره ابن كثير في التفسير 2 : 62 ، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن عمرو بن عبد الله الأودي ، عن وكيع ، بهذا الإسناد ، لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع فيها الخطأ .
وذكره السيوطي 1 : 365 ، وزاد نسبته للشافعي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن خزيمة ، وابن المنذر ، والدارقطني في الصفات .
ورواه أحمد أيضًا : 9234 ، عن خلف بن الوليد ، عن المبارك ، وهو ابن فضالة ، عن عبد الواحد ابن صبرة ، وعباد بن منصور ، عن القاسم ، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه ، مختصرًا ، ولم يذكر فيه الآيتين .
وأشار ابن كثير 2 : 62 ، إلى رواية المسند هذه ، ولكن وقع فيه تخليط من الناسخين .
والحديث سيأتي نحو معناه ، مطولا ومختصرًا ، عن أبي هريرة : 6254 ، 6256 ، 6257 . وعن عائشة : 6255 .
وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها : 6257 .

(6/16)


6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال : إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة ، ولا يقبلُ إلا الطيب. " (1) .
__________
(1) الحديث : 6254 - سليمان بن عمر بن خالد الأقطع ، القرشي العامري الرقي : ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/131 ، وذكر أن أباه كتب عنه . ولم يذكر فيه جرحًا .
ابن المبارك : هو عبد الله . وسفيان : هو الثوري .
والحديث مختصر ما قبله . والشك في رفعه - هنا - لا يضر ، فقد صح الحديث مرفوعًا بالإسناد السابق والأسانيد الأخر .
وسيأتي الحديث أيضًا ، بهذا الإسناد (ج 11 ص 15 بولاق) ، ولم يذكر لفظه ، بل ذكر أوله ، ثم قال : " ثم ذكر نحوه " . إحالة على الحديث السابق . فكأنه رواه هناك مطولا ، ولكن دون ذكر سياقه كاملا .
وأشار ابن كثير ، في تفسير سورة التوبة 4 : 235 - إلى هذه الرواية والتي قبلها ، جعلهما حديثًا واحدًا ، عن الثوري ووكيع ، عن عباد بن منصور ، به . ولكنه لم يذكر تخريجه .

(6/17)


6255 - حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي ، قال : حدثنا ريحان بن سعيد ، قال : حدثنا عباد ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله ، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد ، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : (يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات). (1) .
__________
(1) الحديث : 6255 - محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم ، المقدمي البصري ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/179 ، وابن أبي حاتم 4/1/21 . ووقع في المطبوعة هنا غلط في اسم أبيه : " عمرو " بدل " عمر " . وسيأتي بتخليط أشد في المطبوعة : 6809 ، هكذا : " محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي " !!
و " المقدمي " : بتشديد الدال المهملة المفتوحة ، نسبة إلى جده الأعلى " مقدم " .
ريحان بن سعيد الناجي البصري : من شيوخ أحمد وإسحاق . وقال يحيى بن معين : " ما أرى به بأسا " . وتكلم فيه بعضهم ، ولكن البخاري ترجمه في الكبير 2/1/301 ، فلم يذكر فيه جرحًا . وكان إمام مسجد عباد بن منصور ، كما في الكبير ، وابن أبي حاتم 1/2/517 . وتكلم فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد . ولعله كان أعرف به إذ كان إمام مسجده .
وأيا ما كان ، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية ، كما سيظهر من التخريج .
فرواه أحمد في المسند 6 : 251 (حلبي) ، عن عبد الصمد ، عن حماد ، عن ثابت ، عن القاسم ابن محمد ، عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة ، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى يكون مثل أحد " .
وهذا إسناد صحيح . ولكن الحديث مختصر .
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 5 : 234 - 235 (من مخطوطة الإحسان) . من طريق عبد الصمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن القاسم .
ورواه البزار مطولا ، من طريق يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة - ومن طريق الضحاك بن عثمان ، عن أبي هريرة ، بنحو رواية الطبري هنا ، إلا أنه لم يذكر الآية في آخره . نقله ابن كثير 2 : 62 - 63 .
ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة ، لأنه إنما يروى عن التابعين .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 111 مختصرًا كرواية المسند ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح " . ثم ذكره مطولا 3 : 112 ، وقال : " رواه البزار ، ورجاله ثقات " . ولكنه ذكره من حديث عائشة وحدها .
وذكر السيوطي 1 : 365 لفظ الطبري هنا . ثم تساهل في نسبته ، فنسبه للبزار ، وابن جرير ، وابن حبان ، والطبراني .

(6/18)


6256 - حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه ، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله أو قال : " في كفِّ الله عز وجلّ حتى تكون مثلَ أحُد ، فتصدّقوا " . (1) .
6257 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت
__________
(1) الحديث : 6256 - " محمد بن عبد الملك " : الراجح عندي أنه " محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي " ، فإنه يروي عن عبد الرزاق ، وهو من طبقة شيوخ الطبري ، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه . ولكنه بغدادي مثله . فمن المحتمل جدا أن يروى عنه ، بل هو هو الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال . وهو ثقة ، وثقه النسائي وغيره . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/5 . وتاريخ بغداد 2 : 345 - 346 .
ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ : " محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب " ، وهو ثقة أيضًا ، ولكن لم يذكر عنه أنه روى عن عبد الرزاق ، والغالب أن ينص على مثل هذا . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/5 ، وتاريخ بغداد 2 : 344 - 345 .
وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو ؟ فحين ذكر هذا الحديث 2 : 62 ، ذكر أنه " رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق " !! ولم أجد في الرواة من يسمى بهذا . فلا أدري أهو سهو منه ، أم تخليط من الناسخين ؟
والحديث رواه أحمد في المسند : 7622 ، عن عبد الرزاق ، بهذا الإسناد .
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 44 ، عن محمد بن رافع ، وعبد الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد الرزاق ، به .
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 19 ، أنه رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا .
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا ، ثم قال : " وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه عجيب . والمحفوظ ما تقدم " ! يعني رواية عباد بن منصور .
ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا ، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح على شرط الشيخين .
ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر ، فقد تابعه عليه محمد بن ثور . فرواه الطبري - فيما سيأتي (ج 11 ص 15 - 16 بولاق) ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور ، عن معمر ، به . نحوه . وهذا إسناد صحيح أيضًا . فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد : ثقة ، وثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق .

(6/19)


يونس ، عن صاحب له ، عن القاسم بن محمد قال ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه ، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا ، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله ، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد " . (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 6257 - وهذا إسناد فيه راو مبهم ، هو الذي روى عنه يونس ، ومن المحتمل جدا أن يكون هو أيوب . ولكن لا يزال الإسناد ضعيفا حتى نجد الدلالة على هذا المبهم .
وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها .
وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة ، من أوجه كثيرة :
فرواه البخاري 3 : 220 - 223 ، و 13 : 352 ومسلم ، 1 : 277 - 278 ، والترمذي 2 : 22 - 23 ، والنسائي 1 : 349 ، وابن ماجه : 1842 ، وابن حبان في صحيحه 5 : 234 - 237 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد . ص : 41 - 44 .
ورواه أحمد في المسند - غير ما أشرنا إليه سابقا - : 8363 (2 : 331 حلبي) ، 8948 ، 8949 (ص : 381 - 382) ، 9234 (ص404) ، 9413 (ص : 418) ، 9423 (ص : 419) ، 9561 (ص : 431) ، 10958 (ص : 538) ، 10992 (ص : 541) .
ورواه البخاري في الكبير ، بالإشارة الموجزة كعادته 2/1/476 .
وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث : " في يد الله " ، و " في كف الله " ، و " كف الرحمن " ، ونحو هذه الألفاظ . فقال الترمذي 2 : 23 - 24 .
" وقال غير واحد من أهل العلم ، في هذا الحديث ، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - قال : قد ثبتت الروايات في هذا ، ونؤمن بها . ولا يتوهم ، ولا يقال : كيف ؟ هكذا رُوي عن مالك ابن أنس ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، انهم قالوا في هذه الأحاديث : أَمِرُّوها بلا كيفَ . وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية ، فأنكرت هذه الروايات ، وقالوا : هذا تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه - : اليد ، والسمع والبصر . فتأولت الجهمية هذه الآيات ، وفَّسروها على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا : إن الله لم يَخْلق آدم بيده! وقالوا : إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم : إنما يكون التشبيه إذا قال يد كَيدٍ ، أو مِثْل يَدٍ ، أو سمع كسَمْعٍ ، أو مثلَ سمعٍ . فإذا قال سمع كسمعٍ أو مثل سمع - فهذا تشبيه . وأما إذا قال كما قال الله : يد ، وسمع ، وبصر . ولا يقول : كيف ، ولا يقول : مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً . وهو كما قال الله تبارك وتعال : (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البَصير) " .

(6/20)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

قال أبو جعفر : وأما قوله : " والله لا يحب كل كفار أثيم " ، فإنه يعني به : والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه ، مقيم عليه ، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه ، " أثيم " ، متماد في الإثم ، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه ، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند ربهم ، من تحريم الربا وأكله ، وغير ذلك من سائر شرائع دينه " وعملوا الصالحات " التي أمرهم الله عز وجل بها ، والتي نَدَبهم إليها " وأقاموا الصلاة " المفروضة بحدودها ، وأدّوها بسُنَنها " وآتوا الزكاة " المفروضة عليهم في أموالهم ، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا ، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم " لهم أجرهم " ، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم " عند ربهم " يوم حاجتهم إليه في معادهم ولا خوف عليهم " يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم ، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا ، بما كان من إنابتهم ، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم ،

(6/21)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

وتصديقهم بوعد الله ووعيده " ولا هم يحزنون " على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به ، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى ، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة ، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " يا أيها الذين آمنوا " ، صدّقوا بالله وبرسوله " اتقوا الله " ، يقول : خافوا الله على أنفسكم ، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به ، والانتهاء عما نهاكم عنه " وذروا " ، يعني : ودعوا " ما بقي من الربا " ، يقول : اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها " إن كنتم مؤمنين " ، يقول : إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم ، بأفعالكم. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم ، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم ، وبقي بعضٌ ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية ، (2) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.
* ذكر من قال ذلك :
6258 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى : " ولا تظلمون " ، قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة ، كانا
__________
(1) قوله : " بأفعالكم " متعلق بقوله : " محققين . . . " ، أي محققين ذلك بأفعالكم .
(2) في المخطوطة : " عما كان قد اقتضوه . . . " ، وهو فاسد ، والصواب ما في المطبوعة .

(6/22)


شريكين في الجاهلية ، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو (1) وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله " ذروا ما بقي " من فضل كان في الجاهلية " من الربا " .
6259 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين " ، قال : كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد ، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله " ، إلى " ولا تظلمون " . فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال : " إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب " وقال ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا " ، قال : كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة ، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، بنو عمرو بن عمير ، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة ، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود. (2)
6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " سلفا في الربا إلى أناس . . . " بالفعل الماضي ، والصواب ما أثبت من الدر المنثور 1 : 366 ، والبغوي (بهامش ابن كثير) 2 : 63 . والسلف (بفتحتين) : القرض . والفعل : أسلف وسلف (بتشديد اللام) .
(2) الأثر : 6259 - انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة " هلال الثقفي " . وقال : " وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله : " فلما كان الفتح " نظر ، ذكرت توجيهه في أسباب النزول " .

(6/23)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

عن الضحاك في قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين " ، قال : كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية ، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (فإن لم تفعلوا) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله : " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة : " فَأْذَنُوْا " بقصر الألف من " فآذنوا " ، وفتح ذالها ، بمعنى : كونوا على علم وإذن.
* * *
وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين : " فَآذِنُوا " بمدّ الألف من قوله : " فأذنوا " وكسر ذالها ، بمعنى : فآذنوا غيرَكم ، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " فأذَنوا " بقصر ألفها وفتح ذالها ، بمعنى : اعلموا ذلك واستيقنوه ، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.
وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام

(6/24)


على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه ، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام ، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (1) فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه ، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان ، فإنما نُبذ إليه بحرب ، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (2) لأن الأمر إن كان إليه ، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب ، لم يَلزمهم حرْبُه ، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين ، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.
وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6261 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا " ، إلى قوله : (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه ، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضَرب عنقه.
6262 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا : " خذ سلاحك للحرْب " . (3)
6263 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج ، قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله.
6264 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه " . وهو خطأ في الرسم ، وفساد في المعنى بهذا الرسم . وصواب رسمه في المخطوطة ، وهو صواب المعنى .
(2) في المخطوطة : " بالإنذار بها إن عزم على ذلك " ، وهي صواب في المعنى ، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح .
(3) الأثر : 6262 - انظر الأثر السالف رقم : 6241 ، والتعليق عليه .
(4) البهرج : الشيء المباح . والمكان بهرج : غير حمى . وبهرج دمه : أهدره وأبطله . وفي الحديث : أنه بهرج دم ابن الحارث .

(6/25)


6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، مثله.
6266 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " ، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل. (1)
6267 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : قوله : (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله : (فأذنوا بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل ، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أُمْوَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " إن تبتم " فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل " فلكم رؤوس أموالكم " من الديون التي لكم على الناس ، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم ، كما :
6268 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال ، (2) جعل لهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أوعد لآكل الربا . . . " وهو لا شيء ، والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " المال الذي لهم " بإسقاط الواو ، وأثبت ما في المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم : 6297 . وفي المخطوطة " ظهور الرحال " بالحاء .

(6/26)


رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.
6269 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : وضع الله الرّبا ، وجعل لهم رءوس أموالهم.
6270 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " ، قال : ما كان لهم من دَين ، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.
6271 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " الذي أسلفتم ، وسقط الربا.
6272 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح : " ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله ، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب " .
6273 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : " إنّ كل ربا موضوع ، وأول ربًا يوضع ربا العباس " . (1) .
* * *
__________
(1) الأثران : 6272 ، 6273 - حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، رواه مسلم 8 : 182 ، 183 في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع . وسنن البيهقي 5 : 274 ، 275 . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، وقال " أخرج أبو داود والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع . . . " ، وانظر ابن كثير 2 : 65 .

(6/27)


القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " لا تَظلمون " بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم ، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه ، أو لم يكن لكم قبلُ " ولا تُظلمون " ، يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل ، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه ، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول ، وغيرُه من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6274 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون " ، فتُربون ، " ولا تظلمون " فتنقصون.
6275 - وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " ، قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم " ذو عُسْرَة " يعني : معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم.

(6/28)


وقوله : " ذو عسرة " ، مرفوع ب " كان " ، فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها ، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها ، ولو وُجِّهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام ، لكان وجهًا صحيحًا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك : وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم ، فنَظِرة إلى ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ) ، بمعنى : وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (1)
* * *
وأما قوله : ( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) [سورة البقرة : 196] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ ، فأغنى عن تكريره. (2) .
* * *
و " الميسرَة " ، المفعلة من " اليُسر " ، مثل " المرْحمة " و " والمشأمة " .
* * *
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم ، (3) فيصيرَ من أهل اليُسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 186 .
(2) انظر ما سلف 4 : 34 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى يوسر بما ليس لكم " ، واجتهد مصحح المطبوعة وقال : " لعل (ليس) زائدة من الناسخ " . ولا أراه كذلك ، بل قوله " بما ليس " ، هي في الأصل الذي نقل عنه الناسخ " بالدين " مرتبطة الحروف ، كما يكون كثيرا في المخطوطة القديمة ، فلم يحسن الناسخ قراءتها ، فقرأها " بما ليس " ، وحذف " الذي " ، لظنه أنها زائدة سهوا من الناسخ قبله ، وتبين صحة ما أثبتناه ، من كلام الطبري بعد في آخر تفسير الآية . ولو قرئت : " برأس ما لكم " ، لكان صوابا في المعنى ، كما يتبين من الآثار الآتية .

(6/29)


ذكر من قال ذلك :
6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، قال : نزلت في الربا.
6278 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين : أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح ، قال : فقضى عليه وأمرَ بحبسه ، قال : فقال رجل عند شريح : إنه مُعسرٌ ، والله يقول في كتابه : " وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة " ! قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [سورة النساء : 58] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.
6279 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، قال : ذلك في الربا.
6280 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أيْ فلان ، إن كنت مُوسرًا فأدِّ ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (1)
6281 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه مُعسر! ! قال : فظننت أنه يكلِّمه في محبوس ، فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ،
__________
(1) الأثر : 6280 - كان في المطبوعة : " مغيرة ، عن الحسن . . . " ، وفي المخطوطة " مغيرة ، عن الحسى " مشددة الياء بالقلم ، والناسخ كثير السهو والغفلة والتصحيف كما أسلفنا . وإنما هو " الشعبي " ، وهذا الإسناد إلى الشعبي قد مضى مئات من المرات ، انظر مثلا : 4385 . وكان في المطبوعة : " الربيع بن خيثم " وهو تصحيف والصواب ما أثبت ، وقد مضت ترجمته في رقم : 1430 .

(6/30)


فأنزل الله عز وجل : " وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة " وقال الله عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدّوا الأمانات إلى أهلها.
6282 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة " ، قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.
6283 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النَّظِرة في الأمانة ، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها. (1)
6284 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " ، يقول : إلى غنى.
6285 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، هذا في شأن الربا.
6286 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال (2) سمعت الضحاك في قوله : (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ، هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.
__________
(1) في المخطوطة : " ولكن مؤدي الأمانة . . . " ، وهو تصحيف من الناسخ .
(2) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، والصواب من المخطوطة ، وقد مضى الكلام على هذا الإسناد فيما سلف .

(6/31)


6287 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، يعني المطلوب.
6288 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : " وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة " ، قال : الموت.
6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن محمد بن علي مثله.
6290 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : " وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، قال : هذا في الربا.
6291 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فُرْقة.
6292 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " فنظرة إلى ميسرة " ، قال : ذلك في الربا.
6293 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : " فنظرة إلى ميسرة " ، قال : يؤخّره ، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخَّره.
6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزدْ عليه.
* * *

(6/32)


وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ (1) من أيّ وجهة كان ذلك الحق ، من دين حلال أو ربا.
ذكر من قال ذلك :
6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا خير لكم. قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك.
6296 - حدثني علي بن حرب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الدَّين. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رؤوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه ، أو لزمه
__________
(1) في المخطوطة : " هذه الآية عام . . . " تصحيف من الناسخ وسهو .
(2) الأثر : 6296 - " علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي " . قال النسائي : " صالح " ، وقال أبو حاتم : " صدوق " توفي سنة 265 ، مترجم في التهذيب .

(6/33)


من قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا. (1) وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به : من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه ، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر : في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه.
فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم ، فقد بطل دين رب المال ، وذلك ما لا يقوله أحد.
ويكون في رقبته ، (2) فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه ، فقد بطل دين رب الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد.
فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه ، سبيل. (3) لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه بالحبس. (4)
* * *
__________
(1) سياق العبارة " ويلزمه أداء رأس ماله . . . إليه . . . " ، وما بينهما فصل .
(2) في المطبوعة : " ويكون في رقبته " ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل " قدم " بحقه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب جيد .
(4) في المطبوعة : " فيعاقب بظلمه إياه . . . " ، وفي المخطوطة " فيعاقب بطله إياه . . " وصواب قراءتها ما أثبت . مطله حقه يمطله مطلا ، وماطله مطالا : سوفه ودافعه بالعدة والدين . هذا ، وأبو جعفر رضي الله عنه ، رجل قويم الحجة ، أسد اللسان ، سديد المنطق ، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي ، ومساقطها من الصواب . وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في بعض تعليقي على هذا التفسير الجليل .

(6/34)


وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) }
قال أبو جعفر : يعني جل وعز بذلك : وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر ، " خير لكم " أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته ، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر " إن كنتم تعلمون " موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : " وأن تصدقوا " برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم " خير لكم " .
ذكر من قال ذلك :
6297 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا " وأن تصدقوا خير لكم " ، يقول : أن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم. (1)
6298 - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 6297 - سلف برقم : 6268 . وانظر التعليق هناك .

(6/35)


" وأن تصدقوا " ، أي برأس المال ، فهو خير لكم.
6299 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : (وأن تصدقوا خير لكم) قال : من رؤوس أموالكم.
6300 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله.
6301 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وأن تصدقوا خير لكم " ، قال : أن تصدقوا برؤوس أموالكم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر ، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك :
6302 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأن تصدقوا خير لكم " ، قال : وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير ، فهو خير لكم ، فتصدق به العباس.
6303 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ، يقول : وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.
6304 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك في قوله : ( وأن تصدقوا خير لكم) ، يعني : على المعسر ، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.
6305 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن

(6/36)


جويبر ، عن الضحاك : وأن تصدقوا برؤوس أموالكم ، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة. (1)
6306 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم " ، قال : من النظرة " إن كنتم تعلمون " .
6307 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) ، والنظرة واجبة ، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة ، (2) والصدقة لكل معسر ، فأما الموسر فلا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه : " وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم " لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه ، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.
* * *
قال أبو جعفر : وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا ، هن آخر آيات نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6308 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وحدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ،
__________
(1) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال . وهو مصدر لم أجده في كتب اللغة ، ولكنه عريق في عربيته . كالنذارة ، من الإنذار ، وهو عزيز ، ولكنه عربي البناء والقياس .
(2) يقال : " اخترت فلانا على فلان " بمعنى : فضلت فلانا على فلان ، ولذلك عدى بعلى . ومثله " خير فلانا على فلان " ، أي فضله عليه . وقد جاء في الأثر : " خير بين دور الأنصار " ، أي فضل بعضها على بعض . وقلما تجد هذا التعبير .

(6/37)


وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة. (1)
6039 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم ، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم " . (2)
__________
(1) الحديث : 6308 - سعيد : هو ابن أبي عروبة .
والحديث رواه أحمد في المسند : 246 ، عن يحيى ، وهو القطان .
و : 350 ، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة . بهذا الإسناد .
ورواه ابن ماجه : 2276 ، من طريق خالد بن الحارث ، عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ، به .
وذكره ابن كثير 2 : 58 ، عن الموضع الأول من المسند .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 365 ، وزاد نسبته لابن الضريس ، وابن المنذر . وأشار إليه في الإتقان 1 : 33 ، موجزا ، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط .
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد ، لانقطاعه . فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر ، كما بينا في شرح المسند : 109 ، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ، ص : 26 - 27 .
(2) الحديث : 6309 - داود : هو ابن أبي هند . عامر : هو الشعبي .
وهذا الإسناد ضعيف أيضًا ، فإن الشعبي لم يدرك عمر ، كما قلنا فيما مضى : 1608 ، نقلا عن ابن كثير .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 153 ، منسوبا للطبري ، وقال : " وهو منقطع ، فإن الشعبي لم يدرك عمر " .
وذكر ابن كثير 2 : 58 ، نحو معناه ، قال : " رواه ابن ماجه وابن مردويه ، من طريق هياج ابن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خطبنا عمر . . . " إلخ .
وهياج بن بسطام الهروي : اختلفوا فيه جدا ، فضعفه أحمد ، وابن معين ، وابن أبي حاتم ، وغيرهم . وقال المكي بن إبراهيم - شيخ البخاري : " ما علمنا الهياج إلا ثقة صادقا عالما " . ووثقه محمد ابن يحيى الذهلي . وقد أنكروا عليه أحاديث ، ثم ظهر أن الحمل فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه . والراجح عندنا هذا ، فإن البخاري ترجمه في الكبير 4/2/242 ، فلم يذكر فيه جرحا . وكأنه ذهب فيه إلى ما اختاره شيخاه : المكي بن إبراهيم ، ومحمد بن يحيى الذهلي .
وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج . ثم لم أعرف موضعه في ابن ماجه ، وليس عندي كتاب ابن مردويه .
ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج . فرواه الخطيب في ترجمته في تاريخ بغداد 14 : 80 - 81 ، من طريق محمد بن بكار بن الريان ، - وهو ثقة - عن الهياج ، بهذا الإسناد .
فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح ، والحمد لله .

(6/38)


وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }
قال أبو جعفر : وقيل : هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6311 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا الحسين بن واقد
__________
(1) الحديث : 6310 - أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة - النميري النحوي : ثقة صاحب عربية وأدب . قال الخطيب : " كان ثقة عالما بالسير وأيام الناس " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/116 ، وتاريخ بغداد 11 : 208 - 210 .
قبيصة : هو ابن عقبة . مضت ترجمته في : 489 ، 2792 . وهذا الحديث من روايته عن سفيان الثوري . وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة ، خلافا لمن تكلم فيها .
عاصم الأحول : هو عاصم بن سليمان . وقد مضى مرارا . ووقع في المطبوعة هنا " عاصم عن الأحول " . وهو خطأ مطبعي . وثبت على الصواب في المخطوطة .
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح 8 : 153 (فتح) ، عن قبيصة ، بهذا الإسناد . ولكنه اقتصر على أوله ، إلى قوله " آية الربا " لأن الباقي موقوف من كلام ابن عباس .
وذكر السيوطي 1 : 365 رواية البخاري ، وزاد نسبتها لأبي عبيد ، والبيهقي في الدلائل .
وقال الحافظ في الفتح : " المراد بالآخرية في الربا : تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة . وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة ، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران ، في أثناء قصة أحد : (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) الآية " .

(6/39)


عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " . (1)
6312 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله... " الآية ، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت.
6313 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عطية قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
__________
(1) الحديث : 6311 - أبو تميلة - بضم التاء المثناة : هو يحيى بن واضح . مضت ترجمته في : 392 .
الحسين بن واقد : مضت ترجمته في : 4810 . ووقع هناك في طبعتنا هذه " الحسن " . وهو خطأ مطبعي ، مع أننا بيناه على الصواب في الترجمة ، فيصحح ذلك .
يزيد النحوي : هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي ، مولى قريش . وهو ثقة ، وثقه أبو زرعة ، وابن معين ، وغيرهما . قتله أبو مسلم سنة 131 لأمره إياه بالمعروف . والنحوي " : نسبة إلى " بني نحو " ، بطن من الأزد .
وهذا إسناد صحيح .
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8 : 153 ، ونسبه للطبري فقط .
وذكره ابن كثير 2 : 69 ، عن رواية النسائي ، فهو يريد بها السنن الكبرى . وكذلك صنع السيوطي في الإتقان 1 : 33 .
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 324 ، وقال : " رواه الطبراني بإسنادين ، رجال أحدهما ثقات " .
وفي الدر المنثور 1 : 369 - 370 زيادة نسبته لأبي عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل .
وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس ، يعارض ظاهر الرواية السابقة عنه : 6310 ، أن آخر آية زلت هي آية الربا .
فقال الحافظ في الفتح : " وطريق الجمع بين هذين القولين ، [يريد الروايتين] : أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا ، إذ هي معطوفة عليهن " .
ويشير إلى ذلك صنيع البخاري ، بدقته وثقوب نظره ، فإنه روى الحديث الماضي تحت عنوان : " باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) " . فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا ، والروايتين متحدتين غير متعارضتين . رحمه الله .

(6/40)


الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " . (1)
6314 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن السدي ، قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .
6315 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، (2) عن الضحاك ، عن ابن عباس وحجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس آخر آية نزلت من القرآن : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " قال ابن جريج : يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال ، وبدئ يوم السبت ، (3) ومات يوم الاثنين.
6316 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. (4)
* * *
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واحذروا أيها الناس يوما ترجعون
__________
(1) الخبر : 6313 - سهل بن عامر : مضت ترجمته في : 1971 ، وأنه ضعيف جدا . ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا " إسماعيل بن سهل بن عامر " ! وهو تخليط من الناسخين ، فلا يوجد راو بهذا الاسم . ثم هذا الإسناد نفسه هو الماضي : 1971 . ومضى أيضًا رواية محمد بن عمارة ، عن سهل ، عن مالك بن مغول : 5431 .
(2) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، ومن كتب التراجم .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وبدا يوم السبت " ، وهو خطأ فاحش ، وأشد منه فظاظة شرح من شرحه فقال : " يريد أنه احتجب عن الناس لمرضه ، ثم خرج لهم يوم السبت " ! وأولى بالمرء أن يدع ما لا يحسن! إنما هو قولهم : " بدئ الرجل " (بالبناء للمجهول) أي مرض . يقال : متى بدئ فلان ؟ أي : متى مرض : وفي حديث عائشة : أنها قالت في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وا رأساه " .
وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان 1 : 33 ، وابن كثير 2 : 69 ، 70 .
(4) الحديث : 6316 - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب ، ولكنه حديث ضعيف لإرساله ، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به .
والحديث نقله ابن كثير 2 : 70 - 71 ، عن هذا الموضع بإسناده . وذكره السيوطي 1 : 370 " عن ابن جرير ، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب " .

(6/41)


فيه إلى الله " فتلقونه فيه ، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم ، أو بمخزيات تخزيكم ، أو بفاضحات تفضحكم ، فتهتك أستاركم ، (1) أو بموبقات توبقكم ، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به ، وإنه يوم مجازاة بالأعمال ، (2) لا يوم استعتاب ، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة ، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة ، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح ، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت ، (3) فوفيت جزاءها بالعدل من ربها ، وهم لا يظلمون. (4) وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها ؟! (5) كلا بل عدل عليك أيها المسيء ، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن ، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره ، (6) وراقبه أن يهجم عليه يومه ، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ، ومن صالحات الأعمال خفيف ، فإنه عز وجل حذر فأعذر ، ووعظ فأبلغ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بفضيحات تفضحكم " ، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!!
(2) في المطبوعة : " مجازاة الأعمال " ، ولا أدري لم حذف " الباء " !!
(3) في المطبوعة : " لا يغادر . . . " بالياء ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، والصواب ما أثبت .
(4) في المطبوعة : " فتوفى جزاءها " ، وفي المخطوطة : " فتوفيت " غير منقوطة كلها ، وصوت قراءتها ما أثبت
(5) في المطبوعة : " كيف " بحذف الواو ، والصواب ما في المخطوطة .
(6) في المطبوعة : " فأخذ " بالفاء ، والصواب ما في المخطوطة .

(6/42)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : " إذا تداينتم " ، يعني : إذا تبايعتم بدين ، أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم أو أخذتم به " إلى أجل مسمى " ، يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم ، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه ، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. (1) ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى ، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه.
* * *
وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
ذكر الرواية عنه بذلك :
6317 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح قال ، قال ابن عباس في : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " ، قال : السلم في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أجل بيعه " ، وهي عبارة غير مفهومة قد أخل بها التصحيف والتحريف ، وقد اجتهدت في تصحيحها على هذا الوجه حتى تستقيم بعض الاستقامة . والسلم (بفتحتين) : السلف . يقال : أسلم وسلم (بتشديد اللام) : إذا أسلف ، وهو أن تعطى ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أجل معلوم ، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة . وحده عند بعض الفقهاء : هو بيع معلوم في الذمة ، محصور بالصفة ، بعين حاضرة . أو ما في حكمها ، إلى أجل معلوم " .
(2) الأثر : 6317 - يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي الهشلي الخزاز ، سمع سفيان ، ومات سنة 201 ، وقد تكلموا فيه قال أبو داود : " بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه " وقال ابن معين : " ليس بشيء " ، وقال العجلي " ثقة " ، وقال ابن عدي : " عامة ما يرويه لا يتابع عليه " .
مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/296 ، وابن أبي حاتم 4/2/178 .

(6/43)


6318 - حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال ، حدثنا يحيى بن الصامت قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن ابن عباس : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " ، قال : نزلت في السلم ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1)
6319 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، في السلم ، في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
6320 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الحديث : 6318 - يحيى بن الصامت : هكذا وقع في المخطوطة والمطبوعة ، ولم نعرف من ؟ ولعله محرف من شيء آخر ؟ .
والذي في هذه الطبقة ، ونرجح أنه الراوي هنا : هو " يحيى بن أيوب المقابري أبو زكريا العابد . فهو الذي يروي عن عبد الله بن المبارك ، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي ، كما في ترجمته في التهذيب 11 : 188 ، ولكن فيه " محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرمي " ، وهو خطأ في " عبد العزيز " بدل " عبد الله " . ويحيى بن أيوب هذا : ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه . و " المقابري " : نسبة إلى المقابر ، لكثرة زيارته إياها ، كما في اللباب 4 : 167 . وله ترجمة في ابن أبي حاتم 4/2/128 ، وتاريخ بغداد 14 : 188 - 189 .
ومن المحتمل - وهو رجل عابد زاهد - أن يكون " الصامت " لقبا له ، فيكون " يحيى الصامت " . ولكن لم أجد نصا على ذلك ، ولا ما يشير إليه .
سفيان : هو الثوري .
أبو حيان : هو التيمي ، يحيى بن سعيد بن حيان . مضت ترجمته في : 5382 .
ابن أبي نجيح : هو عبد الله بن يسار الثقفي المكي . وكنية أبيه " أبو نجيح " . وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة ، فإنه يروى عن التابعين .
وسيأتي الحديث صحيحا ، بإسناد آخر صحيح : 6321 .
وسيأتي بين هذين بإسنادين ضعيفين .
(2) الحديث : 6319 - زيد بن أبي الزرقاء : مضت ترجمته في : 1384 . ووقع في المطبوعة " يزيد " بدل " زيد " . وهو خطأ فلا يوجد من يسمى بهذا في الرواة . ثم هذا الشيخ هو الذي روى عن سفيان الثوري ، ويروي عنه علي بن سهل الرملي ، كما مضى في ذاك الإسناد .
والحديث ضعيف كالذي قبله . فالرجل المبهم الذي يروي عنه أبو حيان - هو ابن أبي نجيح . ولم يدرك ابن عباس .

(6/44)


أبي حيان التيمي ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " ، في السلف في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1)
6321 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي حسان ، عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون ، إلى أجل مسمى ، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6320 - محمد بن محبب بن إسحاق القرشي ، أبو همام الدلال صاحب الرقيق : ثقة ، وثقه أبو داود ، وأبو حاتم ، وغيرهما . وأخطأ المنذري في تهذيب السنن : 2537 ، إذ قال : " لا يحتج بحديثه " . وإنما قلد ابن الجوزي حين ذكره في الضعفاء . وغلطه في ذلك الذهبي في الميزان .
و " محبب " : بباءين موحدتين ، وزان " محمد " . كذا ضبطه عبد الغني في المؤتلف ، ص : 123 ، والذهبي في المشتبه ، ص : 467 ، والحافظ في التهذيب والتقريب . ووهم ابن أبي حاتم ، حين جعله " محبب " ، في الجرح 4/1/96 .
" صاحب الرقيق " : بالراء ، كما في الكبير للبخاري 1/1/247 ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم . ووقع في التهذيب والخلاصة : " الدقيق " بالدال . وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش الجرح : " والرقيق - بالراء : أشبه بقولهم الدلال " ، وهو جيد .
والحديث مكرر ما قبله ، وهو ضعيف الإسناد كمثله .
(2) الحديث : 6321 - معاذ بن هشام الدستوائي : ثقة مأمون . أخرج له الستة .
أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي : إمام ثقة حجة ، وكان ممن سمى " أمير المؤمنين في الحديث " - سماه به أبو داود الطيالسي . وقال شعبة : " كان هشام أحفظ مني عن قتادة " .
أبو حسان - بالسين : هو أبو حسان الأعرج ، مضت ترجمته في : 5422 . ووقع في المخطوطة والمطبوعة " أبو حيان " - بالياء - وهو خطأ وتخليط ، كما سيبين من التخريج .
والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 4 : 252 (مخطوط مصور) ، عن معمر ، عن قتادة ، به .
ورواه الشافعي في الأم 3 : 80 - 81 ، عن سفيان - وهو ابن عيينة ، " عن أيوب ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن ابن عباس " ، به .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 286 ، من طريق إبراهيم بن بشار ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، به .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 18 ، من طريق سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن قتادة ، به .
وتسرع الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك ، فعقب عليه ، كأنه يريد تضعيف إسناده! فقال : " إبراهيم ذو زوائد عن " ابن عيينة " !!
وهي كلمة مرسلة دون تحقيق . فإبراهيم بن بشار الرمادي : مضت ترجمته وتوثيقه في : 892 ، ونزيد هنا : أنه كان مكثرا عن ابن عيينة مغربا . ولكن قال ابن حبان : " كان متقنا ضابطا ، صحب ابن عيينة سنين كثيرة ، وسمع أحاديثه مرارا " . فمثل هذا لا يستبعد عليه أن يأتي عن شيخه بما لم يأت به غيره . هذه واحدة .
وأخرى : أنه لم ينفرد به عن ابن عيينة - كما ترى . وكفى برواية الشافعي إياه عن ابن عيينة ثقة وحجة .
ثم لم ينفرد به ابن عيينة عن أيوب عن قتادة . كما تبين مما ذكرنا من الأسانيد ، ومن رواية الطبري هنا . فقد رواه هشام الدستوائي ، ومعمر ، وشعبة - ثلاثتهم عن قتادة ، كما ترى .
ولذلك ذكره ابن كثير 2 : 71 - 72 ، قال : " وقال قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن ابن عباس . . . " . فلم يذكر من رواه عن قتادة ، لثبوته عنه من غير وجه .
وذكره السيوطي 1 : 370 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني .

(6/45)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه قوله : " بدين " ، وقد دل بقوله : " إذا تداينتم " ، عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن يقال " بدين " ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولا عندها : " تداينا " بمعنى : تجازينا ، وبمعنى : تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله : " بدين " ، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله : " تداينتم " ، (1)
حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) [سورة الحجر : 30\ سورة ص : 73] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه " . ، وهو غير مستقيم ، وفي المخطوطة : " تعريفمن قوله تداينتم حكمه " ، بين الكلام بياض ، وبالهامش حرف (ط) إشارة إلى الخطأ ، فآثرت أن أقيم الجملة بزيادة " سمع " حتى يستقيم الكلام بعض الاستقامة . وقوله " حكمه " مفعول للمصدر في قوله : " تعريف من سمع " . ثم انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس : 85 ، فإنه نقل كلام الطبري مختصرا ، آخره : " المعنى الذي قصد له " .
(2) لم أعرف قائله ، ولكنه مشهور في كتب التفسير ، انظر تفسير أبي حيان 1 : 343 ، والقرطبي 3 : 377 .

(6/46)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَاكْتُبُوهُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فاكتبوه " ، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى ، من بيع كان ذلك أو قرض.
* * *
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب.
فقال بعضهم : هو حق واجب وفرض لازم.
ذكر من قال ذلك :
6322 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، قال : من باع إلى أجل مسمى ، أمر أن يكتب ، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى.
6323 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، قال : فمن ادان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد.
6324 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، فكان هذا واجبا.
6325 - وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله وزاد فيه ، قال : ثم قامت الرخصة والسعة. (1) قال : ( فَإِنْ أَمِنَ
__________
(1) قوله : " ثم قامت الرخصة والسعة " ، أي ثبتت واستقامت ، وهو مجاز ، مثله قولهم : " قام الماء " إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا ، وإذا جمد أيضًا . " وقامت عينه " : ثبتت لم تتحرك . و " قام عندهم الحق " : أي ثبت ولم يبرح . كل ذلك مجاز .

(6/47)


بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ).
6326 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه. (1)
* * *
وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ).
ذكر من قال ذلك :
6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن شبرمة ، عن الشعبي قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد ، لقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال ابن عيينة ، قال ابن شبرمة ، عن الشعبي : إلى هذا انتهى.
6328 - حدثنا المثنى ، قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، قال : رخص من ذلك ، (2) فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
__________
(1) الأثر : 6326 - " أبو سلمان المرعشي " في المخطوطة " المدعس " ، وفي ابن كثير 2 : 72 . وقد ذكر البخاري في الكنى : 37 ، " أبو سليمان ، عن كعب قوله ، روى عن قتادة " .
(2) في المطبوعة : " رخص في ذلك " ، والذي في المخطوطة صواب ، ولكنه سيأتي في المخطوطة كالمطبوعة هنا في رقم : 6334 .

(6/48)


6329 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.
6330 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : " فإن أمن بعضكم بعضا " ، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود ، رخصة ورحمة من الله.
6331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال غير عطاء : (1) نسخت الكتاب والشهادة : " فإن أمن بعضكم بعضا " .
6332 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، قال : فلولا هذا الحرف ، (2) لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة.
6333 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد ؟ قال : ألم تر أن الله عز وجل يقول : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟
6334 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " قال غيرعطاء " ، لم يمض لقول عطاء ذكر فيما سلف في قول من قال إن الاكتتاب حق واجب وفرض لازم . ولعله سقط أثر فيه التصريح بما قال عطاء ، أو لعله اقتصر على ما قاله ابن جريج في الأثر رقم : 6323 ، كأنه من رواية ابن جريج عن عطاء .
(2) قوله : " فلولا هذا الحرف " ، يعني : فلولا هذا القول من الله تعالى . واستعمال " الحرف " بمعنى القول ، لم أجده في كتاب من كتب اللغة ، ولكنه مجاز حسن ، كما سموا القصيدة " كلمة " ، فجائز أن يقال للآية وللقول كله " حرف " .

(6/49)


داود ، عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " ، حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
6335 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " ، قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.
6336 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي : أرأيت الرجل يستدين ، من الرجل الشيء ، أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله : (1) " فإن أمن بعضكم بعضا " ، قد نسخ ما كان قبله.
6337 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال ، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة ، [عن أبيه] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " إلى : " فإن أمن بعضكم بعضا " (2) قال : هذه نسخت ما قبلها. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " قال فقال إلى قوله . . " بياض بين الكلمتين ، و " فقال " ، مكان " فقرأ " والذي في المطبوعة أشبه بالصواب .
(2) في المطبوعة : " قال فقرأ إلى : فإن أمن . . . " وفي المخطوطة تكرار بعد قوله : " إلى أجل مسمى " نصه : " قال فقرأ : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى . هذه نسخت ما قبلها " ولم يذكر " فإن أمن . . . " وهي الآية الناسخة . وأثبت الصواب من الناسخ والمنسوخ : 83 ، وروى الخبر ، كما سيأتي .
(3) الأثر : 6337 - " محمد بن مروان بن قدمة العقيلي " روى عنه البخاري في التعاليق ، وأبو داود في المراسيل ، وروى عنه مسدد ويحيى معين وغيرهم . قال أحمد : " رأيت محمد بن مروان العقيلي ، وحدث بأحاديث وأنا شاهد ، لم أكتبها ، تركتها على عمد " - كأنه ضعفه . وقال ابن معين : " ليس به بأس " ، وعن أبي داود : " صدوق " . مترجم في التهذيب . و " عبد الملك بن أبي نضرة العبدي " روى عن أبيه . قال الحافظ في التهذيب : " ذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أخطأ . له عندهما حديث في آية الدين : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم . قلت : وقال الدارقطني : لا بأس به . وقال الحاكم في المستدرك : من أعز البصريين حديثا " . مترجم في التهذيب . وأبوه " أبو نضرة " هو : " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي " روى عن علي بن أبي طالب ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي ذر ، وأبي سعيد ، وابن عباس وغيرهم من الصحابة . قال أحمد : " ثقة " . وقال ابن سعد : " ثقة كثير الحديث ، وليس كل أحد يحتج به " . مترجم في التهذيب .
هذا ، وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة ما وضعناه بين القوسين [عن أبيه] ، وهو سهو من الناسخ ، وقد جاء على الصواب في الناسخ والمنسوخ : 83 بهذا الإسناد نفسه ، كما أشرت إليه في التعليق السالف .

(6/50)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين " كاتب بالعدل " ، يعني : بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحق حقه ، ولا يبخسه ، (1) ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه ، كما :
6338 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " ، قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ، ولا يزيدن فيه باطلا.
* * *
وأما قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، فإنه يعني : ولا يأبين كاتب استكتب ذلك ، أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك ،
__________
(1) في المطبوعة : " لا يحيف ذا الحق " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، وهي فيها برسم ما أثبت غير منقوط . حاف يحف حيفا : مال وجار ، وهو فعل لازم غير متعد . أما " تحيفه ماله وحقه " : تنقصه من حافاته .

(6/51)


نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.
ذكر من قال ذلك :
6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولا يأب كاتب " ، قال : واجب على الكاتب أن يكتب.
6340 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب " ، أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم قال : ابن جريج ، وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب.
6341 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، بمثله.
6342 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعطاء قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت ، فلا تأب أن تكتب لهم.
* * *
ذكر من قال : " هي منسوخة " . قد ذكرنا جماعة ممن قال : " كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها " ، (1) وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.
6343 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) انظر ما سلف من رقم : 6327 - 6337 .

(6/52)


جويبر ، عن الضحاك : " ولا يأب كاتب " ، قال : كانت عزيمة ، فنسختها : ( وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ).
6344 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه ، عن الربيع : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فكان هذا واجبا على الكتاب.
* * *
وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.
ذكر من قال ذلك :
6345 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " ، يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ، ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه. (1)
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان ، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله : " فاكتبوه
__________
(1) قوله : " حرجا " ، أي آثما . وانظر ما سلف مرارا في التعليق على هذه الكلمة 2 : 423/ ثم 4 : 224 (تعليق : 1) / ثم 475 تعليق : 2/ ثم 566 تعليق : 3 ، ثم ص 567 وما بعدها .

(6/53)


وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله " .
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة ، على السبيل التي قد بيناها. (1) فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) ناسخا قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " - لوجب أن يكون قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) [سورة المائدة : 6] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) [سورة المائدة : 6] وأن يكون قوله في كفارة الظهار : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) [سورة المجادلة : 4] ناسخا قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) (2) [سورة المجادلة : 3].
* * *
فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل : " فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته " ناسخٌ قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " : ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله (3) فزعم أنّ كل ما أبيح في حال
__________
(1) يعني ما سلف له بيانه في 3 : 385 ، 563/ 4 : 582 ، وما سيأتي في هذا الجزء : 118 ، تعليق : 1 .
(2) ساق رأي الطبري مختصرًا ، أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 83 ، 84 ، والقرطبي في تفسيره 3 : 403 ، 404 .
(3) في المطبوعة : " ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم ما ذكرنا قوله " ، أدخل التعريف على " قائل " ، وحذف الواو من " وما ذكرنا " فصار الكلام محفوفًا بالفساد والخلط من كل مكان ، وتخلع السياق تخلعًا فظيعًا . وقول الطبري " وما ذكرنا " يعني ما ذكره في آية الظهار السالفة . ويعني بقوله : " وما ذكرنا قوله " ، أي أنه منسوخ بتمام الآية .

(6/54)


الضرورة لعلة الضرورة ، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله : نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله : " وإن كنتم عَلى سَفر ولم تجدُوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة فإن أمن بعضُكم بعضًا فليؤدّذ الذي اؤتمن أمانته) ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : " فإن أمن بعضُكم بعضًا " كلام منقطع عن قوله : " وإن كنتم على سَفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة " ، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله : " فرهان مقبوضة " . وإنما عنى بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضًا " : " إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى " ، فأمن بعضكم بعضًا ، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.
قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس ، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله : " ويُعلّمكم الله واللهُ بكل شيء عليم " ؟ (1)
* * *
وأما الذين زعموا أن قوله : " فاكتبوا " ، وقوله : " ولا يأب كاتب " على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه ، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
ذكر من قال : " العدل " في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " : الحقّ.
__________
(1) هذه حجة حبر رباني بصير بمعاني الكلام .

(6/55)


..........................................................................
.........................................................................
............................................................................ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا }
(2)
قال أبو جعفر : يعني بذلك : " فليكتب " الكاتب وليملل الذي عليه الحق " ، وهو الغريم المدينُ يقول : ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب " وليتق الله ربه " المملي الذي عليه الحقّ ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا ، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا ، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من سيئاته ، كما :
6346 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فليكتب وليملل الذي عليه الحق " ، فكان هذا واجبًا - " وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا " ، يقول : لا يظلم منه شيئًا.
6347 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا يبخس منه شيئًا " ، قال : لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.
* * *
__________
(1) سقط من الناسخ في هذا المكان ، ما رواه أبو جعفر من أقوال القائلين في معنى " العدل " بإسناده إليهم . ولا سبيل إلى إتمام ذلك حتى توجد نسخة من التفسير يقل سهو ناسخها وإغفاله .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : سقط من الناسخ " فليكتب " قبل " وليملل " ، فأثبتها .

(6/56)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا " ، فإن كان المدين الذي عليه المال " سفيهًا " ، يعني : جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب ، كما : -
6348 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، أما السفيه : فالجاهل بالإملاء والأمور.
* * *
وقال آخرون : بل " السفيه " في هذا الموضع ، الذي عناه الله : الطفلُ الصغير.
ذكر من قال ذلك :
6349 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، أما السفيه ، فهو الصغير.
6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا " ، قال : هو الصبي الصغير ، فليملل وليُّه بالعدل.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : " السفيه في هذا الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه " ، لما قد بينا قبل من أن معنى " السفه " في كلام العرب : الجهلُ. (1)
__________
(1) انظر تفسير " السفه " فيما سلف 1 : 293 - 295/ 3 : 90 ، 129 ، 130 .

(6/57)


وقد يدخل في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا " ، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه ، من صغير وكبير ، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها : كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه : من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدَين إلى أجل مسمى " ، والصبي ومن يُولّى عليه ، لا يجوز مُداينته ، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه ، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله ، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم : (1) ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم ، غير الصنفين الآخرين. (2)
وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف ، هو ذو القوة على الإملال ، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن الموصوف بالضعف منهم ، هو العاجز عن إملاله ، وإن كان شديدًا رشيدًا ، إما لعيّ لسانه أو خرس به وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ ، هو الممنوع من إملاله ، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه ، وإما لغيبته عن موضع الإملال ، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.
فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك ، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها ، وأمرَ ، عند سقوط فرض ذلك عليهم ، وليَّ
__________
(1) في المخطوطة : " فعن فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ، فالصفة ومن لا يستطيع إملاء الكتاب التي وصف الله بها كل واحد منهم . . . " وهو كلام مضطرب ، وقد أصاب ناشر المطبوعة في تصحيحه .
(2) في المخطوطة : " . . . الذين بين الله صفاتهم " ، وهو تصحيح لما كان في المخطوطة وهو : " الذين سن منه صفاتهم " غير منقطة ، ورجحت قراءتها كما أثبتها .

(6/58)


الحق بإملاله فقال : " فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل " ، يعني : وليُّ الحقّ.
* * *
ولا وجه لقول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الصغير ، وأن " الضعيفَ " هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال ، يوجب أن يكون قوله : " أو لا يستطيعُ أن يملّ هو " هو ، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه ، لبطل معنى قوله : " فليملل وليه بالعدل " ، (1) لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا ، (2) ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك ، ما يقضي على فساد قول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع ، هو الطفل الصغير ، أو الكبير الأحمق.
ذكر من قال ذلك :
6351 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " ، يقول : وليّ الحق.
6352 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل " ، قال يقول : إن كان عجز عن ذلك ، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بطل " ، وفي المخطوطة : " فبطل " ، ورجحت قراءتها كما أثبتها .
(2) في المخطوطة : " لا يولى عليه ماله " ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب .

(6/59)


ذكر الرواية عمن قال : " عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق " ، وبقوله : " فليملل وليه بالعدل " ، ولي السفيه والضعيف.
6353 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو " ، قال : أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.
6354 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الضعيف ، فهو الأحمق.
6355 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أما الضعيفُ فالأحمق.
6356 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا " لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
* * *
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.
* * *
وأما قوله : " فليملل وليه بالعدل " ، فإنه يعني : بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.
* * *
يقال : " فلان " شَهيدي على هذا المال ، وشاهدي عليه " . (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " شهيد " فيما سلف 1 : 376 ، 377 .

(6/60)


وأما قوله : " من رجالكم " ، فإنه يعني من أحراركم المسلمين ، دون عبيدكم ، ودون أحراركم الكفار ، كما : -
6357 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، قال : الأحرار.
6358 - حدثني يونس قال ، أخبرنا علي بن سعيد ، عن هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن لم يكونا رجلين ، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع " الرجل والمرأتان " ، بالرّد على " الكون " . وإن شئتَ قلتَ : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت : فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان ، (1) كان صوابًا. كل ذلك جائز.
* * *
ولو كان " فرجلا وامرأتين " نصبًا ، كان جائزًا ، على تأويل : فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فرجل وامرأتان " ، والصواب ما أثبت ، وهو الوجه الذي ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 184 .
(2) أكثر هذا نص معاني القرآن للفراء 1 : 184 . وفي المخطوطة والمطبوعة : " فرجل وامرأتان " نصبًا ، والأجود ما أثبت .

(6/61)


وقوله : " ممن ترضون من الشهداء " ، يعني : من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم ، كما : -
6359 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، يقول : في الدَّين " فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان " ، وذلك في الدين " ممن تَرْضون من الشهداء " ، يقول : عدولٌ.
6360 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء " .
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بفتح " الألف " من " أنْ " ، ونصب " تَضلَّ " ، و " تذكرَ " ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن " التذكير " عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان " تضلّ " . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا : إنما نصبنا " تذكّر " ، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله ، (1) فصار جوابه
__________
(1) في المخطوطة : " لما تقدم تضل بما قبله " ، والصواب من المخطوطة ، ومعاني القرآن للفراء .

(6/62)


مردودًا عليه ، كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى " ، بمعنى : إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو : إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله : " أنْ يسأل " لما تقدم ، اتصل بما قبله وهو قوله : " ليعجبني " ، ففتح " أنْ " ونصب بها ، (1) ثم أتبع ذلك قوله : " يعطى " ، فنصبه بنصب قوله : " ليعجبني أن يسأل " ، نسقًا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء. (2)
* * *
وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين " الذال " من( تُذْكِرَ ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.
وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه : فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما ، بمعنى : أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها ، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور ، (3) فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب : " لقد أذكرت بفلان أمُّه " ، أي ولدته ذَكرًا ، " فهي تُذْكِر به " ، " وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ " ، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.
__________
(1) في المطبوعة : " فتح أن ونصب بها " ، وفي المخطوطة : " ففلح ونصب بها " تصحيف ، وبإسقاط " أن " .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 184 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " منزلة شهادة واحد . . . " بإسقاط الباء ، والصواب ما أثبت .

(6/63)


6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : " فتذْكر إحداهما الأخرى " من الذِّكْر بعد النسيان ، إنما هو من الذَّكَر ، بمعنى : أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر.
* * *
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى " الذكر " بعد النسيان. (1)
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) " بكسر " إن " من قوله : " إن تضلَ " ورفع " تذكر " وتشديده ، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها ، ذكرتها الأخرى ، (2) من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك (3) وانقطاع ذلك عما قبله. (4) ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها ، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. (5)
وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش " تضل " ، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو " إن " . وتأويل الكلام على
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وقال آخرون منهم يوجهونه " ليس صوابًا ، والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة " تذكرها الأخرى " ، وفي المخطوطة " وذكرها الأخرى " ، والسياق يقتضي ما أثبت . وسيأتي بعد ما يدل على صواب ما رجحت .
(3) في المخطوطة : " وتنكيرها ذلك " ، تصحيف .
(4) قوله : " وانقطاع ذلك عما قبله " معطوف على قوله آنفًا : " بمعنى ابتداء الخبر . . . " .
(5) في المخطوطة : " من تنكير الأخرى منهما . . . " ، تصحيف ، كالسالف في التعليق رقم : 3 .

(6/64)


قراءته (1) " إن تَضْللْ " ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى ، حركها إلى أخفّ الحركات ، ورفع " تذكر " بالفاء ، لأنه جواب الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك ، قراءةُ من قرأه بفتح " أن " من قوله : " أن تضلّ إحداهما " ، وبتشديد الكاف من قوله : " فتذكِّر إحداهما الأخرى " . ونصب الراء منه ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجلٌ وامرأتان ، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.
وأما نصب " فتذكر " فبالعطف على " تضل " ، وفتحت " أن " بحلولها محل " كي " وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده ، اكتفاءً بفتحها أعني بفتح " أن " من " كي " ، ونسق الثاني - أعني : " فتذكر " - على " تضل " ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر ، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن " كي " .
وإنما اخترنا ذلك في القراءة ، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم ، إلى غيرها. وأما اختيارنا " فتذكر " بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى : ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى ، وتعريفها بأنها [نسيت] ذلك ، لتذكر. (2) فالتشديد به أولى من التخفيف.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " تأويل الكلام " بإسقاط الواو ، والصواب ، ما أثبت .
(2) مطبوعة بولاق : " فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بأنها ذلك لتذكر " وهو كلام بلا معنى . وفي مطبوعة أخرى قبله ، مع " بإنهاء ذلك " مكان " بأنها ذلك " وهو أشد خلوًا من المعنى . وفي المخطوطة : " بمعنى يوره الذكر . . . بأنها ذلك " ، غير منقوطة . وصواب قراءتها ما أثبت ، مع زيادة " نسيت " التي وضعتها بين القوسين .

(6/65)


وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويلٌ خطأ لا معنى له ، لوجوه شتى :
أحدها : أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.
والثاني : أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها ، (1) إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها ، (2) كضلال الرجل في دينه : إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق (3) . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة ، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها ، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ ، (4) لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، (5) فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، (6) كما يقال للشيء القوي في عمله : " ذَكرٌ " ، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : " سيف ذكر " ، و " رجل ذَكَر " يراد به : ماض في عمله ، قويّ البطش ، صحيحُ العزم.
فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك ؟
__________
(1) في المطبوعة : " أنه معلوم بأن ضلال . . . " بزيادة الباء ، وهو لا خير فيه ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " إنما هو خطؤها عنها بنسيانها " ، والصواب من المخطوطة ، غير أنها أسقطت الواو قبل " ونسيانها " .
(3) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف 1 : 195 / ثم 2 : 495 ، 496 .
(4) في المطبوعة : " فالضالة منهما " ، وفي المخطوطة : " ولا الضالة منهما " ، والصواب ما أثبت .
(5) في المطبوعة : " ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره . . . " ، وفي المخطوطة : " سحدتها " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت . مجاز من قولهم : " شحذ السكين والسيف " : حدده بالمسن ومنه : " شحذ الجوع معدته " ، إذا أضرمها وقواها على الطعام وأحدها . ويقال : " اشحذ له غرب ذهنك " ، و " هذا الكلام مشحذة للفهم " .
(6) في المخطوطة : " فقوته بالذكر " ، وما في المطبوعة أجود .

(6/66)


إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك ، (1) صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه ، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى ، القراءةَ التي اخترناها. (2) ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : " فتذكر " . (3) ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك ، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا. (4)
* * *
ذكر من تأول قوله : " أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى " نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه :
6362 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى " ، علم الله أن ستكونُ حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربِّكم ، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا ، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.
6363 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " ، يقول : أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى.
6364 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) في المطبوعة : " إذا تأول ذلك . . . " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " القراءة الذي اخترناها " ، وهو سهو من الناسخ الكثير السهو!!
(3) في المطبوعة : " بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته . . . " وهو كلام قد أريق معناه ضياعًا . وفي المخطوطة : " بأن +تعين القراءة حينئذ الصحيح بالذي اختار قراءته . . . " ، وهو مصحف ، وأرجح أن يكون صواب الجملة كما أثبتها ، لأنها عندئذ مصيبة معنى ما أراد أبو جعفر .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " فالصواب في قوله . . . " ، والصواب ما أثبت . وسياق الجملة : " فالصواب في قراءته . . . ما اخترنا " .

(6/67)


عن السدي : " أن تضل إحداهما " ، يقول : تنسى إحداهما الشهادة ، فتذكّرها الأخرى.
6365 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أن تضل إحداهما " ، يقول : إنْ تنسَ إحدَاهما ، كذتِّرْها الأخرى.
6366 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى " ، قال : كلاهما لغة ، وهما سواء ، ونحن نقرأ : " فتذكِّر " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.
فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا ، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.
ذكر من قال ذلك :
6367 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم ، (1) فيدعوهم إلى الشهادة ، فلا يتبعه أحد منهم. قال : وكان قتادة يتأوّل هذه الآية : " ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا " ليشهدوا لرجل على رجل.
6368 - حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : كان الرجل يطوف في القوم
__________
(1) الحواء (بكسر الحاء) : بيوت مجتمعة من الناس على ماء .

(6/68)


الكثير يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله عز وجل : " ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا " .
6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة.
* * *
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر ، إن شاء أجاب ، وإن شاء لم يجب.
ذكر من قال ذلك :
6370 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي قال : " لا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - قال : إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه ، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.
ذكر من قال ذلك :
6371 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عامر ، عن الحسن : " ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا " ، قال : قال الحسن : الإقامة والشهادة. (1)
6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر
__________
(1) الأثر 6371 - " أبو عامر " هو : " صالح بن رستم المزني " ، روى عن عبد الله بن أبي مليكة ، وأبي قلابة ، وحميد بن هلال ، والحسن البصري ، وعكرمة وغيرهم . روى عنه ابنه عامر ، وإسرائيل ، وهشيم ، ومعتمر ، وأبو داود الطيالسي . قال ابن معين : " ضعيف " . وقال أحمد : " صالح الحديث " . وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : " شيخ ، يكتب حديثه " . وقال أبو داود : " ثقة " . وسيأتي في الأسانيد رقم : 6383 ، 6384 ، 6387 .

(6/69)


في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : كان الحسن يقول : جَمَعتْ أمرين : لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة.
6373 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، يعني : من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.
6374 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : لإقامتها ، ولا يبدأ بها ، إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.
ذكر من قال ذلك :
6375 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا شهد.
6376 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.
6377 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، يقول : إذا كانوا قد أشْهِدوا.
6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانت عندك شهادة فدُعيت.
6379 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ليث ، عن

(6/70)


مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كانت شهادة فأقمها ، فإذا دُعيت لتشهد ، فإن شئتَ فاذْهب ، وإن شئت فلا تذهب.
6380 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا عبد الملك بن الصّباح ، عن عمران بن حُدَير ، قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.
6381 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.
6382 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " . قال : لإقامة الشهادة.
6383 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي عامر ، عن عطاء قال : في إقامة الشهادة.
6384 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا أبو عامر المزني قال ، سمعت عطاء يقول : ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا " . (1)
6385 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو حُرّة ، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال : أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال : فلا تجبْ إن شئت. (2)
6386 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة قال : سألت إبراهيم
__________
(1) الأثران : 6383 ، 6384 - أبو " عامر " مضت ترجمته برقم : 6372 .
(2) الأثر : 6385 - " أبو حرة " البصري ، هو : " واصل بن عبد الرحمن " . روى عن عكرمة بن عبد الله المزني ، والحسن ، وابن سيرين ، ومحمد بن واسع وغيرهم . روى عنه حماد بن سلمة ، وهشيم ، والقطان ، وابن مهدي ، ووكيع ، وغيرهم . قال البخاري : " يتكلمون في روايته عن الحسن " . قال عبد الله بن أحمد : سألت يحيى بن معين عن أبي حرة فقال : " صالح ، وحديثه عن الحسن ضعيف ، يقولون : لم يسمعها من الحسن " . مترجم في التهذيب . وكان في المطبوعة : أبو مرة ، وهو خطأ .

(6/71)


قلت : أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئتَ.
6387 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عامر ، عن عطاء قال : للإقامة. (1)
6388 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا " ، قال : إذا كانوا قد شهدوا.
6389 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : هو الذي عنده الشهادة.
6390 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا " ، يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد ، إذا كان فارغًا.
6391 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : هم الذين قد شهدوا. قال : ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال : كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء ، الشهداء كثيرٌ.
6392 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها.
6393 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 6387 - " أبو عامر " ، انظر ما سلف رقم : 6372 .

(6/72)


" ولا يأب الشهداء " ، قال : كان الحسن يتأوّلها : إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.
6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : إذا كتب الرجل شهادته ، أو أشهِد لرجل فشهد ، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق ، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه. (1)
* * *
وقال آخرون : هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ، ابتداءً ، لا لإقامة الشهادة ، (2) ولكنه أمر نَدْب لا فرْض.
ذكر من قال ذلك :
6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال ، حدثنا أبو قتيبة ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد. (3)
6396 - حدثني أبو العالية قال ، حدثنا أبو قتيبة ، عن محمد بن ثابت العَصَريّ ، عن عطاء ، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : " [معنى]
__________
(1) قوله : " مقطع الحق " : هو موضع الفصل في الحكم بين الحق والباطل . من " القطع " ، وهو الفصل بين الأجزاء .
(2) في المطبوعة : " لا إقامة الشهادة " ، وفي المخطوطة كتب " لا إقامة " ثم ضرب على الألف ووضع تحت الألف من " لا " همزة ، وظاهر أن الذي أثبته هو الصواب .
(3) الخبر : 6395 - إسماعيل بن الهيثم ، أبو العالية العبدي ، شيخ الطبري : لم نجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع ، إلا رواية الطبري هذا الخبر والذي بعده ، وروايته عنه في التاريخ 1 : 206 مرة واحدة ، عن أبي قتيبة أيضًا .
وأبو قتيبة : هو سلم بن قتيبة ، مضت ترجمته في : 1924 .

(6/73)


ذلك : (1) ولا يأب الشهداء من الإجابة ، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه ، للذي هو له " .
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله عز وجل قال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا " ، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم " الشهداء " . وغير جائز أن يلزمهم اسم " الشهداء " إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم " الشهداء " . (2) فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء ، فغير جائز أن يقال لهم " شهداء " . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم ، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له " شاهد " ، بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، (3) أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم (4) كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله : " ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا " ، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً ، أو شَهد ، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد ، غيرُ مستحق اسم " شهيد " ولا " شاهد " ، لما قد وصفنا قبل.
مع أن في دخول " الألف واللام " في " الشهداء " ، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة ، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة ،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها .
(2) في المطبوعة : " على ما ألزمهم شهادتهم عليه " ، وفي المخطوطة : " لزمهم شهادتهم " ، والصواب في قراءة ذلك ما أثبت .
(3) في المطبوعة : " وإن كان خطأ . . . " والصواب من المخطوطة . وفي المخطوطة : " شهادة لغيرهم " ، والصواب ما في المطبوعة .
(4) في المطبوعة : " من قد قام بشهادته " ، وفي المخطوطة : " من قد قام شهادته " ، وصواب القراءة ما أثبت .

(6/74)


وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء " . وإذْ كان ذلك كذلك ، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها ، لقيل : (1) ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.
غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة ، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها ، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرضٌ عليه أن يكتب ، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام ، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله ، فسأله تعليمه وبيان ذلك له ، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. (2) ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم. (3)
* * *
" والشهداء " جمع " شهيد " . (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " إلى الشهادة فشهد " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) سياق هذه الجملة : كما فرض على من كان بموضع . . . أن يعلمه . . " .
(3) في المطبوعة : " وقد فرضنا على الرجل . . . " ، وهو خطأ فاسد ، وتحريف لما في المخطوطة من الصواب المحض .
(4) انظر ما سلف في بيان " الشهداء " 1/ 377/ ثم 3 : 97 ، 145/ وما سلف قريبًا ص : 60 .

(6/75)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تسأموا ، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل ، أن تكتبوا صغيرَ الحق ، يعني : قليله ، أو كبيره يعني : أو كثيره إلى أجله إلى أجل الحق ، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.
6397 - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله " ، قال : هو الدّين.
* * *
ومعنى قوله : " ولا تسأموا " : لا تملوا. يقال منه : " سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً " ، ومنه قول لبيد :
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا... وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ : كَيْفَ لَبيدُ ؟ (1)
ومنه قول زهير :
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ ، وَمَنْ يَعِشْ... ثَمَانِينَ عَامًا ، لا أَبَالَكَ ، يَسْأَمِ (2)
يعني مللت.
* * *
وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : " إلى أجله " ، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه ، القصيدة رقم : 7 ، يذكر فيها طول عمره ، ومآثره في ماضيه .
(2) ديوانه : 9 . تكاليف الحياة : مشقاتها ومتاعبها . وهذا البيت هو مطلع أبياته الحكيمة التي ختم بها معلقته .
(3) انظر ما قاله في " الأجل " فيما سلف قريبًا ص : 43 .

(6/76)


القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ذلكم " ، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.
* * *
ويعني بقوله : " أقسط " ، أعدل عند الله.
يقال منه : " أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا ، وهو مُقسط " ، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل : " قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا " . ومنه قول الله عز وجل : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) [سورة الجن : 15] ، يعني الجائرون.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6398 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ذلكم أقسط عند الله " ، يقول : أعدل عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأصوب للشهادة.
* * *
وأصله من قول القائل : " أقمتُ من عَوَجه " ، (1) إذا سويته فاستوى.
* * *
وإنما كان الكتاب أعدل عند الله ، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أقمته من عوجه " ، والصواب ما أثبت .

(6/77)


لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه ، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وأدنى " ، وأقرب ، من " الدنو " ، وهو القرب.
* * *
ويعني بقوله : " أن لا ترتابوا " ، أن لا تَشكوا في الشهادة ، (1) كما : -
6399 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي " ذلك أدنى أن لا ترتابوا " ، يقول : أن لا تشكوا في الشهادة.
* * *
وهو " تفتعل " من " الرِّيبة " . (2)
* * *
ومعنى الكلام : ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل ، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا ، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله ، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه ، وأقربُ لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " من أن لا تشكوا " ، والصواب حذف " من " ، أو جعلها " أي أن لا تشكوا " .
(2) في المخطوطة : " وهو تفعيل " ، وهو خطأ محض وتحريف .

(6/78)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا }
قال أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد ، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم ، أعني من الباعة والمشترين ، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة ، (1) فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " ، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء " فليس عليكم جُناح أن لا تكتبوها " ، يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6400 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " ، يقول : معكم بالبلد تَرَوْنها ، فتأخذُ وتعطى ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كان التواجب بينهم فيما يتابعونه بعد ما وجب له قبل مبايعيه . . " وهو كلام لا معنى له . وفي المخطوطة : " إذا كان التواجب بينهم فيما يتبايعون نقدًا ما وجب له قبل مبايعيه " ، وقوله " ++ ما وجب " غير منقوطة . فرأيت صواب قراءة " التواجب " ، " الواجب " وصواب الأخرى " نقدا " فاستقام الكلام . وسياق العبارة : " لأن كل واحد منهم . . يقبض . . . ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة " وقوله : " إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا " ، جملة فاصلة .

(6/79)


6401 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك. " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله " ، إلى قوله : " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " ، قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه ، صغيرًا كان أو كبيرًا ، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه.
واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة : ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ ) بالرفع.
وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. (1) وذلك وإن كان جائزًا في العربية ، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع " كان " ، وتضمر معها في " كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به " ، وترفعها فتقول : " إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به " ، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره ، الرفعُ في " التجارة الحاضرة " ، لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم ، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر : (2)
أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا... إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فقرأه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) لم أعرف قائله ، ولكن أخشى أن يكون هو متمم بن نويرة ، كما سترى في التعليق التالي .
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 186 . أرجح أن " عفاقًا " هذا ، هو " عفاق بن أبي مليل اليربوعي " ، الذي قتل يوم العظالى (انظر هذا 1 : 337 ، تعليق : 2) فرثاه متمم بن نويرة اليربوعي ، ورثى أخاه بجيرًا ، وقد سلف شعر متمم في رثائهما (1 : 337) . ومن أجل ذلك قلت إن الشعر خليق أن يكون لمتمم . أما ما زعمه زاعمون من أنه في " عفاق " الذي أكلته باهلة . والذي يقول فيه القائل : إنَّ عِفَاقًا أَكلَتْهُ باَهِلَهْ ... تمشَّشُوا عِظَامَهُ وكاهِلَهْ
فذاك " عفاق " آخر ، هو " عفاق بن مرى بن سلمة بن قشير " (القاموس - التاج عفق) .

(6/80)


وقول الآخر : (1)
وَلِلهِ قَومِي : أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ... إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! ! (2)
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و " كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ، تذكروا إتباع النكرة خبرَها ، وإذا نصبوهما ، تذكروا صحبة " كان " لمنصوب ومرفوع. (3) ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها ، وأضمروا في " كان " مجهولا لاحتمالها الضمير.
* * *
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً " ، إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها ، أنَّثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا : " إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها ، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها " ، تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا ، وتؤنث أحيانًا.
* * *
__________
(1) هو عمرو بن شأس ، على الشك في ذلك كما سترى في التعليق التالي .
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 186 ، سيبويه 1 : 22 ، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو بن شأس : " بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنا "
وأنا أخشى أن يكون الشعر لغير عمرو بن شأس ، ولكني لم أجده ، وإن كنت أذكر أني قرأته في أبيات غير شعر عمرو . وقوله : " ذا كواكب " ، أي شديد عصيب ، قد ظهرت النجوم فيه نهارًا ، كأنه أظلم فبدت كواكبه ، لأن شمسه كسفت بارتفاع الغبار في الحرب ، وإذا كسفت الشمس ، ظهرت الكواكب . ويقال : " أمر أشنع وشنيع " ، أي فظيع قبيح . وكان في المطبوعة : " بحرة " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، ومعاني القرآن للفراء . يعني أن أمهم حرة ، فولدتهم أحرارًا .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " منصوب ومرفوع " والصواب ما أثبت . وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 185 - 187 .

(6/81)


وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ " مرفوعة فيه " التجارة الحاضرة " ، لأن " تكون " ، بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذْ لم يكن يجدك لـ " كان " منصوبًا ، (1) ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جَواز قوله : " تديرونها بينكم " أن يكون خبرًا لـ " كان " ، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.
* * *
والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية ، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه ، وفي المعنى أصحّ : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان " ، و " التجارة الحاضرة " اسمها. والآخر : أنه في موضع رفع على إتباع " التجارة الحاضرة " ، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونَسَائه ، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا ، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري ، فأنْ يجحد البائعُ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إذا لم يكن يجد " ، والسياق يقتضي : " إذ " .

(6/82)


البيع ، (1) وله بيِّنة على ملكه ما قد باع ، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه ، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به ، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع ، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ ، وقد زال ملك البائع عما باع ، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلفُ على ذلك ، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.
* * *
ثم اختلفوا في معنى قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟
فقال بعضهم : " هو نَدْبٌ ، إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يُشهد " .
ذكر من قال ذلك :
6402 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن وشقيق ، عن رجل ، عن الشعبي في قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، قال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته " ؟
6403 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا الربيع ابن صبيح قال : قلت للحسن : أرأيتَ قول الله عز وجل : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.
6404 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الربيع بن صبيح قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله عز وجل : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة ، (2) أترى
__________
(1) في المطبوعة : " . . البائع المبيع . . " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ينقد في شهرين " . . . ، وأثبت ما في المخطوطة .

(6/83)


بأسًا أن لا أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس. (1)
6405 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود ، عن الشعبي : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ، قال : إن شاؤوا أشهدوا ، وإن شاؤوا لم يشهدوا.
* * *
وقال آخرون : " الإشهاد على ذلك واجب " .
ذكر من قال ذلك :
6406 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " ، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه ، صغيرًا كان أو كبيرًا.
6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي ، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم ، لما قد بيَّنا : من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ ،
__________
(1) الأثران : 6403 ، 6404 - " الربيع بن صبيح السعدي " . روى عن الحسن ، وحميد الطويل ومجاهد بن جبر ، وغيرهم . وروى عنه الثوري ، وابن المبارك ، وابن مهدي ، ووكيع وغيرهم . قال حرملة عن الشافعي : " كان الربيع بن صبيح غزاء - وإذا مدح الرجل بغير صناعته ، فقد وهص ، أي دق عنقه " . وقال أحمد : " رجل صالح لا بأس به " . وقال ابن معين وابن سعد والنسائي : " ضعيف الحديث " . وقال ابن حبان : " كان من عباد أهل البصرة وزهادهم ، وكان يشبه بيته بالليل ببيت النحل من كثرة التهجد ، إلا أن الحديث لم يكن من صناعته ، فكان يهم فيما يروى كثيرًا ، حتى وقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر . لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد " . مترجم في التهذيب .

(6/84)


إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد. (1)
* * *
وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال : (2) ذلك منسوخ بقوله : " فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته " ، فيما مضى فأغنى عن إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله ، (4) فيكتب هذا ما لم يُملله المملي ، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد. (5)
ذكر من قال ذلك :
6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " " ولا يضارّ كاتب ولا شهيد " ، " ولا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملَّ عليه ، " ولا شهيد " فيشهد بما لم يُستشهد.
6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، قال : كان الحسن يقول : " لا يضارّ كاتب " فيزيد شيئًا أو يحرّف " ولا شهيد " ، قال : لا يكتم الشهادة ، ولا يشهدْ إلا بحق.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا ص : 53 .
(2) في المخطوطة : " على وهاء قول من قال " ، وقد سلف ما قلته في قول الفقهاء " الوهاء " بمعنى " الوهى " ، وهو الضعف الشديد في 4 : 18 / ثم ص : 155 تعليق : 1/ ثم ص : 361 ، تعليق3 ، فراجعه .
(3) انظر ما سلف قريبًا ص : 53 - 55 .
(4) في المطبوعة : " نهي من الله لكاتب الكتاب " ، وأثبت ما في المخطوطة . وقوله : " الكاتب الكتاب . . والشهيد " منصوب بالمصدر " نهى " ، و " الكتاب " منصوب باسم الفاعل " الكاتب "
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " بما لم يستشهده الشهيد " ، وهو محال وخطأ ، وإنما " الشهيد الشاهد ، وهو لا يعني إلا " المستشهد " ، فكذلك أثبتها .

(6/85)


6410 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : اتقى الله شاهدٌ في شهادته ، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا. (1)
6411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يُملل " ولا شهيد " ، فيشهد بما لم يستشهد.
6411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يُملل " ولا شهيد " ، فيشهد بما لم يستشهد.
6412 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة نحوه.
6413 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : " لا يضار كاتب " فيكتب غير الذي أملي عليه. قال : والكتاب يومئذ قليلٌ ، ولا يدرون أي شيء يُكتب ، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم. قال : والشهيد : يضارّ فيحوِّل شهادته ، فيبطل حقهم.
* * *
قال أبو جعفر : فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد ، ثم أدغمت " الراء " في " الراء " ، لأنهما من جنس ، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأنّ الفتح أخفّ الحركات. (2)
* * *
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : ، " ولا يضارّ كاتب ولا شهيد " بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.
__________
(1) الأثر : 6410 - في المطبوعة : " قال حدثنا يزيد بن قتادة " ، وفي المخطوطة : " قال حدثنا يزيد ، قال حدثنا يزيد ، عن قتادة " ، وهو إسناد دائر في الطبري كما أثبته ، أقربه رقم : 6393 ، هذا وقد سلف هذا الأثر مختصرًا برقم : 6338 .
(2) انظر ما سلف 5 : 46 - 53 ، وفي " تضار " وقراءاتها ، وفي قوله : " لأن الفتح أخف الحركات " 5 : 52 ، تعليق : 1 ، ثم هذا فيما سلف قريبا ص : 65 س : 2 .

(6/86)


ذكر من قال ذلك :
6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : أن يؤديا ما قِبَلهما.
6415 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء. " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ؟ قال : " لا يضار " ، أن يؤديا ما عندهما من العلم. (1)
6416 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : " لا يضار " كاتب ولا شهيد " ، قال : أن يدعوهما ، فيقولان : إن لنا حاجة. (2)
6417 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قالا واجب على الكاتب أن يكتب " ولا شهيد " ، قالا إذا كان قد شهد ، اقبلْهُ. (3)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ " . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضَارَرْ ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
ذكر من قال ذلك :
6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال ، كان عمر يقرأ : " ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد " .
__________
(1) في المطبوعة : " لا يضارا أن يؤديا " وهو خطأ ، وفاسد المعنى ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فيقولا " ، والصواب من المخطوطة .
(3) قوله : " اقبله " ، هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا في شك منها ، وضبطتها على أقرب المعاني إلى الصواب ، ولكني أخشى أن يكون في الكلمة تحريف لم أقف على وجهه .

(6/87)


6419 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك قال : كان ابن مسعود يقرأ : (ولا يُضَارَرْ).
6420 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد " ، وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة ، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد : لا يقمْ عن شغله وحاجته ، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.
6421 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ : إنّ الله قد أمرك أن لا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك ، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .
6422 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ ؛ فيقول : خلُّوا سبيله.
6423 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول : فلا يضاره.
6424 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتبْ لي ، واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول : اتق الله ، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة ، ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهدُ بتلك المنزلة.

(6/88)


6425 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما : إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.
6426 - حدثت عن الحسن قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول : والله لقد أمركما أن تجيبا! (1) فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما ، يعني : لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.
6427 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له : اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته (2) ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته ، وأنتَ تجد غيره.
6428 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، قال : لما نزلت هذه الآية : " ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علَّمه الله " ، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي! فيقول : إني مشغول أو : لي حاجة ، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول : إنك
__________
(1) في المطبوعة : " الله أمركما أن تجيبا " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى يكتب له " ، والسياق يقتضي " لك " . وقوله بعد " ولا شاهدًا من شهودك . . . " معطوف على قوله قبل : " أن تعترض رجلا . . . " .

(6/89)


قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي فاشهد لي! فيقول : انطلق إلى غيري فإني مشغول أو : لي حاجة! (1) فيلزمه ويقول : قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله عز وجل : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " .
6429 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، يقول : إن لي حاجة فدعني! فيقول : اكتب لي " ولا شهيد " ، كذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، بمعنى : ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا ، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ (2) على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه : " افعلوا أو : لا تفعلوا " ، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب ، كقوله : " وليكتب بينكم كاتب " ، وكقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ، وما أشبه ذلك. فالوجهُ إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : " وإن تَفعلوا فإنه فُسوقٌ بكم " [بأن يكون
__________
(1) في المطبوعة : " ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي . فيقول : اذهب إلى غيري فإني مشغول " وكان في المخطوطة : " ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي إلى غيري فإني مشغول " ، وهو فاسدًا ، وآثرت تصحيحه على وجه غير الوجه الذي كان في المطبوعة ، ليكون أوضح وأقرب إلى معنى الشهادة .
(2) في المطبوعة : " أن يجيب " وأثبت ما في المخطوطة .

(6/90)


الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. (1) ومع ذلك ، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل : (2) وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما ، لأنهما اثنان ، وأنهما غير مخاطبين بقوله : " ولا يضارّ " ، بل النهي بقوله : " ولا يضار " ، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ ، وما نُهيتم عنه من ذلك " فإنه فسوق بكم " ، يعني : إثم بكم ومعصيةٌ. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
ذكر من قال ذلك :
6430 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم " ، يقول : إن تفعلوا غير الذي آمركم به ، فإنه فسوق بكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فالواجب إذ كان المأمورون مخاطبين بقوله : وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد " ، وهو كلام مختل أشد الاختلال ، وهو في المطبوعة أشد اختلالا إذ جعل " إذ كان المأمورون " - " إذ كان . . . " ، وقد وضعت بين القوسين ما هو أشبه بسياق المعنى ، وكأنه الصواب إن شاء الله .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ومع ذلك إن الكاتب والشهيد " والصواب ما أثبت .
(3) انظر تفسير " الفسوق " فيما سلف 1 : 409 ، 410 / ثم 2 : 118 ، 119 ، 399 / ثم 4 : 135 - 140 .

(6/91)


6431 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " ، والفسوقُ المعصية.
6432 - حدثت عن عمار ، قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " ، الفسوق العصيان.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي ، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها " فإنه فسوق بكم " ، يعني : فإنه كذب.
ذكر من قال ذلك :
6433 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم " ، الفسوق الكذب. قال : هذا فسوق ، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب ، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ، إنما معناه : لا يضارّهما المستكتب والمستشهد ، بما فيه الكفاية. (1)
فقوله : " وإن تفعلوا " إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما ، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به ، (2) وركب ما لا يحلّ له ، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا في تفسير الآية .
(2) قوله : " " أثم به " . قد سلف في 4 : 530 تعليق 3 ما نصه : " آثما بربه " غير منقوطة ، كأنها " بربه " ولكني لم أجد في كتب اللغة " آثم بربه " وإن كنت أخشى أن يكون صوابًا له وجه لم أتحققه " وغيرتها هناك " أثم بريائه " ، فقد جاء هذا النص هنا محققًا ما خشيت ، فصح أن الصواب هناك " آثمًا بربه " ، فقيده هناك ، وفي كتب اللغة . ومعنى : " أثم بربه " : أي : قدم الإثم إلى ربه بمعصيته ، فالباء فيه للغاية ، كما في قوله تعالى {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وكما قال كثير : أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي ، لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا ، ولا مقلِيَّةً إن تَقَلَّتِ
فهذه هي الحجة الناهضة في صواب التعبير الذي جاء في كلام الطبري ، والحمد لله رب العالمين على حسن توفيقه إيانا إلى الصواب .

(6/92)


* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واتقوا الله " ، وخافوا الله ، أيها المتداينون في الكتاب والشهود ، أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله : " ويُعلَّمكم الله " ، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم ، فاعملوا به " والله بكل شيء عليم " ، يعني : [بكل شيء] من أعمالكم وغيرها ، (1) يحصيها عليكم ، ليجازيكم بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6434 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " ويعلمكم الله " ، قال : هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة .

(6/93)


وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا(كَاتِبًا) ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى ، " فرهان مقبوضة " .
* * *
وقرأ جماعةٌ من المتقدمين : ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ) ، بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : " ولم تجدوا كاتبًا " ، بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.
* * *
[قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه] : (1) وإن كنتم ، أيها المتداينون ، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ، ليكون ثقةً لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك :
6435 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة " ، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا ، فرخص له
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، حتى يستقيم الكلام .

(6/94)


في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.
6436 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا " ، يقول : كاتبًا يكتب لكم " فرهان مقبوضة " .
6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه ، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا] ، فرهان مقبوضة. (1)
* * *
ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها :
6438 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، يعني بالكتاب ، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم.
6439 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني أبي ، عن ابن عباس أنه قرأ : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.
6440 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، كان يقرأها : " فإن لم تجدوا كتابًا " ، ويقول : ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول.
6441 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا " ، يقول : مدادًا ، - يقرأها كذلك - يقول : فإن لم تجدوا مدادًا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة " فرهن مقبوضة " ، قال : لا يكون الرهن إلا في السفر.
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ .

(6/95)


6442 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحبحاب قال : إن أبا العالية كان يقرؤها ، " فإن لم تجدوا كتابًا " ، قال أبو العالية : تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " فرهان مقبوضة " .
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) ، بمعنى جماع " رَهْن " كما " الكباش " جماع " كبش " ، و " البغال " جماع " بَغل " ، و " النعال " جماع " نعل " .
* * *
وقرأ ذلك جماعة آخرون : ( فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ) على معنى جمع : " رِهان " ، " ورُهن " جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع " رَهْن " : ، مثل " سَقْف وسُقُف " .
* * *
وقرأه آخرون : ( فَرُهْنٌ ) مخففة الهاء على معنى جماع " رَهْن " ، كما تجمع " السَّقْف سُقْفًا " . قالوا : ولا نعلم اسمًا على " فَعْل " يجمع على " فُعُل وفُعْل " إلا " الرُّهُنُ والرُّهْن " . و " السُّقُف والسُّقْف " .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : " فرهان مقبوضة " . لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على " فَعْل " ، كما يقال : " حَبْلٌ وحبال " و " كَعْب وكعاب " ، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع " الفَعْل " على " الفُعُل أو الفُعْل " فشاذّ قليل ، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل : " سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف " " وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب " من : " قلب النخل " . (1) " وجَدٌّ وجُدٌّ " ، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (2) وأما ما جاء من جمع " فَعْل " على " فُعْل "
__________
(1) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة .
(2) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة ، وإنما قالوا في جمعه " أجداد وأجد وجدود " . وكان في المطبوعة " حد وحد " بالحاء ، و " الخط " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط .

(6/96)


ف " ثَطٌّ ، وثُطّ " ، و " وَرْدٌ ووُرْد " و " خَوْدٌ وخُود " .
وإنما دعا الذي قرأ ذلك : " فرُهْنٌ مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك ، مع شذوذه في جمع " فَعْل " ، أنه وجد " الرِّهان " مستعملة في رِهَان الخيل ، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل ، الذي هو بغير معنى " الرهان " الذي هو جمع " رَهْن " ، ووجد " الرُّهُن " مقولا في جمع " رَهْن " ، كما قال قَعْنَب :
بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته ، " فليتق الله " ، المدينُ " رَبّه " ، يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده ، أو يَلُطّ دونه ، (2) أو يحاول الذهاب به ، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له ، (3) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه ، إليه.
* * *
وقد ذكرنا قول من قال : " هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي
__________
(1) مختارات ابن الشجرى 1 : 6 ، ولباب الآداب 402 - 404 ، اللسان (رهن) ، وروايته هناك " من قبلك " ، وهي أجود فيما أرى . غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا : إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط ، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده . كان هذا على رسم الجاهلية ، فأبطله الإسلام . يقول : فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها ، فذهبت بذلك كله ، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده .
(2) يقال : " لط الغريم بالحق دون الباطل " : دافع ومنع الحق . و " لط حقه ، ولط عليه " جحده ومنعه .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ما لا قبل " بحذف اللام ، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة .

(6/97)


في الآية قبلها : من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب " . وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) وقد : -
6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ، إنما يعني بذلك : في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا ، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله الضحاك من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر ، فكما قال ، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك ، مثل الائتمان : في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر فإنه قولٌ لا معنى له ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : -
6444 - أنه اشترى طعامًا نَسَاءً ، ورهن به درعًا لهُ. (2)
* * *
فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بمالَهُ من حقّ ، في السفر والحضر - لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا ، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد ، أو كان البيع
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا : ص 53 - 55 .
(2) الأثر : 6444 - ذكره الطبري بغير إسناد . وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5 : 100 - 102) ومسلم في صحيحه 11 : 39 ، 40 من طرق ، عن عائشة أم المؤمنين . وسنن البيهقي 6 : 36 . يقال نسأت عنه دينه نساء : (بالمد وفتح النون) : أخرته . و " بعته بنسيئة " ، أي : بأخرة .

(6/98)


أو الدَّين إلى أجل مسمى (1) أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك ، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قال أبو جعفر : وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم ، فقال لهم : " ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا " - ولا تكتموا ، أيها الشهود ، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه ، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه.
ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته ، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان ، فقال : " ومن يَكتمها " . يعني : ومن يكتم شهادته " فإنه آثم قَلبه " ، يقول : فاجرٌ قلبه ، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله ، (2) كما : -
6445 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه " ، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.
6446 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي
__________
(1) في المطبوعة : " وكان البيع . . . " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الإثم " فيما سلف من فهارس اللغة .

(6/99)


قوله : " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " ، يقول : فاجر قلبه.
6447 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) (1) [سورة المائدة : 72] ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله عز وجل يقول : " ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه " .
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : " على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد ، ويخبر بها حيثُ استُخبر " .
6448 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم قال ، أخبرنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها ، ولا تقل : " أخْبِر بها عند الأمير " ، أخبره بها ، لعله يراجع أو يَرْعَوي.
* * *
وأما قوله : " والله بما تعملون عليمٌ " ، فإنه يعني : " بما تعملون " في شهادتكم من إقامتها والقيام بها ، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها " عليمٌ " ، يحصيه عليكم ، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ومن يشرك بالله " ، وليست هذه قراءتها ، أخطأ الناسخ وسها .

(6/100)


لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ }
(1)
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لله ما في السموات وما في الأرض " ، لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير ، وإليه تدبير جميعه ، وبيده صرفه وتقليبه ، لا يخفى عليه منه شيء ، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه.
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ ، يقول : لا تكتموا الشهادة أيها الشهود ، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه ، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك ، لأني بكل شيء عليم ، وبيدي صَرْف كل شيء في السموات والأرض ومِلكه ، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه ، (2) فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها ، وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها ، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال : " وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، يقول : وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار ، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم ، وغير ذلك من سيئ أعمالكم " يحاسبكم به الله " ، يعني
__________
(1) لم تثبت المخطوطة ولا المطبوعة قوله تعالى : " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " في هذا الموضع ولا في غيره إلى القول في تفسير تمام الآية ، وأثبتها في مكانها .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أعلمه خفي . . " ، والسياق يقتضي ما أثبت . وفي المخطوطة : " وجليله " ، ولا بأس بها ، ولكن ما في المطبوعة أمثل بالسياق .

(6/101)


بذلك : يحتسب به عليكم من أعمالكم ، (1) فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله ، (2) وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين. (3)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : " وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .
فقال بعضهم بما قلنا : من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة ، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها.
ذكر من قال ذلك :
6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله " ، يقول : يعني في الشهادة. (4)
6450 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال : في الشهادة.
6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال : سئل داود عن قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، فحدثنا عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يحسب به عليه من أعماله " بالضمير المفرد ، والسياق يقتضي الجمع كما أثبته . ويقال : " احتسب عليه بالمال " ، أي : عددته عليه وحاسبته به . و " احتسب " من " الحساب " مثل " اعتد " من " العد " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فيجازي من شاء . . " والسياق يقتضي ما أثبت .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وغافر منكم لمن شاء . . . " ، وهو تقديم من عجلة الناسخ ، والصواب ما أثبت .
(4) الأثر : 6449 - " ابن فضيل " ، هو محمد بن فضيل ، وقد سلف مرارًا . وكان في المخطوطة والمطبوعة " أبو نفيل " وليس في الرواة من يقال له " أبو نفيل " يروي عن يزيد بن أبي زياد ، والذي يروي عنه هو ابن فضيل .

(6/102)


عكرمة قال : هي الشهادة إذا كتمتها.
6452 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو وأبي سعيد : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : " وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال : في الشهادة.
6453 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن الشعبي في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة.
6454 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية ، " وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.
6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن عكرمة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، يعني : كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها.
* * *
وقال آخرون : " بل نزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " .
ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك.
فقال بعضهم : " ثم نسخ الله ذلك بقوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) [سورة البقرة : 286] "
ذكر من قال ذلك :
6456 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن

(6/103)


ثابت ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلتْ : " لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، اشتد ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنزل الله عز وجل : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) الآية إلى قوله : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال اللهُ : نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) إلى آخر الآية قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : نعم. (1)
6457 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع
__________
(1) الحديث : 6456 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي : ثقة ثبت في الحديث ، متعبد كبير ، من خيار المسلمين . أخرج له الجماعة .
مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير : تكلم فيه الأئمة ، فضعفه أحمد ، وابن معين ، وغيرهم . وأثنى عليه الزهري . وقال أبو حاتم : " صدوق كثير الغلط ، ليس بالقوي ، ويروي عنه إسحاق بن سليمان " ، ولكن ترجمه البخاري في الكبير 4/1/353 ، فلم يذكر فيه جرحًا . والظاهر أن من ضعفه فإنما ذهب إلى كثرة غلطه ، كما فعل أبو حاتم . وأيًا ما كان ، فهو لم ينفرد بهذا الحديث ، كما سيأتي في التخريج .
والحديث سيأتي بعضه : 6538 ، بهذا الإسناد .
ورواه أحمد في المسند : 9333 (2 : 412 حلبي) ، عن عفان ، عن عبد الرحمن بن إبراهيم القاص المدني ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، به ، مطولا عما هنا .
وعبد الرحمن بن إبراهيم - هذا - ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في التعجيل ، وابن أبي حاتم 2/2/211 .
ورواه مسلم - مطولا أيضًا - 11 : 46 - 47 ، وابن حبان في صحيحه : 139 (1 : 225 - 226 - من مخطوطة الإحسان) - كلاهما من طريق يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن العلاء ، به .
ونقله ابن كثير 2 : 79 - 80 ، عن رواية المسند .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 154 ، من رواية مسلم .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم . ولم ينسبه لصحيح ابن حبان .

(6/104)


قال : حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد ، قال : سمعت سعيد بن جبير يحدّث ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال : فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) قال أبو كريب : فقرأ : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال فقال : قد فعلت ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا ) قال : قد فعلت ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال : قال : قد فعلت ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قال : قد فعلت. (1)
6458 - حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال ، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، عن حيوة بن شريح قال ، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول : قال ابن شهاب ، حدثني سعيد ابن مرجانة قال : جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء " . ثم قال ابن عمر : لئن آخذَنا بهذه الآية ، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دُموعه. قال ، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت : يا أبا عباس ، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، ثم قال : لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس : يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فَرِق ابن عمر منها ، فأنزل الله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، فنسخ الله الوَسوسة ، وأثبت القول والفعلَ. (2)
6459 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مرجانة يحدث : أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية ، " لله ما في السموات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نَشيجه ، فقال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس
__________
(1) الحديث : 6457 - سفيان بن وكيع يرويه عن أبيه . وأبوه يرويه عن سفيان ، وهو الثوري ، ووقع في المطبوعة هنا حذف قوله " قال : حدثنا أبي " . وهو خطأ . وسيأتي الإسناد على الصواب : 6537 ، حيث روى الطبري بعضه مختصرًا . بهذا الإسناد .
آدم بن سليمان القرشي ، مولى خالد بن بن خالد بن عقبة بن أبي معيط : ثقة ، وهو والد يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج .
والحديث رواه أحمد في المسند : 2070 ، عن وكيع ، بهذا الإسناد .
وكذلك رواه مسلم 1 : 47 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كريب ، وإسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - : ثلاثتهم عن وكيع ، به .
وفي التهذيب ، في ترجمة آدم بن سليمان ، أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد متابعة ؛ وليس كذلك ، بل هو أصل لا متابعة ، إذ لم يروه مسلم من طريق غيره .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 286 ، من طريق ابن راهويه ، عن وكيع . وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وذكره ابن كثير 2 : 81 ، عن رواية المسند . ثم أشار إلى رواية مسلم .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 154 ، من رواية مسلم .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته للترمذي ، والنسائي ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات .
وسيأتي بعض معناه : 6464 ، عن سعيد بن جبير ، مرسلا غير متصل ، فيستفاد وصله من هذه الرواية .
(2) الحديث : 6458 - أبو الرداد المصري ، عبد الله بن عبد السلام - شيخ الطبري : ثقة ترجمة ابن أبي حاتم 2/2/107 ، وقال : " سمعنا منه بمصر ، وهو صدوق " .
أبو زرعة وهب الله بن راشد : هذه أول مرة يثبت فيها اسمه في المطبوعة على الصواب ، فقد مضى في : 2377 ، 2891 ، 5386 - وكان فيها كلها محرفًا في المطبوعة . وترجمنا له في أولهن .
سعيد ابن مرجانة : هو سعيد بن عبد الله ، مولى قريش . ومرجانة - بفتح الميم وسكون الراء : أمه . قال الحافظ في التهذيب : " فعلى هذا فيكتب : ابن مرجانة - بالألف " . وهو تابعي ثقة . ثبت سماعه من أبي هريرة ، خلافًا لمن زعم غير ذلك ، كما بينا في المسند : 7583 .
والحديث سيأتي عقبه : 6459 ، من وجه آخر عن ابن شهاب . ونذكر تخريجه هناك .

(6/105)


فذكرتُ لهُ ما تلا ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر ، فأنزل اللهُ بعدها( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) إلى آخر السورة. قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل. (1)
6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، سمعتُ الزهري يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال : قرأها ابن عمر فبكى وقال : إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع نشيجه ، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له ، فقال : رَحم الله ابن عُمر! لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ ، حتى نزلت : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ). (2)
6461 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : كنت عند ابن عمر فقال : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك ، فضحك ابن عباس فقال : يرحم الله ابن عمر!
__________
(1) الحديث : 6459 - هو الحديث السابق ، نحوه .
وقد ذكره ابن كثير 2 : 81 - 82 ، عن هذا الموضع من الطبري .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 154 ، مختصرًا ، عن هذا الموضع أيضًا . قال : " أخرج الطبري ، بإسناد صحيح عن الزهري . . . " - إلخ .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وأبي داود في ناسخه ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب .
وانظر الأحاديث الآتية : 6460 - 6464 .
(2) الحديث : 6460 - هذا حديث مرسل ، لم يسمعه الزهري ، من ابن عمر ، ولا من ابن عباس . وهو مختصر من الحديثين قبله ، ومن الحديث : 6462 . فقد سمع الزهري القصة من سعيد ابن مرجانة ، ومن سالم بن عبد الله بن عمر .

(6/107)


أوَ ما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًّا شديدًا وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : " سمعنا وأطعنا " ، فنسختها : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) إلى قوله : ( وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس ، وأخِذوا بالأعمال. (1)
6462 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم : أن أباه قرأ : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، فدمعت عينه ، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلتْ ، فنسختها الآية التي بعدها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ). (2)
__________
(1) الحديث : 6461 - جعفر بن سليمان : هو الضبعي ، وقد مضى توثيقه في : 2905 .
حميد الأعرج : هو حميد بن قيس المكي ، قارئ أهل مكة . مضى توثيقه في : 3352 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 3071 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، به .
فظهر من رواية الطبري هذه : أن عبد الرزاق سمعه من شيخين ، من معمر ، ومن جعفر بن سليمان - كلاهما حدثه به عن حميد الأعرج .
وقد ذكره ابن كثير 2 : 81 ، عن رواية أحمد في المسند ، وكذلك ذكره الحافظ في الفتح 8 : 154 ، عن رواية أحمد .
وذكره السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وابن المنذر .
وهو في معنى الأحاديث السابقة : 6458 - 6460 .
وقوله : " كنت عند ابن عمر فقال : (وإن تبدوا ما في أنفسكم) . . . " - هكذا في المخطوطة والمطبوعة . ولعل صوابه : " فقرأ " ، بدل " فقال " . وهو الثابت في رواية المسند ومن نقل عنه .
وقوله في آخر الحديث : " فتجوز لهم من حديث النفس " - هكذا في المخطوطة والمطبوعة أيضًا . ولعل صوابه " عن حديث النفس " ، كرواية المسند .
(2) الحديث : 6462 - سفيان بن حسين الواسطي : مضى الكلام في روايته عن الزهري ، وأن فيها تخاليط ، في 3471 . ولكن يظهر لي الآن أن في هذا غلوًا من ابن حبان . فإن البخاري ترجم له في الكبير 2/2/90 ، وأشار إلى رواية عن الزهري ، فلم يذكر فيها قدحًا ، ثم إن الأئمة صححوا هذا الحديث من روايته عن الزهري ، كما سيجيء .
فالحديث رواه أبو جعفر بن النحاس في الناسخ والمنسوخ ، ص : 86 . والحاكم في المستدرك 2 : 287 - كلاهما من طريق يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، بهذا الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
ثم قد ذكره ابن كثير 2 : 82 ، عن هذا الموضع - بعد الروايات السابقة ، ثم قال : " فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس " .
وقد رجحت توثيق سفيان بن حسين - وفي روايته عن الزهري - فيما كتبت تعليقًا على تهذيب السنن للمنذري ، ج3 ص : 402 ، فأنسيته حين كتبت ما مضى في : 3471 .
والحديث ذكره أيضًا السيوطي 1 : 374 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة .

(6/108)


6463 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : نسخت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " - ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ). (1)
6464 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " إن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قالوا : أنؤاخذ بما حدِّثنا به أنفسنا ، ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال : فنزلت هذه الآية : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، قال : ويقول : قد فعلت. قال : فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " ، لم تُعطها الأمم قبلها. (2)
__________
(1) الحديث : 6463 - أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي . وهو يروي عن سفيان الثوري . ويروي عنه محمد بن بشار .
وهذا الحديث مرسل ، لأنه حكاية من سعيد بن جبير عن إخبار بنسخ الآية .
وقد سبقت رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس : 6457 ، لعلها تشير إلى هذا المعنى .
(2) الحديث : 6464 - وهذا حديث مرسل أيضًا ، من رواية سعيد بن جبير ، ولكنه بعض معنى الحديث السابق : 6457 ، الذي رواه سعيد عن ابن عباس متصلا .
وسيأتي بعضه : 6539 ، بهذا الإسناد ، مع تحريف في اسم الراوي عن سفيان ، كما سنذكر هناك ، إن شاء الله .

(6/109)


6465 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا إسماعيل ، عن عامر : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، قال : فنسختها الآية بعدها ، قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
6466 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نسختها الآية التي بعدها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) وقوله : " وإن تُبدوا " ، قال : يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر ، فنسختها التي بعدها.
6467 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا سيّار ، عن الشعبي ، قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، قال : فكان فيها شدّة ، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، قال : فنسخت ما كان قبلها.
6468 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال : ذكروا عند الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " حتى بلغ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، قال ، فقال الشعبي : إلى هذا صار ، رجَعتْ إلى آخر الآية.
6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، قال قال ابن مسعود : كانت المحاسبة قبل أن تنزل : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.
6470 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد

(6/110)


قال ، سمعت الضحاك يذكر ، عن ابن مسعود نحوه.
6471 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي قال : نسخت " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
6472 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب وسفيان ، عن جابر ، عن مجاهد وعن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد قالوا : نسخت هذه الآية( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ، " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ، الآية.
6473 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أ ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة وعامر بمثله.
6474 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " إلى آخر الآية ، قال : محتها : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ). (1)
6475 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه قال : نسخت هذه الآية يعني قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) الآية التي كانت قبلها : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .
6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نسختها قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ).
6477 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني ابن زيد قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " إلى آخر
__________
(1) الأثر : 6474 - " حماد " هو حماد بن سلمة ، و " حميد " هو حميد الطويل . وكان في المطبوعة والمخطوطة " حماد بن حميد " ، وليس في رواة الأثر من يعرف بهذا الاسم ، وحجاج بن المنهال يروي عن حماد بن سلمة ، وحماد يروي عن خاله حميد الطويل ، وحميد الطويل يروي عن الحسن .

(6/111)


الآية ، اشتدّت على المسلمين ، وشقَّتْ مشقةً شديدة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو وَقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به ؟ قال : " فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : " سمعنا وعصينا " ! قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال : فنزل القرآن يفرِّجها عنهم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلى قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، قال : فصيَّره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب.
6478 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا هشيم ، عن سيارٍ عن أبي الحكم ، عن الشعبي ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : نسخت هذه الآية التي بعدَها : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
6479 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به ؟ والله ما نملك الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله : (1) ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) الآية ، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. (2)
* * *
6480 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : نسختها قوله : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ).
__________
(1) في المطبوعة : " التي بعدها بقوله " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " مما لم تطيقوا ، الآية " أخر الناسخ " الآية " ، فرددتها إلى مكانها قبل .

(6/112)


وقال آخرون ممن قال معنى ذلك : " الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم ، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه " (1) " هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة ، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه ، فيغفره للمؤمنين ، ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق " .
ذكر من قال ذلك :
6481 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : " وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، فإنها لم تنسخ ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة ، يقول الله عز وجل : " إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي " ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم ، وهو قوله : " يحاسبكم به الله " ، يقول : يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، (2) وهو قوله : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) [سورة البقرة : 225] ، من الشكّ والنفاق.
6482 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته ، يحاسبكم به الله ، فليس من عبد
__________
(1) انظر ما سلف ص : 103 وما بعدها .
(2) في المخطوطة والمطبوعة بعد قوله : " من التكذيب " ما نصه : " وهو قوله : فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " . وهي زيادة بلا شك من الناسخ . فإلا تكن منه ، فمكانها قبل ذلك بعد قوله " يحاسبكم به الله " وقبل قوله : " وأما أهل الشك والريب . . . " ، ولكني آثرت إسقاطها ، لأن السيوطي خرجه في الدر المنثور 1 : 375 بغير ذكر هذه الزيادة في الموضعين .

(6/113)


مؤمن يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به ، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات ، وإن هو لم يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة ، من أجل أنه مؤمن ، والله يَرْضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه ، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تُبلى السرائر ، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوَز الله عنه ، كما قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) [سورة الأحقاف : 16].
6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) ، الآية ، قال : قال ابن عباس : إن الله يقول يوم القيامة : " إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليومَ ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت " .
6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا علي بن عاصم قال ، أخبرنا بيان ، عن بشر ، عن قيس بن أبي حازم قال : إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع الخلائق : " إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم ، فإما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه ، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم ، فأغفر لمن شئتُ ، وأعذّب من شئت " .
6485 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، كان ابن عباس يقول : إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول : " إنه كان لا يعزُب عني شيء ، وإني مخبركم بما كنتم تسرُّون من السُّوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه " . فهذه المحاسبة.

(6/114)


6486 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس نحوه.
6487 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : هي محكمة ، لم ينسخها شيء يقول : " يحاسبكم به الله " ، يقول : يعرّفه الله يوم القيامة : " إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا " ! لا يؤاخذه.
6488 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : هي محكمة لم تنسخ.
6489 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : من الشك واليقين.
6490 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، يقول : في الشك واليقين. (1)
6491 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة : (2) وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان ، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في اليقين والشك " ، قدم وأخر ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) هو رقم : 6481 .

(6/115)


وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، (1) وعلى ما قاله الربيع بن أنس ، (2) فإن تأويلها : إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه ، يُعْلمكم به الله يوم القيامة ، فيغفر لمن يشاء ، ويعذّب من يشاء.
* * *
وأما قول مجاهد ، (3) فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة.
* * *
وقال آخرون ممن قال : " هذه الآية محكمة ، وهي غير منسوخة " ، ووافقوا الذين قالوا : " معنى ذلك : أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم " معناها : إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما أبدَوْا من سيئ أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، وُمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزَنون عليها ويألمون منها.
ذكر من قال ذلك :
6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، الآية ، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من همّ بسيئة فلم يعملها ، أرسل الله عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفّارته.
6493 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ،
__________
(1) هي رقم : 6486 .
(2) هو رقم : 6487 .
(3) هو رقم : 6489 وما بعده .

(6/116)


سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهمّ بمعصية ، أو يحدّث بها نفسه ، حاسبه الله بها في الدنيا ، يخافُ ويحزن ويهتم.
6494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو تميلة ، عن عبيد ، عن الضحاك قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد همّ بسوء ومعصية ، وحدّث نفسه به ، حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئًا.
6495 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " و( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) [سورة النساء : 123] فقالت : ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عائشة ، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها ، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 6495 - علي بن زيد : هو ابن جدعان .
أمية : هي بنت عبد الله ، وهي تابعية لم ترو عن عائشة غير هذا الحديث . وعلي بن زيد ، هو بن زوجها . وقد مضى البيان عن ترجمتها في : 4897 .
ووقع في المطبوعة هنا : " عن أمه " . وهو خطأ . وقع مثل ذلك في بعض نسخ الترمذي . ولو صحت هذه النسخ لم يكن بذلك بأس ، إذ لا يبعد أن يسميها ربيبها " أمه " .
والحديث رواه الطيالسي : 1584 ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن " أمية بنت عبد الله " .
ورواه أحمد في المسند 6 : 218 (حلبي) ، عن بهز ، عن حماد - وهو ابن سلمة ، وفيه : " عن أمية " .
ورواه الترمذي 4 : 78 - 79 ، من طريق روح بن عبادة ، عن حماد بن سلمة ، به . وفيه : " عن أمية " ، قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة ، لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة " .
ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقله عنه ابن كثير 2 : 85 - من طريق سليمان بن حرب ، عن حماد ابن سلمة . وفيه " عن أبيه " بدل " عن أمية " ؛ وهو تحريف مطبعي .
وقال ابن كثير : " علي بن زيد بن جدعان : ضعيف يغرب في رواياته . وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه : أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة ، وليس لها عنها في الكتب سواه " .
أقول : وعلي بن زيد ليس بضعيف ، كما قلنا في : 4897 ، وكما رجحنا في شرح المسند : 783 .
وذكره السيوطي 1 : 375 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، والبيهقي في الشعب .
قول " هذه متابعة الله العبد " - يعني ما يصيب الإنسان ما يؤلمه ، يتابعه الله به ليكفر عنه من سيئاته . وهذا هو الثابت في الطبري والمسند . والذي في الطيالسي والترمذي والدر المنثور : " معاتبة الله " ومعناه قريب من هذا . وفي ابن كثير : " مبايعة " . وهو تحريف .
النكبة - بفتح النون : أن ينكبه الحجر إذا أصاب ظفره أو إصبعه . ومنه قيل لما يصيب الإنسان : نكبة .
البضاعة : اليسير من المال تبعثه في التجارة ، ثم سميت السلعة : بضاعة .
الضبن - بكسر فسكون : ما بين الإبط والكشح .
التبر : فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ ، فإذا صيغ فهو ذهب أو فضة .
الكير - بكسر الكاف ، كير الحداد : وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات ، ينفخ النار حتى تتوهج .

(6/117)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : " إنها محكمة ، وليست بمنسوخة " . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر ، هو له ناف من كل وجوهه. (1) وليس في قوله جل وعز : " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً ، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون : ( يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
__________
(1) في المطبوعة : " إلا ينفيه " ، بالياء في أوله ، وهو في المخطوطة غير منقوط . وفيهما معًا " بآخر له ناف " ، والصواب زيادة " هو " كما أثبت . وبذلك يستقيم الكلام .
وانظر ما قال في " النسخ " فيما سلف ص : 54 ، والتعليق : 1 .

(6/118)


إِلا أَحْصَاهَا ) [سورة الكهف : 49]. فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها ، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر ، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) [سورة النساء : 31]. فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم ، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة ، (1) بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها ، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها ، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي : -
6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت أبي ، عن قتادة ، عن صَفوان بن مُحْرز ، عن ابن عمر ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه ، فيقرِّره بسيئاته يقول : هل تعرف ؟ فيقول : نعم! فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول : ( هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ ) [سورة الحاقة : 19] أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد. (2)
6497 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، وهشام وحدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن
__________
(1) في المطبوعة : " فدل أن محاسبة الله . . . " ، وأثبت ما في المخطوطة . وفي المطبوعة والمخطوطة بعد : " غير موجبة لهم منه عقوبة " ، والسياق يقتضي : " غير موجب . . " كما أثبتها .
(2) الحديث : 6496 - صفوان بن محرز المازني : تابعي ثقة جليل ، له فضل وورع . والحديث مختصر من الذي بعده . وسنذكر تخريجه فيه ، إن شاء الله .

(6/119)


قتادة ، عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : " هل تعرف كذا " ؟ فيقول : " رب اغفر " - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : " فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : فيعطى صحيفة حسناته - أو : كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد : ( هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ). (1) [سورة هود : 18].
* * *
__________
(1) الحديث : 6497 - سعيد : هو ابن أبي عروبة ، الثقة المأمون الحافظ . وهشام : هو ابن أبي عبد الله الدستوائي .
ووقع في المطبوعة : " حدثنا ابن أبي عدي ، وسعيد ، وهشام " ، وهو تحريف .
وصوابه : " عن سعيد " ، لأن ابن أبي عدي - وهو محمد بن إبراهيم - إنما يروي عن ابن أبي عروبة وعن هشام الدستوائي . فهو ليس من طبقتهما . ثم هو لم يدرك أن يروي عن قتادة . وكذلك ابن بشار - وهو محمد بن بشار . شيخ الطبري - إنما يروي عن ابن أبي عدي وطبقته ، لم يدرك أن يروي عن ابن أبي عروبة والدستوائي .
وأيضًا ، فإن قوله في الإسناد - بعد تحويله إلى ابن علية عن هشام - " قالا جميعا في حديثهما عن قتادة " ، يرجع ضمير المثنى فيه إلى سعيد وهشام ، دون ابن أبي عدي . إذ لو كان معهما لكان القول أن يقول : " قالوا جميعا " .
ثم قد ثبت أنه " عن سعيد " في نقل ابن كثير هذا الحديث عن هذا الموضع 2 : 84 ، وإن وقع فيه خطأ مطبعي آخر ، إذ فيه : " عن سعيد بن هشام " بدل " وهشام " . وفيه بعد ابن علية " حدثنا ابن هشام " بزيادة " ابن " زيادة هي غلط غير مستساغ .
ثم الحديث سيأتي في تفسر الطبري 12 : 14 (بولاق) ، بهذا الإسناد ، على الصواب . ولكنه جعله هناك إسنادين : فصل إسناد ابن علية عن إسناد ابن أبي عدي .
والحديث رواه أحمد في المسند : 5436 ، عن بهز وعفان ، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى - عن قتادة ، بهذا الإسناد .
ورواه أيضًا : 5825 ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، به .
ورواه البخاري 5 : 70 (فتح) ، ومسلم 2 : 329 - كلاهما من طريق هشام الدستوائي ، عن قتادة ، به .
ورواه البخاري أيضًا 8 : 266 - 267 ، من طريق سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي ، عن قتادة .
ورواه أيضًا : 10 : 406 - 407 ، و 13 : 397 - 398 ، من طريق أبي عوانة ، عن قتادة
ورواه أبو جعفر بن النحاس ، في كتاب الناسخ والمنسوخ ، ص : 86 - 87 ، من طريق ابن علية ، عن هشام . وقال : " وإسناده إسناد لا يدخل القلب منه لبس . وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة " .
وذكره ابن كثير 2 : 84 - 85 ، كما قلنا من قبل ، عن هذا الموضع من الطبري .
وذكره أيضًا 4 : 353 ، عن رواية المسند الأولى .
وذكره السيوطي 3 : 325 . وزاد نسبته لابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات .
ونسبه القسطلاني 4 : 206 ، للنسائي في التفسير والرقائق ، وابن ماجه في السنة .
ووقع في المخطوطة - هنا - " وأما الكفار أو المنافقين " ، وهو خطأ واضح .

(6/120)


أن الله يفعل بعبده المؤمن : (1) من تعريفه إياه سيئات أعماله ، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه ، فيستره عليه. وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال : " فيغفر لمن يشاء " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير ؟
قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله : " ويعذب من يشاء " ، إن كان لها ما كسبت وعليها
__________
(1) سياق هذه الجملة من قبل الخبرين السالفين : " كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . أن الله يفعل بعبده المؤمن . . . " ، فجملة " أن الله يفعل " ، هي فاعل قوله : " بلغنا " .
(2) في المطبوعة : " يغفر لمن يشاء " بغير فاء ، وأثبت نص الآية كما في المخطوطة .

(6/121)


ما اكتسبت ، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب ، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا ؟
قيل له : إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله : " ويعذب من يشاء " ، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله ، والمرية في وحدانيته ، أو في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، أو في المعاد والبعث - من المنافقين ، (1) على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال بمثل قولهما ، إن تأويل قوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " ، على الشك واليقين.
غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : " ويعذب من يشاء " ، هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله ، (2) وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا والموعود الغفران بقوله : (3) " فيغفر لمن يشاء " هو الذي إخفاء ما يخفيه ، (4) الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداءً تحليلُه وإباحته ، فحرمه على خلقه جل ثناؤه (5) أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله ، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به ، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك
__________
(1) سياق الجملة : " على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله . . من المنافقين " ، وما بينهما صفات فاصلة .
(2) قوله : " الشك والمرية . . . " خبر " كان " .
(3) قوله : " الموعود " منصوب معطوف على قوله " إن المتوعد . . . " ، وقوله : " الغفران " منصوب باسم المفعول وهو " الموعود " ، أي الذي وعد الغفران .
(4) في المطبوعة : " هو الذي أخفى وما يخفيه الهمة بالتقدم . . . " وفي المخطوطة : " هو الذي إحفا وما يخفيه +الهمه " غير منقوطة بهذا الرسم : وصواب قراءة المخطوطة هو ما أثبت .
(5) قوله : " أو على ترك . . . " معطوف على قوله آنفًا : " بالتقدم على بعض ما نهاه . . . "

(6/122)


بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
6498 - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه " . (1)
* * *
فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله : " ويعذب من يشاء " .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : " وإن تبدوا ما في أنفسكم " ، أيها الناس ، فتظهروه " أو تخفوه " ، فتنطوي عليه نفوسكم " يحاسبكم به الله " ، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له ، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله عز وجل على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ، وعلى غير ذلك من الأمور قادر.
* * *
__________
(1) الأثر : 6498 - لم يذكر الطبري إسناده ، وأحاديث تجاوز الله عن حديث النفس في مسلم 2 : 146 - 152 بغير هذا اللفظ ، ثم سائر كتب السنة .
(2) في المخطوطة : " فيعرف مؤمنيكم . . . ويعذب منافقيكم " بالجمع ، والذي في المطبوعة أصح وأجود .

(6/123)


آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

القول في تأويل قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : صدق الرسول يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقر " بما أنزل إليه " ، يعني : بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد وعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها.
* * *
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال : يحق له.
6499 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال : ويحق له أن يؤمن. (1)
* * *
وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " ، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلكم تقولون : " سمعنا وعصينا " كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا :
__________
(1) الأثر : 6499 - أخرج الحاكم في المستدرك 2 : 287 من طريق خلاد بن يحيى ، عن أبي عقيل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس قال : " لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأحق له أن يؤمن " . ثم قال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " واستدرك عليه الذهبي فقال : " منقطع " .

(6/124)


بل نقول : " سمعنا وأطعنا " ! فأنزل الله لذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " ، يقول : وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله ، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكتبه " .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق(وكتبه) على وجه جمع " الكتاب " ، على معنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : (وكتابه) ، بمعنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " وكتابه " ، ويقول : الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [سورة العصر : 1 - 2] ، بمعنى جنس " الناس " وجنس " الكتاب " ، كما يقال : " ما أكثر درهم فلان وديناره " ، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. (2) وذلك ، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك - أعني بذلك : " وملائكته وكتبه ورسله " - فإلحاق " الكتب " في الجمع لفظا به ، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 6477 .
(2) انظر ما سلف 4 : 263 .

(6/125)


القول في تأويل قوله تعالى : { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ }
قال أبو جعفر : وأما قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " ، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ : " لا نفرق بين أحد من رسله " بالنون ، متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو " يقولون " . وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر " يقولون " لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : ( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ) [سورة الرعد : 23 - 24] ، بمعنى : يقولون : سلام.
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين : ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ب " الياء " ، بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى ، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحدوا نبوته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله ، وأقروا ببعضه ، كما : -
6500 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " لا نفرق بين أحد من رسله " ، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا : فلان نبي ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون :

(6/126)


" لا نفرق بين أحد من رسله " ، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض ، (1) الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط (2) بمعنى ما وصفنا من : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله (3) ولا يعترض بشاذ من القراءة ، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وقال الكل من المؤمنين : " سمعنا " قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه " وأطعنا " ، يعني : أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له وقوله : " غفرانك ربنا " ، يعني : وقالوا : " غفرانك ربنا " ، بمعنى : اغفر لنا ربنا غفرانك ، كما يقال : " سبحانك " ، بمعنى : نسبحك سبحانك.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن " الغفران " و " المغفرة " ، الستر من الله على ذنوب من
__________
(1) في المطبوعة : " التي قامت حجة . . . " ، وفي المخطوطة : " التي قامت حجته " ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " التشاغر " بغين معجمة ، وهو خطأ غث . والصواب من المخطوطة . و " تشاعروا الأمر ، أو على الأمر " ، أي تعالموه بينهم . من قولهم : " شعر " أي " علم " . وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة ، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء . وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ : 3 ، وتعلق : 5 ، ثم ص : 263 ، وصواب شرحها ما قلت . وانظر ما سيأتي ص : 155 ، تعليق 1 .
(3) في المطبوعة : " يعني ما وصفنا " ، والصواب من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " نقلا ورواية " ، وفي المخطوطة " نقلا وراثة " ، وهي الصواب ، وآثرت زيادة الواو قبلها ، فإني أرجح أنها كانت كذلك . وقد أكثر الطبري استعمال " وراثة " و " موروثة " فيما سلف ، من ذلك فيما مضى في 4 : 33 " . . . بالحجة القاطعة العذر ، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة . . . " / ثم في 5 : 238 " لخلافها القراءة المستفيضة الموروثة . . . " . وانظر ما سيأتي ص : 155 ، تعليق : 1 .

(6/127)


غفر له ، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة ، وعفوه عن العقوبة - عليه. (1)
* * *
وأما قوله : " وإليك " المصير " ، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا ، فاغفر لنا ذنوبنا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : " غفرانك " ؟
قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : " شكرا لله يا فلان " ، و " حمدا له " ، بمعنى : اشكر الله واحمده. " والصلاة ، الصلاة " . بمعنى : صلوا. ويقولون في الأسماء : " الله الله يا قوم " ، ولو رفع بمعنى : هو الله ، أو : هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر ، كان جائزا ، كما قال الشاعر : (3)
إن قوما منهم عمير وأشبا... ه عمير ومنهم السفاح (4) لجديرون بالوفاء إذا قا... ل أخو النجدة : السلاح السلاح ! !
ولو كان قوله : " غفرانك ربنا " جاء رفعا في القراءة ، لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا. (5)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 109 ، 110 .
(2) انظر ما سلف في تفسير " المصير " 3 : 56 .
(3) لم أعرف قائله .
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 188 ، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) 4 : 306 . ولم أستطع تعييني " عمير " و " السفاح " ، فهما كثير .
(5) أكثر هذا من معاني القرآن للفراء 1 : 188 .

(6/128)


لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسل ربك.
6501 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم بن جابر قال : لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " ، قال جبريل : إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه! فسأل : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر السورة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها ، (2) فلا يضيق عليها ولا يجهدها.
* * *
__________
(1) الحديث : 6501 - بيان : هو ابن بشر الأحمسي ، مضت ترجمته في : 259 . " حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي " : تابعي كبير ثقة ، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم . روى عن أبيه ، وعمر ، وابن مسعود ، وطلحة ، وعبادة بن الصامت . وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد ، و " بيان " . ثقة . مات في آخر إمارة الحجاج . وقيل سنة 82 ، وقيل سنة 95 . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/12 . وصرح بأنه سمع عمر .
فهذا الحديث مرسل .
وذكره السيوطي 1 : 376 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم .
ونقله ابن كثير 2 : 89 ، عن هذا الموضع من الطبري . ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد ، من ناسخ أو طابع - هكذا : " عن سنان ، عن حكيم ، عن جابر " ؛ فصار الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي . فيصحح من هذا الموضع .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها " وبين أن الناسخ عجل فزاد " إلا وسعها " ، والسياق يقتضي تركها هنا ، فتركتها .

(6/129)


وقد بينا فيما مضى قبل أن " الوسع " اسم من قول القائل : " وسعني هذا الأمر " ، مثل " الجهد " و " الوجد " من : " جهدني هذا الأمر " و " وجدت منه " ، (1) كما : -
6502 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاومة ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله جل ثناؤه : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [سورة الحج : 78] ، وقال : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [سورة البقرة : 185] ، وقال : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (2) [سورة التغابن : 16].
6503 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت ، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله ، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! (3) كيف نتوب من الوسوسة ؟ كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " ، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.
6504 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " ، وسعها ، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5 : 45 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " اتقوا الله . . " وأثبت نص القراءة .
(3) قوله : " هذا نتوب . . . " ، تعبير فصيح يكون مع التعجب ، وقد جاء في الشعر ، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده .
(4) في المطبوعة : " مما لا يطيقون " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(6/130)


القول في تأويل قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " لها " للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير " وعليها " ، يعني : وعلى كل نفس " ما اكتسبت " ، ما عملت من شر ، (1) كما : -
6505 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت " ، أي : من خير " وعليها ما اكتسبت " ، أي : من شر - أو قال : من سوء.
6506 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط. عن السدي. " لها ما كسبت " ، يقول : ما عملت من خير " وعليها ما اكتسبت " ، يقول : وعليها ما عملت من شر.
6507 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتاده ، مثله.
6508 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ، عمل اليد والرجل واللسان.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكسب " و " الاكتساب " فيما سلف 2 : 273 ، 274 / ثم 3 : 100 ، 101 ، 128 ، 129 / ثم 4 : 449 .

(6/131)


القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه : قولوا : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا " شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله ، " أو أخطأنا " في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ ، كما : -
6509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا ، أو أخطأنا ، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا. (1)
6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها. (2)
6511 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال ، زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : فقل ذلك يا محمد.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام .
(2) الأثر : 6510 - أخرجه مسلم في صحيحه (2 : 146 ، 147) من طرق ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ولفظه : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم يتكلموا أو يعملوا " .

(6/132)


قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا ، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟
قيل : إن " النسيان " على وجهين : أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط ، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به ، وضعف عقله عن احتماله.
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به ، وهو " النسيان " الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) [سورة طه : 115] ، وهو " النسيان " الذي قال جل ثناؤه : ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) [سورة الأعراف : 51]. فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا ، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله ، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة ، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله ، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة ، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما ، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.
وأما الذي العبد به غير مؤاخذ ، لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل

(6/133)


يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان ، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه.
* * *
وكذلك " الخطأ " وجهان :
أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به مأخوذ. يقال منه : " خطئ فلان وأخطأ " فيما أتى من الفعل ، و " أثم " ، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
الناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (3)
يعني : أخطأوا الصواب وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه ، (4) إلا ما كان من ذلك كفرا.
والآخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به ، والظن منه بأن له فعله ، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر
__________
(1) في المطبوعة : " ما يتأثم فيه " ، والصواب من المخطوطة . وانظر معنى " خطئ " فيما سلف 2 : 110 .
(2) هو عبيد بن الأبرص الأسدي ، وفي حماسة البحتري ، 236 " عبيد بن منصور الأسدي " ، وكأنه تحريف .
(3) ديوانه : 54 ، وحماسة البحتري 236 واللسان (أمر) ورواية ديوانه : والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب . . . . . . . .
أما رواية اللسان ، فهي كما جاءت في الطبري . ولحاه يلحاه : لامه وقرعه . والأمير : صاحب الأمر فيهم ، يأمرهم فيطيعونه . والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب . وهو شبيه بقول القطامي : والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ، ولأم المخطئ الهبل
(4) استعمل أبو جعفر " الصفح " هنا بمعنى : الرد والصرف ، ولو كان من قولهم " صفح عن ذنبه " لكان صواب العبارة " في صفحه عما كان منه من إثم " . واستعمال أبي جعفر جيد صحيح .

(6/134)


صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها ، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد ، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به.
* * *
وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ، فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم (1)
وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية ، لمن وفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا }
قال أبو جعفر : ويعني بذلك جل ثناؤه : قولوا : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا " ، يعني ب " الإصر " العهد ، كما قال جل ثناؤه : ( قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) [سورة آل عمران : 81]. وإنما عنى بقوله : " وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه " كما حملته على الذين من قبلنا " ، يعني : على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها ، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها
__________
(1) انظر أمالي الشريف المرتضى 2 : 131 ، 132 .

(6/135)


أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه ، مثل الذي أحل بمن قبلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قي قوله : " لا تحمل علينا إصرا " ، قال : لا تحمل علينا عهدا وميثاقا ، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول : كما غلظ على من قبلنا.
6513 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن مجاهد في قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " ، قال : عهدا (1)
6514 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إصرا " ، قال : عهدا.
6515 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : " إصرا " ، يقول : عهدا.
6516 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " ، والإصر : العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود.
6517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " ، قال : عهدا لا نطيقه ولا نستطيع
__________
(1) الأثر : 6513 - " موسى بن قيس الحضرمي " الفراء ، الكوفي ، لقبه : " عصفور الجنة " . روى عن سلمة بن كهيل ، ومحمد بن عجلان ، ومسلم البطين وغيرهم . روى عنه وكيع ، ويحيى بن آدم ، وأبو نعيم ، وغيرهم . قال أحمد : " لا أعلم إلا خيرا " . وقال ابن سعد : " كان قليل الحديث " . ووثقه ابن معين . وقال العقيلي : " كان من الغلاة في الرفض . . . يحدث بأحاديث مناكير - أو : بواطيل " . مترجم في التهذيب .

(6/136)


القيام به " كما حملته على الذين من قبلنا " ، اليهود والنصارى فلم يقوموا به ، فأهلكتهم.
6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " إصرا " ، قال : المواثيق.
6519 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " الإصر " ، العهد. ( وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) [سورة آل عمران 81] ، قال : عهدي.
6520 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، قال : عهدي.
وقال آخرون : " معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا ، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم ، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم " .
ذكر من قال ذلك :
6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن علي بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، قال : لا تمسخنا قردة وخنازير. (1)
6522 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة.
* * *
وقال آخرون : " معنى " الإصر " بكسر الألف : الثِّقْل " .
__________
(1) الأثر : 6521 - " سعيد بن عمرو السكوني " ، سلفت ترجمته في رقم : 5563 . أما " علي بن هارون " فلم أجده ، وأظن صوابه " يزيد بن هارون " ، و " بقية بن الوليد " ، يروي عن " يزيد بن هارون " ومات قبله . وهم جميعًا مترجمون في التهذيب .

(6/137)


ذكر من قال ذلك :
6523 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، يقول : التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
6524 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله : " ولا تحمل علينا إصرًا " ، قال : الإصر ، الأمر الغليظ.
* * *
قال أبو جعفر : فأما " الأصر " ، بفتح الألف : فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة ، يقال : " أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه " ، بمعنى : عطفتني عليه. " وما يأصِرُني عليه " ، أي : ما يعطفني عليه. " وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا " ، يعني به : عاطفة رَحم تعطفني عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وقولوا أيضًا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، لثِقَل حمله علينا.
وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.
ذكر من قال ذلك :
6525 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، تشديدٌ يشدِّد به ، كما شدّد على من كان قبلكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه " ، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة ، وهو الذي أثبته هنا .

(6/138)


6526 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
6527 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه.
6528 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، مَسخُ القردة والخنازير.
6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال ، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، عن سالم بن شابور في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، قال : الغُلْمة. (1)
6530 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم ،
__________
(1) الأثر : 6529 - " سلام بن سالم الخزاعي " ، سلفت ترجمته برقم : 252 . وأما " أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي " ، فهو " عمر بن سعيد بن سليمان ، أبو حفص القرشي الدمشقي " ، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي ، فكأنه نسب إليه . روى عن محمد بن شعيب ابن شابور . مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداد (11 : 200) . و " محمد بن شعيب بن شابور " الدمشقي ، أحد الكبار . روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي ، وغيرهما . كان يسكن بيروت ، وذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 200 .
والغلمة : غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة .

(6/139)


فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين ، أولى مما خالف ذلك المعنى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا }
قال أبو جعفر : وفي هذا أيضًا ، من قول الله عز وجل ، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك (1) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : " واعف عنا " ، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6531 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واعف عنا " ، قال : اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به.
* * *
وكذلك قوله : " واغفر لنا " ، يعني : واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.
* * *
وقد دللنا على معنى " المغفرة " فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) سياق العبارة : " وفي هذا أيضًا . . . الدلالة الواضحة " خبر ومبتدأ .
(2) انظر ، ما سلف قريبًا : 127 ، 128 تعليق : 1 ، والمراجع هناك . وانظر فهارس اللغة (غفر) .

(6/140)


6532 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " واغفر لنا " إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَارْحَمْنَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا ، كما : -
6533 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قوله : " وارحمنا " ، قال يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. (1) قال : ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أنت مَوْلانا " ، أنت وَليُّنا بنصرك ، دون من عَاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ، فأنت وليّ من أطاعك ، وعدوّ من كفر بك فعصاك ، " فانصرنا " ، لأنا حزْبك
__________
(1) في المطبوعة : " لا نترك " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، منصوبًا بقوله : " تنال " معطوفًا على قوله " العمل " .

(6/141)


" على القوم الكافرين " ، الذين جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك ، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
* * *
و " المولى " في هذا الموضع " المفعَل " ، من : " وَلى فلانٌ أمرَ فُلان ، فهو يليه وَلاية ، وهو وليُّه ومولاه " . (1) وإنما صارت " الياء " من " ولى " " ألفًا " ، لانفتاح " اللام " قبلها ، التي هي عينُ الاسم.
* * *
وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استجاب الله له في ذلك كله.
ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :
6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال ، حدثنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ، قال : قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى قوله : " غُفرانك ربنا " ، قال الله عز وجل : " قد غفرت لكم. فلما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا " ، قال الله عز وجل : لا أحملكم. فلما قرأ : " واغفر لنا " ، قال الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم. فلما قرأ : " وارحمنا " ، قال الله عز وجل : " قد رحمتكم " ، فلما قرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين " ، قال الله عز وجل : قد نصرتُكم عليهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الولي " ، و " المولى " فيما سلف 2 : 489 ، 564 / ثم 5 : 424 .
(2) الحديث : 6534 - محمد بن خلف بن عمار العسقلاني ، شيخ الطبري : ثقة ، من شيوخ النسائي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في : 126 .
آدم : هو ابن أبي إياس العسقلاني ، وهو ثقة مأمون . وكان مكينًا عند شعبة . وقد مضت ترجمته في : 187 .
ورقاء : هو ابن عمر اليشكري ، أبو بشر . وهو كوفي ثقة ، أثنى عليه شعبة جدًا . والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره ، لأنه من القدماء من طبقة شعبة ، ولأنه كوفي ، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته .
وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين ، غير تفسير الطبري . فرواه هنا مرفوعًا ، ثم سيرويه بنحوه : 6540 موقوفًا على ابن عباس .
وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا ، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس . فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع .
ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة ، فهي مقبولة .
بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك . لأن ورقاء قديم ، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره .
وأما ذاك الإسناد ، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء . وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة ، بعد تغيره . كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه 3/ 334 .
ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر ، كما مضى في : 6457 ، من رواية آدم بن سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهناك الإجابة بعد كل دعاء : " قد فعلت " . وهنا الإجابة من لفظ الدعاء . والمعنى واحد .
والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء ، سهوًا من الناسخين ، عند قوله : " فلما قرأ : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل : لا أحملكم " . وفي الرواية الآتية : " قال : لا أؤاخذكم " ، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء : (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) - " قال : لا أحمل عليكم " . وذاك هو السياق الصحيح الكامل ، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا .
واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا ، لأنه كرر في متن الحديث : " فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل : قد غفرت لكم " - مرتين . ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره .

(6/142)


6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، قل : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فعل. وقال له جبريل : قل : " ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فعل. فقال : قل " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " ، فقالها ، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : قد فعل. فقال : قل : " واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " ، فقالها ، فقال جبريل : قد فَعل.

(6/143)


6536 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقال له جبريل : فعل ذلك يا محمد " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " ، فقال له جبريل في كل ذلك : فَعَل ذلك يا محمد.
6537 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن آدم بن سليمان ، مولى خالد قال ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل الله عز وجل : " آمن الرسول بما أنزل من ربه " إلى قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، فقرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به " ، قال : قد فعلت " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " ، قال : قد فعلت. (1)
6538 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : أنزل الله عز وجل : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال : أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : نعم. (2)
6539 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن آدم بن
__________
(1) الحديث : 6537 - هو مختصر من الحديث : 6457 ، بهذا الإسناد .
وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب ، كما أشرنا هناك .
(2) الحديث : 6538 - هو مختصر من الحديث : 6456 ، بهذا الإسناد . وقد أشرنا إليه هناك .

(6/144)


سليمان ، عن سعيد بن جبير : " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال ويقول : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، قال ويقول : قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " ، ولم تعطها الأمم قبلها. (1)
6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى قوله : " غفرانك ربنا " ، قال : قد غفرت لكم " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها " إلى قوله : " لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ، قال : لا أؤاخذكم " ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا " ، قال : لا أحمل عليكم إلى قوله : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا " ، إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرُتكم على القوم الكافرين. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6539 - هو حديث مرسل . وهو بعض الحديث الماضي : 6464 ، بهذا الإسناد .
ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة " أبو حميد " ، بدل " أبو أحمد " . وهو خطأ يقينًا ، فإنه " أبو أحمد الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير " ، كما بينا في : 6463 .
ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله " أبو حميد " ، وبين " سفيان " . وآخر بين قوله " عن سعيد بن جبير " ، وبين الآية .
ولعل كاتبها شك في قوله " عن سفيان " ، وظنه كالرواية الماضية " حدثنا سفيان " ، فترك مكان " حدثنا " بياضا . ثم شك في ذكر الآية بعد اسم " سعيد بن جبير " ، دون تمهيد لها بقوله " فنزلت هذه الآية " ، كما في الرواية الماضية ، فترك لذلك بياضًا .
(2) الحديث : 6540 - علي بن حرب بن محمد بن علي ، أبو الحسن الطائي الموصلي : ثقة ثبت ، وثقه الدارقطني وغيره . وكان عالمًا بأخبار العرب ، أديبًا شاعرًا . روى عنه النسائي ، وأبو حاتم ، وابنه ، وترجمه 3/1/183 . وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 11 : 418 - 240 .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 6534 ، بنحوه . وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى ، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى . وذاك أرجح إسنادًا وأصح ، كما بينا هناك .
وذكر ابن كثير 2 : 89 قطعة منه ، من رواية ابن أبي حاتم ، عن علي بن حرب الموصلي ، بهذا الإسناد . فلا ندري : أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا ، أم اختصره ابن كثير ؟

(6/145)


وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة :
6541 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " : كان جبريل عليه السلام يقول له : سلها! (1) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه ، فأعطاه إياها ، (2) فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً.
6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق : أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة : " وانصرنا على القوم الكافرين " ، قال : آمين. (3)
* * *
آخر تفسير سورة البقرة
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " . . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله " وما بين الكلام بياض ، وأئمته المطبوعة كما ترى . أما الدر المنثور 1 : 378 فقال : " أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال : كان 3 عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه . . . " ورقم " 3 " دلالة على سقط في الكلام . فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور .
(2) في المخطوطة : " فأعطاها إياها " ، وأثبت ما في المطبوعة ، لأنه موافق لما في الدر المنثور .
(3) الأثر : 6542 - في تفسير ابن كثير 2 : 91 ، والدر المنثور 1 : 378 وفيهما تخريجه .
وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه :
" آخر تفسير سورة البقرة "
" والحمد لله أولا وآخرًا ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم "
" يتلوه تفسير سورة آل عمران . الحمد لله رب العالمين " .

(6/146)


تفسير سورة آل عمران

(6/147)


الم (1)

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّر
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد : (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }
قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن معنى قوله : " ألم " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله : " الله " . (3)
* * *
وأما معنى قوله : " لا اله إلا هو " ، فإنه خبرٌ من الله جل وعز ، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد ، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية ، وتوحُّده بالألوهية ، وأن كل ما دونه فملكه ، وأنّ كل ما سواه فخلقه ، لا شريك له في سلطانه ومُلكه (4) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك ، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره ، ولا إشراك أحد معه في سلطانه ، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه ، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه ، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه
__________
(1) في المطبوعة : " أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، رضي الله عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1 : 205 - 224.
(3) انظر ما سلف 1 : 122 - 126.
(4) سياق العبارة : " أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم " .

(6/148)


ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه (1) يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنزيله ذلك إليه ، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (2) مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (3) - (4) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا (5) أنه مقيم على ضلالة ، ومُنعدلٌ عن المحجة ، (6) وراكبٌ غير السبيل المستقيمة ، بصرفه العبادة إلى غيره ، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به : من نفي " الألوهية " أن تكون لغيره ، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها ، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه ، وألحدوا في الله. فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها ، (7) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم ، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ، فأبوا إلا المقام على
__________
(1) قوله : " ومعرفًا " ، في المطبوعة والمخطوطة " ومعرف " ، والصواب نصبها ، لأن سياق الجملة " أخبر عباده أن الألوهية خاصة به... معرفًا من كان من خلقه... " ، أما الواو العاطفة في قوله : " ومعرفًا " ، فليست تعطف " معرفًا " على " احتجاجًا " فهذا غير جائز ، بل هي عاطفة على جملة " أخبر عباده... " ، كأنه قال " وأخبرهم ذلك معرفًا " .
(2) السياق " ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن. . . " .
(3) الإلاهة : عبادة إله ، كما سلف في تفسيره 1 : 124.
(4) في المطبوعة : " ومتخذته دون مالكه... " ، وهو لا يستقيم ، وقد أشكل عليه قوله قبل " التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته " ، فظن هذا معطوفا عليه ، وهو خطأ مفسد للسياق ، بل هو معطوف على قوله : " مقيما على عبادة وثن " .
(5) سياق الجملة : " ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن... أنه مقيم على ضلالة... " .
(6) في المطبوعة : " ومنعزل " وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهي فيها غير منقوطة ، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق : مال عنه وانحرف. يقال : عدل عن الشيء : حاد ، وعدل عن الطريق : جار ومال واعوج سبيله.
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " نيفًا وثلاثين آية " ، وهو خطأ صرف ، فالتنزيل بين عدده ، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا " ... إلى بضع وثمانين آية " .

(6/150)


ضلالتهم وكفرهم ، فدعاهم إلى المباهلة ، فأبوا ذلك ، وسألوا قَبول الجزية منهم ، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم ، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك ، وإياهم قصد بالحِجاج ، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله ، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا ، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه ، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (1)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى : -
6543 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران : (2) ستون راكبًا ، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم ، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم : " العاقب " أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمهُ " عبد المسيح " و " السيد " ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم ، واسمه " الأيهم " (3) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (4) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه ، وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " لرسول الله... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في ابن هشام : " وفد نصارى نجران " . ثمال القوم : عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(3) في ابن هشام : " وفد نصارى نجران " . ثمال القوم : عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(4) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم ، ويعني بقوله : " صاحب مدراسهم " ، عالمهم الذي درس الكتب ، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم.
(5) في المطبوعة : " في دينه " ، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق ، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2 : 222 - 223 ، كما سيأتي في التخريج.

(6/151)


قال ابن إسحاق قال ، محمد بن جعفر بن الزبير : (1) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية ، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب (2) قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
قال : وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم : " العاقب " ، وهو " عبد المسيح " ، والسيد ، وهو " الأيهم " ، و " أبو حارثة بن علقمة " أخو بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ، وُنبيه ، وخويلد ، وعمرو ، (3) وخالد ، وعبد الله. ويُحَنَّس : في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم : " أبو حارثة بن علقمة " ، و " العاقب " ، عبد المسيح ، و " الأيهم " السيد ، وهم من النصرانية على دين الملك ، (4) مع اختلاف من أمرهم. يقولون : " هو الله " ، ويقولون : " هو ولد الله " ، ويقولون : " هو ثالث ثلاثة " ، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " ، بأنه كان يُحيي الموتى ، ويبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا ، وذلك كله بإذن الله ، ليجعله آية للناس. (5)
__________
(1) في ابن هشام : " فلما قدموا... " .
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر ، وهو من جياد الثياب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وخويلد بن عمرو " ، وهو خطأ ، صوابه من ابن هشام.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وهو من النصرانية " ، والصواب من ابن هشام.
(5) في ابن هشام : " ولنجعله آية للناس " ، كنص الآية.

(6/152)


ويحتجون في قولهم : " إنه ولد الله " ، أنهم يقولون : " لم يكن له أب يُعلم ، وقد تكلم في المهد ، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله " . (1)
ويحتجون في قولهم : " إنه ثالث ثلاثة " ، بقول الله عز وجل : " فعلنا ، وأمَرنا ، وخلقنا ، وقضينا " . فيقولون : " لو كان واحدًا ما قال : إلا " فعلت ، وأمرتُ وقضيتُ ، وخلقت " ، ولكنه هو وعيسى ومريم " .
ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن ، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلما! قالا قد أسلمنا. قال : إنكما لم تسلما ، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا ، وعبادتكما الصليبَ ، وأكلكما الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله ، صدرَ " سورة آل عمران " إلى بضع وثمانين آية منها. فقال : " ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " ، (2) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا ، (3) وتوحيده إياها بالخلق والأمر ، لا شريك له فيه رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر ، (4) وجعلوا معه من الأنداد واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم ، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم ، فقال : " اللهُ لا إله إلا هو " ، أي : ليس معه شريك في أمره. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " بشيء لم يصنعه... " ، وهو كلام فاسد ، والصواب من المخطوطة. وفي ابن هشام : " وهذا لم يصنعه... " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر " ألم " ، وأثبتها من ابن هشام.
(3) في المطبوعة : " بتبرئة نفسه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وفي ابن هشام : " بتنزيه نفسه " .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وردًا عليه " بواو العطف ، وهو خطأ ، والصواب من ابن هشام.
(5) الأثر : 6543 - في ابن هشام : " ليس معه غيره شريك في أمره " . والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا ، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام 2 : 222 - 225.

(6/153)


6544 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم " ، قال : إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له : من أبوه ؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا : بلى! قال : ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى! قال : ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا : بلى! قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا ؟ قالوا : لا! قال : أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى! قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم ؟ قالوا : لا! قال : فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون ذلك ؟ قالوا : بلى! (1) قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث ؟ قالوا : بلى! قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، (2) ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ ، ثم كان يَطعم الطعام ، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث ؟ قالوا بلى! قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ قال : فعرفوا ، ثم أبوا إلا جحودًا ، فأنزل الله عز وجل : " ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم "
* * *
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور 2 : 3 ما نصه : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب " ، إلا أن الدر المنثور قد أسقط " قال " من هذه العبارة. أما البغوي (هامش تفسير ابن كثير) 2 : 93 : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب " . وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى ، كان فيها هذا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أن عيسى حملته امرأة... " والصواب " أمه " ، كما في الدر المنثور والبغوي.

(6/154)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

القول في تأويل قوله : { الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار(الْحَيُّ الْقَيُّوم).
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما : ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ).
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : ( الْحَيُّ الْقَيِّمُ ).
6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال ، حدثنا عثام بن علي قال ، حدثنا الأعمشُ ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر قال ، سمعت علقمة يقرأ : " الحيّ القيِّم " .
قلتُ : أنت سمعته ؟ قال : لا أدري.
6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك ، وهو ما : -
6547 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا شيبان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن علقمة أنه قرأ : " الحيّ القيَّام " .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا ، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ ، وراثةً ، (1) وما كان مثبتًا في مصاحفهم ، وذلك قراءة من قرأ ، " الحي القيُّومُ " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " تشاغر " ، بالغين ، وهو خطأ ، وانظر ما سلف : 127 تعليق : 2. وانظر ما قلته عن قوله : " وراثة " فيما سبق ص : 127 تعليق : 3.

(6/155)


القول في تأويل قوله : { الْحَيُّ } " اختلف أهل التأويل في معنى قوله : " الحيّ " . (1)
فقال بعضهم : معنى ذلك من الله تعالى ذكره : أنه وصف نفسه بالبقاء ، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك :
6548 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحي " ، الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران. (2)
6549 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " ، قال : يقول : حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون : معنى " الحي " ، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية ، ووصف به نفسه : أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً ، ولا تزال كذلك. وقالوا ، إنما وصف نفسه بالحياة ، لأن له حياة كما وصفها
__________
(1) انظر تفسير : " الحي " فيما سلف 5 : 386 ، 387.
(2) الأثر : 6548 - سيرة ابن هشام 2 : 225 ، وهو من بقية الأثر السالف : 6543.

(6/156)


بالعلم ، لأن لها علمًا وبالقدرة ، لأن لها قدرةٌ.
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى ذلك عندي : (1) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع ، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة ، والحي الذي لا يموت ولا يبيد ، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا ، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى ، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت وأنّ الإله ، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى ، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله : { الْقَيُّومُ }
قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك ، والذي نختار منه ، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها ، فمتقارب. ومعنى ذلك كله : القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص ، كما : -
6550 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى بن ميمون قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : " الحي القيوم " ، قال : القائم على كل شيء.
__________
(1) انظر تفسير " الحي " فيما سلف 5 : 386 ، 387.

(6/157)


6551 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6552 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " ، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون : " معنى ذلك : القيام على مكانه " . ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال ، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك ، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان ، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك :
6553 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " القيوم " ، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : " فلان قائم بأمر هذه البلدة " ، يعنى بذلك : المتولي تدبيرَ أمرها.
__________
(1) الأثر : 6553 - في المخطوطة والمطبوعة : " عمر بن إسحاق " وهو خطأ بين ، وهذا إسناد أبي جعفر إلى " محمد بن إسحاق " ، الذي يدور في تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين : 6543 ، 6548 ، في سيرة ابن هشام 2 : 225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر : " القيام على مكانه " ، مكان " القائم على مكانه " والصواب من سيرة ابن هشام.

(6/158)


فـ " القيوم " إذ كان ذلك معناه " الفيعول " من قول القائل : " الله يقوم بأمر خلقه " . وأصله " القيووم " ، غير أن " الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة وهي متحركة ، قلبت " ياء " ، فجعلت هي و " الياء " التي قبلها " ياء " مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ " الواو " المتحركة إذا تقدمتها " ياء " ساكنة. (1)
* * *
وأما " القيَّام " ، فإن أصله " القيوام " ، وهو " الفيعال " من " قام يقوم " ، سبقت " الواو " المتحركة من " قيوام " " ياء " ساكنة ، فجعلتا جميعًا " ياء " مشدّدة.
ولو أن " القيوم " " فَعُّول " ، كان " القوُّوم " ، ولكنه " الفيعول " . وكذلك " القيّام " ، لو كان " الفعَّال " ، لكان " القوَّام " ، كما قيل : " الصوّام والقوّام " ، وكما قال جل ثناؤه : ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) [سورة المائدة : 8] ، ولكنه " الفيعال " ، فقيل : " القيام " .
* * *
وأما " القيِّم " ، فهو " الفيعل " من " قام يقوم " ، سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة ، فجعلتا " ياء " مشددة ، كما قيل : " فلان سيدُ قومه " من " ساد يسود " ، و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود " ، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح ، فكان " القيوم " و " القيّام " و " القيم " أبلغ في المدح من " القائم " ، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته ، إن شاء الله ، " القيام " ، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من " الياء " " الواو " ، فيقولون للرجل الصوّاغ :
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " القيوم " : 5 : 388 ، 389 ، وهنا زيادة في " القيام " و " القيم " لم يذكرها هناك.

(6/159)


نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

" الصيّاغ " ، ويقولون للرجل الكثير الدّوران : " الدَّيار " . (1) وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه : ( لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) [سورة نوح : 26] إنما هو " دوّار " ، " فعَّالا " من " دار يَدُور " ، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقِرّت كذلك في المصحف.
* * *
القول في تأويل قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : يا محمد ، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء ، هو الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب يعني بـ " الكتاب " ، القرآن " بالحق " يعني : بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل ، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم " مُصَدّقًا لما بين يديه " ، يعني بذلك القرآن ، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله ، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (2) لأن منزل جميع ذلك واحد ، فلا يكون فيه اختلاف ، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6554 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 110.
(2) في المخطوطة " ومخفو ما جاءت به رسل الله " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة.

(6/160)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مصدقًا لما بين يديه " . قال : لما قبله من كتاب أو رسول.
6555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مصدقًا لما بين يديه " ، لما قبله من كتاب أو رسول.
6556 - حدثني محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " نزل عليك الكتاب بالحق " ، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (1)
6557 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه " ، يقول : القرآن ، " مصدّقًا لما بين يديه " من الكتب التي قد خلت قبله.
6558 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه " ، يقول : مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وأنزل التوراة " ، على موسى " والإنجيل " على عيسى " من قبل " ، يقول : من قبل الكتاب الذي نزله عليك ويعني بقوله : " هُدًى للناس " ، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه
__________
(1) الأثر : 6556 - هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها آنفًا رقم : 6553.

(6/161)


مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

من توحيد الله وتصديق رسله ، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى ، (1) وفي غير ذلك من شرائع دين الله ، كما : -
6559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " ، هما كتابان أنزلهما الله ، فيهما بيانٌ من الله ، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به ، وعمل بما فيه.
6560 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل التوراة والإنجيل " ، التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ " الفرْقان " ، إنما هو " الفعلان " من قولهم : " فرق الله
__________
(1) في المطبوعة : " ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي " ، وفي المخطوطة هكذا : " وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي " ، الحرف الأول حاء ، والثاني " فاء " والثالث " ياء " ، والرابع كالدال ، إلا أنه بالكاف أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة : " نعتيك " ، لأن الله لما نعت محمدًا بأنه نبيه ورسوله ، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران ، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله " ونعتيك " معطوف على قوله : " من توحيد الله ، وتصديق رسوله " ، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في المطبوعة ، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا.
(2) الأثر : 6560 - هو بقية الآثار السالفة ، التي آخرها رقم : 6556 ، وفي المطبوعة " على من كان قبلهما " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.

(6/162)


بين الحق والباطل " ، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل ، (1) إما بالحجة البالغة ، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل ، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى وبعضهم : إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال : معناه : " الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب " :
6561 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل الفرقان " ، أي : الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (3)
* * *
ذكر من قال : معنى ذلك : " الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام " :
6562 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وأنزل الفرقان " ، هو القرآن ، أنزله على محمد ، وفرق به بين الحق والباطل ، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحدّ فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضَه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته.
6563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وأنزل الفرقان " ، قال : الفرقان ، القرآن ، فرق بين الحق والباطل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يفصل بينهما... بالحق " مضارعًا ، والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته.
(2) انظر ما سلف 1 : 98 ، 99 / ثم 3 : 448. وفي المطبوعة " بالأيدي " بالياء في آخره ، وهو خطأ. والأيد : الشدة والقوة.
(3) الأثر : 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها : 6560.

(6/163)


قال أبو جعفر : والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى " الفرقان " في هذا الموضع : فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى ، وفي غير ذلك من أموره ، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله : " نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه " . ولا شك أن ذلك " الكتاب " ، هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته ، وأن عيسى عبدٌ له ، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا ، أو ادَّعوه لله ولدًا ، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و " الذين كفروا " ، هم الذين جحدوا آيات الله و " آيات الله " ، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (1)
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف " كفر " و " أبى " .

(6/164)


وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله : (1) " وأنزل الفرقان " أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (2) لأنه عقب ذلك بقوله : " إن الذين كفروا بآيات الله " ، يعني : إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنزله فرقًا بين المحق والمبطل " لهم عذاب شديدٌ " ، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له ، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه ثم أخبرهم أنه " عزيز " في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ وأنه " ذو انتقام " ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه ، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6564 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام " ، أي : إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء منه فيها. (3)
6565 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام " ،
.........................................................................
............................................................................ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " يعني عن معنى قوله " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة... " ، وقوله : " عن " زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(3) الأثر : 6564 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6561.
(4) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم : 6565 ، والأخبار بعده ، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.

(6/165)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول : فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم ، في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ ! كما : -
6566 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " ، أي : قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا ، وعندهم من علمه غيرُ ذلك ، غِرّةً بالله وكفرًا به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب ، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء ، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (2) وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في
__________
(1) الأثر : 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6564 ، من سيرة ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة : " ممن صوره " بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.

(6/166)


رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين ، كما : -
6567 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، أي : (1) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صُوّر غيره من بني آدم ، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل ؟ (2)
6568 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، أي : أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما : -
6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا ، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا ، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا ، فإذا بلغ أن يُخلق ، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه ، فيخلطه في المضْغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوّرها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ؟ أشقي أو سعيد ، وما رزقه ؟ وما عمره ؟ وما أثره ؟
__________
(1) " أي " ساقطة من المخطوطة والمطبوعة ، وأثبتها من سيرة ابن هشام ، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.
(2) الأثر : 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6566 عن ابن إسحاق.

(6/167)


هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (1)
6570 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء " ، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء ، من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قال أبو جعفر : وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل ، أو أن تَجوز الألوهة لغيره وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا ، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا ، أو أقرّ بربوبية غيره. (2) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته ، وعيدًا منه لمن عبد غيره ، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه ، فقال : " هو العزيز " الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ ، (3) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود. (4) ثم أعلمهم أنه " الحكيم "
__________
(1) الأثر : 6569 - قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم : 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16 : 189 - 195 ، وفي البخاري في كتاب " بدء الخلق " في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب " الحيض " باب : مخلقة وغير مخلقة.
(2) قوله : " ولجميع من ادعى... " معطوف على قوله : " وتكذيب للذين قالوا.. " .
(3) " وأل " (بفتح الواو وسكون الهمزة ، على وزن سمع) : هو الموئل ، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و " لجأ " (بفتح اللام والجيم) : هو الملجأ ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(4) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.

(6/168)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

في تدبيره وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة ، ويحيا من حيَّ عن بينة ، (1) كما : -
6571 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : ثم قال - يعني الرب عز وجل - : إنزاهًا لنفسه ، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، قال : العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء ، (2) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (3)
6572 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، يقول : عزيز في نقمته ، حكيمٌ في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " ، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " ، القرآن.
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " في نصرته " وهو خطأ في المعنى ، فإن " النصرة " ، اسم من " النصر " وهو لا مكان له هنا. وأما " الانتصار " فهو : الانتقام. وانتصر منه : انتقم.
(3) في ابن هشام : " في حجته وعذره إلى عباده " ، وهي أجود لمكان " إلى " من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا : بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.

(6/169)


وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن " كتابًا " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات. يعني ب " الآيات " آيات القرآن.
وأما " المحكمات " ، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعِبر ، وما أشبه ذلك.
* * *
ثم وصف جل ثناؤه : هؤلاء " الآيات المحكمات " ، بأنهن : " هُنّ أمّ الكتاب " (2) . يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
* * *
وإنما سماهن " أمّ الكتاب " ، لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامعَ معظم الشيء " أمًّا " له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر : " أمّهم " ، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة : " أمها " .
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
ووحَّد " أمّ الكتاب " ، ولم يجمع فيقول : هن أمَّهات الكتاب ، وقد قال : " هُنّ " لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب " ، لا أن كل آية منهن " أم الكتاب " . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن " أم الكتاب " ،
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 99 / ثم 3 : 86 وفهارس اللغة.
(2) في المخطوطة " بأنهن من الكتاب " وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر ما سلف 1 : 107 ، 108.

(6/170)


لكان لا شك قد قيل : " هن أمهات الكتاب " . ونظير قول الله عز وجل : " هن أمّ الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر لـ " هُنّ " ، قوله تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) [سورة المؤمنون : 50] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (1) ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده ، (2) بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا ، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : " هن أم الكتاب " ، ولم يَقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : " ما لي أنصار " ، فتقول : " أنا أنصارك " أو : " ما لي نظير " ، فتقول : " نحن نظيرك " . (3) قال : وهو شبيهُ : " دَعنى من تَمرْتَان " ، وأنشد لرجل من فقعس : (4)
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (5)
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كان المعنى وإحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة " وهو كلام بلا معنى ، ولكن الناقل عن المخطوطة لم يحسن القراءة ، فإن الألف الأخيرة في " واحدًا " نزلت في مستقر الفاء من " فيما " غير منقوطة ، فظنها " وإحداثهما " ، وبدل " جعلا " فصيرها " جعلنا " ، وهذا من عجائب الخلط.
(2) في المطبوعة : " ولو كان مراده الخبر... " والصواب الجيد من المخطوطة.
(3) ربما كان الصواب : " ما لي نصير " ، فتقول : " نحن نصيرك " ، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه.
(4) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال : " منظور بن فروة بن مرثد " ، وهو نفسه " منظور بن حبة الفقعسي الأسدي " ، و " حبة " أمه ، ويعرف بها.
(5) مجالس ثعلب : 602 (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية : 248 - 251 ، وسر صناعة الإعراب 1 : 177 - 179 / ثم 235 ، واللسان (طول) (قتل) ، وغيرها. ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب " بمجاز حل " ، والأخير " عن قتللى " ، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته. " والطول " (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل الذي يطول للدابة فترعى فيه ، وإنما شدد الراجز. لم تأل : لم تقصر. والضمير في هذا الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات : مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ لَيْلَى? مَنْ لِي? ... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ?

(6/171)


" حَلِّ " أي : يحلّ به. (1) على الحكاية ، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك ، كما يقول : " نوديَ : الصلاةَ الصلاةَ " ، يحكي قول القائل : " الصلاةَ الصلاةَ " .
وقال : قال بعضهم : إنما هي : " أنْ قتلا لي " ، ولكنه جعله " عينًا " ، (2) لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن " ، والنصبُ على الأمر ، كأنك قلت : " ضربًا لزيد " .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها ، (3) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ ، (4) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله : " أمّ الكتاب " ، فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (5)
* * *
وأما قوله : " وأخَرُ " فإنها جمع " أخْرَى " . (6)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " كل أي يحكى به على الحكاية " ، وهو كلام فاسد ، ولكن العجب للذي أراد أن يصححه فقال : " لعل أصلها كما هو المفهوم من السياق : لم يقل ، عن قتل ، وأتى به على الحكاية " ، أراد أن يصحح ، فكرر الكلام ، وهو أسخف ما يكون. بيد أن القارئ الذي نقل عن المخطوطة ، لم يحسن قراءة نصها ، فأفسدها إفسادًا ، ولكنها بينة كما كتبتها من رسم المخطوطة.
وقوله " بمكان حل " ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين " مكان " و " مجاز " ، وكسر الحاء من " حل " . ولا أظنه صوابًا ، فلم أجدهم يقولون : " مكان حل " بكسر الحاء ، وإنما هو بفتحها بالإضافة ، لا بالنعت : " : حل بالمكان حلولا وحلا " . أي : نزل به.
وقوله : " على الحكاية " في سياق قوله : " وأنشد لرجل من فقعس... " .
(2) في المطبوعة : " جعله عن " ، ولا خير في هذا التغيير ، والذي في المخطوطة عين الصواب.
(3) في المطبوعة : " استشهد بها " ، والذي في المخطوطة صواب عريق في العربية.
(4) في المطبوعة : " حكايات حالهن " ، وهو كلام لا مفهوم له. وفي المخطوطة " حالسهن " ولم يضع شرطة الكاف ، فلذلك اشتبهت على الناسخ.
(5) في المخطوطة : " أخرج ذلك محلر الحكاية " ، وكأن الصواب المحض ما في المطبوعة ، وهذا تحريف من عجلة الناسخ ، أراد أن يكتب " مخرج " ، فزاد القلم لامًا ، ثم راجع راء ، ثم أسقط الجيم.
(6) انظر ما سلف 3 : 459. وفي المطبوعة : " جمع آخر " ، وفي المخطوطة ، بغير مدة على الألف ، ورجحت أن تكون " أخرى " ، لما مضى من قوله في ذلك ولما سيأتي بعد قليل ، ولأنه القياس.

(6/172)


ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخَر " .
فقال بعضهم : لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعتٌ ، واحدتها " أخرى " ، كما لم تصرف " جُمَع " و " كُتَع " ، لأنهن نعوتٌ.
* * *
وقال آخرون : إنما لم تصرف " الأخر " ، لزيادة الياء التي في واحدتها ، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا : وإنما ترك صرف " أخرى " ، كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء " ، في النكرة والمعرفة ، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (1) ثم افترق جمع " حمراء " و " أخرى " ، فبنى جمع " أخرى " على واحدته فقيل : " فُعَلٌ " و " أخر " ، (2) فترك صرفها كما ترك صرف " أخرى " وبنى جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته فصرف ، فقيل : " حمر " و " بيض " ، فلاختلاف حالتهما في الجمع ، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة ، اتفقت حالتاهما فيها.
* * *
وأما قوله : " متشابهات " ، فإن معناه : متشابهات في التلاوة ، مختلفات في المعنى ، كما قال جل ثناؤه : ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) [سورة البقرة : 25] ، يعني في المنظر ، مختلفًا في المطعم (3) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) [سورة البقرة : 70] ، يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه. (4)
* * *
__________
(1) تركت قوله : " بالواو " على حاله ، فإني لم أستطع أن أرجح زيادتها ، ولم أعرف ما أراد بها إلا أن يكون أراد بها ألف التأنيث المقصورة ، كالتي في " حبلى " . والأخرى ألف التأنيث الممدودة.
(2) المرجح عندي أن قوله : " فعل " زيادة من الناسخ.
(3) انظر ما سلف 1 : 385 - 394.
(4) انظر ما سلف 2 : 209 - 211.

(6/173)


فتأويل الكلام إذًا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات بالبيان ، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين ، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر ، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة ، مختلفات في المعاني.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات " ، وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟
فقال بعضهم : " المحكمات " من آي القرآن ، المعمول بهن ، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ " والمتشابهات " من آية ، المتروك العملُ بهنّ ، المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك :
6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوّام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " منه آيات محكمات " ، قال : هي الثلاث الآيات من ههنا : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) [سورة الأنعام : 151 ، 152] ، إلى ثلاث آيات ، (1) والتي في " بني إسرائيل " : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) [سورة الإسراء : 23 - 39] ، إلى آخر الآيات. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " التي هاهنا " ، وهو خطأ ، فإن الآيات كما ترى من سورة الأنعام وأثبت ما في الدر المنثور 2 : 4. وانظر التخريج في آخر الأثر.
(2) الأثر : 6573 - هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا أخشى أن يكون سقط من إسناده " عن أبي إسحاق " ، بعد " قال أخبرنا العوام " . و " العوام " هو العوام بن حوشب ، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في الإسناد " عمن حدثه " فإن ذلك كذلك ، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي ، هو " عبد الله بن قيس " ، مذكور بروايته هذا الأثر ، وراويه عنه هو أبو إسحاق السبيعي ، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب 5 : 365). والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك 2 : 288 من طريق : " علي بن صالح بن حي ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس " . ونصه : " آيات محكمات ، هي التي في الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر الثلاث الآيات " . وقال الحاكم : " صحيح " ، ووافقه الذهبي. من أجل ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري " عن أبي إسحاق " ، ولكني لم أثبته في نصه.

(6/174)


6574 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن على بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب " ، المحكمات : ناسخه ، وحلالُه ، وحرَامه ، وحدوده وفرائضُه ، وما يؤمن به ويعمل به قال : " وأخر متشابهات " ، والمتشابهات : منسوخه ، ومقدّمه ومؤخره ، وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يُعمل به.
6575 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وأخر متشابهات " ، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب : الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات ، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
6576 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله : " كل من عندنا ربنا " ، أما " الآيات المحكمات " : فهن الناسخات التي يعمَل بهن وأما " المتشابهات " فهن المنسوخات.
6577 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ، و " المحكمات " : الناسخ الذي يعمل به ، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه وأما " المتشابهات " : فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " آيات محكمات " ، قال : المحكم ما يعمل به.
6579 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن

(6/175)


أبيه ، عن الربيع : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات " ، قال : " المحكمات " ، الناسخ الذي يعمل به و " المتشابهات " : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
6580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " ، قال : الناسخات " وأخر متشابهات " ، قال : ما نُسخ وتُرك يُتلى.
6581 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قال : المحكم ، ما لم ينسخ وما تشابه منه : ما نسخ.
6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " ، قال : الناسخ " وأخر متشابهات " ، قال : المنسوخ.
6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يحدث قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " منه آيات محكمات " ، يعني الناسخ الذي يعمل به " وأخر متشابهات " ، يعنى المنسوح ، يؤمن به ولا يعمل به.
6584 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة ، عن الضحاك : " منه آيات محكمات " ، قال : ما لم ينسخ " وأخر متشابهات " ، قال : ما قد نسخ.
* * *
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه " والمتشابه " منها : ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني ، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك :

(6/176)


6585 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " منه آيات محكمات " ، ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو " متشابه " ، يصدّق بعضُه بعضًا وهو مثل قوله : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) [سورة البقرة : 26] ، ومثل قوله : ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) [سورة الأنعام : 125] ، ومثل قوله : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) [سورة محمد : 17].
6586 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد " والمتشابه " منها : ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك :
6587 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " ، فيهن حجة الربّ ، وعصمةُ العباد ، ودفع الخصُوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه (1) " وأخَرُ متشابهات " ، في الصدق ، (2) لهن تصريف وتحريف وتأويل ، (3) ابتلى الله فيهن العبادَ ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (4)
* * *
__________
(1) في نص ابن هشام : " ليس لهن تصريف... عما وضعن " .
(2) في المطبوعة : " وأخر متشابهة " ، والصواب من المخطوطة وابن هشام. وليس في نص ابن هشام : " في الصدق " ، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(3) ليس في نص رواية ابن هشام " وتحريف " .
(4) الأثر 6587 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها : 6571 ، من روايته عن ابن إسحاق.

(6/177)


وقال آخرون : معنى " المحكم " : ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته " والمتشابه " ، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى. (1)
ذكر من قال ذلك :
6588 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد وقرأ : ( ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) [سورة هود : 1] ، قال : وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها : (2) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) [سورة هود : 49] ، ثم ذكر( وَإِلَى عَادٍ ) ، فقرأ حتى بلغ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) (3) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك ، تبيين " أحكمت آياته ثم فصلت " (4) قال : والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة
__________
(1) في المطبوعة : " فقصة اتفاق الألفاظ... وقصة باختلاف الألفاظ... " وهو فاسد ، والصواب من المخطوطة.
(2) يعني من " سورة هود " ، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف.
(3) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود : 89 - ولكن هذه الآية في ذكر خبر شعيب عليه السلام ، فلا أدري ما قوله بعد : " ثم مضى ، ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا " . وظني أن نص عبارته :
" ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا... " بإسقاط " ثم " الثانية. وانظر التعليق التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : وهذا يقين ذلك يقين أحكمت... " وكأن الصواب ما أثبت.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان ، ولكني وجدت السيوطي في الدر المنثور 3 : 320 ، في تفسير " سورة هود " قال : " أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد رضي الله عنه أنه قرأ : " ألر كتاب أحكمت آياته " قال : هي كلها مكية محكمة - يعني سورة هود - " ثم فصلت " . قال : ثم ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيما بينه وبين من خالفه ، وقرأ : " مثل الفريقين " ، الآية كلها. ثم ذكر قوم نوح ، ثم قوم هود ، فكان هذا تفصيل ذلك ، وكان أوله محكمًا. قال : وكان أبي رضي الله عنه يقول ذلك - يعني : زيد بن أسلم " .
فمن أجل ذلك ، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي ، ورجحت أن تكون " يقين " في الموضعين : " تبيين " .

(6/178)


كثيرة ، وهو متشابه ، وهو كله معنى واحد. ومتشابه : ( فَاسْلُكْ فِيهَا )( احْمِلْ فِيهَا ) ، ( اسْلُكْ يَدَكَ )( أدخل يدك ) ، ( حَيَّةً تَسْعَى )( ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) (1) قال : ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها ، (2) وصالحًا في ثماني آيات منها ، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى ، ولوطًا في ثماني آيات منها ، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية ، وموسى في أربع آيات ، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة ، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود ، ثم قال : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) [سورة هود : 100]. وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟
* * *
وقال آخرون : بل " المحكم " من آي القرآن : ما عرف العلماءُ تأويله ، وفهموا معناه وتفسيره و " المتشابه " : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم ، ووقت طُلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناءِ الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " ، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن ، من نحو " ألم " و " ألمص " ، و " ألمر " ، و " ألر " ، وما أشبه ذلك ، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله ، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ
__________
(1) من أول قوله : " قال : والمتشابه... " معترض في سياق حديثه عن تفصيل القصص في " سورة هود " وتعداد آيات كل قصة. أما الآيات المذكورة هنا ، فهذا بيان مواضعها على الترتيب : " سورة المؤمنون : 27 " / " سورة هود : 40 " / " سورة القصص : 32 " / " سورة النمل : 12 " / " سورة طه : 20 " / " سورة الأعراف : 107 " و " سورة الشعراء : 22.
(2) " منها " يعني من " سورة هود " ، وكذلك سائر ما بعده.

(6/179)


محمد وأمته ، (1) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك ، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها ، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب : (2) أن هذه الآية نزلت فيه ، (3) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته ، في تأويل ذلك في تفسير قوله : ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (4) [سورة البقرة : 2]
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين ، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك ، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة ، (5) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (6) وذلكَ
__________
(1) في المطبوعة : " أجل أمته " ، وهو تحريف من الطابع ، وأثبت ما في المخطوطة : والأكل (بضم فسكون) : مدة العمر ، وانظر التعليق ص : 196 ، تعليق : 1.
(2) في المطبوعة : " بن رباب " وهو خطأ ، والصواب ما أثبت و " رئاب " بكسر الراء. وانظر ما سلف 1 : 216 وما سيأتي في التعليق : 4 ، وفيه المرجع.
(3) قوله : " فيه " ، أي : في هذا القول. لا في " جابر بن عبد الله " .
(4) انظر ما سلف 1 : 245 - 224 في تفسير " ألم " ، والأثر رقم : 246 والتعليق عليه.
(5) في المطبوعة : " لخلقه " ، وفي المخطوطة : " محلقه " غير منقوطة ، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة ، وصواب قراءته ما أثبت.
(6) هذه الجملة التي بين القوسين ، هكذا جاءت في المطبوعة ، ومثلها في المخطوطة وإن كان قوله " اصطرته " غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى ، وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع ، فاختلط الكلام علينا وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها ، ووضعتها بين قوسين ، وحصرتها بين الخطوط ، ليعرف مكانها ، ومكان السقط الذي رجحت أنه سهو من الناسخ.

(6/180)


كقول الله عز وجل : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) [سورة الأنعام : 158] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك ، هي طُلوع الشمس من مغربها. (1) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك ، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته ، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. (2) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب ، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه ، (3) هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية ، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه ، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه ، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله : " ألم " و " ألمص " و " ألر " و " ألمر " ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات ، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا ، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد ، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه (4) أو يكون محكمًا ، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في
__________
(1) انظر تفصيل ذلك والعلة في تفسير الآية من تفسير الطبري 8 : 71 - 77 (بولاق).
(2) في المطبوعة : " بعد بالسنين... " ، وفي المخطوطة : " بعد السنين... " ، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من " بعدد " .
(3) في المطبوعة : " لا حاجة لهم " باللام ، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " مبينة " ، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست " ميما " ، وصواب قراءة النص هو ما أثبت.

(6/181)


معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه ، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه ، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا.
* * *
القول في تأويل قوله : { هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب }
قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (1) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه ، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معنى قوله : " هن أم الكتاب " ، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام ، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (2)
ذكر من قال ذلك :
6589 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : " محكمات هنّ أم الكتاب " . قال يحيى : هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين وضرب لذلك مثلا فقال : " أمّ القرى " مكة ، " وأم خراسان " ، مَرْو ، " وأمّ المسافرين " ، الذي يجعلون إليه أمرَهم ، ويُعنى بهم في سفرهم ، قال : فذاك أمهم. (3)
6590 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " هن أم الكتاب " ، قال : هن جماع الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا : 170.
(2) في المطبوعة : " نحو قلنا " وهو سهو صوابه من المخطوطة.
(3) الأثر : 6589 - " عمران بن موسى الفزار " ، و " عبد الوارث بن سعيد " مضت ترجمتهما برقم 2154. وانظر التعليق على الأثر رقم : 6591 ، التالي.

(6/182)


وقال آخرون : بل يعني بذلك : (1) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك :
6591 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد ، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ، قال : " أم الكتاب " فواتح السور ، منها يستخرج القرآن - ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، منها استخرجت " البقرة " ، و( الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) منها استخرجت " آل عمران " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.
* * *
يقال منه : " زاغ فلان عن الحق ، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا " ، و " أزاغه الله " - إذا أماله - " فهو يُزيغه " ، ومنه قوله جل ثناؤه : ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) لا تملها عن الحق ( بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) [سورة آل عمران : 8].
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " معنى بذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 6591 - " أبو فاختة " هو " سعيد بن علاقة الهاشمي " ، مولى أم هانئ ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم : 6589. فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور 2 : 4 ، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال : " عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية : هن أم الكتاب ، فقال أبو فاختة... وقال يحيى بن يعمر... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا.

(6/183)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : -
ذكر من قال ذلك :
6592 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فأما الذين في قلوبهم زيغٌ " ، أي : ميل عن الهدى. (1)
6593 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " في قلوبهم زيغ " ، قال : شك.
6594 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6595 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " ، قال : من أهل الشك.
6596 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " ، أما الزيغ فالشك.
6597 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : قال : " زيغ " شك قال ابن جريج : " الذين في قلوبهم زيغ " ، المنافقون.
* * *
__________
(1) الأثر : 6592 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6587 ، عن ابن إسحاق.

(6/184)


القول في تأويل قوله : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فيتبعون ما تشابه " ، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات ، ليحققوا بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه ، كما : -
6598 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فيتبعون ما تشابه منه " ، فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبِّسون ، فلبَّس الله عليهم.
6599 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فيتبعون ما تشابه منه " ، أي : ما تحرّف منه وتصرف ، (1) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (2)
6600 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " فيبعون ما تشابه منه " ، قال : الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما :
__________
(1) في ابن هشام : " أي : ما تصرف منه " ، وليس فيه " تحرف " .
(2) الأثر : 6599 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6592 ، بإسناده عن ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام 2 : 226 " لتكون لهم حجة ، ولهم على ما قالوا شبهة " .
وتركت ما في التفسير هنا على حاله ، لأن روايته عن ابن إسحاق ، غير رواية ابن هشام " .

(6/185)


6601 - حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط عن السدي في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " ، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية ، (1) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت ؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار ، (2) وفي مكان آخر : مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار ؟
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاجُّوه بما حاجُّوه به ، وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك :
6602 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه ؟ قال : بلى! قالوا : فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " ، ثم
__________
(1) في المطبوعة : " مجاز هذه الآية " ، أما المخطوطة ، فهي غير بينة ، وآثرت قراءتها " مكان " .
(2) في المطبوعة : " يعد به النار " بالدال المهملة ، ولا معنى له. وفي المخطوطة " عد به " غير منقوطة ، وصواب قراءتها " يعذبه " ، وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام.

(6/186)


إن الله جل ثناؤه : أنزل( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) [ سورة آل عمران : 59] ، الآية.
* * *
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب ، وأخيه حُييّ بن أخطب ، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته ، (1) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله : " ألم و " ألمص " ، و " ألمر " و " ألر " ، فقال الله جل ثناؤه فيهم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق " فيتبعون ما تَشابه منه " يعني : معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات " ابتغاءَ الفتنة " .
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل ، في أول السورة التي تذكر فيها " البقرة " . (2)
* * *
وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك ، إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك :
6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة " ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " قال : إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية ، (3) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر
__________
(1) في المطبوعة : " أجله وأجل أمته " ، وانظر تفسير " الأكل " فيما سلف ص : 180 ، تعليق : 1.
(2) انظر الأثر السالف رقم : 246.
(3) " الحرورية " ، هم الخوارج ، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة ، فكان هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا ، وأما " السبائية " ، فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي " عبد الله بن سبأ " وهو الذي قال لعلي : " أنت أنت " يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة " السبائية " ، وفي المطبوعة " السبئية " ، وآثرت ما في المخطوطة لأنها هكذا هي في أكثر الكتب.

(6/187)


والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر ، وعبرةٌ لمن استعبر ، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (1) إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق ، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط ، ولا رضوا الذي هم عليه ، ولا مالأوهم فيه ، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به ، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ، ويعادونهم بألسنتهم ، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع ، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (2) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله ؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم ؟ لو كانوا على هدى ، قد أظهره الله وأفلجه ونصره ، (3) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم ، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم ، (4) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة ، وإن النصرانية لبدْعة ، (5) وإن الحرورية لبدعة ، وإن السبائية لبدعة ، ما نزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.
6604 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " ، طلب القوم التأويل ، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة ، فاتبعوا ما تشابه منه ، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان وذكر نحو حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه.
6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية ، عن أيوب ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى قوله : " وما يذَّكر إلا أولوا الألباب " ، فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذرُوهم. (6)
__________
(1) يعني بذلك العبرة التي كانت في بدر ، حين أشار على رسول الله أصحابه أن يدع منزله الأول الذي نزله ، إلى المنزل الذي أشاروا به عليه - والعبرة التي كانت في الحديبية حين قال بعض أصحاب بيعة الرضوان ما قالوا في كراهة الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش. وفي ذلك برهان على فساد مقالة الخوارج ، ومقالة السبائية.
(2) ألاص الأمر : أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر : أداره على الشيء الذي يريده.
(3) في المطبوعة : " أفلحه " بالحاء المهملة ، وهو في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته : أظهرها ، وجعل له الفلج ، أي الفوز والغلبة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " وإن كتموا... " ، والسياق يقتضي حذف الواو.
(5) عنى باليهودية والنصرانية ، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير ، وأنه ابن الله ، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح ، وأنه ابن الله ، وغير ذلك من مقالاتهم.
(6) الحديث : 6605 - هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا ، كلها من رواية ابن أبي مليكة ، إلا واحدًا ، وهو الحديث : 6611. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة ، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة ، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل صحيح ، كما سيأتي.
وابن أبي مليكة : هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة ، القرشي المكي. وهو تابعي كبير ثقة ، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في الصغير ، ص : 131 ، وابن سعد 5 : 347 - 348 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 99 - 100 ، والمصعب في نسب قريش ، ص : 293.
فقال الترمذي : 4 : 80 ، بعد أن روى الحديث بالوجهين ، كما سيأتي - : " هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، ولم يذكروا فيه : عن القاسم بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم : عن القاسم بن محمد ، في هذا الحديث. وابن أبي مليكة ، هو " عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة أيضًا " .
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر " القاسم " في الإسناد ، كما زعم الترمذي. وسيجيء بيان ذلك ، إن شاء الله.
وقال الحافظ في الفتح 8 : 157 : " قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا ، وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث.. " .
والحديث - من هذا الوجه ، من رواية ابن علية ، عن أيوب - : رواه أحمد في المسند 6 : 48 (حلبي) ، عن ابن علية ، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه : 47 ، عن محمد بن خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية ، به.
ومحمد بن خالد بن خداش ، هذا : مترجم في التهذيب. وقال : " ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : ربما أغرب عن أبيه " .
ولم يترجمه ابن أبي حاتم ، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد ، مع أنه سكنها ، كما في التهذيب.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 97 ، عن رواية المسند. ثم قال : " هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها ، ليس بينهما أحد " . ثم أشار إلى رواية ابن ماجه ، وإلى روايات أخر ، تذكر فيما سيأتي.
ولكن وقع في ابن كثير " يعقوب " بدل " أيوب " ! وهو خطأ ناسخ أو طابع. وثبت في المسند على الصواب " أيوب " .

(6/188)


6606 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت أيوب ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة أنها قالت : قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وما يذكر إلا أولوا الألباب " ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال : يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله ، فاحذرهم قال مطر ، عن أيوب أنه قال : فلا تجالسوهم ، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (1)
__________
(1) الحديث : 6606 - ابن عبد الأعلى : هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني. مضت ترجمته في : 1236.
مطر : هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة ، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة 125.
والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 75 بتحقيقنا ، من طريق عاصم بن النضر الأحول ، عن المعتمر بن سليمان ، بهذا الإسناد.
وقال ابن حبان عقب روايته : " سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي مليكة جميعًا " .
وهذا خطأ ، فاتنا أن ننبه إليه هناك ، إذ فهمناه على المعنى الصحيح ، لم نتنبه إلى اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول : " سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق ، جميعًا عن ابن أبي مليكة " .
فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان ، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة ، وهو قد ذكره في الثقات ، ص : 344 - 345 ، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك ، وأنه مات سنة 125 ، قيل : 129. ومع ذلك فلم يسلم له هذا ، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل ، ص : 78 ، عن أبي زرعة ، قال : " مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل " .
ولكن يعكر على كلام ابن حبان - إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا - : أن رواية الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث. ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا ، بلفظ " فاحذروهم " ، وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا ، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله. ومطر وأيوب من طبقة واحدة.

(6/190)


6607 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (1)
6608 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
6609 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا الحارث ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب وأخر متشابهات " الآية كلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، أولئك الذين قال الله ، فلا تجالسوهم. (3)
__________
(1) الحديث : 6607 - عبد الوهاب : هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت ترجمته في : 2039. والحديث - من هذا الوجه - : رواه ابن ماجه : 47 ، عن أحمد بن ثابت الجحدري ، ويحيى بن حكيم ، كلاهما عن عبد الوهاب ، به.
وأشار إليه ابن كثير 2 : 97 ، من رواية ابن ماجه. ثم قال : " ورواه محمد بن يحيى العبدي ، في مسنده ، عن عبد الوهاب الثقفي ، به " .
(2) الحديث : 6608 - هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن كثير 2 : 97 ، قال : " وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب " .
ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق ، مخطوطة دار الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة ، إلى أوائل سورة النساء.
(3) الحديث : 6609 - الحارث : هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 1 / 2 / 282 : " منكر الحديث " . وكذلك قال في الصغير ، ص : 185. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير ، عن البخاري : " منكر الحديث ، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا " . وروى ابن أبي حاتم 1 / 2 / 91 - 92 ، عن أحمد بن حنبل ، قال : " رجل صالح ، ولم يكن يعرف بالحديث ، ولا يحفظه ، منكر الحديث " .
وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا ، فإن أصل الحديث صحيح ، بالأسانيد الأخر : السابقة واللاحقة.

(6/191)


6610 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن أبي مليكة قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث ، عن عائشة قالت : تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب " ، ثم قرأ إلى آخر الآيات ، فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمَّى الله ، فاحذروهم. (1)
6611 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزع رسول الله
__________
(1) الحديث : 6610 - ابن وكيع : هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف ، كما بينا في : 1692.
أبو أسامة : هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته : 2995.
يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ : ثقة ثبت. وثقه أحمد ، ووكيع ، وأبو حاتم ، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم.
وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث ، التي فيها زيادة " القاسم بن محمد " ، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد : سمعه ابن أبي مليكة من عائشة ، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين ، تارة هكذا ، وتارة هكذا.
والحديث - من هذا الوجه - : رواه أبو داود الطيالسي : 1433 ، عن يزيد بن إبراهيم ، بهذا الإسناد ، نحوه ، مختصرًا قليلا.
ورواه البخاري 8 : 157 - 159 (فتح). ومسلم 2 : 303 - 304. وأبو داود : 4598 - ثلاثتهم عن القعنبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي : 4 : 80 ، عن عبد بن حميد ، عن أبي الوليد الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم ، به ، نحوه. وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 72 بتحقيقنا ، من طريق عبد الله - وهو ابن المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم ، به.
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة " القاسم " بين ابن أبي مليكة وعائشة ، فسيأتي بإسناد آخر : 6615 ، بزيادة القاسم ، وسيأتي أيضًا عقب هذا : 6611 من رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه.

(6/192)


صلى الله عليه وسلم : " يتبعُون ما تَشابه منه " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (1)
6612 - حدثنا علي قال ، حدثنا الوليد ، عن نافع بن عمر ، عن [ابن أبي مليكة ، حدثتني] عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتموهم فاحذروهم ، ثم نزع : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ، ولا يعملون بمحكمه. (2)
__________
(1) الحديث : 6611 - علي بن سهل الرملي ، شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي ، عالم الشام : مضت ترجمته في : 2184.
عبد الرحمن : هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في : 2836.
وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد.
وقد نقله ابن كثير 2 : 98. ثم قال : " ورواه ابن مردويه ، من طريق أخرى ، عن القاسم ، عن عائشة ، به " .
وانظر الحديث الآتي : 6615.
وقوله : " نزع رسول الله " - يقال : انتزع بالآية والشعر : تمثل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله : " قد انتزع معنى جيدًا " و " نزعه " ، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها " نزع " هنا - : استشهد ، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث : 6612 - نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل ، الجمحي القرشي المكي : ثقة ، قال أحمد بن حنبل : " ثبت ثبت صحيح الحديث " . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 86 ، وابن سعد 5 : 363. ونسب قريش للمصعب : 400. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 456 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 213.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا : " نافع عن عمر " ! بدل " نافع بن عمر " . وهو خطأ. تصويبه عن الفتح 8 : 157 ، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث " عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم " - " .... ونافع بن عمر ، وابن جريج ، وغيرهما " . وكذلك صححناه عن ابن كثير ، كما سنذكر.
ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما : " عن نافع ، عن عمر ، عن عائشة " !! فحذف " ابن أبي مليكة " من الإسناد. ثم حذف تصريحه بالسماع من عائشة.
فصححنا الإسناد ، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين ، وهو ما زدناه بعد كلمة " عن " ، بين علامتي الزيادة : [ابن أبي مليكة ، حدثتني].
وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير 2 : 98 ، حيث قال : " ورواه ابن جرير ، من حديث روح بن القاسم ، ونافع بن عمر الجمحي ، كلاهما عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة. وقال نافع في روايته : عن ابن أبي مليكة ، حدثتني عائشة. فذكره " .
فهذا هو الصواب ، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله.
ثم إن الحديث سيأتي : 6614 ، من هذا الوجه ، على الصواب ، من رواية خالد بن نزار ، عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي - " عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة " .

(6/193)


6613 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، أخبرنا عمي قال ، أخبرني شبيب بن سعيد ، عن روح بن القاسم ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم. (1)
6614 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا خالد بن نزار ، عن نافع ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة في هذه الآية ، " هو الذي أنزل عليك الكتاب " ، الآية ، " يتبعها " ، يتلوها ، ثم يقول : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم ، فهم الذين عنى الله. (2)
__________
(1) الحديث : 6613 - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب : مضت ترجمته في : 2747. وعمه : هو عبد الله بن وهب.
شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري : قال ابن المديني : " ثقة ، كان يختلف إلى مصر في تجارة ، وكتابه كتاب صحيح " . وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 234 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 359.
و " الحبطي " : بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى " الحبطات " . بطن من تميم.
روح بن القاسم التميمي العنبري البصري : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما. وقال سفيان بن عيينة : " لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن القاسم " .
وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير 2 : 98 ، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله.
(2) الحديث : 6614 - خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي : ثقة. مترجم في التهذيب فقط. وشيخه نافع : هو ابن عمر الجمحي.
وهذا الحديث تكرار للحديث : 6612 ، من رواية نافع الجمحي ، ومؤيد لما ذكرنا أنه سقط من ذاك الإسناد.
فهؤلاء : أيوب ، ونافع بن عمر ، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة - مباشرة ، دون واسطة " القاسم " بينهما ، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن أبي مليكة إياه من عائشة ، كما مضى في : 6612.
وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز :
فرواه الترمذي 4 : 80 ، عن محمد بن بشار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة - دون ذكر القاسم.
وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته : 5458.
وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير 2 : 98 ، والحافظ في الفتح 8 : 157. وإسنادها صحيح.
ورواه أيضًا سعيد بن منصور ، عن حماد بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة ، نقله ابن كثير 2 : 98. وهو إسناد صحيح.
وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح 8 : 157 ، ولكن لم يذكر من خرجه. ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر.

(6/194)


6615 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : هم الذين سَمّاهم الله ، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله ، إمّا
__________
(1) الحديث : 6615 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه بزيادة " القاسم " بين ابن أبي مليكة وعائشة ، كمثل رواية يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة ، الماضية : 6610.
وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة ، كما ذكرنا في 6605. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة ، في هذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 1432 ، عن حماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة.
وقد جمع الروايتين : رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته عنهما. فرواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي الوليد الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة. نقله ابن كثير 2 : 98 ، عن ابن أبي حاتم ، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 157.
وقد مضت من قبل : 6611 رواية حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم : رواه عن عبد الرحمن بن القاسم ، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم.
وهناك متابعة أخرى عن القاسم ، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير 2 : 98 " ورواه ابن مردويه ، من طريق أخرى ، عن القاسم ، عن عائشة ، به " . فلم يذكر ما هي ، ولا ما إسنادها ، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح.
ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2 : 5 ، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل.

(6/195)


في أمر عيسى ، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (1)
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته ، أشبُه ، لأن قوله : " وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله " ، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه ، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته ، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3)
فقال بعضهم : معنى ذلك : ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك :
6616 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ابتغاء الفتنة " ، قال : إرادة الشرك.
6617 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إما مدة أجله وأجل أمته " ، والتصحيح من المخطوطة ، وقد سلف مثل ذلك التحريف في ص : 180 ، تعليق : 1 ، وص : 187 ، تعليق : 1 وفي الجزء الأول من التفسير ص : 217 تعليق : 4. والأكل " (بضم الألف وسكون الكاف) : الرزق ، لأنه يؤكل. ومنه قيل لمدة العمر التي يعيشها المرء في الدنيا " أكل " . يقال للميت : " انقطع أكله " ، انقضت مدته ، وفنى عمره.
(2) في المطبوعة : " ... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد " ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة : " أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد " ، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها ، " الآجال " جمع أجل ، وهو الذي أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته.
(3) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف 3 : 508 / ثم 4 : 163. وتفسير " الفتنة " فيما سلف ، 2 : 443 ، 444 / ثم 3 : 565 ، 566 ، 570 ، 571 / ثم 4 : 301.

(6/196)


وقال آخرون : معنى ذلك : ابتغاءَ الشّبهات.
ذكر من قال ذلك :
6618 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ابتغاء الفتنة " ، قال : الشبهات ، بها أهْلِكوا.
6619 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ابتغاء الفتنة " ، الشبهات ، قال : هلكوا به.
6620 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ابتغاء الفتنة " ، قال : الشبهات. قال : والشبهات ما أهلكوا به.
6621 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ابتغاء الفتنة " ، أي اللَّبْس. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : " إرادةُ الشبهات واللبس " .
* * *
فمعنى الكلام إذًا : فأما الذين في قلوبهم ميلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه ، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه ، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (2) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره ، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه ، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
* * *
__________
(1) الأثر : 6621 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم 6599 ، بإسناده عن ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " واحتمل صرفه في وجوه التأويلات " ، وقد قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع ، والتي تليها كلها أفراد ، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ " صرف صرفه " (بغير ألف في : صارفه) كما كانت تكتب قديمًا ، فظنها خطأ ، فحذف الأولى " صرف " وأبقى الأخرى " صرفه " ، فاضطربت الضمائر.

(6/197)


قال أبو جعفر : وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك ، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها ، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن ، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات ، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين ، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك ، كائنًا من كان ، وأيّ أصناف المبتدعة كان (1) من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية ، أو كان سَبئيًا ، (2) أو حروريًّا ، أو قدريًّا ، أو جهميًّا ، كالذي قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين يجادلون به ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم " ، وكما : -
6622 - حدثني يونس قال ، أخبرنا سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس - وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن ، (3) فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس : " وما يعلم تأويله إلا الله " ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله : " ابتغاء الفتنة " ، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك ، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله ، اللبسَ على المسلمين ، والاحتجاجَ به عليهم ، ليصدّوهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " البدعة " ، وصواب قراءتها إن شاء الله " المبتدعة " ، كما يدل عليه السياق.
(2) هكذا كتبت هنا " سبئيًا " ، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع الماضية " سبائيًا " ، فتركت هذا الرسم كما هو ، وهو صواب.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وما يلقون عند الفرار " ، وهو كلام لا معنى له ، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة والإخبات عند سماع القرآن ، وذلك من أمر الخوارج مشهور ، وهم الذين جاء في صفتهم : " تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم " في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس : " يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه " متعجبًا من فعلهم في خشوعهم ، وضلالهم في تأويلهم المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم.

(6/198)


عما هم عليه من الحق ، فلا معنى لأن يقال : " فعلوا ذلك إرادةَ الشرك " ، وهم قد كانوا مشركين.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " التأويل " ، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله : " وابتغاء تأويله " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته ، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل ، " ألم " ، و " ألمص " ، و " ألر " ، و " ألمر " ، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك :
6623 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس أما قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " ، يعني تأويله يوم القيامة " إلا الله " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " عواقبُ القرآن " . وقالوا : " إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه ، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك " .
ذكر من قال ذلك :
6624 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وابتغاء تأويله " ، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال

(6/199)


الله : " وما يعلم تأويله إلا الله " ، وتأويله ، عواقبه متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ ؟
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن ، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ ، وما ركبوه من الضلالة " .
ذكر من قال ذلك :
6625 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وابتغاء تأويله " ، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم (1) " خلقنا " ، و " قضينا " .
* * *
قال أبو جعفر : والقول الذي قاله ابن عباس : من أنّ : " ابتغاء التأويل " الذي طلبه القوم من المتشابه ، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة والذي ذكرنا عن السدي : من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه (2) أولى بالصواب ، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه : أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا : إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم ، بمتشابه آي القرآن - (3) أولى بتأويل قوله : " وابتغاء تأويله " ،
__________
(1) في المطبوعة : " في قوله " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام 2 : 226. وقوله بعد ذلك : " خلقنا ، وقضينا " ، كلام منقطع ، إشارة إلى ما مضى من صدر هذا الأثر الطويل المتتابع ، الذي يرويه الطبري مفرقًا عن ابن إسحاق ، وذلك مذكور في الأثر رقم : 6543 فيما سلف ص : 153 س : 3 ، 4. إذ قال : " ويحتجون في قولهم : " إنه ثالث ثلاثة ، بقول الله : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا. فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا : فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم " .
(2) " جاء " اسم فاعل من الفعل " جاء يجيء فهو جاء " . وسياق الجملة : " والقول الذي قاله ابن عباس... والذي ذكرنا عن السدي... أولى بالصواب " .
(3) قوله : " بمتشابه آي القرآن... " من صلة قولهم : " إن طلب القوم معرفة الوقت.. " جار ومجرور ، متعلق بقوله : " طلب " .

(6/200)


لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله : " قضينا " " فعلنا " ، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك ، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وما يعلم وقتَ قيام الساعة ، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته ، (1) وما هو كائن ، إلا الله ، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون : " آمنا به ، كل من عند ربنا " - لا يعلمون ذلك ، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم ، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، وهل " الراسخون " معطوف على اسم " الله " ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه ، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم ، (2) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون : آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟
فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم ، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم ، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " مدة أجل محمد... " ، والصواب ما في المخطوطة ، وانظر التعليق السالف ص : 196 رقم : 1.
(2) في المطبوعة : " أوهم مستأنف... " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/201)


6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا خالد بن نزار ، عن نافع ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قوله : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " ، قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ، ولم يعلموا تأويله. (1)
6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كان ابن عباس يقول : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به ) (2)
6628 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن أبي الزناد قال ، قال هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية ، " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .
6629 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي نهيك الأسدي قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، فيقول : إنكم تَصلون هذه الآية ، وإنها مقطوعة : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
__________
(1) الأثر : 6626 - انظر الأثر السالف رقم : 6614 ، والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة " يقول الراسخون " بحذف الواو. والصواب إثباتها ، لأنه سيأتي في ص : 204 س : 13 أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في الأصل " كان ابن عباس يقرأ " " وما يعلم تأويله.. " ، ولكن الناسخ مضى على عجلته ، فكتب مكان " يقرأ " " يقول " ، ثم أسقط الواو من " ويقول الراسخون... " . فلذلك أثبت الواو ، وهي الصواب المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم] ، لأن هذه قراءة في الآية ، لا تفسير من ابن عباس ، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة.

(6/202)


6630 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : " والراسخون في العلم " ، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا ، " آمنا به كلٌّ من عند ربنا " .
6631 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب ، عن مالك في قوله : " وما يعلم تأويله إلا اللهّ " ، قال : ثم ابتدأ فقال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ، وليس يعلمون تأويله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون : " آمنا به كلّ من عند ربنا " .
ذكر من قال ذلك :
6632 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله.
6633 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .
6634 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .
6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ويقولون : " آمنا به " .
6636 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما يعلم تأويله " الذي أراد ، ما أراد ، (1) " إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا " ، فكيف يختلف ، وهو قولٌ واحدٌ
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير 2 : 100 ، أما سيرة ابن هشام 2 ، 226 ففيها " أي : الذي به أرادوا ما أرادوا " وكأن الصواب ما في التفسير ، وقوله : " ما أراد " استفهام. أما قوله : " الذي أراد " ، أي الذي أراده الله سبحانه. وما في سيرة ابن هشام صواب أيضًا ، والضمير في " أرادوا " يعني به الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فهذا ما أرادوا.

(6/203)


من ربّ واحد ؟ (1) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا ، فنفذَت به الحجة ، وظهر به العذر ، وزاحَ به الباطل ، (2) ودُمغ به الكفر. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فمن قال القول الأول في ذلك ، وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك ، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله ، فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريون ، ويجعل خبره : " يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين ، فبالعائد من ذكرهم في " يقولون " . وفي قول بعضهم : بجملة الخبر عنهم ، وهي : " يقولون " .
* * *
ومن قال القول الثاني ، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله ، عطف بـ " الراسخين " على اسم " الله " ، فرفعهم بالعطف عليه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو : " يقولون " ، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية ، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ : ( وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (4) وفي قراءة عبد الله : ( إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ) .
* * *
قال أبو جعفر : وأما معنى " التأويل " في كلام العرب ، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى :
__________
(1) من أول قوله : " كل من عند ربنا " إلى قوله : " من رب واحد " زيادة من نص رواية ابن هشام في السيرة 2 : 226 ، ولا شك أن الناسخ قد أسقطها من عجلته وسهوه.
(2) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا ، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد وزال.
(3) الأثر 6636 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6625 بإسناده عن ابن إسحاق ، وهو في سيرة ابن هشام 2 : 226.
(4) انظر التعليق السالف على الأثر : 6627 ، ص : 202 س : 7 ، تعليق : 2.

(6/204)


عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
وأصلهُ من : " آل الشيء إلى كذا " - إذا صار إليه ورجع " يَؤُول أوْلا " و " أوَّلته أنا " صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله : ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) [سورة النساء : 59 \ سورة الإسراء : 35] أي جزاءً. وذلك أن " الجزاء " هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله : " تأوّلُ حُبها " : تفسير حبها ومرجعه. (2) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه ، فآلَ من الصّغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى أصحَب ، فصار قديمًا ، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (3)
__________
(1) ديوانه : 88 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 86 الصاحبي : 164 ، اللسان (صحب) (ربع) (أول) (ولى) ، ثم ما سيأتي بعد قليل من ذكر رواية أخرى ، لم أجدها في غيره بعد.
أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع) ، (ولى) فهي : عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
الربعي : الذي ولد في أول النتاج. والسقاب جمع سقب (بفتح فسكون) : وولد الناقة ساعة تضعها يقال له " سليل " قبل أن يعرف أذكر هو أم أنثى ، فإذا علم أنه ذكر فهو " سقب " . وأصحب : ذل وانقاد وأطاع. وهذا البيت بهذه الرواية التي ذكرتها هنا ، قد فسرها الأزهري وقال : " هكذا سمعت العرب تنشده. وفسروا " توالي ربعى السقاب " أنه من الموالاة : وهو تمييز شيء من شيء. يقال : " والينا الفصلان عن أمهاتها فتوالت " ، أي فصلناها عنها عند تمام الحول ، وتشتد عليها الموالاة ، ويكثر حنينها في إثر أمهاتها ، ويتخذ لها خندق تحبس فيه وتسرح الأمهات في وجه من مراتعها. فإذا تباعدت عن أولادها سرحت الأولاد في جهة غير جهة الأمهات ، فترعى وحدها ، فتستمر على ذلك وتصحب بعد أيام. أخبر الأعشى أن نوى صاحبته اشتدت عليه ، فحن إليها حنين ربعى السقاب إذا وولى (فصل) عن أمه. وأخبر أن هذا الفصيل يستمر على الموالاة ، وأنه يصحب إصحاب السقب. قال الأزهري : وإنما فسرت هذا البيت ، لأن الرواة لما أشكل عليهم معناه ، تخبطوا في استخراجه وخلطوا ، ولم يعرفوا منه ما يعرفه من شاهد القوم في باديتهم " .
أما الرواية الأولى ، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي ، وأما روايته الثانية ، وهي قوله : " توابع حبها " ، فإني لم أدر ما معناها ، وأخشى أن يكون صوابها : " نزائع حبها " . والنزائع جمع نزيعة ، يقال : ناقة نازع من نوق نوازع. وناقة نزيعة : وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه : حن واشتاق.
(2) في المخطوطة : " وتفسير حبها... " بزيادة الواو ، وهو خطأ. وهذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 87 ، على خطأ فيه ، إذ ظن الناشر أن قوله : " تفسيره " ، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا : " تفسيره : ومرجعه " وعندئذ فلا معنى للواو في " ومرجعه " ، والصواب ما أثبتناه.
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 87.

(6/205)


وقد يُنشد هذا البيت :
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني ب " الراسخين في العلم " ، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا ، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.
* * *
وأصل ذلك من : " رسوخ الشيء في الشيء " ، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه : " رسخ الإيمان في قلب فلان ، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا " . (2)
* * *
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -
6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله قال ، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم ، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن الراسخ في العلم ؟ قال : " من بَرَّت يمينهُ ، وصَدقَ لسانه ، واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه ، فذلك الراسخُ في العلم. (3)
* * *
__________
(1) انظر ص 204 ، تعليق : 4
(2) قوله : " رسخًا " ، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة.
(3) الحديث : 6637 - فياض بن محمد الرقى : ترجمه البخاري 4 / 1 / 135 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 87 ، فلم يذكرا فيه جرحًا.
عبد الله بن يزيد بن آدم : ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 197 ، قال : " روى عن أبي الدرداء ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : كيف تبعث الأنبياء ؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى... سألت أبي عنه ؟ فقال : لا أعرفه. وهذا حديث باطل " .
وترجمه الذهبي في الميزان ، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد ، قال : " أحاديثه موضوعة " . وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد بالوضع.

(6/206)


6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا فياض الرقي قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي قال : وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال : من برَّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم " الراسخين
__________
(1) الحديث : 6638 - هو الحديث الماضي بزيادة قليلة ، وزيادة " أنس بن مالك " .
ولكن في هذا الإسناد " عبد الله بن يزيد الأودي " . والراجح أن هذا خطأ من أحد الرواة ، أو من الناسخين ، وأن صوابه كالإسناد السابق " عبد الله بن يزيد بن آدم " . وأما " عبد الله بن يزيد الأودي " ، فهو غير هذا يقينًا. وقد مضى في : 5461. وترجمته عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 200 : أنه " روى عن سالم بن عبد الله ، عن حفصة ، في الصلاة الوسطى ، روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية " . والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة ، والراوي هنا كذاب.
والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن محمد بن عوف الحمصي ، عن نعيم بن حماد ، عن فياض الرقى " حدثنا عبد الله بن يزيد " ، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه " الأودي " . ووقع في ابن كثير " عبيد الله " ، بدل " عبد الله " ، وهو خطأ.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 324 " عن عبد الله بن يزيد بن آدم ، قال : حدثني أبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك... " . وقال : " رواه الطبراني ، وعبد الله بن يزيد : ضعيف " . فزاد في رواية الطبراني صحابيًا رابعًا ، هو واثلة بن الأسقع.
وذكره السيوطي 2 : 7 ، عن هؤلاء الصحابة الأربعة ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني. وهو تساهل منه ، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم " واثلة بن الأسقع " ، بل هو في رواية الطبراني فقط.
ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر : " من طريق عبد الله بن يزيد الأودي ، سمعت أنس بن مالك يقول... " .
فهذا يرجح أن زيادة " الأودي " - خطأ من أحد الرواة ، لا من الناسخين.

(6/207)


في العلم " ، بقولهم : " آمنا به كل من عند ربنا " .
ذكر من قال ذلك :
6639 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، (1) قال : " الراسخون " الذين يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .
6640 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والراسخون في العلم " ، هم المؤمنون ، فإنهم يقولون : " آمنَّا به " ، بناسخه ومنسوخه " كلٌّ من عند ربنا " .
6641 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس قال ، عبد الله بن سلام : " الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم قال ابن جريج : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " ، وهم الذين يقولون ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) ويقولون : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ) الآية.
* * *
وأما تأويل قوله : " يقولون آمنا به " ، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون : صدقنا بما تشابه من آي الكتاب ، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله ، وقد : -
6642 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " ، قال : المحكم والمتشابه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الراسخون في العلم... " ، بغير واو ، وأثبت نص الآية.

(6/208)


القول في تأويل قوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " كل من عند ربنا " ، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه " من عند ربنا " ، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -
6643 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " كل من عند ربنا " ، قال : يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ.
6644 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، قالوا : " كلّ من عند ربنا " ، آمنوا بمتشابهه ، وعملوا بمحكمه.
6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " كل من عند ربنا " ، يقولون : المحكم والمتشابه من عند ربنا.
6646 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ، نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله كله. (1)
6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والراسخون في العلم " يعملون به ، يقولون : نعمل بالمحكم ونؤمن به ، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به ، وكل من عند ربنا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يؤمن... ويدين " جميعًا بالياء ، والسياق يقتضي أن تكون بالنون.

(6/209)


قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في حكم " كلّ " إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين : إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي " الكل " إليه مضاف في هذا الموضع ، (1) لأنها اسمٌ ، كما قال : ( إِنَّا كُلٌّ فِيهَا ) [سورة غافر : 48] ، بمعنى : إنا كلنا فيها. قال : ولا يكون " كل " مضمرًا فيها وهي صفة ، لا يقال : " مررت بالقوم كل " وإنما يكون فيها مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان : " إنا كُلا فيها " على الصفة لم يجز ، لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم ، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر ، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال ، ولا تكون كافية في أخرى. وقال : سبيل " الكل " و " البعض " في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال ، صفةً كانت أو اسمًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أولى بالقياس ، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها ، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا جاز حذف المراد " ، وعلق الطابعون السابقون أنها زائدة من قلم الناسخ!! وسبب ذلك سوء كتابة الناسخ ، فلم يحسنوا قراءته.
(2) انظر ما سلف عن " كل " 3 : 195 / ثم 5 : 509.

(6/210)


القول في تأويل قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به ، إلا أولو العقول والنهى ، (1) وقد : -
6648 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما يذكر إلا أولوا الألباب " ، يقول : وما يذكر في مثل هذا يعني : في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم ، حتى يَتّسقا على معنى واحد " إلا أولو الألباب " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنّ الراسخين في العلم يقولون : آمنا بما تشابه من آي كتاب الله ، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " ، يعني أنهم يقولون رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن ، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله : يا ربنا ، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك " لا تزغ قلوبنا " ،
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " يذكر " 5 : 580 / 6 : 5 وفي تفسير " الألباب " : 3 : 68 / ثم 4 : 162 / ثم 5 : 80.
(2) الأثر : 6648 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6636 بإسناده عن ابن إسحاق.

(6/211)


لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له ، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه " وهب لنا " يا ربنا " من لدنك رحمة " ، يعني : من عندك رحمة ، يعني بذلك : هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه " إنك أنتَ الوهاب " ، يعني : إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك ، وتصديق كتابك ورسلك ، كما : -
6649 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " ، أي : لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا (1) " وهب لنا من لدنك رحمة " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم ، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية : (3) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها ، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا ، لكان الذين قالوا : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا " ، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا ، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (4) أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ
__________
(1) في المطبوعة : " بأجسادنا " ، وهو لا معنى له ، وهو تحريف للرواية عن ابن إسحاق. وصوابها من المخطوطة وابن هشام 2 : 226. والأحداث جمع حدث : وهو الفعل. يسألون الله أن يثبت قلوبهم بالإيمان ، وإن مالت أفعالهم إلى بعض المعصية.
(2) الأثر : 6649 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6648.
(3) القدرية : هم نفاة القدر والصفات ، ويعني المعتزلة.
(4) في المطبوعة : " مسألتهم " بحذف الباء ، والصواب من المخطوطة.

(6/212)


بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) [سورة فصلت : 46]. ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك ، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل : إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته ، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه ، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ، ووضعه مسألته موضعها ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك ، مع محله منه وكرامته عليه.
6650 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ : " ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا " ، إلى آخر الآية. (1)
6651 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (2)
__________
(1) الحديث : 6650 - هذا إسناد صحيح.
عبد الحميد بن بهرام : ثقة ، مضت ترجمته في : 1605. وشهر بن حوشب : ثقة أيضًا ، كما قلنا في : 1489.
وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في : 6652 ، ونخرجه هناك ، إن شاء الله. ويأتي بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك ، في : 6658.
(2) الحديث : 6651 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء ، وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم المؤمنين.
ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري ، وإلا رواية ذكرها ابن كثير ، عن ابن مردويه.
قال ابن كثير 2 : 102 بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية : " ورواه ابن مردويه ، من طريق محمد بن بكار ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، سمعتها تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث.
ثم قال ابن كثير : " وهكذا رواه ابن جرير ، من حديث أسد بن موسى ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به ، مثله " .
ثم قال : " ورواه أيضًا عن المثنى ، عن الحجاج بن منهال ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به ، مثله " .
ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه " عن أم سلمة ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن " - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين ، في زيادة حرف " عن " . وأن صوابه " عن أم سلمة أسماء... " .
و " أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية " : صحابية معروفة ، وهي بنت عم معاذ بن جبل ، وكنيتها " أم سلمة " . وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها ، بل قال ابن السكن : " هو أروى الناس عنها " . وكان من مواليها.
ولم نسمع قط أن " أم سلمة أم المؤمين " روت عن أسماء هذه ، ولا روت عن غيرها من الصحابة.
وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث " أسد بن موسى " و " الحجاج بن منهال " - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان الآتيتان : 6652 ، 6658 - : فهي مشكلة ، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه : " عن أم سلمة أسماء بنت يزيد " .
ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا ، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري : 6650 ، 6652 ، 6658 ، التي فيها " عن أم سلمة " مراد بها " أم سلمة أسماء بنت يزيد " .
فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن " أم سلمة " في هذه الروايات الثلاث - هي أم المؤمنين يقينًا ، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا : 6652.

(6/213)


6652 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدّث : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت : قلتُ : يا رسول الله ، وإن القلب ليقلَّب ؟ قال : نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا ، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت : قلتُ : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : بلى ؛ قولي : اللهم ربّ النبي محمدٍ ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غَيظَ قلبي ، وأجرني من مُضِلات الفتن. (1)
__________
(1) الحديث : 6652 - هذه هي الرواية المطولة ، التي أشرنا إليها في : 6650 ، وسيأتي مختصرًا قليلا : 6658 ، كما قلنا من قبل.
والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - 6 : 294 (حلبي) ، عن وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : يا مقلب القوب ، ثبت قلبي على دينك " . وهذا نحو الرواية الماضية : 6650 ، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية.
ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - 6 : 301 - 302 ، عن هاشم - وهو ابن القاسم أبو النضر - عن عبد الحميد بن بهرام ، بهذا الإسناد ، نحوه. إلا أنه قال في آخره : " وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا " .
ثم رواه مختصرًا ، بدون ذكر الآية ، ولا قوله " فنسأل الله ربنا " - إلخ ، 6 : 315 (حلبي) ، عن معاذ بن معاذ ، قال : " حدثنا أبو كعب صاحب الحرير ، قال : حدثني شهر بن حوشب ، قال : قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟.. " .
ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه - : سألت أبي عن أبي كعب ؟ فقال : ثقة ، واسمه عبد ربه بن عبيد " .
وكذلك رواه الترمذي 4 : 266 ، عن أبي موسى الأنصاري ، عن معاذ بن معاذ ، به. وقال : " هذا حديث حسن " .
وأبو كعب صاحب الحرير ، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي : وثقه أيضًا يحيى بن سعيد ، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 41 - 42.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات ، 6 : 325 ، 7 : 210 ، 10 : 176 ، عن رواية المسند ، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه ، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب ، " وهو ضعيف وقد وثق " . وقال في الأخير : " إسناده حسن " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، دون فصل بين الروايات.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 55 ، من رواية ابن وهب ، عن إبراهيم بن نشيط الوعلاني ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا.
ورواه أبو بكر الآجري ، في كتاب الشريعة ، ص : 316 ، من وجهين آخرين ، عن أم سلمة.
ووقع في المطبوعة : " ما خلق الله من بشر ، من بني آدم " ، بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة ، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه الكلمة.

(6/214)


6653 - حدثني محمد بن منصور الطوسي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله : يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به ؟! قال : إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى ، يقول بهما هكذا وحرّك أبو أحمد إصبعيه قال أبو جعفر : وإن الطوسي وَسَق بين إصبعيه. (1)
__________
(1) الحديث : 6653 - محمد بن منصور بن داود ، الطوسي العابد ، شيخ الطبري : ثقة ، أثنى عليه أحمد ، ووثقه النسائي وغيره.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 288 - 289 ، من طريق الأعمش ، بهذا الإسناد. وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده ، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور ، لأن في أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي.
وذكره السيوطي 2 : 9 : وزاد نسبته للطبراني في السنة.
وأشار إليه الترمذي 3 : 199 ، كما سنذكر في الحديث بعده.
وقوله : " يقول بهما " هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة " يقول به " .
قوله : " وسق بين إصبعيه " ، وسق الشيء : جمعه. يريد : ضم إصبعيه.

(6/215)


6654 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا أبو معاوية قال ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول : " يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا : يا رسول الله ، قد آمنا بك ، وصدّقنا بما جئت به ، فيُخاف علينا ؟! قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، يقلبها تبارك وتعالى. (1)
__________
(1) الحديث : 6654 - رواه أحمد في المسند : 12133 ، (ج 3 ص : 112 حلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، بهذا الإسناد.
ثم رواه : 13731 (ج 3 ص : 257 حلبي) ، عن عفان ، عن عبد الواحد ، عن سليمان بن مهران - وهو الأعمش - به.
ورواه الترمذي 3 : 199 ، عن هناد ، عن أبي معاوية ، به. ثم قال : " هذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس. وروى بعضهم عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان عن أنس - أصح " .
يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع : تابعي ثقة ، سمع من جابر ومن أنس ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع التابعي الحديث الواحد من صحابيين.
ورواه الحاكم 1 : 526 ، مختصرًا ، من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، وصححه هو والذهبي.
ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر ، فرواه : 3834 ، من طريق ابن نمير ، عن الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده : " مدار الحديث على يزيد الرقاشي ، وهو ضعيف " .
وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى - في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي ؛ وها هو ذا من رواية الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس ، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به.
وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد ، ص : 100. فرواه مختصرًا ، من طريق أبي الأحوص : " عن الأعمش ، عن أبي سفيان ويزيد ، عن أنس " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(6/216)


6655 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا بشر بن بكر وحدثني علي بن سهل قال ، حدثنا أيوب بن بشر جميعًا ، عن ابن جابر قال : سمعت بُسْر بن عبيد الله قال ، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن : إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا مقلِّب القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن ، يرفع أقوامًا ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة. (1)
__________
(1) الحديث : 6655 - بشر بن بكر التنيسي : ثقة مأمون. روى عنه الشافعي ، والحميدي ، وغيرهما. وأخرج له البخاري.
أيوب بن بشر : لم أجد راويًا بهذا الاسم ، ولا ما يقاربه في الرسم ، إلا رواة باسم " أيوب بن بشير " ليسوا من هذه الطبقة ، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن الرواة عن ابن جابر : " أيوب بن سويد الرملي " . ومن القريب جدًا أن يروي عنه بلديه " علي بن سهل الرملي " . ولكن تصحيف " سويد " إلى " بشر " صعب.
ابن جابر : هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة ، أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني : " يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشأم بعد الصحابة " .
بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي : تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر : " هو أحفظ أصحاب أبي إدريس " يعني الخولاني.
و " بسر " : بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه " عبيد الله " : بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا " بشر " . وهو تصحيف. وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر ، ووقع في بعضها اسم أبيه " عبد الله " . وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع.
أبو إدريس الخولاني : عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في : 4840.
النواس : بفتح النون وتشديد الواو ، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند : 17707 (ج 4 ص : 182 حلبي) ، عن الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر ، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه : 199 ، من طريق صدقة بن خالد ، عن ابن جابر ، به. وقال البوصيري في زوائده : " إسناده صحيح " .
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ، في كتاب التوحيد ، ص : 54 ، وأبو بكر الآجري ، في كتاب الشريعة ، ص : 317 - 318 ، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 289 ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، ص : 248 - عن الحاكم ، من طريق محمد بن شعيب بن شابور ، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين.
وهذا الموضع في المستدرك ، مخروم في أصله المطبوع عنه ، فأثبته الناشر عن مختصر الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم.
ورواه الحاكم أيضًا 4 : 321 ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا ، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا 1 : 525. عن الأصم ، عن بحر بن نصر ، عن بشر بن بكر ، عن ابن جابر ، به.
وقال الحاكم في الموضعين : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم " ! ومن عجب أن يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور ، وإن كان ثقة ، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين ؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري ، ولم يخرج له مسلم شيئًا!!
والحديث ذكره السيوطي 2 : 9 ، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى ، لأنه لم يروه في السنن الصغرى.

(6/217)


6656 - حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال ، حدثنا محمد بن عبيدة قال ، حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني ، عن الزبيدي ، عن جويبر ، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الموازين بيد الله ، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا ، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه. (1)
__________
(1) الحديث : 6656 - عمر بن عبد الملك بن حكيم الطائي الحمصي - شيخ الطبري : لم أجد له إلا ترجمة موجزة في التهذيب ، فيها : " روى عنه النسائي وقال : صالح " .
محمد بن عبيدة : لا أدري من هو ؟ ولا وجدت له ترجمة ، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا لعمر بن عبد الملك الطائي ، وذكره باسم : " محمد بن عبيدة ، المددي ، اليماني " . ولم أجد معنى لنسبة " المددي " هذه ، بدالين. ومن المحتمل أن تكون محرفة عن " المدري " بالراء ، نسبة إلى " مدر " بفتح الميم والدال وآخرها راء ، وهي قرية باليمن ، على عشرين ميلا من صنعاء ، كما في معجم البلدان 7 : 416.
الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي : ثقة ، وهو مشهور في أهل الشام. وهو غير " الجراح بن مليح بن عدي " والد " وكيع بن الجراح " .
الزبيدي - بضم الزاي : هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي ، أبو الهذيل الحمصي ، قاضيها. وهو ثقة ثبت ، قال ابن سعد 7 / 2 / 169 : " كان أعلم أهل الشأم بالفتوى والحديث " . وكان الأوزاعي " يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهري " .
جويبر : هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين ، ولا شأن لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر : ضعيف جدًا ، كما بينا في : 284. وإنما الحديث معروف عن " جبير بن نفير " ، كما سيأتي.
سمرة بن فاتك الأسدي : هكذا ثبت في الطبري " سمرة " بالميم ، فتكون مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه.
والصحيح الراجح أن اسمه " سبرة " ، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة.
وهناك صحابي آخر ، اسمه : " سمرة بن فاتك الأسدي " . غير هذا. وكذلك فرق البخاري بينهما في التاريخ الكبير : 2 / 2 / 188 ، في " سبرة " و : 178 في " سمرة " . وذكر هذا الحديث في " سبرة " وكذلك فرق بينهما ابن أبي حاتم 1 / 2 / 295 ، " سبرة " و : 155 ، " سمرة " .
وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر ، الذي اسمه " سمرة " - " سبرة " . وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة 3 : 63 - 64 ، 131 - 132 : أنهما اثنان ، كما قلنا ، وأن راوي هذا الحديث هو " سبرة " .
ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح : " سبرة " - لوجود القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا.
و " سبرة " : بسكون الباء الموحدة ، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته في الإصابة خطأ شديد ، إذ قال الحافظ : " بفتح أوله وكسر ثانيه " ؛ ولم يقل أحد ذلك في ضبط اسم " سبرة " مطلقًا ، بل هو نفسه ضبط اسم " سبرة " ، في غير هذه الترجمة " بسكون الموحدة " . وضبط اسم هذا الصحابي بالسكون أيضًا ، في المشتبه للذهبي ، ص : 255. ولم يذكر اسم آخر بهذا الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم.
و " الأسدي " - في هذه الترجمة : " بفتح الهمزة وسكون السين " . وهو : الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص " . قاله الحافظ في الإصابة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير ، في ترجمة " سبرة بن فاتك " . قال : " حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عمن حدثه ، عن جبير بن نفير ، عن سبرة بن فاتك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : الموازين بيد الله ، يرفع قومًا ويضع قومًا ، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل ، فإذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه " .
فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير - عنه البخاري.
وقال الحافظ في الإصابة : " وقد وقع لي في غرائب شعبة ، لابن مندة ، من طريق جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الميزان بيد الرحمن ، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى ، فقال : سمرة " .
فلم نعرف رواية ابن مندة : أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير ، أم عرف باسمه فيها ؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون هذا المبهم - هو " عبد الرحمن بن جبير بن نفير " فإنه يروي عن أبيه ، ويروي عنه الزبيدي.
ومما يرجح - عندي - أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات : أن الهيثمي ذكر هذا الحديث في مجمع الزوائد 7 : 211 " عن سمرة بن فاتك الأسدي " ، ثم قال : " رواه الطبراني ، ورجاله ثقات " .
وذكره السيوطي 2 : 8 ، ونسبه للبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطبراني. ولم يزد.
في المطبوعة : " إن شاء... وإن شاء " . وأثبت ما في المخطوطة. وهو الموافق لرواية الكبير للبخاري.

(6/218)


6657 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن

(6/219)


حيوة بن شريح قال ، أخبرني أبو هانئ الخولاني : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد ، يصرّف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى طاعتك. (1)
6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت : قلت : يا رسول الله ، وإن القلوب لتقلَّب ؟ قال : نعم ، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، إن شاءَ أقامه ، وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6657 - أبو هانئ الخولاني - بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو : هو حميد بن هانئ المصري. وهو ثقة معروف.
أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة : هو عبد الله بن يزيد المعافري - بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي ، ج 1 ص : 64 - 65 ، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب ، ص : 21.
والحديث رواه أحمد في المسند : 6569 ، عن أبي عبد الرحمن ، وهو المقرئ ، عن حيوة بن شريح ، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم 2 : 301 ، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ.
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة ، ص : 316 ، بإسنادين ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، ص : 248 - كلاهما من طريق المقرئ.
وذكره السيوطي 2 : 9 ، وزاد نسبته للنسائي.
(2) الحديث : 6658 - هو مختصر من الحديث : 6652. وقد وفينا تخريجه ، وأشرنا إلى هذا هناك.
ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة : " من بني آدم بشر " . ولعل الأجود أن يكون " من بشر " ، كالروايات الأخر.

(6/220)


رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا مع قولهم : آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا ، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا : يا ربنا ، " إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد " .
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام : ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة ، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا ، فإنك لا تخلف وَعْدك : أنّ من آمن بك ، واتَّبع رَسُولك ، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك ، أنك غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم ، (1) بالإيمان بالله ورسوله ، وما جاءهم به من تنزيله ، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم ، فإنه إذا فعل ذلك بهم ، وجبتْ لهم الجنة ، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية ، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر ، فإن تأويلَها من القوم : مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم.
* * *
وأما معنى قوله : " ليوم لا ريب فيه " ، فإنه : لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من حسن نصرتهم " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة : " نصرتهم " . غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر ما سلف 1 : 228 ، 378 / ثم 6 : 78.

(6/221)


ومعنى قوله : " ليوم " ، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء بينهم في موقف العَرضْ والحساب.
* * *
" والميعاد " " المفعال " ، من " الوعد " .
* * *

(6/222)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنّ الذين كفروا " ، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم ، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا " ، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم ، (1)
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم ، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا ، وهم في الآخرة " وقودُ النار " ، يعني بذلك : حَطبُها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بعد تثبيتهم " ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة " تثبيتهم " غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر تفسير " الوقود " فيما سلف 1 : 380.

(6/222)


كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

القول في تأويل قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم ، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم (1) " والذين من قبلهم " من الأمم الذين كذبوا بآياتنا ، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا ، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا ، (2) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون : من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كدأب آل فرعون " .
فقال بعضهم : معناه : كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك :
6659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " كدأب آل فرعون " ، يقول : كسنتهم.
* * *
وقال بعضهم : معناه : كعملهم.
ذكر من قال ذلك :
6660 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان
__________
(1) في المخطوطة : " ودعاتهم " غير منقوطة ، والصواب ما في المطبوعة ، وإنما هو سبق قلم من الناسخ ، وهذا اللفظ هو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 87.
(2) في المطبوعة : " فلن تغني عنهم... " ، وهو مخالف للسياق. وفي المخطوطة : " فلن تغن عنهم... " وهو سهو من الناسخ ، والصواب ما أثبت.

(6/223)


وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان جميعًا ، عن جويبر ، عن الضحاك : " كدأب آل فرعون " ، قال : كعمل آل فرعون.
6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " كدأب آل فرعون " ، قال : كعمل آل فرعون.
6662 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " كدأب آل فرعون " ، قال : كفعلهم ، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل وقرأ قول الله : ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) [سورة غافر : 31] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال : الدأبُ العمل.
6663 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد في قوله : " كدأب آل فرعون " ، قال : كفعل آل فرعون ، كشأن آل فرعون.
6664 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " كدأب آل فرعون " ، قال : كصنع آل فرعون.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كتكذيب آل فرعون.
ذكر من قال ذلك :
6665 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم " ، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم ، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " الدأب " من : " دأبت في الأمر دأْبًا " ، إذا أدمنت

(6/224)


العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى : الشأن ، والأمر ، والعادة ، كما قال امرؤ القيس بن حجر :
وَإنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ (1) كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِث قَبْلَهَا... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يعني بقوله : " كدأبك " ، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه : " هذا دَأبي ودأبك أبدًا " . يعني به. فعلي وفعلك ، وأمري وأمرك ، وشأني وشأنك ، يقال منه : " دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا " . وحكى عن العرب سماعًا : " دأبْتُ دأَبًا " ، مثقله محركة الهمزة ، كما قيل : " هذا شعَرٌ ، ونَهَر " ، (2) فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة ، (3) فألحق " الدأب " إذ كان ثانية من الحروف الستة ، كما قال الشاعر : (4)
لَهُ نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ رِيحُهَا... وَإنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ (5)
* * *
وأما قوله : " واللهُ شديدُ العقاب " ، فإنه يعنى به : والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه.
* * *
__________
(1) ديوانه : 125 من معلقته المشهورة ، ثم يأتي في التفسير 12 : 136 (بولاق) البيت الثاني. وهو شعر مشهور خبره ، فاطلبه في موضعه.
(2) في المطبوعة : " بهر " بالباء ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها بالنون.
(3) " الحروف الستة " ، يعني حروف الحلق.
(4) هو كثير عزة.
(5) ديوانه 2 : 112 ، الحيوان 1 : 266 ، والبيان 3 : 109 ، 112 واللسان (نعل). ورواية اللسان " وسط المجالس " ، أما رواية الديوان فبخلاف هذا ولا شاهد فيها ، كما سترى. والشعر مما قاله كثير حين بلغه وفاة عبد العزيز بن مروان بمصر ، فرثاه ، فكان مما قال فيه : يَؤُوبُ أُولُو الحَاجَاتِ مِنْهُ إذَا بَدَا ... إلَى طَيِّبِ الأَثْوَابِ غَيْرِ مُؤَمَّتِ
كَأَنَّ اُبْنَ لَيْلَى حِينَ يَبْدُو فَتَنْجَلِي ... سُجُوفُ الخِبَاءِ عَنْ مَهِيبٍ مُشَمَّتِ
مُقَارِبُ خَطْوٍ لا يُغَيِّر نَعْلَهُ ... رَهِيفَ الشِّرَاكِ ، سَهْلَةَ المُتَسَمَّتِ
إِذَا طُرِحتْ لَمْ تَطَّبِ الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإِنْ وُضِعتْ في مَجْلِس القَوْم شُمَّتِ
يقول : لا يلبس من النعال إلا المدبوغ الجلد ، فذهبت رائحة الجلد منها ، لأن النعل إذا كانت من جلد غير مدبوغ ، وظفر بها كلب أقبل عليها بريحها فأكلها. يصفه بأنه من أهل النعمة واليسار والترف. ثم زادها صفة أخرى بأن جعلها قد كسبت من طيب رائحته طيبًا ، حتى لو وضعت في مجلس قوم ، تلفتوا يتشممون شذاها من طيبها. وقوله : " يطبى " من : " اطباه " أي : دعاه إليه.

(6/225)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

القول في تأويل قوله : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في ذلك.
فقرأه بعضهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) بالتاء ، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله : ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ). قالوا : ففي ذلك دليل على أن قوله : " ستغلبون " ، كذلك ، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية : أنّ الموعودين بأن يُغلبوا ، هم الذين أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نزل ، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام : " قلت للقوم : إنكم مغلوبون " ، و " قلت لهم : إنهم مغلوبون " . وقد ذكر أن في قراءة عبد الله : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ ) [سورة الأنفال : 38] ، وهي في قراءتنا : ( إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ) .
* * *
وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ ) ، على معنى : قل لليهود : سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك

(6/226)


كذلك على هذا التأويل ، لم يجز في قراءته غير الياء. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والذي نختار من القراءة في ذلك ، قراءةُ من قرأه بالتاء ، بمعنى : قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله : " ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " .
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك ، على قراءته بالياء ، لدلالة قوله : ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ) ، على أنهم بقوله : " ستغلبون " ، مخاطبون خطابهم بقوله : " قد كان لكم " ، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب ، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب.
وأخرى أنّ : -
6666 - أبا كريب حدثنا قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال ، لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة ، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال : يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا : يا محمد ، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال ، (2) إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تأت مثلنا!! (3) فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " إلى قوله : " لأولي الأبصار " .
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1 : 191 - 192.
(2) في سيرة ابن هشام : " لا يغرنك من نفسك " . والأغمار جمع غمر (بضم فسكون) : وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور ، ولم تحنكه التجارب.
(3) في ابن هشام : " لم تلق مثلنا " .

(6/227)


6667 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمر بن قتادة ، قال : لما أصاب الله قريشًا يوم بدر ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن يونس. (1)
6668 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قَينُقاع ، ثم قال : يا معشر اليهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النِّقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا كقومك! (2) لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. (3)
6669 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم : " قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد " إلى " لأولي الأبصار " . (4)
6670 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " ، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر : لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنزلت هذه الآية : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " .
* * *
__________
(1) الأثر : 6666 ، 6667 - في سيرة ابن هشام 2 : 201.
(2) في ابن هشام : " أنا قومك " بحذف الكاف ، وهي جيدة جدًا ، ولكن ما في التفسير موافق لما في التاريخ.
(3) الأثر : 6668 - سيرة ابن هشام 3 : 50 / تاريخ الطبري 2 : 297.
(4) الأثر : 6669 - سيرة ابن هشام 3 : 51 .

(6/228)


قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

قال أبو جعفر : فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله : " ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " ، هم اليهود المقولُ لهم : " قد كان لكم آية في فئتين " ، الآية - وتدل على أن قراءَة ذلك بالتاء ، أولى من قراءته بالياء.
* * *
ومعنى قوله : " وتحشرون " ، وتجمعون ، فتجلبون إلى جهنم. (1)
* * *
وأما قوله : " وبئس المهاد " ، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. (2) وكان مجاهد يقول كالذي : -
6671 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وبئس المهاد " ، قال : بئسما مَهدُوا لأنفسهم.
6672 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قُلْ ، يا محمد ، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك : " قد كان لكم آية " ، يعني : علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول : إنكم ستغلبون ، وعبرة ، (3) كما : -
6673 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) لم يفسر أبو جعفر " تحشرون " فيما سلف 4 : 228 ، وذلك دليل على ما روى من اختصاره هذا التفسير اختصارًا.
(2) انظر ما سلف 4 : 246.
(3) انظر تفسير " الآية " في (أيى) من فهارس اللغة.

(6/229)


" قد كان لكم آية " ، عبرةٌ وتفكر.
6674 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله إلا أنه قال : ومُتَفَكَّر.
* * *
" في فئتين " ، يعني : في فرقتين وحزبين و " الفئة " الجماعة من الناس. (1) " التقتا " للحرب ، وإحدى الفئتين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش.
" فئة تُقاتل في سبيل الله " ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، (2) وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه " وأخرى كافرة " ، وهم مشركو قريش ، كما : -
6675 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " ، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر " وأخرى كافرة " ، فئة قريش الكفار. (3)
6676 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس مثله. (4)
6677 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " فئة " 5 : 352 ، 353.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف 2 : 497 / ثم 3 : 563 ، 583 / ثم 4 : 318 / ثم 5 : 280.
(3) الأثران : 6675 ، 6676 - سيرة ابن هشام 3 : 51 باختلاف في اللفظ ، لاختلاف الرواية عنه.
(4) الأثران : 6675 ، 6676 - سيرة ابن هشام 3 : 51 باختلاف في اللفظ ، لاختلاف الرواية عنه.

(6/230)


جريج ، عن عكرمة : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه " وأخرى كافرة " ، قريش يوم بدر.
6678 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين " ، قال : في محمد وأصحابه ، ومشركي قريش يوم بدر.
6679 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " ، قال : ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار.
* * *
قال أبو جعفر : ورفعت : " فئةٌ تقاتل في سبيل الله " ، وقد قيل قبل ذلك : " في فئتين " ، بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء ، كما قال الشاعر : (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ... وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ (2)
__________
(1) هو كثير عزة.
(2) ديوانه 1 : 46 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 192 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 87 ، وسيبويه 1 : 215 ، والخزانة 2 : 376 وغيرها كثير ، وسيأتي في التفسير 30 : 58 (بولاق) ، وهو من قصيدته التائية المشهورة ، وهذا البيت معطوف على أمنية تمناها في الأبيات السالفة : فَلَيْتَ قَلُوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيّدَ تْبِحَبْلٍ ... ضَعيفٍ غُرَّ مِنْهَا فَضَلَّتِ
وغُودِرَ فِي الحَيِّ المُقِيمِينَ رَحْلُهَا ... وكَانَ لَهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صَحِيحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الأعلم : " تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها ، وتضل ناقته فلا يرحل عنها " . وقال آخرون : " تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة ، فيكون ببقائه في حي عزة كذي رجل صحيحة ، ويكون من عدمه لقلوصه كذي رجل عليلة " . وقال ابن سيدهْ : " لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده ، وثبت هو على عهدها ، صار كذي رجلين : رجل صحيحة : هو ثباته على عهدها ، وأخرى مريضة : وهو زللها عن عهده " . وقال آخرون : " معنى البيت : أنه بين خوف ورجاء ، وقرب وثناء " ، ولي في معنى الأبيات رأي ليس هذا موضع بيانه.

(6/231)


وكما قال ابن مفرِّغ : (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صَحِيحَةٌ... وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ (2) فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ ، ... وَأَمَّا الّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه ، إذا كان مع المكرر خبر : تردُّه على إعراب الأوّل مرة ، وتستأنفه ثانيةً بالرفع ، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص ، وقد جُرّ ذلك كله ، فخفض على الردّ على أوّل الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك : فكنت كذلك رجلين : كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله : " فئة " ، جائز على الردّ على قوله : " في فئتين التقتا " ، في فئة تقاتل في سبيل الله.
وهذا وإن كان جائزًا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به ، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله : " فئة " ، جاء نصبًا ، كان جائزًا أيضًا على قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا " ، مُختلفتين. (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف نسبة هذا الشعر إلى ابن مفرغ ، وهو بلا شك للنجاشي الحارثي ، من قصيدته في معاوية وعلي ، وأكثرها في الوحشيات لأبي تمام ، ووقعة صفين : 601 - 605.
(2) الوحشيات رقم : 183 ، وحماسة ابن الشجري : 33 ، وخزانة الأدب 2 : 378 ، وأزد شنوءة ، وأزد عمان ، كانا من القبائل التي قاتلت يوم صفين ، وكانت أزد شنودة مع أهل الشام ، وأزد عمان في أهل العراق. ورواية الشعر : " وكنتم كذي رجلين... " ، والخطاب لبني تميم وغطفان في قوله قبل ذلك : أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... تَمِيمًا ، وَهذَا الحَيَّ مِنْ غَطَفَان
بيد أن رواية البيت : فأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزدُ شَنُوءةٍ ... وأَمَّا التي صَحَّتْ فَأَزدُ عُمَانِ
لأن النجاشي كان مع علي ، وكانت أزد عمان معه. أما أزدشنوءة فكانت مع معاوية.
(3) انظر أكثر هذا وأبسط منه في معاني القرآن للفراء 1 : 192 - 194 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 87 ، 88.

(6/232)


القول في تأويل قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة : ( تَرَوْنَهُمْ ) بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آيةٌ في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرةٌ ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم ، يقول : إن لكم عبرةً ، أيها اليهود ، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم ، بهؤلاء مع كثرة عددهم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين : ( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ) بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله ، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم : قد كان لكم ، يا معشر اليهود ، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم ، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
* * *
فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟
قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم : الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها ، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، (1) ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.
__________
(1) قوله : " قللها الله عز وجل في أعينها " ، وذلك أن المشركين كانوا أكثر منهم أمثالا ، فأراهم الله عددهم مثليهم وحسب. وسيأتي بيان ذلك بعد قليل. وانظر التعليق التالي.

(6/233)


ذكر من قال ذلك :
6681 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " ، قال : هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يُضْعِفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قول الله عز وجل : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) [سورة الأنفال : 44]
* * *
فمعنى الآية على هذا التأويل : قد كان لكم ، يا معشر اليهود ، آيةٌ في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة والأخرى كافرة ، كثيرٌ عدد الكافرة ، قليلٌ عدد المسلمة ، ترى الفئة القليلُ عددُها ، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد ، (1) فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك ، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم.
والمعنى الآخر منه : التقليل الثاني ، على ما قاله ابن مسعود : وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم ، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا ).
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم ، هم
__________
(1) في المطبوعة : " . . . أمثالا لها أنها تكثرها. . . " ، والصواب من المخطوطة ، وكأن الطابع خفي عليه معنى الحصر في هذا الكلام ، فغيره. وانظر التعليق السالف.

(6/234)


المسلمون. غير أن المسلمين رَأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقلَّلوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا : ولذلك قال الله عز وجل لليهود : قد كان لكم فيهم عبرةٌ ، يخوّفهم بذلك أنْ يحل بهم منهم مثل الذي أحَلَّ بأهل بدر على أيديهم.
ذكر من قال ذلك :
6682 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " ، أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا (1) وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وحل : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " ، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة ، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين.
فقال بعضهم : كان عددهم ألفًا وقال بعضهم : ما بين التسعمئة إلى الألف.
ذكر من قال : " كان عددهم ألفًا " .
6683 - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت ، وأما مولى
__________
(1) في المطبوعة : " كأن المؤمنين كانوا... " ، وهو فاسد جدًا ، لم يحسن الناشر أن يقرأ المخطوطة ، فقرأها على وجه لا يصح.

(6/235)


عقبة فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديدٌ بأسُهم! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه ، (1) حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كم القوم ؟ فقال : هم والله كثير شديدٌ بأسهم! فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبره كم هم ، فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : " كم يَنحرون من الجزُر ؟ قال : عشرة كل يوم. (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القومُ ألفٌ. (3)
6684 - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفًا. (4)
* * *
ذكر من قال : " كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف " :
6685 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه ، (5) فأصابوا راويةً من قريش : (6) فيها أسلم ، غلام بني الحجاج ، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " إذا قال ذلك صدقوه " ، وهو خطأ بين ، والصواب من تاريخ الطبري ، وسيأتي مرجعه في آخر الأثر.
(2) في التاريخ : " عشرًا " وهي الأجود. والجزر جمع جزور : وهي الناقة المجزورة أو البعير المجزور ، فهو يقع على الذكر والأنثى.
(3) الأثر : 6683 - تاريخ الطبري 2 : 269.
(4) الأثر : 6684 - " أبو سعيد بن يوشع البغدادي " ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب ، وانظر رقم : 6690 أيضًا.
(5) في المخطوطة : " يلتمسون له عليه " بينهما بياض ، وأتمتها المطبوعة ، كنص ابن هشام.
(6) الرواية : هي المزادة فيها الماء ، ثم سمي البعير الذي يستسقى عليه الماء " راوية " ، وسمي الرجل المستسقى أيضًا " راوية " . وجاء في روايته هنا بالإفراد " راوية " ، وهي بمعنى الجمع ، أي الذين يستقون للقوم ، أو الإبل التي يستقى عليها.

(6/236)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القوم ؟ قالا كثير! قال : ما عدّتهم ؟ قالا لا ندري! قال : كم يَنحرون كل يوم ؟ قالا يومًا تسعًا ، ويومًا عشرًا. قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : القومُ ما بين التسعمئة إلى الألف. (1)
6686 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " ، ذلكم يوم بدر ، ألفٌ المشركون أو قاربوا ، (2) وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
6687 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة " إلى قوله : " رأي العين " ، قال : يُضْعفون عليهم ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ، يوم بدر.
6688 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين " ، قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمئة وخمسين ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وثلاثة عشر.
6689 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف.
* * *
__________
(1) الأثر : 6685 - هو مختصر ما في سيرة ابن هشام 2 : 268 ، 269 ، وتاريخ الطبري 2 : 275.
(2) في المخطوطة : " أللف " ، وعلى اللام الأولى شدة ، وأظنه كان أراد أن يكتب : " لألف " .

(6/237)


قال أبو جعفر : فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القولَ الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر. فإذْ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة - [صحيحًا] ، (1) فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود ، أولى بتأويل الآية.
* * *
وقال آخرون : كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة ، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا : أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا : وإنما عنى الله عز وجل بقوله : " يرونهم مثليهم " ، المخاطبين بقوله : " قد كان لكم آية في فئتين " . قالوا : وهم اليهود ، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى ، كما قال : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (2) [سورة يونس : 22]
وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : " يرونهم مثليهم رأي العين " ، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين ؟
قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : " أحتاج إلى مثله " ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، (3) ثم يقول : " أحتاج إلى مثليه " ، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله ، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. (4) وكما يقول الرجل : " معي ألفٌ وأحتاج
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة فالتأويل الأول... " ، وهي عبارة غير مستقيمة ، وسهو من الناسخ كثير ، فرجحت أن صوابها : " حكينا قوله " في الموضع الأول ، وزيادة " صحيحًا " في آخر الجملة كما وضعتها بين القوسين.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 195.
(3) في المطبوعة : " أنا محتاج إليه وإلى مثله " ، وهو إفساد. والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء 1 : 194.
(4) عبارة الفراء أوضح وهي : " فأنت إلى ثلاثة محتاج " .

(6/238)


إلى مثليه " . فهو محتاج إلى ثلاثة. (1) فلما نوى أن يكون " الألف " داخلا في معنى " المثل " صار " المثل " اثنين ، والاثنان ثلاثة. (2) قال : ومثله في الكلام : (3) " أراكم مثلكم " ، كأنه قال : أراكم ضعفكم (4) " وأراكم مثليكم " . يعني : أراكم ضعفيكم. قالوا : فهدا على معنى ثلاثة أمثالهم. (5)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم.
وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) [سورة الأنفال : 44] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى.
* * *
قال أبو جعفر : وقرأ آخرون ذلك : ( تُرَوْنَهُمْ ) بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات بالصواب ، قراءةُ من قرأ : " يرونهم " بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم - يعني : مثلي عدد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وهو محتاج " ، والسياق يقتضي الفاء ، كما في معاني القرآن للفراء : " فهو يحتاج... " .
(2) في المطبوعة : " صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة " ، وهو تصحيف ، وفي المخطوطة : " اسرب " غير واضحة بل مضطربة ، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(3) قوله : " قال " يعني الفراء ، فالذي مضى والذي يأتي نص كلامه أو شبيه بنص كلامه أحيانًا ، وقلما يصرح أبو جعفر باسم الفراء ، كما رأيت في جميع المواضع التي أشرنا إليها مرارًا ، أنه نقل عنه نص كلامه.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " كما يقال إن لكم ضعفكم " ، وهو كلام بلا معنى ، واستظهرت صوابه من نص الفراء في معاني القرآن وهو : " ومثله في الكلام أن تقول : أراكم مثلكم - كأنك قلت : أراكم ضعفكم " .
(5) أكثر هذا بنصه من معاني القرآن للفراء 1 : 194.

(6/239)


المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حَزْرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، (1) ثم تقليلا ثالثًا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين ، كما : -
6690 - حدثني أبو سعيد البغدادي قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : تَرَاهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة. قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفًا.
* * *
وقد روى عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت : " ترونهم " ، لكانت " مثليكم " .
6691 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة بذلك. (2)
* * *
قال أبو جعفر : ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ ، على
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " مثلى عدد المسلمين " هنا أيضًا ، وهو خطأ ظاهر ، والسياق الماضي والآتي يدل على خلافه ، وهو كما أثبت.
(2) الأثر : 6691 - " عبد الرحمن بن أبي حماد " لم أعرف من هو على التحقيق. وقد مر " عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي القارئ " في رقم : 3109 ، 4077 ، ولكن لم يرو عنه " المثنى " إلا بالواسطة ، وإسناده : " حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد " ، ولا أظنه هو هو. وقد جاء في تاريخ الطبري 1 : 171 : " حدثني المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد... " ، فأكبر الظن أنهما رجلان.
أما " ابن المبارك " فهو " عبد الله المبارك " فيما رجحت ، وقد كان في المطبوعة " عن ابن المعرك " ، ولم أجد من يسمى بهذا الاسم ، وفي المخطوطة : " عن ابن المسرل " كأنها ميم وسين ثم راء ثم كاف أو لام. فلعلها كانت مكتوبة في الأصل " ابن المبرك " بغير ألف بين الباء والراء ، فقرأها الناسخ هكذا. والله أعلم.

(6/240)


ما كان به عندهم ، (1) مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين (2) إعلامًا منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يُحلّ بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثلَ الذي أحلّ بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر. (3)
* * *
وأما قوله : " رأي العين " ، فإنه مصدر : " رَأيتهُ " يقال : " رأيته رأيًا ورُؤْية " ، و " رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ " ، غير مُجْراة. يقال : " هو مني رَأيَ العين ، ورِئاءَ العين " ، (4) بالنصب والرفع ، يراد : حيث يقع عليه بصري ، وهو من " الرأي " مثله. و " القوم رئاءٌ " ، (5) إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا.
* * *
فمعنى ذلك : يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت في المطبوعة ، وهي جملة لا تكاد تستقيم ، وقوله : " اليهود " مفعول به لقوله : " فأخبر الله عز وجل... " . وقوله : " على ما كان به عندهم " ، مما لم أعرف له وجهًا أرضاه. أما المخطوطة فهكذا نصها : " فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عرم المسلمين اليهود على ما كان به عندهم " ، وهو كلام مضطرب أخشى أن يكون قد سقط منه شيء.
(2) سياق الكلام على ما ترى : " فأخبر الله عز وجل... اليهود... إعلامًا منه لهم " .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " ببدرهم " ، وهو كلام ليس بعربي ، فآثرت حذف الضمير ، وجعلتها " ببدر " ، إلا أن يكون في الكلام تحريف لم أتبينه. هذا والناسخ كما ترى ، في كثير من هذه الصفحات قد عجل فزاد وحرف ونقص. غفر الله له.
(4) في المطبوعة : " ورأي العين " ، وفي المخطوطة " ورآا العين " ، وصواب قراءتها ما أثبت وإنما حمل الناشر الأول أن يقرأها كذلك ، أنه لم يجد نصها في كتب اللغة ، ولكن قوله بعد : " وهو من الرأى مثله " ، إنما يعني به هذه الكلمة ، ثم ما سيأتي في الجملة التالية : " والقوم رثاء " ، مما استدل به على ذلك أيضًا. ولكن الناشر الأول ، لم يحسن قراءة المخطوطة فتصرف فيه ، وأعانه ذلك على التصرف في رسم الذي قبله ، كما سنرى في التعليق التالي. وانظر أيضًا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 88.
(5) في المطبوعة : " والقوم راأوا " ، ولا أدري كيف أراد أن يقرأها الناشر الأول ، وماذا ظنها!! والصواب ما أثبت ، ورسمه في المخطوطة " والقوم رآء " وتحت الراء كسرة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، وانظر التعليق السالف.

(6/241)


القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (1) " والله يؤيد " ، يقوّي " بنصره من يشاء " .
* * *
من قول القائل : " قد أيَّدت فلانًا بكذا " ، إذا قوّيته وأعنته ، " فأنا أؤيّده تأييدًا " . و " فَعَلت " منه : " إدته فأنا أئيده أيدًا " ، (2) ومنه قول الله عز وجل : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) [سورة ص : 17] ، يعني : ذا القوة. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : قد كان لكم (4) يا معشر اليهود ، في فئتين التقتا ، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم ، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم (5) معتبر ومتفكر ، والله يقوّى بنصره من يشاء.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، ولكن السياق كما ترى يقتضي ما أثبت.
(2) لم تذكر كتب اللغة هذا الفعل الثلاثي متعديًا ، بل قالوا : " آد يئيد أيدًا ، إذا اشتد وقوى " ؛ فهذه زيادة لم أجدها في غير هذا التفسير الجليل.
(3) انظر تفسير " الأيد " و " أيد " فيما سلف 2 : 319 ، 320 / ثم 5 : 379.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " قد كان لكم آية " ، وذكر " آية " هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه ، فإن اسم " كان " سيأتي بعد قليل وهو : " معتبر ومتفكر " ، وهو معنى " آية " هنا ، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " قد كان لكم آية " ، وذكر " آية " هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه ، فإن اسم " كان " سيأتي بعد قليل وهو : " معتبر ومتفكر " ، وهو معنى " آية " هنا ، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.

(6/242)


زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)

وقال جل ثناؤه " إنّ في ذلك " ، يعني : إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم : من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها " لعبرة " ، يعني : لمتفكرًا ومتَّعظًا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق ، كما : -
6692 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار " ، يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم.
6693 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها ، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه.
* * *
وكان الحسن يقول : منْ زَيْنِها ، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها. (1)
6694 - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو الأشعث عنه.
__________
(1) في القرطبي 4 : 28 : " من زينها ؟ " استفهام " زينها " فعل. ولم أجد خبر الحسن ، ولكني أذكر كأني قرأته قديمًا ، وهو يسخر من أمر الدنيا ، ويقول : من حسنها ، أن الذي يذمها ويقبحها هو الذي خلقها! و " الزين " خلاف الشين ، مصدر " زان الشيء يزينه زينًا " .

(6/243)


6695 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال ، قال عمر : لما نزل : " زُيِّن للناس حب الشهوات " ، قلت : الآن يا رَبِّ حين زيَّنتها لنا! فنزلت : ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) [ سورة آل عمران : 15] ، الآية.
* * *
وأما " القناطير " فإنها جمع " القنطار " .
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار.
فقال بعضهم : هو ألف ومئتا أوقية.
ذكر من قال ذلك :
6696 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ بن جبل قال : القنطار : ألف ومئتا أوقية.
6697 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا أبو حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ مثله.
6698 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان ، عن أبي طيبة ، عن ابن عمر قال : القنطار ألف ومئتا أوقية.
6699 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال ، أخبرني العلاء بن المسيب ، عن عاصم بن أبي النجود قال : القنطار ألف ومئتا أوقية.
6700 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مثله. (1)
__________
(1) الأثر : 6700 - ذكره ابن كثير في تفسيره 2 : 109 ، 110 ، وأشار إلى رواية أحمد : " حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القنطار اثنا عشر ألف أوقيه ، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض " وذكر رواية ابن ماجه ووكيع ، وصحح أن هذا الأثر موقوف ، كما رواه ابن جرير ووكيع.

(6/244)


6701 - حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبى ميمونة ، عن زِرّ بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية. (1)
* * *
وقال آخرون : القنطار ألف دينار ومئتا دينار.
ذكر من قال ذلك :
6702 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القنطارُ ألف ومئتا دينار.
__________
(1) الأثر : 6701 - " زكريا بن يحيى الضرير " هو : " زكريا بن يحيى بن أيوب ، أبو علي الضرير المدائني " ، حدث عن زياد البكائي ، وشبابة بن سوار ، وسليمان بن سفيان الجهني ، روى عنه محمد بن علي المعروف بمعدان ، ومحمد بن غالب التمتام ، ويحيى بن صاعد ، والقاضي المحاملي. مترجم في تاريخ بغداد 8 : 457. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " زكريا بن يحيى الصديق " ، وهو خطأ ، والصواب من تفسير ابن كثير 2 : 110.
و " شبابة " هو " شبابة بن سوار الفزاري " . قال أحمد : " تركته لم أكتب عنه للإرجاء ، كان داعية " . وقال زكريا الساجي : " صدوق ، يدعو إلى الإرجاء. كان أحمد يحمل عليه " . وقد وثقه ابن معين وابن سعد على إرجائه. مترجم في التهذيب ، و " مخلد بن عبد الواحد " أبو الهذيل البصري روى عن علي ابن زيد بن جدعان ، وروى عنه شبابة. قال ابن حبان : " منكر الحديث جدًا " . وقال أبو حاتم : " ضعيف الحديث. مترجم في لسان الميزان ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 348. و " علي بن زيد بن جدعان " مضى برقم : 40. و " عطاء بن أبي ميمونة " روى عن أنس وعمران وجابر بن سمرة ، وغيرهم. وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم : " لا يحتج بحديثه وكان قدريًا " ، وقال ابن عدي : " في أحاديثه بعض ما ينكر عليه " .
وقد روى ابن كثير هذا الأثر في تفسيره 2 : 110 وقال : " وهذا حديث منكر أيضًا " . والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب ، كغيره من الصحابة " - يعني كالأثر السالف الموقوف على أبي هريرة ، وما قبله عن معاذ بن جبل وابن عمر.

(6/245)


6703 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : القنطار : ألف ومئتا دينار.
6704 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : القنطار ألف ومئتا دينار ، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
6705 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : " القناطير المقنطرة " ، يعني : المالَ الكثير من الذهب والفضة ، والقنطار ألف ومئتا دينار ، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
* * *
وقال آخرون : القنطار اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار.
ذكر من قال ذلك :
6706 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : القنطار اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار.
6707 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : القنطار ألف دينار ، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم. (1)
6708 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن القنطار اثنا عشر ألفا.
6709 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا عوف ، عن الحسن : القنطار اثنا عشر ألفا.
__________
(1) الورق (بفتح الواو وكسر الراء) : الفضة ، أو الدراهم من الفضة.

(6/246)


6710 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا .................... قال أخبرنا عوف ، عن الحسن : اثنا عشر ألفا. (1)
6711 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن بمثله.
6712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن قال : القنطار ألفُ دينار ، ديةُ أحدكم.
* * *
وقال آخرون : هو ثمانون ألفًا من الدراهم ، أو مئة رطل من الذهب.
ذكر من قال ذلك :
6713 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : القنطار ثمانون ألفًا.
6714 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : القنطار ثمانون ألفًا.
6715 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق.
6716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : القنطار مئة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
6717 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال : القنطار مئة رطل.
6718 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) الأثر : 6710 - هذا إسناد ناقص بلا ريب ، وقد وضعت مكان الخرم هذه النقط ، وسبب ذلك أن الناسخ انتهى في آخر الصفحة بقوله : " حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا " وانتقل إلى الصفحة التالية فبدأها : " قال أخبرنا عوف " فهو سهو منه. وإسناد " محمد بن بشار " إلى " عوف عن الحسن " ، مختلف ، منه الأسناد رقم : 2570 مثلا : " حدثنا محمد بن بشار ، قال حدثنا يحيى ، عن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن " ، وغيره مما لم أستطع أن أتتبعه الآن.

(6/247)


السدي : القنطار يكون مئة رطل ، وهو ثمانية آلاف مثقال.
* * *
وقال آخرون : القنطار سبعون ألفًا.
ذكر من قال ذلك :
6719 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " القناطير المقنطرة " ، قال : القنطار : سبعون ألف دينار.
6720 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6721 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا عمر بن حوشب قال ، سمعت عطاء الخراساني قال : سئل ابن عمر عن القنطار فقال : سبعون ألفًا. (1)
* * *
وقال أخرون : هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا. (2)
ذكر من قال ذلك :
6722 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سالم بن نوح قال ، حدثنا سعيد الجرَيْري ، عن أبي نضرة قال : ملءُ مَسك ثور ذهبًا.
6723 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو الأشعث ، عن أبي نضرة : ملء مَسك ثور ذهبًا.
* * *
__________
(1) الأثر : 6721 - " عمر بن حوشب الصنعاني " ، روى إسماعيل بن أمية. وروى عنه عبد الرزاق ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن القطان : " لا يعرف حاله " ، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3 / 1 / 105.
(2) المسك (بفتح الميم وسكون السين) : هو مسلاخ الجلد الذي يكون فيه الثور وغيره.

(6/248)


وقال آخرون : هو المال الكثير.
ذكر من قال ذلك :
6724 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : " القناطير المقنطرة " ، المال الكثير ، بعضُه على بَعض.
* * *
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب : (1) أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن ، ولكنها تقول : " هو قَدْرُ وزنٍ " . (2)
قال أبو جعفر : وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك ، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها ، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف.
* * *
قال أبو جعفر : فالصواب في ذلك أن يقال : هو المال الكثير ، كما قال الربيع بن أنس ، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. (3) وقد قيل ما قيل مما روينا.
* * *
وأما " المقنطرة " ، فهي المضعَّفة ، وكأن " القناطير " ثلاثة ، و " المقنطرة " تسعة. (4) وهو كما قال الربيع بن أنس : المال الكثيرُ بعضه على بعض ، كما : -
6725 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قتادة : " القناطير المقنطرة من الذهب والفضة " ، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.
__________
(1) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى ، كما أشار إليه بذلك مرارًا سلفت ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 88.
(2) نص أبي عبيدة " هو قدر وزن ، لا يحدونه " ، بإضافة " قدر " إلى " وزن " ، وهو كذلك في المخطوطة ، ولكن المطبوعة زادت واوًا فجعلته " قدر ووزن " .
(3) في المطبوعة : " على تعنف " ، وفي المخطوطة : " على تعنف " غير منقوطة ، وأظن صواب قراءتها ما أثبت.
(4) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 195 بتصرف ، ونصه " والقناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة ، كذلك سمعت " .

(6/249)


6726 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك في قوله : " القناطير المقنطرة " ، يعني المال الكثير من الذهب والفضة.
* * *
وقال آخرون : معنى " المقنطرة " : المضروبة دراهم أو دنانير.
ذكر من قال ذلك :
6727 - حدثنا موسى قالى ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " المقنطرة " ، فيقول : المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
* * *
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " وآتيتم إحداهن قنطارًا " - خبرٌ لو صحّ سندُه ، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما : -
6728 - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال ، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال ، حدثنا زهير بن محمد قال ، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) [سورة النساء : 20] ، قال : ألفا مئين يعني ألفين. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 6728 - ابن عبد الرحمن البرقي : هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة ، ولم أعرف من هو. ونقل ابن كثير 2 : 110 هذا الحديث من تفسير ابن أبي حاتم : أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي ، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة... " . فلم أجد أيضًا " أحمد بن عبد الرحمن الرقي " - ولم يترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ويبعد جدًا أن لا يترجم لشيخه.
ولكن من شيوخ الطبري : أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي الحافظ. روى عنه في : 22 باسم " ابن البرقي " . وفي : 160 ، باسم " أحمد بن عبد الرحيم البرقي " . نسب إلى جده. وفي : 5444 ، باسم " ابن البرقي " . وهو في الرواية الأخيرة يروى عن عمرو بن أبي سلمة ، كمثل الرواية التي هنا.
فمن المحتمل أن يكون هو الذي هنا ، وأن تكون كتابة " ابن عبد الرحمن " بدلا من " ابن عبد الرحيم " خطأ من الناسخين.
ولكن يعكر عليه اتفاق " بن عبد الرحمن " في رواية ابن أبي حاتم وما ثبت هنا. فإنه يبعد جدًا اتفاق الناسخين على خطأ واحد معين ، في كتابين مختلفين ، لمؤلفين ، ليس أحدهما ناقلا عن الآخر.
فلعل " أحمد بن عبد الرحمن الرقي " أو " البرقي " - شيخ آخر روى عنه الطبري وابن أبي حاتم لم تقع إلينا ترجمته.
عمرو بن أبي سلمة : مضت ترجمته في : 5444.
زهير بن محمد التميمي الخراساني المروزي : ثقة ، وثقه أحمد وغيره.
أبان بن أبي عياش ، واسم أبي عياش " فيروز " : تابعي روى عن أنس ، ولكنه ضعيف. قال أحمد : " منكر الحديث " . وقال ابن معين : " ليس حديثه بشيء " . وقال أبو حاتم : " متروك الحديث ، وكان رجلا صالحًا ، ولكن بلى بسوء الحفظ " . وقال البخاري : " كان شعبة سيئ الرأي فيه " .
ولكن ضعف أبان لا يؤثر في صحة هذا الحديث ، لأن زهير بن محمد سمعه منه ، وسمعه أيضًا من " حميد الطويل " ، وحميد : ثقة ، كما مضت ترجمته في : 3877.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 178 ، عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد : " حدثنا حميد الطويل ، ورجل آخر ، عن أنس بن مالك ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : (والقناطير المقنطرة) ؟ قال : القنطار ألفا أوقية " . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي. ووقع في مختصر الذهبي المطبوع مع المستدرك " ألف أوقية " بالإفراد ، وهو خطأ مطبعي ، وثبت على الصواب في مخطوطة المختصر التي عندي ، موافقًا لما في أصل المستدرك.
ونقله ابن كثير 2 : 110 - كما قلنا من قبل - عن رواية ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عبد الرحمن الرقي ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد : " أنبأنا حميد الطويل ، ورجل آخر قد سماه ، يعني يزيد الرقاشي ، عن أنس " . وفيه : " يعني ألف دينار " .
فالرجل الآخر المبهم في رواية الحاكم ، يحتمل أن يكون أبان بن أبي عياش ، كما في رواية الطبري هذه ، ويحتمل أن يكون يزيد الرقاشي ، كما في رواية ابن أبي حاتم ، ويزيد بن أبان الرقاشي : ضعيف أيضًا ، كما مضى في شرح : 6654.
وقد ذكر السيوطي رواية الحاكم ، في هذا الموضع من تفسير آية آل عمران 2 : 10 وذكر رواية الطبري التي هنا ، في موضعها من تفسير الآية : 20 من سورة النساء ، الدر المنثور 2 : 133.
ولفظ الحديث هنا اضطربت فيه النسخ ، ففي المطبوعة : " ألفا مئين ، يعني ألفين " وذكر مصححها بالهامش أن هذا في بعض النسخ ، وأن في بعضها : " ألفًا ومئين " . ورواية السيوطي - نقلا عن الطبري : " ألفا ومئتين ، يعني ألفين " .
والراجح عندي أن هذا كله تحريف ، وأن الصحيح اللفظ الذي في رواية الحاكم.

(6/250)


القول في تأويل قوله : { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " المسوَّمة " .
فقال بعضهم : هى الراعية.
ذكر من قال ذلك :
6729 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن

(6/251)


أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : " الخيل المسوّمة " ، قال : الراعية ، التي ترعى.
6730 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
6731 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير مثله.
6732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : هي الراعية ، يعني : السائمة.
6733 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن طلحة القناد قال ، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول : الراعية.
6734 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " والخيل المسومة " . قال : الراعية.
6735 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، : " والخيل المسومة " المسرَّحة في الرّعي.
6736 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " والخيل المسوّمة ، قال : الخيل الراعية.
6737 - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد : أنه كان يقول : الخيل الراعية.
* * *
وقال آخرون : " المسوّمة " : الحسان.
ذكر من قال ذلك :
6738 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب قال : قال مجاهد : " المسوّمة " ، المطهَّمة.
6739 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد في قوله : " والخيل المسومة " ، قال : المطهَّمة الحسان.

(6/252)


6740 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " والخيل المسوّمة " ، قال : المطهمة حسْنًا.
6741 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6742 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد : المطهمة.
6743 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال : سألت عكرمة عن " الخيل المسوّمة " ، قال : تَسويمها ، حُسنها. (1)
6744 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال : سمعت عكرمة يقول : " الخيل المسوّمة " ، قال : تسويمها : الحُسن. (2)
6745 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الخيل المسوّمة والأنعام " ، الرائعة.
* * *
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى ، قال : الراعية.
* * *
وقال آخرون : " الخيل المسوّمة " ، المعلَمة.
__________
(1) الأثر : 6743 - " أبو عبد الرحمن المقرئ " هو : " عبد الله بن يزيد العدوي مولى آل عمر " مترجم في التهذيب. و " بشير بن أبي عمرو الخولاني " مصري ، روى عن عكرمة والوليد بن قيس التجيبي ، روى عنه سعيد بن أبي أيوب والليث وابن لهيعة. ثقة مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 377. وفي المطبوعة والمخطوطة : " بشر بن أبي عمرو الخولاني " وهو خطأ.
(2) الأثر : 6744 - في المخطوطة والمطبوعة : " بشر بن أبي عمرو الخولاني " وهو خطأ. انظر التعليق السالف.

(6/253)


ذكر من قال ذلك :
6746 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " والخيل المسوّمة " ، يعني : المعلَمة.
6747 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " والخيل المسوّمة " ، وسيماها ، شِيَتُها. (1)
6748 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " والخيل المسوّمة " ، قال : شِيَة الخيل في وُجوهها.
* * *
وقال غيرهم : " المسوّمة " ، المعدّة للجهاد.
ذكر من قال ذلك :
6749 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " والخيل المسومة " ، قال : المعدّة للجهاد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " والخيل المسوّمة " ، المعلَمة بالشِّيات ، الحسان ، الرائعة حسنًا من رآها. لأن " التسويم " في كلام العرب : هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها ، وهي " المطهَّمة " ، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل :
بِضُمْرٍ كَالقِدَاحِ مُسوَّماتٍ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ (2)
__________
(1) " الشية " : كل ما خالف اللون من جميع جسد الفرس أو غيره ، وجمعها " شيات " ، وأصلها من " الوشي " . وشي الثوب وشيًا وشية : حسنه ونمنمه ونقشه.
(2) ديوانه : 86 ، من قصيدته حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي ، وقتلت بنو أسد منهم رجلين ، فأراد عيينة بن حصن عون بني عبس ، وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان ، فقال : إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ثم أثنى عليهم ، وذكر أيامهم ، فمما ذكر : وَقَدْ زَحَفُوا لِغَسَّانٍ بزَحْفٍ ... رَحِيبِ السَّرْبِ أَرْعَنَ مُرْجَحِنِّ
بِكُلِّ مُحَرَّبٍ كاللَّيْثِ يَسْمُو ... عَلَى أوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
وضُمْرٍ كَالقِدَاحِ . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " بسمر " ، وليس من صفة الجياد أن يقال " سمر " ، بل السمر الرماح ، أما الضمر (بضم فسكون) فجمع ضامر ، وقياس جمعه ضوامر ، إلا أن (فاعل) الصفة منه ما يجمع على (فعل) بضم الفاء والعين ، مثل " بازل وبزل ، وشارف وشرف " ، شبهوه بفعول لمناسبته له في عدد الحروف. ثم يخفف (فعل) عند بني تميم فتسكن عينه. والقداح جمع قدح (بكسر فسكون) : وهو السهم إذا قوم وأنى له أن يراش. تشبه به الخيل الضوامر.

(6/254)


يعني ب " المسوّمات " ، المعلمات ، وقول لبيد :
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ... زُجَلا يُلُوحُ خِلالَهَا التَّسْوِيمُ (1)
فمعنى تأويل من تأول ذلك : " المطهمةَ ، والمعلمة ، والرائعة " ، واحدٌ.
* * *
وأما قول من تأوّله بمعنى : الراعية ، فإنه ذهب إلى قول القائل : " أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة " ، إذا رعيتها الكلأ والعشب ، كما قال الله
__________
(1) ديوان قصيدة : 16 ، البيت : 41 ، والبيت من أبيات في القصيدة يذكر فيها عزه وعز قومه ، أولها : إنِّي امْرُءٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِى ، وقد جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
جَهَدُوا العَدَاوةَ كُلَّها ، فأَصَدَّها ... عِّني مَنَاكِبُ عِزُّها مَعْلُومُ
مِنْها : حُوَيٌّ ، والذُّهابُ ، وقَبْلَهُ ... يَوْمٌ بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ كَرِيمُ
وغَدَاةَ قَاعِ القُرْنتين. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و " حوى " ، و " الذهاب " و " برقة رحرحان " و " قاع القرنتين " كلها مواضع كانت لقومه فيها وقائع ، ظفروا فيها. وقوله : " أتينهم " الضمير للخيل عليها أصحابها. والضمير الآخر لأعدائه. والزجل جمع زجلة (بضم فسكون) : الجماعة من الناس والخيل. ورواية ديوانه : " رهوًا " ، أي متتابعة. وخلالها : وسطها.

(6/255)


عز وجل : ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) [سورة النحل : 10] ، بمعنى : ترعَوْن ، ومنه قول الأخطل :
مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كآخَرَ مِثْلِهِ ، ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الأجْمَالِ! (1)
يعني بذلك : راعية الأجمال. فإذا أريد أنّ الماشية هي التي رعت ، قيل : " سامت الماشية تسوم سومًا " ، ولذلك قيل : " إبل سائمة " ، بمعنى : راعية ، غير أنه غير مستفيض في كلامهم : " سوَّمتُ الماشيةَ " ، بمعنى أرعيتها ، وإنما يقال إذا أريد ذلك : " أسمتها " .
* * *
__________
(1) ديوانه : 159 ، والأغاني 8 : 319 ، وطبقات فحول الشعراء : 418 ، وسيأتي في التفسير 14 : 60 (بولاق) ، وهو من قصيدته التي رفع فيها ذكر عكرمة بن ربعي الفياض ، كاتب بشر بن مروان. وذلك أن الأخطل أتى حوشب بن رويم الشيباني فقال : إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي! فنهره. فأتى شداد بن البزيعة ، (هو شداد بن المنذر الذهلي ، أخو الحضين بن المنذر صاحب راية علي يوم صفين) ، فسأله ، فاعتذر إليه شداد. فأتى عكرمة الفياض فأخبره بما قال له الرجلان ، فقال : أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك ، ولكني أعطيك إحداهما عينًا ، والأخرى عرضًا. فأشاد به الأخطل وهجا الرجلين فقال : وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى رَبِيعَةَ كلَّها ... وكَفَيْتَ كُلَّ مُواِكلٍ خَذّالِ
كَزْمِ اليَدَيْنِ عَنِ العَطِيَّةِ مُمْسِكٍ ... لَيْسَتْ تَبِضُّ صَفَاتُهُ ببِلالِ
كابنِ البَزِيَعةِ ، أو كآخَرَ مِثْلِه ، ... أَوْلَى لك ابْنَ مُسِيَمةِ الأَجْمَالِ!
إِنَّ اللَّئِيمَ إذَا سَأَلْتَ بَهَرْتَهُ ... وترَى الكَرِيمَ يَرَاحُ كالمُخْتَالِ
وفي المخطوطة : " أولى ابن مسيمة... " ، خطأ. " وابن البزيعة " ، هو " ابن بزعة " في رواية الطبري هنا. والبزيعة (على وزن كريمة) أم شداد بن المنذر. وقد ضبطتها في طبقات فحول الشعراء بالتصغير ، اتباعًا لما في تاريخ الطبري مضبوطًا بالقلم. ولكني هنا أستدرك هذا ، وأرجح أني كما ضبطته هنا : " البزيعة " : الجارية الظريفة المليحة الذكية القلب. وقد ذكر شداد بن بزيعة عند زياد بن أبي سفيان في الشهود وهو (زياد بن سمية ، وابن أبيه) فلما قيل : " ابن بزيعة " قال : ما لهذا أب ينسب إليه ؟ ألقوا هذا من الشهود " . فقيل له : إنه أخو حضين بن المنذر! قال : فانسبوه إلى أبيه. فبلغ ذلك شدادًا فقال : ويل علي ابن الزانية! أو ليست أمه أعرف منه بأبيه ؟ والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية!! (تاريخ الطبري 6 : 151).

(6/256)


فإذْ كان ذلك كذلك ، فتوجيه تأويل " المسوّمة " إلى أنها " المعلمة " بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها ، أصحّ.
* * *
وأما الذي قاله ابن زيد : من أنها المعدّة في سبيل الله ، فتأويل من معنى " المسوّمة " ، بمعزِلٍ.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ }
قال أبو جعفر : فـ " الأنعام " جمع " نَعَم " ، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه : من الضّأن والمعِز والبقر والإبل. (1)
* * *
وأما " الحرث " ، فهو الزّرع. (2)
* * *
وتأويل الكلام : زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء ، ومن البنين ، ومن كذا ، ومن كذا ، ومن الأنعام والحرث.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جَل ثناؤه : " ذلك " ، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة
__________
(1) في سورة الأنعام : 142 - 144.
(2) انظر تفسير " الحرث " فيما سلف 4 : 240 - 243 ، 397.

(6/257)


والأنعام والحرث. فكنى بقوله : " ذلك " عن جميعهن. وهذا يدل على أن " ذلك " يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني ، ويكنى به عن جميع ذلك.
* * *
وأما قوله : " متاع الحياة الدنيا " ، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً ، فيتبلَّغون به فيها ، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم ، وسببًا لقضاء شهواتهم ، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، (1) دون أن تكون عدّة لمعادهم ، وقُرْبة لهم إلى ربهم ، إلا ما أسلِك في سبيله ، وأنفق منه فيما أمَر به. (2)
* * *
وأما قوله : " والله عنده حسن المآب " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وعند الله حُسن المآب يعني : حسن المرْجع ، كما : -
6750 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدّي : " والله عنده حسن المآب " ، يقول : حسن المنقلب ، وهي الجنة.
* * *
وهو مصدر على مثال " مَفْعَل " من قول القائل : " آب الرجل إلينا " ، إذا رجع ، " فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا " ، (3) غير أن موضع الفاء منها مهموز ، والعين مبدلة من " الواو " إلى " الألف " بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح ، (4) وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت " ألفا " ، كما قيل : " قال " فصارت عين الفعل " ألفًا " ، لأن حظها الفتح. " والمآب " مثل " المقال " و " المعاد " و " المجال " ، (5)
__________
(1) في المخطوطة : " زين لهم حملها... " ، وهو من أوهام صاحبنا الناسخ.
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 1 : 539 ، 540 / ثم 3 : 55 / ثم 5 : 260.
(3) " أيبة " بفتح الهمزة وكسرها وسكون الياء ، وهي على المعاقبة من الواو.
(4) في المخطوطة : " قلنا كان حظها... " وهي من لطائف صاحبنا غفر الله له.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " المحال " بالحاء ، والصواب ما أثبت.

(6/258)


قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

كل ذلك " مفعَل " منقولة حركة عينه إلى فائه ، فمصيَّرةٌ واوه أو ياؤه " ألفًا " لفتحة ما قبلها.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " والله عنده حسن المآب " ، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟
قيل : إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس ، ومعنى ذلك : (1) والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها.
* * *
فإن قال : وما " حسن المآب " ؟ قيل : هو ما وصفه به جل ثناؤه ، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها ، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : قل ، يا محمد ، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين ، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه : " أؤنبئكم " ، أأخبركم وأعلمكم (2) " بخير من ذلكم " ، يعني : بخير وأفضل لكم " من
__________
(1) في المخطوطة كتب " وبين " والواو متصلة بما بعدها ، حتى ما تكاد تقرأ ، والذي في المطبوعة لا بأس به في قراءة هذه الكلمة.
(2) انظر تفسير " أنبأ " فيما سلف 1 : 488 ، 489.

(6/259)


ذلكم " ، يعني : مما زُيِّن لكم في الدنيا حبُّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا.
* * *
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام.
فقال بعضهم : تناهى ذلك عند قوله : " من ذلكم " ، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم ، فقيل : " للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " ، فلذلك رفع " الجنات " .
* * *
ومن قال هذا القول لم يجز في قوله : " جنات تجري من تحتها الأنهار " إلا الرفع ، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله : " بخير " ، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم ، ففيه إبانة عن معنى " الخير " الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : للناس : أؤنبئكم به ؟ " والجنات " على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " .
* * *
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إن جعلت اللام التي في قوله : " للذين " من صلة " الإنباء " ، جاز في " الجنات " الخفض والرفع : الخفضُ على الرد على " الخير " ، والرفع على أن يكون قوله : " للذين اتقوا " خبرَ مبتدأ ، على ما قد بيَّناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون : بل منتهى الاستفهام قوله : " عند ربهم " ، ثم ابتدأ : " جناتٌ تجري من تحتها الأنهار " . وقالوا : تأويل الكلام : " قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم " ، ثم كأنه قيل : " ماذا لهم " . أو : " ما ذاك " ؟ (1) فقال : هو " جناتٌ تجري من تحتها الأنهار " ، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بعد هذا ، وقيل قوله : " فقال : هو جنات... " ما نصه : " أو على أنه يقال : ماذا لهم ؟ أو ما ذاك ؟ " ومن البين أن هذا تكرار لا معنى له ، وأنه من سهو الناسخ الكثير السهو. فمن أجل ذلك طرحته من المتن.

(6/260)


قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قولُ من جعل الاستفهام متناهيًا عند قوله : " بخير من ذلكم " ، والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : " للذين اتقوا عند ربهم جنات " ، فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر ، وهو إبانة عن معنى " الخير " الذي قال : أؤنبئكم به ؟ (1) فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : وأما قوله : " خالدين فيها " ، فمنصوب على القطع (2)
* * *
ومعنى قوله : " للذين اتقوا " ، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (3) " عند ربهم " ، يعني بذلك : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم.
* * *
" والجنات " ، البساتين ، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى وأنّ قوله : " تجري من تحتها الأنهار " ، يعني به : من تحت الأشجار ، وأن " الخلود " فيها دوام البقاء فيها ، وأن " الأزواج المطهرة " ، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أنبئكم به " ، والصواب ما أثبت ، وانظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 195 - 198.
(2) عند هذا انتهى آخر جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه :
" يتلوه : وأما قوله : {خالدين فيها} فمنصوب على القطع.
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطاهرين وسَلّم كثيرًا "
ويتلوه ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم " .
" القطع " ، يعني : الحال ، كما بينت في 2 : 392 ، والمراجع هناك ، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. ثم انظر ما سيأتي : ص 270 ، تعليق : 3 .
(3) انظر تفسير " اتقى " في فهارس اللغة مادة " وقى " .

(6/261)


أذًى يكون بنساء أهل الدنيا ، من الحيض والمنىّ والبوْل والنفاس وما أشبه ذَلك من الأذى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله : " ورِضْوَانٌ من الله " ، يعني : ورضى الله ، وهو مصدر من قول القائل : " رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى " منقوص " ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً " . فأما " الرُّضوان " بضم الراء ، فهو لغة قيس ، وبه كان عاصم يقرأ.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير رضْوانَه ، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة ، كما : -
6751 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخل أهلُ الجنة الجنة ، قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون : أيْ ربنا ، أيّ شيء أفضل من هذا ؟ قال : رِضْواني. (2)
* * *
وقوله : " والله بصير بالعباد " ، يعني بذلك : واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه ، (3) فيطيعه ، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى
__________
(1) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف 1 : 384 / ثم 5 : 535 ، 542 وتفسير " الخلود " فيما سلف 1 : 397 ، 398 / 2 : 286 / 4 : 317 / 5 : 429 وتفسير " الأزواج المطهرة " فيما سلف 1 : 395 - 397.
(2) الأثر : 6751 - هذا خبر غير مرفوع ، ولكن شاهده من المرفوع ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة! يقولون : لبيك ربنا وسعديك! فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك! قالوا : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبدًا " .
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى حديث جابر في الفتح 11 : 364 ، وقال : عند البزار وصححه ابن حبان " . ولم أجد لفظه.
(3) انظر تفسير " بصير " فيما سلف 2 : 140 ، 376 ، 506 / ثم 5 : 76 ، 167.

(6/262)


ذكره وبالذي لا يتقيه فيخافه ، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زيِّن له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال ، على ما عنده من النعيم المقيم عالمٌ تعالى ذكره بكلّ فريق منهم ، حتى يجازي كلَّهم عند معادهم إليه جزاءَهم ، المحسنَ بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته.
* * *

(6/263)


الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)

القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) }
قال أبو جعفر : ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ، [الذين] يقولون : " ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار " .
* * *
وقد يحتمل " الذين يقولون " ، وجهين من الإعراب : الخفض على الردّ على " الذين " الأولى ، والرفع على الابتداء ، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها " الذين " الأولى ، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) [سورة التوبة : 111] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ) [سورة التوبة : 112]. ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا. (1)
* * *
ومعنى قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا " : الذين يقولون : إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك " فاغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : فاستر علينا ذنوبنا ، بعفوك عنها ، وتركك عقوبتنا عليها " وقنا عذاب النار " ،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 198.

(6/263)


الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك : لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار ، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
* * *
وأصل قوله : " قنا " من قول القائل : " وقى الله فلانًا كذا " ، يراد : دفع عنه ، " فهو يقيه " . فإذا سأل بذلك سائلٌ قال : " قِنِى كذا " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " الصابرين " ، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ " الصادقين " ، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده ، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ " القانتين " ، المطيعين له.
* * *
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها ، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما : -
6752 - حدثنا به بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير " قنا " و " وقى " فيما سلف 4 : 206.
(2) انظر تفسير " الصابرين " فيما سلف 2 : 11 / ثم 3 : 214 ، 349 وتفسير " الصادقين " فيما سلف 3 : 356 وتفسير " القانتين " فيما سلف 2 : 538 ، 539 / ثم 5 : 228 - 237.

(6/264)


قوله : " الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين " ، " الصادقين " : قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم ، وصَدقوا في السرّ والعلانية " والصابرين " ، قوم صبروا على طاعة الله ، وصَبروا عن محارمه " والقانتون " ، هم المطيعون لله.
* * *
وأما " المنفقون " ، فهم المؤتون زكوات أموالهم ، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها ، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (1)
* * *
وأما " الصابرين " و " الصادقين " ، وسائر هذه الحروف ، فمخفوض ردًا على قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا " ، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله : " الذين يقولون " خفض ، ردًّا على قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم : هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك :
6753 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " ، هم أهل الصلاة.
6754 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " ، قال : يصلون بالأسحار.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف : 5 : 555 ، 580.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 199.

(6/265)


وقال آخرون : هم المستغفرون.
ذكر من قال ذلك :
6755 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حريث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحرٌ ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (1)
6756 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل : " والمستغفرين بالأسحار " ، قال : حدثني سليمان بن موسى قال ، حدثنا نافع : أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول : يا نافع ، أسحَرْنا ؟ فيقول : لا. فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
6757 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن بعض البصريين ، عن أنس بن مالك قال : أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
6758 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة ، كتب من المستغفرين بالأسحار.
* * *
وقال آخرون : هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
__________
(1) الأثر : 6755 - " حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري ، أبو عمر الحناط " روى عن الشعبي والحكم بن عتيبة ، وروى عنه شريك ، وابن نمير ، ووكيع ، قال ابن معين : " لا شيء " ، وقال أبو حاتم " ضعيف الحديث " . وقال البخاري : " فيه نظر ، ليس بالقوي عندهم " . وعلق له البخاري في الأضاحي ، مترجم في التهذيب. وأما " إبراهيم بن حاطب " فلم أجد له ولا لأبيه " حاطب " ترجمة ، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو سقط ، وأن يكون " حاطب " هذا ، هو " حاطب بن أبي بلتعة " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأثر بنصه هذا في تفسير ابن كثير 2 : 113 ، ولم يقل فيه شيئًا.

(6/266)


شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

ذكر من قال ذلك :
6759 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال ، (1) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال ، قلت لزيد بن أسلم : مَنْ " المستغفرين بالأسحار " ، قال : هم الذين يشهدون الصّبح.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : " والمستغفرين بالأسحار " ، قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
* * *
" بالأسحار " وهى جمع " سَحَر " .
* * *
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة ، وأولو العلم.
فـ " الملائكة " معطوف بهم على اسم " الله " ، و " أنه " مفتوحة بـ " شهد " .
* * *
قال أبو جعفر : وكان بعض البصريين يتأول قوله : " شهد الله " ، قضى الله ، ويرفع " الملائكة " ، بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم. (2)
* * *
__________
(1) أخوه هو : " عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي " ، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.
(2) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 89 ، ولم يسمه الطبري ، بل قال " بعض البصريين " . وانظر رد الطبري قوله في ص : 272.

(6/267)


وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من " أنه " ، على ما ذكرت من إعمال " شهد " في " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إن " الثانية وابتدائها. (1) سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية ، (2) كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما ، بمعنى : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ " أن الدين " على " أنه " الأولى ، ثم حذف " واو " العطف ، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) الآية. ثم قال : " أنّ الدين " ، بكسر " إنّ " الأولى ، وفتح " أنّ " الثانية بإعمال " شهد " فيها ، وجعل " أن " الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها " شَهد " وأن ابن مسعود قرأ : " شهد الله أنه لا إله إلا هو " بفتح " أن " وكسر " إنّ " من : " إنّ الدّين عند الله الإسلام " على معنى إعمال " الشهادة " في " أن " الأولى ، و " أن " الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح ، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. (3) فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت ، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود ، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته ، خروجها من قراءة أهل الإسلام.
* * *
قال أبو جعفر : فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إنّ " الثانية ، أعني من قوله :
__________
(1) يعني ، في قوله في صدر الآية التالية : " إن الدين عند الله الإسلام " .
(2) هو الكسائي ، انظر معاني القرآن للفراء 1 : 200 وتفسير القرطبي 4 : 42 ، 43.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 199 - 200.

(6/268)


" إنّ الدين عند الله الإسلام " ، ابتداءً.
* * *
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية ، في فتح " أنّ " من قوله : " أنّ الدين " ، وهو ما : -
6760 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة " إلى " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، (1) قال : الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس : أنّ الدين عند الله الإسلام.
* * *
فهذا التأويل يدل على أن " الشهادة " إنما هي عاملة في " أنّ " الثانية التي في قوله : " أن الدين عند الله الإسلام " . فعلى هذا التأويل جائز في " أن " الأولى وجهان من التأويل : (2)
أحدهما : أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط ، بمعنى : شهد الله بأنه واحد فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية ، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم " والشهادة " عاملة في " أن " الثانية ، كأنك قلت : شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام ، لإنه واحدٌ ، ثم تقدم " لأنه واحد " ، فتفتحها على ذلك التأويل.
والوجه الثاني : أن تكون " إنّ " الأولى مكسورة بمعنى الابتداء ، لأنها معترضٌ بها ، " والشهادة " واقعة على " أنّ " الثانية : فيكون معنى الكلام : شهد
__________
(1) في المطبوعة : " فإن الله يشهد " ، وفي المخطوطة : فأن الله يشهد " ، وكأن صواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة : " في أن في الأولى وجهان " ، أما المخطوطة فقد وضع فوق " أن " " في " صغيرة. كأنه أراد : " جائز في الأولى " ، بحذف " أن " ، لأنه لم يضع علامة تدل على الزيادة. فلذلك أسقطتها.

(6/269)


الله فإنه لا إله إلا هو - والملائكة ، أنّ الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : " أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ " ، فـ " إن " الأولى مكسورة ، لأنها معترضة ، " والشهادة " واقعة على " أنّ " الثانية. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " قائمًا بالقسط " ، فإنه بمعنى : أنه الذي يلي العدل بين خلقه.
* * *
" والقسط " ، هو العدل ، من قولهم : " هو مقسط " و " قد أقسط " ، إذا عَدَل. (2)
* * *
ونصب " قائمًا " على القطع. (3)
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من " هو " التي في " لا إله إلا هو " .
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم " الله " الذي مع قوله : " شهد الله " ، فكان معناه : شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : ( وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ ) ، ثم حذفت " الألف واللام " من " القائم " ، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة ، فنصب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ، قولُ من جعله قَطعًا ، (4)
__________
(1) انظر بيان ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1 : 200.
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص : 77.
(3) " القطع " هو الحال ، كما سلف منذ قريب : ص : 261. تعليق : 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1 : 200 إذ قال : " منصوب على القطع ، لأنه نكرة نعت به معرفة " . وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول : " جاءني زيد الراكب " بالرفع ، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة ، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول : " جاءني زيد راكب " بالرفع ، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة ، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت ، فتنصبه ، فيكون حالا. فذلك تفسير " القطع " على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح ، لاستعمال الفراء إياه ، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا ، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك " أنه حال " في الجمل الآتية.
(4) " القطع " هو الحال ، كما سلف منذ قريب : ص : 261. تعليق : 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1 : 200 إذ قال : " منصوب على القطع ، لأنه نكرة نعت به معرفة " . وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول : " جاءني زيد الراكب " بالرفع ، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة ، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول : " جاءني زيد راكب " بالرفع ، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة ، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت ، فتنصبه ، فيكون حالا. فذلك تفسير " القطع " على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح ، لاستعمال الفراء إياه ، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا ، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك " أنه حال " في الجمل الآتية.

(6/270)


على أنه من نعت الله جل ثناؤه ، لأن " الملائكة وأولي العلم " ، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله : " قائمًا " حالا منه.
* * *
وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. (1)
* * *
ويعني ب " العزيز " ، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه (2) " الحكيم " في تدبيره ، فلا يدخله خَلل. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة ، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا ، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه ، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه ، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه ، تعظيمًا لنفسه ، وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها ، كما سنّ لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدِّبًا خلقه بذلك.
__________
(1) قوله : " العبودة " هو مصدر من " عبد " على وزن " شرف " يقال : " هو عبد بين العبودة والعبودية والعبدية " وقد استعملها الطبري بهذا المعنى فيما سلف 3 : 347 ، وانظر التعليق هناك. وهو بمعنى الخضوع والتذلل ، فكأنه استعمله هنا أيضًا بذلك المعنى ، كأنه قال : فإنه نفي أن يكون شيء يستحق الخضوع له والتذلل ، غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. وقد صرح ابن القطاع في كتاب الأفعال 2 : 337 أن مصدر " عبد الله يعبده " : " عبادة وعبودة وعبودية " ، أي : خدم ، وذل أشد الذل.
(2) انظر تفسير " العزيز " فيما سلف 3 : 88 / ثم هذا ص : 168 ، 169 وفهارس اللغة (عزز).
(3) انظر تفسير " الحكيم " فيما سلف 3 : 88 ، وفهارس اللغة (حكم).

(6/271)


والمرادُ من الكلام ، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه : (1) من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم ، (2) منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى ، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق ، (3) فقال : شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى.
* * *
واعترض بذكر الله وصفته ، على ما بيَّنتُ ، (4) كما قال جل ثناؤه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) [سورة الأنفال : 41] ، افتتاحًا باسمه الكلام ، (5) فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه : من نَفْي الألوهة عن غيره ، وتكذيب أهل الشرك به.
* * *
فأما ما قال الذي وصفنا قوله : من أنه عنى بقوله : " شهد " ، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن " الشهادة " ، معنًى ، " والقضاء " غيرها. (6)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فقدموه " كأنه أراد معنى : " البدء بذكره تعالى " ، ولو كان كذلك لكان أجود أن يقول : " فقدموا ذكره " ، ولكنى أستظهر من سياق كلامه معنى التنزيه ، فلذلك رأيت أنها تصحيف قوله : " فقدسوه " .
(2) سياق الكلام : فأعلمهم أن ملائكته. . . وأهل العلم منهم ، منكرون. . . " .
(3) قوله : " وقول من اتخذ ربًا غيره. . . " بنصب " وقول " عطفًا على قولهم " ما هم عليه مقيمون " ، وهو مفعول به لقوله : " منكرون " .
(4) في المطبوعة : " على ما نبينه " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، ولكنه لم يحسن قراءتها.
(5) معنى ذلك : أن ذكر " الله " في آية الأنفال هذه ، إنما هي افتتاح كلام ، قال أبو جعفر في تفسيرها (10 : 3 بولاق) : " قال بعضهم : قوله : " فأن الله خمسه " مفتاح كلام ، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما. وإنما معنى الكلام : فأن للرسول خمسه " . وهذا القول هو الذي رجحه الطبري في تفسير الآية هناك.
(6) هذا رد على مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن ، كما سلف في ص : 267 تعليق : 2.

(6/272)


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك.
6761 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " ، بخلاف ما قالوا - يعني : بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى " قائمًا بالقسط " ، أي بالعدل. (1)
6762 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بالقسط " ، بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
قال أبو جعفر : ومعنى " الدين " ، في هذا الموضع : الطاعة والذّلة ، من قول الشاعر : (2)
وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّ... وَكَانَ النَّاسُ ، إِلا نَحْنُ دِينَا (3)
__________
(1) الأثر : 6761 - هو ما رواه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق 2 : 227 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها فيما سلف رقم : 6649.
(2) لم أعرف قائله بعد.
(3) سيأتي في التفسير 26 : 115 (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين) ، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت ، ولم أعرف " يوم الحزن " ، ما أراد به. وأظن " حشدت " ، " حشرت " من " الحشر " ، والبيت الذي يليه : عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ ، حتَّى ... صَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَا
هكذا صححته هنا من معاني القرآن للفراء ، تفسير سورة (ق) مخطوطة ، وهو في المطبوعة من التفسير (26 : 115) " صحبنا الخوف أكفًا " وهو كلام لا معنى له. وقد قال الطبري بعد هذا البيت هناك " ويروى : الحوف. وقال : أراد بالجبار : المنذر ، لولايته " وصوابه " الجرف " فإذا كان ذلك كذلك ، فأكبر ظني أنه كما أثبته " الجرف " (بضم الجيم وسكون الراء) : وهو موضع بالحيرة كانت به منازل المنذر.
وفي الطبري هناك " صحبنا " وهو خطأ. و " صبحنا " ، من قولهم : " صبح القوم شرًا " أي جاءهم به ، و " صبحتهم الخيل " ، جاءتهم صبحًا. و " ألفًا " يعني : ألف فرس عليها فرسانها. و " المعلم " : الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان ، أو جعل على فرسه علامة ، فهو فرس معلم. يريد : غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله ، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري " حرمة الجبار " ، والتصحيح من معاني القرآن للفراء ، كما أسلفت.

(6/273)


يعني بذلك : مطيعين على وجه الذل ، ومنه قول القطامي :
كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (1)
يعني : تُذلك ، وقول الأعشى ميمون بن قيس :
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ ... ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2)
يعني بقوله : " دان " ذلل وبقوله : " كرهوا الدين " ، الطاعة.
* * *
وكذلك " الإسلام " ، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع ، والفعل منه : " أسلم " بمعنى : دخل في السلم ، كما يقال : " أقحط القوم " ، إذا دخلوا في القحط ،
__________
(1) ديوانه : 15 ، من أبيات جياد وصف فيها صاحبته " أميمة " ، وسماها " جنوب " في البيت الذي رواه الطبري ، وسماها " نوار " ، ويروى : " ظلوم " ، فكان مما قال : رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ ، بَعْدَ ما ... كانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا
" " أي " : تفعل بك الأفاعيل. ويقال : تستعبدك ، أو : أنها كانت تعذبك. أو تدينك : تجزيك " . وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌ ... شَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَا
فَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ ، فَلاَ تُجِبْ ... فَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَا
نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةً ... وعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَا
وَإذَا وَعَدْنَ ، فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍ ... خُلْفًا ، وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَا
وَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً ، ... فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا!
وهذا شعر بارع مقدم.
(2) مضى بيان هذا البيت فيما سلف 3 : 571.

(6/274)


" وأربعوا " ، إذا دخلوا في الربيع فكذلك " أسلموا " ، إذا دخلوا في السلم ، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. (1)
* * *
فإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل قوله : " إنّ الدّين عند الله الإسلام " : إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده ، الطاعةُ له ، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة ، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى ، وتذلُّلها له بذلك ، من غير استكبار عليه ، ولا انحراف عنه ، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6763 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنّ الدين عندَ الله الإسلام " ، والإسلام : شهادة أنّ لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، (3) وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه ، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.
6764 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال ، حدثنا أبو العالية في قوله : " إن الدين عند الله الإسلام " ، قال : " الإسلام " ، الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له ،
__________
(1) انظر تفسير " الإسلام " و " السلم " فيما سلف 2 : 510 ، 511 / ثم 3 : 73 ، 74 ، 92 ، 94 ، 110 / ثم 4 : 251 - 255.
(2) في المطبوعة : " في العبودية والألوهية " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص : 271 ، تعليق : 1. و " الألوهة ، والإلاهة ، والألوهية " : العبادة ، وانظر ما سلف 1 : 124 وما قبلها.
(3) قوله : " بما جاء به " ، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله " ، ولا تتم شهادة إلا به ، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور 2 : 12 ، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ.

(6/275)


وإقامُ الصّلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.
6765 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( أَسْلَمْنَا ) [سورة الحجرات : 14] ، قال : دخلنا في السِّلم ، وتركنا الحرب. (1)
6766 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إنّ الدين عند الله الإسلام " ، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ ، والتصديق للرسل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو " الكتاب " الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى ، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم ، وتشتّتت بها كلمتهم ، وباين بها بعضهم بعضًا ؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض " إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم " ، يعني : إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره ، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (3) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل ، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله ، على علم منهم بخطأ
__________
(1) الأثر : 6765 - سيأتي في تفسير " سورة الحجرات " (26 - 90 بولاق) ، بغير هذا اللفظ مطولا : " وأسلمنا : استسلمنا ، دخلنا في السلم ، وتركنا المحاربة والقتال " . وإسناده هو هو.
(2) الأثر : 6766 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2 : 227 ، وأسقط " من " من قوله : " من التوحيد " . وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6761.
(3) انظر تفسير " البغي " فيما سلف 2 : 342 / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف 4 : 281 ، 282.

(6/276)


ما قالوه ، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه ، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه ، تعدِّيًا من بعضهم على بعض ، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان ، كما : -
6767 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " ، قال : قال أبو العالية ، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم " بغيًا بينهم " ، يقول : بغيًا على الدنيا ، وطلبَ ملكها وسلطانها ، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا ، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.
6768 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن ابن عمر : أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية : " إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم " ، يقول : بغيًا على الدنيا ، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا ، (1) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه ، ولكنا أتِينا من قبلها.
6769 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل ، فاستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليه ، كلّ حبر جُزءًا منه ، (2) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث ، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى
__________
(1) في المطبوعة : " ما كان علينا من يكون بعد أن يأخذ فينا... " حذف " علينا " الثانية فاختلط الكلام اختلاطًا ، والصواب من المخطوطة. ومعناه : ما كان يضيرنا أن يكون علينا واليًا كائنًا من كان ، بعد أن يقيم فينا كتاب الله وسنة رسوله ؟
(2) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا ، وفي الدر المنثور 2 : 13 ، كأنه قال : استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها.

(6/277)


أهَرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم ، بغيًا بينهم على الدنيا ، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها ، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم ، فقال الله : " إن الدّين عند الله الإسلام " إلى قوله : " والله بصير بالعباد " .
* * *
فقولُ الربيع بن أنس هَذا ، (1) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " ، اليهودُ من بني إسرائيل ، دون النَّصارى منهم ، وغيرهم. (2)
* * *
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك :
6770 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم " ، الذي جاءك ، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك " بغيًا بينهم " ، يعني بذلك النصارى. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يقول الربيع بن أنس هذا يدل... " ، وهو فاسد جدًا. فإن هذا قول الطبري وتعليقه على خبر الربيع. والصواب ما أثبت ، كما هو ظاهر.
(2) قوله : " دون النصارى منهم " معناه : دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله : " وغيرهم " ، أي : ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم ، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم 6768. وكان في المطبوعة : " دون النصارى منهم ومن غيرهم " ، وهي جملة لا يستقيم معناها ، فحذفت " من " لذلك.
(3) الأثر : 6770 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2 : 227 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6766 ، وقوله : " يعني بذلك النصارى " ، ليس في ابن هشام ، وكأنه من تفسير الطبري للخبر.

(6/278)


القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل ، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر ، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا ، فمجازيه بها في الآخرة ، فإنه جل ثناؤه " سريع الحساب " ، يعني : سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله ، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم ، أو يعونه بقلوبهم ، ولكنه يحفظ ذلك عليهم ، بغير كلفة ولا مؤونة ، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى " سريع الحساب " ، كان مجاهد يقول :
6771 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب " ، قال : إحصاؤه عليهم.
6772 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " ، إحصاؤه.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الكفر " و " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) ، و (أبى). وتفسير " سريع الحساب " فيما سلف 4 : 207 ، وأيضًا : 274 ، 275 / ثم : هذا : 101 ، 102.

(6/279)


فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

القول في تأويل قوله : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن حاجَّك : يا محمد ، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه ، فخاصموك فيه بالباطل ، (1) فقل : انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول : " أسلمت وجهي لله " ، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء ، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. (2)
* * *
وأما قوله : " ومن اتبعني " ، فإنه يعني : وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و " من " معطوف بها على " التاء " في " أسلمت " ، كما : -
6773 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فإن حاجُّوك " أي : بما يأتونك به من الباطل ، من قولهم : " خَلقنا ، وفعلنا ، وجعلنا ، وأمرنا " ، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق " فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حاج " فيما سلف 3 : 120 ، 201 / ثم 5 : 429 ، 430.
(2) انظر تفسير " أسلم وجهه " فيما سلف 2 : 510 - 512 ، وتفسير " الإسلام " في مراجعه التي ذكرتها آنفًا ص : 275 تعليق : 1.
(3) الأثر : 6773 - رواه ابن هشام في سيرته 2 : 227 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6770.

(6/280)


القول في تأويل قوله : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وقل " ، يا محمد ، للذين أوتوا الكتاب " من اليهود والنصارى " والأميين " الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب " أأسلمتم " ، يقول : قل لهم : هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين ، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم ، (1) وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه " فإن أسلموا " ، يقول : فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له " فقد اهتدوا " ، يعني : فقد أصابوا سبيل الحق ، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. (2)
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : " فإن أسلموا فقد اهتدوا " عقيب الاستفهام ؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل : " هل تقوم ؟ فإن تقم أكرمك " ؟
قيل : ذلك جائز ، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، كما قال جل ثناؤه : ( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [سورة المائدة : 91] ، يعني : انتهوا ، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى : ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) [سورة المائدة : 112] ، وإنما هو مسألة ، كما يقول الرجل : " هل أنت
__________
(1) " الأشراك " جمع " شريك " ، كما يقال : يتيم وأيتام وشريف وأشراف. وقياسه شركاء ، مثل شرفاء.
(2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف في فهارس اللغة. وتفسير " الأميين " فيما سلف : 257 - 259 ، والأثر رقم : 5827 ، وفي كلام الطبري نفسه 5 : 441 ، تعليق : 2.

(6/281)


كافٌّ عنا " ؟ بمعنى : اكفف عنا ، وكما يقول الرجل للرجل : " أينَ ، أين " ؟ بمعنى : أقم فلا تبرح ، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا ) [سورة الصف : 10 ، 11] ، ففسرها بالأمر ، (1) وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله : " هل أدلكم " ، وفي قراءة عبد الله على قوله : " آمنوا " ، على الأمر ، لأنه هو التفسير. (2)
* * *
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل :
6774 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين " ، الذين لا كتاب لهم " أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا " الآية. (3)
6775 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين " ، قال : الأميون الذين لا يكتبون.
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1 : 202 " ففسر (هل أدلكم) بالأمر " ، وما هاهنا شبيه بالصواب أيضًا. هذا ، وقراءتنا في مصحفنا " تؤمنون بالله " مكان " آمنوا " في قراءة عبد الله.
(2) هذا نص ما في معاني القرآن للفراء 1 : 202.
(3) الأثر : 6774 - ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2 : 227 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6773.

(6/282)


القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن تولوا " ، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين ، (1) فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي ، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي " والله بصيرٌ بالعباد " ، (2) يعني بذلك : والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام ، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه ، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (3) " إن الذين يكفرون بآيات الله " ، أي : يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها ، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، كما : -
6776 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : ثم جمع أهل الكتابين جميعًا ، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا ،
__________
(1) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 2 : 162 - 164 ، 298 ، 299 / ثم 3 : 115 ، 131 / ثم 4 : 237.
(2) انظر تفسير " بصير بالعباد " فيما سلف آنفًا : 262. والمراجع في التعليق : 3.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك جل ثناءه " والسياق يقتضي ما أثبت.

(6/283)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

من اليهود والنصارى فقال : " إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ " إلى قوله : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " . (1)
* * *
وأما قوله : " ويقتلون النبيين بغير حقّ " ، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله ، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها ، نحو زكريا وابنه يحيى ، وما أشبههما من أنبياء الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار : ( وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ ) ، بمعنى القتل.
* * *
وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة : ( وَيُقَاتِلُونَ ) ، بمعنى القتال ، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود ، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله : ( وَقَاتَلُوا ) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل : ( وَيُقَاتِلُونَ ).
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه : " ويقتلون " ، لإجماع الحجة من القرأة عليه به ، (3) مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.
__________
(1) الأثر : 6776 - ابن هشام 2 : 227 من بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6774.
(2) انظر تفسير " يقتلون النبيين بغير الحق " فيما سلف 2 : 140 - 142.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، وهي عبارة لا أرتضيها ، وأظن صوابها " لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به " . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 202 في بيان قراءة الكسائي هذه.

(6/284)


ذكر من قال ذلك :
6777 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله : " ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " ، قال : كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [قومهم] - ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون ، (1) فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم ، فيذكِّرون قومهم فيقتلون ، فهم : الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : " ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " ، قال : هؤلاء أهل الكتاب ، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم ، فيقتلونهم.
6779 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج في قوله : " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " ، قال : كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب ، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك ، (2) فهم : الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6780 - حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال ، حدثنا ابن حِمْير قال ، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجراح قال : قلت : يا رسول الله ، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة ؟
__________
(1) هكذا نص الطبري ، ونقله كذلك في الدر المنثور 2 : 13 وزدت منه ما بين القوسين. ومعنى عبارته أن الوحي كان يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل ، كما هو بين في الروايات الأخرى ، التي رواها البغوي في تفسيره (هامش ابن كثير) 2 : 117 ، 118 ، والقرطبي 4 : 46.
(2) قوله : " كان ناس من بني إسرائيل. . . كان الوحي يأتي إليهم " بحذف خبر " كان " الأولى ، عبارة فصيحة محكمة في العربية ، قد نبهت إلى مثلها مرارًا فيما سلف.

(6/285)


قال : " رجل قتل نبيًّا ، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " (1) إلى أن انتهى إلى " وما لهم من ناصرين " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم ، وهم الذين ذكر الله عز وجل. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : إنّ الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه ، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة ، والدر المنثور 2 : 13 " الذين يقتلون النبيين " ، وفي غيرها " ويقتلون " وأثبت ما جاء في رواية ابن أبي حاتم ، فيما أخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 118 ، وهو نص التلاوة.
(2) الأثر : 6780 - " أبو عبيد الوصابي : محمد بن حفص الحمصي " مضت ترجمته برقم : 129 (وانظر ما سيأتي رقم : 7009) ، وكان هناك في الإسناد " حدثني أبو عبيد الوصابي ، قال حدثنا محمد بن حفص " فرجح أخي السيد أحمد أن يكون خطأ ، وقد أصاب ، وكان الأجود حذف " قال حدثنا " من ذلك الإسناد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر " والصواب من تفسير ابن كثير 2 : 118. " وابن حمير " هو : " محمد بن حمير بن أنيس القضاعي " ، روى عن إبراهيم عن أبي عبلة ، ومحمد بن زياد الألهاني ، ومعاوية بن سلام وغيرهم. سئل عنه أحمد فقال : " ما علمت إلا خيرًا " ، وقال ابن معين : " ثقة " وقال ابن أبي حاتم : " يكتب حديثه ولا يحتج به " . وكان في المطبوعة : " ابن حميد " بالدال ، وهو خطأ ، صوابه من ابن كثير ، والبغوي بهامشه : 2 : 118. وهو مترجم في التهذيب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، وذكر أبا عبيد الوصابي هذا فقال : " أدركته وقصدت السماع منه ، فقال لي بعض أهل حمص : ليس بصدوق ، ولم يدرك محمد بن حمير ، فتركته " . أما " أبو الحسن مولى بني أسد " ، فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 6 : 364 قال ؛ : " أبو الحسن الأسدي " حدثنا عنه أبو كريب. مجهول ، انتهى. ولم ينفرد عنه أبو كريب ، بل روى عنه محمد بن حمير. وقال في روايته " مولى بني أسد ، عن مكحول " ، أخرج حديثه الطبري وابن أبي حاتم ، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه " . هذا وقد خرجه البغوي من طريق محمد بن عمرو بن حنان الكلبي ، عن محمد بن حمير " (بهامش تفسير ابن كثير 2 : 118).

(6/286)


القول في تأويل قوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فبشِّرهم بعذاب أليم " ، فأخبرهم يا محمد وأعلمهم : أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم ، وهو الموجع. (1)
* * *
وأما قوله : " أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " ، فإنه يعني بقوله : " أولئك " ، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك : أنّ الذين ذكرناهم ، هم " الذين حبطت أعمالهم " ، يعني : بطلت أعمالهم (2) " في الدنيا والآخرة " . فأما في الدنيا ، (3) فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس ، لأنهم كانوا على ضلال وباطل ، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا ، بل لعنهم وهتك أستارهم ، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم ، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً ، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة ، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه ، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها ، لأنها كانت كفرًا بالله ، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
* * *
وأما قوله : " وما لهم من ناصرين " ، فإنه يعني : وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله ، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه ، فيستنقذُهم منه. (4)
* * *
__________
(1) انظر معنى " بشر " فيما سلف 1 : 383 / 2 : 393 / 3 : 221 ثم تفسير : " أليم " فيما سلف 1 : 283 / 2 : 140 ، 377 ، 469 ، 540 / 3 : 330.
(2) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 4 : 317.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فأما قوله : في الدنيا... " ، وحذفت قوله ، لأني أرجح أنها سبق قلم من الناسخ ، لأن سياق كلامه وسياق قوله بعد : " وأما في الآخرة " يقتضي حذفها.
(4) انظر معنى " نصر " فيما سلف 2 : 35 ، 36 ، 489 ، 564 / ثم 5 : 581.

(6/287)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ألم تر " ، يا محمد (1) " إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ، يقول : الذين أعطوا حظًّا من الكتاب " يدْعون إلى كتاب الله " . (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في " الكتاب " الذي عنى الله بقوله : " يدعون إلى كتاب الله " .
فقال بعضهم : هو التوراة ، دعاهم إلى الرضى بما فيها ، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها : أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.
ذكر من قال ذلك :
6781 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو ، (3) والحارث
__________
(1) انظر تفسير " ألم تر " فيما سلف 3 : 160 / ثم 5 : 429 ، 430.
(2) انظر تفسير " نصيب " فيما سلف 4 : 206.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " نعيم بن عمرو " وكذلك جاء في تفسير القرطبي 4 : 50 ، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2 : 119 ، ولكن الذي جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2 : 201 ، " نعمان بن عمرو " ، وكذلك جاء ذكره قبل ذلك في أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيرة ابن هشام 2 : 161 ، وكذلك جاء أيضًا فيما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 14 ، ونسبه إلى ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!!

(6/288)


ابن زيد : على أيّ دين أنت يا محمد ؟ فقال : " على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلمُّوا إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه ، (1) فأنزل الله عز وجل : " ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون " إلى قوله : " ما كانوا يفترون " .
6782 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم : بيت المدراس فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلمَّا إلى التوراة (2) وقال أيضًا : فأنزل الله فيهما : " ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. (3)
* * *
وقال بعضهم : بل ذلك كتابُ الله الذي أنزله على محمد ، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ ، فأبتْ.
ذكر من قال ذلك :
6783 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم
__________
(1) في المطبوعة : " فأبوا عليه " ، وهو تصرف من سوء رأي الناشر الأول ، والصواب من المخطوطة ، وسائر المراجع المذكورة في التعليق على الأثر التالي.
(2) " فهلما " ، يعني بالتثنية ، وأما الرواية السالفة " فهلموا " جميعًا. وجاء في مطبوعة سيرة ابن هشام 2 : 201 " فهلم " مفردة ، وهو خطأ ، فإن النسخة الأوروبية من سيرة ابن هشام ، التي نشرت عنها طبعة الحلبي هذه ، نصها " فهلما " . فوافقت رواية الطبري. فهذا تحريف آخر من الطابعين!! وانظر إلى دقة أبي جعفر الطبري في إثبات الاختلاف اليسير في الرواية ، وإلى استخفاف الناشرين من أهل دهرنا في إهمال ما هو مكتوب مرقوم بين أيديهم وتحت أبصارهم!!
(3) الأثران : 6781 ، 6782 - سيرة ابن هشام 2 : 201 ، وتفسير القرطبي 4 : 50 ، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2 : 119 ، والدر المنثور 2 : 14.

(6/289)


ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ، أولئك أعداء الله اليهود ، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، وإلى نبيه ليحكم بينهم ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ، ثم تولوا عنه وهم معرضون.
6784 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ، الآية قال : هم اليهود ، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم ، ثم يتولون وهم معرضون!
6785 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم " ، قال : كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون ، وفي الحدود. (1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام ، فيتولون عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده ، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة " ... بالحق يكون وفي الحدود " ، وفي الدر المنثور 2 : 14 " بالحق وفي الحدود " بإسقاط " يكون " ، وكلتاهما لا أراها تستقيم ، وأنا أرجح أن صواب السياق يقتضي أن تكون : " بالحق يكون في الحدود " بحذف الواو. فقد جاء في رواية ابن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن الآية نزلت في أمر اليهودي واليهودية من أهل خيبر ، فزنيا ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فرفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكم برجمهما ، فقالت الأحبار : ليس عليهما الرجم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بيني وبينكما التوراة. فلما جاءوا بالتوراة ، وانتهوا إلى آية الرجم ، وضع ابن صوريا يده عليها وقرأ ما بعدها. والخبر مشهور. ثم إن كلام الطبري بعد مرجح لما قلت : وذلك قوله بعد : " ويجوز أن يكون ذلك كان في حد " .

(6/290)


تنازعوا فيه ، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه ، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة ، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم.
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ ، (1) فيجوز أن يقال : هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه ، (2) هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم ، فامتنعوا منه ، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم ، وتكذيبهم بما في كتابهم ، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق ، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.
* * *
ومعنى قوله : " ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ، (3) ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه ، معرضًا عنه منصرفًا ، وهو بحقيقته وحجته عالم. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى " ، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة : " على أن ذلك كان من أبى " ، وهو مثله ، والصواب ما أثبت. والمعنى : ولا دلالة في الآية على تعيين أحد هذه الأسباب ، وأيها هو الذي كان. وهذا تعبير قد سلف مرارًا في كلام الطبري ، انظر 1 : 520 " ولو كان في العلم بأي ذلك من أي رضًا ، لم يخل عباده من نصب دلالة عليها... " و 2 : 517 " إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي... " و 3 : 64 " ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي " .
(2) في المطبوعة : " الذي دعوا إليه جملته " ، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة : " الذي دعوا إلى حمله " غير منقوطة ، والصواب ما أثبت ، لأن الآية دالة عليه ، وذلك قوله تعالى : " يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم " ولأن السياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي ، بعد ، س : 13 ما يدل على صواب ذلك أيضًا.
(3) انظر معنى " التولي " فيما سلف ص : 144 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(4) انظر معنى " الإعراض " فيما سلف 2 : 298 ، 299.

(6/291)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

وإنما قلنا إن ذلك " الكتاب " هو التوراة ، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين ، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين ، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون ، أبلغَ ، وللعذر أقطعَ.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) }
يعني جل ثناؤه بقوله : " بأنهم قالوا " ، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق : من أجل قولهم : (1) " لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات " وهي أربعون يومًا ، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل (2) ثم يخرجنا منها ربنا ، اغترارًا منهم " بما كانوا يفترون " ، يعني : بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل ، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه ، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. (3) فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم ، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون ، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.
* * *
__________
(1) قوله : " من أجل قولهم " تفسير لمعنى الباء في قوله : " ذلك بأنهم قالوا " ، وانظر تفسير ذلك وبيانه فيما سلف 2 : 139 في تفسير قوله تعالى : " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " .
(2) انظر تفسير قولهم : " لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة " فيما سلف 2 : 274 - 278.
(3) التحلة (بفتح التاء وكسر الحاء ، وتشديد اللام المفتوحة) : هو ما تكفر به يمينك. ويقال : " لم يفعل هذا الأمر إلا تحلة القسم " : أي لم يفعله إلا بمقدار ما يحلل به قسمه ويخرج منه ، غير مبالغ في ذلك الفعل. والمعنى : أن النار لا تمسهم إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف.

(6/292)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6786 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده : " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات " ، قالوا : لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل ، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا قال الله عز وجل : " وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون " ، أي قالوا : " نحنُ أبناء الله وأحباؤه " .
6787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات " ، الآية ، قال : قالوا : لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا ، قال : يعني اليهود قال : وقال قتادة مثله وقال : هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل : " وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون " ، حين قالوا : " نحن أبناد الله وأحباؤه " .
6788 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد قوله : " وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون " ، قال : غرّهم قولهم : " لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات " .
* * *

(6/293)


فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

القول في تأويل قوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فكيف إذا جمعناهم " ، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول ، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله ، واغترارهم بربهم ، وافترائهم الكذب ؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد ، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله : " فكيف إذا جمعناهم " الآية : فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم ، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه ، غير مظلوم فيه ، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم ، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل ، يُجزَي المحسنُ بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا. (1)
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه " ، ولم يقل : في يوم لا رَيب فيه ؟
قيل : لمخالفة معنى " اللام " في هذا الموضع معنى " في " . وذلك أنه لو كان مكان " اللام " " في " ، لكان معنى الكلام : فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة ، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب ؟ وليس ذلك المعنى في دخول " اللام " ، ولكن معناه مع " اللام " : فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه ، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه ، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب ؟ فمع " اللام " في " ليوم لا ريب فيه " نيَّة فِعْل ، وخبرٌ مطلوب قد
__________
(1) انظر ألفاظ هذه الآية مفسرة فيما سلف ، واطلبها في فهارس اللغة من الأجزاء الماضية.

(6/294)


قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

ترك ذكره ، أجزأت دلالةُ دخول " اللام " في " اليوم " عليه ، منه. (1) وليس ذلك مع " في " ، فلذلك اختيرت " اللام " فأدخلت في " اليوم " ، دون " في " . (2)
* * *
وأما تأويل قوله : " لا ريب فيه " ، فإنه : لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية ، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وعنى بقوله : " ووُفِّيت " ، ووَفَّى الله " كلُّ نفس ما كسبت " ، يعني : ما عملت من خير وشر (4) " وهم لا يظلمون " ، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه ، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلِ اللَّهُمَّ }
قال أبو جعفر : أما تأويل : " قل اللهم " ، فإنه : قل يا محمد : يا اللهُ.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب " ميم " " اللهم " ، وهو منادًى ، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ وفي دخول " الميم " فيه ، وهو في الأصل " الله " بغير " ميم " .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قد ترك ذكره أخيرًا بدلالة دخول اللام في اليوم عليه منه " ، وهو كلام خلو من المعنى ، والظاهر أن الناسخ رأى تاء " أجزأت " متصلة بدال " دلالة " ، فجعلها ، " بدلالة " وجعل " أجزأ " " أخيرًا " فذهب الكلام هدرًا ولغوًا. وسياق العبارة كما أثبتناها : " أجزأت منه دلالة دخول اللام في اليوم " فأخر " منه " على عادته في تأخير مثل ذلك في كل كلامه.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 202 ، 203 ، وعبارته هناك. " تقول في الكلام : جمعوا ليوم الخميس ، وكأن اللام لفعل مضمر في " الخميس " ، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلا. وقوله : جمعناهم ليوم لا ريب فيه أي للحساب والجزاء " .
(3) انظر ما سلف 1 : 228 ، 378 / ثم 6 : 221.
(4) انظر تفسير " كسب " فيما سلف 2 : 273 ، 274 / 3 : 101 ، 128 / 4 : 449 / 6 : 131.

(6/295)


فقال بعضهم : إنما زيدت فيه " الميمان " ، لأنه لا ينادى بـ " يا " كما ينادى الأسماء التي لا " ألف " فيها ولا " لام " . وذلك أن الأسماء التي لا " ألف " ولا " لام " فيها تنادى بـ " يا " كقول القائل : " يا زيد ، ويا عمرو " . قال : فجعلت " الميم " فيه خلفًا من " يا " ، كما قالوا : " فم ، وابنم ، وهم ، وزُرْقُم ، (1) وُسْتهُم " ، (2) وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف ، ثم يبدل مكانه " ميم " . قال : فكذلك حذفت من " اللهم " " يا " التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا ، وجعلت " الميم " خلفًا منها في آخر الاسم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ودم ، وهم " ، والأولى " ودم " خطأ لا شك فيه ، وسيأتي صوابه بعد أسطر ، حين عاد فذكر الثلاثة جميعًا : " فم ، وابنم ، وهم " ، على تصرف المطبوعة هناك في نص المخطوطة ، ليوافق الذي كتبه هنا.
أما قوله : " وهم " ، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه ، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 203 ، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن ، فإذا هي كذلك " وهم " ، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين ، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها ، فعلقوا بما نصه : (كأنه يريد " هم " الضمير ، وأصلها " هوم " ، إذ هي جمع " هو " ، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع ، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر) ، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي : (قوله : " ودم " كذا في النسخ ، والكلمتان دم ، وهم ، لعلهما محرفتان عن : ابنم ، ودلهم ، أو دلقم ، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم ، وذكرها السيوطي في المزهر 2 : 135).
والذي قاله ناشرو معاني القرآن ، لا يقوم ، لأن الميم في هم ، وإن كانت زائدة من وجه ، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في " فم " و " ابنم " ، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن " دلهم أو دلقم " ، فليس بشيء ، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه ، وعجيب أن يتفق تصحيفها ، وتصحيف نسختين من معاني القرآن ، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة ، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها ، وقد استقصيت أمرها ما استطعت ، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث ، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه ، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) " زرقم ، وستهم " (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم ، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله ، زيدت الميم في آخره. وكذلك " رجل ستهم وامرأة ستهم " : أسته ، وهو العظيم الاست ، الكبير العجز ، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة : لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ ... وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ

(6/296)


وأنكر ذلك من قولهم آخرون ، وقالوا : قد سمعنا العرب تنادي : " اللهم " بـ " يا " كما تناديه ولا " ميم " ، فيه. قالوا : فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه ، لم تدخل العربُ " يا " ، وقد جاءوا بالخلف منها. (1) وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب :
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا... صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (2)
ويُرْوَى : " سبَّحت أو كبَّرت " . قالوا : ولم نر العرب زَادت مثل هذه " الميم " إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل : " الفم ، وابنم ، وهم " ، (3) قالوا : ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها " أمَّ " ، بمعنى : " يا ألله أمَّنا بخير " ، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا : فالضمة التي في " الهاء " من همزة " أم " ، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا : ونرى أن قول العرب : " هلم إلينا " ، مثلها. إنما كان " هلم " ، " هل " ضم إليها " أمّ " ، فتركت على نصبها. قالوا : من العرب من يقول إذا طرح " الميم " : " يا اللهُ اغفر لي " و " يا أللهُ اغفر لي " ، بهمز " الألف " من " الله " مرة ، ووصلها أخرى ، فمن حذفها أجراها على أصلها ، لأنها " ألف ولام " ، مثل " الألف واللام " اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف ،
__________
(1) في المطبوعة : " لم تدخله العرب يا " ، وفي المخطوطة : " لم تدخله العرسه يا " ، وهذا من عجلة الناسخ ، فرددتها جميعًا إلى أصلهما.
(2) لم يعرف قائله ، والأبيات في معاني القرآن للفراء 1 : 203 ، والجمل للزجاجي : 177 والإنصاف : 151 ، والخزانة 1 : 359 ، واللسان (أله) وغيرها من كتب العربية والنحو ، ومختلف من روايته ، وجاءوا به شاهدًا على زيادة " ما " بعد " ياللهم " فروايته عند بعضهم " يا اللهم ما " ، وبعد الأبيات زيادة زادها الكوفيون : مِنْ حَيْثُمَا وَكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا ... فإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نَعْدَمَا
(3) في المطبوعة : " مثل فم ودم وهم " ، وأثبت نص المخطوطة ، وهو موافق لنص الفراء في معاني القرآن 1 : 203 ، وهو نص كلامه.

(6/297)


إذ كانت لا تسقط منه ، وأنشدوا في همز الألف منها :
مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ... عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (1)
قالوا : وقد كثرت " اللهم " في الكلام ، حتى خففت ميمها في بعض اللغات ، وأنشدوا : (2)
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح... يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (3)
والرواة تنشد ذلك :
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
__________
(1) لم يعرف قائله ، والبيتان في معاني القرآن 1 : 203 ؛ والإنصاف : 150 ، واللسان (أله).
(2) هو الأعشى.
(3) ديوانه : 193 ، ومعاني القرآن 1 : 203 ، والخزانة 1 : 345 ، واللسان (أله) ، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر ، وكانت بينه وبينهم نائرة ، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة : أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا ... أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
بَادُوا ، فلمَّا أنْ تآدَوْا ... قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ
كَحَلْفةٍ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أودى بها : أهلكها وذهب بها. وقوله : " فلما أن تآدوا " من قولهم : " تآدى القوم تآديًا وتعادوا تعاديًا " : تتابعوا موتًا. وأصله من آدى الرجل : إذا كان شاك السلاح قد لبس أداة الحرب ، يعني أخذوا أسلحتهم فتقاتلوا حتى تفانوا. ومن شرح البيت " تآدوا " بمعنى تعاونوا وكثروا ، فقد أخطأ ، وذهب مذهبًا باطلا. يقول : لما هلكت إرم ودعاد ، أتت على آثارهم ثمود ، و " قدار " هو عاقر الناقة من ثمود فسموا القبيلة باسمه ، إذ كان سببًا في هلاكهم إذ دمدم عليهم ربهم فسواها. وأبو رياح (بياء تحتية) رجل من بني ضبيعة ، كان قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة جارًا لهم ، فسألوه أن يحلف ، أو يعطي الدية ؛ فحلف لهم ، ثم قتل بعد حلفته. فضربته العرب مثلا لما لا يغني من الحلف. وفي المطبوعة " رباح " بالباء الموحدة ، وهو خطأ ، وهذا البيت الأخير ، جاء في هذا الموضع من الشعر في ديوانه ، ولكن الأرجح ما رواه أبو عبيدة في قول الأعشى لبني جحدر : أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ ... إِلاّ عِرَارًا ، فَذَا عِرَارُ
والعرار : القتال. يقول : أقسمتم أن لا تعطونا إلا بعد قتال ، فهذا هو القتال ، قضى عليكم كما قضيت على أبي رياح حلفته الكاذبة إذ سمعها ربه الأكبر. والكبار (بضم الكاف) صيغة المبالغة من " كبير " .

(6/298)


وقد أنشده بعضهم : (1) يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : يا مالك الملك ، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره ، كما : -
6789 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : " قل اللهم مالك الملك " ، أي رَبَّ العباد الملكَ ، لا يقضى فيهم غيرك. (3)
* * *
وأما قوله : " تؤتي الملك ممن تشاء " ، فإنه يعني : تُعطى الملك من تَشاء ، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله : " وتنزع الملك من تشاء " ، يعني : وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه ، (4)
__________
(1) قال الفراء : " وأنشدني الكسائي " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يسمعها الله والكبار " ، وهو خطأ من الناسخ ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء 1 : 203 ، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه ، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة : " يسمعها الواحد الكبار " .
(3) الأثر : 6789 - سيرة ابن هشام 2 : 227 ، ونصه : " أي رب العباد ، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره " ، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6776.
(4) سقط من المطبوعة : " يعني : وتنزع الملك ممن تشاء " ، فأثبتها من المخطوطة.

(6/299)


فترك ذكر " أن تنزعه منه " ، اكتفاءً بدلالة قوله : " وتنزع الملك ممن تشاء " ، عليه ، كما يقال : " خذ ما شئتَ وكنْ فيما شئت " ، يراد : خذ ما شئت أن تأخذه ، وكن فيما شئت أن تكون فيه ؛ وكما قال جل ثناؤه : ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) [سورة الانفطار : 8] يعني : في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك. (1)
* * *
وقيل : إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (2)
ذكر من قال ذلك :
6790 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : وذكر لنا : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته ، فأنزل الله عز وجل : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " إلى " إنك على كل شيء قدير " .
6791 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قال : ذُكر لنا والله أعلم : أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، ثم ذكر مثله.
* * *
وروي عن مجاهد أنه كان يقول : معنى " الملك " في هذا الموضع : النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك :
6792 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء " ، قال : النبوّة.
__________
(1) ما سلف مختصر ما في معاني القرآن للفراء 1 : 204 - 205 ، وقد وفاه حقه.
(2) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 1 : 148 ، 149 / 2 : 488 / 5 : 312 ، 315 ، 371.

(6/300)


6793 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " وتعز من تشاء " ، بإعطائه الملك والسلطان ، وَبسط القدرة له " وتذلّ من تشاء " بسلبك ملكه ، وتسليط عدوه عليه " بيدك الخير " ، أي : كل ذلك بيدك وإليك ، لا يقدر على ذلك أحد ، لأنك على كل شيء قديرٌ ، دون سائر خلقك ، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك ، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا ، كما : -
6794 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : " تؤتي الملك من تشاء " ، الآية ، أي : إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (1) " إنك على كل شيء قدير " ، أي : لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (2)
* * *
__________
(1) نص روايته ابن هشام : " أي : لا إله غيرك " .
(2) الأثر : 6794 - سيرة ابن هشام 2 : 227 وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6789.

(6/301)


تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

القول في تأويل قوله : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " تولج " تُدْخل ، يقال منه : " قد ولَج فلان منزله " ، إذا دخله ، " فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً " (1) - و " أولجته أنا " ، إذا أدخلته.
* * *
ويعني بقوله : " تولج الليل في النهار " تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار ، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا " وتولج النهارَ في الليل " ، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل ، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار ، كما : -
6795 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل " ، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة ، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة ، والليل تسع ساعات.
6796 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما نقص من النهار يجعله في الليل ، وما نقص من الليل يجعله في النهار. (2)
6797 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في
__________
(1) قوله : " ولجا " مصدر لم تذكره كتب اللغة. وقوله " لجة " بوزن " عدة وزنة " .
(2) الأثر : 6798 - " حفص بن عمر العدني " ، مترجم في الكبير 1 / 2 / 362 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 182. وقد مضى هذا الإسناد برقم : 533 ، 1406 ، وسيأتي أيضًا برقم : 6814 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا : " حفص عن عمر " ، وهو خطأ.

(6/302)


الليل " قال : ما ينقص من أحدهما في الآخر ، يعتقبان أو : يتعاقبان ، شك أبو عاصم ذلك من الساعات. (1)
6798 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، ما ينقص من أحدهما في الآخر ، يتعاقبان ذلك من الساعات.
6799 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، قال : هو نقصان أحدهما في الآخر.
6801 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، قال : يأخذ الليل من النهار ، ويأخذ النهار من الليل. يقول : نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6802 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، (2) سمعت الضحاك يقول في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر ، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار ، والنهار أحيانًا أطول من الليل.
__________
(1) في المطبوعة : " ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر ، متعاقبان... " بزيادة " يدخل " وليست في المخطوطة ، وانظر الأثر التالي. وقوله " يعتقبان " في المخطوطة : " معتقبان " غير منقوطة ، وهو تحريف ، والذي في المطبوعة تصرف لا معنى له.
(2) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ ، وهو إسناد دائر في التفسير.

(6/303)


6803 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ، قال : هذا طويل وهذا قصير ، أخذ من هذا فأولجه في هذا ، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : " تأويل ذلك : أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة ، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ " .
ذكر من قال ذلك :
6804 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ " ، قال : هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي ، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
6805 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، قال : الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة ، ويخرجها من الناس الأحياء ، والأنعام.
6806 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.

(6/304)


6807 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، فذكر نحوه.
6808 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : " تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ " ، فالنطفة ميتة تكون ، تخرج من إنسان حيّ ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.
6809 - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال ، حدثنا أشعث السجستاني قال ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله. " تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ " ، قال : تخرج النطفة من الرجل ، والرجل من النطفة. (1)
6810 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ " ، قال : تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة ، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.
6811 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ " الآية ، قال : الناس الأحياء من النطف ، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء ، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك قال ابن جريج : وسمعت يزيد بن عويمر يخبر ، عن سعيد بن جبير قال : إخراجه النطفة من الإنسان ، وإخراجه الإنسان من النطفة. (2)
__________
(1) الأثر : 6809 - " محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي " ، ثقة. روى عن أشعث بن عبد الله السجستاني ، وروى عنه الأربعة ، والطبري وغيرهم ، مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم : 6255. وكان في المطبوعة : " حدثني محمد بن عمرو ، وابن علي ، عن عطاء المقدمي " ، وفي المخطوطة : " محمد بن عمرو بن علي ، عن عطاء المقدمي " ، وكلاهما خطأ ، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر : 6811 - " يزيد بن عويمر " ، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك ، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف لم أهتد إليه.

(6/305)


6812 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ " ، قال : النطفة ميتة ، فتخرج منها أحياء " وتخرج الميت من الحيّ " ، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء ، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا " وتُخرج الميت من الحيّ " ، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " أنه يخرج النخلة من النواة ، والنواةَ من النخلة ، والسنبل من الحب ، والحبّ من السنبل ، والبيض من الدجاج ، والدجاج من البيض " .
ذكر من قال ذلك.
6813 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا عبد الله ، عن عكرمة قوله : " تخرج الحي من الميت " ، قال : هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة ، ثم يخرج منها الحيّ.
6814 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله. " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، قال : النخلة من النواة والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة.
* * *
وقال آخرون : " معنى ذلك : أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافرَ من المؤمن " .
ذكر من قال ذلك :
6815 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن ، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد ، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.

(6/306)


6816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، قال الحسن في قوله : " تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، قال : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن. (1)
6819 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد بن عمرو ، عن الحسن قرأ : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، قال : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن. (2)
6820 - حدثني حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال : إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال : أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه ، (3) فخرج كل طيِّب في يمينه ، وخرج كل خبيث في يده الأخرى ، ثم خلط بينهما ، ثم خلق منها آدم ، (4) فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي ، يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن. (5)
__________
(1) سقط من الترقيم 6817 ، 6818.
(2) الأثر : 6819 - " سعيد بن عمرو " ، لم أجد له ترجمة ، وأخشى أن يكون سقط من إسناده شيء ، وأن صوابه " عبد الوارث بن سعيد ، عن... " . وعبد الوارث مترجم فيما سلف رقم : 2154.
(3) في المخطوطة : " ثم قال بعده فيه " ، خطأ ؛ وقوله : " قال بيده " ، أي حرك يده.
(4) في المخطوطة - : " ثم خلط بينهما وقال. . . فمن ثم يخرج " ، وبين الكلام بياض ، وأتمته المطبوعة من الدر المنثور.
(5) الأثر : 6820 - " بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي " من شيوخ أحمد وإسحاق. قال أحمد : " إليه المنتهى في التثبت بالبصرة " . مترجم في التهذيب. و " سليمان التيمي " ، هو : " سليمان بن طرخان التيمي " ، روى عن أنس بن مالك وطاوس ، ثقة. مترجم في التهذيب. " وأبو عثمان " هو " أبو عثمان الصنعاني : شراحيل بن مرثد " ، روى عن سلمان وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة وكعب الأحبار. قال ابن حبان في الثقات : " صاحب الفتوح ، يروي المراسيل " وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 15 ، ونسبه لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وأبو الشيخ في العظمة ، (أخرج مثله ، ونسبه لابن مردويه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم).

(6/307)


6821 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة ، (1) فقال : من هذه ؟ قالت إحدى خالاتك! قال : إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! (2) وأيّ خالاتي هذه ؟ قالت : خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. (3) قال : سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً ، وكان أبوها كافرًا. (4)
6822 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " ، قال : هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا ، وأن المؤمن يلد كافرًا ؟ فقال : هو كذلك. (5)
* * *
__________
(1) قوله : " حسنة النعمة " ، في المطبوعة : " النغمة " بالغين المعجمة ، وهو خطأ ، والنعمة (بفتح النون وسكون : العين) المسرة والفرح والترفه ، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد ، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة : " حسنة الهيئة " .
(2) في المطبوعة : " بهذه البلد " ، وتاء " البلدة " في المخطوطة شبكت في دالها ، واختلطت بها لام " لغرائب " ، والذي أثبته هو نص ما في الإصابة ، وفي ابن سعد " بهذه الأرض " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " خلدة ابنة الأسود " ، وأخشى أن يكون أصلها " خالدة " كما في سائر الكتب ، ورسمت بحذف الألف كما كانوا يكتبون قديمًا. وهي خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمنة بنت وهب بن عبد مناف " ، فهو أخت يغوث بن وهب. أما الأسود بن يغوث ، فهو أحد المستهزئين حنى جبريل ظهره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ، فقال رسول الله : " خالي! خالي! " ، فقال جبريل : " دعه عنك! " ، فمات الأسود.
(4) الأثر : 6821 - رواه ابن سعد في الطبقات 8 : 181 ، وذكر طرقه الحافظ ابن حجر في الإصابة ، في ترجمة " خالدة بنت الأسود " .
(5) الأثر : 6822 - " محمد بن سنان الفزاز " سلفت ترجمته برقم : 1999 ، 2056 ، و " أبو بكر الحنفي " ، هو " عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك البصري " ، روى عنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن بشار ، ثقة. مترجم في التهذيب. " وعباد بن منصور الناجي " ، روى عن عكرمة ، وعطاء والحسن ، والقاسم بن محمد وغيرهم. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر رقم : 6827 فيما يلي.

(6/308)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب ، تأويلُ من قال : " يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة وذلك إخراجُ الحيّ من الميت ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء وذلك إخراج الميت من الحيّ " .
وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده ، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه ، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه ، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [سورة البقرة : 28].
* * *
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة ، والبيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن فإن ذلك ، وإن كان له وجه مفهوم ، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس ، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة منهم : ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بالتشديد ، وتثقيل " الياء " من " الميت " ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ ، ومما لم يمت.
* * *

(6/309)


وقرأت جماعة أخرى منهم : ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بتخفيف " الياء " من " الميْت " ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات ، دون الشيء الذي لم يمت ، ويُخرج الشيء الميت ، دون الشيء الذي لم يمت ، من الشيء الحي.
* * *
وذلك أن " الميِّت " مثقل " الياء " عند العرب : ما لم يَمتْ وسيموت ، وما قد مات.
وأما " الميْت " مخففًا ، فهو الذي قد مات ، فإذا أرادوا النعتَ قالوا : " إنك مائتٌ غدًا ، وإنهم مائتون " . وكذلك كل ما لم يكن بعد ، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال : " هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك " ، وإذا أريد معنى الاسم قيل : " هو الجوادُ بنفسه والطيِّبة نفسه " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب ، قراءةُ من شدّد " الياء " من " الميِّت " . لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة ، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل " ويخرج الميِّت من الحيّ " النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا ، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في " الميت " 3 : 318 ، 319 ، وهذا البيان عن معناه هنا ، أجود مما تجده في كتب اللغة.

(6/310)


القول في تأويل قوله : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه ، (1) بغير محاسبة منه لمن أعطاه ، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه ، ولا الفناءَ على ما بيده ، (2) كما : -
6823 - حدثني المثتي قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وترزق من تشاء بغير حساب " ، قال : يخرج الرزق من عنده بغير حساب ، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك ، أو اتخذوه شريكًا معك ، (3) أو أنه لك ولدٌ وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء ، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل ، فتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا ، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك ، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك ، ولا يستطيعه غيرك ، كما : -
6824 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " تولج الليلَ في النهار وتولج النهارَ في الليل وتخرجُ الحيّ من الميِّت وتخرج الميِّت من الحيّ " ، أي : بتلك القدرة يعني : بالقدرة التي تؤتي
__________
(1) انظر معنى " الرزق " فيما سلف 4 : 274 / 5 : 43 ، 44.
(2) انظر تفسير " بغير حساب " فيما سلف 4 : 274 ، 275.
(3) في المطبوعة : " واتخذوه " والصواب من المخطوطة.

(6/311)


الملك بها من تشاء وتنزعهُ ممن تشاء " وترزُق من تشاء بغير حساب " ، لا يقدر على ذلك غيرُك ، ولا يصنعه إلا أنت. أي : فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله : من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والخبر عن الغيوب ، لتجعله آية للناس ، (1) وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه : تمليكُ الملوك ، (2) وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت ، (3) وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل ، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم أملكه إياه ، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة : أنْ لو كان إلهًا ، (4) لكان ذلك كله إليه ، وهو في علمهم يهرُب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! ! (5)
* * *
__________
(1) نص ابن هشام : " لأجعله آية للناس " .
(2) في المطبوعة : " كتمليك الملوك " ، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(3) في ابن هشام : " بأمر النبوة " .
(4) في المطبوعة : " فلم يكن " ، وأثبت ما في ابن هشام وفي مطبوعة الحلبي من السيرة " أفلم تكن " من إحدى نسخه ، وهي جيدة. وفي مطبوعة الطبري : " إذ لو كان إلهًا... " ، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(5) الأثر : 6824 - سيرة ابن هشام 2 : 227 ، 228 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6794.

(6/312)


لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

القول في تأويل قوله : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }
قال أبو جعفر : وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا ، ولذلك كسر " يتخذِ " ، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي ، ولكنه كسر " الذال " منه ، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. (1)
* * *
ومعنى ذلك : لا تتخذوا ، أيها المؤمنون ، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، (2) وتدلُّونهم على عوراتهم ، فإنه مَنْ يفعل ذلك " فليس من الله في شيء " ، يعني بذلك : فقد برئ من الله وبرئ الله منه ، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم ، وتضمروا لهم العداوة ، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل ، كما : -
6825 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، قال : نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين ، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين ، فيظهرون لهم اللُّطف ، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاةً " .
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 205.
(2) انظر تفسير " الولي " و " الأولياء " فيما سلف 2 : 489 ، 564 / ثم : 5 : 424 / 6 : 141 ، 142 والقول في " من دون " فيما سلف 2 : 489.

(6/313)


6826 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر ، (1) وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة ، لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم ، فأنزل الله عز وجل : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى قوله : " والله على كل شيء قدير " . (2)
6827 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، يقول : لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين. (3)
6828 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين " إلى " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، أما " أولياء " فيواليهم في دينهم ، ويظهرهم على عورة المؤمنين ، فمن فعل هذا فهو مشرك ، فقد برئ الله منه إلا أن يتقي تقاةً ، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم ، والبراءةَ من المؤمنين.
6829 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) في المطبوعة : " بن زبير " ، وصححته من سيرة ابن هشام ، ومن ترجمته في الإصابة. وتسميته " رفاعة بن عبد المنذر " ، ولكن هكذا جاء هنا ، وكذلك في تفسير البغوي ، وأظنه خطأ ، فلم يذكروا ذلك في ترجمته.
(2) الأثر : 6826 - لم أجده في سيرة ابن هشام التي بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق. وقوله : " بطنوا بنفر من الأنصار " ، يقال : " بطن فلان بفلان يبطن بطونًا وبطانة " إذا كان خاصًا به ، ذا علم بداخلة أمره ، مؤانسًا له ، مطلعًا على سره ، ومنه المباطنة.
(3) الأثر : 6827 - انظر التعليق عل الأثر السالف رقم : 6822.

(6/314)


عن ابن جريج ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : التقاة التكلم باللسان ، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
6830 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : ما لم يُهرِق دم مسلم ، وما لم يستحلّ ماله.
6831 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة. (1)
6832 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6833 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : قال أبو العالية : التقيَّة باللسان وليس بالعمل.
6834 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عُبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ ، فتكلم مخافةً على نفسه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا إثم عليه ، إنما التقيَّة باللسان.
6835 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة
__________
(1) خالق الناس يخالقهم مخالقة : عاشرهم على أخلاقهم ، مثل " تخلق " ، أي : تصنع وتجمل وتحسن.

(6/315)


الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.
* * *
وقال آخرون : معنى : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.
ذكر من قال ذلك :
6836 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة " ، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله : " إلا أن تتقوا منهم تقيَّة " ، (1) الرحم من المشركين ، من غير أن يتولوهم في دينهم ، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.
6837 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " ، قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه ، وقوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : أن يكون بينك وبينه قرابة ، فتصله لذلك.
6838 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، قال : صاحبهم في الدنيا معروفًا ، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه ، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية : إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة فالأغلب من معاني هذا الكلام : إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله : إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة ، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع " تقاة " ، وهي في المخطوطة : " تقية " بتشديد الياء بالقلم ، وكذلك أثبتها ، وهي إحدى القراءتين كما سيذكر الطبري بعد.

(6/316)


معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة "
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، على تقدير " فُعَلة " مثل : " تُخَمة ، وتؤَدَة وتُكأة " ، من " اتقيت " .
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً ) ، على مثال " فعيلة " .
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءةُ عندنا ، قراءةُ من قرأها : " إلا أن تتقوا منهم تُقاة " ، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة ، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك ، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه ، أو توالوا أعداءه ، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم ، ويوم حشركم لموقف الحساب (1) يعنى بذلك : متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به ، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به ، يقول : فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه ، فإنه شديد العقاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 3 : 56 / 6 : 128.

(6/317)


قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

القول في تأويل قوله : { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قل " يا محمد ، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إن تخفوا ما في صدوركم " من موالاة الكفار فتُسِرُّوه ، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه " يعلمه الله " ، فلا يخفى عليه. يقول : فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة ، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به ، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم ، فلا يخفى عليه شيء منه ، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا ، وبالسيئة مثلها ، كما : -
6839 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا ، فقال : " إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه " .
* * *
وأما قوله : " ويعلم ما في السموات وما في الأرض " ، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان ، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة ، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
* * *
وأما قوله : " والله على كل شيء قدير " ، فإنه يعني : والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين ، وعلى ما يشاء من الأمور كلها ، لا يتعذَّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
* * *

(6/318)


يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

القول في تأويل قوله عز وجل : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا ، " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا " يعني غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه ، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
* * *
وكان قتادة يقول في معنى قوله : " محضرًا " ، (1) ما : -
6840 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا " ، يقول : موفَّرًا.
* * *
قال أبو جعفر : وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك : (2) واذكر يوم تجد. وقال : إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع : " واتقوا يوم كذا ، وحين كذا " .
* * *
وأما " ما " التي مع " عملت " ، فبمعنى " الذي " ، ولا يجوز أن تكون جزاءً ، لوقوع " تجد " عليه. (3) وأما قوله : " وما عملت من سوء " ، فإنه معطوف على قوله : " ما " الأولى ، و " عملت " صلةٌ بمعنى الرّفع ، لمَّا قيل : " تود " . (4)
__________
(1) هذا المعنى قلما تصيبه في كتب اللغة ، فأثبته فيها.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(3) الوقوع : التعدي ، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " كما قيل تود " ، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 206 ، ونص كلامه : " وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما) ، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) " ، ويعني بذلك أن جملة " تود " مفعول ثان لقوله : " تجد " ، كما كان " محضرًا " مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره.

(6/319)


فتأويل الكلام : يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا ، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا
* * *
" والأمد " الغاية التي ينتهي إليها ، ومنه قول الطرماح :
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ ... عُمْرِ ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (1)
يعني : غاية أجله. وقد : -
6841 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا " ، مكانًا بعيدًا.
6842 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " أمدًا بعيدًا " ، قال : أجلا.
6843 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا
__________
(1) ديوانه : 112 ، وهذه رواية الطبري ، وكان يروي ديوان الطرماح ، وقرأه بالمسجد الجامع بمصر ، وأملاه على الناس ، وشرح غريبة. ولا أدري أأخطأ أم عنده رواية أخرى غير التي وصلتنا ، فالشعر في ديوانه كما يلي : بعد أن ذكر دار صاحبته ، وما بقي بها من النؤى والرماد : تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا ... فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ
وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ ... إلى اليَوْمِ ، يَوْمُهُ وغَدُهْ
لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ ، ... وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ
كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ ، ... وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ
وقوله : " شعبًا " ، أي متفرقون ، واستمرت : اشتدت وأحكمت عقدة حبال الدهر ، فلم يعد له أمل في اجتماع أحبابه بعد الفراق. وقوله : " لا يليثان " ، من ألاثه يليثه : أخره ، وهو من " اللوث " ، وهو البطء والتأخير. يقول : إن اختلاف الأيام من يوم وغد ، لا يؤخران أجل المرء وإن طال عمره ، حتى يفنياه ويذهبا به. وقوله : " مود " أي : هالك ، إذا انقضى عدد أيامه وأكله في هذه الحياة الدنيا.

(6/320)


عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا " ، قال : يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : ويحذركم الله نفسه : أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم ، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ، وهو عليكم ساخط ، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم ، وأنّ من رأفته بهم : (2) تحذيرُه إياهم نفسه ، وتخويفهم عقوبته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه ، كما : -
6844 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن الحسن في قوله : " ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد " ، قال : من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " خطيئته " وفي المخطوطة : " حطيته " هكذا نقطت ، ورأيت الصواب أن أقرأها كما أثبتها.
(2) في المطبوعة : " ومن رأفته بهم " ، وفي المخطوطة : " وأرض رأفته بهم " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) الأثر : 6844 - " والحسن " ، هو الحسن البصري بلا ريب ، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره 2 : 125 ، والسوطي في الدر المنثور 2 : 17 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عمرو بن الحسن " ، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما " عمرو " ، فلم أستطع أن أقطع من يكون ، فمن روى عن الحسن ، ممن اسمه " عمرو " كثير.

(6/321)


قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

القول في تأويل قوله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم : أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا نحب ربنا " ، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : " إن كنتم صادقين فيما تقولون ، فاتبعوني ، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك.
ذكر من قال ذلك :
6845 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن بكر بن الأسود قال ، سمعت الحسن يقول : قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إنا نحبّ ربنا! فأنزل الله عز وجل : " قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه ، وعذاب من خالفه.
6846 - حدثني المثنى قال ، حدثنا علي بن الهيثم قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن أبي عبيدة قال : سمعت الحسن يقول : قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إنا لنحب ربنا! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنًا : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه ، وعذاب من خالفه. (1)
__________
(1) الأثران : 6845 ، 6846 ، سيذكر الطبري ضعفهما عنده بعد قليل.

(6/322)


6847 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، قال : كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله ، يقولون : إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه.
6848 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إن كنتم تحبون الله " الآية ، قال : إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله ، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل ، فقال : " إن كنتم تحبون الله " الآية ، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى : إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول ، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له ، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
6849 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل إن كنتم تحبون الله " ، أي : إن كان هذا من قولكم - يعني : في عيسى - (2) حبًّا لله وتعظيمًا له ، " فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، أي : ما مضى من كفركم " والله غفور رحيم " . (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " تصديق لقولهم " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) ما بين الخطين زيادة تفسير من أبي جعفر. وفي سيرة ابن هشام : " إن كان هذا من قولكم حقًا ، حبًا لله... " بزيادة " حقًا " ، وأخشى أن يكون ناسخ الطبري قد أسقطها.
(3) الأثر : 6849 - سيرة ابن هشام 2 : 228 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6824.

(6/323)


قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية ، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله ، ولا أنهم يعظمونه ، فيكون قوله. " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " جوابًا لقولهم ، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه ، فلا خبر به عندنا يصحّ ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك ، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفدَ نَجران من النصارى ، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه. (1)
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا ، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا ، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة ، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها ، خبرٌ عنهم ، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
* * *
قال أبو جعفر : فإذْ كان الأمر على ما وصفنا ، فتأويلُ الآية : قل ، يا محمد ، للوفد من نصارى نجران : إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله ، (2) وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون ، حبًّا منكم ربَّكم فحققوا قولكم الذي تقولونه ، إن كنتم صادقين ، باتباعكم إياي ، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم ، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه ، فإنه إن اتبعتموني وصدّقتموني على
__________
(1) في المطبوعة : " نظير أخبارنا " ، وفي المخطوطة : " نظير احسار بالله " غير منقوطة. وظاهر أن المطبوعة حذفت ما كان رسمه " لله " ، وظاهر أن قراءتنا لنصها هو الصواب إن شاء الله.
(2) في المطبوعة : " إن كنتم تزعمون... " بحذف " كما " ، فأثبتها من المخطوطة.

(6/324)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

ما أتيتكم به من عند الله يغفرُ لكم ذنوبكم ، فيصفح لكم عن العقوبة عليها ، ويعفو لكم عما مضى منها ، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين ، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قل ، يا محمد ، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران : أطيعوا الله والرسول محمدًا ، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي ، ابتعثتُه بالحق ، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل ، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك ، وأعرضوا عنه ، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق ، وأنكره بعد علمه ، (1) وأنهم منهم ، (2) بجحودهم نبوّتك ، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه ، بعد علمهم بصحة أمرك ، وحقيقة نبوتك ، كما : -
6850 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل أطيعوا الله والرسول " ، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم " فإن تولوا " على كفرهم " فإن الله لا يحبّ الكافرين " . (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من كفر بجحد ما عرف... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله : " وأنهم منهم " ، معطوف على قوله : " فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر... " ، " وأنهم منهم " ، أي من هؤلاء الذين لا يحبهم الله ، بجحودهم نبوتك.
(3) الأثر : 6850 - سيرة ابن هشام 2 : 228 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 6849.

(6/325)


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه ، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. (1)
وإنما عنى ب " آل إبراهيم وآل عمران " ، المؤمنين.
* * *
وقد دللنا على أن " آل الرجل " ، أتباعه وقومه ، ومن هو على دينه. (2)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك روى القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.
6851 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " ، قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ، يقول الله عز وجل : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) [سورة آل عمران : 68] ، وهم المؤمنون.
6852 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين " ، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.
6853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين " ، قال : ذكر الله أهلَ بيتين صالحين ، ورجلين صالحين ، ففضلهم
__________
(1) انظر تفسير " اصطفى " فيما سلف 3 : 91 ، 69 / ثم 5 : 312 ، 313.
(2) انظر ما سلف 2 : 37 / 3 : 222 ، تعليق : 1.

(6/326)


ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

على العالمين ، فكان محمدٌ من آل إبراهيم.
6854 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم " إلى قوله : " والله سميع عليم " ، قال : فضلهم الله على العالمين بالنبوّة ، على الناس كلهم ، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران " ذريةً بعضها من بعض " .
* * *
ف " الذرية " منصوبة على القطع من " آل إبراهيم وآل عمران " ، لأن " الذرية " ، نكرة ، " وآل عمران " معرفة. (2)
ولو قيل نصبت على تكرير " الاصطفاء " ، لكان صوابًا. لأن المعنى : اصطفى ذريةً بعضُها من بعض. (3)
* * *
وإنما جعل " بعضهم من بعض " في الموالاة في الدين ، والمؤازرة على الإسلام والحق ، كما قال جل ثناؤه : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) [سورة التوبة : 71] ، وقال في موضع آخر : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) [ سورة التوبة : 67] ، يعني : أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة ، فكذلك قوله :
__________
(1) في المطبوعة : " المطيعين لربهم " ، كما في الدر المنثور 2 : 17 ، 18 ، ولكن المخطوطة واضحة جدًا ، ومطابقة لقوله تعالى : " إن الله اصطفى آدم... " .
(2) انظر ما سلف في معنى " القطع " ، وهو الحال ، قريبًا ص : 270 ، تعليق : 3.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 207.

(6/327)


إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

" ذرية بعضها من بعض " ، إنما معناه : ذرية دينُ بعضها دينُ بعض ، وكلمتهم واحدةٌ ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته ، كما : -
6855 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ذرية بعضها من بعض " ، يقول : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
* * *
وقوله : " والله سميعٌ عليمٌ " ، يعني بذلك : والله ذُو سمع لقول امرأة عمران ، وذو علم بما تضمره في نفسها ، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
يعني بقوله جل ثناؤه : " إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني " ، فـ " إذْ " من صلة " سميع " . (1)
* * *
وأمّا " امرأة عمران " ، فهي أم مريم ابنة عمران ، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل ، (2) كذلك : -
6856 - حدثنا به محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه وقال غير ابن حميد : ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (3)
* * *
فأما زوجها " عمران " ، فإنه : عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن
__________
(1) يعني أن الظرف " إذ " متعلق بقوله : " سميع " في الآية السابقة. وقد ظن الناشر الأول للتفسير ، أن في الكلام سقطًا ، وليس كذلك ، والكلام تام لا خرم فيه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " قتيل " في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2 : 13.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " قتيل " في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2 : 13.

(6/328)


أحزيق (1) بن يوثم (2) بن عزاريا (3) بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو (4) بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر (5) بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا ، كذلك : -
6857 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه.
* * *
وأما قوله : " رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا " ، فإنّ معناه : إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك : حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة ، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك ، مفرّغة لك خاصة.
* * *
ونصب " محرّرًا " على الحال مما في الصفة من ذكر " الذي " . (6)
* * *
" فتقبل مني " ، أي : فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ " إنك أنت السميع
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أحريق " وأثبت ما في تاريخ الطبري 2 : 13.
(2) في المطبوعة : " يويم " ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، وفي تاريخ الطبري : " يوثام " فجعلتها " ثاء " بغير ألف ، مطابقة للرسم.
(3) في تاريخ الطبري " عزريا " بغير ألف.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " أحريهو " بالراء.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " يازم " بالزاي ، وفي تاريخ الطبري : " يهشافاظ " ، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة : " أشا " بالشين المعجمة ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة ، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا : " أسابرابان " والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري.
(6) في المطبوعة : " ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) " . فغيروا ما في المخطوطة ، وأساءوا أشد الإساءة ، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به ، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل " محررًا " حالا من " ما " ، والذي ذهب إليه الطبري أن " محررًا " حال من الضمير الذي في الجار والمجرور " في بطني " ، والعامل في الجار والمجرور هو " استقر " . وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان 1 : 437 ، وتفسير الألوسي 3 : 118 وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى " الصفة " ، وهو : حرف الجر ، وحروف الصفات هي حروف الجر ، كما مضى 1 : 299 تعليق : 1 / 3 : 475 تعليق : 1 / 4 : 227 تعليق : 1 / ثم : 247 تعليق : 3.

(6/329)


العليم " ، يعني : إنك أنتَ يا رب " السميع " لما أقول وأدعو " العليمُ " لما أنوي في نفسي وأريد ، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته. (1)
* * *
وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ ، امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا ، ما : -
6858 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : تزوج زكريا وعمران أختين ، فكانت أمّ يحيى عند زكريا ، وكانت أم مَريم عند عمرانَ ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم ، فهي جنينٌ في بطنها. قال : وكانت ، فيما يزعمون ، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت ، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له ، فتحرّكت نفسُها للولد ، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا ، فحملت بمريم ، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا ، جعلته لله نَذيرةً و " النذيرة " ، أن تعبِّده لله ، فتجعله حبيسًا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.
6859 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال ثم ذكر امرأة عمران وقولها : " ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا " أي نذرته ، تقول : جعلته عتيقًا لعبادة الله ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا (2) " فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم " . (3)
6860 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال ، حدثنا محمد بن ربيعة
__________
(1) انظر معنى " النذر " فيما سلف 5 : 580.
(2) نص ابن هشام : " أي : نذرته فجعلته عتيقًا ، تعبده لله ، لا ينتفع به لشيء من الدنيا " ، فتركت رواية الطبري على حالها.
(3) الأثر : 6859 - سيرة ابن هشام 2 : 228 ، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم : 6850.

(6/330)


قال ، حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " محررًا " ، قال : خادمًا للبِيعة. (1)
6861 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد قال : خادمًا للكنيسة.
6862 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، أخبرنا إسماعيل ، عن الشعبي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا " ، قال : فرّغته للعبادة.
6863 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : جعلته في الكنيسة ، وفرّغته للعبادة.
6864 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي نحوه.
6865 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : للكنيسة يخدُمها.
6866 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6867 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : خالصًا ، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
6868 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ،
__________
(1) الأثر : 6860 - " عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون ، مولى بني هاشم " بغدادي ، روى عن محمد بن ربيعة ، وروى عنه الترمذي والنسائي ، وابن جرير. مترجم في التهذيب. و " محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي " ابن عم وكيع. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى ، أو كنيسة اليهود.

(6/331)


عن سعيد بن جبير : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : للبيعة والكنيسة.
6869 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحمانيّ قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : محرّرًا للعبادة.
6870 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، الآية ، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها ، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور ، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها ، يقوم عليها ويكنُسها.
6871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : نذرت ولدها للكنيسة.
6872 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " ، قال : وذلك أن امرأة عمران حملت ، فظنت أن ما في بطنها غلام ، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.
6873 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال : وكانوا إنما يحرّرون الذكور ، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها.
6874 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، قال : جعلت ولدها لله ، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.
6875 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة ، وكانت لا تلد ، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن ، فقالت : اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني

(6/332)


فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس ، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال : وقوله : " نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا " إنها للحرّة ابنة الحرائر " محررًا " للكنيسة يخدمها.
6876 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إذ قالت امرأة عمران " الآية كلها قال : نذرت ما في بطنها ، ثم سيَّبَتْها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فلما وضعتها " ، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ ، ولذلك أنث. ولو كانت " الهاء " عائدة على " ما " التي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررًا " ، لكان الكلام : " فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى " .
* * *
ومعنى قوله : (وضعتها) " ، ولدتها. يقال منه : " وضعت المرأة تَضَع وضْعًا " .
* * *
__________
(1) سيب الشيء : تركه. وسيب الناقة أو الدابة : تركها تسيب حيث شاءت ، والدابة سائبة ، فإذا كانت نذرًا ، كان لا ينتفع بظهرها ، ولا تحلأ عن ماء ، ولا تمنع من كلأ ، ولا تركب. وهي التي قال الله فيها " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة " . ثم قيل منه للعبد إذا أعتقه مولاه ، وأراد أن لا يجعل ولاءه إليه ، فهو لا يرثه ، وللمعتق أن يضع نفسه وماله حيث شاء " سائبة " . انظر ما سلف 3 : 386 في خبر أبي العالية.
أما قوله : " سيبتها " هنا ، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله ، ليس لأحد عليها سبيل ، وهو قريب من معنى " التحرير " .

(6/333)


" قالت ربّ إني وضعتها أنثى " ، أي : ولدت النذيرة أنثى " والله أعلم بما وضعت " .
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة القرأة : ( وَضَعَتْ ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه : أنه العالم بما وضعت ، من غير قيلها : " ربّ إني وضعتها أنثى " .
* * *
وقرأ ذلك بعض المتقدّمين : ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة : " والله أعلم بما ولدتُ مني " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها ، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ " والله أعلم بما وضعتْ " ، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : والله أعلم من كل خلقه بما وضعت ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها ، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها - : " وليس الذكر كالأنثى " ، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها ، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة ، لما يعتريها من الحيض والنفاس " وإني سميتها مريم " ، كما : -
6877 - حدثني ابن حميد قال ، ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى " ، أي : لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (1)
6878 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق :
__________
(1) الأثر : 6877 - سيرة ابن هشام 2 : 228 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 6859. ونص ابن هشام في المطبوعة الأوربية : " لما جعلتها محررًا له نذيرة " كنص الطبري هنا ، وفي مطبوعة الحلبي : " محررًا لك " ، وفي إحدى نسخ سيرة ابن هشام " محررة " ، وهي صواب جيد ، ولكن مطبوعة الطبري غيرت نص المخطوطة الذي أثبته ، فجعلتها : " لما جعلتها له محررة نذيرة " ، ولست أدري لم فعل ذلك!!

(6/334)


" وليس الذكر كالأنثى " ، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.
6879 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وليس الذكر كالأنثى " ، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك (1) يعني أن تحرر للكنيسة ، فتجعل فيها ، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى ، فعند ذلك قالت : (2) " ليس الذكر كالأنثى " .
6880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " قالت رب إني وضعتها أنثى " ، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال : " وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم " .
6881 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها ، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا ، لأن المرأة لا تستطيع ذلك يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها ، وتكنُسها لما يصيبها من الأذى.
6882 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية ، فقالت تعتذر إلى الله : " رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى " ، تقول : إنما يحرّر الغلمان. يقول الله : " والله أعلم بما وضعت " ، فقالت : " إني سَمّيتها مريم " .
__________
(1) في المطبوعة : " لا تستطيع " ، وفي المخطوطة : " لا تستطاع " ، وهو الصواب ، إلا أن الناسخ أخطأ فجعلها بالتاء الفوقية.
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة ، وأنا أرجح أن الصواب : " فعن ذلك قالت " ، أي من أجل ذلك قالت. و " عن " هنا بمعنى التعليل ، كما في قوله تعالى : " وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك " . وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء ، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية.

(6/335)


6883 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : " فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى " " وليس الذكر كالأنثى " ، يعني : في المحيض ، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال أمها تقول ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
قال أبو جعفر : تعني بقولها : " وإني أعيذُها بك وذُريتها " ، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم ، بك.
* * *
وأصل " المعاذ " ، الموئل والملجأ والمعقل. (1)
* * *
فاستجاب الله لها ، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم ، فلم يجعل له عليها سبيلا.
* * *
6884 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة ، ولها يَستهلّ الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران ، فإنها لما وضعتها قالت : " رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " ، فضُرب دُونها حجاب ، فطعَن فيه. (2)
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " عاذ يعوذ " 1 : 111 ، قال : " الاستعاذة : الاستجارة " .
(2) الحديث : 6884 - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني : تابعي فقيه ثقة من الثقات ، من شيوخ مالك ، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة.
والحديث سيأتي ، عقب هذا ، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق ، بهذا الإسناد ، نحوه.
وأشار إليه ابن كثير في التاريخ 2 : 57 ، من رواية ابن إسحاق ، دون تعيين في تخريجه.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 594 ، من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هرير. وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير ، قارئ أهل المدينة : ثقة مأمون ، شارك مالكًا في أكثر شيوخه.
ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي : " يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " . وزيادة " عن أبيه " في الإسناد - خطأ صرف ، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية ، ولم يذكره أحد في رواة الحديث.
ثم رواه ابن جرير بنحوه ، بأسانيد متعددة ، إلى رقم : 6899. وكلها عن أبي هريرة ، إلا : 6893 ، فإنه عن ابن عباس.

(6/336)


6885 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان ، وبها يستهلُّ الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها ، فإنّ أمها قالت حين وضعتها : " إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم " ، فضرب دونهما حجاب ، فطَعَن في الحجاب.
6886 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
6887 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عمرو ، عن شعيب بن خالد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد ، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه ، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : " إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم " . (1)
__________
(1) الحديث : 6887 - عمرو - شيخ هارون : هو عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق ، وهو ثقة ، أثنى عليه الثوري.
شعيب بن خالد البجلي ، قاصي الري : ثقة ، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة : " حفظ من الزهري ومالك شابًا " .
وهو هنا يروي عن " الزهري " . ووقع في المطبوعة " الزبير " بدل " الزهري " . وهو خطأ. صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه البخاري 6 : 338 - 339 ، من طريق شعيب ، عن الزهري ، بهذا ، بنحوه. و " شعيب " - في إسناد البخاري - : هو " شعيب بن أبي حمزة الحمصي " . وأما " شعيب بن خالد " فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود.
وكذلك رواه مسلم 2 : 224 ، من طريق شعيب بن أبي حمزة.
وانظر : 6891.

(6/337)


6888 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن عجلان مولى المشمعِلّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه ، إلا مريم وابنها. (1)
6889 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه ، إلا مريم وابنها. (2)
6890 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمران ، أن
__________
(1) الحديث : 6888 - عجلان مولى المشمعل : تابعي ثقة.
والحديث : رواه أحمد في المسند : 7866 ، عن إسماعيل بن عمر : و : 7902 ، عن يزيد بن هارون ، و : 7902 ، عن هاشم بن القاسم (2 : 288 ، 292 ، 319 حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب ، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2 : 57 ، عن الرواية الأولى من روايات المسند.
وذكره في التفسير 2 : 130 ، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه.
(2) الحديث : 6889 - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري : مضت ترجمته في : 1387.
سليم - بضم السين - بن جبير ، أبو يونس مولى أبي هريرة : تابعي مصري ثقة.
وقع في المطبوعة : " أن أبا يونس سليمان " ، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة " سليما " ، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق : " أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة " ، فرسم بالتنوين دون ألف ، على لغة ربيعة ، في الوقوف على المنصوب بالسكون.
والحديث رواه مسلم 2 : 224 ، من طريق ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، بهذا الإسناد.

(6/338)


أبا يونس حدثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1)
6891 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان ، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان ، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : " وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم " . (2)
6892 - حدثني المثنى قال ، حدثني الحماني قال ، حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين ، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " . (3)
__________
(1) الحديث 6890 - " عمران " - في الإسناد : هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة. ولا ندري من هو ؟ والظاهر أنه خطأ من الناسخين ، فرجح أن صوابه " ابن عمران " . فإن يكنه يكن " حرملة بن عمران التجيبي المصري " . وهو ثقة ، يروي عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة ، راوي هذا الحديث. ويروي عنه ابن وهب. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) الحديث : 6891 - مضى بنحوه : 6887 ، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري.
وقد رواه أحمد في المسند : 7694 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، به. ونقله ابن كثير في التاريخ 2 : 57 ، عن رواية المسند.
وكذلك رواه البخاري 8 : 159 ، ومسلم 2 : 224 كلاهما من طريق عبد الرزاق.
ورواه أحمد أيضًا : 7182 ، عن عبد الأعلى ، عن معمر ، به.
وكذلك رواه مسلم 2 : 224 ، من طريق عبد الأعلى.
(3) الحديث : 6892 - الحماني ، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم : هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن ، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا ، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 291 ، والصغير : 229 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 168 - 170 ، وتاريخ بغداد 14 : 167 - 177 ، وتذكره الحفاظ 2 : 10 - 11.
قيس : هو ابن الربيع الأسدي ، وهو ثقة ، كما رجحنا في : 4842.
والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير 2 : 130 ، والتاريخ 2 : 57 - تعليقًا عن قيس ، دون أن يبين مخرجه.
ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري ، يعني هذا الإسناد.
فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية : 6899 ، ثم قال : " وروي من حديث قيس ، عن الأعمش. . . " - إلخ. فهذا الفعل " روى " ، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل ، فيكون معناه أن ابن جرير " روى من حديث قيس " . ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته ، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه ، بالبناء للمجهول ، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل.
ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا ، عطفًا عليه - ما نصه : " ومن حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " .
فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري ، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين.
فرأيت - تمامًا للسياق - أن أذكره هنا من رواية أحمد ، واحتياطًا أيضًا :
فقال الإمام أحمد في المسند : 8801 (ج 2 ص 368 حلبي) : " حدثنا هُشيم ، قال : حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه ، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها ، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ ، كيفَ يَصْرُخُ ؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه " .
وهذا إسناد صحيح ، على شرط مسلم.
ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي 2 : 19 ، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله : " عصره الشيطان. . . " - عصر العنب وغيره عصرًا : ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز ، أي : شديده عليه وضغطه.

(6/339)


6893 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما ولد مولود إلا وقد استهلّ ، غير المسيح ابن مريم ، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه. (1)
__________
(1) الحديث : 6893 - هذا إسناد صحيح.
ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري ، وكذلك ذكره السيوطي 2 : 19 ، ولم ينسبه لغيره.
وقوله " ولم ينهزه " - من " التهز " ، وهو الدفع. " تهزه ينهزه نهزًا " : دفعه ، مثل " نكزه " ، و " وكزه " .

(6/340)


6894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس : أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس ، فقالوا : أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها! فقال : هذا في حادث حدث! وقال : مكانَكم! (1) فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض ، فلم يجد شيئًا ، (2) ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا ، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار ، (3) وإذا الملائكة قد حفَّت حوله ، فرجع إليهم فقال : إن نبيًّا قد ولد البارحة ، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها ، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة ، (4) ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة. (5)
6895 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه ، إلا عيسى ابن مريم وأمه ، جُعل بينهما وبينه حجابٌ ، فأصابت الطعنة الحجابَ ، ولم ينفذ إليهما شيء وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر ، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.
__________
(1) في المطبوعة : " فقال " ، والصواب من المخطوطة.
(2) الخافقان : أفق المشرق وأفق المغرب ، محيطان بجانبي الأرض.
(3) المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة.
(4) أيس الرجل يأيس يأسًا ، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة.
(5) الأثر : 6894 - في المخطوطة " أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان " ، أو كأنها تقرأ " معتمر " ثم ضرب على " معمر " . والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني ، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق ، وروى عنه معتمر بن سليمان ، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري " حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال : أخبر المنذر بن النعمان الأفطس " . والمنذر مترجم في الكبير 4 / 1 / 359 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 242 ، وتعجيل المنفعة : 410.

(6/341)


6896 - حدثني المثنى قال ، حدثني إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم " ، قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه ، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال : وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه : وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له علينا سبيلٌ. (1)
6897 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا شعيب بن الليث قال ، حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه ، إلا عيسى ابن مريم ، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (2)
6898 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا شعيب قال ، أخبرنا الليث ، عن
__________
(1) الأثران : 6895 ، 6896 - هذان خبران مرسلان كما هو ظاهر.
(2) الحديث : 6897 - جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري : ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة.
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني : تابعي ثقة مشهور ، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند : 7276 ، وابن سعد 5 : 209 ، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك ، ومات سنة 117.
والحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2 : 130 ، من رواية الليث بن سعد ، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه ، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه.
وقد رواه أحمد في المسند : 10783 (ج 2 ص 523 حلبي) ، عن عبد الملك بن عمرو ، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، مرفوعًا ، بنحوه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2 : 57 ، عن رواية المسند. وقال : " وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه " .
ووقع في ابن كثير " المغيرة ، وهو ابن عبد الله الحزامي " ، وهو خطأ مطبعي.
ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم " لم يخرجوه من هذا الوجه " - فإن البخاري رواه 6 : 242 ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، مرفوعًا ، بنحو روايتي المسند والطبري.
فهذا من هذا الوجه : يجتمع مع إسناد المسند في " أبي الزناد " ، ومع إسناد الطبري في " الأعرج " .

(6/342)


جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال : قال أبو هريرة : أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه ؟ فإنها منها. (1)
6899 - حدثني أحمد بن الفرج قال ، حدثنا بقية بن الوليد قال ، حدثنا الزُّبيديّ ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 6898 - وهذا حديث صحيح ، بالإسناد السابق نفسه. وظاهره أنه موقوف ، من كلام أبي هريرة. وعن ذلك - فيما أرى - فصله الطبري عن المرفوع الذي قبله.
ومعناه ثابت صحيح ، من حديث أبي هريرة مرفوعًا :
فرواه مسلم 2 : 224 ، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه ، عن أبي هرير ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صياح المولود حين يقع ، نزغة من الشيطان " .
ثم معناه ثابت مرفوعًا ، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة.
(2) الحديث : 6899 - بقية بن الوليد الحمصي : ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه ، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة.
الزبيدي - بضم الزاي : هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة ، روى له الشيخان.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2 : 57 ، عن الموضع ، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي " عبد الله بن الزبيدي " ! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم.
وهذه الرواية ، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه : 6887 ، 6891 ، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان.
وقد أشار الحافظ في الفتح 6 : 338 إلى هذه الرواية ، عند رواية الزهري عن ابن المسيب ، فقال : " كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي : عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري " .
ووقع في الفتح " السدي " بدل " الزبيدي " . وهو تحريف من الناسخين.

(6/343)


فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

القول في تأويل قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة ، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها (1) " بقبول حَسن " .
* * *
" والقبول " مصدر من : " قبِلها ربُّها " ، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان : " فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا " . وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا : أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال ، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة ، وذلك كقولهم : " تكلم فلان كلامًا " ، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل : " تكلم فلان تكلمًا " . ومنه قوله : " وأنبتها نباتًا حسنًا " ، ولم يقل : إنباتًا حسنًا. (2)
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : لم نسمع العرب تضم القاف في " قبول " ، وكان القياس الضمّ ، لأنه مصدر مثل : " الدُّخول ، والخروج " . قال : ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.
6900 - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال ، أخبرني اليزيدي ، عن أبي عمرو.
* * *
وأما قوله : " وأنبتها نباتًا حسنًا " ، فإن معناه : وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا ، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة ، كما : -
__________
(1) في المطبوعة : " بتحريرها " ، وفي المخطوطة " تحريرها " بغير باء قبلها ، وكأن الصواب " وتحريرها " كما أثبت ، معطوفًا على " تقبل مريم " .
(2) انظر بيان ذلك فيما سلف 1 : 116 ، وقد عدد هناك شواهده / ثم 5 : 533 ، 534.

(6/344)


6901 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال الله عز وجل : " فتقبلها ربها بقبول حسن " ، قال : تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة ، وأجرَها فيها " وأنبتها " ، قال : نبتت في غذاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكفلها "
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : ( وَكَفَلَهَا ) مخففة " الفاء " . بمعنى : ضمها زكريا إليه ، اعتبارًا بقول الله عز وجل : ( يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) [سورة آل عمران : 44].
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين.( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) ، بمعنى : وكفَّلها اللهُ زكريا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( وَكَفَّلَهَا ) مشددة " الفاء " ، بمعنى : وكفَّلها الله زكريا ، بمعنى : وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له ، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها ، فجعله بها أولى منهم ، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (1)
__________
(1) قرع (بفتح القاف والراء) : أصابته القرعة دونهم. يقال : قارعني فلان فقرعته : خرجت لي القرعة دونه. وشاحه في الأمر وعليه ، وتشاحا عليه وفيه (بتشديد الحاء) : إذا تنازعاه ، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته ، كأن بعضهم يشح على بعض فيه.

(6/345)


وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده ، تساهموا بقِدَاحهم ، فرموا بها في نهر الأردنّ. (1) فقال بعض أهل العلم : ارْتزّ قدح زكريا ، (2) فقام ولم يجر به الماء ، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها. (3)
* * *
وقال آخرون : بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر ، (4) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت ، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.
* * *
قال أبو جعفر : وأيّ الأمرين كان من ذلك ، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه ، بأنه أولاهم بها ، وإذْ كان ذلك كذلك ، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها ، واختصامهم في أولاهم بها.
__________
(1) في المطبوعة : " رموا بها " ، والصواب بالفاء ، من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " رتب قدح زكريا " ، ورتب الشيء : ثبت ، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها " ارتز " ، والراء مشبوكة بأسفل التاء ، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و " رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا ، فارتز فيه " : أثبته فثبت ، مثل رز السكين في الحائط ، فهو يرتز فيه.
(3) في المطبوعة : " فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها " لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة " فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه... " ، وكان النساخ قد كتب " آية " ، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم ، ليجعل " آية " " وعلمًا " ، فاضطرب الخط ، فلم يحسن الناشر قراءتها ، فأسقطها ، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة " المتنازعين فيها ها " فلم يحسن قراءة " ها " الأخيرة ، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا ، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له ، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام ، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا.
(4) في المطبوعة : " بل صعد قدح زكريا " ، وفي المخطوطة " صاعد " ، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد ، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال : " صعد " ، و " اصعد " (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و " اصاعد " (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع.

(6/346)


وإذْ كان ذلك كذلك ؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد " كفَّلها " .
* * *
وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف " الفاء " ، من قول الله : ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله : " وكفلها " فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (1)
ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل : " كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان " . فكذلك القول في ذلك : ألقى القوم أقلامهم : أيهم يكفُل مريم ، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
* * *
قال أبو جعفر : وكذلك اختلفت القرأة في قراءة " زكريا " .
فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.
وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.
وهما لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين ، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
* * *
غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ " زكريا " أن يُنصب بغير تنوين ، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى ، (2) ولأن قراءتنا في " كفَّلها " بالتشديد ، وتثقيل " الفاء " . فـ " زكرياء " منصوب بالفعل الواقع عليه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " على ضعف اختيار المحتج بها " ، وهي فاسدة ضعيفة المعنى ، والصواب من المخطوطة. والاحتيال : طلب الحيلة والمخرج.
(2) الإجراء : الصرف. يعني : لا يصرف ، لأنه ممنوع من الصرف ، كما يقول النحاة.
(3) الواقع عليه : المتعدي إليه. وقد سلف أن " الوقوع " هو " التعدي " ، فاطلبه في فهرس المصطلحات.

(6/347)


وفي " زكريا " لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها ، لخلافها مصاحفَ المسلمين ، وهو " زكريّ " بحذف المدة و " الياء " الساكنة ، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء ، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ " ياء " النسبة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وضمها اللهُ إلى زكريا ، من قول الشاعر : (2)
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (3)
يراد به : (4) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره ، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي :
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (5)
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم : " هفا الظَّليم " ، إذا أسرَع الطيران.
يقال منه للرجل : " ما لك تكفُل كلَّ ضالة " ؟ يعني به : تضمها إليك وتأخذُها.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربيّ ، عن عكرمة في قوله : ( إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
__________
(1) انظر مقالة الفراء في " زكريا " في معاني القرآن 1 : 208.
(2) غاب عني قائله ، وإن كنت أذكر الشعر.
(3) " الهوام " ، هي الهوامي ، جمع هامية. وهوامي الإبل : ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال ، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي ، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء : 490.
(4) في المطبوعة : " يراد أنه " ، والصواب من المخطوطة.
(5) " الهوام " ، وهي الهوامي ، جمع هامية. وهوامي الإبل : ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال ، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي ، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء : 490.

(6/348)


مَرْيَمَ ) ، قال : ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية ، إلا قلم زكريا اصّاعدَ ، (1) فكفلها زكريا.
6903 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وكفلها زكريا " ، قال : ضمها إليه. قال : ألقوا أقلامهم - يقول : عصَّيهم - قال : فألقوها تلقاء جِرْية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء ، (2) فَقرَعهم.
6904 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال الله عز وجل : " فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا " ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم : انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه ، (3) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ ، وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته. (4) فلما أتوا بها اقترعوا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إلا قلم زكريا صاعدًا " ، وهو لا معنى له ، وانظر ما سلف ص 346 تعليق : 4. وقوله : " الجرية " (بكسر الجيم وسكون الراء) ، وهي حالة الجريان ، والذي يسميه كتابنا اليوم : " التيار " .
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " فاستقبلت " ، ولست أرتضيها ، وكأنها " واستعلت " ، من قولهم : " علاه وتعلاه واستعلاه " ، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه : " ومنه : وعال قلم زكريا الجرية ، وجرت الأقلام مع جرية الماء " ، وكأن هذا اللفظ " وعالى " ، وكلتاهما صواب بمعنى : قهر وغلب ، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله : " فقرعهم " ، فقد سلف تفسيرها ص : 345 ، تعليق : 1.
(3) في المطبوعة ، وسنن البيهقي 10 : 286 هكذا " يجربونه " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وأخشى أن يكون هذا خطأ ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور 2 : 20 ، خرج هذا الأثر ، ونسبه للبيهقي في السنن ، وفيه : " إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر ، اقترعوا عليه... " ، فكأن صواب هذا الحرف " يحررونه " اتصلت الراء بالواو فقرأوها " يجربونه " . وهذا الأثر الذي رواه السدي ، هو في سنن البيهقي ، بإسناد السدي في التفسير ، الذي مضى الكلام فيه في رقم : 168 ، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي ، لما طال الكتاب.
(4) في سنن البيهقي ، والدر المنثور : " وكانت أخت مريم تحته " ، وهو خطأ لا شك فيه ، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم ، كانا متزوجين بأختين ، إحداهما عند زكريا ، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران ، وهي أم مريم ، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري 2 : 13.

(6/349)


عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، تحتي أختها! (1) فأبوا ، فخرجوا إلى نهر الأردنّ ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها : أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام ، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين ، (2) فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل : " وكفلها زكريا " ، فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو المحراب. (3)
6905 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وكفلها زكريا " ، يقول : ضمها إليه.
6906 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وكفلها زكريا " ، قال : سَهمهم بقلمه. (4)
6907 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
6908 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال : فتشاحَّ عليها أحبارُهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة : وكان زكريا زوجَ أختها ، (5) فكفلها ، وكانت عنده وَحضَنَها.
__________
(1) في المطبوعة : " تحتي خالتها " ، والصواب ما في الطبري والدر المنثور وسنن البيهقي ، وكأن الناشر ظن أنه أراد " أخت مريم " ، فغيرها ، وإنما أراد زكريا بمقالته ، أخت أم مريم ، التي جاءت تحملها.
(2) القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال : لحد السيف والسنان والسهم وغيرها " قرنة " ، وهو طرفه وذبابه.
(3) الأثر : 6904 - سنن البيهقي 10 : 286 ، والدر المنثور 2 : 20.
(4) ساهم القوم فسهمهم ، وقارعهم فقرعهم : فاز سهمه ، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه.
(5) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " زوج أختها " ، وظاهر أن كلام قتادة مختصر ، كان في ذكر " أم مريم " ، وأن قوله : " زوج أختها " ، أي زوج أخت مريم ، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص 350 تعليق : 1. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد.

(6/350)


6909 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره ، عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة قال : ثم خرجت بها يعني : أمّ مريم بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون ، أخي موسى بن عمران. قال : وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة ، فقالت لهم : دُونكم هذه النذيرة ، فإنّي حرّرتها ، وهي ابنتي ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا : هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤُمهم في الصلاة وصاحب قُرْباننا! (1) فقال زكريا : ادفعوها إلىّ ، فإن خالتها عندي. قالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا ، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا ، فكفلها.
6910 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعلها زكريا معه في محرابه ، قال الله عز وجل : " وكفلها زكريا " قال حجاج قال ، ابن جريج : " الكاهنُ " في كلامهم : العالمُ.
6911 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وكفلها زكريا " ، بعد أبيها وأمها ، يذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (2)
6912 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " وصاحب قربانهم " ، وفي المخطوطة " وصاحب " وما بعدها بياض ، واستظهر الناشر زيادتها هكذا ، وأستظهر أن زيادتها كذلك ، على أنها من تمام قولهم : " هذه ابنة إمامنا معطوفًا عليه ، وما بينهما جملة معترضة للبيان من راوي الخبر.
(2) الأثر : 6910 - سيرة ابن هشام 2 : 229 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم 6877.

(6/351)


عطاء ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " ، قال : كانت عنده.
6913 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " ، قال : جعلها زكريا معه في مِحْرابه.
6914 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا " ، وتقارعها القومُ ، فقرَع زكريا ، فكفلها زكريا.
* * *
وقال آخرون : بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها ، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها ، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة ، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (1) وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى : إشبع. (2)
6915 - حدثنا بذلك القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبأيّ : أن اسم أم يحيى أشبع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إيشاع " ، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري 2 : 13 ، وهو في كتاب القوم " أليصابات " ، ومعناها كما في قاموسهم كتابهم " الله حلفها ، أي عائدة الله " ، وكأنه هو الاسم العبري القديم " أليشابع " ، ومعناه أيضًا " الله حلفها " ، وهو اسم امرأة هارون.
(2) في المطبوعة : " أشيع " بالياء ، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(3) الأثر : 6915 - " وهب بن سليمان الجندي اليماني " ، روى عن شعيب الجبأي ، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير 4 / 2 / 169 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 27. و " شعيب الجبأي ، الجندي البجلي " ، منسوب إلى " جبأ " وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو : " شعيب بن الأسود " . قال : يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام ، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير 2 / 2 / 219 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 353. وكان في المطبوعة : " شعيب الحياني " خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

(6/352)


فضمها إلى خالتها أمّ يحيى ، فكانت إليهم ومعهم ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.
قالوا : والاقتراع فيها بالأقلام ، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم ، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها ، فتدافعوا حملَ مؤونتها ، لا رغبة منهم ، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك ، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.
6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق.
فعلى هذا التأويل ، تصح قراءة من قرأ : " وكفَلها زكريا " بتخفيف " الفاء " ، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل : أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها ، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (1) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
* * *
القول في تأويل قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ ، بعد إدخاله إياها المحراب ، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها ، فاكهةُ الشتاء في الصيف ، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.
__________
(1) السهم الفالج : الفاتر.

(6/353)


ذكر من قال ذلك :
6917 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحسن بن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وجد عندها رزقًا " ، قال : وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (1)
6918 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد في قوله : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا " ، قال : العنب في غير حينه.
6919 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وجد عندها رزقًا " ، قال : فاكهة في غير حينها.
6920 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي ، عن الضحاك : أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهةَ الشتاء في الصيف يعني في قوله : " وجد عندها رزقًا " . (2)
6921 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك مثله.
6922 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه ، عن الضحاك مثله.
6923 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك مثله.
6924 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث ، عن مجاهد قال : كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.
6925 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) المكتل والمكتلة (بكسر الميم) : الزبيل الكبير يحمل فيه التمر أو العنب ، كأن فيه كتلا منه ، أي قطعًا مجتمعة.
(2) الأثر : 6920 - " أبو إسحاق الكوفي " ، هو : عبد الله بن ميسرة ، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة ، روى عنه هشيم ، وكناه أبا إسحاق ، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان : لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري.

(6/354)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وجد عندها رزقًا " ، قال : عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.
6926 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
6927 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " وجد عندها رزقًا " ، قال : فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف.
6928 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا " ، قال : كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء.
6929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وجد عندها رزقًا " ، قال : وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.
6930 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب ، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف ، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.
6931 - حدثني موسى [بن عبد الرحمن] (1) قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : قال : جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف ، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (2)
__________
(1) الأثر : 6931 - " موسى بن عبد الرحمن " ، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ، وهو غريب جدًا ، ولم أعرف من هو " موسى بن عبد الرحمن " ، ولكن إسناد الطبري إلى السدي ، منذ بدأ التفسير ، فيه " حدثنا موسى بن هارون الهمداني " ، وهو إسناد دائر فيه دورانًا ، إلا هذا الموضع ، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ ، وأنه " موسى بن هارون " ، ونسي الناسخ فكتب مكان " هارون " ، " عبد الرحمن " . وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم : 168.
(2) الأثر : 6931 - " موسى بن عبد الرحمن " ، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ، وهو غريب جدًا ، ولم أعرف من هو " موسى بن عبد الرحمن " ، ولكن إسناد الطبري إلى السدي ، منذ بدأ التفسير ، فيه " حدثنا موسى بن هارون الهمداني " وهو إسناد دائر فيه دورانًا ، إلا هذا الموضع ، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ ، وأنه " موسى بن هارون " ، ونسي الناسخ فكتب مكان " هارون " ، " عبد الرحمن " . وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم : 168.

(6/355)


6932 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وجدَ عندها رزقًا " ، قال : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.
6933 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا " ، قال : وجد عندها ثمارَ الجنة ، فاكهةَ الصّيف في الشتاء ، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.
6934 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم : أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف ، وثمرةَ الصيف في الشتاء.
6935 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن قال : كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء ، من الله ، ليس من عند الناس. وقالوا : لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده ، لم يسألها عنه.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به ، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.
ذكر من قال ذلك :
6936 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها ، فجعلت تنبت وتزيد. قال : ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها ، حتى ضعف زكريا عن حملها ، فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل ، أتعلمون ؟ والله لقد ضعفتُ عن

(6/356)


حَمل ابنة عمران! فقالوا : ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! (1) فتدافعوها بينهم ، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًا ، حتى تقارعوا بالأقلام ، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج ، قال : فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فكانت تقول له : يا جريج ، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها ، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها ، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة ، أنماه الله وكثَّره ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق ، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج ، فيقول : " يا مريم ، أنَّى لك هذا " ؟ فتقول : " هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب " .
* * *
قال أبو جعفر : وأما " المحراب " ، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى ، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها ، وكذلك هو من المساجد ، ومنه قول عديّ بن زيد :
كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ... كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (2)
__________
(1) في المخطوطة : " لقد جهدنامن هذه السنة ما أصابكم " وبينهما بياض ، والذي في المطبوعة صواب جيد.
(2) ديوانه في شعراء الجاهلية : 455 ، وسيأتي في التفسير 22 : 48 (بولاق) ، يصف نساء ، يقول : هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض : يعني بيض النعام. والروض جمع روضة : وهي البستان الحسن ، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي " الروض " على الإفراد فقال : " زهره مستنير " ، كأنه عده مفردًا مذكرًا ، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد ، مثل ثور ونور ، وأشباهها فذكره للفظه ، وإن كنت أستجيز أن يكون " الروض " مفردًا غير جمع ، ولم أجد ذلك في كتب اللغة ، ولكن البيت شاهد عليه ، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد.
وقوله : " مستنير " من " النور " ، وهو زهر الشجر والنبات. يقال : " نورت الشجرة وأنارت " ، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة " استنارت الشجرة " ، ولكن بيت عدي شاهد جيد ، وهو من عتيق العربية.
يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى ، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون ، فزادها بهاء ، وزادته حسنًا.
وهذا البيت في المخطوطة : " وهو مشتق / مستنير " و " مستنير " مكتوبة في هامش الصفحة ، ولم أدر كيف كان ، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة ، وأخشى أن يكون الناسخ كتب : " وهو مشتق " ثم عاد فقرأ " مشتق " " مستنير " فكتبها في الهامش ، فيكون الخطأ في كتابته " وهو " ، التي هي : " زهره " .

(6/357)


و " المحاريب " جمع " محراب " ، وقد يجمع على " محارب " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قال " زكريا : " يا مريم : أنَّى لك هذا " ؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ ؟ (2) قالت مريم مجيبة له : " هو من عند الله " ، تعني : أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
* * *
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها ، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب ، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك ، ويقول لها تعجبًا مما يرى : " أنَّى لك هذا " ؟ فتقول : من عند الله.
6937 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع.
6938 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، فذكر نحوه.
6939 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله " ، قال : فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة
__________
(1) لم ينص على ذلك أصحاب اللغة ، ولكنه قياس يرتضى. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 91.
(2) انظر تفسير " أنى " فيما سلف 4 : 398 - 416 / ثم 5 : 312 ، 447.

(6/358)


عند أحد ، فكان زكريا يقول : " يا مريم أنَّى لك هذا " ؟
* * *
وأما قوله : " إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب " ، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه ، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه ، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه ، ومحاسَبته عليه في مُلكه ، وفيما لديه شيئًا ، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه ، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه ، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه ، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ، (1) ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من يخشى النقصان من ملكه بخروج ما خرج من عنده. . . " ، وفي المخطوطة : " من يخشى النقصان من ملكه ، ودخول بخروج ما خرج من عنده... " ، وبين الكلامين بياض ، فلما لم يجد الناشر ما يكتبه مكانها ، حذف " ودخول " ووصل الكلامين. وزدت أنا " النفاد عليه " مكان البياض استظهارًا من سياق الكلام ، ومن تفسير هذه الجملة في مواضع أخرى سأذكرها فيما يلي.
(2) انظر تفسير : " يرزق من يشاء بغير حساب " فيما سلف 4 : 274 / ثم 6 : 311.

(6/359)


هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

القول في تأويل قوله : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) }
قال أبو جعفر : وأما قوله : " هنالك دعا زكريا ربه " ، فمعناها : عند ذلك ، أي : عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها ، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها (1) ومعاينته عندَها الثمرة
__________
(1) قوله : " ومعاينته عندها... " معطوف على قوله آنفًا : " عند رؤية زكريا. . . " .

(6/359)


الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض (1) طمع بالولد ، مع كبر سنه ، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد ، مع الحال التي هما بها ، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف ، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض ، بل المعروف في الناس غير ذلك ، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةُ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد ، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت ، كما : -
6940 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني : فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف قال : إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه ، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد ، فقام فصلَّى ، ثم دعا ربه سرًّا فقال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) [سورة مريم : 4 - 6] ، وقوله : (2) ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) وقال : ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) [سورة الأنبياء : 89].
6941 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ،
__________
(1) سياق الجملة : أي عند رؤية زكريا ما رأى. . . وعند معاينته عندها الثمرة... طمع بالولد... " وفي المطبوعة : " طمع في الولد.. " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكلاهما صواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وقوله " ، والسياق يقتضي ما أثبت ، وذاك من عجلة الناسخ.

(6/360)


قال : فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال : إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه ، قادرٌ أن يرزقني ولدًا ، قال الله عز وجل : " هنالك دعا زكريا ربه " ، قال : فذلك حين دعا.
6942 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة قال : فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ ، وناجى ربه فقال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ) إلى قوله : ( رَبِّ رَضِيًّا ) ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) الآية.
6943 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم قال : فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له ، وقد انقرض أهل بيته فقال : " ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء " ، ثم شكا إلى ربه فقال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ) إلى( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ) الآية.
* * *
وأما قوله : " ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة " ، فإنه يعني بـ " الذرية " النسل ، وبـ " الطيبة " المباركة ، (1) كما : -
6944 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة " ، يقول : مباركة.
* * *
__________
(1) انظر قوله " ذرية " فيما سلف 3 : 19 ، 79 / ثم 5 : 543 / 6 : 327 ولم يفسرها في هذه المواضع ، ثم فسرها هنا ، وهو من اختصار هذا الكتاب الجليل ، كما قيل في ترجمته.
ثم انظر تفسير " الطيب " فيما سلف 3 : 301 / ثم 5 : 555.

(6/361)


وأما قوله : " من لدنك " ، فإنه يعني : من عندك.
* * *
وأما " الذرية " ، فإنها جمع ، وقد تكون في معنى الواحد ، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر ، مخبرًا عن دعاء زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) [سورة مريم : 5] ، ولم يقل : أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث " طيبة " ، لتأنيث الذرّية ، كما قال الشاعر : (1)
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ، ذَاكَ الكَمَالُ (2)
فقال : " ولدته أخرى " ، فأنَّث ، وهو ذَكر ، لتأنيث لفظ " الخليفة " ، كما قال الآخر : (3)
فَمَا تَْزدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ... سُكَاتٍ ، إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا (4)
فأنث " الجبلية " لتأنيث لفظ " الحية " ، ثم رجع إلى المعنى فقال : " إذا مَا عَضّ " ، لأنه كان أراد حَية ذكرًا ، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه " فلانٌ " من الأسماء ، كـ " الدابة ، والذرية ، والخليفة " . فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك ،
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 208 سيأتي في التفسير 4 : 150 (بولاق).
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 208 ، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة : " كما تزدري... سكاب... ليس بأزدرا " ، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية ، فذاك أشد لها ولسمها ، يقول عنترة : أَصَمَّ جبَالِيٍّ ، إِذا عَضَّ عَضَّةً ... تَزَايَلَ عَنْهُ جِلْدُه فتبدّدَا
وحية سكوت وسكات (بضم السين) : إذا لم يشعر الملسوع به حتى يلسعه ، والأدرد : الذي سقطت أسنانه ، فلم يبق في فمه سن. يصف رجلا داهية. يقول : كيف تستخف به ، وهو حية فاتكة ، لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط ولم يذهب سمه.

(6/362)


فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

فكان في معنى " فلان " ، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته. (1)
* * *
وأما قوله : " إنك سميع الدعاء " ، فإن معناه : إنك سامع الدعاء ، غير أنّ " سميع " ، أمدَحُ ، وهو بمعنى : ذو سمع له. (2)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه : إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية ، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال : رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا ، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة : " فنادته الملائكة " على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع " الملائكة " . وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها ، أنَّثت أفعالها ، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث ، كقولهم : جاءَت الطَّلحات " .
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، (3) بمعنى فناداه جبريل ، فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ ، (4) فكذلك يذكِّرون
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 208 ، 209.
(2) انظر تفسير " سميع " فيما سلف 2 : 140 ، 377 ، 540 / 3 : 399 / 4 : 488.
(3) يعني قراءة من قرأ " فناداه " ممالة ، ورسمها في المصحف عندئذ " فناديه " بالياء ، وهي قراء حمزة والكسائي.
(4) انظر ص : 362.

(6/363)


فعلَ المؤنث أيضًا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءةٍ يذكر أنها قراءَةُ عبد الله بن مسعود ، وهو ما : -
6945 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، أنّ قراءة ابن مسعود : ( فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ).
* * *
وكذلك تأوّل قوله : " فنادته الملائكة " جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6946 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فنادته الملائكة " ، (1) وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل " أنّ الله يُبشرك بيَحيى " .
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : " فنادته الملائكة " ، و " الملائكة " جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب ، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : " خرج فلان على بغال البُرُد " ، وإنما ركب بغلا واحدًا " وركب السفن " ، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال : " ممن سمعتَ هذا الخبر " ؟ فيقال : " من الناس " ، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) [سورة آل عمران : 173] ، والقائلُ كانَ فيما كان ذُكر - واحدًا (2) وقوله : ( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ )
__________
(1) في المخطوطة : " فناداه الملائكة " .
(2) انظر ما سلف 1 : 292 ، 293 / 4 : 191.

(6/364)


[سورة الروم : 33] ، والناس بمعنى واحد. وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان أعني " التاء " و " الياء " فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين ، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب ، وذلك أنّ " الملائكة " إن كان مرادًا بها جبريل ، كما روى عن عبد الله ، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها ، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها.
وإن كان مرادًا بها جمع " الملائكة " ، فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قَبلها ، للفظها. (2) وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها ، أنثته ، فقالت : " قالت النساء " . وجائز التذكير في فعلها ، بناءً على الواحد ، إذا تقدم فعله ، فيقال : " قال الرجال " .
* * *
وأما الصّواب من القول في تأويله ، فأنْ يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك ، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، وجبريلُ واحد.
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن (3) إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقل ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم : قتادة ، والربيع
__________
(1) انظر معان القرآن للفراء 1 : 210
(2) في المطبوعة : " وهو من قبلها " والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فلن يجوز... " ، والأشبه بالصواب ما أثبت.

(6/365)


بن أنس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مَضَى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " وهو قائم : " فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله : " وهو قائم " ، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا.
وقوله : " يُصَلي " في موضع نصب على الحال من " القيام " ، وهو رفع بالياء.
* * *
وأما " المحراب " ، فقد بينا معناه ، وأنه مقدّم المسجد. (2)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " أنّ اللهَ يبشرك " .
فقرأته عامة القرأة : ( أَنَّ اللَّهَ ) بفتح " الألف " من " أن " ، بوقوع " النداء " عليها ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة : ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) بكسر " الألف " ، بمعنى : قالت الملائكة : إنّ الله يبشرك ، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله : ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) قالوا : وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله : " يا زكريا " ، فباطلً أيضًا
__________
(1) لم يمض من ذلك شيء في خبر زكريا ومريم ، وأنا أخشى أن يكون في النسخ المخطوطة التي بأيدينا اختصار في هذا الموضع.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص : 357 ، 358.

(6/366)


أن يكون عاملا في " إن " .
* * *
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " أنّ الله يبشرك " بفتح " أن " بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك.
وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر " إن " منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك ، فقرأوها كذلك [لهم بعلة] (1) وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم ، وقد اعترض بنداء زكريا بين " إن " وبين قوله : " فنادته " ، (2) وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في " أنّ " ، وتبطله عنها. أما الإبطال ، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، (3) فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقعٌ. كسائر الأفعال. (4)
وأما قراءتنا ، (5) فليس نداء زكريا ب " يا زكريا " معترضًا به بين " أن " وبين قوله : " فنادته " . وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ : " ناديت " اسمَ المنادِى وأوقعوه عليه ، أن يوقعوه كذلك على " أنّ " بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله ، فقوله : " نادته " ، قد وَقع على مكنيّ " زكريا " ، (6) فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على " أن " وعاملا فيها. (7)
__________
(1) في المطبوعة : " من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، وذلك أن عبد الله... " ، حذف من نص المخطوطة ما أثبته " فقرأوها كذلك " ، وبقيت الجملة بعد ذلك مختلة ، قد سقط منها خبر " وليست العلة... " ، فاستظهرت من سياق كلامه أنه قد سقط من الناسخ قوله : " لهم بعلة " فزدتها بين قوسين ، والسياق " وليست العلة... لهم بعلة " .
(2) في المطبوعة : " وقد اعترض بيا زكريا " وفي المخطوطة : " بهذا زكريا " ، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المخطوطة أيضًا " فناداه " ، مكان " فنادته " .
(3) في المطبوعة : " فإنه بطل عن العمل " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(4) الفعل الواقع : هو الفعل المتعدي ، كما سلف ، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف ، والوقوع هو التعدي.
(5) في المخطوطة : " وأما قراءتها " ، والصواب ما في المطبوعة.
(6) الفعل الواقع : هو الفعل المتعدي ، كما سلف ، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف ، والوقوع هو التعدي.
(7) انظر تفصيل ما أجمله الطبري في معاني القرآن للفراء 1 : 210 ، 211.

(6/367)


مع أنّ ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام. ولا يُعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيءَ الحجة.
* * *
وأما قوله : " يبشرك " ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) بتشديد " الشين " وضم " الياء " ، على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : " بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا " ، أي : أتته بشارات البُشراء بذلك. (1)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم : ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) ، بفتح " الياء " وضم " الشين " وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك ، من قول الشاعر : (2)
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجُ يُتْلَى كِتَابُهَا (3)
وقد قيل : إن " بشَرت " لغة أهلِ تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : " بشَرتُ فلانًا بكذا ، فأنا أبشُرُه بَشْرًا " ، و " هل أنتَ باشرٌ بكذا " ؟ وينشد لهم البيت في ذلك : (4)
وَإذَا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إلَى العُلَى... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " البشرى " مكان " البشراء " في الموضعين ، والصواب ما أثبت ، وظاهر أن الناسخ رآها " البشرا " ، بغير همزة كالكتابة القديمة ، فظنها " البشرى " فكتبها كذلك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) معاني القرآن للفراء ، وقال : " أنشدني بعض العرب " .
(4) هو عبد قيس بن خفاف البرجمي.
(5) الأصمعيات رقم : 87 ، والمفضليات رقم : 116 ، ولسان العرب (كرب) (بشر) (يسر) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 212 ، وغيرها من المراجع. وهي نصيحته إلى ولده جبيل ، وهي من حكيم الشعر.
بهش إلى الشيء : فرح به فأسرع إليه ، وروايتهم " إلى الندى " ، وهو الكرم. والقاع : أرض سهلة مستوية تنفرج عنها الجبال والآكام ، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر. والممحل : المجدب. يقول : إذا رأيت الكرام الأسخياء ، قد أجهدتهم السنة والقحط والجدب حتى اغبرت أيديهم من قلة ما يجدون ، وكثرة ما بذلوا في معونة الناس.. فأعنهم.

(6/368)


فَأَعِنْهُمُ ، وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ ، ... وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ (1)
فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال : " ابشَرْ فلانًا بكذا " ، ولا يكادون يقولون : " بشِّره بكذا ، ولا أبشِره " . (2)
* * *
وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : ( يبشرك ) ، بضم " الياء " وكسر " الشين " وتخفيفها. وقد : -
6947 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ الكوفيّ قال : من قرأ : (يُبَشِّرُهُمْ) مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ : ( يَبْشُرُهُمْ ) ، مخففة ، بنصب " الياء " ، فإنه من السرور ، يسرُّهم.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ، ضم " الياء " وتشديد " الشين " ، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة : ( فَبِمَ تُبِشِّرُون ) [سورة الحجر : 54] ، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره ، أنْ يكون مثله في التشديد وضم " الياء " .
* * *
__________
(1) " وابشر " هي من " بشر " على وزن (فرح) " يبشر " (بفتح الشين) يقال : " أتاني أمر بشرت به " أي سررت به. يقول : شاركهم في ارتياحهم وفرحهم بالسخاء مع ما يلقون من جهد السنة. والضنك : الضيق. يقول : كن مع الكرام حيث كانوا ، وانزل معهم كل منزل أنزلهموه كرمهم ، من ضنك وحاجة.
(2) انظر تفسير : " بشرى " و " بشر " فيما سلف 1 : 383 / 2 : 393 ، / 3 : 221 / 6 : 287.

(6/369)


وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجدْ أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حُكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ... هَلا غَضِبْتَ لَنَا? وَأَنْتَ أَمِيرُ! (1)
فقد علم أنه أراد بقوله " التبشير " ، الجمال والنضارة والسرور ، فقال " التبشير " ولم يقل " البشر " ، فقد بيَّن ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحدٌ.
* * *
6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " إن الله يبشرك بيحيى " ، قال : بشرته الملائكة بذلك.
* * *
وأما قوله : " بيحيى " ، فإنه اسم ، أصله " يفعل " ، من قول القائل : " حيي فلانٌ فهو يحيَى " ، وذلك إذا عاش. " فيحيى " " يفعل " من قولهم " حيي " .
وقيل : إن الله جل ثناؤه سماه بذلك ، لأنه يتأوّل اسمه : أحياه بالإيمان.
ذكر من قال ذلك :
6949 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أنّ الله يبشرُك بيحيى " ، يقول : عبدٌ أحياه الله بالإيمان.
6950 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) ديوانه : 301 ، وطبقات فحول الشعراء : 378 ، وغيرها. من قصيدته التي قالها لبشر بن مروان ، وكان قدم معه العراق ، سراقة البارقي ، وكان بشر يغري بين الشعراء ، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه. فترك جرير بشرًا ، بل مدحه ، وأخذ بمجامع سراقة يخنقه حتى فضحه. وعاتب بشرًا عتاب من يظهر الجهل بأمر بشر ، وهو يعلمه. وهذا البيت دال على ذلك.
كان في المطبوعة : " حق لبشرك التبشير " ، وهو من سهو الناشر ، كما سلف من سهوه ، والصواب في المخطوطة وسائر المراجع.

(6/370)


جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : " إنّ الله يبشرك بيحيى " ، قال : إنما سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان.
* * *
القول في تأويل قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : (1) أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك ، " مصدّقًا بكلمة من الله " ، يعني : بعيسى ابن مريم.
* * *
ونصب قوله : " مصدقًا " على القطع من " يحيى " ، (2) لأنّ " مصدقًا " نعتٌ له ، وهو نكرة ، و " يحيى " غير نكرة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6951 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال ، حدثنا محمد بن ربيعة قال ، حدثنا النضر بن عربيّ ، عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال : فوضعت امرأةُ زكريا يحيى ، ومريمُ عيسى ، ولذا قال : " مصدِّقًا بكلمة من الله " ، قال : يحيى مصدّق بعيسى.
6952 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الرقاشي في قول الله : " يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله " ، قال : مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
__________
(1) في المطبوعة : " يعني بقوله جل ثناؤه " ، والصواب من المخطوطة.
(2) القطع : الحال ، كما سلف مرارًا ، آخرها ص : 327 تعليق 2 ، والمراجع هناك.

(6/371)


6953 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
6954 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة في قوله : " مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : مصدقًا بعيسى.
6955 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مصدقًا بكلمة من الله " ، يقول : مصدّقًا بعيسى ابن مريم ، وعلى سُنَّته ومنهاجه. (1)
6956 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " مصدقًا بكلمة من الله " ، يعني : عيسى ابن مريم.
6957 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : " مصدقًا بكلمة من الله " ، يقول : مصدقًا بعيسى ابن مريم ، يقول على سننه ومنهاجه.
6958 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى ، وهو كلمة من الله ورُوحٌ.
6959 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " مصدقًا بكلمة من الله " ، يصدق بعيسى.
6960 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله " ، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى.
__________
(1) في المطبوعة : " مصدق... وعلى سننه " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/372)


6961 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس قوله : " مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : عيسى ابن مريم ، هو الكلمة من الله ، اسمه المسيح.
6962 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : قوله : " مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى : سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى ، ويحيى أكبر من عيسى. (1)
6963 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : الكلمة التي صدق بها : عيسى.
6964 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى ، وهذه حامل بيحيى ، وهذه حامل بعيسى ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم ، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم : استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا : فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله : " مصدّقًا بكلمة من الله " .
6965 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله : " أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله " ، قال : مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
* * *
قال أبو جعفر : وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة ، (2)
__________
(1) السجود هنا : الخضوع والتطامن والخشوع ، لا سجود الصلاة والعبادة. وإنما سجود الصلاة مجاز من هذا الأصل ، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2 : 104 ، 105.
(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن 1 : 91.

(6/373)


أنّ معنى قوله : " مصدقًا بكلمة من الله " ، بكتاب من الله ، من قول العرب : " أنشدني فلانٌ كلمة كذا " ، يراد به : قصيدة كذا جهلا منه بتأويل " الكلمة " ، واجتراءً على تَرجمة القرآن برأيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَسَيِّدًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وسيدًا " ، وشريفًا في العلم والعبادة.
* * *
ونصب " السيد " عطفًا على قوله : " مصدقًا " .
* * *
وتأويل الكلام : أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا ، وسيدًا.
* * *
" والسيد " " الفيعل " من قول القائل : " سادَ يسود " ، (2) كما : -
6966 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وسيدًا " إي والله ، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع.
6967 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة في قوله : " وسيدًا " ، قال : السيدُ ، لا أعلمه إلا قال : في العلم والعبادة.
__________
(1) ترجمة القرآن تفسيره وبيانه ، وانظر ما سلف 1 : 70 ، تعليق : 1 ، وانظر فهرس المصطلحات. وإذا كان أبو جعفر يعد هذا اجتراء على تفسير كتاب الله ، فليت شعري ماذا يقول في الذين نصبوا أنفسهم ، من أهل زماننا ، للتهجم على كتاب الله ، بما لا تعد فيه مقالة أبي عبيدة ، إلا تسبيحًا واستغفارًا واجتهادًا في العبادة!!
(2) انظر ما سلف 3 : 319.

(6/374)


6968 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قال : السيد الحليم.
6969 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، " وسيدًا " ، قال : الحليم.
6970 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " وسيدًا " ، قال : السيد التقىّ.
6971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وسيدا " ، قال : السيد الكريم على الله.
6972 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال : زعم الرّقاشي أنّ السيد ، الكريم على الله.
6973 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول الله عز وجل : " وسيدًا " ، قال : السيد الحليم التقي.
6974 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وسيدًا " ، قال : يقول : تقيًّا حليما.
6975 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان في قوله : " وسيدًا " ، قال : حليما تقيًّا.
6976 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : " وسيدًا " ، قال : السيد : الشريف.
6977 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد ،

(6/375)


عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل : " وسيدًا " ، قال : السيد الفقيه العالم.
6978 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وسيدًا " ، قال ، يقول : حليما تقيًّا.
6979 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة : " وسيدًا " ، قال : السيد الذي لا يغلبُه الغضب.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : ممتنعًا من جماع النساء ، من قول القائل : " حَصِرْتُ من كذا أحْصَر " ، إذا امتنع منه. ومنه قولهم : " حَصِرَ فلان في قراءته " ، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك " حَصْرُ العدوّ " ، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف ، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا ، " حَصُور " ، كما قال الأخطل :
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي... لا بِالَحصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ (1)
ويروى : " بسآر " . ويقال أيضًا للذي لا يخرج سره ويكتمه " حصور " ،
__________
(1) ديوانه : 116 ، ومجاز القرآن 1 : 92 ، وطبقات فحول الشعراء : 432 ، واللسان (حصر) (سأر) (سور) ، من قصيدته التي قالها ليزيد بن معاوية ، لما منعه حين هجا الأنصار في قصة مشهورة. وفي المخطوطة " مرجح بالكأس " ، وهو خطأ. والمربح : المعطي الربح للتاجر ، يريد أنه يغالي بثمن الخمر لا يبالي بما يبذل فيها. والسوار : الذي تسور الخمر في دماغه ، فيعربد على إخوانه وندمائه عربدة رديئة ، والخمر عندهم تشف عن غرائز شاربيها. وأما رواية " سآر " التي سيذكرها ، فهي من السؤر : وهو بقية الخمر في القدح. يريد أنه عرضة شراب ، لا يكف عن الخمر ، ولا يدع في كأسه سؤرًا من قلة صبره ، أو سوء احتماله لشدتها.

(6/376)


لأنه يمنع سره أن يظهر ، كما قال جرير :
وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الوُشَاةُ ، فَصَادَفُوا... حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا (1)
وأصل جميع ذلك واحد ، وهو المنع والحبس.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
6980 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن خلف قال ، حدثنا حماد بن شعيب ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله في قوله : " وسيدًا وحصورًا " ، قال : الحصور ، الذي لا يأتي النساء.
6981 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : حدثني ابن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال : ثم دلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه إلى الأرض ، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا ، ثم قال : وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، وبذلك سماه الله " سيدًا وحصُورًا " . (2)
__________
(1) ديوانه : 578 ، ومجاز القرآن 1 : 92 واللسان (حصر) (سقط) ، ورواية هذه الكتب وفي المطبوعة : " تَسَقَّطَنِي " غيروا ما في المخطوطة ، كما أثبته. وتسقطه واستسقطه : تتبع عثرته وسقطته أن يفرط منه ما يؤخذ عليه. من السقط (بفتحتين) وهو الخطأ في القول ، أو من السقطة (بفتح فسكون) وهي العثرة والزلة. وأما ما جاء في المخطوطة : " تساقطني " ، فإني أستجيدها. جيد أن يقال " ساقطه " بمعنى " تسقطه واستسقطه " ، وكأن " السقاط " بمعنى العثرة والزلة ، مصدر " ساقطه " ، وقد قال سويد بن أبي كاهل : كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي ، بَعْدَ مَا ... جَلَّلَ الرأسَ مشيبٌ وصَلَعْ
كأنه يجاذبه القول ، حتى يسقط ويزل ، وهو نفس المعنى في " تسقطه واستسقطه " ، وإذا جاز في صريح العربية ، فلا معنى لاطراحه. وفي المخطوطة ، أسقط الناسخ " أميم " من البيت وترك مكانها بياضًا ، وضع فيه نقطة حمراء.
(2) الأثر : 6981 - انظر التعليق على الأثر : 6983.

(6/377)


6982 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد قال ، سمعت سعيد بن المسيب يقول : ليس أحدٌ إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذَنْبٌ إلا يحيى بن زكريا ، كان حصورًا ، معه مثل الهُدْبة.
6983 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال ، حدثنا عمر بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قال ابن العاص - إما عبد الله ، وإما أبوه - : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب ، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب : " وسيدًا وحصورًا " ، قال : الحصور ، الذي لا يغشى النساء ، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. (1)
6984 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " وحصورًا " قال : الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال : ما كان معه إلا مثل هذه.
6985 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : الحصور ، الذي لا يأتي النساء.
6986 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد مثله.
6987 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد مثله.
6988 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال ، حدثنا محمد بن ربيعة قال ،
__________
(1) الحديث : 6983 - رواه الطبري قبل ذلك : 6981 ، عن سعيد بن المسيب : " حدثني ابن العاص... " - فذكره مطولا مرفوعًا. ثم رواه هنا عن ابن المسيب ، عن ابن العاص - مع الشك في أنه " عبد الله بن عمرو " أو " أبوه " - موقوفًا. وقد ذكره ابن كثير 2 : 135 ، من رواية ابن أبي حاتم - بهذا الشك - ولكنه مرفوع. ثم ذكره ص 135 - 136 ، من رواية ابن أبي حاتم أيضًا " عن عبد الله بن عمرو بن العاص " - موقوفًا. ووصف المرفوع بأنه " غريب جدًا " . ثم قال بعد الموقوف : " فهذا موقوف أصح إسنادًا من المرفوع " . وكذلك ذكر السيوطي 2 : 22 المرفوع والموقوف ، وقال : " وهو أقوى إسنادًا من المرفوع " .

(6/378)


حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : " وحصورًا " ، قال : الذي لا يأتي النساء.
6989 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الحصور : لا يقرَبُ النساء.
6990 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال : زعم الرقاشي : " الحصور " الذي لا يقرب النساء.
6991 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الحصور " ، الذي لا يولد له ، وليس له ماء.
6992 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وحصورًا " ، قال : هو الذي لا ماء له.
6993 - حدثنا بشر قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وحصورًا " ، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء.
6994 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة في قوله : " وسيدًا وحصورًا " ، قال : الحصور الذي لا يأتي النساء.
6995 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة مثله.
6996 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله.
6997 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الحصور الذي لا ينزل الماء.
6998 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد : " وحصورًا " ، قال : الحصور الذي لا يأتي النساء.

(6/379)


6999 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وحصورًا " ، قال : الحصور ، الذي لا يريد النساء.
7000 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وحصورًا " ، قال : لا يقرب النساء.
* * *
وأمّا قوله : " ونبيًّا من الصالحين " فإنه يعني : رسولا لربه إلى قومه ، ينبئهم عنه بأمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم.
* * *
ويعني بقوله : " من الصّالحين " ، من أنبيائه الصالحين. (1)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى " النبوّة " وما أصلها ، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه ، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف 3 : 91.
(2) انظر تفسير " النبي " فيما سلف 2 : 140 - 142.
هذا ، وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وكتب هنا ما نصه :
" يتلُوُه ، إن شاء الله ، القولُ في تأويل قوله :
{قال ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكِبَر وامرأتي عاقر}.
والحمد لله وحده على إحسانه ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم " .
ثم يتلوه ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري " .

(6/380)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

القول في تأويل قوله : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }
قال أبو جعفر : يعني أنّ زكريا قال إذ نادته الملائكة : " أنّ الله يُبشرّك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين " " أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر " ؟ يعني : مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ " وامرأتي عاقر " .
* * *
" والعاقر " من النساء التي لا تلد. يقال منه : " امرأة عاقر ، ورجلٌ عاقرٌ " ، كما قال عامر بن الطفيل :
لَبِئْسَ الفَتَى! إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا... جَبَانًا ، فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!! (1)
* * *
وأما " الكبر " فمصدر : " كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا " .
وقيل : " بلغني الكبر " ، وقد قال في موضع آخر : (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ)
__________
(1) ديوانه 119 ، ومجاز القرآن 1 : 92 ، وحماسة الشجري : 7 وغيرها ، وسيأتي في التفسير 16 : 37 (بولاق) وعامر بن الطفيل ، أحد العوران الأشراف (المحبر : 303) ، وقد ذهبت عينه يوم فيف الريح. وأما خبر عقمه ، فإنه صدق قول علقمة بن علاثة فيه ، فقال : " فقد والله صدق : ما لي ولد ، وإني لعاهر الذكر ، وإني لأعور البصر " (ديوانه 91 ، 92) ، وهذا البيت من أبيات قالها في يوم فيف الريح ، يذكر صبره في قتالهم ، وقد ذهبت عينه حين طعنه مسهر بن يزيد الحارثي بالرمح ، ففلق وجنته ، وانشقت عين عامر ففقأها. وذكروا أن عامرًا طعن يومئذ بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنة ، فقال عامر : لَعَمْري ، ومَا عَمْري عَلَيَّ بِهَيَّنٍ ... لقَدْ شَانَ حُرَّ الوَجْهِ طَعْنَةُ مُسْهِرِ
فَبِئْسَ الفَتَى. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول : من يعذرني إذا هبت عدوى وأحجمت عن حر الطعان ؟

(6/381)


[سورة مريم : 8] ، لأن ما بلغك فقد بلغته. وإنما معناه : قد كبرت ، وهو كقول القائل : " قد بلغني الجهد " (1) بمعنى : أني في جهد.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله : " ربّ أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر " ، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به ؟ أشكّ في صدقهم ؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون ؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه ؟ فذلك أعظم في البلية!
قيل : كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننتَ ، بل كان قِيله ما قال من ذلك ، كما : -
7001 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : لما سمع النداء - يعني زكريا ، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له : يا زكريا ، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله ، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه ، (2) وقال : " أنَّي يكون لي غلام " ، ذكرٌ ؟ يقول : من أين ؟ (3) " وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر " .
7002 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة قال : فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال : هل تدري من ناداك ؟ قال : نعم! نادتني ملائكتهُ ربي! (4) قال : بل ذلك الشيطان!
__________
(1) في المطبوعة : " وقد بلغني الجهد " زاد واوًا لا خير فيها ، والصواب من المخطوطة.
(2) قوله : " فشك مكانه " ، أي من ساعته ، من فوره. ويقال : " فعل ذلك على المكان " ، أي من ساعته غير متلبث ولا متصرف ، قبل أن يفارق مكانه.
(3) في المطبوعة : " ومن أين " بالواو ، وفي المخطوطة واو أيضًا ، لكنه ضرب عليها.
(4) في المطبوعة : " ناداني " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/382)


لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك! فقال : " رب اجعل لي آية " .
* * *
فكان قولهُ ما قال من ذلك ، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله : " أنى يكون لي غلام " ، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة ، فقال : " رب أنَّي يكون لي غلام " ، مستثبتًا في أمره ، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - (1) أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته ، ولذلك قال : " رب اجعل لي آية " .
* * *
وقد يجوز أن يكون قيله ذلك ، مسألةً منه ربَّه : من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به ؟ أمن زوجته ؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء ؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " كذلك الله " ، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد ، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة ، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا ، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه ، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة ، كما : -
7003 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " يريه الله في ذلك " ، والصواب ما في المخطوطة.

(6/383)


قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

السدي قال : " كذلك الله يفعل ما يشاء " ، وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه ، خبرًا عن زكريا ، قال زكريا : ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه ، والصوتُ الذي سمعته ، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي ، فاجعل لي آية يقول : علامةً أن ذلك كذلك ، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي ، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة ، وبشارةٌ من عند غيرك ، كما : -
7004 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " رب اجعل لي آية " ، قال : قال - يعني زكريا - : يا ربّ ، فإن كان هذا الصوت منكَ ، فاجعل لي آيةً.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى " الآية " ، وأنها العلامة ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها ، ومن شأنها همزُ كل " ياء " جاءت بعد " ألف " ساكنة.
فقال بعضهم : ترك همزها ، لأنها كانت " أيَّة " ، فثقُل عليهم التشديد ، فأبدلوه " ألفًا " لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا : " أيْما فلانٌ فأخزاه الله " . (2)
* * *
وقال آخرون منهم : بل هي " فاعلة " منقوصة.
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 106 ، ثم انظر فهرس اللغة مادة (أيى) في الأجزاء السالفة.
(2) " أيما " ، بمعنى " أما " مشددة الميم.

(6/384)


فسئلوا فقيل لهم : فما بال العرب تصغرها " أيَيَّة " ، ولم يقولوا " أوَيَّة " . (1) فقالوا : قيل ذلك ، كما قيل في " فاطمة " ، " هذه فُطيمة " . فقيل لهم : فإنهم إنما يصغرون " فاعلة " ، على " فعيلة " ، إذا كان اسمًا في معنى فلان وفلانة ، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم " فاعلة " على " فعيلة " . (2)
* * *
وقال آخرون : إنه " فَعْلة " صيرت ياؤها الأولى " ألفا " ، كما فعل بـ " حاجة ، وقامة " .
فقيل لهم : إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. (3)
وقال من أنكر ذلك من قِيلهم : لو كان كما قالوا : لقيل في " نواة " ناية ، وفي " حَياة " حَاية. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا }
قال أبو جعفر : فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية ، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة ، فجعل آيته على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أويية " ، والصواب ما أثبت بتشديد الياء.
(2) قائل ذلك ، هو الكسائي وأصحابه. وسائلوه : هم الفراء وأصحابه. انظر لسان العرب مادة (أيا).
(3) أولاد الثلاثة : يعني الاسم الثلاثي.
(4) انظر تفصيل ما سلف ، وبعضه بنصه في لسان العرب 18 : 66 ، وهذه الردود كلها للفراء ، كما يظهر من نص اللسان ، وكأن في نص الطبري بعض الاضطراب ، فإن قوله : " فقيل لهم : إنما يفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة " ، إنما هو رد على قول من زعم إنها " فاعلة " منقوصة ، مثل حاجة وقامة ، وأن أصلها حائجة وقائمة. وأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط ، أو قدم شيئًا ، فاضطرب الكلام.

(6/385)


بيحيى أنه من عند الله (1) آية من نفسه ، جمعَ تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربَّه على ما يبيِّن له حقيقة البشارة أنها من عند الله ، وتمحيصًا له من هفوته ، وخطإ قِيله ومسألته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7005 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا " ، إنما عوقب بذلك ، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك ، فبشَّرته بيحيى ، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار ، فقال الله تعالى ذكره ، كما تسمعون : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا " .
7006 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أن الله يبشرك بيحيى مصدِّقًا " ، قال : شافهته الملائكة ، فقال : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، يقول : إلا إيماءً ، وكانت عقوبةً عُوقب بها ، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
7007 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " رب اجعل لي آية ، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
__________
(1) في المطبوعة : " على تخصيص ما سمع... " ، وهو فاسد لا معنى له ، وأوقعه في ذلك أن كاتب المخطوطة كتب أولا تخصيص " ثم عاد فطمس الصاد الأولى ، ووضع عليها نقطتي القاف ، ثم ركب على حوض الصاد (ص) دائرة القاف ، فلم يستطع الناشر الأول أن يقرأ ذلك إلا على الوجه الذي هرب منه الناسخ!!
وسياق هذه العبارة " فجعل آيته. . . آية من نفسه " وتلك الآية : أنه حبس لسانه فلم يكلم الناس إلا كما أمر ، رمزًا.

(6/386)


أيام إلا رمزًا " ، قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه عوقب ، لأن الملائكة شافهته مشافهة ، فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعدُ ، فأخِذَ بلسانه.
7008 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه عوقب ، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى ، قالت : " أنّ الله يبشرك بيحيى " ، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية ، فأخِذ عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول : يومئ إيماءً.
7009 - حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال ، حدثنا محمد بن حمير قال ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن جُبير بن نُفير في قوله : " قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، قال : ربَا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله : " ألا تكلم الناس " ، لأن معنى الكلام : قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام فكانت " أن " هي التي تصحب الاستقبال ، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام أي : أنك على هذه الحال ثلاثة أيام كان وجه الكلام الرفع. لأن " أن " كانت تكون حينئذ بمعنى
__________
(1) الأثر : 7009 - " أبو عبيد الوصابي " هو : " محمد بن حفص " ، مضى في التعليق على رقم : 129 ، 6780 ، وكان في المطبوعة : " الرصافي " ، وفي المخطوطة " الوصافي " ، وكلاهما خطأ. و " محمد بن حمير " مضى أيضًا في : 129 : 6870. و " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي الحمصي " روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي وجبير بن نفير ، وجماعة. كان ثقة مأمونًا ، مترجم في التهذيب. و " جبير بن نفير " ، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وكان جاهليًا ، أسلم زمن أبي بكر وروى عن رسول الله وعن أبي بكر مرسلا ، وروى عن أبي ذر وأبي الدرداء وغيرهما من الصحابة. قال أبو حاتم : " ثقة من كبار تابعي أهل الشام " . مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " جويبر بن نصير " !! وهو خطأ لا شك فيه ، والصواب في المخطوطة.

(6/387)


الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزًا ، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر.
* * *
وأما " الرّمز " ، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب : الإيماءُ بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا ، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت : " الرمز " ، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ : (1)
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزًا... وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ (2)
يقال منه : " رَمز فلان فهو يَرْمِزُ ويرمُز رَمزًا ويترمَّزُ ترمُّزًا " ، ويقال : " ضربه ضربةً فارتمز منها " ، أي اضطرب للموت ، قال الشاعر : (3)
خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ (4)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، وأيّ معاني " الرمز " عني بذلك ؟
فقال بعضهم : عني بذلك : آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين ، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " حوبة بن عابد " ، وهو لا معنى له في الصواب ولا في الخطأ. وهو في المخطوطة بهذا الرسم غير منقوط. والصواب ما أثبت.
وهو جؤبة بن عائذ النصري ، فيما روى ابن السكيت في تهذيب الألفاظ : 125. أما الآمدي في المؤتلف والمختلف : 83 ، فقد سماه : " عائذ بن جؤية بن أسيد بن جرار بن عبد بن عاثرة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن " ، وذكره أيضًا البغدادي في الخزانة 1 : 476. والعجب لبعض من يعلق على تفسير الطبري أن يزعم كالقاطع الجازم أنه " جؤية بن عائذ الكوفي النحوي " !!
(2) لم أجد البيت فيما بين يدي من الكتب ، ولكني أذكره. وكان في المطبوعة : " وكان يكلم " والصواب ما أثبت.
(3) لم أعرف هذا الراجز.
(4) اللسان (رمز).

(6/388)


7010 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " إلا رمزًا " ، قال : تحريك الشفتين.
7011 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، قال : إيماؤه بشفتيه.
7012 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك : الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك :
7013 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " إلا رمزًا " ، قال : الإشارة.
7014 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا رمزًا " ، قال : الرمز أن يشير بيده أو رأسه ، ولا يتكلم.
7015 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إلا رمزًا " ، قال : الرمزُ : أنْ أخِذ بلسانه ، فجعل يكلم الناس بيده.
7016 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إلا رمزًا " ، قال : والرمز الإشارة.
7017 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، الآية ، قال :

(6/389)


جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا ، إلا أنه يذكر الله. والرّمز : الإشارة ، يشير إليهم.
7018 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " إلا رمزًا " ، إلا إيماءً.
7019 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7020 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا رمزًا " ، يقول : إشارة.
7021 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عبد الله بن كثير : " إلا رمزًا " ، إلا إشارة.
7022 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، قال : أمسكَ بلسانه ، فجعل يومئ بيده إلى قومه : أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (41) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : قال الله جل ثناؤه لزكريا : يا زكريا ، " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا " ، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض ، " واذكر ربك كثيرًا " ، فإنك لا تمنع ذكرَه ، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره ، (1) وقد : -
__________
(1) انظر تفسير " سبح " فيما سلف 1 : 472 - 474 ، وفهارس اللغة.

(6/390)


7023 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر ، لرخَّص لزكريا حيث قال : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا " ، أيضًا.
* * *
وأما قوله : " وسبح بالعشي " ، فإنه يعني : عَظِّم ربك بعبادته بالعشي.
* * *
و " العَشيّ " من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب ، كما قال الشاعر : (1)
فَلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ ، ... وَ لا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ (2)
فالفيء ، إنما تبتدئ أوْبته عند زوال الشمس ، وَيتناهى بمغيبها.
* * *
__________
(1) هو حميد بن ثور الهلالي.
(2) ديوانه : 40 ، وهو من قصيدته الجيدة التي قالها ، لما تقدم عمر بن الخطاب إلى الشعراء ، أن لا يشبب أحد بامرأة إلا جلده ، فخرج من عقوبة عمر بأن ذكر " سرحة " وسماها " سرحة مالك " فشكا أهلها إلى عمر ، فقال لهم : تجرَّمَ أهْلُوهَا ، لأَنْ كُنْتُ مُشْعَرًا ... جُنُونًا بها!! يا طُولَ هذَا التَجَرُّمِ!
وَمَا لِيَ من ذَنْبٍ إِلَيْهِمْ عَلِمْتُهُ ... سِوَى أنّني قَدْ قُلْتُ : " يَا سَرْحَةُ اسْلَمِى "
بَلَى ، فاسلِمي ، ثُمَّ اسْلَمِي ، ثُمَّتَ اسلمي ، ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ ، وإن لم تَكَلَّمي
فكان رحمه الله خفيف الدم (كما يقول المصريون). أما الأبيات التي منها البيت المستشهد به ، فإنه ذكر السرحة واستسقى لها ، ووصفها واستجاد لصفتها مكارم الصفات ، ثم قال : فَيَا طِيبَ رَيَّاهَا ، وَيَا بَرْدَ ظِلِّهَا ... إذَا حَانَ من حَامي النّهارِ وُدُوقُ
وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ ... من السَّرْحِ ، مَسدُودٌ عَلَيَّ طريقُ
حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيقَةِ ، خَائِفٌ ... عَلَيْهَا غَرَامَ الطَّائِفينَ ، شَفِيقُ
فَلاَ الظِلَّ مِنْهَا بالضُّحَى تَسْتَطِيعُه ... وَلاَ الفَيْءَ مِنْهَا بالعَشِيّ تَذُوقُ
مع اختلاف الروايتين كما ترى.

(6/391)


وأما " الإبكار " فإنه مصدر من قول القائل : " أبكر فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا " ، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى ، فذلك " إبكار " . يقال فيه : " أبكر فلان " و " بكر يَبكُر بُكورًا " . فمن " الإبكار " ، قول عمر بن أبي ربيعة :
أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ (1)
ومن " البكور " قول جرير :
أَلا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا... وَشَقَّ العَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا (2)
ويقال من ذلك : " بكر النخلُ يَبْكُر بُكورًا وأبكر يُبكر إبكارًا " ، (3) و " الباكور " من الفواكه : أوّلها إدراكًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7024 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وسبِّح بالعشيّ والإبكار " ، قال :
__________
(1) ديوانه : 1 ، من قصيدته النفيسة ، يقولها في " نعم " ، وهي امرأة من قريش ، من بني جمح ، كان عمر كثير الذكر لها في شعره. وكأن شعره فيها من أصدق ما قال في امرأة ، وهذا الشطر أول القصيدة وتمامه : غَدَاةَ غَدٍ? أمْ رَائحٌ فَمُهَجِّر? "
(2) ديوانه : 293 ، والنقائض : 7 ، يجيب حكيم بن معية الربعي ، وكان هجا جريرًا. قال أبو عبيدة : " شق العصا : التفرق ، ومن هذا يقال للرجل المخالف للجماعة : قد شق العصا. وأميرها : الذي تؤامره ، زوجها أو أبوها " .
(3) هذا نص خلت منه كتب اللغة ، وحفظه أبو جعفر. وهو صواب ، فإنهم قالوا : " البكيرة والباكورة والبكور " من النخل : التي تدرك في أول النخل ، فذكروا الصفات ، وتركوا الفعل. فهي زيادة ينبغي تقييدها.

(6/392)


وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

الإبكار أوّل الفجر ، والعشيّ مَيْل الشمس حتى تغيب. (1)
7025 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " والله سميعٌ عليم إذ قالت امرأة عمران ربّ نذرتُ لك ما في بطني محرَّرًا " ، " وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك " .
* * *
ومعنى قوله : " اصطفاك " ، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته. (2)
* * *
وقوله : " وطهَّرك " ، يعني : طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم (3)
* * *
" واصطفاك على نساء العالمين " ، يعني : اختارك على نساء العالمين في زمانك ، (4) بطاعتك إياه ، ففضَّلك عليهم ، كما روى عن رسول الله صلى الله
__________
(1) في المخطوطة : " مثل الشمس حيا يعيب " ، !!! هكذا كتب وأعجم!!
(2) انظر معنى " اصطفى " فيما سلف 3 : 91 / ثم 5 : 312 / 6 : 326.
(3) انظر معنى " طهر " فيما سلف 3 : 38 - 40 ، وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " العالمين " فيما سلف 1 : 143 - 146 / 2 : 23 - 26 / ثم 5 : 375.

(6/393)


عليه وسلم أنه قال : " خيرُ نسائها مريم بنت عمران ، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد " يعني بقوله : " خير نسائها " ، خير نساء أهل الجنة.
7026 - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا محاضر بن المورّع قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر قال : سمعت عليًّا بالعراق يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خيرُ نسائها مريم بنت عمران ، وخيرُ نسائها خديجة. (1)
7027 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خير نساء الجنة مريم بنت عمران ، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. (2)
__________
(1) الحديث : 7026 - محاضر بن المورع الهمداني الكوفي ، وكنيته " أبو المورع " أيضًا : ثقة ، لينة أحمد وأبو حاتم. ورجحنا في المسند : 3823 توثيقه. ووثقه ابن سعد 6 : 278. و " محاضر " : بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة. و " المورع " : بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وآخره عين مهملة.
والحديث رواه أحمد في المسند ، عن عبد الله بن نمير : 640 ، وعن وكيع : 1109 ، وعن محمد ابن بشر : 1211 - ثلاثتهم عن هشام بن عروة. ورواه ابنه عبد الله ، في المسند : 938 ، عن طريق أبي خيثمة ، ووكيع ، وأبي معاوية - ثلاثتهم عن هشام بن عروة ، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري 6 : 339 ، و 7 : 100 - 110 ، ومسلم 2 : 243 ، والترمذي 4 : 365 - كلهم من طريق هشام بن عروة ، به.
ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 184 ، عن طريق ابن نمير ، ثم من طرق المسند عن وكيع وابن نمير.
وذكره ابن كثير في التفسير 2 : 138 ، وفي التاريخ 2 : 59 ، عن رواية الصحيحين.
وذكره السيوطي 2 : 23 ، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة ، وابن مردويه.
(2) الحديث : 7027 - المنذر بن عبد الله بن المنذر الحزامي : ثقة ، كان من سروات قريش وأهل الندى والفضل. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 359 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 243 - فلم يذكرا فيه جرحًا.
والحديث هو الحديث السابق. ولكنه هنا من حديث عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهناك من حديثه عن عمه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهو إما مرسل صحابي ، وإما قصر الراوي عن هشام ، فترك ذكر علي ، والأرجح أن يكون عبد الله بن جعفر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعه عنه بواسطة علي. فرواه على الوجهين. وهو صحيح بكل حال.

(6/394)


7028 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : حسبك بمريم بنت عمران ، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، من نساء العالمين قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " خيرُ نساء ركبن الإبل صوالحُ نساء قريش ، أحناهُ على ولد في صغره ، وأرعاهُ على زوج في ذات يده " (1) قال قتادة : وذكر لنا أنهُ كان يقول : " لو علمت أنّ مريم ركبت الإبل ، ما فضّلت عليها أحدًا " . (2)
__________
(1) من العربية العريقة إعادة الضمير المفرد بعد أفعل التفضيل ، على الجمع ، وقد جاء في الشعر ، وجاء في الآثار كقوله : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا " . وقد سلف بيان ذلك في رقم : 5968 ، 6129 ، (فانظره).
(2) الحديث : 7028 - هو حديث مرسل. بل هو في حقيقته ثلاثة أحاديث ، يقول قتادة في أول كل منها : " ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " :
فأولها - " حسبك بمريم... " - : ثبت موصولا. فرواه أحمد في المسند : 12418 (ج 3 ص 135 حلبي) - عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أنس - هو ابن مالك - مرفوعًا ، بنحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 3 : 157 - 158 ، عن أبي بكر القطيعي - راوي المسند - عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه ، عن عبد الرزاق. ولكنه ذكر أنه رواه عن القطيعي " في فضائل أهل البيت ، تصنيف أبي عبد الله أحمد بن حنبل " . فلم يروه من كتاب (المسند) ، إنما رواه من كتاب آخر لأحمد والإسناد واحد.
ورواه الترمذي 4 : 366 ، وابن حبان في صحيحه (2 : 375 من مخطوطة التقاسيم والأنواع) - كلاهما من طريق عبد الرزاق ، به.
وقال الترمذي : " هذا حديث صحيح " . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وسلم : حسبك من نساء العالمين - يسوي بين نساء الدنيا " .
وقد يوهم كلام الحاكم أن الشيخين روياه من حديث أنس بغير هذا اللفظ. والشيخان لم يروياه من حديث أنس أصلا.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2 : 59 - 60 ، من رواية المسند ، وفي التفسير 2 : 138 - 139 ، من رواية الترمذي. وأشار في الموضعين إلى رواية ابن مردويه إياه من طريق ثابت عن أنس. وسيأتي من رواية ثابت : 7030. وسنذكره هناك ، إن شاء الله.
وأشار الحافظ في الفتح 6 : 340 ، إلى رواية الترمذي إياه ، وقال : " بإسناد صحيح " .
وثانيها : " خير نساء ركبن الإبل... " - وسيأتي عقب هذا : 7029 ، من رواية قتادة ، عن أبي هريرة. وسيأتي عقب هذا : ونذكر علته وتخريجه هناك ، إن شاء الله.
وثالثها : " لو علمت أن مريم ركبت الإبل ، ما فضلت عليها أحدًا " . وهو لفظ منكر ، ما علمته ثبت من طريق متصل. والصحيح أنه من كلام أبي هريرة ، كما سيأتي في الحديث التالي.

(6/395)


7029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ، قال : كان أبو هريرة يحدث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : خيرُ نساء ركبن الإبل صُلحُ نساء قُرْيش ، أحناه على ولد ، وأرعاه لزوج في ذات يده قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيرًا قط. (1)
__________
(1) الحديث : 7029 - وهذا إسناد منقطع ، لأن قتادة بن دعامة السدوسي لم يدرك أبا هريرة ، لأنه ولد سنة 61 ، بعد وفاة أبي هريرة. ولذلك قال هنا : " كان أبو هريرة يحدث " ، فهو شبيه في عبارته بالبلاغ.
ومتن الحديث صحيح :
فرواه أحمد في المسند : 7637 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، بنحوه ، مطولا.
ورواه كذلك : 7695 ، بهذا الإسناد ، مختصرًا.
ورواه : 7638 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، مختصرًا.
وذكره ابن كثير في التفسير 2 : 138 ، عن الرواية الأولى من المسند ، ثم قال : " ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم ، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد - كلاهما عن عبد الرزاق ، به " . وذكره أيضًا في التاريخ 2 : 60 ، ثم أشار إلى رواية مسلم.
ورواية مسلم ، هي في صحيحه 2 : 370.
ورواه أيضا البخاري 9 : 107 - 108 ، و 448 ، ومسلم 2 : 369 - 370 ، من طرق عن أبي هريرة.
والروايات الصحاح ، هي أن أبا هريرة قال من عند نفسه ، في آخر الحديث : " ولم تركب مريم بعيرًا قط " .
وأما رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، باللفظ الذي في الحديث السابق - فهو كما قلنا : " لفظ منكر " .
قوله " صلح " - بضمتين : هكذا في المخطوطة. وكان ناسخها كتب " صوالح " ، ثم ضرب عليها وكتب " صلح " . و " صلح " : جمع " صليح " . يقال : صالح وصلح ، وهو جمع محمول على " فعيل " في الأسماء ، فقالوا في جمع الصفات : " نذير ونذر ، وجديد وجدد " ، كما قالوا في الأسماء " كثيب وكثب " . وهذا حرف لم ينص عليه في كتب اللغة.

(6/396)


7030 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ، قال : كان ثابت البناني يحدث ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد. (1)
7031 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا عمرو بن مرة قال ، سمعت مرة الهمداني يحدث ، عن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كمل من الرّجال كثيرٌ ،
__________
(1) الحديث : 7030 - هذا إسناد ضعيف ، لجهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري ، إذ قال " حدثت " بالبناء للمجهول.
وابن أبي جعفر : هو عبد الله الرازي. وهو ثقة ، وثقه أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهما. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 127.
أبوه " أبو جعفر الرازي " : اختلف في اسمه ، والراجح أنه " عيسى بن ماهان " . وهو ثقة ، وثقه ابن المديني ، وابن سعد 7 / 2 / 109 ، وغيرهما. ترجم في التهذيب في الكنى ، وترجمه ابن أبي حاتم في ترجمة " عيسى " 3 / 1 / 280. وقد أشرنا إلى ترجمته في : 164. ولم أستطع أن أجد ما يدل على أنه أدرك ثابتًا البناني.
ثم هذا الحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2 : 139 ، والتاريخ 2 : 60 أنه رواه ابن مردويه ، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن ثابت ، عن أنس. وزاد في التاريخ أنه رواه ابن عساكر من طريق تميم بن زياد ، عن أبي جعفر الرازي ، ولكنه لم يكشف عن سنده في ابن مردويه إلى ابن أبي جعفر ، ولا عن سنده في ابن عساكر إلى تميم بن زياد ، فلا نستطيع أن نتبين صحة هذين الإسنادين أو أحدهما.
وقد مضى في شرح 7028 ، أنه رواه أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم - من حديث معمر ، عن قتادة ، عن أنس. فأغنى ثبوته من ذاك الوجه الصحيح عن هذا الوجه الضعيف ، أو المشكوك في صحته. والحمد لله.

(6/397)


ولم يكمل من النساء إلا مريم ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد. (1)
7032 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو الأسود المصري قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان : أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته : أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا عند عائشة ، فناجاني ، فبكيتُ ، ثم ناجاني فضحكت ، فسألتني عائشة عن ذلك ، فقلت : لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فقالت : نعم ، ناجاني فقال : جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة ، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين ؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله ، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة ، وهذه لي ستون ، وأحسبني ميتًا في عامي هذا ، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت : فبكيتُ ، ثم قال : أنت سيدة
__________
(1) الحديث : 7031 - آدم العسقلاني : هو آدم بن أبي إياس ، شيخ البخاري. مضى مرارًا.
عمرو بن مرة : هو الجملي المرادي. مضى توثيقه : 175. واسم جده " عبد الله بن طارق " . فمرة أبوه ، غير " مرة الهمداني " شيخه هنا. فإنه " مرة بن شراحيل الهمداني " الثقة التابعي المخضرم. وقد مضى مرارًا. والحديث رواه البخاري 6 : 340 ، عن آدم - وهو ابن أبي إياس العسقلاني ، بهذا الإسناد ، مطولاً.
ورواه أيضا 6 : 320 ، من طريق وكيع ، عن شعبة ، ورواه أيضًا 7 : 83 ، عن آدم ، وعن عمرو - وهو ابن مرزوق - كلاهما عن شعبة.
ونقله ابن كثير في التفسير 2 : 139 ، عن هذا الموضع من الطبري ، ثم قال : " وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود ، من طرق عن شعبة ، به " . ثم ذكر أنه استقصى طرقه في التاريخ. ولكنه لم يفعل ، فإنه ذكره فيه 2 : 61 ، منسوبًا إلى " الجماعة إلا أبا داود ، من طرق عن شعبة " .
وذكره السيوطي 2 : 23 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(6/398)


نساء أهل الجنة إلا مريم البتول. فتوفي عامه ذلك. (1)
7033 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن الحارث ، أن أبا زياد الحميريّ حدثه ، أنه سمع عمار بن سعد يقول : قال
__________
(1) الحديث : 7032 - أبو الأسود المصري : هو النضر بن عبد الجبار بن نصير المرادي. وهو ثقة. روى عنه يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، وغيرهما.
عمارة بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء التحتية - بن الحارث ، الأنصاري المازني المدني : ثقة ، وثقه ابن سعد ، والدارقطني ، وغيرهما ، وأخرج له مسلم في الصحيح.
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان : ثقة ، وثقه النسائي ، والعجلي ، وغيرهما. وقال ابن سعد : " كان كثير الحديث عالمًا " . وكان جوادًا ممدحًا. وهو المعروف بالديباج ، لحسنه. وأبوه " عبد الله بن عمرو بن عثمان " : هو المعروف بالمطرف ، لحسنه أيضًا.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة " محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان " . وهو خطأ يقينًا في اسم والد " محمد " . فهو " عبد الله " ، لا " عبد الرحمن " .
وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب : تابعية ثقة. كانت تحت ابن عمها " الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب " ، وأعقبت منه ، فلما مات تزوجت " المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان " . زوجه إياها ابنها عبد الله بن حسن بن حسن ، بأمرها ، فأعقبت منه أولادًا ، منهم " محمد " الراوي عنها هنا. وعمرت فاطمة حتى قاربت التسعين.
وروايتها عن جدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواية منقطعة ، ظاهرة الإرسال ، لأن الزهراء ماتت بعد أبيها بستة أشهر ، وكان ولدها الحسن والحسين صغيرين.
فهذا الحديث ضعيف الإسناد ، لهذا الانقطاع.
ولم أجده في شيء من الدواوين غير هذا الموضع.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح مرتين ، لم ينسبه فيهما لغير الطبري :
فأشار إليه 6 : 104 ، وجعله " عند الطبري من وجه آخر عن عائشة " ، وهو وهم ، فإنه من حديث فاطمة ، كما ترى.
ثم أشار إليه 7 : 82 على الصواب ، من حديث فاطمة.
ووقع فيه في الموضعين غلط من ناسخ أو طابع.
وأصل هذه القصة ثابت من حديث عائشة ، في الصحيحين وغيرهما. ولكن ليس فيه ذكر عيسى وعمره ، ولا أنه " لم ترزأ امرأة... " .
وعمر عيسى المذكور - في هذه الرواية - منكر جدًا ، لم نجد أحدًا قال مثل هذا ، فيما نعلم. وهو من دلائل ضعف هذه الرواية.
وانظر حديث عائشة في البخاري 65 : 462 ، و 7 : 63 - 64 ، و 8 : 103 - 104 (فتح) ، ومسلم 2 : 248 - 249 ، وابن سعد 2 / 2 / 39 - 40 ، و 8 : 17.

(6/399)


رسول الله صلى الله عليه وسلم : فُضّلت خديجةُ على نساء أمتي ، كما فضلت مريم على نساء العالمين. (1)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله : " وطهرك " ، أنه : وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب ، قاله مجاهد. (2)
7034 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن الله اصطفاك وطهرك " ، قال : جعلك طيبةً إيمانًا.
7035 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
7036 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح : " واصطفاك على نساء العالمين " ، قال : ذلك للعالمين يومئذ. (3)
* * *
وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا.
7037 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال :
__________
(1) الحديث : 7033 - هذا إسناد ضعيف بكل حال.
أما أبو زياد الحميري : فلم نعرف من هو ؟ ولم نجد له ترجمة ولا ذكرًا. والغالب أنه محرف عن شيء لا ندريه.
وأما " عمار بن سعد بن عابد المؤذن " : فإنه المعروف أبوه بلقب " سعد القرظ " المؤذن. وعمار هذا تابعي ، نص في التهذيب على أن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة. وقد ترجمه الحافظ في الإصابة 5 : 83 ، في القسم الثاني ، الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " قال مجاهد " ، والصواب ما أثبت كما يدل عليه السياق.
(3) انظر ما سلف ص : 393 تعليق : 4 ، مراجع تفسير " العالمين " .

(6/400)


يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

كانت مريم حبيسًا في الكنيسة ، ومعها في الكنيسة غُلام اسمه يُوسف ، وقد كانَ أمه وأبوه جعلاه نذيرًا حبيسًا ، فكانا في الكنيسة جميعًا ، وكانت مريم ، إذا نَفِدَ ماؤها وماء يوسف ، أخذا قُلَّتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذِبان منه ، (1) فيملآن قلتيهما ، ثم يرجعان إلى الكنيسة ، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم : " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ، فإذا سمع ذلك زكريا قال : إنّ لابنة عمرانَ لشأنًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم : " يا مريم اقنتي لربك " ، أخلصي الطاعة لربك وحده.
* * *
وقد دللنا على معنى " القنوت " ، بشواهده فيما مضى قبل. (2) والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع ، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع.
فقال بعضهم : معنى " اقنتي " ، أطيلي الرُّكود.
ذكر من قال ذلك :
7038 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) يستعذبان : يستقيان ، وأصله من قولهم : " استعذب " : أي استقى أو طلب ماء عذبًا. وفي الحديث : " أنه كان يستعذب له من بيوت السقيا " ، أي يحضر له منها الماء العذب.
(2) انظر ما سلف 2 : 538 ، 539 / ثم 5 : 228 ، 237 / 6 : 264.

(6/401)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال : أطيلي الركود ، يعني القنوت.
7039 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7040 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج " اقنتي لربك " ، قال قال مجاهد : أطيلي الركود في الصّلاة يعني القنوت.
7041 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لما قيل لها : " يا مريم اقنتي لربك " ، قامت حتى وَرِم كعباها.
7042 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لما قيل لها : " يا مريم اقنتي لربك " ، قامت حتى ورمت قدَماها.
7043 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن مجاهد : " اقنتي لربك " ، قال : أطيلي الركود.
7044 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال : القنوت : الركود. يقول : قومي لربك في الصلاة. يقول : اركدي لربّك : أي انتصبي له في الصلاة " واسجدي واركعي مع الراكعين " .
7045 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال : كانت تصلي حتى تَرِم قدماها.

(6/402)


7046 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا الأوزاعي : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال : كانت تقوم حتى يَسيل القيح من قدميها.
* * *
وقال أخرون : معناه : أخلصي لربك.
ذكر من قال ذلك :
7047 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال : أخلصي لربك.
* * *
وقال أخرون : معناه : أطيعي ربك.
ذكر من قال ذلك :
7048 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " اقنتي لربك " ، قال : أطيعي ربك.
7049 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " اقنتي لربك " ، أطيعي ربك.
7050 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن ، فهو طاعة لله. (1)
7051 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " يا مريم اقنتي لربك " ، قال يقول : اعبدي ربك.
* * *
__________
(1) الأثر : 7050 - هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم : 5518 من طريق الربيع بن سليمان ، عن أسد بن موسى ، عن ابن لهيعة.

(6/403)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قال أبو جعفر : وقد بينا أيضًا معنى " الرّكوع " " والسجود " بالأدلة الدالة على صحته ، (1) وأنهما بمعنى الخشوع لله ، والخضوع له بالطاعة والعُبُودة. (2)
* * *
فتأويل الآية ، إذًا : يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا ، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه ، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس ، والتفضيل على نساء عالم دَهرك.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله ذلك : الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم ، وزكريا وابنه يحيى ، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحًا " ، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله : " ذلك " ، فقال : هذه الأنباء من " أنباء الغيب " ، أي : من أخبار الغيب.
ويعني ب " الغيب " ، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت ، يا محمد ، عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه ، حجةً على نبوته ، وتحقيقًا لصدقه ، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين ، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها ، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب ، فيصل إلى علم ذلك من
__________
(1) انظر تفسير " السجود " فيما سلف 2 : 104 ، 105 ، 242 ، وفهارس اللغة ، وتفسير " الركوع " فيما سلف 1 : 574 ، 575 / ثم 3 : 43 ، 44 ، وفهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " العبودية " ، وأثبت صواب ما في المخطوطة ، والطبري يكثر من استعمالها كذلك. انظر ما سلف : 271 ؛ والتعليق : 1.

(6/404)


قِبَل الكتب ، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
* * *
وأما " الغيْب " فمصدر من قول القائل : " غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً " . (1)
* * *
وأما قوله : " نُوحيه إليك " ، فإن تأويله : نُنَزِّله إليك.
* * *
وأصل " الإيحاء " ، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء ، وبإلهام ، وبرسالة ، كما قال جل ثناؤه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) [سورة النحل : 68] ، بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ) [سورة المائدة : 111] ، بمعنى : ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا ، وكما قال الراجز : (2)
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (3)
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا ، وكما قال جل ثناؤه : ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) [سورة مريم : 11] ، بمعنى : فألقى ذلك إليهم إيماء. (4) والأصل
__________
(1) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف 1 : 236 ، 237.
(2) هو العجاج.
(3) ديوانه 5 ، واللسان " وَحَى " ، وسيأتي في التفسير 4 : 142 (بولاق) ، وغيرها. ورواية ديوانه ، وإحدى روايتي اللسان " وحى " ثلاثيًا ، وقال : " أراد أوحى " ، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف " ، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (16 : 41 بولاق). والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه ، أوله : الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ ... بِإِذْنِه السَّماءُ ، وَاطْمأَنَّتِ
بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ ... وَحَى لَهَا القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ
وَشدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثَّبتِ ... رَبُّ البِلادِ والعِبَادِ القُنَّتِ
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فألقى ذلك إليهم أيضًا " ، وهو خطأ بين ، والصواب ما أثبته ، وانظر ما سلف قريبًا في بيان قوله تعالى : " رمزًا " ، ص : 388 ، وما بعدها.

(6/405)


فيه ما وصفتُ ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً ، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله : (1) ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) [سورة الأنعام : 121] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً ، وقوله : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) [سورة الأنعام : 19] ، (2) ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.
وأما " الوحْي " ، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب " وحيًا " ، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه ، كما قال كعب بن زهير :
أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (3)
يعني به : الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً ، إذا كتبه الكاتب : " وحَى " بغير ألف ، ومنه قول رؤبة :
كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " وذلك قوله " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) قوله : " لأنذركم به ومن بلغ " ، ليس في المخطوطة.
(3) ديوانه : 64 ، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف 1 : 106 ، وهي قصيدة جيدة ، يرد فيها ما قاله فيه مزرد ، أخو الشماخ ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه ، فغضب مزرد وهجاه ، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه ، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير : فَإِنْ تَسْأَلِ الأَقْوَامَ عَنِّي ، فَإِنَّنِي ... أَنَا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ
أنَا ابنُ الَّذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً ... فَلَمْ يَخْزَ يَوْمًا في مَعَدٍّ وَلَمْ يُلَمْ
وَأَكْرَمَهُ الأكْفَاءُ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... كِرَامٍ ، فَإِنْ كَذَّبْتَني ، فَاسْأَلِ الأُمَمْ
أَتَى العُجْمَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) ديوانه : 149 ، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه ، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح ، وهو غريب الكلام ، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته ، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز ، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه ، وعفته الرياح. وقوله : " تدهمه " تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون) : كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا : ضربها فأثر فيها ، كما يثم الفرس الأرض بحوافره : أي يدقها ، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب : رقشه وزخرفه وأدق حظه : وقارب بين حروفه الدقاق ، وتلك هي النمنمة.

(6/406)


القول في تأويل قوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما كنت لديهم " ، وما كنت ، يا محمد ، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها ، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته ، بتعريفناكَهُ.
* * *
ومعنى قوله : " لديهم " ، عندهم.
* * *
ومعنى قوله : " إذ يلقون " ، حينَ يلقون أقلامهم.
* * *
وأما " أقلامهم " ، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم ، على ما قد بينا قبل في قوله : " وكفَّلها زكريا " . (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7052 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام بن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وما كنت لديهم " ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
7053 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،
__________
(1) انظر ما سلف ص : 345 - 352.

(6/407)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يلقون أقلامهم " ، زكريا وأصحابه ، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم.
7054 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7055 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " ، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم ، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها ، فقَرَعهم زكريا ، وكان زوجَ أختها ، " فكفَّلها زكريا " ، يقول : ضمها إليه. (1)
7056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " يلقون أقلامهم " ، قال : تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها ، فقرَعهم زكريا.
7057 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " ، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد ، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى ، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها ، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون " .
7058 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، قال ، أخبرنا عبيد
__________
(1) قوله : " وكان زوج أختها " ، يعني زوج أخت أم مريم ، لا زوج أخت مريم ، وكأن الخبر لما اختصر ، سقط منه ذكر أم مريم ، وبقي باقي الخبر على حاله ، وقد بينت ذلك فيما سلف ص : 349 ، تعليق : 4.

(6/408)


قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " ، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم ، فقرَعهم زكريا.
7059 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " ، قال : حيث اقترعوا على مريم ، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله.
* * *
وإنما قيل : " أيهم يكفل مريم " ، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم ، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل : " إذ يلقون أقلامهم " ، دلالة على محذوف من الكلام ، وهو : " لينظروا أيهم يكفل ، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه " .
* * *
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في " أيهم " النصبُ ، إذ كان ذلك معناه ، فقد ظن خطأ. وذلك أن " النظر " و " التبين " و " العلم " مع " أيّ " يقتضي استفهامًا واستخبارًا ، وحظ " أىّ " في الاستخبار ، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل : " لأنظُرَنّ أيهم قام " ، لأستخبرنَ الناس : أيهم قام ، وكذلك قولهم : " لأعلمن " .
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى " يكفل " ، يضمُّ ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء : 348.

(6/409)


القول في تأويل قوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما كنتَ ، يا محمد ، عند قوم مريم ، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.
وذلك من الله عز وجل ، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول : كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها ، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم ، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم ؟
كما : -
7060 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما كنت لديهم إذ يختصمون " ، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم ، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إذ قالت الملائكة " ، وما كنت لديهم إذ يختصمون ، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة : يا مريم إنّ الله يبشرك.
* * *
__________
(1) الأثر : 7060 - سيرة ابن هشام 2 : 229 ، وهو من بقية الآثار التي كان آخرها رقم : 6911.

(6/410)


" والتبشير " إخبار المرء بما يسره من خبر. (1)
* * *
وقوله : " بكلمة منه " ، يعني برسالة من الله وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : " ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها " ، بمعنى : أخبرني خبرًا فرحت به ، كما قال جل ثناؤه : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) [سورة النساء : 171] ، يعني : بشرى الله مريمَ بعيسى ، ألقاها إليها.
* * *
فتأويل الكلام : وما كنت ، يا محمد ، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم : يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده ، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.
* * *
وقد قال قوم - وهو قول قتادة - : إن " الكلمة " التي قال الله عز وجل : " بكلمة منه " ، هو قوله : " كن " .
7061 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " بكلمة منه " ، قال : قوله : " كن " .
* * *
فسماه الله عز وجل " كلمته " ، لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدّر الله من شيء : " هذا قدَرُ الله وقضاؤُه " ، يعنى به : هذا عن قدر الله وقضائه حدث ، وكما قال جل ثناؤه : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) [سورة النساء : 47 \ سورة الأحزاب : 37] ، يعني به : ما أمر الله به ، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (2)
* * *
__________
(1) انظر معنى " التبشير " فيما سلف في هذا الجزء : 369 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة هنا " من خير " . وفي المخطوطة غير منقوطة ، وصوابه ما أثبت.
(2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

(6/411)


وقال آخرون : بل هي اسم لعيسى سماه الله بها ، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.
* * *
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : " الكلمة " هي عيسى.
7062 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه " ، قال : عيسى هو الكلمة من الله.
* * *
قال أبو جعفر : وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي ، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها : أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل ، ولذلك قال عز وجل : " اسمه المسيح " ، فذكَّر ، ولم يقُل : " اسمُها " فيؤنث ، و " الكلمة " مؤنثة ، لأن " الكلمة " غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى " فلان " ، وإنما هي بمعنى البشارة ، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية " الذرّية " و " الدابّة " والألقاب ، (1) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (2)
* * *
فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا ، من أنّ معنى ذلك : إن الله يبشرك ببشرى ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال : " اسمه المسيح " ، وقد قال : " بكلمة منه " ، و " الكلمة " ، عنده هي عيسى لأنه في المعنى كذلك ، كما قال جل ثناؤه : ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا ) ، ثم قال( بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا ) [سورة الزمر : 56 - 59] ، وكما يقال : " ذو الثُّدَيَّة " ، لأن يده
__________
(1) الكناية : الضمير ، كما سلف مرارًا ، وهو من اصطلاح الكوفيين.
(2) انظر ما سلف 2 : 210 / ثم هذا الجزء : 362 ، 363 ، ومواضع أخرى.

(6/412)


كانت قصيرة قريبة من ثدييه ، (1) فجعلها كأنّ اسمها " ثَدْيَة " ، ولولا ذلك لم تدخل " الهاء " في التصغير.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة : في أنّ " الهاء " من ذكر " الكلمة " ، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله " اسمه " ، و " الكلمة " ، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل : " اسمه " ، وقد قدّمت " الكلمة " ، ولم يقل : " اسمها " ، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به ، كـ " فلان " و " فلان " ، وذلك ، مثل " الذرّية " و " الخليفة " و " الدابة " ، ولذلك جاز عنده أن يقال : " ذرية طيبة " و " ذرّيةً طيبًا " ، ولم يجز أن يقال : " طلحة أقبلت ومغيرة قامت " . (2)
* * *
وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ " ذي الثدية " ، وقالوا : إنما أدخلت " الهاء " في " ذي الثدية " ، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي ، كما قيل : " كنا في لحمة ونَبيذة " ، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
* * *
وأما قوله : " اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم " ، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى ، وأنه ابن أمّه مريم ، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى ، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل ، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود ، (3) كما : -
__________
(1) خبر ذي الثدية مشهور معروف ، انظر سنن أبي داود " باب قتال الخوارج " 4 : 334 - 338.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء : 362 ، 363.
(3) في المطبوعة : " قذفت به " ، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء : رماه به واتهمه ، فهو مقروف. وقوله : " المفترية " مرفوعة فاعل " قرفت أمه به " ، ويعني الفئة المفترية.

(6/413)


7063 - حدثني به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين " ، أي : هكذا كان أمرُه ، لا ما يقولون فيه. (1)
* * *
وأما " المسيح " ، فإنه " فعيل " صرف من " مفعول " إلى " فعيل " ، وإنما هو " ممسوح " ، يعني : مَسحه الله فطهَّره من الذنوب ، ولذلك قال إبراهيم : " المسيح " الصدّيق... (2)
7064 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله.
7065 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله.
* * *
وقال آخرون : مُسح بالبركة.
7066 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال ، قال سعيد : إنما سمي " المسيح " ، لأنه مُسِح بالبركة.
* * *
__________
(1) الأثر : 7063 - سيرة ابن هشام 2 : 229 - 230 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها : 7060 ، ونصه : " لا كما تقولون فيه " .
(2) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي ، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى " إبراهيم " ثم يليه الأثر رقم : 7064 ، فيه أن المسيح هو الصديق ، كما ذكر . وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط : " وقال آخرون : مسح بالبركة " ، وهو كلام لا يستقيم ، كما ترى ، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم : 7066 ، واستجزت أن أصنع ذلك ، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة.
هذا ، وفي تفسير " المسيح " أقوال أخر كثيرة ، لا أظن الطبري قد غفل عنها ، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا ، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا.

(6/414)


إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

القول في تأويل قوله : { وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله " وجيهًا " ، ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله ، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس " وجيه " ، يقال منه : " ما كان فلان وَجيهًا ، ولقد وَجُهَ وَجاهةً " " وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً " ، و " الجاه " مقلوب ، قلبت ، واوه من أوّله إلى موضع العين منه ، فقيل : " جاه " ، وإنما هو " وجه " ، و " فعل " من الجاه : " جاهَ يَجوه " . مسموع من العرب : " أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا " ، بمعنى : أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
* * *
وأما نصب " الوجيه " ، فعلى القطع من " عيسى " ، (1) لأن " عيسى " معرفة ، و " وجيه " نكرة ، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على " الكلمة " كانَ جائزًا.
* * *
وبما قلنا (2) من أنّ تأويل ذلك : وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله قال ، فيما بلغنا ، محمد بن جعفر.
7067 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وجيهًا " ، قال : وجيهًا في الدنيا والأخرة عند الله. (3)
* * *
وأما قوله : " ومِنَ المقرّبين " ، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة ، فيسكنه في جواره ويدنيه منه ، كما : -
__________
(1) " القطع " ، كما أسلفنا في مواضع متفرقة ، هو الحال ، انظر ما سلف في هذا الجزء : 371 ، تعليق : 2 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 213.
(2) في المطبوعة : " كما قلنا " ، والصواب من المخطوطة.
(3) الأثر : 7067 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 7063.

(6/415)


7068 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومن المقربين " ، يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة.
7069 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن المقرّبين " ، يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة.
7070 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
* * *

(6/416)


وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

القول في تأويل قوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) }
قال أبو جعفر : وأما قوله : " ويكلمُ الناس في المهد " ، فإن معناه : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وجيهًا عند الله ، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
ف " يكلم " ، وإن كان مرفوعًا ، لأنه في صورة " يفعل " بالسلامة من العوامل فيه ، فإنه في موضع نصب ، وهو نظير قول الشاعر : (1)
بِتُّ أُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ... يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ (2)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 213 وأمالي ابن الشجري 2 : 167 ، والخزانة 2 : 345 ، واللسان (كهل). وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر ، " ويعشيها " من العشاء ، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم ، والعضب : السيف القاطع ، والباتر : الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد : توسط فلم يجاوز الحد. يقول : يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور ، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.
هذا ، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1 : 213 ، 214.

(6/416)


وأما " المهد " ، فإنه يعني به : مضجع الصبيّ في رضاعه ، كما : -
7071 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " ويكلم الناس في المهد " ، قال : مضجع الصبي في رَضَاعه.
* * *
وأما قوله : " وكهلا " ، فإنه : وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة ، (1) ودُون الشيخوخة ، يقال منه : " رجل كهل وامرأة كهلة " ، كما قال الراجز : (2)
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيَّا... أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصَّبِيَّا (3)
* * *
__________
(1) يقال : " غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية " ، مثل : " الطفولة والطفولية " .
(2) هو عذافر الفقيمي.
(3) الجمهرة 3 : 339 ، المخصص 1 : 40 أمالي ، القالي 2 : 215 ، والسمط : 836 ، شرح أدب الكاتب لابن السيد : 217 ، 389 ، وللجواليقي : 295 ، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها ، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة ، فأكرى معه رجل من بني حنيفة ، من أهل البصرة ، بعيرًا يركبه هو وزوجته ، وكان اسمها " شعفر " ، فقال يرجز بهما : لَوْ شَاءَ رَبِّي لَمْ أكُنْ كَرِيَّا ... وَلَمْ أَسُقْ بَشَعْفَرَ المطَّيا
بَصْرِيّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيَّا ... يُطْعِمُهَا المَالِحَ والطَّرِيَّا
وَجَيِّدَ البُرِّ لَهَا مَقْلِيَّا ... حَتَّى نَتَتْ سُرَّتُها نَتِيَّا
وَفَعَلَتْ ثُنَّتُها فَرِيَّا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والرجز المروي بعد هذه الأبيات ، فيما يظهر. والكري : المكاري ، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر : وَالْعَزَبَ المُنَفَّهَ الأُمِّيَّا
والمنفه : الذي قد أعياه السير ونفهه ، فضعف وتساقط. والأمي : العيي الجلف الجافي القليل الكلام.

(6/417)


وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : " ويكلم الناسَ في المهد وكهلا " ، ويكلم الناس طفلا في المهد دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها ، (1) وحجة له على نبوّته وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه ، (2) بوحي الله الذي يوحيه إليه ، وأمره ونهيه ، وما ينزل عليه من كتابه. (3)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح ، وأنه كذلك كان ، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ ، (4) وأنه كان [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا يتقلب في الأحداث ، (5) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام ، من صِغر إلى كبر ، ومن حال إلى حال وأنه لو كان ، كما قال الملحدون فيه ، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، واحتج به عليهم
__________
(1) في المطبوعة : " قذفها " ، وانظر آنفًا : ص 413 ، تعليق : 3.
(2) قوله : " وبالغًا " معطوف على قوله آنفًا : " طفلا في المهد " . ثم قوله : بعد " بوحي الله " جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا : " ويكلم الناس. . " .
(3) في المطبوعة : " وما تقول عليه " ، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة ، مستفسدة مستصلحة ، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!
(4) في المطبوعة : " بالباطل " ، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله : " الباطل " منصوب مفعول به لقوله : " القائلين... "
(5) في المطبوعة : " وأنه كان في معناه أشياء مولودًا... " ، وفي المخطوطة : " وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا... " ، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه ، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا ، حتى ضفت به ، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام ، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام ، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن " معه أشيا " هي " منذ أنشأه " كما أثبتها. والسياق : " أنه كان... يتقلب في الأحداث " ، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.

(6/418)


لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم ، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم ، كما : -
7072 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " : يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره ، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا ، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته ، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (1)
7073 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " ، يقول : يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7074 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " ، قال : يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7075 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وكهلا ومن الصالحين " ، قال : الكهلُ الحليم.
7076 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا وقال ابن جريج ، وقال مجاهد : الكهل الحليم.
7077 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " ، قال : كلمهم في المهد صبيًّا ، وكلمهم كبيرًا.
* * *
__________
(1) الأثر : 7072 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم : 7067.

(6/419)


قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

وقال آخرون : معنى قوله : " وكهلا " ، أنه سيكلمهم إذا ظهر.
ذكر من قال ذلك :
7078 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " ، قال : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال ، وهو يومئذ كهلٌ.
* * *
ونصب " كهلا " ، عطفًا على موضع " ويكلم الناس " .
* * *
وأما قوله : " ومن الصالحين " ، فإنه يعني : من عِدَادهم وأوليائهم ، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه ، قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه : " ربِّ أنَّى يكون لي ولد " ، من أيِّ وجه يكون لي ولد ؟ (1) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه ، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل ، (2) ومن غير أن يمسَّني بشر ؟ فقال الله لها " كذلك الله يخلق ما يشاء " ، يعني : هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر ، فيجعله آيةً للناس وعبرة ، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد ، فيعطي الولد
__________
(1) انظر تفسير " أنى " فيما سلف 4 : 398 - 416 / 5 : 312 ، 447 / 6 : 358.
(2) في المخطوطة : " أي تبتدئ " ، وهو خطأ ، وفي المطبوعة : " أو تبتدئ " وآثرت الذي أثبت.

(6/420)


وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)

من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه ، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له : (1) " كن فيكون " ما شاء ، مما يشاء ، وكيف شاء ، كما : -
7079 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء " ، يصنع ما أراد ، ويخلق ما يشاء ، من بشر أو غير بشر " إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن " ، مما يشاء وكيف يشاء " فيكون " ما أراد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين : (وَيُعلِّمُهُ) بالياء ، ردًّا على قوله : " كذلك الله يخلق ما يشاء " ، " ويعلمه الكتاب " ، فألحقوا الخبرَ في قوله : " ويعلمه " ، بنظير الخبر في قوله : " يخلق ما يشاء " ، وقوله : " فإنما يقول له كنْ فيكون " .
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من السياق.
(2) الأثر : 7079 - سيرة ابن هشام 2 : 230 من بقية الآثار التي آخرها رقم : 7072 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أي : إذا قضى أمرًا... " ، وظاهر أن " أي " لا مكان لها هنا ، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك ، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا " فإنما يقول له كن فيكون ، مما يشاء... " . وظاهر أيضًا زيادة " فيكون " هنا ، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا ، ولأنها ستأتي بعد ، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق ، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام " فيكون ، كما أراد " ، وكلاهما صواب.

(6/421)


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين : (وَنُعَلِّمُهُ) بالنون ، عطفًا به على قوله : " نوحيه إليك " ، كأنه قال : " ذلك من أنباء الغيب نُوحيه إليك " " ونعلمه الكتاب " . وقالوا : ما بعد " نوحيه " في صلته إلى قوله : " كن فيكون " ، ثم عطف بقوله : " ونعلمه " عليه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك ، لاتفاق معنى القراءتين ، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب ، وما ذكر أنه يعلمه.
* * *
وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة ، فقال : كذلك الله يخلق منك ولدًا ، من غير فحل ولا بعل ، فيعلمه الكتاب ، وهو الخطّ الذي يخطه بيده والحكمة ، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب والتوراة ، وهي التوراة التي أنزلت على موسى ، كانت فيهم من عهد موسى والإنجيل ، إنجيل عيسى ولم يكن قبله ، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.
وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها ، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا ، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل ، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7080 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : " ونعلمه الكتاب " ، قال : بيده.

(6/422)


وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

7081 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ونعلمه الكتاب والحكمة " ، قال : الحكمة السنة.
7082 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : " ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " ، قال : " الحكمة " السنة " والتوراة والإنجيل " ، قال : كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.
7083 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ونعلمه الكتاب والحكمة " ، قال : الحكمة السنة.
7084 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال : " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة " التي كانت فيهم من عهد موسى " والإنجيل " ، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه ، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ورسولا " ، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فترك ذكر " ونجعله " لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 7084 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، من تمام الآثار التي آخرها رقم : 7079. وفي ابن هشام : " لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده " ، أسقط " علمه " ومكان " قبله " " بعده " ، والصواب فيها نص الطبري في روايته عن ابن إسحاق.
(2) مضى البيت وتخريجه في 1 : 140.

(6/423)


وقوله : " أني قد جئتكم بآية من ربكم " ، يعني : (1) ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيّي وبشيرى ونذيرى (2) وحجتي على صدقي على ذلك : " أني قد جئتكم بآية من ربكم " ، يعني : بعلامة من ربكم تحقق قولي ، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم ، كما : -
7085 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم " ، أي : يُحقق بها نبوّتي ، أني رسولٌ منه إليكم. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم " ، ثم بين عن الآية ما هي ، فقال : " أني أخلق لكم " .
* * *
فتأويل الكلام : ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بمعنى " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " نبي وبشير ونذير " ، والصواب من المخطوطة. هذا ، وقوله : " ونجعله رسولا... " ، إلى قوله : " ونذيري " بيان عن قول الله تعالى لمريم : " رسولا إلى بني إسرائيل " - ثم ابتدأ في بيان قول عيسى عليه السلام : " أني قد جئتكم بآية " ، فقال عيسى عليه السلام : " وحجتي على صدقي في ذلك... " . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " على صدقي على ذلك " ، وهو لا يستقيم ، خطأ أو سهو من الناسخ ، والصواب ما أثبت.
(3) الأثر : 7085 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7084 ، وكان في المطبوعة : تحقق بها نبوتي ، وأني رسول... " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لرواية ابن هشام.

(6/424)


" والطير " جمع " طائر " .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز : ( كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا ) ، على التوحيد.
* * *
وقرأه آخرون : ( كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ) ، على الجماع فيهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ : " كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا ، على الجماع فيهما جميعًا ، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به ، أعجب إليّ من خلاف المصحف.
* * *
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير ، كما : -
7086 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا ابن إسحاق : أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب ، فأخذ طينًا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرًا ؟ قالوا : وتستطيع ذلك! قال : نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه ، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : " كن طائرًا بإذن الله " ، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره ، فذكروه لمعلّمهم ،
__________
(1) في المطبوعة : " على الجماع كليهما " ، وفي المخطوطة " كلهما " أيضًا ، دون شرطة الكاف كأنه أراد أن يكتب " كليهما " ، ثم استدرك ، فترك عقدة الكاف على حالها ليعود فيجعلها " فيهما " وكذلك أثبتها.

(6/425)


فأفشوه في الناس. وترعرع ، فهمَّت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها ، ثم خرجت به هاربة. (1)
* * *
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم : أيّ الطير أشدّ خلقًا ؟ فقيل له : الخفاش ، كما : -
7087 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قوله : " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " ، قال : أيّ الطير أشدّ خلقًا ؟ قالوا : الخفاش ، إنما هو لحم. قال ففعل.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " فأنفخ فيه " ، وقد قيل : " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " ؟
قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك : " فأنفخ فيها " . كان صحيحًا جائزًا ، كما قال في المائدة ، ( فَتَنْفُخُ فِيهَا ) [سورة المائدة : 110] : (2) يريد : فتنفخ في الهيئة. (3) وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : " فأنفخها " ، بغير " في " . (4) وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : " رب ليلة قد بتُّها ، وبتُّ فيها " ، قال الشاعر : (5)
__________
(1) " حمير " (بضم الحاء وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) ، تصغير " حمار " ، وهو مضبوط هكذا في المخطوطة ، وهو الصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فأنفخ فيها " ، وهو مخالف للتلاوة في سورة المائدة ، وهو سهو من الناسخ لقرب عهده بآية آل عمران ، وتابعه الناشرون.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فأنفخ " أيضًا ، وهو متابعة للسهو السالف.
(4) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 214 ، وهو : (وفي إحدى القراءتين : " فأنفخها " وفي قراءة عبد الله بغير " في " ، وهو مما تقوله العرب : رب ليلة قد بت فيها وبتها). ولعله تصرف واختصار من الطبري نفسه كعادته في الذي ينقله عن الفراء ، وظني أن في نص الفراء خطأ ، وصوابه : " وهي قراءة عبد الله.. " .
(5) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري.

(6/426)


مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ... وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ (1)
بمعنى : ولا قامت عليك ، وكما قال الآخر : (2)
إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا... حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ (3)
* * *
__________
(1) الأغاني 17 : 68 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 215. وهو من أبيات من خبرها أن عبيد الله بن زياد ، كان عدوًا لابن مفرغ ، فلما قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد يوم الزاب ، قال ابن مفرغ فيه ، وفي طغيانه عليه ، وهو عظة لكل جبار طاغية : إِنَّ الَّذِي عَاشَ خَتَّارًا بِذِمَّتِه ... وعاشَ عبدًا ، قَتِيلُ الله بالزَّابِ
العَبْدُ لِلْعَبْدِ ، لا أَصْلٌ وَلاَ طرَفٌ ، ... أَلْوَتْ بِهِ ذَاتُ أظْفَارٍ وأنْيَابِ
إِنّ المَنَايَا إِذَا ما زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَكْنَ عَنْهُ سُتُورًا بَيْنَ أبْوَابِ
هَلاَّ جُمُوعَ نِزَارٍ إذْ لَقِيتَهُمُ ... كُنْتَ امْرَءًا مِنْ نِزَارٍ غَيْرَ مُرْتَابِ
لاَ أنْتَ زَاحَمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمنَعَهُ ... وَلاَ مَدَدْتَ إلَى قَوْمِ بأَسْبَابِ
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا نَاحَتْكَ نَائِحَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأغاني " ناحتك " ، جارية على القياس ، يقال : " ناحت المرأة " ، لازمًا ، و " ناحت المرأة زوجها " ، أما رواية الفراء وأبي جعفر ، فهي التي حذف من قوله : " قامتك " حرف الجر ، من " قامت عليك " . والأسلاب جمع سلب (بفتحتين) : وهو ما على المحارب والرجل من ثيابه وثياب الحرب ، فإذا قتل أخذ قاتله سلبه ، أي ما عليه من ثياب وسلاح ، وما معه من دابة. يقول : لست فارسًا من أهل الحرب والمعارك ، فيحبك فرسك ، فيبكيك عند مصرعك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) " بنو عيذ الله " (بتشديد الياء المكسورة) ، وهم بنو عيذ الله بن سعد العشيرة بن مذحج. " استمر بها " : ذهب بها. " حلو العصارة " : حلو الأخلاق. والعصارة والعصير : ما يتحلب من الشيء إذا عصر. يقول : ذهب بها فلن تعود إلى يوم الدين.

(6/427)


القول في تأويل قوله : { وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وأبرئ " ، وأشفي. يقال منه : " أبرأ الله المريض " ، إذا شفاه منه ، " فهو يُبرئه إبراءً " ، و " بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ " ، وقد يقال أيضًا : " بَرئ المريض فهو يبرَأ " ، لغتان معروفتان.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الأكمه " .
فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويُبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك :
7088 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وأبرئ الأكمه " ، قال : الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، فهو يتكمَّه. (1)
7089 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك :
7090 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدَّثُ أن " الأكمه " ، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين. (2)
7091 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : " وأبرئ الأكمه والأبرص " ، قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى ، مضموم العينين. (3)
* * *
__________
(1) يقال : " خرج يتكمه في الأرض " ، إذا خرج متحيرًا مترددًا ، راكبًا رأسه ، لا يدري أين يتوجه.
(2) كان في المطبوعة : " مضموم العينين " ، وتوشك أن تكون في المخطوطة : " مغموم العينين " ، وأنا أرجح أنها الصواب ، فلذلك أثبتها على قرائى للخط. والأكمه أعمى ، مضموم العينين كان أو غير مضموم ، ولكنه من غم الشيء : إذ ستره ، فهو مغموم : مستور. ومنه الغمامة ، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.
(3) كان في المطبوعة : " مضموم العينين " ، وتوشك أن تكون في المخطوطة : " مغموم العينين " ، وأنا أرجح أنها الصواب ، فلذلك أثبتها على قرائي للخط ، والأكمه أعمى ، مضموم العينين كان أو غير مضموم ، ولكنه من غم الشيء : إذا ستره ، فهو مغموم : مستور. ومنه الغمامة ، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.

(6/428)


7092 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه ، الذي يولد وهو أعمى.
* * *
وقال آخرون : بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك :
7093 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأبرئ الأكمه " ، هو الأعمى.
7094 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : الأعمى.
7095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وأبرئ الأكمه " ، قال : الأكمه الأعمى.
7096 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله : " وأبرئ الأكمه " ، قال : الأعمى.
* * *
وقال آخرون : هو الأعمش.
ذكر من قال ذلك :
7097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " وأبرئ الأكمه " ، قال : الأعمش.
* * *
قال أبو جعفر : والمعروف عند العرب من معنى " الكمه " ، العَمى ، يقال منه : " كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا ، وأكمهتها أنا " إذا أعميتها ، كما قال سويد بن أبي كاهل :

(6/429)


كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا... فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ (1)
ومنه قول رؤبة :
هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ... فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ (2)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته ، وذلك أن : الكَمَه والبرص لا علاج لهما ، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج ، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله : إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات ، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته.
* * *
فأما ما قال عكرمة من أن " الكمه " ، العمش ، وما قاله مجاهد : من أنه
__________
(1) المفضليات : 405 ، اللسان (كمه) في المطبوعة : {كِمِهَتْ عَيْنَاهُ} ، وهي رواية المفضليات وفيها " كمهت عيناه لما ابيضتا " . والبيت من قصيدته الفذة. يذكر في هذه الأبيات التي قبل البيت ، بعض عدوه ، كان يريد سقاطه بعد احتناكه وشدته ، وكيف تلقى العداوة عن آبائه ، فسعى كما سعى آباؤه فلم يظفر من سويد بشيء ، فضرب لنفسه مثلا بالصفاة التي لا ترام ، فقال أن عدوه ظل : مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ ... فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ
مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كانَ بِهِ ... غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أنْ تُقْتَلَعْ
غَلَبَتْ عَادًا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ... فَأَبَتْ بَعْدُ ، فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ
لاَ يَرَاها النَّاسُ إِلا فَوْقَهُمْ ... فَهْيَ تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ
وَهْوَ يَرْمِيهَا ، وَلَنْ يَبْلُغَها ، ... رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول : عمي من شدة ما يلقى ، أو أعمته هي بشدتها. فلما كف عنها ونزع ، ظل يلوم نفسه على تعرضه لها.
(2) ديوانه : 166 ، واللسان (كمه) (هرج) (تهته) وجاز القرآن 1 : 93 ، وسيرة ابن هشام 2 : 230 ، من قصيدة يذكر فيها نفسه وأيامه ، وقد سلفت منها أبيات كثيرة ، يذكر قبله خصما له قد بالغ في ضلاله ، فرده وزجره ، " هرج بالسبع " : صاح به وزجره. و " الغائلات " : التي تغوله وتهلكه. و " المتهته " : الذي تهته في الأباطيل. أي تردد فيها. ورواية الديوان " في غائلات الخائب.. " ، وهي قريب من قريب.

(6/430)


سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيلُ إلى معارضته فيها ، ولو كان مما احتجَّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوته ، أنه يبرئ الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، لقدروا على معارضته بأن يقولوا : " وما في هذا لك من الحجة ، وفينا خَلقٌ ممن يعالج ذلك ، وليسوا لله أنبياءَ ولا رسلا "
ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا ، من أنّ " الأكمه " ، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة : - من أنه المولود كذلك - أشبهُ ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر ، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى ، وكذلك علاجُ الأبرص.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }
قال أبو جعفر : وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له ، كما : -
7098 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معفل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر : أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى

(6/431)


في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله.
* * *
وأما قوله : " وأنبئكم بما تأكلون " ، فإنه يعني : وأخبرُكم بما تأكلون ، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه " وما تدّخرون " ، يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبَأونه ولا تأكلونه.
يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه ، وآيةً له على حقيقة قوله ، من أنبيائه ورسله ، وَمن أحبّ من خلقه (1) إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه ، عليه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب ؟
قيل : إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ، (3) أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ، ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه ، (4)
__________
(1) قوله : " إنباءه " خبر " أن " في قوله آنفًا : " أن من حجته أيضًا على بنوته.. إنباءه " .
(2) قوله " عليه " من تمام قوله : " الذي لا سبيل لأحد... " .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " عند من يخبره بذلك " وسياق الضمائر يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة : " ولكن ابتدأ " ، والصواب ما أثبته ، ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة.

(6/432)


من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه ، أو فزع إليه ، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيِّه. (1) فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله ، أو المدَّعية علم ذلك ، كما : -
7099 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب ، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان ، (2) فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة ، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! !
7100 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدّي : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم.
7101 - حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم " ، قال : كان عيسى ابن مريم ، إذْ كان في الكتّاب ، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون.
7102 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ، قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب :
__________
(1) الرئي : هو التابع من الجن ، يراه الإنسان أو الكاهن ، فيؤالفه ويعتاده ويحدثه بما يكذب به من النبأ عن المغيب.
(2) المكتب (بضم الميم وفتح الكاف وتشديد التاء المكسورة) على وزن " معلم " : هو الذي يعلم الصغار الكتابة. ويقال أيضًا " المكتب " (بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء) على وزن " مبصر " وهو المعلم أيضًا.

(6/433)


" يا فلان ، إن أهلكُ قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام ، فتطعمني منه " ؟
* * *
قال أبو جعفر : فهكذا فعل الأنبياء وحججها ، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل ، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها ، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله.
* * *
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7103 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ، قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه عيسى ابن مريم يقوله.
7104 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7105 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " - قال : الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم ، غيبًا علمه الله إياه.
7106 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ، قال : " ما تأكلون " ، ما أكلتم البارحةَ من طعام ، وما خبأتم منه.
7107 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدّي قال : كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يَرْفعون لهم ، وبما يأكلون. ويقول للغلام :

(6/434)


" انطلق ، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا " ، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء. (1) فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى! فذلك قول الله عز وجل : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم هاهنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير. قال عيسى : كذلك يكونون! ففتحوا عنهم ، فإذا هم خنازير. فذلك قوله : ( عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) [سورة المائدة : 78].
7108 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وما تدخرون في بيوتكم " ، قال : ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه. (2)
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها.
ذكر من قال ذلك :
7109 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة ، (3) فأمر القوم أن
__________
(1) " يبكي عليهم " ، يلح عليهم بالبكاء ، عدى " بكى " بعلى ، لتضمينه معنى " الإلحاح " .
(2) في المطبوعة : " ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء " ، زاد في نص المخطوطة " لا " ، و " شيء " . أما المخطوطة ففيها " ... الذي يمسك أن يخلفه " . وكلاهما لا معنى له. والمخطوطة مضطربة الحروف في هذا الموضع ، وأخشى أن يكون صواب الجملة : " ما تخبأون مخافة عليه ، الذي تمسكون خيفة عليه " . وتركت نص المخطوطة ، على حاله في الأصل.
(3) في المطبوعة : " فكانت جرابًا ينزل عليه " ، وهو خطأ لا شك فيه ، وفي المخطوطة " حوابا " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت. والمائدة ، هي الخوان ، وقال أهل اللغة : " لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام ، وإلا فهي خوان " .

(6/435)


لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد ، بلاءٌ ابتلاهم الله به. فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى ابن مريم ، فقال : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " .
7110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " ، قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلتْ : أن يأكلوا ولا يدّخروا ، فادخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا ، فذلك قوله : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) [سورة المائدة : 115].
قال ابن يحيى قال ، عبد الرزاق قال ، معمر ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ، ذلك.
* * *
وأصل " يدخرون " من " الفعل " ، " يفتعلون " من قول القائل : " ذخرتُ الشيء " بالذّال ، " فأنا أذخره " . ثم قيل : " يدّخر " ، كما قيل : " يدَّكِرُ " من : " ذكرت الشيء " ، يراد به " يذتخر " . فلما اجتمعت " الذال " و " التاء " وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى ، وصيرتا " دالا " مشددة ، صيروها عَدْلا بين " الذال " و " التاء " . (1) ومن العرب من يغلب " الذال " على " التاء " ، فيدغم " التاء " في " الذال " ، فيقول : وما تَذَّخِرون " ، " وهو مذّخَر لك " ، " وهو مُذَّكِر " .
واللغة التي بها القراءةُ ، الأولى ، وذلك إدغام " الذال " في " التاء " ، وإبدالهما
__________
(1) قوله " عدلا " ، أي متوسطة بينهما ، وهذا نص عبارة الفراء في معاني القرآن 1 : 215.

(6/436)


" دالا " مشددة. لا يجوز القراءة بغيرها ، لتظاهر النقل من القرأة بها ، وهي اللغة الجُودَى ، (1) كما قال زهير :
إنّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ... عَفْوًا ، وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فَيَظَّلِمُ (2)
يروى " بالظاء " ، يريد : " فيفتعل " من " الظلم " ، ويروى " بالطاء " أيضًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ ، وإحيائي الموتى ، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداءً من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة لعبرةً لكم ومتفكَّرًا ، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم : " إني رسولٌ من ربكم إليكم " ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق " إن كنتم مؤمنين " ، يعني : إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرّين بتوحيده ، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
* * *
__________
(1) " الجودى " ، " فعلى " من " الأجود " مثل " أفضل ، وفضلى " ، ولم أرها مستعملة إلا قليلا عند أهل طبقة أبي جعفر. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 215 ، 216.
(2) ديوانه : 152 وسيبويه 2 : 421 ، والمخصص 2 : 206 ، 207 ، واللسان (ظلم) وغيرها. هكذا جاء به أبو جعفر ، وصواب روايته ما جاء في ديوانه ، لأن قبله : إنّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ وَلـ ... ـكِنَّ الجوادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانظر روايات مختلفة للبيت ، وبيان هذه الروايات في هذه الكتب وغيرها.

(6/437)


وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

القول في تأويل قوله : { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبأني قد جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة ، ولذلك نصب " مصدّقًا " على الحال من " جئتكم " .
والذي يدل على أنه نصب على قوله : " وجئتكم " ، دون العطف على قوله : " وجيهًا " ، قوله : " لما بين يديّ من التوراة " . ولو كان عطفًا على قوله " وجيهًا " ، لكان الكلام : ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة ، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. (1)
* * *
وإنما قيل : " ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة " ، (2) لأن عيسى صلوات الله عليه ، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها ، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم ، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله ، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم ، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها ، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل ، مما كان مشددًا عليهم فيها ، كما : -
7111 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم ، وكانَ يسبِت ، ويستقبل بيت المقدس ، فقال لبني إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة ، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وأضع عنكم من الآصار. (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 216.
(2) انظر تفسير " لما بين يدي " و " لما بين يديه " فيما سلف من هذا الجزء : 160 ، 161.
(3) الآصار جمع إصر (بكسر فسكون) : وهو العهد ، أي ما عقد من عقد ثقيل عليهم ، مثل قتلهم أنفسهم ، وما أشبه ذلك من قرض الجلد إذا أصابته النجاسة ، وغير ذلك من الأحكام المشددة.

(6/438)


7112 - حدثني بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومصدقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم " ، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حُرّم عليهم فيما جاء به موسى لحومُ الإبل والثُّروب ، وأشياء من الطير والحيتان. (1)
7113 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " ، قال : كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال : وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة ، لحومُ الإبل والثُّروب ، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم ، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له ، (2) وفي أشياء حرّمها عليهم ، وشدّدها عليهم ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل ، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
7114 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " ، قال : لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم ، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا.
7115 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن
__________
(1) الثروب جمع ثرب (بفتح فسكون) : وهي الشحم الرقيق الذي يغشى الكرش والأمعاء والمصارين من الذبائح والأنعام.
(2) صيصية الديك (بكسر الصاد الأولى والثانية وفتح الياء الأخير) ، وجمعها الصياصي : هي الشوكة التي في رجل الديك. وقرون البقر يقال لها " الصياصي " ، ومنه قيل للحصون " الصياصي " لأن المقاتلين يحتمون بها كما تحتمي البقر بقرونها.

(6/439)


جعفر بن الزبير : " ومصدقًا لما بين يدىّ من التوراة " ، أي : لما سبقني منها - " ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم " ، أي : أخبركم أنه كان حرامًا عليكم فتركتموه ، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم ، فتصيبون يُسْرَه ، وتخرجون من تِباعَته. (1)
7116 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " ، قال : كان حرّم عليهم أشياء ، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم ، يبتغي بذلك شُكْرهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم ، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما : -
7117 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وجئتكم بآية من ربكم " ، قال : ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها ، وما أعطاه ربه.
7118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وجئتكم بآية من ربكم " ، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها.
* * *
ويعني بقوله : " من ربكم " ، من عند ربكم.
* * *
__________
(1) الأثر : 7115 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، وهو من تتمة الآثار التي كان آخرها رقم : 7085. وقوله : " وتخرجون من تباعته " ، أي من إثمه الذي تبعكم إن اقترفتموه. والتبعة والتباعة (بكسر التاء) : ما كان فيه إثم يتبع به مقترفه ، يقال : " ما عليه من الله في هذا تبعة ، ولا تباعة " .

(6/440)


القول في تأويل قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول " فاتقوا الله " ، يا معشرَ بني إسرائيل ، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه " وأطيعون " ، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم ، فاعبدوه ، فإنه بذلك أرسلني إليكم ، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم ، وذلك هو الطريق القويمُ ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه ، (1) كما : -
7119 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم " ، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني : ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم " فاعبدوه هذا صراط مستقيم " ، أي : هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به. (2)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إن الله ربي وربكم فاعبدوه " .
فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) بكسر " ألف " " إنّ " على ابتداء الخبر.
* * *
وقرأه بعضهم : ( أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) ، بفتح " ألف " " أنّ " ، بتأويل :
__________
(1) انظر تفسير " الصراط المستقيم " فيما سلف 1 : 170 - 177 / 3 : 140 ، 141.
(2) الأثر : 7119 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 7115.

(6/441)


فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

وجئتكم بآية من ربكم ، أنّ الله ربي وربكم ، على ردّ " أن " على " الآية " ، والإبدال منها.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار ، وذلك كسر ألف " إن " على الابتداء ، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة.
* * *
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا ، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران ، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه ، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض ، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فلما أحسّ عيسى منهم الكفر " ، فلما وَجد عيسى منهم الكفر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " والحجة على نبوتهم " ، وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. وقوله : " وحجة على نبوته " معطوف على قوله : " دليلا على صدقه " ، والضمير لعيسى ، وما بين المعطوف والمعطوف عليه فصل.

(6/442)


" والإحساس " ، هو الوجود ، ومنه قول الله عز وجل : ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) [سورة مريم : 98].
فأما " الحَسُّ " ، بغير " ألف " ، فهو الإفناء والقتل ، ومنه قوله : ( إذ تحسونهم بإذنه ) [سورة آل عمران : 152].
" والحَسُّ " أيضًا العطف والرقة ، ومنه قول الكميت :
هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ ، ... أَوْ يُبْكِيَ الدَّارَ مَاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ? (1)
يعني بقوله : " أن تحس له " ، أن ترقّ له.
* * *
فتأويل الكلام : فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودًا لنبوّته ، وتكذيبًا لقوله ، وصدًّا عما دعاهم إليه من أمر الله ، قال : " مَن أنصاري إلى الله " ؟ ، يعني بذلك : قال عيسى : من أعواني على المكذبين بحجة الله ، (2) والمولِّين عن دينه ، والجاحدين نبوة نبيه ، " إلى الله " عز وجل ؟
* * *
ويعني بقوله : " إلى الله " ، مع الله.
وإنما حَسُن أن يقال : " إلى الله " ، بمعنى : مع الله ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره ، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه ، جعلوا مكان " مع " ، " إلى " أحيانًا ، وأحيانًا تخبر عنهما بـ " مع " فتقول : " الذود إلى الذود إبل " ، بمعنى : إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ " إلى " ، ولم يجعلوا مكان " مع " " إلى " .
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1 : 217 ، ومجالس ثعلب : 486 ، وإصلاح المنطق : 240 ، واللسان (حسس). والخضل : المتتابع الدائم الكثير الهمول. يتعجب من الباكي على أطلال أحبابه ، وما يرجو منها : أترق له ، أم تبكي لبكائه ؟ يسفه ما يفعل. ثم انظر سائر ما قيل في هذا الحرف من اللغة في المراجع السالفة.
(2) انظر تفسير " الأنصار " فيما سلف 2 : 489 / 5 : 581.

(6/443)


غيرُ جائز أن يقال : " قدم فلانٌ وإليه مالٌ " ، بمعنى : ومعه مال. (1)
* * *
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله : " مَنْ أنصاري إلى الله " ، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7120 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " من أنصاري إلى الله " ، يقول : مع الله. (2)
7121 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " من أنصاري إلى الله " ، يقول : مع الله.
* * *
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين ، فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا.
فقال بعضهم : كان سبب ذلك ما : -
7122 - حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : لما بعث الله عيسى ، فأمره بالدعوة ، نفتْه بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنزل في قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك جبارٌ معتدٍ ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن ، فدخل منزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها : ما شأن زوجك ؟ أراه حزينًا! قالت : لا تسألي! قالت : أخبريني! لعل الله يُفرِّج كربته! قالت : فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه هو وجنودَه
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 299 ، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1 : 218 ، وهذا مختصر مقالته.
(2) الأثر : 7120 - مضى هذا الإسناد قديمًا برقم : 2100 ، " محمد بن الحسين بن موسى ابن أبي حنين الكوفي " ، روى عن عبيد الله بن موسى ، وأحمد بن المفضل ، وأبي غسان مالك بن إسماعيل. وهو صدوق قاله ابن أبي حاتم في كتابه 3 / 2 / 230. و " أحمد بن المفضل القرشي الأموي " الكوفي الحفري. روى عن الثوري ، وأسباط بن نصر ، وإسرائيل. روى عنه أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهما قال أبو حاتم : " كان صدوقًا ، وكان من رؤساء الشيعة " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 77.

(6/444)


ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نَوبتُه اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه ، وليس لذلك عندنا سعة! قالت : فقولي له لا يهتم ، فإني آمر ابني فيدعُو له ، فيُكْفَي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك ، قال عيسى : يا أمَّهْ ، إني إن فعلت كان في ذلك شرٌّ. قالت : فلا تُبالِ ، فإنه قد أحسنَ إلينا وأكرمنا! قال عيسى : فقولي له : إذا اقترب ذلك ، فاملأ قُدُورك وخوَابيك ماء ، ثم أعلمني. (1) قال : فلما ملأهنَّ أعلمه ، فدعا الله ، فتحوَّل ما في القدُور لحمًا ومَرَقًا وخبزًا ، وما في الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قطّ وإياه طعامًا. (2) فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمرَ سأل : من أين هذه الخمر ؟ قال له : هي من أرض كذا وكذا. قال الملك : فإنّ خمري أوتَي بها من تلك الأرض ، فليس هي مثل هذه! قال : هي من أرض أخرى. فلما خلَّط على الملك اشتدّ عليه ، قال : فأنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا اللهَ ، فجعل الماءَ خمرًا. قال الملك وكان له ابنٌ يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحب الخلق إليه فقال : إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرًا ، ليُستجابَنّ له حتى يُحييَ ابني! فدعا عيسى فكلمه ، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه ، فقال عيسى : لا تفعلْ ، فإنه إن عاش كان شرًا. فقال الملك : لا أبالي ، أليس أراه ، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام : فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا ؟ قال الملك : نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش ، تنادَوْا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه ، فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمُّه ، وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف ، فقال له عيسى : شاركني. فقال اليهودي : نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم ، فلما ناما جعل اليهوديّ يريد أن يأكلَ الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء! فيطرحها ، حتى فرغ من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى : هلمَّ طعامك! فجاء برغيف ، فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا ، فمروا براعي غنم ، فنادى عيسى : يا صاحب الغنم ، أجزرْنا شاةً من غنمك. (3) قال : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهوديّ ، فجاء بالشاة فذبحوها وشوَوْها ، ثم قال لليهودي : كل ، ولا تكسِرنّ عظمًا. فأكلا. (4) فلما شبعوا ، قذفَ عيسى العظام في الجلد ، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله! فقامت الشاة تَثغُو ، فقال : يا صاحبَ الغنم ، خذ شاتك. فقال له الراعي : من أنتَ ؟ فقال : أنا عيسى ابن مريم. قال : أنت الساحر! وفرّ منه. قال : عيسى لليهودي : بالذي أحيى هذه الشاة بعدَما أكلناها ، كم كان معك رغيفًا ؟ فحلف كان معه إلا رغيف واحد ، فمرُّوا بصاحب بَقر ، فنادى عيسى فقال : يا صاحب البقر ، أجزرنا من بَقرك هذه عجلا. قال : ابعث صاحبك يأخذه. قال : انطلق يا يهوديّ فجئ به. فانطلق فجاءَ به. فذبحه وشواه وصاحبُ البقر ينظر ، فقال له عيسى : كلْ ولا تكسِرَن عظمًا. فلما فرغوا ، قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه ، وقال : قم بإذن الله. فقام وله خُوَارٌ ، قال : خُذ عجلك. قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى. قال : أنت السحَّار! ثم فر منه. قال اليهودي : يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه! قالَ عيسى : فبالذي أحيَى الشاة بعد ما أكلناها ، والعجلَ بعد ما أكلناه ، كم كان معك رغيفًا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا ، حتى نزلا قريةً ، فنزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عَصا مثل عصا عيسى وقال : أنا الآنَ أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة مريضًا شديد المرض ، فانطلق اليهودي يُنادي : من يبتغي طبيبًا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية ، فأخبر بوجعه ، فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له : إن وجع الملك قد أعيَى الأطباء قبلك ، ليس من طبيب يُداويه ولا يُفيء دواؤه شيئًا إلا أمر به فصلب. (5) قال : أدخلوني عليه ، فإني سأبرئه. فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ويقول : قُم بإذن الله! فأخذ ليُصْلب ، فبلغ عيسى ، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة ، فقال : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم ، أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا : نعم. فأحيى اللهُ الملكَ لعيسى ، فقام وأنزل اليهودي فقال : يا عيسى أنتَ أعظم الناس عليّ منةً ، والله لا أفارقك أبدًا. قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي لليهودي : أنشُدك بالذي أحيى الشاة والعجلَ بعد ما أكلناهما ، وأحيى هذا بعد ما مات ، وأنزلك من الجِذْع بعد ما رُفعت عليه لتصلب ، كم كان معك رغيفًا ؟ قال : فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد ، قال : لا بأس! فانطلقا ، حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدواب ، فقال اليهودي : يا عيسى ، لمن هذا المال ؟ قال عيسى : دعه ، فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفسُ اليهودي تَطلَّعُ إلى المال ، ويكره أن يعصي عيسى ، فانطلق مع عيسى. ومرّ بالمال أربعة نَفر ، فلما رأوه اجتمعوا عليه ، فقال : اثنان لصاحبيهما : انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودوابَّ نحملُ عليها هذا المال. فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعامًا وشرابًا ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سَمًّا ، فإذا أكلا ماتا ، فكان المال بيني وبينك ، فقال الآخر : نعم! ففعلا. وقال الآخران : إذا ما أتيانا بالطعام ، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعامُ والدوابّ بيني وبينك. فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما ، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه ، فماتا. وأعْلِم ذلك عيسى ، (6) فقال لليهودي : أخرجه حتى نقتسمه ، فأخرجه ، فقسمه عيسى بين ثلاثة ، فقال اليهودي : يا عيسى ، اتق الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت!! وما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى : هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف. قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف ، تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم. قال : أنا هو. قال : عيسى : خذ حظي وحظَّك وحظَّ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة. فلما حمله مَشى به شيئًا ، فخُسِف به. (7) وانطلق عيسى ابن مريم ، فمر بالحواريِّين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك. فقال : أفلا تمشون حتى نصطادَ الناس ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، فآمنوا به وانطلقوا معه. فذلك قول الله عز وجل : " مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصارُ الله أمنا بالله واشهدْ بأنا مسلمون " .
7122م - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله " ، الآية قال : استنصر فنصرَه الحواريون ، وظهر عليهم.
* * *
وقال آخرون : كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ ، لأن من استنصرَ الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله.
ذكر من قال ذلك :
7123 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فلما أحس عيسى منهم الكفر " ، قال : كفروا وأرادُوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه " قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصارُ الله " .
* * *
" والأنصار " ، جمع " نصير " ، (8) كما " الأشراف " جمع " شريف " ، " والأشهاد " جمع " شهيد " .
* * *
وأما " الحواريون " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا " حواريون " .
فقال بعضهم : سموا بذلك لبياض ثيابهم.
ذكر من قال ذلك :
7124 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : مما روى أبي قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : إنما سمُّوا " الحواريين " ، ببياض ثيابهم.
* * *
__________
(1) الخوابي جمع خابية : وهي الحب (بضم الحاء) ، والحب : جرة ضخمة يجعل فيها الماء والخمر وغيرهما.
(2) هذه الكلمة : " وإياه طعامًا " هكذا هي غير منقوطة في المخطوطة ، وأما المطبوعة ، فإنها جعلتها " وإياه طعامًا " ، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه. وقد رأيت كل من نقل خبر السدي قد أسقط هذه الكلمة من روايته ، فأسقطها الثعلبي في قصص الأنبياء : 341 ، والبغوي في تفسيره (بهامش ابن كثير) 2 : 146 ، والدر المنثور 2 : 34 ، وغيرهم. وأنا أستبعد أن تكون زيادة من الناسخ ، وأقطع بأنها ثابتة في أصل أبي جعفر ، ولكني لم أجد لها وجهًا من وجوه التصحيف أحملها عليه ، ولكنها ولا شك تعني : " وهيأ طعامًا " . وأرجو أن يوفق غيري إلى معرفة صوابها ، وأسأل الله أن يوفقني إلى مثله.
(3) في المخطوطة : " اجزر شاة " ، والصواب ما في المطبوعة : أجزره شاة : أعطاه شاة تصلح للذبح. وستأتي مرة أخرى على الصواب في حديث البقرة الآتي ، في المخطوطة.
(4) خالف بين الضمائر ، فقال " فأكلا " يعني عيسى وصاحبه ، ثم قال : " فلما شبعوا " ، يعني عيسى وصاحبه وأمه مريم عليهما السلام. وهذا سياق لا بأس به في مجاز العربية.
(5) أفا يفيء : رد وأرجع. يعني : لا يرد عليه عافيته. وفي المخطوطة : " لا يفي " ، وهذا صواب قراءتها.
(6) في المطبوعة : " أعلم ذلك لعيسى " ، والصواب ما في المخطوطة.
(7) قوله : " شيئًا " ، أي قليلا ، كقول سالم بن وابصة الأسدي : غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ ... فإن زادَ شيئًا ، عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا
وكقول عمر بن أبي ربيعة : وقالت لَهُنَّ : ارْبَعْنَ شيئًا ، لَعَلَّنِي ... وَإنْ لامَني فِيمَا ارْتَأَيْتَ مُلِيمُ
وهذا من نوادر اللغة ، مما أغفلت بيانه المعاجم.
(8) انظر تفسير " الأنصار " فيما سلف قريبًا : 443 ، تعليق : 2. والمراجع هناك.

(6/445)


وقال آخرون : سموا بذلك : لأنهم كانوا قَصّارين يبيِّضون الثياب.
ذكر من قال ذلك :
7125 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبي أرطأة قال : " الحواريون " ، الغسالون الذين يحوّرون الثياب ، يغسلونها.
* * *
وقال آخرون : هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم.
ذكر من قال ذلك :
7126 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كان من الحواريين. فقيل له : من الحواريُّون ؟ قال : الذين تصلح لهم الخلافة.
7127 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : " إذ قال الحواريون " ، قال : أصفِياء الأنبياء.
* * *
قال أبو جعفر : وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى " الحواريين " ، قولُ من قال : " سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسّالين " .
وذلك أن " الحوَر " عند العرب شدة البياض ، ولذلك سمي " الحُوَّارَى " من الطعام " حُوّارَى " لشدة بياضه ، (1) ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين " أحور " ، وللمرأة " حوراء " . وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا ، من تبييضهم الثيابَ ، وأنهم كانوا قصّارين ، فعرفوا بصحبة عيسى ، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا ، فجرى ذلك الاسم لهم ، واستُعمل ،
__________
(1) الحواري (بضم الحاء وتشديد الواو ، وراء مفتوحة) : هو ما حور من الطعام ، أي بيض ، ودقيق حوارى : هو الدقيق الأبيض ، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.

(6/450)


حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره : " حواريُّه " ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
7128 - " إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا ، وَحوَاريَّ الزبير " . (1)
* * *
يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى والأمصار " حَوَاريَّات " ، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن ، ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري : (2)
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا... وَلا تَبْكِنَا إلا الكِلابُ النَّوابِحُ (3)
* * *
ويعني بقوله : " قال الحواريون " ، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا ، من تبييضهم الثياب : " آمنا بالله " ، صدقنا بالله ، واشهد أنتَ يا عيسى بأننا مسلمون.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه الذي ابتعثَ به
__________
(1) الأثر : 7128 - ذكره الطبري بغير إسناد ، وهو من صحيح الحديث. أخرجه البخاري في مواضع (الفتح 6 : 39 / 7 : 64 ، 412 / 13 : 203 ، 204) ، وأخرجه مسلم في صحيحه 15 : 188. وكان في المطبوعة : " إن لكل نبي حواري " ، وصوابه ما أثبت. والرواية الأخرى بحذف : " إن " أي : " لكل نبي حواري " .
(2) هو أبو جلدة بن عبيد بن منقذ اليشكري ، من شعراء الدولة الأموية ، كان من أخص الناس بالحجاج ، ثم فارقه وخرج مع ابن الأشعث ، وصار من أشد الناس تحريضًا على الحجاج. فلما قتل وأتى الحجاج برأسه ووضع بين يديه ، مكث ينظر إليه طويلا ثم قال : كم من سر أودعته هذا الرأس فلم يخرج منه حتى أتيت به مقطوعًا!!
(3) الؤتلف والمختلف للآمدي : 79 ، والأغاني 11 : 311 ، والوحشيات : 36 ، وحماسة ابن الشجري : 65 ، واللسان (حور) ، وبعده. بَكَيْنَ إِلَيْنَا خَشْيَةً أَنْ تُبِيحَهَا ... رمَاحُ النَّصَارَى والسُّيُوفُ الجوارحُ
بَكَيْنَ لِكَيْمَا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْهُمُ ... وَتَأْبَى قُلُوبٌ أَضْمَرَتْها الجَوَانِحُ
يقولها تحريضًا وتحضيضًا على قتال أهل الشام.

(6/451)


عيسى والأنبياءَ قبله ، لا النصرانية ولا اليهوديةَ وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها ، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام ، وذلك احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران ، كما : -
7129 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فلما أحسّ عيسى منهم الكفر " والعدوان (1) " قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله " ، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم " واشهد بأنا مسلمون " ، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفدَ نصارَى نجران. (2)
* * *
__________
(1) في سيرة ابن هشام : " والعدوان عليه " .
(2) الأثر : 7129 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7119.

(6/452)


رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا : " ربنا آمنا " ، أي : صدّقنا " بما أنزلت " ، يعني : بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك " واتبعنا الرسول " ، يعني بذلك : صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به ، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك وقوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، يقول : فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق ، وأقرُّوا لك بالتوحيد ، وصدّقوا رسلك ، واتبعوا أمرك ونهيك ، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك ، وأحِلَّنا محلهم ، ولا تجعلنا ممن كفر بك ، وصدَّ عن سبيلك ، وخالف أمرك ونهيك.

(6/452)


وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم ، ليحتذوا طريقهم ، ويتبعوا منهاجهم ، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة ، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران : بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم ، ومنهاجهم غير منهاجهم ، كما : -
7130 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " ، أي : هكذا كان قولهم وإيمانهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل ، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.
* * *
وكان مكرهم الذي وصفهم الله به ، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله ، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه ، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم ، عاد إليهم ، فيما : -
7131 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن عيسى سار بهم يعني : بالحواريين الذين كانوا
__________
(1) الأثر : 7130 - سيرة ابن هشام 2 : 230 ، هو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7129.

(6/453)


يصطادون السمك ، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم ، فذلك قوله : ( فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) الآية [سورة الصف : 14].
* * *
وأما مكر الله بهم : فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى ، وهم يحسبونه عيسى ، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك ، كما : -
7132 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصُعِد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله : " ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين " . فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر ، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء ، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة ، ويرون صورةَ عيسى فيهم ، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه ، فذلك قول الله عز وجل : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) [سورة النساء : 157].
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى " مكر الله بهم " ، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله ، كما قد بينا ذلك في قول الله : ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) [سورة البقرة : 15]. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 301 - 306.

(6/454)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم إذ قال الله جل ثناؤه : " إني متوفيك " ، فـ " إذ " صلةٌ من قوله : " ومكر الله " ، يعني : ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى " إني متوفيك ورافعك إليّ ، فتوفاه ورفعه إليه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الوفاة " التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.
فقال بعضهم : " هي وفاة نَوْم " ، وكان معنى الكلام على مذهبهم : إني مُنِيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك :
7133 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إني متوفيك " ، قال : يعني وفاةَ المنام ، رفعه الله في منامه قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : " إن عيسَى لم يمتْ ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ، فرافعك إليّ ، قالوا : ومعنى " الوفاة " ، القبض ، لما يقال : " توفَّيت من فلان ما لي عليه " ، بمعنى : قبضته واستوفيته. قالوا : فمعنى قوله : " إني متوفيك ورافعك " ، أي : قابضك من
__________
(1) الأثر : 7133 - هو أثر مرسل ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 36 ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم ، وساقه ابن كثير في تفسيره 2 : 150 بإسناد ابن أبي حاتم.

(6/455)


الأرض حيًّا إلى جواري ، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
ذكر من قال ذلك :
7134 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق في قول الله : " إني متوفيك " ، قال : متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت. (1)
7135 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " إني متوفيك " ، قال : متوفيك من الأرض.
7136 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا " ، قال : فرفعه إياه إليه ، توفِّيه إياه ، وتطهيره من الذين كفروا.
7137 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح : أن كعب الأحبار قال : ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم ، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده ، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه ، شكا ذلك إلى الله عز وجل ، فأوحى الله إليه : " إني متوفيك ورافعك إليّ " ، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا ، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة ، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار : وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
__________
(1) الأثر : 7134 - " علي بن سهل الرملي " ، ثقة. مضت ترجمته رقم : 1384. " ضمرة ابن ربيعة الفلسطيني الرملي " ، قال ابن سعد : " كان ثقة مأمونًا خيرًا ، لم يكن هناك أفضل منه " . وقال آدم بن أبي إياس : " ما رأيت أحدًا أعقل لما يخرج من رأسه منه " . وهو رواية ابن شوذب. مترجم في التهذيب. " ابن شوذب " هو : عبد الله بن شوذب الخراساني. ثقة. مترجم في التهذيب. و " مطر الوراق " هو : مطر بن طهمان الوراق. مضى في رقم : 1913.

(6/456)


قال : كيف تهلك أمة أنا في أوّلها ، وعيسى في آخرها. (1)
7138 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " يا عيسى إني متوفيك " ، أي قابضُك.
7139 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إني متوفيك ورافعك إليّ " ، قال : " متوفيك " : قابضك قال : " ومتوفيك " و " رافعك " ، واحدٌ قال : ولم يمت بعدُ ، حتى يقتل الدجالَ ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل : " ويكلم الناس في المهد وكهلا " ، قال : رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا قال : وينزل كهلا.
7140 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله عز وجل : " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " ، الآية كلها ، قال : رفعه الله إليه ، فهو عنده في السماء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إني متوفيك وفاةَ موتٍ.
ذكر من قال ذلك :
7141 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إني متوفيك " ، يقول : إني مميتك.
7142 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال : توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
__________
(1) الأثر : 7137 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 36 ، ونسبه للطبري وحده ، وقال : " وأخرج ابن جرير بسند صحيح " ، وذكر الأثر ، وحديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مرسل ، ومهما كان سنده صحيحًا ، فإن روايته كعب الأحبار إنما هي لا شيء ، ولا يحتج بها. وصدق معاوية في قوله في كعب الأحبار : " إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب " ، رواه البخاري.

(6/457)


7143 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ، ثم أحياهُ الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال : هذا من المقدم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا ، قولُ من قال : " معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ " ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال ، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها ، اختلفت الرواية في مبلغها ، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
7144 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن حنظلة بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا ، يكسر الصَّليب ، ويقتل الخنزير ، ويضَعُ الجزية ، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه ، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا ، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا. (1)
__________
(1) الحديث : 7144 - سلمة : هو ابن الفضل الأبرش. رجحنا توثيقه في : 246.
حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي - ويقال " السلمي " - : تابعي ثقة معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند : 7890 (ج 2 ص 290 - 291 حلبي) ، بنحوه ، مطولا ، عن يزيد ، وهو ابن هارون ، عن سفيان ، وهو ابن حسين ، عن الزهري ، عن حنظلة.
ورواه أحمد قبل ذلك ، مختصرًا : 7271 ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة. و : 7667 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر - كلاهما عن الزهري ، عن حنظلة.
ورواه أيضًا مختصرًا : 10671 (ج 2 ص 513) ، من طريق ابن أبي حفصة. و : 10987 (ج 2 ص 540) ، من طريق الأوزاعي - كلاهما عن الزهري ، عن حنظلة.
وهذه الرواية المختصرة عند أحمد - رواها مسلم 1 : 356 - 357.
وروى أحمد معنى هذا الحديث مفرقًا في أحاديث ، من طرق عن أبي هريرة. انظر المسند : 7267 ، 7665 ، 7666 ، 9110 (ج 2 ص 394) ، 9312 (ص 411) ، 10266 (ص 482 - 483) ، 10409 (ص 493 - 494) ، 10957 (ص 538).
وذكر ابن كثير كثيرًا من طرقه ورواياته ، في التفسير 3 : 15 - 16. وانظر أيضًا تاريخه 2 : 96 - 101.
قوله : " أو ليثنين بهما " - هذا هو الصواب الثابت في المخطوطة ، والصحيح المعنى. ووقع في المطبوعة " أو يدين بهما " !! وهو تخليط لا معنى له.

(6/458)


7145 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ ، أمَّهاتهم شتى ، ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : فإنه رجل مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سَبط الشعر ، كأن شَعرَه يقطُر ، وإن لم يصبه بَللٌ ، بين مُمصَّرَتين ، يدق الصّليبَ ، ويقتل الخنزير ، ويُفيضُ المال ، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه المِللَ كلها ، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع الأسُود مع الإبل ، والنمر مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الغلمانُ بالحيات ، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا ، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 7145 - إسناده ضعيف جدًا. وأصل الحديث صحيح ، كما سيأتي.
الحسن بن دينار البصري ، كذاب لا يوثق به. وقد مضت ترجمته في : 682.
عبد الرحمن بن آدم البصري ، صاحب السقاية ، مولى أم برثن : تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج له مسلم في صحيحه ، وترجمنا له في شرح المسند : 7213.
والحديث سيأتي بإسناد آخر صحيح : من رواية سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن قتادة بهذا الإسناد نحوه (ج 6 ص 16 بولاق).
وقد رواه أحمد في المسند : 9259 (ج 2 ص 406 حلبي) ، عن عفان ، عن همام ، عن قتادة ، به نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2 : 595 ، من طريق عفان. وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكر ابن كثير في التفسير 3 : 16 ، من رواية أحمد بن عفان. ثم أشار إلى أن أبا داود رواه من طريق همام ، ثم أشار إلى رواية الطبري الآتية ، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه أحمد أيضًا : 9630 (ج 2 ص 437) ، من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، به نحوه.
ثم رواه : 9631 ، من طريق هشام ، و : 9632 ، من طريق شيبان - كلاهما عن قتادة. ولم يذكر لفظه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2 : 98 - 99 ، عن رواية ابن أبي عروبة في المسند ، وأشار إلى روايتي أحمد وأبي داود من طريق همام.
وليس في هذه الروايات ولا في رواية الطبري الآتية - : الكلمة التي هنا في رواية الحسن بن دينار : " وإنه خليفتي على أمتي " . وهي عندنا كلمة شاذة ، انفرد بروايتها رجل غير موثق به.
وصدر هذا الحديث رواه أحمد ، والبخاري ، وابن حبان ، من أوجه ، عن أبي هريرة. وانظر تفسير ابن كثير 3 : 16 ، وتاريخه 2 : 98 - 99.
قوله : " إخوة لعلات " - بفتح العين المهملة وتشديد اللام - قال ابن الأثير : " أولاد العلات : الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة " .
قوله : " وإنه نازل " - نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان : مما لم يختلف فيه المسلمون ، لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره طائفة طيبة منها ، ج 3 ص 15 - 24. وهذا معلوم من الدين بالضرورة ، لا يؤمن من أنكره.
قوله : " مربوع الخلق " - بفتح الخاء وسكون اللام - المربوع : هو بين الطويل والقصير. يقال : رجل ربعة ومربوع.
" الشعر السبط " : المنبسط المسترسل.
قوله : " بين ممصرتين " - الممصرة من الثياب ، بتشديد الصاد المهملة المفتوحة : هي التي فيها صفرة خفيفة.

(6/459)


قال أبو جعفر : ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل ، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى ، فيجمع عليه ميتتين ، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم ، كما قال جلّ ثناؤه : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) [سورة الروم : 40].
* * *

(6/460)


فتأويل الآية إذًا : قال الله لعيسى : يا عيسى ، إني قابضك من الأرض ، ورافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوّتك.
* * *
وهذا الخبر ، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر ، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا ، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم ، كما : -
7146 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه ، (1) كيفَ رفعه وطهره منهم ، فقال : " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ " . (2)
* * *
وأما " مطهِّرك من الذين كفروا " ، فإنه يعني : منظّفك ، فمخلّصك ممن كفر بك ، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها ، كما : -
7147 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ومطهرك من الذين كفروا " ، قال : إذْ همُّوا منك بما همّوا. (3)
7148 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ،
__________
(1) في المطبوعة : " فيما أخبروا هم واليهود بصلبه " ، وما أثبته هو نص المخطوطة ولكن الناسخ أساء كعادته فكتب " أحروا لليهود " كأنها حاء ، فبدل الناشر لما شاء كما شاء. ومع ذلك ، فالذي في المخطوطة هو نص ابن هشام أيضًا على الصواب.
(2) الأثر : 7146 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7130.
(3) الأثر : 7147 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، تتمة الأثر السالف رقم : 7146.

(6/461)


عن الحسن في قوله : " ومطهرك من الذين كفروا " ، قال : طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته ، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل ، (1) فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به ، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم ، كما : -
7149 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته ، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
7150 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، ثم ذكر نحوه.
7151 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل " ، وفي المخطوطة : " وخالفوا سبيلهم جميع وهل الملل " ، والصواب زيادة [من] ، يعني : وخالفوا سبيل الذين اتبعوك ، من جميع أهل الملل. أهو صواب المعنى ، إن شاء الله.

(6/462)


ابن جريج : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، ثم ذكر نحوه.
7152 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، قال : ناصرُ من اتبعك على الإسلام ، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
7153 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، أما " الذين اتبعوك " ، فيقال : هم المؤمنون ، ويقال : بل هم الرّوم. (1)
7154 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " ، قال : جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال : المسلمون من فوقهم ، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.
ذكر من قال ذلك :
7155 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : " ومطهرك من الذين كفروا " ، قال : الذين كفروا من بني إسرائيل " وجاعل الذين اتبعوك " ، قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم " فوق الذين كفروا " ، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال : فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى ، إلا وهم فوق يهودَ ، في شرقٍ ولا غرب ، هم في البلدان كلِّها مستذلون.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فيقال هم المؤمنون ، ليس هم الروم " بدل ما في المخطوطة ، والروم كانوا هم النصارى يومئذ ، ويعني بالمؤمنين فيما سلف ، أهل الإسلام ممن لم يبدل ولم يقل في عيسى ما قالت النصارى بعد.

(6/463)


القول في تأويل قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ثم إليّ " ، ثم إلى الله ، أيها المختلفون في عيسى " مرجعكم " ، يعني : مصيركم يوم القيامة " فأحكم بينكم " ، يقول : فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق " فيما كنتم فيه تختلفون " من أمره.
وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة ، وذلك أن قوله : " ثم إليَّ مرجعكم " ، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام : وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين : الذين اتبعوك ، والذين كفروا بك ، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول ، (1) على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية ، كما قال : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) [سورة يونس : 22]. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " لسوق القول " وهو خطأ لا معنى له. وفي المخطوطة " لسوق " غير منقوطة ، فلم يحسن قراءتها. والطبري يكثر استعمال " سبوق " مصدر " سبق " ، كما أشرت إليه في 4 : 287 ، تعليق : 4 / ثم ص : 427 ، تعليق : 1 / ثم ص : 446 ، تعليق : 4 ، وغيره من المواضع. ويعني بقوله : " لسبوق القول " مثل ما مضى من قوله في 1 : 153 أن من شأن العرب " إذا حكت ، أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب ، وتخبر عن غائب ثم تعود إلى الخطاب ، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب " . والقول هنا هو قوله تعالى : " إذ قال الله يا عيسى... " . ومعنى ما قال الطبري ، أن قوله تعالى : " ثم إلي مرجعكم... " إنما هو في أمر الذين اختلفوا في أمر عيسى ، وقالوا فيه ما قالوا من اليهود والنصارى وغيرهم ، وأمر الذين قالوا فيه الحق ولم يمتروا فيه أنه عبد الله ورسوله. وذلك بعد أن كان الخطاب إلى عيسى نفسه ، وكان ذكر الذين اتبعوه والذين كفروا به ، غائبًا في خطاب عيسى ، فرد الخطاب إليهم في آخر الآية.
(2) انظر ما سلف 1 : 153 ، 154 / 3 : 304 ، 305.

(6/464)


فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فأما الذين كفروا " ، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى ، وخالفوا ملتك ، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق ، وقالوا فيك الباطلَ ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه ، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان ، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا ، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة ، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا " وما لهم من ناصرين " ، يقول : وما لهم من عذاب الله مانعٌ ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة ، لأنه العزيز ذُو الانتقام.
* * *
وأما قوله : " وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، فإنه يعني تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول : صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي ، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به ، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك ، وشرعتُ من شرائعي ، وسننتُ من سنني. كما :
7156 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وعملوا الصالحات " ، يقول : أدوا فرائضي.
* * *
" فيوفيهم أجورَهم " ، يقول : فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.
* * *

(6/465)


ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

وأما قوله : " والله لا يحب الظالمين " ، فإنه يعني : والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له ، أو وضع شيئًا في غير موضعه.
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه ، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به ، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه ، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال : إني لا أحبّ الظالمين ، فكيف أظلم خلقي ؟
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره ، وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله ، (1) ووعد منه للمؤمنين به وبرسله ، (2) لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه ، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه ، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ذلك " ، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم ، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى ، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل " نتلوها عليك " ، يا محمد ، يقول : نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم ، (3) بوحيناها إليك " من
__________
(1) في المطبوعة : " كأنه وعيد منه " ، وهو خطأ بين ، لم يحسن قراءة المخطوطة لسوء خط الناسخ.
(2) في المخطوطة : " ووعيد منه للمؤمنين " ، وهو خطأ بين ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر معنى " التلاوة " فيما سلف 2 : 411 ، 569.

(6/466)


إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

الآيات " ، يقول : من العبر والحجج على من حاجَّك من وفد نصارى نجران ، (1) ويهود بني إسرائيل الذين كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي " والذكر " ، يعني : والقرآن (2) " الحكيم " ، يعني : ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل ، (3) وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه ، كما : -
7157 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " ، القاطع الفاصل الحقّ ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلنّ خبرًا غيره. (4)
7158 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " ، قال : القرآن.
7159 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " والذكر " ، يقول : القرآن " الحكيم " الذي قد كمَلَ في حكمته.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل فأخبرْ به ، يا محمد ، الوفدَ من نصارى نجران عندي ، كشبه آدمَ الذي
__________
(1) انظر معنى " الآيات " ، فيما سلف قريبًا ، ومادة (أيي) من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الذكر " فيما سلف 1 : 94 ، 99.
(3) انظر تفسير " الحكيم " فيما سلف ، في مادة (حكم) من فهارس اللغة.
(4) الأثر : 7157 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7147 ، وكان في المطبوعة : " فلا يقبلن " بالياء ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت.

(6/467)


خلقتُه من تراب ثم قلت له : " كن " ، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول : فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل ، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحمًا. يقول : فكذلك خلقى عيسى : أمرتُه أن يكون فكانَ. (1)
* * *
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك :
7160 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر قال : كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ، إلى قوله " فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين " .
7161 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيّد والعاقب فقالوا لمحمد : ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ فقال : من هو ؟ قالوا : عيسَى ، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بأعجب من خلقى آدم من غير ذكر ولا أنثى (فكان لحمًا يقول) ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان. فكذلك خلقى عيسى... " وهي عبارة مضطربة اضطرابًا فاسدًا جدًا ، وذلك أن الناسخ عجل نظره وهو ينسخ فكتب ما وضعته بين القوسين آنفًا في هذا المكان ثم استمر يكتب ، ثم نسي أن يضرب على هذا الكلام ويعيده إلى مكانه فإن قوله : " وأمري إذ أمرته " معطوف على قوله " بأعجب من خلقى آدم " ، وغير ممكن أن يفصل بينهما بمثل قوله : " فكان لحمًا يقول " ، واستظهرت أن مكانها حيث أثبت في آخر الجملة ، فرددتها إلى مكانها ، فاستقام الكلام إن شاء الله.

(6/468)


أجل ، إنه عبد الله. قالوا له : فهل رأيت مثلَ عيسى ، أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده ، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال : قل لهم إذا أتوك : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم " ، إلى آخر الآية.
7162 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم : السيد والعاقبُ ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب ، فما شأن عيسى لا أب له ؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " .
7163 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " ، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران ، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم : العاقب ، والسيد ، وما سَرجس ، ومار يحز. (1) فسألوه ما يقول
__________
(1) هكذا جاء الاسمان في المخطوطة والمطبوعة ، أما " ماسرجس " فالمشهور " مَارَسَرْجِسَ " ، وهكذا رأيته في أشعارهم كقول جرير للأخطل : قال الأُخَيْطِلُ إِذْ رَأَى رَايَاتِهِمْ ... يَامَارَ سَرْجِسَ لا نُرِيدُ قِتَالاَ
ويقولن فيه أيضًا : " مارسرجيس " بالياء ، كما قال الأخطل : لَمَّا رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا ... وَمَارَ سَرْجِيسَ وسمًّا ناقِعَا
وهذا الذي ذكره جرير والأخطل رجل مشهور من قديسيهم. وأما " ماريحز " ، فلم أعرف ضبطه وأظنه غير صحيح ، وكأنه مصحف ، وقد جاء في الدر المنثور 2 : 37 " مار بحر " ، وقد ذكر ابن هشام في سيرته 2 : 224 ، أسماء الأربعة عشر الذين يؤول إليهم وفد نصارى نجران. فلم أجد فيها " ماسرجس " ولا " مار يحز " ، وأخشى أن يكون " مار يحنس " فقد ذكر فيهم " يحنس " ، ولكنه رجم لا أحققه.

(6/469)


في عيسى ، فقال : هو عبد الله ورُوحُه وكلمته. قالوا هم : لا! ولكنه هو الله ، نزل من ملكه فدَخل في جوف مريم ، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط إنسانًا خُلق من غير أب ؟ فأنزل الله عز وجل : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " . 7164 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح ، عن عكرمة قوله : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ، قال : نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران ، وهما نصرانيان. قال ابن جريج : بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيهم السيد والعاقبُ ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران ، فقالوا : يا محمد ، فيما تشتمُ صاحبنا ؟ قال : من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم ، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل ، إنه عبدُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا : إن كنت صادقًا فأرنا عبدًا يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه ، الآية ، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ فقال : يا محمد : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) [سورة المائدة : 17 ، 72] الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ، إنهم سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل : مثلُ عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا ، فقرأ عليهم الآيات.
7165 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن مثل عيسى عند الله " ، فاسمع ، (1) " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين " ، فإن قالوا :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فاسمع " ، وفي سيرة ابن هشام : " فاستمع " .

(6/470)


خُلق عيسى من غير ذكر ، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر ، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا ، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا. (1)
7166 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل : " إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " ، قال : أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له : هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر ، فيكون عيسى كذلك ؟ قال : فأنزل الله عز وجل : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " ، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه ؟
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فكيف قال : " كمثل آدم خلقه " ، " وآدم " معرفة ، والمعارفُ لا تُوصَل ؟
قيل : إن قوله : " خلقه من تراب " غير صلة لآدم ، (2) وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه ، وكيف كان. (3)
* * *
وأما قوله : " ثم قال له كن فيكون " ، فإنما قال : " فيكون " وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم ، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى ، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه : " خلقه من تراب ثم قال له كن " ، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله : " كن " ، ثم قال : " فيكون " ،
__________
(1) الأثر : 7165 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، 232 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7157 ، ولكن أبا جعفر اختصر كلام ابن إسحاق هنا ، ولكنه سيسوقه وما حذف منه ، برقم : 7169.
(2) يعني بقوله " صلة " التابع ، وهو النعت بالجملة. فإن شرط النعت بالجملة أن يكون المنعوت نكرة لفظًا أو معنى ، وأن يكون في الجملة ضمير ملفوظ أو مقدر يربطها بالموصوف ، وأن تكون الجملة خبرية. فهذه ثلاثة شروط ، أحدها في المنعوت ، وشرطان في جملة النعت.
(3) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 219.

(6/471)


الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

خبرًا مبتدأ ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله : " كنْ " . (1)
فتأويل الكلام إذًا : " إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن " ، واعلم ، يا محمد ، أن ما قال له ربك " كن " ، فهو كائن.
فلما كان في قوله : " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن " ، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر ، استغنى بدلالة الكلام على المعنى ، وقيل : " فيكون " ، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية : " فيكون " ، رفع على الابتداء ، ومعناه : كن فكان ، فكأنه قال : فإذا هو كائن.
* * *
القول في تأويل قوله : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الذي أنبأتك به من خبر عيسى ، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه " كن " هو الحق من ربك ، يقول : هو الخبر الذي هو من عند ربك " فلا تكن من الممترين " ، يعني : فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك ، (2) كما : -
7167 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " ، يعني : فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم ، عبدُ الله ورسوله ، وكلمةُ الله ورُوحه.
__________
(1) انظر الفقرتين الآتيتين ، ففيهما تفسير هذه الجملة السالفة. ولقد بين الطبري عنها بيانًا شافيًا قل أن تظفر بمثله في كتاب من كتب التفسير أو غيرها. والمذهب الذي ذهب إليه أبو جعفر في تفسيره ، هو عندي أرجح من القول الآتي ، وهو الذي اشتهر في كتب التفسير.
(2) انظر تفسير " الامتراء " ، وتفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 3 : 190 ، 191.

(6/472)


فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

7168 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " ، يقول : فلا تكن في شكّ مما قصصنا عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله ، وكلمةٌ منه ورُوحٌ ، وأنّ مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون.
7169 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحق من ربك " ، ما جاءك من الخبر عن عيسى " فلا تكن من الممترين " ، أي : قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه. (1)
7170 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فلا تكن من الممترين " ، قال : والممترون الشاكون.
* * *
" والمرية " " والشك " " والريب " ، واحد سواءٌ ، كهيئة ما تقول : " أعطني " " وناولني " " وهلم " ، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فمن حاجك فيه " ، فمن جادلك ، يا محمد ، في المسيح عيسى ابن مريم. (2)
* * *
والهاء في قوله : " فيه " ، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة
__________
(1) الأثر : 7169 - سيرة ابن هشام 2 : 231 ، 232 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7165 ، فانظر التعليق على هذا الأثر. وفي سيرة ابن هشام " فلا تمترين فيه " ، وهي أجود.
(2) انظر تفسير " حاج " فيما سلف 3 : 120 ، 121 / 5 : 429 / 6 : 280.

(6/473)


على " الحق " الذي قال تعالى ذكره : " الحق من ربك " .
* * *
ويعني بقوله : " من بعد ما جاءك من العلم " ، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله " فقل تعالوا " ، هلموا فلندع (1) " أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل " ، يقول : ثم نلتعن.
* * *
يقال في الكلام : " ما لهُ ؟ بَهَله الله " أي : لعنه الله " وما له ؟ عليه بُهْلةُ الله " ، يريد اللعن ، وقال لبيد ، وذكر قومًا هلكوا فقال :
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (2)
يعني : دعا عليهم بالهلاك.
* * *
" فنجعل لعنة الله على الكاذبين " منا ومنكم في أنه عيسى ، (3) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " تعالوا " فيما يلي ص : 483 ، 485.
(2) ديوانه قصيدة 39 ، البيت : 81 وأساس البلاغة (بهل) ، وأمالي الشريف المرتضي 1 : 45 ، من قصيدة مضى بعض أبياتها ، وهي من شعره الذي رثى فيه أربد : وَأَرَى أَرْبَدَ قَدْ فَارَقَنِي ... وَمِنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَلَلْ
مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ ، ... وَعَلَى الأَدْنَيْنَ حُلْوٌ كَالْعَسَلْ
فِي قُرُومٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَر الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وهذا التفسير الذي ذكره الطبري لمعنى بيت لبيد ، جيد. وجيد أيضًا تفسير الزمخشري في أساس البلاغة قال : " فاجتهد في إهلاكهم " . وكأن أجود تفسير للابتهال أن يقال : هو الاسترسال في الأمر ، والاجتهاد فيه ، ومعنى البيت : فاسترسل في أمرهم ، واجتهد في إهلاكهم فأفناهم. وأما قوله : " نظر الدهر إليهم " ، فقد قال الجوهري وغيره : " نظر الدهر إلى بني فلان فأهلكهم " ، فقال ابن سيده : " هو على المثل ، وقال : ولست على ثقة منه " . وقال الزمخشري : " ونظر الدهر إليهم : أهلكهم " ، وهو تفسير سيئ ، إذا لم يكن في نسخة الأساس تحريف. وصواب المعنى أن يقال : " نظر الدهر إليهم " ، نظر إليهم مكبرًا أفعالهم ، فحسدهم على مآثرهم وشرفهم. كما يقال : " هو سيد منظور " ، أي : ترمقه الأبصار إجلالا. وإكبارًا. وإنما فسرته بالحسد ، لأنهم سموا الحسد " العين " ، فيقال : " عان الرجل يعينه عينًا ، فهو معين ومعيون " ، والنظر بالعين لا يزال مستعملا في الناس بمعنى الحسد ، وإنما أغفل شارحو بيت لبيد هذا المعنى.
(3) في المطبوعة : " في آية عيسى " ، وهذا لا معنى له هنا والصواب ما في المخطوطة ، وإنما أراد : الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى عبد الله ورسوله ، لا أنه " الله " تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، وقد مضى في الأثر رقم 7164 ، قولهم : " ولكنه الله " .

(6/474)


7171 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " ، أي : في عيسى : أنه عبدُ الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " ، إلى قوله : " على الكاذبين " .
7172 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم " ، أي : من بعد ما قصصت عليك من خبره ، وكيف كان أمره " فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم " ، الآية. (1)
7173 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " ، يقول : من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
7174 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " ، قال : منا ومنكم.
7175 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، وحدثني ابن لهيعة ، عن سليمان بن زياد الحضرمي ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 7172 - سيرة ابن هشام 2 : 232 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها : 7169.
(2) الحديث : 7175 - سليمان بن زياد الحضرمي المصري : تابعي ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم : " شيخ صحيح الحديث " .
عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي : صحابي نزل مصر ، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
و " جزء " : بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و " الزبيدي " : بضم الزاي ، نسبة إلى القبيلة.
ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب : " وحدثني ابن لهيعة " - ومثل هذا يكون كثيرًا في الأسانيد : يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث ، فيذكرها بحرف العطف ، عطف حديث على حديث ، وإسناد على إسناد ، فإذا حدث السامع عن الشيخ ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره. والأمر قريب.
والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، ص : 301 ، بنحوه ، عن عبد الملك بن مسلمة ، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما عن ابن لهيعة ، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 2 : 38 ، عن ابن جرير وحده.

(6/475)


إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن هذا الذي أنبأتك به ، يا محمد ، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه ، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي ، لهو القصَص والنبأ الحق ، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه ، وهو الله العزيز الحكيم.
* * *
ويعني بقوله : " العزيز " ، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، وادعى معه إلهًا غيرَه ، أو عبد ربًّا سواه (1) " الحكيم " في تدبيره ، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ ، ولا يلحقه خللٌ. (2)
* * *
" فإن تولوا " ، يعني : فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى ، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان ،
__________
(1) انظر تفسير " العزيز " فيما سلف 3 : 88 / 6 : 165 ، 168 ، 271.
(2) انظر تفسير " الحكيم " فيما سلف قريبًا : 467 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.

(6/476)


فأعرضوا عنه ولم يقبلوه (1)
" فإن الله عليم بالمفسدين " ، يقول : فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم ، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه ، وذلك هو إفسادهم. (2) يقول تعالى ذكره : فهو عالم بهم وبأعمالهم ، يحصيها عليهم ويحفظها ، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.
* * *
وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
7176 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إنّ هذا لهو القصص الحق " ، أي : إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى ، " لهو القصَص الحقّ " ، من أمره. (3)
7177 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " إنّ هذا لهو القصص " ، إن هذا الذي قُلنا في عيسى " لهو القصَص الحق " .
7178 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إنّ هذا لهو القصص الحق " ، قال : إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى ، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه : أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم ، (4) وروحًا منه ، وعبدَ الله ورسوله.
7179 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إنّ هذا لهو القصص الحق " ، إنّ هذا الذي قلنا في
__________
(1) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 2 : 162 - 164 ، 298 / 3 : 131 / 4 : 237 / 6 : 283 ، 291.
(2) انظر معنى " الفساد " فيما سلف 1 : 287 ، 416 / 4 : 238 ، 243 ، 244 / 5 : 372.
(3) الأثر : 7176 - سيرة ابن هشام 2 : 232 ، هو بقية الآثار التي آخرها رقم : 7172.
(4) في المطبوعة : " ولا يجاوز أي يتعدى... " ، والصواب ما في المخطوطة.

(6/477)


عيسى ، هو الحق " وما من إله إلا الله " ، الآية.
* * *
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران ، بالقضاء الفاصل والحكم العادل ، أمرَه (1) إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله ، وأنه لا ولد له ولا صاحبة ، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله ، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة (2) أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة ، ودعوا إلى المصالحة ، كالذي : -
7180 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر قال : فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم - يعني : بملاعنة أهل نجران - بقوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " ، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب ، وكانا أعقلهم ، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل ، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما صنعتم!! ونَدَّمهم ، (3) وقال لهم : إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا ، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. (4) قالوا : فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم : إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه ، فقولوا : " نعوذ بالله " ! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له : " نعوذ بالله " ! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين ، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وأمره... " بالواو ، وهي زائدة مفسدة ، فأسقطتها.
(2) سياق الجملة : " أمره... أن يدعوهم إلى الملاعنة " ، وما بينهما فصل.
(3) قوله : " ندمهم " (مشدد الدال) لامهم حتى حملهم على الأسف والندم. وهذا لفظ عربي عريق قل أن تظفر به في كثير من كتب اللغة.
(4) في المطبوعة : " لا يستبقينكم " ، بزيادة النون ، والصواب من المخطوطة.

(6/478)


فقالوا : " نعوذ الله " ! ثم دعاهم فقالوا : " نعوذ بالله " ! مرارًا قال : فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل ، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا : ما نملك إلا أنفسنا! قال : فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا : ما لنا طاقة بحرب العرب ، ولكن نؤدّي الجزية. قال : فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة ، ألفًا في رجب ، وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد أتاني البشير بهلكه أهل نجران ، (1) حتى الطير على الشجر أو : العصافيرُ على الشجر لو تمُّوا على الملاعنة. (2)
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير قال : فقلت للمغيرة : إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال : أما الشعبي فلم يذكره ، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ ، أو لم يكن في الحديث! (3)
7181 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إنّ هذا لهو القصص الحق " إلى قوله : " فقولوا اشهدُوا بأنا مسلمون " ، فدعاهم إلى النَّصَف ، (4) وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله عنه ، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم ، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم ، إنْ ردُّوا عليه (5) دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رَأيهم ، (6) فقالوا : يا عبد المسيح ، ما ترى ؟ قال :
__________
(1) في المطبوعة : " قد أتاني " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " تم على الشي " استمر عليه وأمضاه.
(3) هذه الفقرة من تتمة الأثر السالف ، فلذلك لم أفردها بالترقيم.
(4) النصف والنصفة (كلاهما بفتحتين) : هو الإنصاف ، وإعطاء الحق لصاحبك كالذي تستحق لنفسك.
(5) في المخطوطة : " أو ردوا عليه " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة مطابقًا لسيرة ابن هشام ، وفيها : " إن ردوا ذلك عليه " .
(6) " ذو رأيهم " ، صاحب الرأي والتدبير ، يستشار فيما يعرض لهم لعقله وحسن رأيه.

(6/479)


والله يا معشر النصارى ، لقد عرفتم أنّ محمدًا لنبيّ مرسل ، (1) ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ دينكم ، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادِعوا الرجلَ ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه. (2) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنَك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا ، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رِضًى. (3)
7182 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عيسى بن فرقد ، عن أبي الجارود ، عن زيد بن علي في قوله : " تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " أن محمد نبي مرسل " ، وهو خطأ ، وتحريف لما في المخطوطة كما أثبتها ، وهو المطابق أيضًا لما في سيرة ابن هشام.
(2) قوله : " حتى يريكم زمن رأيه " ليست في سيرة ابن هشام. ويعني بذلك : حتى يمضي زمن ، وتتقلب أحوال ، فترون عاقبة أمره ، صلى الله عليه وسلم ، وقد قال شارح السيرة ، السهيلي ، في الروض الأنف 2 : 50 " وفي حديث أهل نجران ، زيادة كثيرة عن ابن إسحاق ، من غير رواية ابن هشام " .
(3) الأثر : 7181 - سيرة ابن هشام 2 : 232 ، 233 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم : 7176 - يقال : " رجل رضى من قوم رضى " ، أي مرضى ، وصف بالمصدر مثل رجل عدل ، كما قال زهير : مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ : ... هُمُ بَيْنَنَا ، فَهُمُ رِضًى ، وهُمُ عَدْلُ
(4) الأثر : 7182 - " عيسى بن فرقد المروزي " ، أبو مطهر. روى عنه عمرو بن رافع ، وابن حميد ، قال ابن أبي حاتم : " سألت أبي عنه فقال : مروزي. قلت : ما حاله ؟ قال : شيخ " . مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 284. و " أبو الجارود " هو : زياد بن المنذر الهمداني. قال ابن معين : " كذاب ، عدو الله ، ليس يسوي فلسًا " . وكان رافضيًا يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويروى في فضائل أهل البيت رضي الله عنهم أشياء ما لها أصول. لا يحل كتب حديثه ، وهو من غلاة الشيعة ، وله فرقة تعرف بالجارودية.

(6/480)


7183 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم " ، الآية ، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة ، وقال لعلي : اتبعنا. فخرجَ معهم ، فلم يخرج يومئذ النصارَى ، وقالوا : إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وليس دعوة النبيّ كغيرها ! ! فتخلفوا عنه يومئذ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح : على أنّ له عليهم ثمانين ألفًا ، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض : الحُلة بأربعين وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا ، وثلاثًا وثلاثين بعيرًا ، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم.
7184 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى ، وهم الذين حاجوه ، في عيسى ، فنكصُوا عن ذلك وخافوا وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : والذي نفس محمد بيده ، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران ، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض. (1)
7185 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " ، قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران ، (2) فلما رأوه خرج ، هابوا وفَرِقوا ، فَرَجعوا قال معمر ، قال قتادة : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران ، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة : اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله ، رجعوا.
__________
(1) جديد الأرض ، وجدها (بفتح الجيم وكسرها) وجددها (بفتحات) : هو وجه الأرض.
(2) في المطبوعة : خرج ليلاعن أهل نجران " ، قرأ " ليداعي " " ليلاعن " ، و " يداعي " من " الدعاء " ، يعني هذه المباهلة والملاعنة.

(6/481)


7186 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
7187 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زكريا ، عن عدي قال ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله.
7188 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين.
7189 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا ابن زيد قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو لاعنت القوم ، بمن كنتَ تأتي حين قلت " أبناءَنا وأبناءَكم " ؟ قال : حسن وحسين.
7190 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال ، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال : لما نزلت هذه الآية : " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم " ، الآية ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليُلاعنهم ، فقال شاب من اليهود ، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير ؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7190 - " المنذر بن ثعلبة بن حرب الطائي " ، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و " علباء بن أحمر اليشكري " روى عن عكرمة مولى ابن عباس. قال أحمد : " لا بأس به ، لا أعلم إلا خيرًا " ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
هذا وأحاديث هذا الباب كلها مرسلة ، كما رأيت ، إلا خبر ابن عباس.

(6/482)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قل " ، يا محمد ، لأهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل " تعالوا " ، هلموا (1) " إلى كلمة سواء " ، يعني : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، (2) والكلمة العدل ، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه ، فلا نشرك به شيئًا.
وقوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا " ، يقول : ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه " فإن تولوا " ، يقول : فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها ، (3) فلم يجيبوك إليها " فقولوا " ، أيها المؤمنون ، للمتولِّين عن ذلك " اشهدوا بأنا مسلمون " .
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
7191 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير " تعالوا " فيما سلف قريبًا : 474 ، وسيأتي ص : 485.
(2) انظر تفسير " سواء " فيما سلف 1 : 256 / 2 : 495 - 497.
(3) انظر معنى " تولى " فيما سلف قريبًا ص : 477 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(6/483)


7192 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة السَّواء.
7193 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم قال : دعاهم إلى قول الله عز وجل : " قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " ، الآية.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك :
7194 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية ، إلى قوله : " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ، قال : فدعاهم إلى النَّصَف ، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران. (1)
7195 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " ، الآية.
7196 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن وهب قال ، حدثنا ابن زيد قال قال : يعني جل ثناؤه : " إنّ هذا لهو القصص الحقّ " ، في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى (2) قال : فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " ،
__________
(1) الأثر 7194 - سيرة ابن هشام 2 : 232 ، ومضى أيضًا برقم : 7181 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم : 7181.
(2) يعني الأثر السالف رقم : 7178.

(6/484)


فقرأ حتى بلغ : " أربابًا من دون الله " ، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا عنى بقوله : " يا أهل الكتاب " ، أهلَ الكتابين ، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب ، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله : " يا أهل الكتاب " بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة ، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه ، وإخلاصَ التوحيد له ، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم " أهل الكتاب " ، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، (1) فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.
* * *
وأما تأويل قوله : " تعالوا " ، فإنه : أقبلوا وهلمُّوا. (2) وإنما " هو تفاعلوا " من " العلوّ " فكأن القائل لصاحبه : " تعالَ إليّ " ، قائلٌ " تفاعل " من " العلوّ " ، (3) كما يقال : " تَدَانَ مني " من " الدنوّ " ، و " تقارَبْ مني " ، من " القرب " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأهل الكتاب يعم أهل التوراة وأهل الإنجيل " ، غير ما في المخطوطة حين لم يحسن قراءة ما فيه من التصحيف ، وكان في المخطوطة : " وأنتم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل " صحف الكاتب فكتب مكان " واسم " ، " وأنتم " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) قد فسر أبو جعفر " تعالوا " في موضعين سلفا ص : 474 ، ص : 483 ، ولكنه استوفى هنا الكلام في بيانها ، ولا أدري لم يفعل مثل ذلك ، وكان الأولى أن يفسرها أول مرة.
(3) في المطبوعة : " فكأن القائل تعالى إلى ، فإنه تفاعل من العلو " لأنه لم يفهم ما كان في المخطوطة ، فبدله ، ووضع علامة (3) للدلالة على أنه خطأ لا معنى له ، أو سقط في الكلام. والصواب ما أثبت.

(6/485)


وقوله : " إلى كلمة سواء " . فإنها الكلمة العدلُ ، " والسَّواء " من نعتِ " الكلمة " . (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع " سواء " في الإعراب " لكلمة " ، وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة : جر " سواء " لأنها من صفة " الكلمة " وهي العدل ، وأراد مستوية. قال : ولو أراد " استواء " ، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على " الاستواء " ويجرّ ، جاز ، ويجعله من صفة " الكلمة " ، مثل " الخلق " ، لأن " الخلق " هو " المخلوق " . " والخلق " قد يكونُ صفةً واسمًا ، ويجعل " الاستواء " مثل " المستوى " ، قال عز وجل : ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) [سورة الحج : 25] ، لأن " السواء " للآخر ، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول ، وذلك إذا أراد به " الاستواء " . فإن أراد به " مستويًا " جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل " عدل " و " رضًى " و " جُنُب " ، وما أشبه ذلك. وقالوا : [في قوله] : (2) ( أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) [سورة الجاثية : 21] ، فـ " السواء " للمحيا والممات بهذا ، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلتَه صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأول
__________
(1) انظر تفسير " سواء " فيما سلف قريبًا ص : 483 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) الزيادة التي بين القوسين ، زدتها ليستقيم الكلام ويستبين ، وأخشى أن يكون في هذه الجملة سقط لم أستطع أن أتبينه ، وراجع قول أبي جعفر في هذه الآية من تفسيره ، 25 ، 89 ، 90 (بولاق).

(6/486)


فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى " مستوى " . والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : " سواء " مصدرٌ وضع موضع الفعل ، (1) يعني موضع " متساوية " : و " متساو " ، فمرة يأتي على الفعل ، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في " سواء " ، بمعنى عدل : " سِوًى وسُوًى " ، كما قال جل ثناؤه : ( مَكَانًا سُوًى ) و(سِوًى) [سورة طه : 58] ، يراد به : عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك( " إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم " ). (2)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : " إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " ، بأن " السواء " هو العدلٍ ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7197 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " ، عدل بيننا وبينكم " ألا نعبد إلا الله " ، الآية.
7198 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا " ، بمثله. (3)
* * *
__________
(1) " الفعل " يعني به الصفة المشتقة مثل فاعل ومفعول ، كما هو ظاهر هنا ، وراجع فهرس المصطلحات.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 220.
(3) الأثر : 7198 - في المخطوطة : " و.. ولا نشرك به شيئًا " الآية ، وليس فيها " بمثله " ، زادها الناشر أو ناسخ قبله ، لما رأى الأثر غير تام ، وهو صنيع حسن ، وإن كنت لا أرتضيه ، وظني أنه قد سقط من الناسخ الأول بقية التفسير.

(6/487)


وقال آخرون : هو قولُ " لا إله إلا الله " .
ذكر من قال ذلك :
7199 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال ، قال أبو العالية : " كلمة السواء " ، لا إله إلا الله.
* * *
وأما قوله : " ألا نعبُدَ إلا الله " ، فإنّ " أنْ " في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله. (1)
* * *
وقد بينا - معنى " العبادة " في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله : " ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا " ، فإنّ " اتخاذ بعضهم بعضًا " ، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله ، (3) وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال جل ثناؤه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ) [سورة التوبة : 31] ، كما : -
7200 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : " ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله " ، يقول : لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية : أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يصلُّوا لهم.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 220 ، فانظر تمامها هناك.
(2) انظر ما سف 1 : 160 ، 161 ، 362 / 3 : 120 ، 317.
(3) في المطبوعة : " هو ما كان بطاعة الأتباع... " بزيادة " هو " ، وليست في المخطوطة.

(6/488)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

وقال آخرون : " اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا " ، سجودُ بعضهم لبعض.
ذكر من قال ذلك :
7201 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله " ، قال : سجود بعضهم لبعض.
* * *
وأما قوله : " فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ، فإنه يعني : فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم ، أيها المؤمنون ، لهم : اشهدوا علينا بأنا بما تولَّيتم عنه ، من توحيد الله ، وإخلاص العبودية له ، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له " مسلمون " ، يعني : خاضعون لله به ، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
* * *
وقد بينا معنى " الإسلام " فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أهل الكتاب " ، يا أهل التوراة والإنجيل " لم تحاجون " ، لم تجادلون " في إبراهيم " وتخاصمون فيه ، يعني : في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وكان حجِاجهم فيه : ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 510 ، 511 / 3 : 73 ، 74 ، 92 ، 110 / ثم 6 : 275 ، 280.

(6/489)


منهم ، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته. فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك ، ودلّ على مُناقضتهم ودعواهم ، فقال : وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم ، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية ، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها ، والنصراني منكم يزعم أنّ دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه ، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته ؟ فكيف يكون منكم ؟ فما وجه اختصامكم فيه ، (1) وادعاؤكم أنه منكم ، والأمر فيه على ما قد علمتم ؟
* * *
وقيل : نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم ، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
ذكر من قال ذلك :
7202 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني محمد بن إسحاق وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنزل الله عز وجل فيهم : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون " ، قالت النصارى : كان نصرانيًّا! وقالت اليهود : كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده ، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " فكيف يكون منهم ، أما وجه اختصامكم فيه.. " ، وهو خطأ من عجلة الناسخ وصححه في المطبوعة ، ولكنه كتب " فما وجه اختصامكم فيه " ، وهو ليس بشيء ، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر : 7202 - سيرة ابن هشام 2 : 201 : 202 مختصرًا ، والأثر الذي قبله فيما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق ، هو ما سلف رقم : 6782.

(6/490)


7203 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم " ، يقول : " لم تحاجون في إبراهيم " وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا ، " وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده " ، فكانت اليهودية بعد التوراة ، وكانت النصرانية بعد الإنجيل ، " أفلا تعقلون " ؟
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.
ذكر من قال ذلك :
7204 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء ، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم ، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون " .
7205 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7206 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم " ، قال : اليهود والنصارى ، برَّأه الله عز وجل منهم ، حين ادعت كل أمة أنه منهم ، (1) وألحق به المؤمنين ، مَنْ كان من أهل الحنيفية.
7207 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " حين ادعى " ، وهو سبق قلم من الناسخ.

(6/491)


هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

وأما قوله : " أفلا تعقلون " فإنه يعني : " أفلا تعقلون " ، تفقَهون خطأ قيلكم : إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا ، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد مَهلكه بحين ؟
* * *
القول في تأويل قوله : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ها أنتم " ، القومَ الذين (1) [قالوا في إبراهيم ما قالوا " حاججتم " ] ، (2) خاصمتم وجادلتم (3) " فيما لكم به علم " ، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم ، وأتتكم به رسل الله من عنده ، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته (4) " فلم تحاجون " ، يقول : فلم تجادلون وتخاصمون " فيما ليس لكم به علم " ، يعني : في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه ، ولم تجدوه في كتب الله ، ولا أتتكم به أنبياؤكم ، ولا شاهدتموه فتعلموه ؟ كما : -
7208 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما
__________
(1) في المطبوعة : " يعني بذلك جل ثناؤه : ها أنتم هؤلاء ، القوم... " ، ومثله في المخطوطة ، وليس فيها " هؤلاء " ، وصواب السياق يقتضي أن يكون كما أثبت. وقوله : " القوم " مفعول به لقوله : " يعني... " .
(2) هذه الزيادة التي بين القوسين ، أو ما يقوم مقامها ، لا بد منها ، ولا يستقيم الكلام إلا بها ، وظاهر أن الناسخ قد تخطى عبارة أو سطرا من فرط عجلته أو تعبه. واستظهرتها من نهج أبي جعفر وسياق تفسيره.
(3) انظر تفسير " حاج " فيما سلف 3 : 120 ، 121 ، 200 / 5 : 429 / 6 : 280 ، 473.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " ومن غير ذلك " ، والصواب ما أثبت ، تصحيف ناسخ.

(6/492)


مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

ليس لكم به علم ، أما " الذي لهم به علم " ، فما حرّم عليهم وما أمروا به. وأما " الذي ليس لهم به علم " ، فشأن إبراهيم.
7209 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم " ، يقول : فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم " فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم " ، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .
7210 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
* * *
وقوله : " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، يقول : والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه ، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه ، لأنه لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض " وأنتم لا تعلمون " ، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم ، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) }
قال أبو جعفر : وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى ، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه ، وأنهم لدينه مخالفون وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه ، وعلى منهاجه وشرائعه ، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.

(6/493)


يقول الله عز وجل : ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين ، (1) الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم " ولكن كان حنيفًا " ، يعني : متبعًا أمرَ الله وطاعته ، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها " مسلمًا " ، يعني : خاشعًا لله بقلبه ، متذللا له بجوارحه ، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه. (2)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى " الحنيف " فيما مضى ، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم ، بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7211 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، قال : قالت اليهود : إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى : هو على ديننا. فأنزل الله عز وجل : " ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا " الآية ، فأكذبهم الله ، وأدحض حجتهم - يعني : اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا. (4)
7212 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين " ، ساق الآية كقراءتها ، وذلك لأن ناسخ المخطوطة كان كتب " وكان من المشركين " ثم كتب بين الواو و " كان " ، " لا " ضعيفة غير بينة ، فلم يحسن الناشر قراءتها ، فساق الآية ، ولم يصب فيما فعل ورددت عبارة الطبري إلى صوابها.
(2) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف قريبًا : 489 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر ما سلف 3 : 104 - 108.
(4) الأثر : 7211 - " إسحاق بن شاهين الواسطي " ، روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه ، ولم أجد له ترجمة. و " خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن " أبو الهيثم المزني الواسطي. ثقة حافظ صحيح الحديث ، مترجم في التهذيب ، و " داود " هو : " ابن أبي هند " و " عامر " هو الشعبي.

(6/494)


7213 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه - : أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين ، ويتبعه ، فلقي عالمًا من اليهود ، فسأله عن دينه ، وقال : إني لعلِّي أنْ أدين دينكم ، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد : ما أفرّ إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ (1) قال : ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! (2) قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا ، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى ، فسأله عن دينه فقال : إني لعلِّي أن أدين دينكم ، فأخبرني عن دينكم. قال : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال : لا أحتمل من لعنة الله شيئًا ، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا ، وأنا أستطيع ، (3) فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي : لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. (4) فخرج من عنده ، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم ، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال : (5) اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (6)
__________
(1) في المطبوعة : " وأنا لا أستطيع " ، زاد " لا " ، وليست في المخطوطة ، وهي خطأ فاحش ، ومخالف لرواية الحديث في البخاري كما سيأتي في تخريجه. وفي رواية البخاري : " وأنا أستطيعه ، فهل تدلني على غيره ؟ "
(2) في المطبوعة : " إلا أن تكون " ، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا : " وأنا لا أستطيع " بزيادة " لا " ، وليست في المخطوطة ، وانظر التعليق : 1.
(4) في المطبوعة : " إلا أن تكون " ، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(5) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " فلم يزل رافعًا يديه إلى الله " ، وأنا في شك من لفظ هذا الكلام ، وأكبر ظني أنه تصحيف من كاتب قديم ، ونص رواية البخاري " فلما برز رفع يديه فقال " فجعل " فلما " ، وجعل " برز " " يزل " ، وجعل " رفع " " رافعًا " ، والسياق يقتضي مثل رواية البخاري.
(6) الأثر : 7213 - " يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الزهري " ، سكن الإسكندرية. ثقة ، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر ، رواه البخاري (الفتح 7 : 109 ، 110) من طريق فضيل بن سليمان ، عن موسى ابن عقبة ، بمثل لفظ الطبري مع بعض الاختلاف.
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم ، وفي المخطوطة ما نصه :
" يتلوه القول في تأويل قوله عز وجل " " :
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِبنَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ "
والحمد لله على (..!!) وصلى الله على محمد وآله وسلم "
ثم يتلوه ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال ، حدثنا محمد بن جرير الطبري " .
وهذا شيء جديد قد ظهر في هذه النسخة ، فإن ما مضى جميعه ، كان ختام التقسيم القديم ، رواية أبي محمد الفرغاني ، عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، ثم بدأت رواية التفسير بإسناد آخر لم نكن نعرفه عن رجل آخر غير أبي محمد الفرغاني ، وهو المشهور برواية التفسير ، فأثبت الإسناد في صلب التفسير لذلك : فلا بد من التعريف هنا بأبي بكر البغدادي. حتى نرى بعد كيف تمضي رواية التفسير ، أهي رواية أبي محمد الفرغاني إلى آخر الكتاب ، غير قسم منه رواه أبو بكر ، أم انقضت رواية أبي محمد الفرغاني ، ثم ابتدأت رواية أبي بكر من عند هذا الموضع ؟
وراوي هذا التفسير ، من أول هذا الموضع هو : " محمد بن داود بن سليمان سيار بن بيان ، البغدادي ، الفقيه ، أبو بكر " ، نزل مصر ، وحدث بها عن أبي جعفر الطبري ، وعثمان بن نصر الطائي. روى عنه أبو الفتح عبد الواحد بن محمد بن مسرور البلخي ، كان ثقة. قال الخطيب البغدادي في تاريخه 5 : 265 بإسناده إلى أبي سعيد بن يونس : " محمد بن داود بن سليمان ، يكنى أبا بكر ، بغدادي ، قدم مصر ، وكان يتولى القضاء بتنيس ، وكان يروي كتب محمد بن جرير الطبري عنه. حدث عنه جماعة من البغداديين. وكان نظيفًا عاقلا. وولي ديوان الأحباس بمصر. توفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة " .
ولم أجد له غير هذه الترجمة في تاريخ بغداد ، لا في قضاة مصر للكندي ، ولا في غيره من الكتب التي تحت يدي الآن ، ولعلي أجد في موضع آخر من التفسير ، شيئًا يكشف عن روايته التفسير ، غير هذا القدر الذي وصلت إليه ، والله الموفق.

(6/495)


أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال ، حدثنا محمد بن جرير الطبري :
* * *

(6/496)


إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنّ أولى الناس بإبراهيم " ، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته " للذين اتبعوه " ، يعني : الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه ، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين ، وسنُّوا سُنته ، وشرَعوا شرائعه ، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به " وهذا النبي " ، يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم " والذين آمنوا " ، يعني : والذين صدّقوا محمدًا ، وبما جاءهم به من عند الله " والله ولي المؤمنين " ، يقول : والله ناصرُ المؤمنين بمحمد ، (1) المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده ، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7214 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه " ، يقول : الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته " وهذا النبي " ، وهو نبي الله محمد " والذين آمنوا " معه ، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين ، أولى الناس بإبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف 1 : 489 ، 564 / 5 : 424 / 6 : 142 ، 313.

(6/497)


7215 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7216 - حدثنا محمد بن المثنى ، وجابر بن الكردي ، والحسن بن أبي يحيى المقدسي ، قالوا : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين ، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي ، ثم قرأ : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " . (1)
__________
(1) الحديث : 7216 - جابر بن الكردي بن جابر الواسطي البزار : ثقة من شيوخ النسائي ، مترجم في التهذيب.
الحسن بن أبي يحيى المقدسي : لم أصل إلى معرفة من هو ؟
أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
سفيان : هو الثوري.
وأبوه : سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، وهو ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو الضحى : هو مسلم بن صبيح - بالتصغير. مضت ترجمته في : 5424.
مسروق : هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني. مضت ترجمته في : 4242.
وهذا إسناد صحيح متصل.
وسيأتي - عقبه - بإسناد منقطع : من طريق أبي نعيم ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - منقطعًا ، بإسقاط " مسروق " بين أبي الضحى وابن مسعود.
وأبو الضحى لم يدرك ابن مسعود. مات ابن مسعود سنة 33. ومات أبو الضحى سنة 100. وهكذا روى هذا الحديث في الدواوين بالوجهين : متصلا ومنقطعًا. والوصل زيادة ثقة ، فهي مقبولة.
فرواه الترمذي 4 : 80 - 81 ، عن محمود بن غيلان ، عن أبي أحمد الزبيري ، بهذا الإسناد ، متصلا. كمثل رواية الطبري هذه من طريق أبي أحمد.
وكذلك رواه البزار ، من طريق أبي أحمد الزبيري ، فيما نقل عنه ابن كثير 2 : 163.
ولم ينفرد أبو أحمد الزبيري بوصله بذكر " مسروق " في إسناده. تابعه على ذلك راويان ثقتان.
فرواه الحاكم في المستدرك 2 : 292 ، من طريق محمد بن عبيد الطنافسي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله - مرفوعًا موصولا. وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
ونقل ابن كثير 2 : 161 - 162 أنه رواه سعيد بن منصور : " حدثنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق [هو والد سفيان] عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود... " - فذكره.
وأبو الأحوص سلام بن سليم : ثقة متقن حافظ ، مضى في : 2058 . فقد رواه مرفوعًا متصلا ، عن سعيد الثوري - والد سفيان - كما رواه سفيان عن أبيه.
فهذا يرجح رواية من رواه عن سفيان موصولا ، على رواية من رواه عنه منقطعًا. فإذا اختلفت الرواية على سفيان بين الوصل والانقطاع ، فلم تختلف على أبي الأحوص.
بل الظاهر عندي أن هذا ليس اختلافًا على سفيان. وأن سفيان هذا هو الذي كان يصله مرة ، ويقطعه مرة. ومثل هذا في الأسانيد كثير.

(6/498)


7217 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله ، أراه قال : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه. (1)
7218 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : يقول الله سبحانه : " إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه " ، وهم المؤمنون.
* * *
__________
(1) الحديث : 7217 - هذه هي الرواية المنقطعة لهذا الحديث. رواه الطبري من طريق أبي نعيم عن سفيان ، منقطعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 81 ، عن محمود ، وهو ابن غيلان ، عن أبي نعيم ، بهذا الإسناد.
وتابع أبا نعيم على روايته هكذا منقطعًا رواة آخرون ثقات :
فرواه أحمد في المسند : 3800 ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 81 ، عن أبي كريب ، عن وكيع.
ولكن نقله ابن كثير 2 : 163 - 164 عن تفسير وكيع ، بهذا الإسناد ، وفيه " عن أبي إسحاق " بدل " عن أبي الضحى " . وأنا أرجح أن هذا خطأ من بعض ناسخي تفسير وكيع ، ترجيحًا لرواية أحمد عن وكيع ، والترمذي من طريق وكيع - وفيهما : " عن أبي الضحى " .
ورواه أحمد أيضًا : 4088 ، عن يحيى ، وهو القطان ، وعن عبد الرحمن ، وهو ابن مهدي - كلاهما عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله ، مرفوعًا.
وقد رجح الترمذي الرواية المنقطعة ، وهو ترجيح بغير مرجح. والوصل زيادة تقبل من الثقة دون شك.
وفي رواية الطبري هذه قوله : " أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ، مما يفهم منه الشك في رفعه أيضًا. وهذا الشك لعله من ابن المثنى شيخ الطبري ، أو من الطبري نفسه ، لأن رواية الترمذي من طريق أبي نعيم ليس فيها الشك في رفعه.
والحديث ذكره السيوطي 2 : 42 ، دون بيان الروايات المتصلة من المنقطعة - وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ولم يذكر نسبته لمسند أحمد ولا للبزار.

(6/499)


وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

القول في تأويل قوله : { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ودّت " ، تمنت (1) " طائفة " ، يعني جماعة " من أهل الكتاب " ، وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى " لو يضلُّونكم " ، يقولون : لو يصدّونكم أيها المؤمنون ، عن الإسلام ، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك.
* * *
و " الإضلال " في هذا الموضع ، الإهلاكُ ، (2) من قول الله عز وجل : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [سورة السجدة : 10] ، يعني : إذا هلكنا ، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ... قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (3)
يعنى : هلك هلاكًا ، وقول نابغة بني ذبيان :
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ... وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (4)
يعني مهلكوه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ود " فيما سلف 2 : 470 / 5 : 542.
(2) انظر تفسير " ضل " فيما سلف 1 : 195 / 2 : 495 ، 496.
(3) مضى تخريجه وشرحه في 2 : 496.
(4) ديوانه : 83 ، واللسان (ضلل) (جلا) ، من قصيدته الغالية في رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني ، وقبل البيت : فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ... أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ
فَلاَ تَبْعَدَنْ ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ ، ... وَكُلُّ امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ
فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر ، لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حُجُرٍ ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي ، وَإنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل
فَآبَ مُضِلُّوهُ. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأصمعي وأبي عبيدة : " فآب مصلوه " بالصاد المهملة. وفسرها الأصمعي فقال : " أراد : قدم أول قادم بخبر موته ، ولم يتبينوه ولم يحققوه ولم يصدقوه ، ثم جاء المصلون ، وهم الذين جاءوا بعد الخبر الأول ، وقد جاءوا على أثره ، وأخبروا بما أخبر به ، بعين جلية : أي بخبر متواتر صادق يؤكد موته ، ويصدق الخبر الأول. وإنما أخذه من السابق والمصلي (من الخيل) " وقال أبو عبيدة : " مصلوه : يعني أصحاب الصلاة ، وهم الرهبان وأهل الدين منهم " .
والذي قاله الأصمعي غريب جدًا ، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته ، واحتياله الذي لا يغني ، ولو قال : " مصلوه " ، هم مشيعوه الذين سوف يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها ، وهي اللحد - لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة ، على ضعفه ، أجود مما قاله الأصمعي ، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري ، ولها تفسيران : أحدهما الذي قاله الطبري ، وهو يقتضي أن يكون النعمان مات مقتولا ، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك ، فإنه غير ممكن أن يكون تفسيره " مهلكوه " ، إلا على هذا المعنى ، والآخر : " مضلوه " أي : دافنوه الذي أضلوه في الأرض : أي دفنوه وغيبوه ، وهو المشهور في كلامهم ، كقول المخبل : أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ
فمعنى قول النابغة : كذب الناس خبر موت النعمان أول ما جاء ، فلما جاء دافنوه بخبر ما عاينوه ، صدقوا الخبر الأول. هذا أجود ما يقال في معنى البيت. و " الجولان " جبل في نواحي دمشق ، من عمل حوران. وتبين من شعر النابغة أنه كانت به منازل النعمان وقصوره ودوره.

(6/500)


" وما يضلون إلا أنفسهم " ، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم ، يعني بـ " أنفسهم " : أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه ، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم ، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى ، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته ،

(6/501)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

ومدَّخِر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : " وما يشعرون " أنهم لا يضلون إلا أنفسهم ، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.
* * *
ومعنى قوله : " وما يشعرون " ، وما يدرون ولا يعلمون.
* * *
وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " يا أهل الكتاب " ، من اليهود والنصارى " لم تكفرون " ، يقول : لم تجحدون " بآيات الله " ، يعني : بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم ، من آيه وأدلته " وأنتم تشهدون " أنه حق من عند ربكم.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل ، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته ، وهم يجدونه في كتبهم ، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ ، وأنه من عند الله ، كما : -
7219 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " ، يقول : تشهدون
__________
(1) انظر تفسير " شعر " فيما سلف 1 : 277 ، 278.

(6/502)


أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته " .
7220 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " ، يقول : تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل : " النبيّ الأميّ " .
7221 - حدثني محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " ، " آيات الله " محمد ، وأما " تشهدون " ، فيشهدون أنه الحق ، يجدونه مكتوبًا عندهم.
7222 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " أنّ الدين عند الله الإسلام ، ليس لله دين غيره. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7222 - أسقطت المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا القاسم قال " ، فأثبتها ، وهو إسناد دائر في التفسير من أوله ، أقربه رقم : 7200 ، وسيأتي بعد قليل على الصواب ، رقم : 7226.

(6/503)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

القول في تأويل قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أهل التوراة والإنجيل " لم تلبسون " ، يقول : لم تخلطون " الحق بالباطل " .
* * *

(6/503)


وكان خلطهم الحقّ بالباطل ، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية.
كما : -
7223 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيِّف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف ، بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً ، حتى نلبس عليهم دينهم ، لعلهم يصنعون كما نصنعُ ، فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل " إلى قوله : " والله واسع عليم " . (1)
7224 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " ، يقول : لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه ، الإسلام ، ولا يجزي إلا به ؟
7225 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله إلا أنه قال : الذي لا يقبل من أحد غيرَه ، الإسلامُ ولم يقل : " ولا يجزي إلا به " . (2)
7226 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل " ، الإسلامَ باليهودية والنصرانية.
* * *
وقال آخرون : في ذلك بما : -
__________
(1) الأثر : 7223 - سيرة ابن هشام 2 : 202 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 7202.
(2) في المطبوعة : " ولم يقبل ولا يجازى إلا به " ، قرأها الناشر كذلك لفساد خط الناسخ في كتابته ، وصواب قراءتها ما أثبت ، وفي المخطوطة " لا يجزى الآية " ، وهو تصحيف قبيح.

(6/504)


7227 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل : " لم تلبسون الحق بالباطل " ، قال : " الحقّ " التوراة التي أنزل الله على موسى ، و " الباطل " ، الذي كتبوه بأيديهم.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى " اللبس " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولم تكتمون ، يا أهل الكتاب ، الحقّ ؟ (2)
* * *
و " الحق " الذي كتموه : ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته ، كما : -
7227 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " ، كتموا شأنَ محمد ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر.
7229 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " ، يقول : يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
7230 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 567 ، 568.
(2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية والتي قبلها فيما سلف 1 : 566 - 572 ، والآثار التي رواها هنا قد رويت هناك في مواضعها.

(6/505)


وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

ابن جريج : " تكتمون الحق " ، الإسلام ، وأمرَ محمد صلى الله عليه وسلم " وأنتم تعلمون " أنّ محمدًا رسولُ الله ، وأنّ الدين الإسلامُ.
* * *
وأما قوله : " وأنتم تعلمون " ، فإنه يعني به : وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل ، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به ، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في كتبهم ، وجاءَتهم به أنبياؤهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به : من الإيمان وجهَ النهار ، وكفرٍ آخره. (1)
فقال بعضهم : كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله ، وأنه حق ، في الظاهر (2) من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " والكفر آخره " غير ما في المخطوطة ، وهو صواب متمكن.
(2) سياق قوله : " بتصديق النبي... في الظاهر " .

(6/506)


7231 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " ، فقال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار ، واكفروا آخره ، فإنه أجدر أن يصدّقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون ، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم.
7232 - حدثني المثنى قال ، حدثنا معلى بن أسد قال ، حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " ، قال : قالت اليهود : آمنوا معهم أوّل النهار ، واكفروا آخره ، لعلهم يرجعون معكم.
7233 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " ، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا ، (1) فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أول النهار ، وقولوا : " نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ " ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : " إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم ، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب ، وأنكم لستم على شيء ، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم " ، لعلهم يشكّون ، يقولون : هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار ، فما بالهم ؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
7234 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري قال : قالت اليهود بعضهم لبعض : أسلِموا أول النهار ، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم ، فأنزل الله عز وجل :
__________
(1) في المطبوعة : " قرى عرينة " وهي قراءة فاسدة للمخطوطة ، إذ كانت غير منقوطة وجاءت على الصواب في الدر المنثور 2 : 42. وانظر معجم ما استعجم : 929 ، فهو اسم مكان.

(6/507)


" وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " .
* * *
وقال آخرون : بل الذي أمرَت به من الإيمان : الصلاةُ ، وحضورها معهم أول النهار ، وتركُ ذلك آخرَه.
ذكر من قال ذلك :
7235 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " ، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح ، وكفروا آخرَ النهار ، مكرًا منهم ، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.
7236 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله.
7237 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " ، الآية ، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا : إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهلُ الكتاب ، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم ، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : " وقالت طائفة من أهل الكتاب " ، يعني : من اليهود الذين يقرأون التوراة " آمنوا " صدّقوا " بالذي أنزل على الذين آمنوا " ، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه " وجه النهار " ، يعني : أوّل النهار.
* * *

(6/508)


وسمَّى أوّله " وجهًا " له ، لأنه أحسنه ، وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه ، كما يقال لأول الثوب : " وجهه " ، وكما قال ربيع بن زياد :
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7238 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وجه النهار " ، أوّلَ النهار.
7239 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وجه النهار " ، أول النهار " واكفروا آخره " ، يقول : آخر النهار.
7240 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا
__________
(1) مجاز القرآن 1 : 97 ، حماسة أبي تمام 3 : 26 ، والأغاني 16 : 27 ، والخزانة 3 : 538 ، واللسان (وجه) وغيرها ، من أبياته التي قالها حين قتل حميمه مالك بن زهير ، وحمى لقتله ، واستعد لطلب ثأره ، وبعد البيت ، وهو من تمامه. يَجِدِ النَّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّج الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهُ تَسَتُّرًا ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَرَزْنَ للنظّارِ
يَخْمِشنَ حُرَّاتِ الوُجُوهِ عَلَى امْرِئٍ ... سَهْلِ الخليقةِ طَيِّبِ الأخبارِ
قالوا في معنى البيت الشاهد : " يقول : من كان مسرورًا بمقتل مالك ، فلا يشتمن به ، فإنا قد أدركنا ثأره به. وذلك أن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر " . ومعنى البيت عندي شبيه بذلك ، إلا أن قوله : " فليأت نسوتنا بوجه نهار " ، أراد به أنه مدرك ثأره من فوره ، فمن شاء أن يعرف برهان ذلك ، فليأت ليشهد المأتم قد قام يبكيه في صبيحة مقتله. يذكر تعجيله في إدراك الثأر ، كأنه قد كان. وتأويل ذلك أنه قال هذه الأبيات لامرأته قبل مخرجه إلى قتال الذين قتلوا مالكًا ، فقال لامرأته ذلك ، يعلمها أنه مجد في طلب الثأر ، وأنه لن يمرض في طلبه ، بل هو مدركه من فوره هذا.

(6/509)


آخره) ، قال قال : صلوا معهم الصبح ، ولا تصلّوا معهم آخرَ النهار ، لعلكم تستزلُّونهم بذلك.
* * *
وأما قوله : " واكفروا آخره " ، فإنه يعني به ، أنهم قالوا : واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار ، في آخر النهار " لعلهم يرجعون " : يعني بذلك : لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه : كما : -
7241 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لعلهم يرجعون " ، يقول : لعلهم يدَعون دينهم ، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه.
7242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7243 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لعلهم يرجعون " ، لعلهم ينقلبون عن دينهم.
7244 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لعلهم يرجعون " ، لعلهم يشكّون.
7245 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " لعلهم يرجعون " ، قال : يرجعون عن دينهم.
* * *

(6/510)


وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

القول في تأويل قوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا.
* * *
وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود : " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " .
* * *
و " اللام " التي في قوله : " لمن تبع دينكم " ، نظيرة " اللام " التي في قوله : ( عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) ، بمعنى : ردفكم ، ( بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) [سورة النمل : 72].
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7246 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ، هذا قول بعضهم لبعض.
7247 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " قال : لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.
7248 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن يزيد في قوله :

(6/511)


" ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ، قال : لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم ، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُم عِنْدَ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : قوله : " قل إنّ الهدى هدى الله " ، اعتراضٌ به في وسط الكلام ، (2) خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا : وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول ، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. (3) فمعنى الكلام عندهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم ، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم أي : ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد : " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " ، و " إن الهدى هدى الله " .
ذكر من قال ذلك :
7249 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " ، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.
__________
(1) في المطبوعة : " لا من خالفه فلا تؤمنوا به " بزيادة " لا " وفي المخطوطة : " من خالفه فلا تؤمنوا به " ، والصواب زيادة الواو كما أثبت ، والصواب أيضًا " تؤمنوا له " ، وذاك تصحيف من الناسخ.
(2) في المطبوعة : " اعترض به في وسط الكلام ، خبر من الله. . . " والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا : " خبر عن قيل اليهود " برفع الخبر ، والصواب من المخطوطة.

(6/512)


7250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : تأويل ذلك : قل يا محمد : " إن الهدى هدى الله " ، إنّ البيان بيانُ الله " أن يؤتى أحدٌ " ، قالوا : ومعناه : لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم ، كما قال : ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) [سورة النساء : 176] ، بمعنى : لا تضلون ، وكقوله : ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) [سورة الشعراء : 200 - 201] ، يعني : أن لا يؤمنوا " مثل ما أوتيتم " ، يقول : مثل ما أوتيتَ ، أنت يا محمد ، وأمتك من الإسلام والهدى " أو يحاجوكم عند ربكم " ، قالوا : ومعنى " أو " : " إلا " ، أيْ : إلا أن " يحاجوكم " ، يعني : إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم. (1)
ذكر من قال ذلك :
7251 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم " ، يقول ، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد " أو يحاجوكم عند ربكم " ، تقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة ، حتى أنزل علينا المن والسلوى فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا : " إن الفضْل بيد الله يؤتيه من يشاء " ، الآية.
* * *
فعلى هذا التأويل ، جميع هذا الكلام ، [أمرٌ] من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود ، (2) وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و " الهدى "
__________
(1) انظر تفصيل هذه المقالة في معاني القرآن للفراء 1 : 222 - 223.
(2) في المطبوعة : " جميع هذا الكلام من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ، وفي المخطوطة " جميع هذا الكلام من الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم " ، ولما رأى الناشر عبارة لا تستقيم ، اجتهد في إصلاحها ، والصواب القريب زيادة ما زدته بين القوسين ، سقط من الناسخ " أمر " لقرب رسمها مما بعدها وهو : " من " . وقد استظهرته مما سيأتي في أول الفقرة التالية.

(6/513)


الثاني ردّ على " الهدى " الأول ، و " أن " في موضع رفع على أنه خبر عن " الهدى " .
* * *
وقال آخرون : بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. (1) وقالوا : تأويله : " قل " يا محمد " إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد " من الناس " مثل ما أوتيتم " ، يقول : مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله ، ومثل نبيكم ، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم ، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي ، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء.
ذكر من قال ذلك :
7252 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم " ، يقول : لما أنزل الله كتابًا مثلَ كتابكم ، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم ، حسدتموهم على ذلك " قلْ إنّ الفضلَ بيد الله " ، الآية.
7253 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
* * *
وقال آخرون : بل تأويل ذلك : " قل " يا محمد : " إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا : وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا : وقوله : " أو يحاجوكم " ، مردود على قوله : " ولا تؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم " .
وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة - : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فتتركوا الحقَّ : أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه : أنه محقٌّ ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله : " أو يحاجوكم " مردودًا
__________
(1) في المطبوعة : " أمر من الله لنبيه " زاد لامًا لا ضرورة لها. وانظر التعليق السالف.

(6/514)


على جواب نهي متروك ، على قول هؤلاء.
ذكر من قال ذلك :
7254 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " ، يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أو يحاجوكم عند ربكم " ، قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه ، ليحاجُّوكم قال : ليخاصموكم به عند ربكم " قل إن الهدى هدى الله " .
* * *
[قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله : " قل إن الهدى هُدى الله " ] معترضًا به ، (1) وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، (2) ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم بمعنى : لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم (3) " أو يحاجوكم عند ربكم " ، بمعنى : أو أن يحاجوكم عند ربكم . . . . . . . . (4) أحد بإيمانكم ،
__________
(1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها كما سترى في التعليق ص 516 ، تعليق : 3. وكان في المطبوعة " قل إن الهدى هدى الله ، معترض به " ، وهو لا يستقيم ، وفي المخطوطة مثله إلا أنه كتب " معترضًا به " بالنصب. والظاهر أن الناسخ لما بلغ " قل إن الهدى هدى الله " في الأثر السالف تخطى بصره إلى نظيرتها في كلام الطبري ، فكتب بعده : " معترضًا به " وأسقط ما بينهما كما سيتبين لك فيما بعد.
(2) في المطبوعة : " اتبع دينكم " ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " بمثل ما أوتيتم " زاد " باء " ، والصواب من المخطوطة.
(4) موضع هذه النقط سقط ، لا أشك فيه ، وكان في المطبوعة : " أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم " ، وهو غير مستقيم ، وكان في المخطوطة : " أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم " ، وهو كلام مختل ، حمل ناشر المطبوعة الأولى على تغييره ، كما رأيت. وظاهر أنه سقط من هذا الموضع ، سياق أبي جعفر لهذا التأويل الذي اختاره ، ورد فيه قوله تعالى : " قل إن الهدى هدى الله " ، إلى موضعها بعد قوله : " أو يحاجوكم به عند ربكم " ، كما هو بين من كلامه. وأنا أظن أن قوله : " أحد بايما لم " وهكذا كتبت في المخطوطة غير منقوطة ، صوابها " حسدا لما آتاكم " ، كما يستظهر من الآثار السالفة.
هذا ، وإن شئت أن تجعل الكلام جاريًا كله مجرى واحدًا على هذا : " أو أن يحاجوكم عند ربكم ، حسدًا لما آتاكم ، لأنكم أكرم على الله منهم. . . " ، كان وجهًا ، غير أني لست أرتضيه ، بل أرجح أن هاهنا سقطًا لا شك فيه.

(6/515)


لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " سوى قوله : " قلُ إن الهدى هدى الله " . ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم : " قل " ، يا محمد ، للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود (1) " إن الهدى هدى الله " ، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه ، (2) " وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء " لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها ، (3) لأنه أصحها معنًى ، وأحسنُها استقامةً ، على معنى كلام العرب ، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول ، فانتزاع يبعُد من الصحة ، على استكراه شديدٍ للكلام.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِمٌ (73) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قل " يا محمد ، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم " إنّ الفضل بيد الله " ، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام ، (4) بيد الله وإليه ، دونكم ودون سائر خلقه " يؤتيه من يشاء " من
__________
(1) التباع جمع تابع ، مثل : " جاهل وجهال " .
(2) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف 1 : 166 - 170 ، 230 ، 249 ، 549 - 551 / 3 : 101 ، 140 ، 141 ، 223 / 4 : 283.
(3) من ذكر الطبري اختياره ، تبين بلا ريب أن في صدر الكلام سقطًا ، كما أسلف في ص : 515 ، تعليق : 1 ، ولعل الزيادة التي أسلفتها ، قد نزلت منزلها من الصواب إن شاء الله.
(4) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف 2 : 334 / 5 : 571.

(6/516)


يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

خلقه ، يعني : يعطيه من أراد من عباده ، (1) تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم : " لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " . فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : ليس ذلك إليكم ، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها ، وإليه الفضل ، وبيده ، يُعطيه من يشاء " والله واسع عليم " ، يعني : والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه (2) " عليم " ، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل. (3)
7255 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءةً ، عن ابن جريج في قوله : " قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " ، قال : الإسلام.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " يختص برحمته من يشاء " ، " يفتعل " من قول القائل : " خصصت فلانًا بكذا ، أخُصُّه به " . (4)
* * *
وأما " رحمته " ، في هذا الموضع ، فالإسلام والقرآن ، مع النبوّة ، كما : -
7256 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يختص برحمته من يشاء " ، قال : النبوّة ، يخصُّ بها من يشاء.
__________
(1) انظر تفسير : " آتى " فيما سلف 1 : 574 / 2 : 317 وفهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " واسع " فيما سلف 2 : 537 / 5 : 516 ، 575.
(3) انظر تفسير " عليم " فيما سلف 1 : 438 ، 496 / 2 ، 537 / 3 : 399 ، وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " يختص " فيما سلف أيضا 2 : 471.

(6/517)


7257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7258 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يختص برحمته من يشاء " ، قال : يختص بالنبوة من يشاء.
7259 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءةً ، عن ابن جريج : " يختص برحمته من يشاء " ، قال : القرآن والإسلام.
7260 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج مثله.
* * *
" والله ذو الفضل العظيم " ، يقول : ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال : " فضله عظيم " ، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [فضلٌ] من إفضال خلقه ، (1) ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " غير مشبه... ممن أفضله عليه أفضال خلقه " ، وأما المخطوطة ففيها : " غير مشبهه... ممن أفضله عليه من أفضال خلقه " ، فرأيت أنه قد سقط من ناسخ المخطوطة ما زدته بين القوسين ليستقيم الكلام.

(6/518)


وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

القول في تأويل قوله : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل : أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ. (1)
* * *
فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك : منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها ؟
قيل : إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، (2) وتخويفهم الاغترارَ بهم ، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
* * *
فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه ، يا محمد ، على عظيم من المال كثير ، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه ، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك ، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
* * *
__________
(1) لعل في المخطوطة سقطًا ، صوابه : " المستحل أموال الأميين من العرب " أو " المستحل أموال المؤمنين " ، كما يتبين من بقية تفسير الآية.
(2) في المخطوطة : " أن نهوهم على أموالهم " غير منقوطة ، والذي قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب.

(6/519)


و " الباء " في قوله : " بدينار " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع ، كما يقال : " مررت به ، ومررت عليه " . (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " إلا ما دمت عليه قائمًا " .
فقال بعضهم : " إلا ما دمت له متقاضيًا " .
ذكر من قال ذلك :
7261 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إلا ما دمت عليه قائمًا " ، إلا ما طلبته واتبعته.
7262 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إلا ما دمت عليه قائمًا " ، قال : تقتضيه إياه.
7263 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا ما دمت عليه قائمًا " ، قال : مواظبًا.
7264 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه " . (2)
ذكر من قال ذلك :
7265 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " إلا ما دمت عليه قائمًا " ، يقول : يعترف
__________
(1) انظر ذلك فيما سلف 1 : 313.
(2) في المطبوعة : " إلا ما دمت عليه قائمًا " بزيادة " عليه " ، وهي فساد ، والصواب من المخطوطة.

(6/520)


بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه ، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك (1) الذي يؤدِّي ، والذي يجحد. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : " معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء " . من قولهم : " قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي " ، أي عمل في تخليصه ، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. (3) فذلك الاقتضاء ، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود ، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه ، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا من أجل أنه يقول : لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب
__________
(1) كافره حقه : جحده حقه.
(2) قوله : " الذي يؤدي ، والذي يجحد " بيان عن ذكر الفريقين اللذين ذكرا في الآية ، أي : هذا الذي يؤدي ، وهذا الذي يجحد.
(3) سياق العبارة : " قد يكون... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء... " ، وما بينهما فصل.

(6/521)


ولا إثم ، لأنهم على غير الحق ، وأنهم مشركون. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك :
7266 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " الآية ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
7267 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ليس علينا في الأميين سبيل " ، قال : ليس علينا في المشركين سبيل يعنون من ليس من أهل الكتاب.
7268 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " ، قال : يقال له : ما بالك لا تؤدِّي أمانتك ؟ فيقول : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلَّها الله لنا! !
7269 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : لما نزلت " ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذبَ أعداءُ الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ ، إلا الأمانة ، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الأمي " فيما سلف 2 : 257 - 259 / ثم 5 : 442 في كلام الطبري نفسه / ثم 6 : 281 / ثم الآثار رقم : 5827 ، 6774 ، 6775.
(2) الأثر : 7269 - " يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي " ، و " جعفر " هو : " جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي " ، مضيا في رقم : 617. قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا : " هو حديث مرفوع ، ولكنه مرسل ، لأن سعيد بن جبير تابعي ، وإسناده إليه إسناد جيد " . وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 169 ، 170 من تفسير ابن أبي حاتم ، وخرجه في الدر المنثور 2 : 44 ، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(6/522)


7270 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما قالت اليهود : " ليس علينا في الأميين سبيل " ، يعنون أخذَ أموالهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال : إلا وهو تحت قدميّ هاتين ، إلا الأمانة ، فإنها مؤدّاةٌ ولم يزد على ذلك.
7271 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " ، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون : ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء ، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله : (ليس علينا في الأميين سبيل) ، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون في ذلك ، ما : -
7272 - حدثنا به القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " ، قال : بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم ، فقالوا : ليس لكم علينا أمانةٌ ، ولا قضاءَ لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال : وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، (1) فقال الله عز وجل : " ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون " .
7273 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة قال : قلت لابن عباس : إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم ؟ قال : وتقولون كما قال أهلُ الكتاب : " ليس علينا في الأميين سبيل!! (2)
__________
(1) في المطبوعة : " وادعوا... " ، أسقط " قال " ، وأثبتها من المخطوطة.
(2) الأثر : 7273 - " أبو إسحاق الهمداني " كما بين في الأثر التالي. و " صعصعة بن يزيد " ، ويقال " صعصعة بن زيد " ، وذكر البخاري الاختلاف في اسمه ، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير 2 / 2 / 321 ، 322 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446. وانظر التعليق على الأثر التالي.

(6/523)


7274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة : أن رجلا سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزْو أو : [العذق] ، الشك من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة ، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس! قال : هذا كما قال أهل الكتاب : " ليس علينا في الأميين سبيل " ! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7274 - هذا طريق آخر للأثر السالف ، وبلفظ غيره. ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتاب الأموال (ص 149 ، رقم : 415) من طريق عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة ، بلفظ آخر. ورواه البيهقي في السنن 9 : 198 من طريق " شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة ، قال قلت لابن عباس " ، بلفظ آخر غير كل ما سلف. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 169 من تفسير عبد الرزاق وفيه " عن أبي صعصعة بن يزيد " وهو خطأ صوابه " صعصعة " . وقال : " وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 4 ، ونسبه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم. وساقه الزمخشري في تفسير الآية ، بنص أبي جعفر ، والقرطبي 4 : 118 ، 119 ، وأبو حيان في تفسيره من تفسير عبد الرزاق أيضًا 2 : 501 ، وفي جميعها " إنا نصيب في الغزو " إلا القرطبي فإن فيه : " إنما نصيب في العمد " ، وأما البيهقي ففيه : " إنا نأتي القرية بالسواد فنستفتح الباب... " ، وفي الأموال : " إنا نسير في أرض أهل الذمة فنصيب منهم " .
وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري : " إنا نصيب في العرف ، أو العذق ، الشك من الحسن " ، ولم أجد ذلك في مكان ، وهو لا معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد الرزاق بهذا الإسناد نفسه ، على عبارة واحدة هي " إنا نصيب في الغزو " ، فأثبتها كذلك ، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته بين قوسين ، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها " أو : الغزوة - الشك من الحسن " ، أو تكون : " أو : القرية - الشك من الحسن " .

(6/524)


القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن القائلين منهم : " ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه " ، يقولون بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك ، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه ، وترك قضائهم (1) الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله ، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل : " وهم يعلمون " ، كما : -
7275 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : فيقول على الله الكذب وهو يعلم يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له : ما لك لا تؤدي أمانتك ؟ - : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا!
7276 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " ، يعني : ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم : " ليس علينا في الأميين سبيل " .
* * *
القول في تأويل قوله : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) }
قال أبو جعفر : وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه ، عنده. (2) فقال جل ثناؤه : ليس الأمر كما يقول
__________
(1) قوله : " الكذب " مفعول " يقولون " ، وما بينهما فصل.
(2) في المطبوعة : " هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده " ، والذي أثبت هو نص المخطوطة ، وهو الصواب المحض. والسياق : " وهذا إخبار من الله... عما لمن أدى أمانته... عنده " . وقوله : " واتقاء الله ومراقبته " على النصب فيهما ، مفعول لأجله.

(6/525)


هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم ، ثمّ قال : بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني : ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1)
* * *
و " الهاء " في قوله : " من أوفى بعهده " ، عائدة على اسم " الله " في قوله : " ويقولون على الله الكذب " .
* * *
يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله ، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه " واتقى " ، يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به ، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه ، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه " فإنّ الله يحبّ المتقين " ، يعني : فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به.
* * *
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك.
7277 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " بلى من أوفى بعهده واتقى " يقول : اتقى الشرك " فإنّ الله يحب المتقين " ، يقول : الذين يتقون الشرك.
* * *
__________
(1) انظر بيان معنى " أوفى " فيما سلف 1 : 557 - 559 / 3 : 348. وانظر تفسير " العهد " فيما سلف 1 : 410 - 414 ، ثم 557 - 559 / 3 : 20 - 24 ، 348 ، 349.

(6/526)


إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك والصوابَ من القول فيه ، بالأدلة الدّالة عليه ، فيما مضى من كتابنا ، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم ، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه ، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها (2) " ثمنًا " ، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها (3) " أولئك لا خلاق لهم في الآخرة " ، يقول : فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة ، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم. (4)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى " الخلاق " ، ودللنا على
__________
(1) انظر تفسير " اتقى " و " التقوى " فيما سلف 1 : 232 ، 233 ، 364 / 2 : 181 ، 457 / 4 : 162 ، 244 ، 425 ، 426 / ثم 6 : 261.
(2) سياق الجملة : " إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله... وبأيمانهم الكاذبة... ثمنًا...
(3) انظر تفسير " اشترى " فيما سلف 1 : 311 - 315 ، 565 / 2 : 316 ، 317 ثم 341 ، 342 ، ثم 452 / 3 : 328.
وانظر تفسير " ثمنًا قليلا " فيما سلف 2 : 565 / 3 : 328.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " دون غيرها " ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(6/527)


أولى أقوالهم في ذلك بالصواب ، بما فيه الكفاية. (1)
* * *
وأما قوله : " ولا يكلمهم الله " ، فإنه يعني : ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم " ولا ينظر إليهم " ، يقول : ولا يعطف عليهم بخير ، مقتًا من الله لهم ، كقول القائل لآخر : " انظُر إليّ نَظر الله إليك " ، بمعنى : تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة وكما يقال للرجل : " لا سمع الله لك دعاءَك " ، يراد : لا استجاب الله لك ، والله لا يخفى عليه خافية ، وكما قال الشاعر : (2)
دَعَوْتُ اللهَ حَتى خِفْتُ أَنْ لا... يَكْونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ (3)
* * *
وقوله " ولا يُزكيهم " ، يعني : ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم " ولهم عذاب أليم " ، يعني : ولهم عذابٌ موجع. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية ، ومن عني بها.
فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود.
ذكر من قال ذلك :
7278 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية : " إن الذين يشترون بعهد الله
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 452 - 454 / 4 : 201 - 203.
(2) هو شمير بن الحارث الضبي ، ويقال " سمير " بالمهملة ، مصغرًا - وهو جاهلي.
(3) نوادر أبي زيد : 124 ، والخزانة 2 : 363 ، واللسان (سمع) ، وبعده : لِيَحْمِلَني عَلَى فَرَسٍ ، فَإِنِّي ... ضَعِيفُ المَشْيِ ، لِلأَدْنَى حَمُولُ
و " يسمع ما أقول " ، يستجيب ، كقولنا : " سمع الله لمن حمده " .
(4) انظر تفسير " التزكية " فيما سلف 1 : 573 ، 574 / 3 : 88 / 5 : 29 و " أليم " 1 : 283 / 2 : 140 ، 377 ، 469 ، 540 / 3 : 330 ، وغيرها ، فاطلبه في فهارس اللغة.

(6/528)


وأيمانهم ثمنًا قليلا " ، في أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحُييّ بن أخطب.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.
ذكر من قال ذلك :
7279 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم ، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك : كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني ، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألك بيِّنة ؟ قلت : لا! فقال لليهودي : " احلفْ. قلت : يا رسول الله ، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنزل الله عز وجل : " إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " الآية. (1)
__________
(1) الحديث : 7279 - أبو وائل : هو شقيق بن سلمة الأسدي.
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان : أوله من حديث عبد الله بن مسعود ، وآخره في سبب نزول الآية من حديث الأشعث بن قيس.
والأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي ، صحابي معروف.
والحديث رواه أحمد : 3597 ، 4049 ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، بهذا الإسناد.
ثم رواه بالإسناد نفسه ، في مسند " الأشعث بن قيس " ، ج 5 ص 211 (حلبي).
وكذلك رواه البخاري 5 : 53 ، 206 (فتح الباري) ، من طريق أبي معاوية.
ورواه مسلم 1 : 49 - 50 ، من طريق أبي معاوية ووكيع - كلاهما عن الأعمش.
ورواه أحمد مختصرًا ، عن ابن مسعود وحده ، من أوجه أخر : 3576 ، 3946 ، 4212.
ورواه أيضًا ، مختصرًا ومطولا ، في مسند الأشعث بن قيس ، من ثلاثة أوجه أخر ، ج 5 ص 211 - 212 (حلبي).
وكذلك رواه البخاري من أوجه ، مختصرًا ومطولا ، في مواضع غير الموضعين السابقين 5 : 25 ، 207 ، 211 ، و 11 : 473 ، 485 - 490 (وهنا شرحه الحافظ شرحًا وافيًا) ، و 13 : 156 ، 364.
ورواه مسلم من وجهين أيضًا 1 : 50.
وذكره ابن كثير 2 : 172 : 173 ، من رواية المسند عن أبي معاوية ، ثم ذكره من روايته الأخيرة في مسند الأشعث بن قيس.
وذكره السيوطي 2 : 44 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي أيضًا : 7282 ، من رواية منصور ، عن شقيق ، وهو أبو وائل ، به ، نحوه.

(6/529)


7280 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جرير بن حازم ، عن عدي بن عدي ، عن رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه ، عن أبيه عدي بن عميرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي : " بيِّنَتَك ، وإلا فيمينه " . قال : يا رسول الله ، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه ، لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس : يا رسول الله ، فما لمن تركها ، وهو يعلم أنها حقّ ؟ قال : الجنة. قال : فإني أشهدك أني قد تركتها قال جرير : فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي ، فقال أيوب : إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن عميرة : فنزلت هذه الآية : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " إلى آخر الآية قال جرير : ولم أحفظ يومئذ من عدي. (1)
__________
(1) الحديث : 7280 - عدي بن عدي بن عميرة الكندي : تابعي ثقة معروف ، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 44 : " سيد أهل الجزيرة " . وهو يروي عن أبيه ، ولكنه روى عنه هنا بواسطة عمه العرس بن عميرة ورجاء بن حيوة.
رجاء بن حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة : تابعي ثقة كثير العلم والحديث. وهو من رهط امرئ القيس بن عابس الكندي صاحب هذه الحادثة. جدهما الأعلى : " امرؤ القيس ابن عمرو بن معاوية الأكرمين الكندي " .
العرس - بضم العين المهملة وسكون الراء وآخره سين مهملة : هو ابن عميرة الكندي ، وهو صحابي ، جزم البخاري بصحبته ، وروى له حديثًا في الكبير 4 / 1 / 87. وهو أخو عدي بن عميرة ، وعم عدي ابن عدي.
عدي بن عميرة بن فروة الكندي : صحابي معروف ، يكنى " أبا زرارة " ، له أحاديث في صحيح مسلم ، كما قال الحافظ في الإصابة.
و " عميرة " : بفتح العين وكسر الميم ، كما نص عليه في المشتبه للذهبي وغيره. وضبط في طبقات ابن سعد 6 : 36 بضمة فوق العين. وهو خطأ صرف ، فإن اسم " عميرة " بالضم - من أسماء النساء. وضبط في الطبقات على الصواب في ترجمة أخرى لعدي 7 / 2 / 176.
ووقع في المخطوطة هنا " عدي بن عمير " و " العرس بن عمير " - بدون هاء في آخره فيهما. وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 191 - 192 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد ، عن جرير ابن حازم ، بهذا الإسناد ، نحوه.
ثم رواه ، ص : 192 ، عن يزيد ، وهو ابن هارون ، " حدثنا جرير بن حازم " ، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظ الحديث كله. ووقع في نسخة المسند المطبوعة في هذا الموضع سقط قول أحمد : " حدثنا يزيد " ، وهو خطأ واضح. وثبت على الصواب في مخطوطة المسند المرموز لها بحرف " م " .
وذكره ابن كثير 2 : 172 ، من رواية المسند الأولى ، ثم قال : " ورواه النسائي ، من حديث عدي بن عدي ، به " ، وهو يريد بذلك السنن الكبرى ، فإنه ليس في السنن الصغرى.
ولذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 178 ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الكبير ، ورجالهما ثقات " .
وهو في الدر المنثور 2 : 44 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، وابن عساكر.

(6/530)


7281 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال آخرون : إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل ، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أقم بينتك. قال الرجل : ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث! قال : فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ، فنكلَ الأشعَث وقال : إني أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه ، وزاده من أرض نفسه زيادةً كثيرةً ، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه ، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. (1)
__________
(1) الحديث : 7281 - هذا حديث مرسل ، لم يذكر ابن جريج من حدثه به. فهو ضعيف الإسناد.
وقول ابن جريج " قال آخرون " - هو ثابت في المخطوطة والمطبوعة. ولم يذكره السيوطي ، فلعله اختصره.
ومعناه أن ابن جريج كان يتحدث في شأن نزول الآية ، والظاهر أنه تحدث بخبر قبل هذا ، ثم قال : " وقال آخرون " - فذكر هذا الحديث. ولعله ذكر الآية الماضية : 7279 - ، أو الآتية : 7282 ، أو نحو ذلك ، ثم أتى بروايته هذه المرسلة.
وهي ضعيفة الإسناد كما قلنا لإرسالها. ثم هي ضعيفة لما فيها من منافاة لتينك الروايتين الصحيحتين :
أن الخصومة كانت بين الأشعث ورجل يهودي ، وأن اليهودي كان المدعى عليه الذي عليه اليمين ، وأن الأشعث قال : " إذن يحلف " . فهي ضعيفة الإسناد ، ضعيفة السياق.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي 2 : 44 ، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله : " فقام الأشعث ليحلف " - هذا هو الثابت في المطبوعة ، وهو الصواب إن شاء الله. وفي المخطوطة : " فحلف " ، وهو خطأ ، يدل على غلطه قوله بعد " فنكل " . والنكول إنما يكون عند عرض اليمين أو الهم بالحلف. أما بعد الحلف فلا يكون نكول ، بل رجوع إلى الحق ، أو إقرار به ، ولا يسمى نكولا. وفي الدر المنثور : " فقال الأشعث : نحلف " - والظاهر أنه تصحيف.

(6/531)


7282 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ ، لقي الله وهو عليه غضبان ، ثم أنزل الله تصديق ذلك : " إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه بما قال ، فقال : صَدَق ، لفيَّ أنزلت! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " شاهداك أو يمينه. فقلت : إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ ، لقي الله وهو عليه غضبان " ، ثم أنزل الله عز وجل تصديقَ ذلك : " إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " ، الآية. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 7282 - جرير : هو ابن عبد الحميد الضبي. ومنصور : هو ابن المعتمر. وشقيق : هو أبو وائل.
وهذا الحديث هو الحديث السابق : 7279 ، بنحوه. ذاك من رواية الأعمش عن أبي وائل ، وهذا من رواية منصور عن أبي وائل. وقد بينا تخريجه هناك.
ونذكر هنا أن من روايات البخاري إياه ، روايته في 5 : 207 (فتح) ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن جرير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 1 : 50 ، عن إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - عن جرير ، به ، ولم يذكر لفظه.
ورواه أحمد في المسند 5 : 211 (حلبي) ، عن زياد البكائي عن منصور.
ورواه البخاري 11 : 473 ، من طريق شعبة ، عن سليمان - وهو الأعمش - ومنصور ، كلاهما عن أبي وائل.
ورواه أيضًا 13 : 156 ، من طريق سفيان ، وهو الثوري عن منصور.

(6/532)


وقال آخرون بما : -
7283 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال ، أخبرني داود بن أبي هند ، عن عامر : أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار ، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه ، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا ، ولولا المساء ما باعها به ، فأنزل الله عز وجل : " إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " .
7284 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن رجل ، عن مجاهد نحوه.
7285 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا) الآية ، إلى : " ولهم عذاب أليم " ، أنزلهم الله بمنزلة السَّحَرة.
7286 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن عمران بن حصين كان يقول : من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه ، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل : شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال لهم : إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية : " إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " الآية. (1)
7287 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن هشام قال ، قال محمد ، عن عمران بن حصين : من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " . (2)
__________
(1) الحديث : 7286 - هذا إسناد مرسل ، قتادة - وهو ابن دعامة - : لم يدرك عمران ابن حصين ، مات عمران سنة 52 ، وولد قتادة سنة 61.
وسيأتي الحديث عقب هذا بإسناد آخر متصل.
(2) الحديث : 7287 - موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، وحسين بن علي الجعفي : ترجمنا لهما فيما مضى : 174.
زائدة : هو ابن قدامة الثقفي ، مضى في : 4897.
هشام : هو ابن حسان.
محمد : هو ابن سيرين. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة : " قال محمد بن عمران بن حصين " ! وهو خطأ صرف ، حرفت كلمة " عن " إلى " بن " . والصواب ما أثبتنا : " محمد ، عن عمران بن حصين " . وهكذا مخرج الحديث ، كما سيأتي.
وهذا الحديث ظاهره هنا أنه موقوف. ولكنه في الحقيقة مرفوع ، حتى لو كان موقوفًا لفظًا ، فإنه - على اليقين - مرفوع حكمًا ، لأن الوعيد الذي فيه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس ، ولا مما يدرك بالاستنباط من القرآن. ثم قد ثبت رفعه صريحًا ، من هذا الوجه :
فرواه أحمد في المسند 4 : 436 ، 441 ، عن يزيد ، وهو ابن هارون : " أخبرنا هشام ، عن محمد ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدًا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار " . ولم يذكر فيه الاستشهاد بالآية.
وكذلك رواه أبو داود : 3242 ، عن محمد بن الصباح البزاز ، عن يزيد بن هارون به ، نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 4 : 294 ، من طريق يزيد بن هارون ، به. وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3 : 47 ، من رواية أبي داود والحاكم.
وذكره السيوطي 2 : 46 ، بنحو رواية الطبري هنا : موقوفًا لفظًا مع الاستشهاد بالآية - ونسبه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، وابن جرير ، والحاكم ، مع اختلاف السياق بين الروايتين ، كما هو ظاهر. وذلك منه دلالة على أنه لا فرق بين رفعه ووقفه لفظًا ، إذ كان مرفوعًا حكمًا ولا بد.
" اليمين المصبورة " و " يمين الصبر " - قال القاضي عياض في المشارق 2 : 38 " من الحبس والقهر " ، بمعنى " إلزامها والإجبار عليها " .
وقال الخطابي في معالم السنن ، رقم : 3115 من تهذيب السنن : " اليمين المصبورة ، هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم ، فيصبر من أجلها ، أي يحبس. وهي يمين الصبر ، وأصل الصبر : الحبس. ومن هذا قولهم : قتل فلان صبرًا ، أي حبسًا على القتل وقهرًا عليه " .

(6/533)


7288 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : إن اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا " إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا " .
7289 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن عبد الله بن مسعود كان يقول : كنا نَرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر : يمين الصَّبر ، إذا فجر فيها صاحبها. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 7289 - هذا إسناد مرسل. فإن قتادة لم يدرك ابن مسعود. ولد بعد موته بنحو 29 سنة.
والحديث لم أجده إلا عند السيوطي 2 : 46 ونسبه لابن جرير فقط.

(6/534)


وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

القول في تأويل قوله : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإنّ من أهل الكتاب وهم اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ، من بني إسرائيل.
* * *
و " الهاء والميم " في قوله : " منهم " ، عائدة على " أهل الكتاب " الذين ذكرهم في قوله : " ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك " .
وقوله " لفريقًا " ، يعني : جماعة (1) " يلوون " ، يعني : يحرِّفون " ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب " ، يعني : لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. (2) يقول الله عز وجل : وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله ، (3) ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله " من عند الله " ، يقول : مما أنزله الله على أنبيائه " وما هو من عند الله " ، يقول : وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه ، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه ، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله.
يقول عز وجل : " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " ، يعني بذلك : أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله ، والشهادة عليه بالباطل ، والإلحاقَ بكتاب
__________
(1) انظر تفسير " فريق " فيما سلف 2 : 244 ، 245 ، ثم 402 / 3 : 549.
(2) في المطبوعة " لكلامهم " باللام ، ولم يحسن قراءة المخطوطة.
(3) قوله : " وما ذلك. . . من كتاب الله " : ليس ذلك. . . من كتاب الله ، هذا هو السياق.

(6/535)


الله ما ليس منه ، طلبًا للرياسة والخسيس من حُطام الدنيا.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى " يلوون ألسنتهم بالكتاب " ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
7290 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب " ، قال : يحرفونه.
7291 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7292 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب " ، حتى بلغ : " وهم يعلمون " ، هم أعداء الله اليهود ، حرَّفوا كتابَ الله ، وابتدعوا فيه ، وزعموا أنه من عند الله.
7293 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7294 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب " ، وهم اليهود ، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل اللهُ.
7295 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب " ، قال : فريقٌ من أهل الكتاب " يلوون ألسنتهم " ، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه.
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " الليّ " ، الفَتْل والقلب. من قول القائل : " لوَى

(6/536)


فلانٌ يدَ فلان " ، إذا فَتلها وقَلبها ، ومنه قول الشاعر : (1)
لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ (2)
يقال منه : " لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا " " وما لوى ظهر فلان أحد " ، إذا لم يصرعه أحدٌ ، ولم يَفتل ظهره إنسان " وإنه لألوَى بعيدُ المستمر " ، إذا كان شديد الخصومة ، صابرًا عليها ، لا يُغلب فيها ، قال الشاعر : (3)
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ... لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا (4)
* * *
__________
(1) هو فرعان بن الأعرف السعدي التميمي ، ويقال : فرعان بن أصبح بن الأعرف.
(2) كتاب العققة لأبي عبيدة (نوادر المخطوطات : 7) ص : 360 ، الحماسة 3 : 10 ، معجم الشعراء : 317 ، العيني بهامش الخزانة 2 : 398 ، واللسان (لوى) وسيأتي بتمامه في التفسير 15 : 160 (بولاق) ، وغيرها ، أبيات يقولها فرعان بن الأعرف في ابنه منازل ، وكان عق أباه وضربه ، لأنه تزوج على أمه امرأة شابة ، فغضب لأمه ، ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه ، فقال فيه : جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وَبَيْنَ مُنَازِلٍ ... جَزَاءً ، كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طالِبُهْ
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أنْ يَكُونَ منازلٌ ... عَدُوّي ، وَأَدْنَى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ
حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي ، وفَدَّيْتُ صَاحِبي ... صَغِيرًا ، إلَى أَنْ أَمْكَنَ الطَّرَّ شَارِبُهْ
وَأَطْعَمْتُه ، حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا ... يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
تَخَوّنَ مالِي ظَالِمًا ، وَلَوَى يَدِي! ... لَوَى يَدَه اللهُ الَّذِي هُو غَالِبُهْ
من أبيات كثيرة ، فيقال : إن منازلا ، أصبح وقد لوى الله يده. ثم ابتلاه الله بابن آخر عقه كما عق أباه ، واستاق ماله ، فقال فيه : تَظَلَّمَنِي مَالِي خَليجٌ وعَقَّنِي ... عَلَى حِينَ كَانَتْ كالحَنيِّ عظامي
في أبيات. وقد أتم البيت أبو جعفر في التفسير بعد ، وصدره هناك : " تظلمني مالي كذا ، ولوى يدي " . وهي إحدى الروايات فيه.
(3) هو مجنون بني عامر.
(4) ليس في ديوانه ، وهو في الأغاني 2 : 38 ، مع أبيات ، واللسان (شدا) ، (شذا) ، (لوى) ، وغيرها ، وقبله : يَقُولُ أُنَاسٌ : عَلَّ مَجْنُونَ عَامِرٍ ... يَرُومُ سُلُوًّا! قُلْتُ : إِنِّي لِمَا بِيَا
وَقَدْ لاَمَنِي في حُبِّ لَيْلَى أَقَارِبِي ... أَخِي ، وَابْنُ عَمِّي ، وَابنُ خَالِي ، وَخَالِيَا
يَقُولُونَ : لَيْلَى أَهْلُ بَيْتِ عَدَاوة!! ... بِنَفْسِي لَيْلَى من عَدُوٍّ ومَالِيَا
ورواية اللسان وغيره : " أعناق المطى " ، ورواية صاحب الأغاني " أعناق الخصوم " كما رواها أبو جعفر ، ولكن من سوء صنيع ناشري الأغاني أنهم خالفوا أصول الأغاني جميعًا ، لرواية أخرى ، مع صحة الرواية التي طرحوها ، وهي رواية أبي جعفر وأبي الفرج ، وقوله : " شدًا من خصومة " ، ويروى " شذًا من خصومة " . والشذا : حد كل شيء. ومن معانيه أيضًا طرف من الشيء ، أو بقية منه. و " الملاوي " جمع " ملوى " مصدر ميمي من " لوى " . يقول : لو خاصموني في ليلى خصومة حديدة ، لفتلت أعناقهم حتى أذهب بأرواحهم. وأما رواية " المطى " مكان " الخصوم " ، وهي رواية ابن الأعرابي ، فكأنه يقول : لو علمت في ليلى بعض ما يقولون من الخصومة والعداوة لأهلي وعشيرتي ، لأعرضت عنها إعراض من يأنف لعشيرته ويحمى لها غضبًا وحفيظة ، ولفارقتها.

(6/537)


مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما ينبغي لأحد من البشر.
* * *
و " البشر " جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل : " القوم " و " الخلق " . وقد يكون اسمًا لواحد " أن يؤتيه الله الكتاب " يقول : أن ينزل الله عليه كتابه " والحكم " يعني : ويعلمه فصْل الحكمة " والنبوة " ، يقول : ويعطيه النبوّة " ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله " ، يعني : ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. ولكن إذا آتاه الله ذلك ، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله ، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه ، وأئمةً في طاعته وعبادته ، بكونهم معلِّمي الناس الكتاب ، وبكونهم دَارِسيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " آتي " و " الحكم " ، و " النبوة " فيما سلف من فهارس اللغة مادة (أتى) (حكم) (نبأ).

(6/538)


وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أتدعونا إلى عبادتك ؟ كما : -
7296 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي (1) حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك ، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس : (2) أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعونا! أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله ، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : (3) " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة " ، الآية إلى قوله : " بعد إذ أنتم مسلمون " .
7297 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي ، فذكر نحوه. (4)
7298 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا
__________
(1) أبو رافع القرظي ، هو سلام بن أبي الحقيق اليهودي.
(2) في المطبوعة : " الرئيس " ، وفي المخطوطة : " الريس " غير منقوطة ، وهو في سيرة ابن هشام المطبوعة الأوربية والمصرية : " الربيس " مثل " سكيت " (بكسر الراء وتشديد الباء المكسورة). وربيس السامرة : هو كبيرهم. وفي التعليقات على سيرة ابن هشام. الطبعة الأوروبية " الريس ، والرئيس " معًا ، وكأن الصواب هو ما جاء في نص ابن هشام الأول.
(3) في سيرة ابن هشام : " من قولهما " ، وهي أجود ، ولعل هذه من قلم الناسخ.
(4) الأثران : 7296 ، 7297 - سيرة ابن هشام 2 : 202 ، 203 ، وهما من تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7223 ، وفي الطبري اختلاف في قليل من اللفظ.

(6/539)


عبادًا لي من دون الله " ، يقول : ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوةَ ، يأمر عبادَه أن يتخذوه ربًّا من دون الله.
7299 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
7300 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم ، بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه ، فقال الله عز وجل : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله " ، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " ولكن " يقول لهم : " كونوا ربانيين " ، فترك " القول " ، استغناء بدلالة الكلام عليه.
* * *
وأما قوله : " كونوا ربانيين " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : كونوا حكماء علماء.
ذكر من قال ذلك :
7301 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : " كونوا ربانيين " ، قال : حكماء علماء.
7302 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : " كونوا ربانيين " ، قال : حكماء علماء.

(6/540)


7303 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله.
7304 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين : " ولكن كونوا ربانيين " ، حكماء علماء.
7305 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : كونوا فقهاء علماء.
7306 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : فقهاء.
7307 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7308 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال أخبرني القاسم ، عن مجاهد قوله : " ولكن كونوا ربانيين " ، قال : فقهاء.
7309 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولكن كونوا ربانيين " ، قال : كونوا فقهاء علماء.
7310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي رزين في قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : علماء حكماء قال معمر : قال قتادة.
7311 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " كونوا ربانيين " ، أما " الربانيون " ، فالحكماء الفقهاء.
7312 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا سفيان ، عن

(6/541)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " الربانيون " ، الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار.
7313 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولكن كونوا ربانيين " ، يقول : كونوا حكماء فقهاء.
7314 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن يحيى بن عقيل في قوله : ( الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ ) [سورة المائدة : 63] ، قال : الفقهاء العلماء.
7315 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مثله.
7316 - حدثني ابن سنان القزاز قال ، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال ، حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : كونوا حكماء فقهاء.
7317 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " كونوا ربانيين " ، يقول : كونوا فقهاء علماء.
* * *
وقال آخرون : بل هم الحكماء الأتقياء.
ذكر من قال ذلك :
7318 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : حكماء أتقياء.
* * *

(6/542)


وقال آخرون : بل هم ولاة الناس وقادتهم.
ذكر من قال ذلك :
7319 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " كونوا ربانيين " ، قال : الربانيون : الذين يربُّون الناس ، ولاة هذا الأمر ، يرُبُّونهم : يلونهم. وقرأ : ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ ) [سورة المائدة : 63] ، قال : الربانيون : الولاة ، والأحبار العلماء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في " الربانيين " أنهم جمع " رباني " ، وأن " الرباني " المنسوب إلى " الرَّبَّان " ، الذي يربُّ الناسَ ، وهو الذي يُصْلح أمورهم ، و " يربّها " ، ويقوم بها ، ومنه قول علقمة بن عبدة :
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني ، فَضِعْتُ ، رُبُوبُ (1)
يعني بقوله : " ربتني " : ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه ، فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه : " رَبَّ أمري فلان ، فهو يُربُّه رَبًّا ، وهو رَابُّه " . (2) فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل : " هو ربّان " ، كما يقال : " هو نعسان " من قولهم : " نعَس يَنعُس " . وأكثر ما يجيء من الأسماء على " فَعْلان " ما كان من الأفعال ماضيه على " فَعِل " مثل قولهم : " هو سكران ، وعطشان ، وريان " من " سَكِر يسكَر ، وعطِش يعطَش ، ورَوي يرْوَى " . وقد يجيء مما كان ماضيه على " فَعَل يَفعُل " ، نحو ما قلنا من " نَعَس يَنعُس " و " ربَّ يَرُبّ " .
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان " الربَّان " ما ذكرنا ،
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه في 1 : 142.
(2) انظر تفسير " رب " فيما سلف 1 : 141 ، 142.

(6/543)


و " الربّاني " هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين ، يَرُبّ أمورَ الناس ، بتعليمه إياهم الخيرَ ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله ، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق ، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم ، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم ، ودنياهم كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل : " ولكن كونوا ربانيين " . (1)
ف " الربانيون " إذًا ، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد : " وهم فوق الأحبار " ، لأن " الأحبارَ " هم العلماء ، و " الرباني " الجامعُ إلى العلم والفقه ، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين : ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) بفتح " التاء " وتخفيف " اللام " ، يعني : بعلمكم الكتابَ ودراستكم إياه وقراءتكم.
__________
(1) في المطبوعة : " كانوا جميعًا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله... " ، وهي عبارة سقيمة غير المخطوطة كما شاء. وفي المخطوطة : " كانوا جميعًا مستحقون أن ممن دخل في قوله... " ، وظاهر أن الناسخ جعل " يستحقون " ، " مستحقون " ، وهو خطأ في الإعراب ، وسقط من عجلته قوله : " يكونوا " ، فزدتها بين القوسين ، فاستقام الكلام.
(2) هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة ، وهو من أجود ما قرأت في معنى " الرباني " ، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية ، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه.

(6/544)


واعتلُّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك ، بأن الصواب كذلك ، لو كان التشديد في " اللام " وضم " التاء " لكان الصواب في : " تدرسون " ، بضم " التاء " وتشديد " الراء " . (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ) بضم " التاء " من " تعلمون " ، وتشديد " اللام " ، بمعنى : بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه.
واعتلوا لاختيارهم ذلك ، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم ، فقد وصفهم بالعلم ، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا : ولا موصوف بأنه " يعلم " ، إلا وهو موصوف بأنه " عالم " . قالوا : فأما الموصوف بأنه " عالم " ، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا : فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم ، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ ، كما : -
7320 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أنه قرأ : " بما كنتم تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون " ، مخففةً بنصب " التاء " وقال ابن عيينة : ما علَّموه حتى علِموه!
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأه بضم " التاء " وتشديد " اللام " . لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم ، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية.
يقول جل ثناؤه : " ولكن كونوا ربانيين " ، على ما بينا قبل من معنى " الرباني " ،
__________
(1) في المطبوعة : " بأن الصواب لو كان التشديد في اللام... " ، حذف من المخطوطة " كذلك " بعد " بأن الصواب " ، وظاهر أن موضع الخطأ هو سقوط " الواو " قبل قوله : " لو كان التشديد " . فأثبتها ، واستقام الكلام.

(6/545)


ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتابَ ربِّهم.
* * *
و " دراستهم " إياه : تلاوته. (1)
* * *
وقد قيل : " دراستهم " ، الفقه.
* * *
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا : من تلاوة الكتاب ، لأنه عطف على قوله : " تعلمون الكتاب " ، " والكتاب " هو القرآن ، فلأنْ تكون الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن ، أولى من أن تكون معنيًّا بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ.
ذكر من قال ذلك : (2)
7321 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، قال يحيى بن آدم قال ، أبو زكريا : كان عاصم يقرأها : ( بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ) ، قال : القرآن ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) ، قال : الفقه.
* * *
فمعنى الآية : ولكن يقول لهم : كونوا ، أيها الناس ، سادة الناس ، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم ، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام ، وفرض وندب ، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم ، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ودراستهم إياه وتلاوته " ، بزيادة الواو قبل " تلاوته " والسياق بين في أنه يفسر معنى " الدراسة " ، وأنهما تأويلان ، كما سيأتي ، فحذفت الواو ، وفصلت بين الكلامين.
(2) أنا أرتاب في سياق هذا الموضع من التفسير ، وأخشى أن يكون سقط من النساخ شيء.

(6/546)


وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

القول في تأويل قوله : { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " ولا يأمركم " .
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة : ( وَلا يَأْمُرُكُمْ ) ، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمركم ، أيها الناس ، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها ، وهي : ( " وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ " ) ، فاستدلوا بدخول " لن " ، على انقطاع الكلام عما قبله ، وابتداء خبر مستأنف. قالوا : فلما صير مكان " لن " في قراءتنا " لا " ، وجبت قراءَته بالرفع. (1)
* * *
وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : ( وَلا يَأْمُرَكُمْ ) ، بنصب " الراء " ، عطفًا على قوله : " ثم يقولَ للناس " . وكان تأويله عندهم : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ، ثم يقولَ للناس ، ولا أن يأمرَكم بمعنى : ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك : " ولا يأمرَكم " ، بالنصب على الاتصال بالذي قبله ، بتأويل : (2) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول
__________
(1) هذا وجه ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 224 ، 225.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " بتأول " ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(6/547)


الله صلى الله عليه وسلم : (1) " أتريد أن نعبدك " ؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه ، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا. ولكن الذي له : أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين.
* * *
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا ، (2) أنه في قراءة عبد الله : " ولن يأمركم " استشهادًا لصحة قراءته بالرفع ، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده ، وإنما هو خبر رواه حجاج ، عن هارون الأعور (3) أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده ، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة ، (4) بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في سب القوم.. " ، وهو باطل المعنى ، ولم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، يعني بقوله : " في سب القوم... " ، من جراء القوم وبسبب قولهم ما قالوا.
(2) يعني الفراء كما أسلفنا في التعليق رقم : 1 ، ص : 547.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " . . . عن هارون لا يجوز أن ذلك... " ، وهو كلام بلا معنى ، جعل الناشرين الأولين للتفسير يكتبون في وجوه تأويلها وتصويبها خلطًا لا معنى له أيضًا ، والصواب ما أثبت. وهذا من التصحيف الغريب في نسخ النساخ.
وحجاج ، هو : " حجاج بن محمد المصيصي الأعور " سكن بغداد ، ثم تحول إلى المصيصة قال أحمد : " ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف " ورفع أمره جدًا. كان ثقة صدوقًا ، ثم تحول من المصيصة فعاد إلى بغداد في حاجة له ، فمات بها سنة 206 ، وعند مرجعه هذا إلى بغداد كان قد تغير وخلط ، فرآه يحيى بن معين ، فقال لابنه : " لا تدخل عليه أحدًا " ، ولكن روى الحافظ في ترجمة سنيد ابن داود ما يدل على أن حجاجًا قد حدث في حال اختلاطه ، حتى ذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء ، لسبب الاختلاط. وأخشى أن يكون الطبري ، إنما أشار إلى هذا ، وإلى رواية سنيد عنه في حال اختلاطه ، فقال إن إسناده غير صحيح ، لأنه من رواية سنيد عنه.
وأما " هارون الأعور " فهو : " هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور العتكي " علامة صدوق نبيل ، له قراءة معروفة. وهو من الثقات. وكلاهما مترجم في التهذيب ، وفي الطبقات القراء لابن الجزري.
(4) في المطبوعة : " لتأويل نحو قراءة... " ، وهي عبارة مريضة ، وسبب ذلك أنه لم يحسن قراءة " على " لسوء حظ الناسخ ، فكتبها " نحو " ، فمرضت العبارة.

(6/548)


قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : وما كان للنبي أن يأمركم ، أيها الناس ، (1) " أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا " يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله ، كما ليس له أن يقول لهم : كونوا عبادًا لي من دون الله.
* * *
ثم قال جل ثناؤه نافيًا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ عباده بذلك : " أيأمُركم بالكفر " ، أيها الناس ، نبيُّكم ، بجحود وحدانية الله " بعد إذ أنتم مسلمون " ، يعني : بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة ، متذللون له بالعبودة (2) أي أن ذلك غير كائن منه أبدًا. وقد : -
7322 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : " ولا يأمركم " النبيُّ صلى الله عليه وسلم " أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا " .
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا... " ، وهي عبارة مستقيمة المعنى ، أما المخطوطة فقد كانت فيها عجيبة من عجائب التصحيف - وقد كثر تصحيف الناسخ في هذا الموضع كما ترى وذلك أنه كتب : " وما كان للنبي أن يأمر كما نهى الناس " ، وصل ألف " أيها " بالميم في " يأمركم " ، ثم قرأ " يها " من " أيها " ، " نهى " ، وكتبها كذلك. وكأن الناسخ كان قد تعب وكل ، فكل مع كلالة ذهنه. وجاء الناشر ، فلم يجد لذلك معنى فحذفه. كل هو أيضًا من كثرة تصحيف الناسخ!!
(2) في المطبوعة : " بالعبودية " ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولم يدع الناشر كلمة " العبودة " إلا جعلها " العبودية " في كل ما سلف. انظر آخر تعليق على ذلك ص : 404 ، تعليق : 2.

(6/549)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واذكروا ، يا أهل الكتاب ، " إذ أخذ الله ميثاق النبيين " ، يعني : حين أخذ الله ميثاق النبيين " وميثاقهم " ، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم.
* * *
وقد بينا أصل " الميثاق " باختلاف أهل التأويل فيه ، بما فيه الكفاية. (1)
* * *
: " لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، (2) فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق( لَمَا آتَيْتُكُمْ ) بفتح " اللام " من " لما " ، إلا أنهم اختلفوا في قراءة : " آتيتكم " .
فقرأه بعضهم : " آتيتكم " على التوحيد.
وقرأه آخرون : (آتينَاكم) على الجمع.
* * *
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة : " اللام " التي مع " ما " في أول الكلام " لام الابتداء " ، نحو قول القائل : " لزيدٌ أفضل منك " ، لأن " ما " اسم ، والذي بعدها صلة لها ، (3) " واللام " التي في : " لتؤمنن به ولتنصرنه " ، لام القسم ، كأنه قال : والله لتؤمنن به يؤكد في أول الكلام وفي آخره ، كما يقال : " أما والله أن لو جئتني
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 414 / 2 : 156 ، 157 ، 288.
(2) في المطبوعة : " اختلفت " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة : " لأن لما اسم... " ، وهو جيدًا أيضًا وتركت ما في المطبوعة على حاله.

(6/550)


لكان كذا وكذا " ، وقد يستغنى عنها. فوكَّد في : " لتؤمنن به " ، باللام في آخر الكلام. (1) وقد يستغنى عنها ، ويجعل خبر " ما آتيتكم من كتاب وحكمة " " لتؤمنن به " . مثل : " لعبد الله والله لتأتينَّه " . (2) قال : وإن شئت جعلت خبر " ما " " من كتاب " ، يريد : لما آتيتكم ، كتابٌ وحكمة وتكون " من " زائدة.
* * *
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال : " اللام " التي تدخل في أوائل الجزاء ، تجابُ بجوابات الأيمان ، يقال : " لَمَن قام لآتينّه " ، " ولَمَن قام ما أحسن " ، (3) فإذا وقع في جوابها " ما " و " لا " ، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى ، لأنه يوضع موضعها " ما " و " لا " ، فتكون كالأولى ، (4) وهي جواب للأولى. قال : وأما قوله : " لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، بمعنى إسقاط " من " ، غلطٌ. لأن " منْ " التي تدخل وتخرج ، لا تقع مواقع الأسماء ، قال : ولا تقع في الخبر أيضًا ، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. (5)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح " اللام " - بالصواب : أن يكون قوله : " لما " بمعنى " لمهما " ، وأن تكون " ما " حرف جزاء أدخلت عليها " اللام " ، وصيِّر الفعل معها على " فَعَل " ، (6) ثم
__________
(1) في المطبوعة : " فيؤكد في لتومنن به " ، والصواب ما في المخطوطة. و " وكد " و " أكد " واحد.
(2) في المطبوعة : " لا يأتينه " ، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا " ، فلا يقال : لمن قام لا تتبعه ، ولا : لمن قام ما أحسن " ، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام اضطرابًا شديدًا ، واختلفت معانيه.
(4) يعني " ما " و " لا " التي يتلقى بها القسم.
(5) انظر ذلك فيما سلف 2 : 126 ، 127 ، 442 ، 470.
(6) قوله : " على فعل " ، يعني على الفعل الماضي ، لا المضارع.

(6/551)


أجيبت بما تجاب به الأيمان ، فصارت " اللام " الأولى يمينًا ، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( لِمَا آتَيْتكُمْ ) " بكسر " اللام " من " لما " ، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
* * *
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم : معناه إذا قرئ كذلك : وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم فـ " ما " على هذه القراءة. بمعنى " الذي " عندهم. وكان تأويل الكلام : وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم " جاءكم رسول " ، يعني : ثم إنْ جاءكم رسول ، يعني : ذكر محمد في التوراة " لتؤمنن به " ، أي : ليكونن إيمانكم به ، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم : تأويل ذلك إذا قرئ بكسر " اللام " من " لما " : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين ، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله : " لتؤمنن به " من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام : " أخذتُ ميثاقك لتفعلن " . لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول : وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة ، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم ، ليؤمننّ به ولينصرنه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم " ، بفتح " اللام " . لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم ، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله ، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك

(6/552)


كذلك ، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه الكتابَ ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك : " لمِا آتيتكم " ، بكسر " اللام " ، بمعنى : من أجل الذي آتيتكم من كتاب ، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد ، وانتزاع عميق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم : إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله : " لتؤمنن به ولتنصرنه " . قالوا : فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل ، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد ، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي ، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا : وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة ، فمن الذي ينصر النبي ، فيؤخذ ميثاقه بنصرته ؟
ذكر من قال ذلك :
7323 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، قال : هي خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود : " وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " . (1)
__________
(1) بمثل هذا الأثر ، يستدل من يستدل من جهلة المستشرقين وأشياعهم ، على الخطأ والتحريف في كتاب الله المحفوظ. وهم لم يكونوا أول من قال به ، بل سبقهم إليه أسلافهم من غلاة الرافضة وأشباههم من الملحدة. ولم يقصر علماء أهل الإسلام في بيان ما قالوه ، وفي تعقب آرائهم وبيان فسادها ، ووهن حجتها. ومن أعظم ما قرأت في ذلك ، كتاب " الانتصار لنقل القرآن " ، للقاضي الباقلاني ، وهو كتاب مخطوط لا يزال ، وهي في ملك أخي السيد أحمد صقر ، وهو أمين على نشره. وقد عقد القاضي بابًا ، بل أبوابًا ، في تعلق القائلين بذلك ، بالشواذ من القراءات ، والزيادات المروية عن السلف رواية الآحاد ، وكشف عن فساد تعلقهم بذلك فيما راموه من الطعن في نقل المصحف. وقد أطال في ذلك واستوعب ، وذكرها مفصلة ، وذكر الروايات التي رويت في ذلك. ومما قال في باب منه : " وأما نحن ، وإن كنا نوثق جميع من ذكرنا من السلف وأتباعهم ، فإنا لا نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم ، بل نعتقد أن فيه كذبًا كثيرًا قد قامت الدلالة على أنه موضوع عليهم ، وأن فيه ما يمكن أن يكون حقًا عنهم ، وما يمكن أن يكون باطلا ، ولا يثبت عليهم من طريق العلم البتات ، بأخبار الآحاد. وإذا كان ذلك كذلك ، وكانت هذه القراءات والكلمات المروية عن جماعة منهم ، المخالفة لما في مصحفنا ، مما لا نعلم صحتها وثبوتها ، وكنا مع ذلك نعلم اجتماعهم على تسليم مصحف عثمان ، وقراءتهم وإقراءهم ما فيه ، والعمل به دون غيره لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الروايات عنهم ، لأجل ما ذكرنا " .
قلت : والقول الذي ذكره مجاهد ، أنه : " خطأ من الكاتب " ، إنما عنى به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة الأخيرة ، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة الأخيرة ، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة ، فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله : " خطأ من الكاتب " ، أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف ؟ والقرآن متلقى بالرواية والوراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بما هو مكتوب في الصحف!! هذا بيان قد تعجلته ، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن فيه.

(6/553)


7324 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7325 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " ، يقول : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وكذلك كان يقرؤها الربيع : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، إنما هي أهل الكتاب. (1) قال : وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع : ألا ترى أنه يقول : " ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ؟ يقول : لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه. قال : هم أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون : بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك ، الأنبياءُ دون أممها.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " إنما هي أهل الكتاب " ، ولها وجه ضعيف ، والصواب ما أثبت.

(6/554)


7326 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
7327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " ، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
7328 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم " الآية ، قال : أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء ، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
7329 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، أخبرنا سيف بن عُمر ، (1) عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب قال : لم يبعث الله عز وجل نبيًّا ، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد : لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه ، فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، الآية.
7330 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب " ، الآية : هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا ، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته ، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
__________
(1) في المطبوعة : " سيف بن عمرو " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة : " سيف بن عمر التميمي " صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه ، قال ابن عدي : " بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها " . وقال ابن حبان : " يروى الموضوعات عن الأثبات ، وقالوا : إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة " . وقال الحاكم : " اتهم بالزندقة ، وهو في الرواية ساقط " .

(6/555)


7331 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، الآية. قال : لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح ، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء.
7332 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور قال ، سألت الحسن عن قوله : " وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، الآية كلها ، قال : أخذ الله ميثاق النبيين : ليبلِّغن آخرُكم أولكم ، ولا تختلفوا.
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها ، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع ، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع ، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. (1)
ذكر من قال ذلك :
7333 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم - إذا جاءَهم ، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " إلى آخر الآية. (2)
7334 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد
__________
(1) في المطبوعة : " هم تباع الأنبياء " ، زاد " هم " بلا ضرورة. والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثران : 7333 ، 7334 - سيرة ابن هشام 2 : 203 ، وهما تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7296 ، 7297.

(6/556)


بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا ، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين ، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله ، بجحودها نبوّته مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته ، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
* * *
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين ، فسواءٌ قال قائل : " لم يأخذ ذلك منها ربها " أو قال : " لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت " ، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه ، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها : أحدهما أنه أخذ منها ، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما ، جازَ في الآخر.
* * *
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس ، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله : " لتؤمنن به ولتنصرنه " ، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض ، وتصديقُ بعضها بعضًا ، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
* * *
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " .
فقال بعضهم : الذين عنوا بذلك ، هم الأنبياء ، أخذت مواثيقهم أن يصدّق

(6/557)


بعضهم بعضًا وأن ينصروه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله. (1)
* * *
وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته ، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. (2)
* * *
وقال آخرون ممن قال : الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء قوله : " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم " ، معنيٌّ به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك :
7335 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " ، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا ، ثم قال : " ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " ، قال : فهذه الآية لأهل الكتاب ، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
7336 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال ، قال قتادة : أخذ الله على النبيين ميثاقهم : أن يصدق بعضهم بعضًا ، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده ، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم ، فيما بلَّغتهم رسلهم - : أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية : أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به ، وألزمهم دعاء أممها
__________
(1) انظر ما سلف من رقم : 7326 - 7332.
(2) انظر ما سلف من رقم : 7323 - 7325.

(6/558)


إليه ، (1) والإقرار به. لأن ابتداء الآية خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم ، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال : هو كذا وهو كذا.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك ، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به ، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها ، من تصديق رسل الله ، على ما قدمنا البيانَ قبل.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية : واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب ، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم ، أيها النبيون ، من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم ، لتؤمنن به يقول : لتصدقنه ولتنصرنه.
* * *
وقد قال السديّ في ذلك بما : -
7337 - حدثنا به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " لما آتيتكم " ، يقول لليهود : أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم.
* * *
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه : واذكروا ، يا معشر أهل الكتاب ، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم ، أيها اليهود ، من كتاب وحكمة. (2)
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ ، (3) لو كان التنزيل : " بما آتيتكم " ، ولكن التنزيل باللام " لما آتيتكم " . وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال : " أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم " ، بمعنى : بما آتيتكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " دعاء أممهم " ، وفي المخطوطة " أممها " كما أثبته ، والمخالفة بين الضمائر في هذا الموضع سياق صحيح ، فرددتها إلى أصل المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " لما آتيتكم " باللام ، والسياق دال على خلافه ، وعلى صواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة : " كان تأويلا لا وجه غيره " ، وهو تصويب لما جاء في المخطوطة : " كان تأويلا لا وجه له " ، وهي عبارة لا تستقيم. ورأيت أن الناسخ عجل فكتب " لا وجه له " مكان " له وجه " ، فرددتها إلى هذا ، وخالفت المطبوعة.

(6/559)


القول في تأويل قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر ، فقال لهم تعالى ذكره : أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه : (1) من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم " لتؤمنن به ولتنصرنه " " وأخذتم على ذلك إصري " ؟ يقول : وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم " إصري " . يعني عهدي ووصيتي ، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
* * *
و " الأخذ " : هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى ، من قولهم : " أخذ الوالي عليه البيعة " ، بمعنى : بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
* * *
وقد بينا معنى " الإصر " باختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وحذفت " الفاء " من قوله : " قال أأقررتم " ، لأنه ابتداء كلام ، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أقررتم... " بحذف ألف الاستفهام ، وهو فساد.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء : 6 : 135 - 138.
(3) انظر ما سلف 2 : 183.

(6/560)


وأما قوله : " قالوا أقررنا " ، فإنه يعني به : قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية : أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك ، وبنصرتهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قال الله : فاشهدوا ، أيها النبيون ، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة ، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك ، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك ، كما : -
7338 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، قال ، أخبرنا سيف بن عمر ، (1) عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب في قوله : " قال فاشهدوا " ، يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك " وأنا معكم من الشاهدين " ، عليكم وعليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا " سيف بن عمرو " ، مخالفًا لما في المخطوطة وهو الصواب. وقد سلف تصويب ذلك في الأثر رقم : 7329. وسيأتي خطأ فيما يلي ، في مواضع كثيرة ، سوف أصححه دون إشارة إليه.

(6/561)


فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

القول في تأويل قوله : { فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فمن أعرَض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة ، وعن نصرتهم ، فأدبر ولم يؤمن بذلك ، ولم ينصر ، ونكث عهدَه وميثاقه " بعد ذلك " ، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه " فأولئك هم الفاسقون " ، يعني بذلك : أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرَهم ، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذَا عليهم بذلك " هم الفاسقون " ، يعني بذلك : الخارجون من دين الله وطاعة ربهم ، (1)
كما : -
7339 - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي بن أبي طالب : فمن تولى عنك ، يا محمد ، بعد هذا العهد من جميع الأمم " فأولئك هم الفاسقون " ، هم العاصون في الكفر.
7340 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال أبو جعفر : يعني الرازي (2) " فمن تولى بعد ذلك " يقول : بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم " فأولئك هم الفاسقون " .
__________
(1) انظر تفسير " تولى " و " الفاسقون " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) و (فسق).
(2) قوله : " قال أبو جعفر " فيما بين الخطين ، هو أبو جعفر الطبري صاحب هذا التفسير. وقوله " يعني الرازي " ، يعني " أبا جعفر الرازي " الذي قال في الإسناد " حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه " . وبيان الطبري في هذا الموضع عن " أبي جعفر الرازي " بعد أن مضى مئات من المرات في هذا الإسناد وغيره من الأسانيد ، دليل على أن أبا جعفر الطبري ، قد كتب تفسيره هذا على فترات متباعدة أو لعل أحدًا سأله وهو يملي تفسيره ، فبين له ، وأثبته الذين سمعوه منه كما قاله في مجلسه ذاك. وقد مضى " ذكر أبي جعفر الرازي " في التعليق على الأثر رقم : 164.

(6/562)


أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

7341 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، [عن أبيه] ، عن الربيع مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهاتان الآيتان ، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به ، عن أنبيائه ورسله ، (2) فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم ، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (3) ومعنيٌّ [به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود ، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه وتعريفهم ما في كتب الله ، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم ، من صفته وعلامته.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة ، وقرأةُ الكوفة : ( " أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ " ) ، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) على وجه الخطاب.
* * *
__________
(1) الأثر : 7341 - هذا إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 7234 ، أسقط منه الناسخ " عن أبيه " ، فوضعتها بين القوسين في مكانها.
(2) السياق : وإن كان مخرج الخبر... عن أنبيائه ورسله ، فإن مقصود به...
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ومعنى تذكيرهم... " ، والصواب الراجح زيادة ما زدت بين القوسين. وسياق هذه الجملة وما بعدها : فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله... ومعنى به تذكيرهم... وتعريفهم ما في كتب الله... من صفته وعلامته " . فصلتها لتسهل قراءتها وتتبعها.

(6/563)


وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ )( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) بالياء كلتيهما ، على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ) ، على وجه الخبر عن الغائب ، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، بالتاء على وجه المخاطبة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ : " أفغير دين الله تبغون " على وجه الخطاب " وإليه تُرجعون " بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم ، فإتباعُ الخطاب نظيرَه ، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله ، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب ، وأحيانًا بعضُه على الخطاب ، وبعضُه على الغيبة ، فقوله : " تبغون " و " إليه ترجعون " في هذه الآية ، من ذلك. (1)
* * *
وتأويل الكلام : يا معشرَ أهل الكتاب " أفغيرَ دين الله تبغون " ، يقول : أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون ، (2) " وله أسلم من في السماوات والأرض " ، يقول : وله خَشع من في السموات والأرض ، فخضع له بالعبودة ، (3) وأقرّ له بإفراد الربوبية ، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية (4) " طوْعًا وكرهًا " ، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا ، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين ،
__________
(1) انظر ما سلف : 464 والتعليق رقم : 2 ، والمراجع هناك. وانظر فهرس مباحث العربية.
(2) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 1 : 115 ، 221 / 3 : 571 / ثم 6 : 273 ، 274 ثم معنى " يبغي " فيما سلف 3 : 508 / 4 : 163 / ثم 6 : 196 ، تعليق : 3.
(3) في المطبوعة : " العبودية " ، وأثبت ما في المخطوطة ، كما سلف مرارًا. انظر قريبًا : ص : 549 تعلق 2 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " أسلم " فيما سلف ص : 489 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(6/564)


فإنهم أسلموا لله طائعين " وكرهًا " ، من كان منهم كارهًا. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته.
فقال بعضهم : إسلامه ، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه ، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه.
ذكر من قال ذلك :
7342 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " وله أسلم من في السموات والأرض " ، قال : هو كقوله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [سورة الزمر : 38].
7343 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد مثله.
7344 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون " ، قال : كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا ، ومن أخلص له العبودة ، (2) فهو الذي أسلم طوعًا.
* * *
وقال آخرون : بل إسلام الكاره منهم ، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به.
ذكر من قال ذلك :
7345 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا " ، قال : حين أخذَ الميثاق.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكره " فيما سلف 4 : 297 ، 298.
(2) في المطبوعة : " العبودية " ، وانظر التعليق السالف رقم ص : 564 ، رقم : 3.

(6/565)


وقال آخرون ؛ عنى بإسلام الكاره منهم ، سُجودَ ظله.
ذكر من قال ذلك :
7346 - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا " ، قال : الطائع المؤمن و " كرهًا " ، ظلّ الكافر.
7347 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " طوعًا وكرهًا " ، قال : سجود المؤمن طائعًا ، وسجود الكافر وهو كاره.
7348 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كَرْهًا " ، قال : سجود المؤمن طائعًا ، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
7349 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : سجود وجهه طائعًا ، وظله كارهًا. (1)
* * *
وقال آخرون : بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله ، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه.
ذكر من قال ذلك :
7350 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : " وله أسلم من في السموات والأرض " ، قال : استقاد كلهم له. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " سجود وجهه وظله طائعًا " ، وهو لا يستقيم ، واستظهرت من أخبار مجاهد السالفة ، أن هذا هو حق المعنى ، وأنه أولى بالصواب.
(2) الأثر : 7350 - " جابر " هو : " جابر بن يزيد الجعفي " . روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري وإسرائيل وجماعة. و " عامر " ، هو الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " جابر بن عامر " ، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم.

(6/566)


وقال آخرون : عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرْهًا ، حَذَر السيف على نفسه.
ذكر من قال ذلك :
7351 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا " الآية كلها ، فقال : أكره أقوامٌ على الإسلام ، وجاء أقوامٌ طائعين.
7352 - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال ، حدثنا روح بن عطاء ، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون " ، قال : الملائكة طوعًا ، والأنصار طوعًا ، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا ، والناس كلهم كرهًا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك : أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا ، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة ، حينَ لا ينفعه إسلامٌ ، كرهًا.
ذكر من قال ذلك :
7353 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أفغير دين الله تبغون " ، الآية ، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك ، وقُبِل منه ، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك ، ولا يقبل منه.
7354 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا " ، قال : أما المؤمن فأسلم طائعًا ، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله ، ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) [سورة غافر : 85].
* * *

(6/567)


وقال آخرون : معنى ذلك : أيْ : عبادةُ الخلق لله عز وجل. (1)
ذكر من قال ذلك :
7355 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا " ، قال : عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا ، وهو قوله : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) [سورة الرعد : 15].
* * *
وأما قوله : " وإليه تُرجعون " ، فإنه يعني : " وإليه " ، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس " ترجعون " ، يقول : إليه تصيرون بعد مماتكم ، فمجازيكم بأعمالكم ، المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيءَ بإساءَته.
* * *
وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في عبادة الخلق " ، وفي المخطوطة " أن عبادة الخلق " ، وصوابه قراءتها ما أثبت.

(6/568)


قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

القول في تأويل قوله : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " أفغير دين الله تبغون " ، يا معشر اليهود ، " وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون " فإن ابتغوا غيرَ دين الله ، يا محمد ، فقل لهم : " آمنا بالله " ، فترك ذكر قوله : " فإن قالوا : نعم " ، أو ذكر قوله : (1) " فإن ابتغوا غير دين الله " ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
وقوله : " قل آمنا بالله " ، يعني به : قل لهم ، يا محمد ، : صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا ، لا إله غيره ، ولا نعبد أحدًا سواه " وما أنزل علينا " ، يقول : وقل : وصدَّقنا أيضًا بما أنزل علينا من وَحيه وتنزيله ، فأقررنا به " وما أنزل على إبراهيم " ، يقول : وصدقنا أيضًا بما أنزل على إبراهيم خليل الله ، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق ، وابن ابنه يعقوب وبما أنزل على " الأسباط " ، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر ، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) " وما أوتي موسى وعيسى " ، يقول : وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي ، وبما أنزل على النبيين من عنده.
والذي آتى الله موسى وعيسى مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه ، والإيمان به التوراة التي آتاها موسى ، والإنجيل الذي أتاه عيسى.
" لا نفرق بين أحد منهم " ، يقول : لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم ،
__________
(1) في المطبوعة : " وذكر قوله " ، جعل الواو مكان " أو " ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2 : 120 ، 121 / 3 : 111 - 113.

(6/569)


وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم ، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا ، ولكنا نؤمن بجميعهم ، ونصدّقهم " ونحن له مسلمون " . يعني : ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره ، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه ، ومن كل ملة غيره.
ويعني بقوله : " ونحن له مسلمون " . ونحن له منقادون بالطاعة ، متذللون بالعبودة ، (1) مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية ، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وكرهنا إعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به ، فلن يقبل الله منه (3) " وهو في الآخرة من الخاسرين " ، يقول : من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل. (4)
* * *
وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون ، لما نزلت هذه الآية ، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين ، لأن من سُنة الإسلام الحج ، فامتنعوا ، فأدحض الله بذلك حجتهم.
__________
(1) في المطبوعة : " بالعبودية " كما فعل في سابقتها ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر ما سلف قريبًا ص : 565 ، تعليق : 2.
(2) يعني ما سلف 3 : 109 - 111 ، وهي نظيرة هذه الآية ، وانظر فهارس اللغة " سلم " .
(3) انظر معنى " يبتغي " فيما سلف ص : 564 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الخاسرين " فيما سلف 1 : 417 / 2 : 166 ، 572.

(6/570)


ذكر الخبر بذلك :
7356 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال ، زعم عكرمة : " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا " ، فقالت الملل : نحن المسلمون! فأنزل الله عز وجل : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [سورة آل عمران : 97] ، فحجَّ المسلمون ، وقعدَ الكفار.
7357 - حدثني المثنى قال ، حدثنا القعنبي قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة قال : " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه " ، قالت اليهود : فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ). (1)
7358 - حدثني يونس قال ، أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة قال : لما نزلت : " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا " إلى آخر الآية ، قالت اليهود : فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم إنْ : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ ) من أهل الملل( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ).
* * *
وقال آخرون : في هذه الآية بما : -
7359 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) الأثر : 7357 - " القعنبي " ، هو : " عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي " ، روى عنه الأئمة. قال ابن سعد : " كان عابدًا فاضلا ، قرأ عن مالك كتبه " . وقال العجلي : " قرأ عليه مالك نصف الموطأ ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي " ، وسئل ابن المديني عنه فقال : " لا أقدم من رواة الموطأ أحدًا على القعنبي " .

(6/571)


كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى قوله : ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [سورة البقرة : 62] ، فأنزل الله عز وجل بعد هذا : " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه " .
* * *
القول في تأويل قوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت.
فقال بعضهم : نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك :
7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله : " وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم

(6/572)


الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " ، فأرسل إليه قومه فأسلم.
7361 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة بنحوه ، ولم يرفعه إلى ابن عباس إلا أنه قال : فكتب إليه قومه ، فقال : ما كذَبني قومي! فرجع.
7362 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حكيم بن جُميع ، عن علي بن مُسْهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ارتد رجل من الأنصار ، فذكر نحوه. (1)
7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان قال ، أخبرنا حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن : " كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم " إلى " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ " ، قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك ، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
7364 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق " ، قال : أنزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري ، كفر بعد إيمانه ، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات ، إلى : " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ،
__________
(1) الأثر : 7362 - " حكيم بن جميع الكوفي " ، مترجم في الكبير 2 / 1 / 18 ، والجرح 1 / 2 / 202.

(6/573)


ثم تاب وأسلم ، فنسخها الله عنه ، فقال : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك ، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ " .
7365 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات " ، قال : رجلٌ من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه.
7366 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7367 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : هو رجل من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : لحق بأرض الرّوم فتنصَّر ، ثم كتب إلى قومه : " أرسلوا ، هل لي من توبة ؟ " قال : فحسبتُ أنه آمن ، ثم رَجع قال ابن جريج ، قال عكرمة ، نزلت في أبي عامر الرّاهب ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووَحْوَح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : " إلا الذي تابوا من بعد ذلك " ، الآيات.
* * *
وقال آخرون : عنى بهذه الآية أهل الكتاب ، وفيهم نزلت.
ذكر من قال ذلك :
7368 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم " ، فهم أهلُ الكتاب ، عرَفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به.

(6/574)


7369 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم " الآية كلها ، قال : اليهود والنصارى.
7370 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول في قوله : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم " الآية ، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به ، وشهدوا أنه حقٌّ ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه ، وكفروا بعد إقرارهم ، حسدًا للعرب ، حين بُعثَ من غيرهم.
7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم " ، قال : هم أهل الكتاب ، كانوا يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، ويستفتحون به ، فكفروا بعد إيمانهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن : منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال ، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم ، بتأويل القرآن. (1) وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام ، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم ، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث ، ثم كفر به بعد أن بُعث ، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتد وهو حيٌّ عن
__________
(1) هذا حكم جيد فاصل في هذه الآية ، وفي غيرها مما اختلف في معانيه المختلفون.

(6/575)


إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله.
* * *
فتأويل الآية إذًا : " كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم " ، يعني : كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان ، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم " بعد إيمانهم " ، أي : بعد تصديقهم إياه ، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه " وَشهدوا أن الرسول حقّ " ، يقول : وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا " وجاءهم البينات " ، يعني : وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك ؟ " والله لا يهدي القوم الظالمين " ، يقول : والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة ، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل ، فاختارُوا الكفر على الإيمان.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى " الظلم " ، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
" أولئك جزاؤهم " ، يعني : هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ - " جزاؤهم " ، ثوابهم من عملهم الذي عملوه (2) " أنّ عليهم لعنة الله " ، يعني : أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد ، (3) ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب (4) " أجمعين " ، يعني : من جميعهم ، لا من
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 523 ، 524 / ثم باقي المواضع في فهرس اللغة " ظلم " ، وانظر أيضًا فهارس اللغة في سائر ألفاظ الآية.
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف 2 : 27 ، 28 ، 314 ، وغيره في فهارس اللغة " جزى " .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " أن حل بهم " ، فعل ماض ، والسياق يقتضي المضارع.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم... " ، وهو كلام غير مستقيم ، وهو تصحيف لما كتبت ، كان في الأصل " الدعاما يسوءهم " بغير همزة " الدعاء " ، وبغير نقط " بما " ، فاشتبهت الحروف على الناسخ ، فحرفها إلى ما ترى.

(6/576)


بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة والناس ، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم ، لأن عملهم كان بالله كفرًا.
* * *
وقد بينا صفة " لعنة الناس " الكافرَ في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
" خالدين فيها " يعني : ماكثين فيها ، يعني في عقوبة الله (2)
" لا يخفَّف عنهم العذاب " ، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال ، ولا ينفَّسون فيه (3) " ولا هم ينظرون " ، يعني : ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. (4) وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة. (5)
ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا ، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره : " إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا " ، يعني : إلا الذين تابوا
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 328 ، 329 / ثم 3 : 254 - 258 ، 261 - 263 ، وفيها نظير ما في هذه الآية.
(2) انظر تفسير " خالدين " فيما سلف 1 : 397 ، 398 / 2 : 287 / 4 : 317 ، وفهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " يخفف " فيما سلف 2 : 316 ، 317 ، والتنفيس : والترفيه والتفريج هنا.
(4) انظر تفسير " ينظرون " في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3 : 264 ، 265 ، وقبله 2 : 467 ، 468.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " وذلك كله أعني الخلود في العقوبة في الآخرة " ، وهي جملة فاسدة البناء والمعنى ، أخطأ الناسخ فهم مراد أبي جعفر ، فكتب ما كتب ، والصواب هو ما أثبت. فإن أبا جعفر قد لجأ إلى الاختصار في مواضع كثيرة من تفسيره ، منها هذا الموضع ، فلم يبين إعراب قوله تعالى : " لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون " ، وأهل الإعراب يعربونها حالا متداخلة - أي حالا من حال - لأن " خالدين " حال من الضمير في " عليهم " . وأما أبو جعفر ، فهو يعدها جملة مستأنفة ، وهي بذلك بيان عن الخلود في النار. والدليل على صحة ذلك ، وعلى صحة ما أثبت من الصواب في نص أبي جعفر هنا ، أنه قال في تفسير نظيرة هذه الآية من " سورة البقرة : 162 " في الجزء 3 : 264 ما نصه.
" وأما قوله : " لا يخفف عنهم العذاب " ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف " . فهذا نص قاطع في أن إعراب الطبري لهذا الموضع من الآية هو ما ذهبت إليه ، وفي أنه يرى أن معنى هذه الجملة من الآية ، هو معنى " الخلود " بعينه. والحمد لله أولا وآخرًا.

(6/577)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

من بعد ارتدادهم عن إيمانهم ، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله ، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم " وأصلحوا " ، يعني : وعملوا الصالحات من الأعمال " فإنّ الله غفور رحيم " ، يعني : فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره " غفور " ، يعني : ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة ، فتاركٌ عقوبته عليه ، وفضيحته به يوم القيامة ، غيرُ مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه " رحيم " ، متعطِّف عليه بالرحمة.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم : عنى الله عز وجل بقوله : " إنّ الذين كفروا " ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم (1) " بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا " بكفرهم بمحمد " لن تقبل توبتهم " ، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك :
7372 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ، قال : اليهودُ والنصارى ، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
7373 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) في المطبوعة : " أي : ببعض أنبيائه " ، زاد ما ليس في المخطوطة.

(6/578)


قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا " ، أولئك أعداء الله اليهود ، كفروا بالإنجيل وبعيسى ، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان.
7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ثم ازدادوا كفرًا " ، قال : ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت ، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت قال معمر : وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
7375 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ، وقال : هم اليهود ، كفروا بالإنجيل ، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فأنكرُوه ، وكذبوا به.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد ، بعد إيمانهم بأنبيائهم " ثم ازدادوا كفرًا " ، يعني : ذنوبًا " لن تقبل توبتهم " من ذنوبهم ، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك :
7376 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب ، قال ، حدثنا داود ، عن رفيع : " إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا " ، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار " لن تقبل توبتهم " من تلك الذنوب ، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
7377 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود قال : سألت أبا العالية ، قال ، قلت : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم " ؟ قال : إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا ، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها ، فهم يتوبون منها في كفرهم.
7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال ، أخبرنا ابن أبي عدي ،

(6/579)


عن داود قال : سألت أبا العالية عن : الذين آمنوا ثم كفروا ، فذكر نحوًا منه. (1)
7379 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود قال : سألت أبا العالية عن هذه الآية : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ، قال : هم اليهود والنصارى والمجوس ، أصابوا ذنوبًا في كفرهم ، فأرادوا أن يتوبوا منها ، ولن يتوبوا من الكفر ، (2) ألا ترى أنه يقول : " وأولئك هم الضالون " ؟
7380 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية في قوله : " لن تقبل توبتهم " ، قال : تابوا من بعضٍ ، ولم يتوبوا من الأصل.
7381 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قوله : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا " ، قال : هم اليهود والنصارى ، يصيبون الذنوبَ فيقولون : " نتوب " ، وهم مشركون. قال الله عز وجل : لن تُقبل التوبة في الضّلالة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم " ثم ازدادوا كفرًا " ، يعني : بزيادتهم الكفر : تمامُهم عليه ، (3) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون " لن تقبل توبتهم " ، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم ، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 7378 - في المطبوعة : " عبد الحميد بن بيان اليشكري " ، وهو خطأ والصواب ما أثبت من المخطوطة. وقد مضت الرواية عنه كثيرًا ، ينسبه أحيانًا " السكري " ، وأخرى " القناد " نسبة إلى " القند " ، وهو السكر. وقد مضت ترجمته برقم : 30 ، وسيأتي خطأ مثله في رقم : 7580.
(2) أخشى أن يكون الصواب ، " ولم يتوبوا من الكفر " ، وانظر التالي.
(3) في المطبوعة " بما هم عليه " ، وهو كلام غث. وفي المخطوطة : " ممامهم عليه " غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال : و " تم على الشيء تمامًا " ثبت عليه وأقام ، وأمضى أمره فيه.

(6/580)


7382 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " ثم ازدادوا كفرًا " ، قال : تمُّوا على كفرهم (1) قال ابن جريج : " لن تقبل توبتهم " ، يقول : إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " ثم ازدادوا كفرًا " ، ماتوا كفارًا ، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا : معنى " لن تقبل توبتهم " ، لن تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك :
7383 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ، أمّا " ازدادوا كفرًا " ، فماتوا وهم كفار. وأما " لن تقبل توبتهم " فعند موته ، إذا تاب لم تقبل توبته.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية ، قولُ من قال : " عنى بها اليهودَ " وأن يكون تأويله : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه ، بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم ، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم ، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله. (2)
* * *
وإنما قلنا : " ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب " ، لأن الآيات
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " نموا على كفرهم " بالنون ، وهو تصحيف. وانظر التعليق السالف.
(2) في المطبوعة " بتصديق ما جاء به من عند الله " وفي المخطوطة " بتصديقه ما جاء به من عند الله " ، وعلى الميم من " ما " فتحة مائلة ، وهي في الحقيقة " باء " ، فصواب قراءة المخطوطة ما أثبت.

(6/581)


قبلها وبعدها فيهم نزلت ، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها ، إذ كانت في سياق واحد.
وإنما قلنا : " معنى ازديادهم الكفر : ما أصابوا في كفرهم من المعاصي " ، لأنه جل ثناؤه قال : " لن تقبل توبتهم " ، فكان معلومًا أن معنى قوله : " لن تقبل توبتهم " ، إنما هو معنيٌّ به : لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم ، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) [سورة الشورى : 25] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل : " أقبل " و " لا أقبل " في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب ، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (1) علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه ، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. (2) وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي لا يَقبل منه التوبة ، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر ، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره ، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح ، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
* * *
فإن قال قائل : وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال : (3) " فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى " ؟ (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إلا الذين تابوا وأصلحوا... " ، سها الناسخ فأسقط " من بعد ذلك " من الآية ، وهي الآية السابقة. وسياق الكلام : وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان من حكم... علم أن المعنى... " .
(2) في المطبوعة : " تقبل.. تقبل.. " بالتاء ، وما في المخطوطة هو السياق. ومثل ذلك فيما سيلي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وما ينكر " بالياء ، وهي بالتاء أجود ، كما يدل عليه الجواب بعد.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " توبتهم من كفرهم " بالجمع ، والسياق ما أثبت ، وهو الصواب. وفي المطبوعة : " أو توبته الأولى " والصواب بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما سلف في الأثر : 7382 ، والترجمة التي قبله ، وما قبله من الآثار ، وما يليه في الأثر رقم : 7382.

(6/582)


قيل : أنكرنا ذلك ، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته ، فأما بعد مماته فلا توبة ، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين ، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه ، والموارثة ، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة ، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ، ولا منزلةَ بين الموت والحياة ، يجوزُ أن يقال : " لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر " . فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة ، ولا سبيلَ بعد الممات إليها ، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
* * *
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك : " التوبة التي كانت قبل الكفر " ، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر ، ثم كُفْر بعد إيمان بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه ، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره ، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
* * *
وأما قوله : " وأولئك هم الضالون " ، فإنه يعني بذلك : وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفرًا ، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه ، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين ، حَيرةً منهم ، وعَمىً عنه. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ... وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعموا عنه " ، ولم يقل ذلك أبو جعفر! وفي المخطوطة : " وهذي الذي حره منهم وعمى عنه " غير منقوطة ، فلم يستطع الناشر أن يقرأها على وجه صحيح ، ففعل بعبارة الطبري ما فعل ، وبئس ما فعل! وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله : " نصف السبيل " ، كان أحب إلى أن أقرأها " قصد السبيل " ، ولكني رجحت أن أبا جعفر يترجم عن معنى قوله تعالى " سواء السبيل " ، وهو وسطه ، وقد بين شرح ذلك في تفسيره فيما مضى 2 : 497 ، وقال : " ... الذي إذا ركب محجته السائر فيه ، ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته ، وأدرك طلبته " ، ورأيتهم يقولون : " منصف الطريق " (بفتح الميم ، وسكون النون ، وفتح الصاد) : وسط الطريق و " نصف الطريق " . وجائز أن تكون كانت " منصف الطريق " في كلام الطبري ومهما يكن من شيء ، فهي صحيحة المعنى ، جيدة المجاز في العربية.

(6/583)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

وقد بينا فيما مضى معنى " الضلال " بما فيه الكفاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه " إنّ الذين كفروا " ، أي : جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة ، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم " وماتوا وهم كفار " ، يعني : وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به " فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذَهبًا ولو افتدى به " ، يقول : فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره ، ولا جُعْلٌ على العفو عنه ، (2) ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها ، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة ، فكيف يقبل
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 189 - 196 / 2 : 496 ، 497 / 6 : 66.
(2) " الجزاء " هنا : البدل والكفارة. و " الجعل " (بضم الجيم وسكون العين) : الأجر على الشيء. يقول : لا يقبل منه أجر يدفعه على شريطة العفو عنه.

(6/584)


الفدية ، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ منْ نفسه أو غيره ؟ (1)
* * *
وقد بينا أن معنى " الفدية " العوَضُ ، والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال : " أولئك " ، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار " لهم عذاب أليم " ، يقول : لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع " وما لهم من ناصرين " ، يعني : وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره ، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه ؟ (3) وقد : -
7384 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، حدثنا أنس بن مالك : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا ، أكنت مفتديًا به ؟ فيقول : نعم! قال فيقال : لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله : " إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به " . (4)
7385 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن قوله : " إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا " ، قال : هو كل كافر.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " وهو خلاف " ، وهو تصحيف ، وفي المطبوعة : " عن نفسه " ، كأن الناشر استنكر عربية أبي جعفر ، فحولها إلى عربيته.
(2) انظر ما سلف 3 : 438 - 439.
(3) اختلاف الضمائر في هذه العبارة جائز حسن ، وإن أشكل على بعض من يقرأه.
(4) الأثر : 7384 - أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 11 : 348 - 350) من طريقين طريق هشام الدستوائي عن قتادة ، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، كرواية الطبري هنا. ورواه مسلم (17 : 148 ، 149) من طريق هشام عن قتادة ، وأشار إلى طريق سعيد ، وذكر اختلافه. وللحديث طرق أخرى بغير هذا اللفظ أخرجها البخاري (الفتح 6 : 262 / 11 : 367) ومسلم 17 : 148 ، 149.

(6/585)


ونصب قوله " ذهبًا " على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منهُ ، وهو قوله : " ملءُ الأرض " ، كقول القائل : " عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا وقدْرُ رطل عَسلا " ، ف " العسل " مبينٌ به ما ذكر من المقدار ، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير للمقدار والخروج منه. (1)
* * *
وأما نحويو البصرة ، فإنهم زعموا أنه نصب " الذهب " لاشتغال " الملء " بـ " الأرض " ، ومجيء " الذهب " بعدهما ، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله ، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا : ونظير قوله : " ملء الأرض ذهبًا " في نصب " الذهب " في الكلام : " لي مثلك رجُلا " بمعنى : لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب " الرجل " ، لاشتغال الإضافة بالاسم ، فنصب كما ينصب المفعول به ، لاشتغال الفعل بالفاعل.
* * *
وأدخلت الواو في قوله : " ولو افتدى به " ، لمحذوف من الكلام بعدَه ، دلّ عليه دخول " الواو " ، وكالواو في قوله : ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) [سورة الأنعام : 75] ، وتأويل الكلام : وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله : " ولو افتدى به " ، ولو لم يكن في الكلام " واو " ، لكان الكلام صحيحًا ، ولم يكن هنالك متروك ، وكان : فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به. (2)
* * *
__________
(1) " التفسير " : هو التمييز ، ويقال له أيضًا " التبيين " ، والمميز هو : " المفسر والمبين " ، وقد سلف ذلك فيما مضى 2 : 338 ، تعليق : 1 / 3 : 90 ، تعليق 2 / وانظر ما فصله الفراء في معاني القرآن 1 : 225 ، 226.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 226.

(6/586)


لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لن تدركوا ، أيها المؤمنون ، البرَّ وهو " البر " من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه ، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته ، وصرف عذابه عنهم.
* * *
ولذلك قال كثير من أهل التأويل " البر " الجنة ، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة ، إكرامه إياه بإدخاله الجنة. (1)
ذكر من قال ذلك.
7386 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : " لن تنالوا البر " ، قال : الجنة.
7387 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : " لن تنالوا البر " ، قال : البر الجنة.
7388 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لن تنالوا البر " ، أما البر فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : لن تنالوا ، أيها المؤمنون ، جنة ربكم " حتى تنفقوا مما تحبون " ، يقول : حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم ، من نفيس أموالكم ، كما : -
7389 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ، يقول : لن تنالوا برَّ ربكم حتى
__________
(1) انظر تفسير " البر " فيما سلف 2 : 8 / 3 : 336 - 338 ، 556 / 4 : 425. وفي المطبوعة : " وإكرامه إياه " بزيادة " واو " ، وهو خطأ صوابه في المخطوطة.

(6/587)


تنفقوا مما يعجبكم ، ومما تهوَوْن من أموالكم.
7390 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن قوله : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ، قال : من المال.
* * *
وأما قوله : " وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم " ، فإنه يعني به : ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم ، (1) فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم ، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك - " عليم " ، يقول : هو ذو علم بذلك كله ، لا يعزُبُ عنه شيء منه ، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة ، كما : -
7391 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده : " وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم " ، يقول : محفوظٌ لكم ذلك ، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له.
* * *
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين.
ذكر من قال ذلك :
7392 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال : إن الله يقول : " لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون " ، فأعتقها عمر وهي مثْل قول الله عز وجل : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) [سورة الإنسان : 8] ، و( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) [سورة الحشر : 9].
__________
(1) انظر " ما " بمعنى " مهما " فيما سلف قريبًا ص : 551.

(6/588)


7393 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله سواء.
7394 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، أو هذه الآية : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) [سورة البقرة : 245\ الحديد : 11] ، قال أبو طلحة ، يا رسول الله ، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة ، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلها في فقراء أهلك. (1)
7395 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ، قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إنّ الله يسألنا من أموالنا ، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلها
__________
(1) الحديث : 7394 - حميد : هو ابن أبي حميد الطويل.
والحديث رواه أحمد في المسند : 12170 ، عن يحيى بن سعيد القطان ، و : 12809 ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، و : 13803 ، عن عبد الله بن بكر - ثلاثتهم عن حميد ، عن أنس ابن مالك (ج 3 ص 115 ، 174 ، 262 حلبي).
ورواه الترمذي 4 : 81 ، من طريق عبد الله بن بكر ، عن حميد. وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .
وذكره السيوطي 1 : 50 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه.
وهو اختصار لرواية مطولة ، رواها مالك في الموطأ ، ص : 995 - 996 ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك.
ورواها أحمد في المسند : 12465 (3 : 141 حلبي) ، من طريق مالك.
ورواها البخاري 3 : 257 ، 5 : 295 - 297 ، و 8 : 168 ، ومسلم 1 : 274 - كلاهما من طريق مالك أيضًا.
وسيأتي عقب هذا ، مختصرًا أيضًا ، من رواية ثابت عن أنس.
الحائط : البستان من النخيل إذا كان عليه حائط ، وهو الجدار.

(6/589)


في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. (1)
7396 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا ليث ، عن ميمون بن مهران : أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ : أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة عمادُ الإسلام ، والجهاد سَنامُ العمل ، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال : يا أبا ذر ، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي ، لا أراك ذكرته! قال : ما هو ؟ قال : الصّيام! فقال : قُرْبة ، وليس هناك! وتلا هذه الآية : " لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون " . (2)
__________
(1) الحديث : 7395 - حماد : هو ابن سلمة.
والحديث رواه أحمد في المسند : 14081 (3 : 285 حلبي) ، عن عفان ، عن حماد ، به ، نحوه.
ورواه مسلم 1 : 274 - 275 ، من طريق بهز ، عن حماد بن سلمة ، به ، نحوه.
ورواه أبو داود : 1689 ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد ، وهو ابن سلمة.
وذكره السيوطي 1 : 50 ، وزاد نسبته للنسائي.
وقوله " بأريحا " - هكذا ثبت في هذه الرواية في الطبري وليست تصحيفًا ، ولا خطأ من الناسخين هنا. بل هي ثابتة كذلك في رواية أبي داود. ونص الحافظ في الفتح : 3 : 257 ، على أنها ثابتة بهذا الرسم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة.
ورواية مسلم " بيرحا " . واختلف في ضبط هذا الحرف فيه وفي غيره ، اختلافًا كثيرًا. ونذكر هنا كلام القاضي عياض في مشارق الأنوار 1 : 115 - 116 ، بنصه. ثم نتبعه بكلام الحافظ في الفتح 3 : 257 ، بنصه أيضًا :
قال القاضي عياض : " بيرحا ، اختلف الرواة في هذا الحرف وضبطه. فرويناه بكسر الباء وضم الراء وفتحها ، والمدّ والقصر. وبفتح الباء والراء معًا. ورواية الأندلسيين والمغاربةٌ " بيرُحَا " - بضم الراء وتصريف حركات الإعراب في الراء. وكذا وجدتُها بخط الأصيلي. وقالوا : إنها " بير " مضافةُ إلى " حاء " - اسم مركب. قال أبو عبيد البكري : " حاء " على وزن حرف الهجاء : بالمدينة ، مستقبلة المسجد ، إليها ينسب " بِيرُحَاء " ، وهو الذي صححه. وقال أبو الوليد البَاجِي : أنكر أبو ذَرّ الضم والإعراب في الراء ، وقال : إنما هي بفتح الراء في كل حال. قال الباجي : وعليه أدركتُ أهل العلم والحفظ في المَشْرِق ، وقال لي أبو عبد الله الصُّورِي : إنما هو " بَيْرَحَاء " بفتحهما في كل حال ، وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا الحرف عَلى ابن أبي جعفر في مسلم. وبكسر الباء وفتح الراء والقصر ضبطناها في الموطأ علَى ابن عتَّاب وابن حمدين وغيرهما. وبضم الراء وفتحها معًا قيَّده الأصيلي. وهو موضع بقبليّ المسجد ، يعرف بقَصْر بني حُدَيْلة ، بحاء مهملة مضمومة. وقد رواه من طريق حماد بن سلمة " بَرِيحا " . هكذا ضبطناه عن شيوخنا : الحُشَنِي ، والأسدي ، والصَّدَفِي - فيما قيَّدوه عن العذري ، والسمرقندي ، والطبري ، وغيرهم. ولم أسمع من غيرهم فيه خلافًا ، إلاّ أني وجدتُ أبا عبد الله بن أبي نصر الحُميديّ الحافظ ذَكَر هذا الحرف في اختصاره ، عن حماد بن سلمة - " بَيْرَحَاء " كما قال الصُّوري. ورواية الرازي في مسلم ، في حديث مالك : " بَرِيحا " . وهو وَهَم ، وإنما هذا في حديث حماد ، وإنما لمالك " بيرحا " كما قيده فيها الجميع ، على الاختلاف المتقدّم عنهم ، وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحرف في هذا الحديث - بخلاف ما تقدم ، قال : " جعلتُ أرضي بأريحا " . وهذا كله يدلّ على أنها ليست بِبِيٍر " .
وقال الحافظ : " وقوله فيه " بَيْرَحَاء " - بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمدّ. وجاء في ضبطه أوجُهٌ كثيرة ، جمعها ابن الأثير في النهاية ، فقال : يروى بفتح الباء وبكسرها ، وبفتح الراء وضمها ، وبالمدّ والقصر. فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة " بَرِيحَا " - بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية. وفي سنن أبي داود " بَارِيحَا " - مثله ، لكن بزيادة ألف. وقال الباجي : أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور. وكذا جزم به الصغاني ، وقال : إنه " فَيْعَلى " من " البَرَاح " . قال : ومَن ذكره بكسر الموحدة ، وظنَّ أنها بئر من آبار المدينة - فقد صَحَّفَ " .
وانظر الفتح أيضًا 5 : 296 ، ومعجم البلدان 2 : 327 - 328.
(2) الخبر : 7396 - هذا خبر منقطع الإسناد ، لأن ميمون بن مهران لم يدرك أبا ذر ، أبو ذر مات سنة 32 ، وميمون ولد سنة 40 ، ومات سنة 118 ، كما في تاريخي البخاري ، وتهذيب الكمال (مخطوط مصور).
والخبر ذكره السيوطي 2 : 50 ، ولم ينسبه لغير الطبري.
قوله : " شيء عجب " - " أثبتنا ما في المخطوطة ، والذي في المطبوعة والدر المنثور " عجيب " .

(6/590)


7397 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن عمرو بن دينار قال : لما نزلت هذه الآية : " لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون " ، جاء زيدٌ بفرس له يقال له : " سَبَل " إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : تصدَّق بهذه يا رسول الله. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله ، إنما أردت أن أتصدّق به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قُبلتْ صَدَقتك. (1)
7398 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره : أنها حين نزلت : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامةَ بن زيد ، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه ، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أما إن الله قد قبلها. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 7397 - هذا حديث مرسل ، لأن عمرو بن دينار تابعي.
داود بن عبد الرحمن العطار المكي : ثقة من شيوخ الشافعي. وثقه ابن معين ، وأبو داود ، وغيرهما.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث ، المكي النوفلي : ثقة. أخرج له الجماعة. وقد مضى في : 1489.
والحديث أشار إليه السيوطي 2 : 50 ، ولم يذكر لفظه ، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر قبله حديثًا " مثله " ، عن محمد بن المنكدر. وهو حديث مرسل أيضًا. ونسبه لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
اسم الفرس : " سبل " - بفتح السين المهملة والباء الموحدة. ولم تنقط في المخطوطة ، ونقطت ياء تحتية في المطبوعة ، ورسمت " شبلة " في الدر المنثور. والصواب ما أثبتنا ، وهكذا جاء اسمها في كتب الخيل وفي الشعر.
(2) الحديث : 7398 - هوس حديث مرسل ، مثل سابقه.
وقد ذكره السيوطي 2 : 50. ونسبه لعبد الرزاق ، والطبري ، ولم ينسبه لغيرهما.

(6/592)


كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزِّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة ، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه ، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب ، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ، ولا على لسان رسولٍ له إليهم ، من قبل نزول التوراة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم ، هل نزل في التوراة أم لا ؟ فقال بعضهم : لما أنزل الله عز وجل التوراةَ ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نزولها.
*ذكر من قال ذلك :
7399 - حدثني محمد بن الحسين ، قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قالت اليهود : إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه ، وإنما حرّم

(6/7)


إسرائيل العرُوق ، (1) كان يأخذه عِرق النَّسا ، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار ، فحلف لئْن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقًا أبدًا ، فحرّمه الله عليهم ثم قال : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، ما حرَّم هذا عليكم غيري ببغيكم ، فذلك قوله : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) [سورة النساء : 160]
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على هذا القول : كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنزل التوراة ، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة ، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد : فأتوا ، أيها اليهود ، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة ، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
* * *
وقال آخرون : ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا ، لا حرّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه ، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة فاتلوها ، حتى ننظر هل ذلك فيها ، أم لا ؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم. (2)
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) العروق هي عروق اللحم ، وهو الأجوف الذي يكون فيه الدم ، وأما غير الأجوف فهو العصب.
(2) في المطبوعة : " ليتبين " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(6/8)


7400 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال ، سمعت أبا معاذ ، قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه " إسرائيل هو يعقوب ، أخذه عرق النسا فكان لا يَبيتُ الليل من وجعه ، (1) وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاهُ الله لا يأكل عِرْقًا أبدًا ، وذلك قبل نزول التوراة على موسى. فسأل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اليهود : ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقالوا : نزلت التوراة بتحريم الذي حرَّم إسرائيل. فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " إلى قوله : " فأولئك هم الظالمون " ، وكذبوا وافتروا ، لم تنزل التوراة بذلك.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول : كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بمعنى : لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. (2) وكأن الضحاك وجّه قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون " الاستثناء المنقطع " .
* * *
وقال آخرون : تأويل ذلك : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده ، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.
__________
(1) في المطبوعة : " لا يثبت الليل " ، وليست بشيء ، وسبب ذلك أن ناسخ المخطوطة قد استكثر من النقط على حروف هذه الكلمة ، فاختلط الأمر على الناشر. وليس معنى " يبيت " : ينام ، فإن أهل اللغة قالوا : " بات : دخل في الليل ، ومن قال : بات فلان ، إذا نام ، فقد أخطأ. ألا ترى أنك تقول : بت أرعى النجوم ؟ معناه : بت أنظر إليها ، فكيف ينام وهو ينظر إليها ؟ " ومعنى " لا يبيت الليل " ، أي يسكن الليل ولا يستريح ، لأن البتوتة هي دخول الليل ، والليل سكن للناس ، فمن ضافه هم ، أو أقلقه ألم ، لم يسكن ، فكأن الليل لم يشمله بهدأته. وفي ألفاظ أخرى لهذا الخبر : " لا ينام الليل من الوجع " . ثم انظر الأثر رقم : 7402 : " لا يبيت بالليل " .
(2) انظر " إلا " بمعنى " لكن " فيما سلف 3 : 206.

(6/9)


*ذكر من قال ذلك :
7401 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " فإنه حرّم على نفسه العروقَ ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا ، فكان لا ينام الليل ، فقال : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال : ما شأن هذا حرامًا ؟ فقالوا : هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " إلى " إنْ كنتم صادقين " .
7402 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : أخذه - يعني إسرائيل - عرقُ النسا ، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع (1) ، وكان لا يؤذيه بالنهار ، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا ، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، وكذبوا ، ليس في التوراة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : " معنى ذلك : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم ، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة ، حتى نزلت التوراةُ ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ " .
وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل ، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل.
ذكر بعض من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " لا يثبت " ، وفي المخطوطة : " لا يبيت " ، واضحة. وانظر التعليق السالف رقم : 1 ص : 9.

(6/10)


7403 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " ، وإسرائيل ، هو يعقوب " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " يقول : كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما أنزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء وأحلّ لهم ما شاء.
7404 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه.
فقال بعضهم : كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق.
*ذكر من قال ذلك :
7405 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن يوسف بن مَاهَك قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا ، قال : ليست عليك بحرام. قال : فقال الأعرابي : ولم ؟ والله يقول في كتابه : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه " ؟ قال : فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه ؟ قال : ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال : إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته ، (1) فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم.
7406 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الأنساء جمع نسا : وهو هذا العرق الذي يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ، ثم يمر حتى يبلغ الكعب. وهو الذي يأخذه المرض المعروف.

(6/11)


عن أبي بشر. قال : سمعت يوسف بن ماهك يحدثُ : أنّ أعرابيًّا أتى ابن عباس ، فذكر رجلا حرّم امرأته فقال : إنها ليست بحرام. فقال الأعرابي : أرأيت قول الله عز وجل : " كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " ؟ فقال : إن إسرائيل كان به عِرْق النسا ، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العرُوق من اللحم ، وإنها ليست عليك بحرام.
7407 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : " كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا ، فجعل لله عليه أو : أقسم ، أو : آلى : لا يأكله من الدواب. (1) قال : والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق.
7408 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه : أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة ، فأسهرته ، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا ، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم. (2)
7409 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه وزاد فيه. قال : فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا ، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق ، فيخرجونها من اللحم. وكان " الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " ، العُروق.
7410 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، اشتكى
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أو أقسم أو قال لا يأكله من الدواب " ، وهو غير مستقيم ، وأشبه بالصواب ما أثبت. وانظر الأثر التالي وفيه " تألى " ، أي أقسم ، ومنه استظهرت هذا التصويب.
(2) في المخطوطة : " يخرجونه " ، فلعل ما قبلها " العرق " مفردًا ، ولكني تركت ما في المطبوعة فهو أجود ، لما في الأثر الذي يليه.

(6/12)


إسرائيل عرق النسا فقال : إنِ الله شفاني لأحرِّمنّ العروق! فحرَّمها.
7411 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان إسرائيل أخذه عرق النسا ، فكان يبيتُ لهُ زُقاء ، (1) فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنزل الله عز وجل : " كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه " قال سفيان : " له زقاء " ، يعني صياح.
7412 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه " قال ، كان يشتكي عرق النسا ، فحرَّم العروق.
7413 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
7414 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " قال ، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا ، فكان يبيت وله زقاء ، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا.
* * *
وقال آخرون : بل " الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه " ، لحوم الإبل وألبانُها.
*ذكر من قال ذلك :
7415 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن
__________
(1) في المطبوعة : " يبيت وله زقاء " ، بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة وهو جيد أيضًا. الزقاء : صوت الباكي وصياحه. زقا الصبي يزقو : اشتد بكاؤه وصاح. وسيأتي مشروحًا في الأثر.

(6/13)


جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : سمعنا أنه اشتكى شكوى ، فقالوا : إنه عرق النسا ، فقال : رَبّ ، إن أحب الطعام إليّ لحومُ الإبل وألبانُها ، فإن شفيتني فإني أحرمها عليّ قال ابن جريج ، وقال عطاء بن أبي رباح : لحومَ الإبل وألبانَها حرّم إسرائيل.
7416 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " قال ، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل ، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة ، فقال الله : " فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، فقال : لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه ، أي لحم الإبل. (1)
7417 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال ، حدثنا سعيد ، عن ابن عباس : أن إسرائيل أخذَه عرق النسا ، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء يعني : صياح قال : فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله يعني : لحوم الإبل قال : فحرمه اليهود ، وتلا هذه الآية : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، أي : إن هذا قبل التوراة.
7418 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " قال ، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال : كان به عرق النسا ، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو ، فحلف أن لا يأكله أبدا.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إلا لحم الإبل " وهو لا يستقيم ، وظننتها تحريف " أي " ، فأثبتها كذلك ، ولو حذفت كان الكلام مستقيما.

(6/14)


7419 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " . قال : حرم لحم الأنعام. (1)
* * *
قال أبو جعفر : (2) وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد عنه : أنّ ذلك ، العروقُ ولحوم الإبل ، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها ، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر ، وهو : ما : -
7420 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا ، فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل ، وأحبّ الشراب إليه ألبانها ؟ فقالوا : اللهم نعم. (3)
* * *
وأما قوله : " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ، فإن معناه : قل ، يا محمد ، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها : " ائتوا بالتوراة فاتلوها " ، يقول : قل لهم : جيئوا بالتوراة فاتلوها ، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم : أن ذلك ليس مما
__________
(1) في المطبوعة : " لحوم الأنعام " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة : " قال أبو جعفر رضي الله عنه " .
(3) الأثر : 7420 - هذا مختصر الأثر السالف رقم : 1605 ، وإسناده صحيح ، وقد مضى تخريجه هناك.

(6/15)


فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

أنزلته في التوراة " إن كنتم صادقين " ، يقول : إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنزل تحريمَ ذلك في التوراة ، فأتونا بها ، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.
* * *
وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم ، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته ، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم ، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم ، (1) من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم ، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول ، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فمن كذَب على الله منا ومنكم ، من بعد مجيئكم بالتوراة ، وتلاوتكم إياها ، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها " فأولئك هم الظالمون " يعني : فمن فعل ذلك منهم " فأولئك " ، يعني : فهؤلاء الذين يفعلون ذلك " هم الظالمون " ، يعني : فهم الكافرون ، القائلون على الله الباطل ، كما : -
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم " ، و " في " زيادة لا شك فيها من سبق قلم الناسخ.

(6/16)


قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

7421 - حدثنا المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن زكريا ، عن الشعبي : " فأولئك هم الظالمون " قال ، نزلت في اليهود.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه : { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قل " ، يا محمد " صدق الله " ، فيما أخبرنا به من قوله : " كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل " ، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها ، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة وفي كل ما أخبر به عباده من خبر ، (1) دونكم.وأنتم ، يا معشر اليهود ، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة ، (2) المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق " فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين " ، يقول : فإن كنتم ، أيها اليهود ، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله " فاتبعوا ملة إبراهيم " ، خليل الله ، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا ، وابتعث به أنبياءَه ، ذلك الحنيفية - يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه - دون اليهودية والنصرانية والمشركة.
* * *
__________
(1) في المخطوطة " في كل ما أخبر... " بحذف الواو ، والصواب ما في المطبوعة. وهو معطوف على قوله آنفا : " صدق الله فيما أخبرنا به... " . وقوله : " دونكم " ، سياقه " صدق الله ... دونكم " ، يعني فأنتم غير صادقين.
(2) في المطبوعة : " أنتم يا معشر اليهود الكذبة... " والصواب إثبات الواو كما في المخطوطة. وسياقه " وأنتم ... الكذبة ... المفترية ... " بالرفع فيهما ، خبر " أنتم " .

(6/17)


وقوله : " وما كان من المشركين " ، يقول : لم يكن يشرك في عبادته أحدًا من خلقه. فكذلك أنتم أيضًا ، أيها اليهود ، فلا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه وأنتم يا معشرَ عبدة الأوثان ، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابًا ، ولا تعبدوا شيئًا من دون الله ، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينُه إخلاص العبادة لربه وحدَه ، من غير إشراك أحد معه فيه. فكذلك أنتم أيضًا ، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدًا ، فإن جميعكم مقرُّون بأنّ إبراهيم كان على حقّ وَهدْى مستقيم ، فاتبعوا ما قد أجمع جميعُكم على تصويبه من ملته الحنيفية ، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها ، أيها الأحزاب ، فإنها بدَع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق ، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صوابٌ وحق من ملة إبراهيم ، هو الحق الذي ارتضيتُه وابتعثتُ به أنبيائي ورسلي ، وسائرُ ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءَني به يوم القيامة.
* * *
وإنما قال جل ثناؤه : " وما كان من المشركين " ، يعني به : وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [من] نصرائهم وأهل ولايتهم. (1) وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين ، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان ، غير الحنيفية. قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين يستقيم بها الكلام على وجهه.

(6/18)


إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : إنّ أول بيت وضع للناس ، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين ، الذي ببكة. قالوا : وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض ، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
*ذكر من قال ذلك :
7422 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة قال : قام رجل إلى عليّ فقال : ألا تخبرني عن البيت ؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم ، ومن دَخَله كان آمنًا. (1)
7423 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت خالدَ بن عرعرة قال : سمعت عليًّا ، وقيل له : " إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة " ، هو أوّل بيت كان في الأرض ؟ قال : لا! قال : فأين كان قَوْم نُوح ؟ وأين كان قوم هود ؟ قال : ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى. (2)
__________
(1) الأثر 7422 - هو مختصر الأثر السالف رقم : 2058 ، وفي المخطوطة والمطبوعة هنا أيضا " وضع في البركة " ، كما كان في المطبوعة والمخطوطة هناك. ولكني صححته من المستدرك والدر المنثور : " فيه البركة " ، غير أني أعود فأقول إني أرجح أن ما كان هناك صواب ، وأنه غير مستساغ أن يكون هذا الخطأ قد تكرر في موضعين متباعدين من الكتاب. وإعراب الكلام فيما أرجح " مقام إبراهيم " بالجر ، بدلا من " البركة " ، على غير ما ضبطته هناك برفع " مقام إبراهيم " . هذا ، وقد مضى الكلام على رجال إسناده في الأثر السالف.
(2) الأثر : 7423 - مضى إسناده برقم : 2059 ، ولم يذكر لفظه. وقد مضى ذكر رجاله هناك.

(6/19)


7424 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال ، سأل حفْصٌ الحسنَ وأنا أسمع عن قوله : " إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا " قال ، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض.
7425 - حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال ، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر في قوله : " إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة " قال : قد كانت قبله بيوتٌ ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة. (1)
7426 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن قوله : " إن أوّل بيت وضع للناس " ، يُعبد الله فيه " للذي ببكة " .
7427 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا " قال ، وضع للعبادة.
* * *
وقال آخرون : بل هو أوّل بيت وضع للناس.
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل.
فقال بعضهم : خُلق قبل جميع الأرَضين ، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته.
*ذكر من قال ذلك :
7428 - حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة ، وكان - إذ كان عرشه على الماء - زَبْدةً (2) بيضاءَ ، فدحيتُ الأرض من تحته.
__________
(1) الأثر : 7325 - " عبد الجبار بن يحيى الرملي " ، شيخ الطبري ، لم أجد ترجمته في مكان. وسيأتي برقم : 7446.
(2) " الزبدة " : الطائفة من زبد الماء ، الأبيض الذي يعلوه.

(6/20)


7429 - حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف قال : سمعت مجاهدًا يقول : إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ ، ثم دَحى الأرض من تحتها.
7430 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " إن أول بيت وضع للناس " ، كقوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [سورة آل عمران : 110]
7431 - حدثني محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين " ، أما " أول بيت " ، فإنه يوم كانت الأرض ماء ، كان زَبْدَة على الأرض ، فلما خلق الله الأرضَ ، خلق البيت معها ، فهو أول بيت وضع في الأرض.
7432 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا) قال ، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل ، فطاف به آدم وَمنْ بعده.
* * *
وقال آخرون : موضع الكعبة ، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.
*ذكر من قال ذلك :
7433 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط ، قال : أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمنُ الطوفان ، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح ، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض ، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك ، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.
* * *

(6/21)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه : إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس ، للذي ببكة. ومعنى ذلك : " إن أول بيت وضع للناس " ، أي : لعبادة الله فيه " مباركًا وهدًى " ، يعني بذلك : ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين ، تعظيما لله وإجلالا له " للذي ببكة " لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما : -
7434 - حدثنا به محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال ، قلت : يا رسول الله ، أيُّ مسجد وضع أوّل ؟ قال : " المسجد الحرام. قال : ثم أيٌّ ؟ قال : المسجد الأقصى. قال : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة. (1)
* * *
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض ، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا ، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة ، (2) ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع ، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن ، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) الحديث : 7434 - سليمان : هو الأعمش. إبراهيم التيمي : هو إبراهيم بن يزيد بن شريك. مضى هو وأبوه في : 2998.
والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 166 - 167 (حلبى) ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، به ، بزيادة في آخره.
ورواه أيضا 5 : 150 ، 156 ، 157 ، 160 (حلبي) ، بأسانيد ، عن الأعمش ، مطولا. وكذلك رواه مسلم 1 : 146 - 147 ، من طريق علي بن مسهر ، عن الأعمش.
وذكره ابن كثير 2 : 190 ، من رواية المسند (5 : 150) ، ثم قال : " وأخرجه البخاري ، ومسلم - من حديث الأعمش ، به " . وذكره السيوطي 2 : 52 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب.
(2) في المطبوعة : " فأما في وضعه بيتا ... " ، غيروا ما في المخطوطة وهو صواب.
(3) انظر ما سلف 3 : 57 - 64.

(6/22)


وأما قوله : " للذي ببكة مباركا " ، ، فإنه يعني : للبيت الذي بمُزْدَحم الناس لطوافهم في حجهم وعمَرهم.
* * *
وأصل " البكّ " : الزحم ، يقال : منه : " بكّ فلانٌ فلانًا " إذا زحمه وصدمه - " فهو يَبُكه بَكًّا ، وهم يتباكُّون فيه " ، يعني به : يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن " بَكَّة " " فَعْلة " من " بَكَّ فلان فلانًا " زحمه ، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
* * *
فإذا كانت " بكة " ما وصفنا ، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت ، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد ، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة ، لا " بكة " . لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك ، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال : " بكة " اسم لبطن " مكة " ، ومكة اسم للحرم. (1) .
* * *
*ذكر من قال في ذلك ما قلنا : من أن " بكة " موضع مزدحم الناس للطواف :
__________
(1) انتهى جزء من التقسيم القديم ، وفي المخطوطة ما نصه :
" يتلوهُ ذكر مَنْ قال في ذلك ما قُلنا من أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف والحمد لله على عونه وإحسانه ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليمًا " ثم يتلوه ما نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّر
أَخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان البغدادي قال حدثنا محمد بن جرير " فأعاد إسناد المخطوطة التي نقل عنها ، كما سلف في تعليقنا 6 : 495 ، 496 رقم : 5 ، وهذا هو الموضع الثاني لذكر هذا الإسناد الجديد.

(6/23)


7435 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري في قوله : " إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة " قال ، " بكة " موضع البيت ، " ومكة " ما سوى ذلك.
7436 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم مثله.
7437 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي جعفر قال : مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت ، فدفعها. قال أبو جعفر : إنها بَكَّةٌ ، يبكّ بعضُها بعضًا.
7438 - حدثنا ابن المثني قال : حدثنا عبد الصمد قال ، : حدثنا شعبة قال ، حدثنا سلمة ، عن مجاهد قال : إنما سميت " بكة " ، لأن الناس يتباكُّون فيها ، الرجالَ والنساءَ.
7439 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد قال ، قلت لأي شيء سُميت " بكة " ؟ قال : لأنهم يتباكُّون فيها قال : يعني : يزدحمون. (1)
7440 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن أبيه ، عن ابن الزبير قال ، إنما سميت " بكة " ، لأنهم يأتونها حُجّاجًا. (2)
7441 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا " ، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا ، فيصلي النساءُ قدّام الرجال ، ولا يصلح ببلد غيره.
7442 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " بكة " ، بكّ الناس بعضهم بعضًا ، الرجال والنساء ، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة.
__________
(1) في المطبوعة : " يتزاحمون " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 7440 - " الأسود بن قيس العبدي " ، روى عن أبيه وجماعة ، وروى عنه شعبة والثوري وشريك وغيرهم. وأبوه : " قيس العبدي " الكوفي ، مترجم في الكبير 4 / 1 / 149. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عن أخيه " ، وهو تصحيف والصواب ما أثبت.

(6/24)


7443 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال : " بكة " ، موضع البيت ، و " مكة " : ما حولها.
7444 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن أزهر ، عن غالب بن عبيد الله : أنه سأل ابن شهاب عن " بكة " قال ، " بكة " البيت ، والمسجد. وسأله عن " مكة " ، فقال ابن شهاب : " مكة " : الحرم كله.
7445 - حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء ومجاهد قالا " بكة " : بكّ فيها الرجالَ والنساءَ.
7446 - حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال : قال ضمرة بن ربيعة ، " بكة " : المسجد ، . و " مكة " : البيوت. (1)
* * *
وقال بعضهم بما : -
7447 - حدثني به يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة " قال ، هي مكة.
* * *
وقيل : " مباركًا " ، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب. (2)
* * *
فأما نصب قوله : " مباركا " ، فإنه على الخروج من قوله : " وضع " ، لأن في " وضع " ذكرًا من " البيت " هو به مشغول ، وهو معرفة ، و " مبارك " نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 7446 - " عبد الجبار بن يحيى الرملي " شيخ الطبري ، مضى برقم : 7425.
(2) هذا كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 227.
(3) " الخروج " هنا ، كأنه الحال ، وقد سلف في 5 : 253 ، 254 ما يشبه أن يكون أيضا بمعنى الحال. وانظر ما سلف 6 : 586 " أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله ، فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي شغل بفاعله " .

(6/25)


فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

وأما على قول من قال : " هو أول بيت وضع للناس " ، على ما ذكرنا في ذلك قولَ من ذكرنا قوله ، فإنه نصبٌ على الحال من قوله : " للذي ببكة " . لأن معنى الكلام على قولهم : إن أول بيت وضع للناس البيتُ [الذي] ببكة مباركًا. فـ " البيت " عندهم من صفته " الذي ببكة " ، و " الذي " بصلته معرفته ، و " المبارك " نكرة ، فنصب على القطع منه ، في قول بعضهم وعلى الحال في قول بعضهم. (1) و " هدى " في موضع نصب على العطف على قوله " مباركا " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ،
فقرأه قرأة الأمصار : ( فِيهِ أيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) على جماع " آية " ، بمعنى : فيه علامات بيناتٌ.
* * *
وقرأ ذلك ابن عباس.( فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ ) ، يعني بها : مقام إبراهيم ، يراد بها : علامة واحدةٌ.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فيه آيات بينات " وما تلك الآيات ؟. فقال بعضهم : مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام ، ونحو ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
7448 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،
__________
(1) " القطع " كأنه باب من الحال ، انظر ما سلف 6 : 270 ، 371 ، 415 وما قبلها في فهرس المصطلحات من الأجزاء السالفة.

(6/26)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فيه آيات بينات " ، مقامُ إبراهيم ، والمشعر.
7449 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ومجاهد : " فيه آيات بينات مَقامُ إبراهيم " قال ، مقامُ إبراهيم ، من الآيات البينات. (1)
* * *
وقال آخرون : " الآيات البينات " ، مقام إبراهيم " ومن دخله كانَ آمنا " .
*ذكر من قال ذلك :
7450 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " فيه آيات بينات " قال ، " مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا " .
وقال آخرون : " الآيات البينات " ، هو مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك :
7451 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : " فيه آيات بَينات مقام إبراهيم " أما " الآيات البينات " فمقام إبراهيم.
* * *
قال أبو جعفر : وأما الذين قرأوا ذلك : " فيه آية بينة " على التوحيد ، فإنهم عنوا بـ " الآية البينة " ، مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك :
7452 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " إسحاق بن يحيى " ، والصواب " الحسن بن يحيى " ، وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم : 7442.

(6/27)


نجيح ، عن مجاهد : " فيه آية بينة " ، (1) قال : قدمَاه في المقام آية بينة. يقول : " ومن دخله كان آمنا " قال ، هذا شيء آخر.
7453 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد : " فيه آية بينة مقام إبراهيم " قال ، أثر قدميه في المقام ، آية بينة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، قول من قال : " الآيات البينات ، منهنّ مقام إبراهيم " ، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مرادًا فيه " منهن " ، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
فإن قال قائل : فهذا المقامُ من الآيات البينات ، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل : " آيات بينات " ؟
قيل : منهنّ المقام ، ومنهن الحجرُ ، ومنهن الحطيمُ.
* * *
وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأه : (2) " فيه آياتٌ بيناتٌ " ، على الجماع ، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
* * *
وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل : " مقام إبراهيم " ، فقد ذكرناهُ في " سورة البقرة " ، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك ، وأنه عندنا المقامُ المعروف به. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فيه آيات بينات " ، وهو هنا يذكر قول مجاهد في قراءة ابن عباس على الإفراد ، فكتبها الناسخ على قراءته بالجمع. ورددتها إلى ما ينبغي ، ودليل ذلك السهو من الناسخ في الأثر التالي.
(2) في المطبوعة : " من قرأ " . وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف 3 : 33 - 37.

(6/28)


فتأويل الآية إذًا : إن أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدًى للعالمين ، للَّذي ببكة ، فيه علاماتٌ بيناتٌ من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم ، منهن أثر قَدَم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قامَ عليه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : الخبرُ عن أنّ كل من جرّ في الجاهلية جريرةً ثم عاذَ بالبيت ، لم يكن بها مأخوذًا.
*ذكر من قال ذلك :
7454 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ومن دخله كان آمنا " ، وهذا كان في الجاهلية ، كان الرّجل لو جرّ كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى حَرَم الله ، لم يُتناول ولم يُطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، مَنْ سَرَق فيه قطع ، ومن زَنى فيه أقيمَ عليه الحدّ ، ومن قَتل فيه قُتل وعن قتادة : أن الحسن كان يقول : إنّ الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حدًّا في غير الحرم ، فلجأ إلى الحرم ، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحدّ.
* * *
*ورأى قتادةُ ما قاله الحسن.
7455 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " ومن دخله كان آمنًا " قال ، كان ذلك في الجاهلية.

(6/29)


فأما اليوم ، فإن سرق فيه أحدٌ قطع ، وإن قتل فيه قُتل ، ولو قدِر فيه على المشركين قتِلوا.
7456 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، حدثنا خصيف ، عن مجاهد في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : يؤخَذ ، فيخرج من الحرم ، ثم يقام عليه الحد. يقول : القتل.
7457 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حماد ، مثل قول مجاهد.
7458 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا هشام ، عن الحسن وعطاء في الرجل يصيب الحدّ ويلجأ إلى الحرم يُخرج من الحرم ، فيقامُ عليه الحد.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على قول هؤلاء : فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم ، والذي دخله من الناس كان آمنًا بها في الجاهلية.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن يَدْخله يكن آمنًا بها بمعنى الجزاء ، كنحو قول القائل. " من قامَ لي أكرمته " ، بمعنى : من يَقم لي أكرمه. وقالوا : هذا أمرٌ كان في الجاهلية ، كان الحرمُ مَفزَع كل خائف. وملجأ كل جانٍ ، لأنه لم يكن يُهاج به ذو جريرة ، ولا يَعرِض الرّجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا : وكذلك هو في الإسلام ، لأن الإسلام زادَه تعظيمًا وتكريمًا.
*ذكر من قال ذلك :
7459 - حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف قال ، حدثنا مجاهد قال ، قال ابن عباس : إذا أصاب الرجل الحدَّ : قتل أو سرق ، فدخل الحرم ، لم يُبايع ولم يُؤوَ ، حتى يتبرّم فيخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد. قال. فقلت لابن عباس : ولكني لا أرَى

(6/30)


ذلك! أرى أن يؤخذ برمُتّه ، (1) ثم يخرج من الحرَم ، فيقام عليه الحد ، فإن الحرم لا يزيده إلا شدّة.
7460 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا عبد الملك ، عن عطاء قال : أخذَ ابن الزبير سعدًا مولى معاوية - وكان في قلعة بالطائف - فأرسل إلى ابن عباس من يُشاوره فيهم : إنهم لنا عَدوّ. (2) فأرسل إليه ابن عباس : لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال : فأرسل إليه ابن الزبير : ألا نخرجهم من الحرم ؟ قال : فأرسل إليه ابن عباس : أفلا قبل أن تدخلهم الحرم ؟ زاد أبو السائب في حديثه : فأخرجهم فصلبهم ، ولم ينظر إلى قول ابن عباس. (3)
7461 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : من أحدَثَ حَدَثًا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم لم يُعرَض له ، ولم يبايع ، ولم يكلَّم ، ولم يؤوَ حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم ، أخذ فأقيم عليه الحد. قال : ومن أحدث في الحرم حدَثًا أقيم عليه. (4)
__________
(1) الرمة (بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة) : قطعة حبل يشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القتل للقود. وقوله : أخذ برمته (بالبناء للمجهول) : أي أخذ قسرًا حتى يقتل.
(2) في المطبوعة " لنا عين " ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة : " لنا عرق " ، ولم أجد لها وجهًا ، وهي مصحفة ، فرأيت أن أقرب ذلك إليها " عدو " فأثبتها ، مع مخافتي أن لا تكون كذلك.
(3) في المطبوعة : " ولم يصغ إلى قول ابن عباس " ، وفي المخطوطة " لم ينطق إلى قول ابن عباس " وهي لا معنى لها ، وهي مصحفة ، وأقرب ما يكون صوابها ، هو ما أثبته.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان بعد الجهد ، وقد أشاروا إلى خبر ابن عباس وابن الزبير في كثير من الكتب ، ولكنهم لم يأتوا فيه بهذا النص. وقد روى الأزرقي في أخبار مكة 2 : 111 معنى هذا الأثر فقال : " حدثنا أبو الوليد ، قال حدثني جدي ، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن عطاء : أنكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعدًا مولى عتبة وأصحابه ... " ولم يقل " مولى معاوية " . وأخشى أن يكون " مولى عتبة " ، يعني : عتبة بن أبي سفيان. وقد ذكر الطبري سعدًا مولى معاوية في تاريخه 6 : 183 ، 184 فقال : " وكان على حجابه سعد مولاه " . وهذا يحتاج إلى تحقيق لم يتيسر لي عند كتابة هذا. فأرجو أن أبلغ منه ما أريد إن شاء الله.
(4) في المطبوعة : " أقيم عليه الحد " ، زاد " الحد " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب.

(6/31)


7462 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نَصر السّلمي ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدَثًا ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج. فإذا خَرَج أقاموا عليه الحدّ. (1)
7463 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حجاج ، عن عطاء عن ابن عمر قال : لو وجدتُ قاتل عمر في الحرَم ، ما هِجْتُه.
7464 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا ليث ، عن عطاء : أن الوليد بن عتبة أراد أن يُقيم الحدّ في الحرم ، فقال له عُبيد بن عمير : لا تقم عليه الحد في الحرَم إلا أن يكون أصابه فيه.
7465 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا مطرف ، عن عامر قال : إذا أصاب الحدّ ثم هرب إلى الحرم ، فقد أمن فإذا أصابه في الحرم ، أقيم عليه الحدُّ في الحرم.
7466 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبي قال : من أصاب حدًّا في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجًا من الحرم ثم دخل الحرم ، لم يكلَّم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه.
7467 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير وعن عبد الملك ، عن عطاء بن أبي رباح في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : لا يبيعه أهلُ مكة ولا يشترون منه ، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه عد أشياء كثيرة حتى
__________
(1) الأثر : 7426 - " إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي " هو التبان ، مضى في مثل هذا الإسناد رقم : 3439 ، 3484 ، 3521. " وابن أبي حبيبة " ، هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي. مضى فيها وفي رقم : 4319.

(6/32)


يخرج من الحرَم ، فيؤخذ بذنبه.
7468 - حدثت عن عمار قال ، : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنّ الرجل إذا أصاب حدًّا ثم دخل الحرم ، أنه لا يُطعَم ، ولا يُسقى ، ولا يؤوَى ، ولا يكلَّم ، ولا ينكح ، ولا يبايع. فإذَا خرج منه أقيم عليه الحد.
7469 - حدثني المثني قال ، حدثني حجاج قال ، : حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إذا أحدث الرجل حدَثًا ثم دخل الحرم ، لم يؤْوَ ، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعَم ، ولم يُسْق ، حتى يخرج من الحرَم.
7470 - حدثني المثني قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
7471 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " ومن دخله كان آمنًا " ، فلو أنّ رجلا قتلَ رجلا ثم أتى الكعبة فعاذّ بها ، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدًا أن يقتله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن دخله يَكن آمنًا من النار.
*ذكر من قال ذلك :
7472 - حدثنا علي بن مسلم قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال ، حدثنا زياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جعدة في قوله : " ومن دخله كان آمنًا " قال ، آمنًا من النار. (1)
* * *
__________
(1) الخبر : 7472 - هذا أثر ليس بحجة في نفسه على أحد. هو قول في معنى الآية قاله تابعي ، رأي من الآراء. فإن يحيى بن جعدة بن هبيرة القرشي المخزومي : تابعي ثقة. ولكنه في هذا الخبر لم يرو شيئًا عن غيره. إنما المشكل هنا رجال الإسناد!
رزيق بن مسلم المخزومي : هكذا ثبت هنا في المطبوعة والمخطوطة ، ولكن المخطوطة لم تنقط فيها الزاي ، فاحتمل أن يكون " رزيق " بتقديم الراء ، أو " زريق " بتقديم الزاي. ووقع في ابن كثير 2 : 193 ، نقلا عن إسناد هذا الأثر من تفسير ابن أبي حاتم " زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم " - بتقديم الزاي. وليست مطبوعة ابن كثير بعمدة في التصحيح.
ولم أجد لهذا الرجل ترجمة بعد طول البحث والعناء. إلا أن الحافظ الذهبي فرق في المشتبه ، ص : 220 - 224 بين تقديم الراء وتأخيرها في هذا الرسم ، مستوعبًا كل الأعلام فيه أو يكاد. وتبعه الحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط). وزاد عليه ما فاته. فقال الذهبي - في تقديم الراء - : " ورزيق بن هشام ، عن زياد بن أبي عياش " . ثم ذكر آخر ، ثم قال : " ورزيق الأعمى ، عن أبي هريرة. واه " . وهذا الواهي مترجم بإيجاز في لسان الميزان. ولم أستطع الجزم بأن هذين أو أحدهما هو المذكور في هذا الإسناد. فإن اتفاق روايتي الطبري وابن أبي حاتم على تسميته " رزيق بن مسلم " - يبعد معه الظن بتحريفه عن " رزيق بن هشام " . ولكن اتفاق اسم شيخه عند ابن أبي حاتم مع ما ذكره الذهبي يكاد يرجح أنه هو.
وأما ترجيح أنه بتقديم الراء ، خلافًا لما ثبت في مطبوعة ابن كثير ، فمرده إلى ارتفاع الثقة بتصحيحها.
وشيخه " زياد بن أبي عياش " : لم أجد له ترجمة أيضًا ، إلا ذكره في المشتبه والتحرير. وثبت في مطبوعة الطبري هنا " زياد بن أبي عياض " ، بالضاد. وهو تحريف ، صوابه ما في ابن كثير عن إسناد ابن أبي حاتم. وكذلك ثبت في مخطوطة الطبري ، ولكن بدون نقط على الشين ، كأنه " عباس " . وهو خطأ واضح ، أو تساهل في إعجام الحرف. ورجح إعجامه ثبوته بالشين معجمة في المشتبه والتحرير. وزادنا توثيقًا الحافظ حين نص عليه في تحرير المشتبه ، فقال فيما زاده على الذهبي استكمالا لمن عرف باسم " عياش " - : " وزياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جعدة " .

(6/33)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن ، ومن قال : " معنى ذلك : ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به ، كان آمنًا ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد ، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه. وإن كان أصابه فيه أقيمَ عليه فيه " .
* * *
فتأويل الآية إذا : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن يدخله من الناس مستجيرًا به ، يكن آمنًا مما استجارَ منه ما كان فيه ، حتى يخرج منه.
* * *
فإن قال قائل : وما منعك من إقامة الحد عليه فيه ؟
قيل : لاتفاق جميع السلف على أنّ من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به ،

(6/34)


فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها.
فقال بعضهم : صفة ذلك : منعه المعانىَ التي يضطرّ مع منعه وفقدِه إلى الخروج منه.
وقال آخرون : لا صفة لذلك غيرُ إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي تُوصِّل إلى إقامة حدّ الله معها.
فلذلك قلنا : غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحدّ فيه ، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقامُ عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مُجمَع على حكمهما على ما وصفنا.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما دِلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرًا به من جريرة جرّها. أو من حدٍّ أصابه من الحرم ، جائزٌ لإقامة الحد عليه ، وأخذه بالجريرة ، وقد أقررتَ بأن الله عز وجل قد جَعل من دخله آمنًا ، ومعنى " الآمن " غير معنى " الخائف " ؟ فبما هما فيه مختلفان ؟ (1) .
قيل : قلنا ذلك ، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة ، على أنّ إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشةٍ أتاها وجبتْ عليه بها عقوبة منه ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه ، واجبٌ على إمام المسلمين وأهلِ الإسلام معه. (2)
وإنما اختلفوا في السبب الذي يُخرَج به منه.
فقال بعضهم : السبب الذي يَجوز إخراجه به منه : ترك جميع المسلمين مبايَعته وإطعامَه وسقيه وإيواءَه وكلامه ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قَرار للعائذ به
__________
(1) في المطبوعة : " فيما هما فيه مختلفان " ، وفي المخطوطة " فيما " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبته ، على الاستفهام. يقول : فيم يختلف معنى الآمن ومعنى الخائف في الحرم ؟
(2) سياق هذه الجملة : " ... على أن إخراج العائذ به...ببعض معاني الإخراج. . واجب على إمام المسلمين... " .

(6/35)


فيه مع بعضها ، فكيف مع جميعها ؟
وقال آخرون منهم : بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة ، واجبٌ بكل معاني الإخراج.
فلما كان إجماعًا من الجميع على أنّ حكم الله - فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها - إخراجه منه ، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه ، ثم اختلفوا في السبب الذي يَجوز إخراجُه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه ، حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجًا منه إذا كان لجأ إليه من خارج ، على ما قد بينا قبل.
* * *
وبعدُ ، فإن الله عز وجل لم يضع حدًّا من حُدُوده عن أحد من خلقه من أجل بُقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك ، . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
7473 - " إني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة " . (1)
* * *
ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذًا لو عَاذَ من عقوبة لزمته بحرَم النبي صلى الله عليه وسلم ، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أنّ حرَم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذَ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه ، لكان أحقّ البقاع أن تؤدَّى فيه فرائض الله التي ألزمها عبادَه من قتل أو غيره ، أعظم البقاع إلى الله ، كحرم الله وحرَم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حَرَم الله لإقامة الحد ، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً.
* * *
__________
(1) الأثر : 7473 - رواه أبو جعفر بغير إسناد ، وهو حديث صحيح ، ولفظه في مسلم : 9 : 134 والبخاري (الفتح 4 : 290).

(6/36)


فمعنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : ومن دخله كان آمنًا ما كان فيه. فإذ كان ذلك كذلك ، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذًا به ، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه ، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه ، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وفرضٌ واجبٌ لله على من استطاع من أهل التكليف السبيلَ إلى حجّ بيته الحرام الحج إليه.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى " الحج " ، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل : " من استطاع إليه سبيلا " ، وما السبيل التي يجبُ مع استطاعتها فرض الحج ؟
فقال بعضهم : هي الزّاد والراحلة.
*ذكر من قال ذلك :
7474 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " من استطاع إليه سبيلا " قال ، الزاد والراحلة.
7475 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن
__________
(1) انظر ما سلف 3 : 228 ، 229 / 4 : 21.

(6/37)


جريج قال ، قال عمرو بن دينار : الزاد والراحلة.
7476 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن أبي جناب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والبعير. (1)
7477 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، والسبيل ، أن يصحّ بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحف به.
7478 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، حدثنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي عبد الله البجلي قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال قال ابن عباس : من ملك ثلثمائة درهم فهو السبيل إليه.
7479 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن إسحاق بن عثمان قال : سمعت عطاء يقول : السبيلُ ، الزاد والراحلة.
7480 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " من استطاع إليه سبيلا " ، فإن ابن عباس قال : السبيلُ ، راحلةٌ وزادٌ.
7481 - حدثني المثني وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والراحلة.
__________
(1) الأثر : 7476 - " أبو جناب الكلبي " . هو " يحيى بن أبي حية " ، واسم " أبي حية " حي. روي عن أبيه ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والضحاك بن مزاحم ، والحسن البصري وغيرهم. روى عنه الثوري ، وابن عيينة ، وهشيم ، ووكيع وغيرهم. فتكلم فيه لأنه كان يدلس فأفسد أحاديثه ، كان يحدث بما لم يسمع. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " أبو خباب " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة : " أبو خباب " غير منقوطة.

(6/38)


7482 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، أخبرنا الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، قال : الزادُ والراحلة.
7483 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحسن قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا " ، فقال رجلٌ : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك.
*ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
7484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث ، عن ابن عمر قال : قام رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " . (1)
__________
(1) الحديث : 7484 - إبراهيم بن يزيد المكي الخوزي : ضعيف جدًا. ضعفه أحمد ، وابن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهم.
" الخوزي " بضم الخاء المعجمة : نسبة إلى " شعب الخوز بمكة " ، كما في اللباب وغيره.
محمد بن عباد بن جعفر المخزومي المكي : تابعي ثقة.
والحديث جزء من حديث مطول ، رواه الترمذي 4 : 81 - 82 ، عن عبد بن حميد ، عن عبد الرزاق ، بهذا الإسناد. وقال : " هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي. وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه " .
ورواه قبل ذلك 2 : 79 ، مختصرًا ، من طريق وكيع ، عن إبراهيم بن يزيد ، بهذا الإسناد. وقال : " هذا حديث حسن " . ثم ذكر علته بإبراهيم الخوزي.
ورواه الشافعي في الأم 2 : 99 - مطولا - عن سعيد بن سالم ، عن إبراهيم الخوزي. وأشار إلى ضعف إسناده. ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 330.
ورواه ابن ماجه : 2896 - مطولا أيضا - من طريق وكيع ، عن إبراهيم الخوزي. وسيأتي عقب هذا ، من رواية أبي حذيفة ، عن سفيان ، وهو الثوري ، عن إبراهيم الخوزي.
وكذلك رواه البيهقي 4 : 327 ، من طريق ثلاثة أحدهم أبو حذيفة ، عن سفيان.
وذكره السيوطي 2 : 55 - 56 ، مطولا ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه.
وذكره ابن كثير 2 : 195 - 196 ، من رواية الترمذي المطولة. ثم أشار إلى روايته الأخرى ، وإلى رواية ابن ماجه. ثم قال : " لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات ، سوى الخوزي هذا ، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث. لكن قد تابعه غيره " . ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عبد العزيز بن عبد الله العامري ، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عمر - بهذا الحديث نحوه ، مختصرًا. ثم كر أنه " رواه ابن مردويه ، من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير ، به " .
وهذا الإسناد الآخر الذي نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه - ضعيف أيضا :
محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي : ضعيف جدا. قال البخاري في الكبير 1 / 1 / 142 : " ليس بذاك الثقة " . وروى ابن أبي حاتم 3 / 2 / 300 عن ابن معين قال : " ليس حديثه بشيء " . وقال النسائي في الضعفاء ، ص 26 : " متروك الحديث " . وانظر ترجمته في لسان الميزان 5 : 216 - 217.
وانظر الأحاديث الآتية : 7485 - 7491.
وانظر أيضا قول الطبري ، الآتي ، ص : 45 ، " أنها أخبار في أسانيدها نظر ، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين " .

(6/39)


7485 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الخوزي ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : السبيل إلى الحج ، الزاد والراحلة. (1)
7486 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا يونس وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس عن الحسن قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال. " الزادُ والراحلة. (2)
__________
(1) الحديث : 7485 - أبو حذيفة : هو النهدي البصري ، موسى بن مسعود. وقد مضى توثيقه : 280 ، 1693.
سفيان : هو الثوري.
والحديث مكرر ما قبله. وقد بينا هناك أن البيهقي رواه 4 : 327 ، من طريق أبي حذيفة - هذا - وغيره ، عن الثوري.
(2) الحديث : 7486 - هذا حديث مرسل عن الحسن البصري.
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين من طريق يونس ، عن الحسن.
وسيأتي : 7488 ، 7491 ، من رواية قتادة ، عن الحسن.
ثم : 7490 ، من رواية قتادة وحميد ، عن الحسن.
ورواه البيهقي 4 : 327 ، 330 ، بأسانيد ، عن الحسن.
وذكره ابن كثير 2 : 196 ، من رواية الطبري عن يعقوب ، التي هنا - ثم قال : " ورواه وكيع في تفسيره ، عن سفيان ، عن يونس ، به " .
وذكره السيوطي 2 : 56 ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والدارقطني. ونسي أن ينسبه لوكيع.
ونقل الحافظ في التلخيص ، ص : 202 ، عن أبي بكر بن المنذر ، قال : " لا يثبت الحديث في ذلك مسندًا. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة " . يريد أن أسانيدها إلى الحسن أسانيد صحاح ، لا أن الحديث المرسل صحيح ، لأنه لا شك في ضعف الأحاديث المراسيل.

(6/40)


7487 - حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثني بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى بيت الله فلم يحجّ فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا ، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه : " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا " الآية. (1)
7488 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) الحديث : 7487 - مسلم بن إبراهيم : هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. مضى في : 1219. هلال بن عبد الله ، أبو هاشم ، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي : ضعيف جدًا. قال البخاري " منكر الحديث " . وقال الترمذي : " مجهول " . ولم يذكروا له رواية إلا هذا الحديث. ولذلك أشار إليه المزي في التهذيب ، والذهبي في الميزان. وقال ابن عدي : " هو معروف بهذا الحديث ، وليس هو بمحفوظ " .
ووقع اسم أبيه في المطبوعة " عبيد الله " . وهو خطأ ، صوابه " عبد الله " بالتكبير.
أبو إسحاق : هو السبيعي الهمداني.
الحارث : هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدًا ، كما بينا في : 174.
والحديث رواه الترمذي 2 : 78 ، عن محمد بن يحيى القطعي ، عن مسلم بن إبراهيم ، بهذا الإسناد. وقال : " هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال. وهلال بن عبد الله : مجهول. والحارث : يضعف في الحديث " .
وسيأتي هذا الحديث : 7489 ، من رواية شاذ بن فياض ، عن هلال أبي هاشم ، بهذا
الإسناد.
وقد ذكره ابن كثير 2 : 197 ، من رواية ابن مردويه ، من الوجهين اللذين رواه منهما الطبري : من رواية مسلم بن إبراهيم ، وشاذ بن فياض.
ونقل عن ابن عدي قال : هذا الحديث ليس بمحفوظ " .

(6/41)


عن الحسن قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل ، أو رجل : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : من وجد زادًا وراحلةً.
7489 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال ، حدثنا هلال أبو هاشم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك زادًا وراحلة فلم يحجّ ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أن الله يقول في كتابه : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " الآية. (1)
7490 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة وحميد ، عن الحسن ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : الزاد والراحلة.
7491 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا
__________
(1) الحديث : 7489 - أحمد بن الحسن بن جنيدب ، أبو الحسن الترمذي ، الحافظ العلم الرحال : ثقة من أصحاب أحمد بن حنبل ، ومن شيوخ البخاري والترمذي. مترجم في التهذيب وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1 : 37 - 38 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 106 - 107.
" جنيدب " : بضم الجيم وفتح النون ، وبعد الدال المهملة باء موحدة. ووقع في تذكرة الحفاظ " جنيد " بحذف الباء ، وهو خطأ طابع أو ناسخ ، وثبت على الصواب في التهذيب ، وأصله " تهذيب الكمال " مخطوط ، والتقريب ، والخلاصة.
شاذ بن فياض اليشكري ، أبو عبيدة البصري : ثقة ، وثقه أبو حاتم وغيره. وتكلم فيه بعضهم بغير حجة. واسمه " هلال بن فياض " ، و " شاذ " : لقب غلب عليه. وقد ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 211 ، والصغير ، ص : 238 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 78 - في اسم " هلال " .
هلال أبو هاشم : هو " هلال بن عبد الله ، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي " - كما بينا في : 7487. وثبت هنا في المطبوعة " هلال بن هشام " . وهو خطأ واضح.
والحديث مكرر : 7487 ، وقد أشرنا إليه هناك. وذكر ابن كثير 2 : 197 ، أن ابن أبي حاتم رواه " عن أبي زرعة الرازي ، حدثنا هلال بن الفياض ، حدثنا هلال أبو هاشم ... " - إلخ "

(6/42)


حماد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله.
* * *
وقال آخرون : السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج : الطاقةُ للوصول إليه. قالوا : (1) وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب ، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه : بامتناع الطريق من العدوّ الحائل ، وبقلة الماء ، وما أشبه ذلك. قالوا : فلا بيان في ذلك أبين مما بيَّنه الله عز وجل ، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل ، وذلك : الوصولُ إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه ، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإنْ أعوزَه المركب ، وقد يكون بالمركب وغير ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
7492 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن خالد بن أبي كريمة ، عن رجل ، عن ابن الزبير قوله : " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا " قال : على قدر القوة.
7493 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، قال : الزاد والراحلة ، فإن كان شابًّا صحيحًا ليس له مال ، فعليه أن يُؤاجر نفسه بأكله وغُفَّته حتى يقضي حجته به ، (2) فقال له قائل : كلَّف الله الناسَ أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو أنّ لبعضهم ميراثًا بمكة ، أكان تاركَه ؟ والله لانطلق إليه ولو حَبوًا!! كذلك يجبُ عليه الحج.
7494 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " قال " ، والسياق بعد يقتضي ما أثبت.
(2) في المطبوعة : " بأكله وعقبه حتى يقضي حجته " ، وليس فيها " به " ، وهي في المخطوطة ، ومثل هذا في تفسير القرطبي 4 : 148 ، إلا أنه قال : " بأكله أو عقبه " ، ولم أجد لذلك معنى. وهي في المخطوطة " وعفته " غير منقوطة ، فاستظهرت قراءتها " وغفته " . والغفة (بضم الغين ، وتشديد الفاء المفتوحة) : البلغة من العيش والقليل منه. وهي هنا أنسب معنى ، فأثبتها كذلك.

(6/43)


جريج قال ، قال عطاء : من وجد شيئًا يبلِّغه ، فقد وَجد سبيلا كما قال الله عز وجل : . " من استطاع إليه سبيلا " .
7495 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هانئ قال ، سئل عامر عن هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ؟ قال : السبيلُ ، ما يسَّره الله. (1)
7496 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن : من وجد شيئًا يُبْلغه فقد استطاع إليه سبيلا.
* * *
وقال آخرون : السبيلُ إلى ذلك : الصحةُ.
*ذكر من قال ذلك :
7497 - حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثني بن إبراهيم قالوا ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال ، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري : أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : السبيلُ الصحةُ.
* * *
وقال آخرون بما : -
7498 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : من وجد قُوّة في النفقة والجسد والحُمْلان. (2) قال : وإن كان في جَسده ما لا يستطيع
__________
(1) الأثر : 7495 - " أبو هانئ " ، هو : " عمر بن بشير أبو هانئ الهمداني " . مضت ترجمته رقم : 4422 ، و " عامر " هو : عامر الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا شيء عجيب ، كان " قال حدثنا أبو هانئ ، قال حدثنا سهل بن عامر " ، زاد " حدثنا " وجعل " سئل " ، " سهل " وزاد بعدها " بن " ، فكان خلطًا عجبًا. وسيأتي على الصواب برقم : 7516.
(2) الحملان (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب.

(6/44)


الحج ، فليس عليه الحج ، وإن كان له قوة في مال ، كما إذا كان صحيحَ الجسد ولا يجد مالا ولا قوة ، يقولون : لا يكلف أن يَمشي.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قولُ من قال بقول ابن الزبير وعطاء : إنّ ذلك على قدر الطاقة. لأن " السبيل " في كلام العرب : الطريقُ ، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانعَ له منه من زَمانة ، أو عَجز ، أو عدوّ ، أو قلة ماء في طريقه ، أو زاد ، أو ضعف عن المشي ، فعليه فرضُ الحج ، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدًا سبيلا أعني بذلك : فإن لم يكن مطيقًا الحجَّ ، بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه فهو ممن لا يجدُ إليه طريقًا ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك ، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك ، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيلَ.
وإنما قلنا : هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها ، لأن الله عز وجل لم يخصُص ، إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج ، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية.
فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه : " الزاد والراحلة " ، فإنها أخبار : في أسانيدها نظر ، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدّين.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة " الحج " .
فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ ).
* * *
وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ ).
* * *

(6/45)


وهما لغتان معروفتان للعرب ، فالكسر لغة أهل نجد ، والفتح لغة أهل العالية. ولم نر أحدًا من أهل العربية ادّعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره ، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين ؛ إلا ما : -
7499 - حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال ، قال حسين الجعفي " الحَج " . مفتوح ، اسم ، " والحِج " مكسورٌ ، عمل. (1)
* * *
وهذا قول لم أرَ أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه ، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت ، من أنهما لغتان بمعنى واحد.
* * *
والذي نقول به في قراءة ذلك : أنّ القراءتين إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام ، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره فهما قراءتان قد جاءتا مجيءَ الحجة ، فبأي القراءتين - أعني : بكسر " الحاء " من " الحج " أو فتحها - قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
* * *
وأما " مَنْ " التي مع قوله : " من استطاع " ، فإنه في موضع خفض على الإبدال من " الناس " . لأن معنى الكلام : ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حجّ البيت ، حَجُّه. فلما تقدم ذكر " الناس " قبل " مَنْ " ، بيَّن بقوله : " من استطاع إليه سبيلا " ، الذي عليه فرضُ ذلك منهم. لأن فرضَ ذلك على بعض الناس دون جميعهم.
* * *
__________
(1) الأثر : 7499 - " حسين الجعفي " هو : " حسين بن علي بن الوليد " ، سلفت ترجمته برقم : 29 ، 174 ، وفي المخطوطة والمطبوعة : " حسن الجعفي " ، وهو خطأ.

(6/46)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن جَحد ما ألزمه الله من فرض حَجّ بيته ، فأنكره وكفر به ، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعمله ، وعن سائر خَلقه من الجن والإنس ، كما :
7500 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن أبي المجالد قال ، سمعت مقسمًا ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كفر " ، قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه.
7501 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج ، عن عطاء وجويبر ، عن الضحاك في قوله : " ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين " ، قالا من جحد الحجّ وكفر به.
7502 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا هشيم ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء قال ، من جحد به.
7503 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا عمران القطان ، يقول : من زعم أن الحجّ ليس عليه. (1)
7504 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين " ، قال : من أنكره ، ولا يَرَى أن ذلك عليه حقًّا ، فذلك كُفرٌ.
7505 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالحج.
__________
(1) الأثر : 7503 - " عمران القطان " هو : " عمران بن داور العمي " أبو العوام القطان ، كان من أخص الناس بقتادة. روى عنه عبد الرحمن بن مهدي ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو عاصم.

(6/47)


7506 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : من كفر بالحج ، كفر بالله.
7507 - حدثني المثني قال ، حدثنا يعلى بن أسد قال ، حدثنا خالد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن في قول الله عز وجل : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومَنْ كفر " ، قال : من لم يره عليه واجبًا. (1)
7508 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن كفر " ، قال : بالحج.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " أن لا يكون معتقِدًا في حجه أن له الأجرَ عليه ، ولا أن عليه بتركه إثمًا ولا عقوبةً " .
*ذكر من قال ذلك :
7509 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، حدثني عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد في قوله : " ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين " ، قال : هُو ما إن حجّ لم يره برًّا ، وإن قعد لم يره مأثمًا.
7510 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : هو ما إنْ حجّ لم يره برًّا ، وإن قعد لم يره مأثمًا.
7511 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا فِطْر ، عن أبي داود نفيع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين "
__________
(1) الأثر : 7507 - " خالد " ، هو " خالد بن الحارث الهجيمي " . روي عن حميد الطويل وأيوب ، وابن عون ، وهشام بن حسان ، وغيرهم. وروى عنه أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، والفلاس وغيرهم.

(6/48)


فقام رجل من هذيل ، فقال : يا رسول الله ، من تركه كفر ؟ قال : من تركه ولا يخاف عقوبته ، ومن حجّ ولا يرجو ثوابه ، فهو ذاك. (1)
7512 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، يقول : من كفر بالحج ، فلم يَر حجه برًّا ، ولا تركه مأثمًا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بالله واليوم الآخر.
*ذكر من قال ذلك :
7513 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : سألته عن قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، ما هذا الكفر ؟ قال : من كفر بالله واليوم الآخر.
7514 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالله واليوم الآخر.
7515 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، قال : لما نزلت آية الحج ، جَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان كلَّهم فقال : يا أيها الناس ، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا ، فآمنتْ به ملة
__________
(1) الأثر : 7511 - " أبو داود ، نفيع " ، هو : " نفيع بن الحارث ، أبو داود الأعمى الهمداني القاص " . روي عن عمران بن حصين ومعقل بن يسار وابن عباس وابن عمر. روى عنه أبو إسحاق والأعمش والثوري. قال أبو حاتم : " منكر الحديث ضعيف الحديث " . وقال النسائي : " ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه " . وقال ابن حبان : " يروى عن الثقات الموضوعات توهمًا ، لا يجوز الاحتجاج به " وقال ابن عبد البر : " أجمعوا على ضعفه ، وكذبه بعضهم ، وأجمعوا على ترك الرواية عنه " . مترجم في التهذيب. و " فطر " هو " فطر بن خليفة " مضى مرارًا. وكان في المطبوعة : " مطر " ، والصواب من المخطوطة.

(6/49)


واحدة ، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وآمن به ، وكفرَتْ به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نستقبله. فأنزل الله عز وجل : " ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين " .
7516 - حدثني أحمد بن حازم قال ، أخبرنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هانئ قال ، سئل عامر عن قوله : " ومن كفر " ، قال : من كفر من الخلق ، فإن الله غنيّ عنه. (1)
7517 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا سفيان ، عن إبراهيم ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قول الله : " ومن كفر " ، قال : من كفر بالله واليوم الآخر.
7518 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عنْ ابن أبي نجيح ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا ) [سورة آل عمران : 85] ، فقالت الملل : نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل : " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، فحج المؤمنون ، وقعد الكفار. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك :
7519 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، فقرأ : " إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا " ، فقرأ حتى بلغ : " من استطاع إليه سبيلا ومن كفر " ، قال : من كفر بهذه الآيات " فإن الله غني عن العالمين " ، ليس كما يقولون : " إذا
__________
(1) الأثر : 7516 - انظر إسناد الأثر السالف رقم : 7495 والتعليق عليه.
(2) الأثر : 7518 - مضى برقم : 7356.

(6/50)


لم يحج وكان غنيًّا وكانت له قوة " ، فقد كفر بها. (1) وقال قوم من المشركين : فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل : " فإن الله غني عن العالمين " .
* * *
وقال آخرون بما : -
7520 - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال ، أخبرنا أبو عمر الضرير قال ، حدثنا حماد ، عن حبيب بن أبي بقية ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال : من كفر بالبيت. (2)
* * *
وقال آخرون : كفره به : تركه إياه حتى يموت.
*ذكر من قال ذلك :
7521 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " من كفر " ، فمن وجدَ ما يحج به ثم لا يحجَّ ، فهو كافر.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قولُ من قال : " معنى " ومن كفر " ، ومن جحد فرضَ ذلك وأنكرَ وُجوبه ، فإن الله غني عنه وعن حَجه وعن العالمين جميعًا " .
وإنما قلنا ذلك أولى به ، لأن قوله : " ومن كفر " بعقب قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، بأن يكون خبرًا عن الكافر بالحج ، أحقُّ منه بأن يكون خبرًا عن غيره ، مع أنّ الكافر بفرض الحج على مَن فرضه
__________
(1) قوله : " فقد كفر بها " ، أي بهذه الآيات المذكورة في الآية.
(2) الأثر : 7520 - " إبراهيم بن عبد الله بن مسلم " ، ، و " أبو عمر الضرير " وهو : " حفص بن عمر البصري " مضت ترجمتهما برقم : 3562 ، و " حماد " ، هو " حماد بن سلمة " . وأما " حبيب بن أبي بقية " ويقال : " حبيب بن أبي قريبة " فهو : " حبيب المعلم " أبو محمد البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة : " ثقة " ، وقال أحمد : " ما أحتج بحديثه " . مترجم في التهذيب.

(6/51)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)

الله عليه ، بالله كافر وأن " الكفر " أصله الجحود ، ومن كان له جاحدًا ولفرضه منكرًا ، فلا شك إن حج لم يرجُ بحجه برًّا ، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثمًا. فهذه التأويلات ، وإن اختلفت العبارات بها ، فمتقاربات المعاني.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنزلَ الله عز وجل من كتبه ، ممن كفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوَّته : " لم تكفرون بآيات الله " ، يقول : لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته. (1) وأنتم تعلمون : يقول : لم تجحدون ذلك من أمره ، وأنتم تعلمون صدقه ؟ (2) فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم ، ومعرفةٍ من كفرهم ، وقد :
7522 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " ، أما " آيات الله " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
7523 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون " ، قال : هم اليهودُ والنصارى.
* * *
__________
(1) هذه العبارة ، هي هي في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا في شك منها ، وإن كانت قريبة من الاستقامة على بعض وجه الكلام.
(2) ظاهر أن أبا جعفر وهم ، وترك تفسير بقية هذه الآية ، وفسر مكانها " وأنتم تعلمون " ، وهي ليست من هذه الآية في شيء.

(6/52)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله : " لم تصدُّون عن سبيل الله " ، يقول : لم تضِلُّون عن طريق الله ومحجَّته التي شرَعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان (1) " من آمن " ، يقول : من صدّق بالله ورَسوله وما جاء به من عند الله " تبغونها عوجًا " ، يعني : تبغون لها عوجًا.
* * *
" والهاء والألف " اللتان في قوله : " تبغونها " عائدتان على " السبيل " ، وأنثها لتأنيث " السبيل " .
* * *
ومعنى قوله : " تبغون لها عوجًا " ، من قول الشاعر ، وهو سحيم عبدُ بني الحسحاس
بَغَاك ، وَمَا تَبْغِيهِ حَتَّى وَجَدْتَهُ ... كأَنِّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (2)
يعني : طلبك وما تطلبه. (3) يقال : " ابغني كذا " ، يراد : ابتغه لي. فإذا أرادوا أعِنِّي على طلبه وابتغه معي قالوا : " أبغني " بفتح الألف. وكذلك يقال : " احلُبْني " ، بمعنى : اكفني الحلب - " وأحلبني " أعني عليه. وكذلك جميع ما وَرَد من هذا النوع ، فعلى هذا. (4)
* * *
وأما " العِوَج " فهو الأوَد والميْل. وإنما يعني بذلك : الضلال عن الهدى.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الصد " فيما سلف 4 : 300.
(2) سلف تخريجه في 4 : 163 ، تعليق : 2.
(3) انظر تفسير " بغى " فيما سلف 3 : 508 / 4 : 163 / 6 : 196 ، 564 ، 570.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 227 ، 228.

(6/53)


يقول جل ثناؤه : لم تصدُّون عن دين الله مَنْ صَدّق الله ورسوله تبغون دينَ الله اعوجاجًا عن سننه واستقامته ؟
وخرج الكلام على " السبيل " ، والمعنى لأهله. كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق ، عوجا يقول : ضلالا عن الحق ، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجَّة.
* * *
" والعِوج " بكسر أوله : الأوَد في الدين والكلام. " والعَوَج " بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم. (1)
* * *
وأما قوله : " وأنتم شهداء " . فإنه يعني : شهداء على أنّ الذي تصدّون عنه من السبيل حقٌّ ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم " وما الله بغافل عما تعملون " ، يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم ، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجَّلة ، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقَوْهُ فيجازيكم عليها.
* * *
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " والآياتُ بعدَهما إلى قوله : " فأولئك لهم عذاب عظيم " ، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيَّين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنَّفه الله بفعله ذلك ، وقبَّح له ما فعل ووبَّخه عليه ، ووعظ أيضًا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف ، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف.
*ذكر الرواية بذلك :
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1 : 98.

(6/54)


7524 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال ، حدثني الثقة ، عن زيد بن أسلم ، قال : مرّ شأسُ بن قيس وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية ، (1) عظيمَ الكفر ، شديد الضِّغن على المسلمين ، شديدَ الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جَماعتهم وألفتهم وصَلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع مَلأ بني قَيْلة بهذه البلاد! (2) لا والله ما لنا معهم ، إذا اجتمع ملأهم بها ، من قرار! (3) فأمر فَتى شابًّا من يهودَ وكان معه ، (4) فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، وذَكّرهم يَوْم بعاث وما كان قبله ، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار وكان يوم بُعَاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفرُ فيه للأوس على الخزرج ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا ، حتى تواثب رجُلان من الحيَّين على الرُّكَب : أوسُ بن قَيْظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبّار بن صخر ، أحد بني سَلمة من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رَدَدْناها الآن جَذَعَةً! (5) وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاحَ السلاحَ!! موعدُكم الظاهرة والظاهرةُ : الحَرَّة فخرجوا إليها. وتحاوز الناس. (6) فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ،
__________
(1) عسا الشيخ يعسو عسوا وعسيًا : كبر وأسن ، ويقال أيضًا في مثله " عتا " . وقوله : " في الجاهلية " ليست في نص ابن هشام عن ابن إسحاق.
(2) الملأ : الرؤساء وأشراف القوم ووجوههم ومقدموهم ، الذين يرجع إلى قولهم ورأيهم. وبنو قيلة : هم الأنصار من الأوس والخزرج ، وقيلة : اسم أم لهم قديمة ، هي قيلة بنت كاهل ، سموا بها.
(3) في المطبوعة : " والله مالنا " ، أسقط " لا " ، وهي في المخطوطة وابن هشام.
(4) في المطبوعة : " من اليهود " ، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام.
(5) ردها جذعة : أي جديدة كما بدأت. والجذع والجذعة : الصغير السن من الأنعام ، أول ما يستطاع ركوبه. يعني أعدناها شابة فتية.
(6) " تحاوز الناس " ، مثل " تحوز وتحيز وانحاز " ، أي تنحى ناحية وانضم إلى جماعته ، والذي يلي هذه الكلمة هو تفسيرها قوله : " فانضمت الأوس ... " وفي المطبوعة : " تحاور " بالراء ، ولا معنى لها هنا. والجملة كلها من أول قوله " وتحاوز ... " إلى " التي كانو عليها في الجاهلية " مما أسقطه ابن هشام من نص ابن إسحاق ، وليس في السيرة. ونص الطبري هنا أتم من نص ابن هشام في مواضع من هذا الأثر.

(6/55)


والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : " يا معشرَ المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألَّف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا ؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيدٌ من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكَوْا ، وعانقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا ، ثم انصرفوا مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدوِّ الله شَأس بن قيس وما صنع. فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع : " قل يا أهل الكتاب لم تكفرُون بآيات الله والله شهيدٌ على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " (1) الآية. وأنزل الله عز وجل في أوس بن قَيْظيّ وجبّار بن صخر ومَنْ كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية : (2) " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين " إلى قوله : " أولئك لهم عذابٌ عظيم " . (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة ، أسقط الناسخ " قل " من أول الآيتين سهوا منه.
(2) في المطبوعة : " مما أدخل عليهم ... " ، غيروا ما في المخطوطة ، وهو المطابق لنص ابن هشام. وقوله : " عما أدخل عليهم " ، أي بسبب ما أدخل عليهم ومن جرائه ومن أجله. و " عن " تأتي بهذا المعنى في كلامهم.
(3) الأثر : 7524 - سيرة ابن هشام 2 : 204 - 206 ، وهو بقية الآثار السالفة التي كان آخرها رقم : 7333 ، 7334.

(6/56)


وقيل : إنه عنى بقوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله " ، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات ، والنصارى وأن صدّهم عن سبيل الله كانَ بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم : هل يجدون ذكره في كتبهم ؟. أنهم لا يجدون نعتَه في كتبهم.
*ذكر من قال ذلك :
7525 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا " ، كانوا إذا سألهم أحدٌ : هل تجدون محمدًا ؟ قالوا : لا! فصدّوا عنه الناس ، وبغوْا محمدًا عوجًا : هلاكًا.
7526 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله " ، يقول : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله ، من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله : أن محمدًا رسول الله ، وأنّ الإسلام دين الله الذي لا يَقبل غيره ولا يجزى إلا به ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.
7527 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه.
7528 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله " ، قال : هم اليهودُ والنصارى ، نهاهم أنْ يصدّوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدِلوا الناسَ إلى الضلالة.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على ما قاله السدي : يا معشر اليهود ، لم

(6/57)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)

تصدّون عن محمد ، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به ، بكتمانكم صفتَه التي تجدونها في كتبكم ؟. و " محمد " على هذا القول : هو " السبيل " ، " تبغونَها عوجًا " ، تبغون محمدًا هلاكًا. وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك ، فإنه نحو التأويل الذي بيّناه قبل : من أن معنى " السبيل " التي ذكرها في هذا الموضع : الإسلام ، وما جاء به محمد من الحقّ من عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك.
فقال بعضهم : عنى بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، الأوس والخزرج ، وبـ " الذين أوتوا الكتاب " ، شأس بن قيس اليهودي ، على ما قد ذكرنا قبلُ من خبره عن زيد بن أسلم. (1)
* * *
وقال آخرون ، فيمن عُني بالذين آمنوا ، مثل قول زيد بن أسلم غير أنهم قالوا : الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى همّوا بالقتال ووجد اليهوديّ به مغمزًا فيهم : ثعلبة بن عَنَمة الأنصاري. (2)
*ذكر من قال ذلك :
7529 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا
__________
(1) هو الأثر السالف رقم : 7524.
(2) في المطبوعة : " بن غنمة " ، والصواب بالعين المهملة ، وهي في المخطوطة تحتها حرف " ع " ، وهو الصواب.

(6/58)


الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين " ، قال : نزلت في ثعلبة بن عَنمة الأنصاري ، (1) كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهوديٌّ من قَيْنُقاع ، فحمَل بعضَهم على بعضٍ ، (2) حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاحَ فيقاتلوا ، فأنزل الله عز وجل : " إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " ، يقول : إن حملتم السلاحَ فاقتتلتم ، كفرتم.
7530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب " ، قال : كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ودماء وشنَآنٌ ، حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال : فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان ، ومعهما يهوديّ جالسٌ ، فلم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم ، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال : فنادى هذا قومه وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصفَّ بعضهم لبعض. قال : ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ يومئذ بالمدينة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : " عذابٌ عظيم " .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل ، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به ، يُضِلُّوكم
__________
(1) انظر ص 58 تعليق 2.
(2) حمل بني فلان على بني فلان : إذا أرش بينهم وأوقع.

(6/59)


فيردّوكم بعد تصديقكم رسولَ ربكم ، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم ، كافرين يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدَّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جَلّ ثناؤه : أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيًا أو مشورةً ، ويعلِّمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوُون على غِلٍّ وغِش وحسد وبغض ، كما :
7531 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين " ، قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون ، وحذَّركم وأنبأكم بضلالتهم ، فلا تأتمنوهم على دينكم ، ولا تنتصحوهم على أنفسكم ، فإنهم الأعداءُ الحسَدَة الضُّلال. كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم ، وقتلوا رُسلهم ، وتحيَّروا في دينهم ، وعجزوا عَنْ أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التُّهَمة والعداوة!
7532 - حدثنا المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
* * *

(6/60)


وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وكيف تكفرون " ، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله ، فترتدّوا على أعقابكم " وأنتم تتلى عليكم آيات الله " ، يعني : حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وفيكم رسوله " حجةٌ أخرَى عليكم لله ، مع آي كتابه ، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد ، وينهاكم عن الغيّ والضلال ؟. يقول لهم تعالى ذكره : فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم ، وارتدادكم على أعقابكم ، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم ، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم ، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه ؟ كما : -
7533 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله " الآية ، علَمان بيِّنان : وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله ، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته.
* * *
وأما قوله : " ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم " ، فإنه يعني : ومن يتعلق بأسباب الله ، ويتمسَّك بدينه وطاعته " فقد هدى " ، يقول : فقد وُفِّق لطريق واضح ، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة ، فيستقيم به إلى رضى الله ، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته ، كما : -

(7/61)


7534 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " ومن يعتصم بالله فقد هدى " قال : يؤمن بالله.
* * *
وأصل " العَصْم " المنع ، فكل مانع شيئًا فهو " عاصمه " ، والممتنع به " معتصمٌ به " ، ومنه قول الفرزدق :
أَنَا ابنُ العَاصِمينَ بَنِي تَمِيم... إذَا مَا أَعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابَا (1)
ولذلك قيل للحبل " عِصام " ، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته " عِصام " ، ومنه قول الأعشى :
إلَى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى... وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصمْ (2)
يعني بـ " العُصم " الأسباب ، أسبابَ الذمة والأمان. يقال منه : " اعتصمت بحبل من فلان " و " اعتصمتَ حبلا منه " و " اعتصمت به واعتصمته " ، وأفصح اللغتين إدخال " الباء " ، كما قال عز وجل : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ) ، وقد جاء : " اعتصمته " ، كما الشاعر : (3)
إذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ... وَآسَيْتَنِي ، ثمَّ اعْتَصَمْتَ حِبَالِيَا (4)
__________
(1) ديوانه : 115 ، والنقائض : 451 ، مطلع قصيدة ينقض بها هجاء جرير.
(2) ديوانه : 29 من قصيدته في ثنائه على صاحبه قيس بن معد يكرب الكندي ، وقد مضت منها أبيات في 1 : 242 / 5 : 422. والسرى : سير الليل كله. والعصم جمع عصام ، وهكذا ضبط في شعره ، وجائز أن يضبط " عصم " (بكسر العين وفتح الصاد) جمع " عصمة " (بكسر العين وسكون الصاد) وكلاهما مجاز في معنى العهود. وقوله : " وآخذ من كل حي عصم " ، يعني أن سطوة قيس في الأحياء ، ورهبته في صدورهم ، تجعل له عند كل حي عهدًا يأخذه ليجوز به أرضهم آمنًا ، لا يمسه أحد ولا ينال منه. وسيأتي مثل هذا المعنى في بيت آخر يأتي بعد قليل ص : 70 ، تعليق : 3 .
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 228 ، وضبطه " ثم " هكذا ، وبقى جواب " إذا " في بيت بعده فيما أرجح. ولو قرأته " ثم " بفتح الثاء ، أي هناك ، كان جواب " إذا " ، " اعتصمت حباليا " . وتم البيت ، وانفرد عما بعده. ولكني لا أستطيع أن أرجح هذا حتى أعرف بقية الأبيات.

(7/62)


فقال : " اعتصمت حباليا " ، ولم يدخل " الباء " . وذلك نظير قولهم : " تناولت الخِطام ، وتناولت بالخطام " ، و " تعلَّقت به وتعلقته " ، كما قال الشاعر : (1)
تَعَلَّقَتْ هِنْدًا ناشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ... وَأَنْتَ وَقَدَ قَارَفْتَ ، لم تَدْرِ مَا الحِلْمُ (2)
* * *
وقد بينت معنى " الهدى " ، " والصراط " ، وأنه معنيّ به الإسلام ، فيما مضى قبل بشواهده ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحاوُز القبيلين (4) الأوس والخزرج ، كان منْ قوله : (5) " وكيف تكفرُون وأنتم تتلى عليكم آيات الله " .
*ذكر من قال ذلك :
7535 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حسن بن عطية قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغرّ بن الصبّاح ، عن خليفة بن حُصَين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس قال : كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر ، (6)
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن 1 : 228. يقال : " غلام ناشئ ، وجارية ناشئة " ، ولكنه وصف " هندًا " على التذكير فقال : " ناشئًا " ، وقد زعم الليث أنه لم يسمع هذا النعت في الجارية ، فكأن الشاعر وصفها به ، وأمره على التذكير. وقوله : " وقد قارفت " ، أي قاربت ودنوت من الكبر ، والجملة حال معترضة. يقول : تعلقها صغيرة لم تحجب بعد ، وبلغت ما بلغت ، ولم تدر بعد ما الحلم ، وهو الأناة والعقل ومفارقة الصبا وطيش الشباب.
(3) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف 1 : 166 - 170 ، وفهارس اللغة / وانظر تفسير " الصراط المستقيم " فيما سلف 1 : 170 - 177 وفهارس اللغة.
(4) في المطبوعة : " تحاور " ، وقد أسلفت قراءتي لهذا الحرف وبيانه فيما سلف : ص55 تعليق : 6 ، وفي المطبوعة : " القبيلتين " بالتاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " كان منه قوله " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المخطوطة. ويعني أن الآيات التي نزلت في شأن تحاوز الأوس والخزرج واقتتالهما ، كان من أول هذه الآية ، لا الآيتين قبلها.
(6) قوله : " كل شهر " ، هكذا جاء في المخطوطة واضحا ، والذي في الدر المنثور 2 : 58 : " كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر " ، وفي القرطبي 4 : 156 : " كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية " ، ويخشى أن يكون ما في المخطوطة : " كل شهر " ، تصحيف " وكل شر " ، ولكن ليس هذا موضع الرأي ، فإن الذين نقلوا هذا الأثر فيما بين يدي ، لم ينقلوه بإسناده هذا ، ولا بتمام لفظه كما هنا.

(7/63)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

فبينما هم جلوس إذْ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا ، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت هذه الآية : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله " إلى آخر الآيتين ، " واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً " إلى آخر الآية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر من صدّق الله ورسوله " اتقوا الله " ، خافوا الله ورَاقبوه بطاعته واجتناب معاصيه " حقّ تُقاته " ، حقّ خوفه ، (2) وهو أن يُطاع فلا يُعصى ، ويُشكر فلا يكفر ، ويُذكر فلا يُنسى
__________
(1) الأثر : 7535 - " حسن بن عطية بن نجيح القرشي " ، سلفت ترجمته في رقم : 4962. و " قيس بن الربيع الأسدي " أبو محمد الكوفي. روي عن أبي إسحاق السبيعي ، والأغر بن الصباح ، وسماك بن حرب وغيرهم. روى عنه الثوري ، وهو من أقرانه ، وشعبة ، ومات قبله ، وعبد الرزاق ووكيع. تكلموا فيه ، وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. وضعفه آخرون وقالوا : " ليس بقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به " . مترجم في التهذيب. و " الأغر بن الصباح التميمي المنقري " . روى عن خليفة بن حصين ، روى عنه الثوري وقيس بن الربيع ، وأبو شبيبة. قال ابن معين والنسائي : " ثقة " ، وقال أبو حاتم " صالح " مترجم في التهذيب. و " خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم التميمي المنقري " روى عن أبيه وجده ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن أرقم ، وأبي نصر الأسدي. وروى عنه الأغر بن الصباح. ثقة. مترجم في التهذيب. و " أبو نصر الأسدي " . روي عن ابن عباس ، وعنه خليفة بن حصين. قال البخاري : " لم يعرف سماعه من ابن عباس " ، وقال أبو زرعة : " أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس : ثقة " . مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري : 76 ، وأشار إلى هذا الأثر ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 448.
(2) انظر القول في بيان " تقاة " فيما سلف 6 : 313 - 317.

(7/64)


" ولا تموتن " ، أيها المؤمنون بالله ورسوله " إلا وأنتم مسلمون " لربكم ، مذعنون له بالطاعة. مخلصون له الألوهةَ والعبادة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7536 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري عن زبيد ، عن مُرّة ، عن عبد الله : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : أن يطاع فلا يُعصي ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويشكر فلا يُكفر. (2)
7537 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله.
7538 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله.
7539 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البَكيليّ ، عن عبد الله بن مسعود ، مثله. (3)
7540 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا جرير ، عن زبيد ، عن عبد الله ، مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " الألوهية " ، وهي صواب ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهي صواب أيضا بمعناها ، ولكن هكذا يكتبها أبو جعفر ، وانظر ما سلف 6 : 275 ، تعليق : 2.
(2) الأثر : 7537 - والآثار التي تليه أسانيد مختلفة لهذا الأثر. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي نعيم ، عن مسعر ، وهو الأثر رقم : 7541 ، وليس فيه " ويشكر فلا يكفر " ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
(3) الأثر : 7539 - في المطبوعة : " مرة بن شراحيل الهمداني " . غير ما في المخطوطة ، وكلاهما صحيح وصواب ، وانظر الأثر رقم : 2521 ، والتعليق عليه.

(7/65)


7541 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا مسعر ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله.
7542 - حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن المسعودي ، عن زبيد الأيامي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله.
7543 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله.
7544 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى. (1)
7545 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ابن ميمون ، نحوه.
7546 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن الربيع بن خُثَيم قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويُشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى.
7547 - حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال ، سمعت مرة الهمداني يحدث ، عن الربيع بن خُثيم في قول الله عز وجل : " اتقوا الله حق تقاته " ، فذكره نحوه. (2)
7548 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) الأثر : 7544 - " يحيى " هو : " يحيى بن أبي بكير الأسدي " مضى في رقم : 5797 ، " وسفيان " هو الثوري ، و " أبو إسحاق " هو : أبو إسحاق السبيعي ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " حدثنا يحيى بن سفيان " ، وليس في الرواة من يسمى بهذا ، والصواب ما أثبته.
(2) الأثران : 7546 ، 7547 - " الربيع بن خثيم الثوري " مضت ترجمته في رقم : 1430 ، وكان في المطبوعة " بن خيثم " ، وهو خطأ مضى مثله في الأثر الآخر ، وفي مواضع غيره ، وصححته من المخطوطة.

(7/66)


قيس بن سعد ، عن طاوس : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، أن يطاع فلا يُعصى.
7549 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته " ، قال : " حق تقاته " ، أن يطاع فلا يُعصى.
7550 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم تقدم إليهم - يعني إلى المؤمنين من الأنصار - . فقال : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، أما " حق تقاته " ، يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا يُنسى ، ويشكر فلا يُكفر.
7551 - حدثني المثني قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، أن يطاع فلا يعصى ، قال : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " .
* * *
وقال آخرون : بل تأويل ذلك ، كما : -
7552 - حدثني به المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : " حق تقاته " ، أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومةُ لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل هي منسوخة أم لا ؟
__________
(1) الأثر : 7552 - رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 88 ، مع بعض الخلاف في لفظه. وفي المخطوطة : " أن تجاهد في الله " بالإفراد ، والسياق يقتضي الجمع ، وجاءت على الصواب في المطبوعة وفي الناسخ والمنسوخ ، إلا أنه قال : " أن تجاهدوا ... ولا يأخذكم ... وتقوموا ... ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم " على الخطاب.

(7/67)


فقال بعضهم : هي محكمة غيرُ منسوخة.
*ذكر من قال ذلك :
7553 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اتقوا الله حق تقاته " أنها لم تنسخ ، ولكن " حق تقاته " ، أن تجاهدَ في الله حق جهاده ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفًا. (1)
7554 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
7555 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال طاوس قوله : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، يقول : إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
* * *
وقال آخرون : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [سورة التغابن : 16].
*ذكر من قال ذلك :
7556 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، ثم أنزل التخفيف واليسر ، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال : ( فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ، فجاءت هذه الآية ، فيها تخفيفٌ وعافيةٌ ويُسر.
7557 - حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال ،
__________
(1) الأثر : 7553 - هو الأثر السالف ، وفي المخطوطة والمطبوعة : " أن تجاهد " ، وانظر التعليق السالف.

(7/68)


حدثنا همام ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، قال : نسختها هذه الآية التي في " التغابن " : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) ، وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
7558 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : لما نزلت : " اتقوا الله حق تقاته " ، ثم نزل بعدها : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْْ ) ، فنسخت هذه الآية التي في " آل عمران " .
7559 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، فلم يطق الناسُ هذا ، فنسخه الله عنهم ، فقال : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )
7560 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، قال : جاء أمر شديد! قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم ، نسخها عنهم ، وجاء بهذه الأخرى فقال : ( فاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعْتُمْ) فنسخها. (1)
* * *
__________
(1) ترك أبو جعفر رضي الله عنه ، ترجيح أحد القولين على الآخر ، وكان حقًا عليه أن يبينه. وقد بينه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 88 ، 89 ، قال بعد سياقه الأثر : 7542 ، وروايته عن قول قتادة : " قال أبو جعفر : محال أن يقال هذا ناسخ ولا منسوخ إلا على حيلة ، وذلك أن معنى نسخ الشيء : إزالته والمجيء بضده ، فمحال أن يقال : " اتقوا لله " منسوخ ، ولا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه بيان الآية ، كما قرأ على أحمد بن محمد بن الحجاج ، عن يحيى بن سليمان قال ، حدثنا أبو الأحوص قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد ؟ قلت : الله ورسوله أعلم! قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ، أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ ... قال أبو جعفر : " فكل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ، ولا يقع فيه نسخ ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا " وكذا على المسلمين - كما قال ابن مسعود : " أن تطيعوا الله فلا تعصوه ، وتذكروه فلا تنسوه ، وأن تشكروه فلا تكفروه ، وأن تجاهدوا فيه حق جهاده. وأما قول قتادة ، مع محله من العلم : أنها نسخت ، فيجوز أن يكون معناه : نزلت : فاتقوا الله ما استطعتم - بنسخه : اتقوا الله حق تقاته ، وأنها مثلها ، لأنه لا يكلف أحدًا إلا طاقته " .

(7/69)


وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

وأما قوله : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، فإن تأويله كما : -
7561 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، قال : على الإسلام ، وعلى حُرْمة الإسلام. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعًا. يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسَّكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق ، والتسليم لأمر الله.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على معنى " الاعتصام " (2)
* * *
وأما " الحبل " ، فإنه السبب الذي يوصَل به إلى البُغية والحاجة ، ولذلك سمي الأمان " حبلا " ، لأنه سبب يُوصَل به إلى زوال الخوف ، والنجاة من الجزَع والذّعر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ... أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَها (3)
__________
(1) انظر تفسير أبي جعفر في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3 : 96 ، 97.
(2) انظر تفسير " الاعتصام " فيما سلف قريبا ص : 62 ، 63.
(3) ديوانه : 24 ، ومشكل القرآن : 358 ، والمعاني الكبير : 1120 ، واللسان (حبل) وغيرها. من قصيدته في قيس بن معد يكرب ، ومضت منها أبيات في 4 : 238 ، 327 ، وهذا البيت في ذكر ناقته ، يقول قبله : فَتَرَكْتُها بَعْدَ المِرَاحِ رَذِيةً ... وَأَمِنْتُ عِنْدَ رُكُوبِهَا إِعْجَالَها
فَتَنَاوَلتْ قَيْسًا بِحُرِّ بِلادِه ... فأتَتْهُ بَعْدَ تَنُوفَةٍ فأَنَالَهَا
فإِذَا تُجَوِّزُهَا............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد مضى قبل مثل هذا البيت الأخير ص : 62 ، تعليق : 2 إلَى المرءِ قيسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخذُ من كُلّ حَيٍّ عُصُمْ
يقول : إذا أخذت من قبيلة عهودها حتى أجتاز ديارها آمنًا ، أعطتها القبيلة التي تليها عهدًا وذمامًا أن تخترق ديارها آمنة لا ينالها أحد بسوء. وذلك أن القبائل كلها ترهب قيسًا وتخافه ، فكل قاصد إليه ، أجد الأمان حيث سار ، لأنه بقصده قيسًا جار له ، لا يطيق أحد أن يناله بسوء.

(7/70)


ومنه قول الله عز وجل : ( إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ) [سورة آل عمران : 112]
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7562 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوّام ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، قال : الجماعة.
7563 - حدثنا المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الشعبي ، عن عبد الله في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " ، قال : حبلُ الله ، الجماعة.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك القرآنَ والعهدَ الذي عَهِدَ فيه.
*ذكر من قال ذلك :
7564 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " ، حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به : هذا القرآن.
7565 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " قال : بعهد الله وأمره.

(7/71)


7566 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : إن الصراط مُحْتَضَر تحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله ، هلمّ هذا الطريق! ليصدّوا عن سبيل الله ، . فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبلَ الله هو كتاب الله. (1)
7567 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السدي : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " ، أما " حبل الله " ، فكتاب الله.
7568 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بحبل الله " ، بعهد الله.
7569 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " بحبل الله " ، قال : العهد.
7570 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : " واعتصموا بحبل الله " قال : حبلُ الله : القرآن.
7571 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " ، قال : القرآن.
7572 - حدثنا سعيد بن يحيى قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتاب الله ، هو حبل الله الممدودُ من السماء إلى الأرض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 7566 - رواه في مجمع الزوائد بغير هذا اللفظ ، وهو قريب منه. ونسبه إلى الطبراني وقال : " رواه عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، وهو ضعيف " . وهذا الذي رواه الطبري إسناد صحيح.
(2) الحديث : 7572 - عبد الملك بن أبي سليمان العرزمى - بسكون الراء ثم زاي مفتوحة - أحد الأئمة : مضى توثيقه : 1455.
عطية : هو ابن سعد بن جنادة - بضم الجيم - العوفي. وقد بينا في : 305 أنه ضعيف.
وقد سقط من المخطوطة والمطبوعة هنا قوله [عن عطية]. وزدناه من نقل ابن كثير 2 : 203 ، عن هذا الموضع من الطبري.
ثم الحديث - من حديث أبي سعيد - يدور في كل ما رأينا من طرقه على عطية العوفي ، كما سيأتي :
فرواه أحمد في المسند : 11229 ، 11582 (ج3ص 26 ، 59 حلبي) ، عن ابن نمير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد ، بنحوه ، مرفوعًا مطولا.
ورواه أيضا : 11120 (ج 3 ص 14) ، من طريق إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي ، عن عطية.
ورواه أيضا : 11148 (ج 3 ص 17) ، عن أبي النضر ، عن محمد بن طلحة ، عن الأعمش عن عطية العوفي.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 343 ، من طريق محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد - وعن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم ، مرفوعًا ، نحوه مطولا. فهو عنده عن أبي سعيد وعن زيد بن أرقم. ثم قال : " هذا حديث حسن غريب " .
فأما حديث أبي سعيد ، فقد بينا أنه ضعيف ، من أجل عطية العوفي.
وأما حديث زيد بن أرقم ، فإنه حديث صحيح. وهو قطعة من قصة مطولة ، رواها أحمد في المسند 4 : 366 - 367 (حلبي). ورواها مسلم 2 : 237 - 238 ، مطولة ومختصرة.
وروى ابن حبان في صحيحه ، رقم : 123 (بتحقيقنا) - قطعة منه ، فيها أن " كتاب الله ، هو حبل الله " .
ثم نعود لحديث أبي سعيد :
فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 163 ، مطولا ، بنحو رواية الترمذي. ثم قال : " رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده رجال مختلف فيهم " !
ولست أدرى ، لم ذكره في الزوائد ، وهو في الترمذي ؟ ثم لم ترك نسبته للمسند ، وهو مروي فيه أربع مرات ؟!
وذكره السيوطي 2 : 60 ، مختصرًا كما هنا. ولم ينسبه إلا لابن أبي شيبة وابن جرير. ثم ذكر الرواية المطولة عن أبي سعيد. ونسبه لابن سعد ، وأحمد ، والطبراني.

(7/72)


وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله.
*ذكر من قال ذلك :
7573 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، يقول : اعتصموا بالإخلاص لله وحده.
7574 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعًا " ، قال : الحبل ، الإسلام. وقرأ " ولا تفرقوا " .
* * *

(7/73)


القول في تأويل قوله عز وجل : { وَلا تَفَرَّقُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا تفرقوا " ، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه ، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والانتهاء إلى أمره. كما : -
7575 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم " ، إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة ، وقدّم إليكم فيها ، وحذّركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم ، ولا قوّة إلا بالله.
7576 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبى العالية : " ولا تفرّقوا " ، لا تعادَوْا عليه ، يقول : على الإخلاص لله ، وكونوا عليه إخوانًا. (1)
7577 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح : أن الأوزاعي حدثه ، أنّ يزيد الرقاشي حدّثه أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسَبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا واحدة. قال : فقيل : يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يَدَه وقال : الجماعة ، " واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا " . (2)
__________
(1) في المخطوطة " وتكونوا عليه إخوانا " ، والصواب ما في المطبوعة ، والدر المنثور 2 : 61
(2) الحديث : 7577 - يزيد الرقاشي : هو يزيد أبان ، أبو عمرو ، البصري القاص. وقد أشرنا في شرح : 6654 ، 6728 إلى أنه ضعيف. وقال البخاري في الكبير 4 / 2 / 320 : " كان شعبة يتكلم فيه " ، وقال النسائي في الضعفاء : " متروك " ، وقال ابن سعد 7 / 2 / 13 : " كان ضعيفًا قدريًا " .
والحديث رواه ابن ماجه : 3993 ، من طريق الوليد بن مسلم : " حدثنا أبو عمرو [هو الأوزاعي] ، حدثنا قتادة ، عن أنس. فذكره نحوه مرفوعًا ، ولكن آخره عنده : " كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة " .
وقال البوصيري في زوائده : " إسناده صحيح. رجاله ثقات " . وهو كما قال.
فيكون الأوزاعي رواه عن شيخين ، أحدهما ضعيف ، والآخر ثقة. وأن الضعيف - يزيد الرقاشي - زاد الاستشهاد بالآية. ولا بأس بذلك ، فالمعنى قريب.
وذكره السيوطي 2 : 60 ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(7/74)


7578 - حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، سمعت الأوزاعي يحدث ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
7579 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي ، عن ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قُطْبَة المدنيّ ، عن عبد الله : أنه قال : " يا أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمرَ به ، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة ، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة " . (2)
7580 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكريّ قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطبَة قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه. (3)
__________
(1) الحديث : 7578 - هذا الحديث تكرار للحديث قبله. وعبد الكريم بن أبي عمير - شيخ الطبري : ذكره الذهبي في الميزان 2 : 144 بلقب " للدهان " ، وقال : " فيه جهالة. والخبر منكر " . يريد حديثًا آخر ، بينه الحافظ في لسان الميزان 4 : 50 - 51 ، عن تاريخ بغداد. في ترجمة رجل آخر. وهو في تاريخ بغداد 3 : 242. وفيه اسم هذا الشيخ في ذاك الإسناد : " عبد الكريم بن أبي عمير الدهقان " . ولم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في موضع آخر.
(2) الأثر : 7579 - " ثابت بن قطبة المدني الثقفي " ، مترجم في الكبير 1 / 2 / 168 ، والجرح 1 / 1 / 457 ، قال البخاري : " سمع ابن مسعود ، روى عنه أبو إسحاق ، والشعبي " وزاد ابن أبي حاتم : " وزياد بن علاقة ، وسالم بن أبي الجعد " . وكان في المطبوعة في هذا الموضع وفي الأثرين التاليين " ثابت بن قطنة " بالنون من " قطنة " ، وهو خطأ. وفي المخطوطة في هذا الأثر " فطنه " غير منقوطة ، ونقطت الباء في الأثرين التاليين. وفي المخطوطة والمطبوعة : " المرى " في هذا الأثر وفي رقم : 7581 ، والصواب " المدني " كما أثبته ، وثابت ثقفي ، لا مرى.
(3) الأثر : 7580 - في المطبوعة : " عبد الحميد بن بيان اليشكري " ، وهو خطأ ، والصواب المخطوطة. وقد سلف مثل هذا الخطأ في رقم : 7378 ، فانظر التعليق عليه.

(7/75)


7581 - حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُلِّيُّ قال ، حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام قال ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطبة المدني قال : قال عبد الله : عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمرَ به ، ثم ذكر نحوه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام.
واختلف أهل العربية في قوله : " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .
فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، ثم فسر بقوله : " فألف بين قلوبكم " ، وأخبرَ بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : " أمسَكَ الحائط أن يميل " .
وقال بعض نحويي الكوفة : قوله " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، تابع قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " غير منقطعة منها.
__________
(1) الأثر : 7581 - " إسماعيل بن حفص بن عمرو الأبلى ، أبو بكر الأودي البصري ، و " الأبلي " (بضم الهمزة والباء الموحدة ، واللام المشددة المكسورة) نسبة إلى " الأبلة " . وفي بعض الكتب " الأيلي " بالياء. روى عن أبيه ، وحفص بن غياث ، ومعتمر بن سليمان وغيرهم. روى عنه النسائي وابن ماجه ، وابن خزيمة وجماعة. وسمع منه أبو حاتم ، قال ابن أبي حاتم : " وسألت أبي عنه فقال : كتبت عنه وعن أبيه ، وكان أبوه يكذب ، وهو بخلاف أبيه. قلت : لا بأس به ؟ قال : لا يمكنني أن أقول لا بأس به " . وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 165.

(7/76)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : " إذ كنّتم أعداءً فألّف بين قلوبكم " ، متصل بقوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، غير منقطع عنه.
وتأويل ذلك : واذكروا ، أيها المؤمنون ، نعمة الله عليكم التي أنعمَ بها عليكم ، حين كنتم أعداء في شرككم ، (1) يقتل بعضكم بعضًا ، عصبيةً في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانًا بعد إذ كنتم أعداءً تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه ، كما : -
7582 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألَّف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو ، إنّ الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذابٌ.
7583 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء " ، يقتل بعضكم بعضًا ، ويأكل شديدُكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانًا.
* * *
قال أبو جعفر : فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكرُوها ، هي ألفة الإسلام ، واجتماع كلمتهم عليها والعداوةُ التي كانت بينهم ، التي قال الله عز وجل : " إذ كنتم أعداء " فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، . كما : -
__________
(1) في المطبوعة : " أي بشرككم " ، وليست بشيء ، وفي المخطوطة " أي شرككم " ولا معنى لها ، وفيها زيادة ألف " أي " ، و " ى " هي " في " فالذي أثبته هو الصواب والسياق.

(7/77)


7584 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
فذكَّرهم جل ثناؤه إذ وعظهم ، عظيمَ ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا ، وخوف بعضهم من بعض ، وما صارُوا إليه بالإسلام واتباع الرّسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانًا ، وكأن سبب ذلك ما : -
7585 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال : فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعل الذي مَعك مثل الذي معي! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان - يعني : حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعرضْها عليّ " فعرضها عليه ، فقال : " إن هذا لكلام حسنٌ ، (2) معي أفضل من هذا ، قرآنٌ أنزله الله عليّ هدًى ونورٌ. قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يُبعد منه ، وقال : إن هذا لقولٌ حَسن! ثم
__________
(1) الأثر : 7584 - لم أستطع أن أهتدي إلى مكانه من سيرة ابن هشام في هذه الساعة.
(2) في المطبوعة : " إن هذا الكلام " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.

(7/78)


انصرف عنه وقدم المدينةَ ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج. فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاثٍ. (1)
7586 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، (2) أحد بني عبد الأشهل : أن محمودَ بن لبيد ، (3) أحدَ بني عبد الأشهل قال : لما قدم أبو الحَيْسر أنس بن رافع مكة ، (4) ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، (5) سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال " هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ " قالوا : وما ذاك ؟ قال : " أنا رسولُ الله ، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، (6) وأنزل عليَّ الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلامًا حدُثًا : (7) أيْ قوم ، هذا والله خير مما جئتم له! قال : فيأخذ أبو الحَيْسَر أنس بن رافعَ حفنةً من البطحاء ، (8) فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا
__________
(1) الأثر : 7585 - سيرة ابن هشام 2 : 67 - 69.
(2) في المطبوعة : " الحسين بن عبد الرحمن ... " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام ، وهو مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة : " محمود بن أسد " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة ، ولم يحسن الناشر قراءتها لخلوها من النقط ، وصوابه أيضًا في ابن هشام. و " محمود بن لبيد الأشهلي " تابعي ، واختلف في صحبته. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " أبو الجيش أنس بن رافع " ، وهو خطأ فاحش ، صوابه من سيرة ابن هشام 2 : 69 ، وسائر كتب التاريخ.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " على قوم من الخزرج " ، والصواب ما في سيرة ابن هشام. كما أثبت.
(6) في المخطوطة : " أن يعبدون الله. . . " سهو من الناسخ ، وفي ابن هشام " أدعوهم إلى أن يعبدوا الله " .
(7) غلام حدث (بفتح الحاء وضم الدال) : كثير الحديث حسن السياق له.
(8) في المطبوعة : " فأخذ أبو الجيش " ، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام.

(7/79)


إلى المدينة ، وكانت وقعةُ بعاث بين الأوس والخزرج. قال. ثم لم يلبث إياسُ بن معاذ أن هلك. قال : فلما أراد الله إظهارَ دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجازَ موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفرَ من الأنصارَ يعرض نفسه على قبائل العرب ، (1) كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا (2) .
قال ابن حميد قال ، سلمة قال ، محمد بن إسحاق ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ؛ عن أشياخ من قومه قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " من أنتم ؟ " قالوا : نفر من الخزرج قال ، أمن موالي يهود ؟ (3) قالوا : نعم قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى!. قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرَض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن. قال : وكان مما صنَع الله لهم به في الإسلام ، (4) أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهلَ كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحابَ أوثان ، (5) وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيًّا الآن مبعوث قد أظلّ زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم!. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفرَ ودعاهم إلى الله عز وجل ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي تَوَعَّدُكم به يهود ، فلا يسبقُنَّكم إليه! (6) فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صَدّقوه وقبلوا منه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم. . . " بإسقاط " في " وأثبتها من ابن هشام. وفي ابن هشام : " فعرض نفسه " بالفاء ، وما في مخطوطة الطبري ، جيد
(2) في المطبوعة : " لهم خيرًا " ، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(3) " موالي يهود " : أي من حلفائهم ، والمولي : الحليف.
(4) هذا هو النص الصحيح ، لما أثبت ناشر سيرة ابن هشام ، مخالفا أصول السيرة ، وما جاء هنا.
(5) في ابن هشام : " وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان " ، وما في الطبري صواب أيضا.
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " ولا يسبقنكم " بالواو ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.

(7/80)


ما عَرَض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : (1) إنا قد تركنا قومَنا ولا قومَ بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسَى الله أن يجمعهم بك ، وسنَقْدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ؛ فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجلَ أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدّقوا وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكرُوا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فَشا فيهم ، فلم تَبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العامُ المقبل ، وافى الموسمَ من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيْعَة النساء ، (2) وذلك قبل أن تُفترَض عليهم الحرب. (3)
7587 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقىَ النبي صلى الله عليه وسلم ستةُ نفرٍ من الأنصار فآمنوا به وصدّقوه ، فأراد أن يذهبَ معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قالوا " بإسقاط الواو ، والصواب ما في سيرة ابن هشام.
(2) بيعة النساء ، هي البيعة المذكورة في [سورة الممتحنة : 12] ، ونصها فيما رواه ابن إسحاق بإسناديه عن عبادة بن الصامت أنه قال (ابن هشام 2 : 75 ، 76) : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العقبة الأولى على أن لا نُشْرك بالله شيئًا ، ولا نَسْرِق ، ولا نزني ، ولا نقتُل أولادَنا ، ولا نأتي ببُهْتانٍ نَفتريهِ من بين أيدينا وأرجُلنا ، ولا نَعْصِيه في معروفٍ فإِن وَفَيْتُم ، فلكُمُ الجنَّة. وإن غَشِيتُم من ذلك شيئًا فأُخِذْتم بحدِّه في الدنيا ، فهو كفَّارةٌ لكم. وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة ، فأمركم إلى الله ، إن شاءَ عذب وإن شاءَ غفر " . وهذه بيعة لم يذكر فيها القتال والجهاد ، مما كتبه الله على الرجال دون النساء ، ولذلك سميت بيعة النساء ، لأنها مطابقة لبيعتهن المذكورة في سورة الممتحنة.
(3) الأثر : 7586 - سيرة ابن هشام 2 : 69 - 73 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 7585.

(7/81)


بين قومنا حربًا ، وإنا نخافُ إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريدُ. فوعدوه العامَ المقبلَ ، وقالوا : يا رسول الله ، نذهب ، فلعلّ الله أن يُصْلح تلك الحرب! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب ، وكانوا يُرَوْن أنها لا تَصْلُح وهو يوم بُعاث. فلقوه من العام المقبل سبعينَ رجلا قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباءَ اثني عشر نقيبًا ، فذلك حين يقول : " واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم " .
7588 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : " إذ كنتم أعداء " ، ففي حرب ابن سُمَير (1) " فألف بين قلوبكم " ، بالإسلام.
7589 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بنحوه وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، (2) فتثاوَر الحيَّان ، فقال بعضهم لبعض : مَوْعدُكم الحَرَّة! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الآيةُ : " واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداء فألَّف بين
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة " ففي حرب فألف ... " أسقط " ابن سمير " ، وسيأتي نص قول السدي ، كما أثبته بعد ص 83 س : 3.
(2) يعني ما كان من حديث الإفك في أمر عائشة أم المؤمنين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس فذكر لهم رجالا يؤذونه في أهله ويقولون عليهن غير الحق ، وتولى كبر ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول في رجال من الخزرج. فقام أسيد بن حضير الأوسي فقال : يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفيكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة الخزرجي ، فقال : كذبت لعمر الله ، لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! فقال أسيد بن الحضير : كذبت لعمر الله : ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! وتثاور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر (تاريخ الطبري 3 : 69).
هذا ولم أجد ذكر هذا الخبر في كتاب ، ولم أجد في كتب أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها ، ولا ما كان يومئذ بين الأوس والخزرج. ولم يذكر ذلك أبو جعفر مصرحًا في هذا الموضع ، ولا ذكر ذلك في تفسير سورة النور ، حيث آيات حديث الإفك وبراءة عائشة أم المؤمنين.

(7/82)


قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا " ، الآية. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضًا ، وحتى إن لهم لخنينًا يعني البكاءَ. (1)
* * *
" وسُمَير " الذي زعم السدي أن قوله " إذ كنتم أعداء " عنى به حربه ، هو سُمير بن زيد بن مالك ، (2) أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :
إنَّ سُمَيْرًا أَرُى عَشِيرَتَهُ... قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا (3) إنْ يَكًنِ الظَّنُّ صَادِقِي بَبَنِي... النَّجَّارِ لَمْ يَطْعَمُوا الَّذِي عُلِفُوا (4)
__________
(1) في المطبوعة : " لحنينًا " بالحاء ، وأما في المخطوطة ، فإن الناسخ على غير عادته نقط حروفها المعجمة جميعًا ، كما أثبتها ، وهو الصواب المحض. والخنين : تردد البكاء في الأنف والخياشيم حتى يصير في الصوت مثل الغنة ، لكتمان البكاء من ألم وحياء وخجل. وقد ورد في كثير من الأحاديث من ذلك : " أنه كان يسمع خنينه في الصلاة " ، وفي حديث أنس : " فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم خنين " .
(2) في الأغاني 3 : 40 " سمير بن يزيد بن مالك " ، وذكر في 3 : 21 أنه أخو " درهم بن يزيد بن ضبيعة " ، وقد رجحت في التعليق على طبقات فحول الشعراء لابن سلام : 247 تعليق : 6 أنه " درهم بن يزيد بن مالك " من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمر بن عوف. وقد جاء في المطبوعتين " درهم بن زيد " كما جاء هنا في ذكر أخيه " سمير بن زيد " .
(3) جمهرة أشعار العرب : 122 ، والأغاني 20 ، واللسان (سمر) وهذا البيت والذي يليه كتب في المطبوعة بالقاف " أبقوا " ثم " علقوا " وهما في المخطوطة غير منقوطتين ، وأوقعهم في ذلك النقط ما جاء في اللسان (سمر) ، " أبقوا " بالباء والقاف ، وهو خطأ محض ينبغي تصحيحه. فقصيدة مالك فائية لا شك فيها. رواها صاحب جمهرة أشعار العرب بطولها ، ورواها أبو الفرج ، وروى معها نقائضها ، لدرهم بن يزيد ، ثم لقيس بن الخطيم ، فيما بعد هذه الحرب بدهر ، ورد حسان بن ثابت عليه ومناقضته له. وخبر هذا الشعر طويل ، هو في الأغاني 3 : 18 - 26 ، ثم 39 - 42. ثم انظر ما قاله الطبري بعد الأبيات.
وقوله : " حدبوا دونه " ، يقال : " حدب عليه " ، إذا تعطف عليه وحنا عليه. وقوله : " دونه " ، عني أنهم عطفوا عليه وحاموا دونه ليمنعوه. وقوله : " أنفوا " ، يقال : " أنف الرجل من الشيء يأنف أنفا " ، إذا حمى وغضب ، وأخذته الغيرة من أن يضام. وكان سمير هذا هو الذي قتل الرجل الثعلبي جار مالك بن العجلان - في خبر الحرب - فطالب مالك بني عمرو بن عوف أن يرسلوا إليه سميرًا ليقتله بجاره ، أو يأخذ الدية كاملة ، فأبى أولئك ، وأبى مالك ، وحدب بنو عمرو بن عوف على صاحبهم سمير ، واستنفر مالك قبائل الخزرج ، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره ، فقال هذه الأبيات يحرض بني النجار على نصرته.
(4) في رواية الجمهرة والأغاني : " صادقا " ، وهما سواء. وفي شرح هذا البيت قال أبو الفرج في أغانيه : " علفوا الضيم : إذا أقروا به. أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم " ، وهذا مجاز قلما تظفر بتفسيره في كتب اللغة. وقد جاء مثل ذلك في هذا المعنى من قول سبيع بن زرارة ، أو خالد بن نغسلة (الحماسة 1 : 186). إِذَا كُنْتَ في قومٍ عِدًى لَسْتَ مِنْهُمُ ... فَكُلْ مَا عُلِفْتُ من خبيثٍ وطيِّبِ
وقول العباس بن مرداس (الحماسة 1 : 225). ولا تَطْعَمَنْ ما يَعْلِفٌونَك إنَّهُمْ ... أَتَوْكَ عُلىْ قُرْبَاهُمْ بِالمُثَمَّلِ
وكأنهم يريدون بذلك : ما يقدم إليك ، مما يكون حسن الظاهر كأنه رعاية وكرم ، خبيث الباطن يراد به الأذى والضيم ، واستعملوا " العلف " لأنه كالاستغفال لمن يقدم إليه ، كأنه بهيمة لا تدرك الخفي الباطن.
هذا وقد ترك ناشرو هذا التفسير هذين البيتين على حالهما من التصحيف. ثم جاء بعض المعلقين ، فكتب ما لا قبل لذي عقل بقبوله ، إلا على قول القائل : " فكل ما علفت " !

(7/83)


وقد ذكر علماء الأنصار : أنّ مبدأ العداوة التي هيَّجت الحروب التي كانت بين قبيلتَيها الأوسِ والخزرجِ وأوَّلها ، كان بسبب قتل مَولى لمالك بن العجلان الخزرجيّ ، يقال له : " الحرُّ بن سُمَير " من مزينة ، (1) وكان حليفًا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك معنى قول السدي : " حرْب ابن سمير " .
* * *
وأما قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانًا " ، فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق ، والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانًا متصادقين ، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد ، كما : -
7590 - حدثني بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
__________
(1) لست على ثقة من هذا الاسم " الحر بن سمير " ، ولكني لم أجده في مكان آخر ، والذي يقولونه في غير هذا الخبر أن اسمه " كعب بن العجلان " ، ويقال غير ذلك.

(7/84)


قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانًا " ، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " وكنتم على شفا حفرة من النار " ، وكنّتم ، يا معشر المؤمنين ، من الأوس والخزرج ، على حرف حُفرةٍ من النار. وإنما ذلك مثَلٌ لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره : وكنتم على طرَف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن يُنعم الله عليكم بالإسلام ، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانًا ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها ، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له.
* * *
و " شفا الحفرة " ، طرفها وَحرفها ، مثل " شفا الركيَّة والبئر " ؛ ومنه قول الراجز :
نَحْنُ حَفَرنَا لِلْحَجيِجِ سَجْلَهْ... نَابِتَةٌ فَوْقَ شَفَاهَا بَقْلَةْ (1)
__________
(1) لم أجد هذا الرجز بهذه الرواية في كتاب غير هذا التفسير. أما " سجلة " فهي بئر المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ويقال حفرها عدي بن نوفل ، ويقال حفرها هاشم بن عبد مناف ، ويقال حفرها قصى. وقد ذكرها ابن هشام في سيرته 2 : 157 ، والأزرقي في تاريخ مكة 1 : 64 ، 65 / 2 : 175 ، 176 ، والبلاذري في فتوح البلدان : 55 ، 56 ، والبكري في معجم ما استعجم : 724 ، ومعجم البلدان (سجلة) ، والروض الأنف 1 : 101 ، وذكرها المصعب في نسب قريش : 31 ، 197 ، ولم يذكر اسمها بل قال : " سقاية عدي ، التي بالمشعرين ، بين الصفا والمروة ، وفيها يقول مطرود الخزاعي ، يمدح عدى بن نوفل : وَمَا النِّيلُ يَأْتِي بالسَّفِينِ يَكُفُّه ... بأَجْوَدَ سَيْبًا من عَدِىّ بن نَوْفَل
وأنبطْتَ بين المَشْعَرَيْنِ سِقايةً ... لِحُجَّاجِ بَيْتِ الله أفْضَلَ مَنْهَلِ
ونسب أبو الفرج في أغانيه 13 : 5 هذا الشعر لقيس بن الحدادية من أبيات. وأما الرجز الذي يشبه هذا وذكروه في المراجع السالفة ، فقد اختلف في نسبته ، إلى قصى ، وإلى خلدة بنت هاشم ، تقول : نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِىٍّ سَجْلَهْ ... في تُرْبةٍ ذَاتِ عَذَاةٍ سَهْلَهْ
تُرْوِى الحَجِيج زُغْلَةً فزُغْلَهْ
أي جرعة فجرعة. ولم يتيسر لي تحقيق ذلك الآن بأكثر من هذا

(7/85)


يعني : فوق حرفها. يقال : " هذا شفا هذه الركية " مقصور " وهما شفواها "
* * *
وقال : " فأنقذكم منها " ، يعني فأنقذكم من الحفرة ، فردّ الخبر إلى " الحفرة " ، وقد ابتدأ الخبر عن " الشفا " ، لأن " الشفا " من " الحفرة " . فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن " الشفا " على السبيل التي ذكرها في هذه الآية خبرًا عن " الحفرة " ، كما قال جرير بن عطية :
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنَّي... كما أخَذ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (1)
__________
(1) ديوانه : 426 ، مجاز القرآن : 98 ، الكامل 1 : 324 ، وغيرها ، وسيأتي في التفسير 12 : 94 / 13 : 109 / 19 : 39 (بولاق) ، من قصيدة يهجو الفرزدق ، لم تذكر في نقائضهما ، يقول قبل البيت : دَعِيني ، إِنَّ شَيْبى قَدْ نَهَانِي ... وَتَجْرِيبِى ، وَشَيْبِى ، وَاكْتِهَالِى
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينِ ......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَمَنْ يَبْقَى عَلَى غَرَضِ المَنَايا ... وَأَيَّامٍ تَمُرُّ مَعَ اللَّيّالِي?!
والسرار (بكسر السين وفتحها) : آخر ليلة من الشهر ، ليلة يستسر القمر ، أي يختفي ، وأراد جرير بالسرار في هذا البيت : نقصان القمر حتى يبلغ آخر ما يكون هلالا ، حتى يخفى في آخر ليلة ، فهذا النقصان هو الذي يأخذ منه ليلة بعد ليلة ، أما " السرار " الذي شرحه أصحاب اللغة ، فهو ليلة اختفاء القمر ، وذلك لا يتفق في معنى هذا البيت.

(7/86)


فذكر : " مر السنين " ، ثم رجع إلى الخبر عن " السنين " ، وكما قال العجاج : (1)
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي... طَوَيْنَ طولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي (2)
وقد بيَّنتُ العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7591 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته " ، كان هذا الحيّ من العرب أذلَّ الناس ذُلا وأشقاهُ عيشًا ، (4) وأبْيَنَه ضلالة ، وأعراهُ
__________
(1) وينسب للأغلب العجلى ، كما سترى في المراجع ، وقال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب. " ليس هذا الرجز للأغلب ، هو لغيره ، من شوارد الرجز " .
(2) ديوان العجاج : 80 ، سيبويه 1 : 26 ، كتاب المعمرين : 87 ، الأغاني 18 : 164 ، والبيان والتبيين 4 : 60 ، والخزانة 2 : 168 ، العيني (هامش الخزانة) 3 : 395 ، وشرح شواهد المغنى : 298 وغيرها. وقد اختلفت في رواية الرجز اختلاف كثير. ورواية أبي محمد الأعرابي : أَصْبَحْتُ لا يَحْمِلُ بَعْضِي بَعْضِي ... مُنَفَّهًا ، أَرُوح مِثْلَ النِّقْضِ
مَرُّ اللَّيالي............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثُمَّ الْتَحَيْنَ عَنْ عِظامِي نَحْضِى ... أَقْعِدْنَنِي مِنْ بَعْدِ طُول نَهْضِي
المنفه : الذي عليه الكلال والإعياء. والنقض : البعير المهزول. التحى العود من الشجر : قشر عنه لحاءه ، وهو قشره. والنحض : اللحم. يقول : تركته الليالي عظامًا ، قد أكلت لحمه.
(3) 5 : 77 ، 78.
(4) قوله : " وأشقاه عيشًا ، وأبينه ضلالة. . . " مع عودة الضمير إلى " الناس " ، لأن ضمير المثنى والجمع بعد " أفعل " التفضيل ، يجوز إفراده وتذكيره ، انظر ما سلف من التعليق على الآثار رقم : 5968 ، 6129 ، 7028 ، 7029.

(7/87)


جلودًا ، وأجوعَه بطونًا ، مَكْعُومين (1) على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. مَنْ عاش منهم عاش شقيًّا ، ومن مات رُدِّي في النار ، (2) يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض ، كانوا فيها أصغر حظًّا ، وأدق فيها شأنًّا منهم ، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام ، فورَّثكم به الكتاب ، وأحل لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، (3) وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نِعمَه ، فإن ربكم منعِمٌ يحب الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك.
7592 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : " وكنتم على شفا حفرة من النار " ، يقول : كنتم على الكفر بالله ، " فأنقذكم منها " ، من ذلك ، وهداكم إلى الإسلام.
7593 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " ، بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتم على طرَف النار ، من مات منكم أوبِقَ في النار ، (4) فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
__________
(1) في المطبوعة : " معكومين " ، والصواب من المخطوطة : كعم فم البعير وغيره شد فاه في هياجه لئلا يعض. ومنه قيل : " كعمه الخوف فهو مكعوم " ، أمسك فاه ، ومنعه من النطق ، وفي حديث على : " فهم بين خائف مقموع ، وساكت مكعوم " ، وفي شعر ذى الرمة يصف صحراء بعيدة الأرجاء ، يخافها سالكها : بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبِ واصِيَةٍ ... يَهْمَاءَ ، خَابِطُهَا بالخوف مَكْعُومُ
(2) ردى في النار : ألقى فيها.
(3) هكذا جاءت الجملتان في المخطوطة ، ولست على ثقة من صوابهما ، ولا أدري ما يعني بقوله : " دار الجهاد " ، والذي نعرف أن الإسلام جاء فأحله للمجاهدين هو " الغنائم " غنائم الحرب والجهاد. فأخشى أن يكون في الكلام تحريف. وقوله : " ووضع لكم به من الرزق " كأنه يعني بقوله : " وضع " بسط ، كما فسروه في حديث التوبة : " إن الله واضع يده لمسيء الليل ليتوب بالنهار ، ولمسيء النهار ليتوب بالليل " ، أي بسط ، كما جاء في الرواية الأخرى : " إن الله باسط يده. . . " .
(4) أوبقه : أهلكه ، وقوله : " أوبق " بالبناء للمجهول.

(7/88)


7594 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا حسن بن حيّ : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " قال : عصبية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " كذلك " ، كما بيَّن لكم ربكم في هذه الآيات ، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج ، من غِلّ اليهود الذي يضمرونه لكم ، (2) وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، (3) مُعَرِّفَكم في كل ذلك مواقع نعمة قِبَلكم ، وصنائعه لديكم ، (4) فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. " لعلكم تهتدون " ، يعني : لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها ، فلا تضِلوا عنها. (5)
* * *
__________
(1) الأثر : 7594 - " الحسن بن حي " ، هو : " الحسن بن صالح بن صالح بن حي ، وهو حيان ، الهمداني " قال البخاري : " يقال : حي ، لقب " ، وكان في المطبوعة : " حسن بن يحيى " ، والصواب في المخطوطة ، وهو مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة : " من علماء اليهود. . . " ، وهو فاسد جدًا ، والصواب في المخطوطة ، ولكنه لم يحسن قراءتها " من عل " غير منقوطة. والغل (بكسر الغين) : الحقد الدفين.
(3) سياق الجملة : كما بين لكم في هذه الآيات. . . من غل اليهود. . . ومن غشهم. . . ومن أمره. . . ومن نهيه. . . ومن الحال التي كنتم عليه. . . " معطوف بعضه على بعض.
(4) في المطبوعة : " يعرفكم " بالياء في أوله ، والصواب ما في المخطوطة ، وهو منصوب الفاء ، نصب على الحال.
(5) عند هذا الموضع ، انتهى الجزء الخامس من مخطوطتنا ، وفي آخره ما نصه : " نَجَز الجزء الخامس من كتاب البيان ، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ، أعان الله على ما بعده بمنه وكرمه ، وخفىّ لطفه وسعة رحمته ، إنه وَلِيّ ذلك والقادرُ عليه. يتلوه في السادس إنْ شاء الله تعالى : القول في تأويل قوله : " وَلْتَكُنْ منكُمْ أمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُون " . * * *
وكان الفراغُ منه في شهر الله المحرّم غُرّة سنة خمس عشرة وسبعمئة ، أحسن الله تَقَضِّيها وخاتمتها في خيرٍ وعافية ، بمنّه وكرمه ولطفه - على يدِ العبد الفقير إلى رحمة مولاه ، الغنيِّ به عمن سواه : علىّ بن محمد بن عباد (أو : عنان) بن عبد الصمد بن صالح الديدبلى ( ؟ ؟) الشافعي ، غفر الله له ولوالديه ، ولصاحب هذا الكتاب ، ولمن قرأ فيه ودعا لهم بالتوبة والمغفرة ورضى الله تعالى والجنة ، ولجميع المسلمين. وذلك بالقاهرة المحروسة ، بحارة العطوفة. الحمد لله رب العالمين " ثم يتلوه الجزء السادس ، وأوله :
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعِنْ "

(7/89)


وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

القول في تأويل قوله : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولتكن منكم " أيها المؤمنون " أمة " ، يقول : جماعة (1) " يدعون " الناس " إلى الخير " ، يعني إلى الإسلام وشرائعه
__________
(1) انظر تفسير " أمة " فيما سلف 1 : 221 / 3 : 74 ، 100 ، 128 ، 141 ، 275 - 277.

(7/90)


التي شرعها الله لعباده (1) " ويأمرون بالمعروف " ، يقول : يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله (2) " وينهون عن المنكر " ، : يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله ، بجهادهم بالأيدي والجوارح ، حتى ينقادوا لكم بالطاعة.
* * *
وقوله : " وأولئك هم المفلحون " ، يعني : المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه.
* * *
وقد دللنا على معنى " الإفلاح " في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (3)
* * *
7595 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عيسى بن عمر القارئ ، عن أبي عون الثقفي : أنه سمع صُبيحًا قال : سمعت عثمان يقرأ : ( " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللهَ عَلَى مَا أَصَابَهُم " ). (4)
7596 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا ابن
__________
(1) انظر تفسير " الخير " فيما سلف 2 : 505.
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف 3 : 293 / 4 : 547 ، 548 / 5 : 44 ، 76 ، 93 ، 137 ، 520 .
(3) انظر ما سلف 1 : 249 ، 250 / 3 : 561.
(4) الأثر : 7595 - " عيسى بن عمر الأسدي " المعروف بالهمداني ، القارئ الأعمى صاحب الحروف ، كوفي ثقة. مترجم في التهذيب وطبقات القراء 1 : 612. " أبو عون الثقفي " هو : " محمد بن عبيد الله بن سعيد " الأعور ، كوفي تابعي ثقة. مترجم في التهذيب ، وطبقات القراء 2 : 194. أما " صبيح " ، فلم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 449 قال : " صبيح ، قال سمعت عثمان يقرأ : " ولتكن منكم أمة يهدون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم. روى عيسى بن عمر القارئ ، عن أبي عون ، عنه " . ولم يزد على ذلك ، وفي الجرح كما ترى " يهدون إلى الخير " على غير ما جاء في الطبري ، فإنه يوافق القراءة الموروثة. وفي التاريخ الكبير للبخاري " صبيح بن عبد الله العبسي " أنه قال : " استعمل عثمان أبا سفيان بن الحارث على الفروض " ، ولست أستطيع أن أرجح أنهما رجل واحد. وانظر الدر المنثور 2 : 61 ، 62.

(7/91)


وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)

عيينة ، عن عمرو ابن دينار قال : سمعت ابن الزبير يقرأ ، فذكر مثل قراءة عثمان التي ذكرناها قبل سواء.
7597 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ، قال : هم خاصة أصحابِ رسول الله ، وهم خاصَّة الرواة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولا تكونوا " ، يا معشر الذين آمنوا " كالذين تفرقوا " من أهل الكتاب " واختلفوا " في دين الله وأمره ونهيه " من بعد ما جاءهم البينات " ، من حجج الله ، فيما اختلفوا فيه ، وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه ، وخالفوا أمرَ الله ، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله " وأولئك لهم " ، يعني : ولهؤلاء الذين تفرقوا ، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم " عذاب " من عند الله " عظيم " ، يقول جل ثناؤه : فلا تتفرقوا ، يا معشر المؤمنين ، في دينكم تفرُّق هؤلاء في دينهم ، ولا تفعلوا فعلهم ، وتستنوا في دينكم بسنتهم ، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم ، كما : -
7598 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " ، قال : هم أهل الكتاب ، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا ، كما
__________
(1) الأثر 7597 - رواه ابن كثير في تفسيره 2 : 209 ولفظه : " قال الضحاك : هم خاصة الصحابة ، وخاصة الرواة " ثم بينه فقال : " يعني المجاهدين والعلماء " .

(7/92)


يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)

تفرق واختلف أهل الكتاب ، قال الله عز وجل : " وأولئك لهم عذابٌ عظيم " .
7599 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة ، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
7600 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ، قال : هم اليهود والنصارى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه.
* * *
وأما قوله : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن معناه : فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. ولا بدل " أما " من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت " الفاء " معه. وإنما جاز ترك ذكر " فيقال " لدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *

(7/93)


وأما معنى قوله جل ثناؤه : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به.
فقال بعضهم : عني به أهل قبلتنا من المسلمين.
*ذكر من قال ذلك :
7601 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، الآية ، لقد كفر أقوامٌ بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " والذي نفس محمد بيده ، ليردنّ على الحوض ممن صحبني أقوامٌ ، حتى إذا رُفعوا إليّ ورأيتهم ، اختُلِجوا دوني ، فلأقولن : ربّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنّ : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " ! وقوله : " وأما الذين ابيضتْ وجوههم ففي رحمة الله " ، هؤلاء أهل طاعة الله ، والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " . (1)
7602 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.
7603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، قال : هم الخوارج.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك : كلّ من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن ،
__________
(1) الأثر : 7601 - هذا أثر مرسل ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه بغير هذا اللفظ (الفتح 11 : 408 ، 412 وما بعدها) ومسلم في صحيحه 17 : 194 ، وقوله : " رفعوا إلى " ، أي أظهرهم الله له فرآهم من بعيد. واختلج الشيء : نزعه وجذبه.

(7/94)


حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بيَّن في كتابه. (1)
*ذكر من قال ذلك :
7604 - حدثني المثني قال ، حدثنا علي بن الهيثم قال ، أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسودَّ وجهه ، وعيَّرهم. " أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون " ، قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقرُّوا كلهم بالعبودية ، وفطرهُمْ على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، يقول : بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيَّض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته.
* * *
وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، المنافقون.
*ذكر من قال ذلك :
7605 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " الآية ، قال : هم المنافقون ، كانوا أعطوا كلمةَ الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) [سورة الأعراف : 172].
__________
(1) يعني آية " سورة الأعراف : 172 قوله تعالى : {وَإِذْ أخَذَ ربكَ مِنْ بني آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية.

(7/95)


وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين : أحدهما سودًا وجوهه ، والآخر بيضًا وجوهه. (1) فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه. فلا وجه إذًا لقول قائل : " عنى بقوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، بعض الكفار دون بعض " ، وقد عمّ الله جل ثناؤه الخبرَ عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة ، كان معلومًا أنها المرادة بذلك. (2)
* * *
فتأويل الآية إذًا : أولئك لهم عذاب عظيمٌ في يوم تبيضُّ وجوه قوم وتسودُّ وجوه آخرين. فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهدَه وميثاقَه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئًا ، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم يعني : بعد تصديقكم به ؟ " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق " وأما الذين أبيضَّت وجوههم " . ممن ثبتَ على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدِّل دينه ، ولم ينقلب على عَقِبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره " ففي رحمة الله " ، يقول : فهم في رحمة الله ، يعني : في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها " هم فيها خالدون " ، أي : باقون فيها أبدًا بغير نهاية ولا غاية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " سوداء... بيضاء " والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " أنها المراد " بغير تاء ، والصواب ما في المخطوطة.

(7/96)


تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)

القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " تلك آيات الله " ، هذه آيات الله.
* * *
وقد بينا كيف وضعت العرب " تلك " و " ذلك " مكان " هذا " و " هذه " ، في غير هذا الموضع فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقوله : " آيات الله " ، (2) يعني : مواعظ الله وعبره وحججه. " نتلوها عليك " ، (3) نقرؤها عليك ونقصُّها " (بالحق) ، يعني بالصدق واليقين.
وإنما يعني بقوله : " تلك آيات الله " ، هذه الآيات التي ذكر فيها أمورَ المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب ، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده ، وبالمبدِّلين دينه ، والناقضين عهدَه بعد الإقرار به. ثم أخبر عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحق ، وأعلمه أن من عاقبَ من خلقه بما أخبر أنه معاقبه [به] : (4) من تسويد وجهه ، وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه ومن جازاه منهم بما جازاه : من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه ، بتخليده في دائم نعيمه ، فبغير ظلم منه لفريق منهم ، بل بحق استوجبوه ، (5) وأعمال لهم سلفت ، جازاهم عليها ، فقال تعالى ذكره : " وما الله يريد ظلمًا للعالمين " ، يعني بذلك : وليس الله يا محمد
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 225 - 228 / 3 : 335.
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف في فهارس اللغة مادة " أيا " .
(3) انظر تفسير " تلا " فيما سلف 2 : 409 - 411 ، 566 - 570 / 6 : 466.
(4) في المطبوعة : " أن من عاقبه " ، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب. وما بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق.
(5) في المطبوعة : " بل لحق " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/97)


بتسويد وجوه هؤلاء ، وإذاقتهم العذاب العظيم ، وتبييض وجوه هؤلاء وتنعيمه إياهم في جنته طالبًا وضعَ شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه إعلامًا بذلك عباده أنه لن يصلح في حكمته بخلقه غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به ، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به وإنذارًا منه هؤلاء وتبشيرًا منه هؤلاء.
* * *

(7/98)


وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (109) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه ، ويثيب أهلَ الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصفَ أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه ، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل ، لأنه لا حاجة به إلى الظلم. وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه ، أو إلى سلطانه سلطانًا ، أو إلى ملكه ملكًا ، (1) أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام. (2) فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب ، وما في الدنيا والآخرة ، فلا معنى لظلمه أحدًا ، فيجوز أن يظلم شيئًا ، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقصٌ يحتاج إلى تمام ، فيتم ذلك بظلم
__________
(1) في المطبوعة : " وإلى ملكه " بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وإلى ملكه ملكًا لنقصان في بعض أسبابه يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام " ، وهي جملة تشبه أن تكون مستقيمة ، بيد أن الطبري أراد أن الظالم يظلم ليزداد عزة إلى عزه - أو سلطانًا إلى سلطانه - أو ملكًا إلى ملكه - أو أن يتمم بظلمه ما كان ناقصًا من أسبابه. وعبارة الطبري التي أثبتها مستقيمة جدا على طريقته في العبارة.

(7/98)


غيره ، تعالى الله علوًّا كبيرًا. ولذلك قال جل ثناؤه عَقِيب قوله : " وما الله يريد ظلمًا للعالمين " ، " ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور " .
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " ظاهرًا ، وقد تقدم اسمُه ظاهرًا مع قوله : " ولله ما في السموات وما في الأرض " .
فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : ذلك نظيرُ قول العرب : " أما زيدٌ فذهب زيدٌ " ، وكما قال الشاعر : (1)
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى وَالفَقِيرَا (2)
فأظهر في موضع الإضمار.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : ليس ذلك نظير هذا البيت ، لأن موضع " الموت "
__________
(1) هو عدى بن زيد ، وقد ينسب إلى ولده سوادة بن عدي ، وربما نسب لأمية بن أبي الصلت.
(2) حماسة البحتري : 98 ، وشعراء الجاهلية : 468 ، وسيبويه 1 : 30 ، وخزانة الأدب 1 : 183 ، 2 : 534 ، 4 : 552 ، وأمالي ابن الشجري 1 : 243 ، 288 ، وشرح شواهد المغني : 296 ، وهو من أبيات مفرقة في هذه الكتب وغيرها من حكمة عدي في تأمل الحياة والموت ، يقول قبل البيت : إنّ للدَّهْرِ صَوْلَةً فَاحْذَرنْهَا ... لا تَبِيتَنَّ قَدْ أمِنْتَ الدّهورَا
قَدْ يَنَامُ الفَتَى صَحِيحًا فَيَرْدَى ... وَلَقَدْ بَاتَ آمِنًا مَسْرُورَا
لا أَرَى المَوْتَ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم يقول بعد أبيات : أَيْنَ أيْنَ الفِرَارُ مِمَّا سَيَأْتِي ... لا أَرَى طَائِرًا نَجَا أَنْ يَطِيرَا
ويقول : غني الناس وفقيرهم ، فيهم مفسد عليه حياته من مخافة هذا الموت ، ومن ترقبه ، هذا يخاف أن يسبقه الموت إلى ماله الذي جمع ، وذاك يفزع أن يسبقه الردى إلى ما يؤمل من متاع الدنيا. وكان هذا البيت في المخطوطة فاسدًا محرفًا ناقصًا ، وهو في المطبوعة سوى مستقيم.

(7/99)


كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

الثاني في البيت موضع كناية ، لأنه كلمة واحدة ، (1) وليس ذلك كذلك في الآية ، لأن قوله : " ولله ما في السموات وما في الأرض " خبرٌ ، ليس من قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " في شيء ، وذلك أنّ كلّ واحدة من القصتين مفارقٌ معناها معنى الأخرى ، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها ، غير محتاجة إلى الأخرى. وما قال الشاعر : " لا أرى الموت " ، محتاجٌ إلى تمام الخبر عنه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب ، لأن كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان ، (3) إلى الشواذ من الكلام والمعاني ، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم ، وجهٌ صحيح موجودٌ.
وأما قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " فإنه يعني تعالى ذكره : إلى الله مصير أمر جميع خلقه ، الصالح منهم والطالح ، والمحسن والمسيء ، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء ، بغير ظلم منه أحدا منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " .
فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
__________
(1) الكناية : هو الضمير في اصطلاح بقية النحويين.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " كما قال الشاعر " ، وهو غير مستقيم ، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة : " لا يؤخذ معانيه " ، وفي المخطوطة : " لا يوحد " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، والناسخ كثير التصحيف كما علمت ، والدال هي الهاء في آخر الكلمة.

(7/100)


إلى المدينة وخاصة ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك :
7606 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين خرجوا معه من مكة.
7607 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
7608 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال : " أنتم " ، فكنا كلنا ، ولكن قال : " كنتم " في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
7609 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال ، عكرمة : نزلت في ابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل.
7610 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه : قال عمر : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
7611 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. (1)
__________
(1) الأثر : 7611 - رواه أحمد في المسند رقم : 2463 ، 2928 ، 2989 ، 3321 ، وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 294 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.

(7/101)


7612 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة ، (1) فقرأ هذه : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، الآية. ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤد شرط الله منها. (2)
7613 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. (3)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، أخرجوا للناس في زمانكم.
*ذكر من قال ذلك :
7614 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، يقول : على هذا الشرط : أن تأمرُوا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [سورة الدخان : 32].
7615 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الرعة (بكسر الراء وفتح العين) أصلها من الورع ، مثل " العدة " من " الوعد " . والرعة : الهدى وسوء الهيئة أو حسن الهيئة ، أي هي بمعنى : الشأن والأمر والأدب. وفي حديث الحسن : " ازدحموا عليه فرأى منهم رعة سيئة فقال : اللهم إليك " ، أي سوء أدب ، لم يحسنوا الكف عما يشين.
(2) قوله : " شرط الله منها " ، أي شرط الله الذي طلبه منها.
(3) قد مضى تفسير معنى " الرواة " في الأثر رقم 7597 ، والتعليق عليه.

(7/102)


ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال يقول : كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنوا بالله يقول : لمن بين ظَهريه ، كقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [سورة الدخان : 32].
7616 - وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام. (1)
7617 - حدثنا عبيد بن أسباط قال ، حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : خيرَ الناس للناس.
* * *
وقال آخرون : إنما قيل : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
*ذكر من قال ذلك :
7618 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، (2) حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة ، فمن ثمَ قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " .
* * *
__________
(1) الأثر : 7616 - أخرجه البخاري من طريق محمد بن سفيان عن ميسرة. (الفتح 8 : 169) وقال الحافظ : " ميسرة : هو ابن عمار الأشجعي ، كوفي ثقة ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق " . و " أبو حازم " هو " سلمان الأشجعي الكوفي " ، وفي الفتح " سليمان " ، وهو خطأ وتصحيف. ولفظ البخاري : " تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم ، حتى يدخلوا في الإسلام " .
وقد استوفى الحافظ في هذا الموضع ، الحديث عن معنى الآية ، وذكر أكثر الآثار التي سلفت ، والتي ستأتي بعد.
(2) في المطبوعة : " عمار بن الحسين " ، وهو خطأ ، والصواب في المخطوطة.

(7/103)


وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
*ذكر من قال ذلك :
7619 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال : قد كان ما تسمعُ من الخير في هذه الأمة.
7620 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرُها وأكرمُها على الله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ، وذلك أن :
7621 - يعقوب بن إبراهيم حدثني قال ، حدثنا ابن علية ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا إنكم وفيَّتم سبعين أمَّة ، أنتم آخرها وأكرمها على الله.
7622 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : أنتم تتمُّون سبعين أمة ، أنتم خيرُها وأكرمها على الله " . (1)
__________
(1) الحديثان : 7621 ، 7622 - هما حديث واحد بإسنادين. وقد مضى بالإسنادين معًا مجموعين ، برقم : 873. وقد خرجناه هناك مفصلا ، وأشرنا إلى مواضعه هنا في طبعة بولاق. ونزيد هنا أنه رواه أيضا الحاكم في المستدرك 4 : 84 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، بالإسناد الثاني هنا. وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي. ثم أشار الحاكم إلى متابعة سعيد الجريري ، بروايته إياه عن حكيم بن معاوية. ثم رواه من طريق يزيد بن هارون ، عن الجريري. ورواية الجريري سبق أن خرجناها هناك من رواية أحمد في المسند.
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 169 ، مشيرًا إلى رواية الطبري إياه ، ثم قال : " وهو حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي وحسنه. وابن ماجه ، والحاكم وصححه " .
وقد ورد معناه أيضًا ، ضمن حديث مطول عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا ، رواه أحمد في المسند : 11609 (ج3 ص 61 حلبى). وإسناده صحيح.

(7/104)


7623 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة : " نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها " .
* * *
وأما قوله : " تأمرون بالمعروف " ، فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه " وتنهون عن المنكر " ، يعني : وتنهون عن الشرك بالله. وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه ، كما : -
7624 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " . يقول : تأمرونهم بالمعروف : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، و " لا إله إلا الله " ، هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر ، والمنكر هو التكذيب ، وهو أنكرُ المنكر.
* * *
وأصل " المعروف " كل ما كان معروفًا فعله ، جميلا مستحسنًا ، (1) غير مستقبح في أهل الإيمان بالله ، وإنما سميت طاعة الله " معروفًا " ، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. (2) .
* * *
وأصل " المنكر " ، ما أنكره الله ، ورأوه قبيحًا فعلهُ ، ولذلك سميت معصية الله " منكرًا " ، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ، ويستعظمون رُكوبها. (3)
* * *
وقوله : " وتؤمنون بالله " ، يعني : تصدّقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " كل ما كان معروفًا ، ففعله جميل مستحسن " ، غيروا نص المخطوطة. ظنًا منهم أنه غير مستقيم ، وهو أحسن استقامة مما أثبتوا!! بل هو الصواب المحض.
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف قريبًا ص : 91 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " المنكر " فيما سلف قريبا ص : 91.

(7/105)


قال أبو جعفر : فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : " كنتم خير أمة " ، وقد زعمتَ أن تأويل الآية : أنّ هذه الأمة خيرُ الأمم التي مضت ، وإنما يقال : " كنتم خير أمة " ، لقوم كانوا خيارًا فتغيَّروا عما كانوا عليه ؟
قيل : إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة ، كما قيل : (واذكروا إذ أنتم قليل) [الأنفال : 26] وقد قال في موضع آخر : (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف : 86] فإدخال " كان " في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد ، لأن الكلام معروف معناه. (1) ولو قال أيضا في ذلك قائل : " كنتم " ، بمعنى التمام ، كان تأويله : خُلقتم خير أمة أو : وجدتم خير أمة ، كان معنى صحيحًا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ ، أخرجت للناس.
* * *
والقولان الأولان اللذان قلنا ، أشبهُ بمعنى الخبر الذي رويناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة. وقال : " الأمة " : الطريقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 229.
(2) انظر تفسير " أمة " فيما سلف 1 : 221 / ثم هذا ص 90 ، والمراجع هناك في التعليق.

(7/106)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولو صدَّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله ؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم " منهم المؤمنون " ، يعني : من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، المؤمنون المصدِّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله ، وهم : عبد الله بن سلام وأخوه ، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه ، (1) وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله " وأكثرهم الفاسقون " ، يعني : الخارجون عن دينهم ، (2) وذلك أن من دين اليهود اتباعُ ما في التوراة والتصديقُ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن دين النصارى اتباعُ ما في الإنجيل ، والتصديق به وبما في التوراة ، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ، (3) وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين - أعني اليهود والنصارى - مكذبة ، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به ، الذي قال جل ثناؤه : " وأكثرهم الفاسقون " .
* * *
وقال قتادة بما : -
__________
(1) في المطبوعة : " ثعلبة بن سعيد " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبته من المخطوطة و " سعية " بالسين المهملة المفتوحة والياء المنقوطة باثنين. وسيأتي على الصواب في خبر إسلامه وإسلام أخيه ، بعد قليل ، رقم : 7644.
(2) انظر تفسيره " الفسق " فيما سلف 1 : 409 ، 410 / 2 : 118 ، 399 / 4. 135 - 141 / 6 : 91.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وفي كل الكتابين. . . " ، وهو تحريف ، والصواب ما أثبت.

(7/107)


لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)

7625 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " ، ذم الله أكثر الناس.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لن يضركم ، يا أهل الإيمان بالله ورسوله ، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئا " إلا أذى " ، يعني بذلك : ولكنهم يؤذونكم بشركهم ، وإسماعكم كفرهم ، وقولهم في عيسى وأمه وعزير ، ودعائهم إياكم إلى الضلالة ، ولن يضروكم بذلك ، (1) .
* * *
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله ، كما قيل : " ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا " ، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7626 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " لن يضروكم إلا أذى " ، يقول : لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم.
7627 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " لن يضروكم إلا أذى " ، قال : أذى تسمعونه منهم.
7628 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " ولا يضرونكم " ، وفي المخطوطة : " ولا يضروكم " ، والصواب هو ما أثبت.

(7/108)


ابن جريج ، قوله : " لن يضروكم إلا آذى " ، قال : إشراكهم في عُزير وعيسى والصَّليب.
7629 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " لن يضروكم إلا أذى " الآية ، قال : تسمعون منهم كذبًا على الله ، يدعونكم إلى الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن يقاتلكم أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى يهزَموا عنكم ، فيولوكم أدبارهم انهزامًا.
* * *
فقوله : " يولوكم الأدبار " ، كناية عن انهزامهم ، لأن المنهزم يحوِّل ظهره إلى جهة الطالب هربًا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه ، خوفًا على نفسه ، والطالبُ في أثره. فدُبُر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازِمِِة.
* * *
" ثم لا ينصرون " ، يعني : ثم لا ينصرهم الله ، أيها المؤمنون ، عليكم ، لكفرهم بالله ورسوله ، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم ، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم. (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم " ، وهو تصحيح لما في المخطوطة : " قد ألقى الرعب في قلوب فأيدكم " ، وظاهر أن " قلوب " صوابها " قلوبهم " ، واستقام الكلام على ما في المخطوطة.

(7/109)


ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

وهذا وعدٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان ، نصرَهم على الكفرة به من أهل الكتاب.
* * *
وإنما رفع قوله : " ثم لا ينصرون " وقد جَزم قوله : " يولوكم الأدبار " ، على جواب الجزاء ، ائتنافًا للكلام ، لأن رؤوس الآيات قبلها بالنون ، فألحق هذه بها ، كما قال : ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) [سورة المرسلات : 36] ، رفعًا ، وقد قال في موضع آخر : ( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) [سورة فاطر : 36] إذْ لم يكن رأس آية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " ضُربت عليهم الذلة " ، ألزموا الذلة. و " الذلة " " الفعلة " من " الذل " ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (2)
* * *
" أينما ثقفوا " يعني : حيثما لقوا. (3)
* * *
يقول جل ثناؤه : ألزِم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض ، وبأي مكان كانوا من بقاعها ، من بلاد المسلمين والمشركين " إلا بحبل من الله ، وحبل من الناس " ، كما : -
7630 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف ، عن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 229.
(2) انظر تفسير " ضربت عليهم الذلة " فيما سلف 2 : 136.
(3) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3 : 564.

(7/110)


الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " ، (1) قال : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
7631 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : أذلهم الله فلا مَنْعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين.
* * *
وأما " الحبل " الذي ذكره الله في هذا الموضع ، (2) فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم ، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام. كما : -
7632 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا بحبل من الله " ، قال : بعهد " وحبل من الناس " ، قال : بعهدهم.
7633 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
7635 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد ، عن عثمان بن غياث ، قال ، (3) عكرمة : يقول : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس.
__________
(1) سقط من الناسخ : " وباءوا بغضب من الله " ، ومضت على ذلك المطبوعة ، فأثبت وجه التلاوة.
(2) انظر تفسير " الحبل " فيما سلف قريبا ص : 70 ، 71.
(3) في المخطوطة : " عثمان بن عتاب " ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/111)


7636 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7637 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7638 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فهو عهد من الله وعهد من الناس ، كما يقول الرجل : " ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فهو الميثاق.
7639 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : " أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله وعهد من الناس لهم قال ابن جريج ، وقال عطاء : العهدُ حبل الله.
7640 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : إلا بعهد ، وهم يهود. قال : والحبل العهد. قال : وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة : " أيها الرجل ، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس " ، يقول : عهودًا ، قال : واليهود لا يأمنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل. وقرأ : ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) [سورة آل عمران : 55] ، قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذَلُّون ، قال الله : ( وَقَطَّعْنَاهُم

(7/112)


فِي الأرْضِ أُمَمًا ) [سورة الأعراف : 168] ، يهود. (1)
7641 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : بعهد من الله وعهد من الناس.
7642 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب " الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فقال بعض نحويي الكوفة : (2) الذي جلب " الباء " في قوله : " بحبل " ، فعل مضمر قد تُرك ذكره. قال : ومعنى الكلام : ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، إلا أن يعتصموا بحبل من الله فأضمر ذلك ، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر : (3)
رَأَتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخَافَةً... وَفِي الحَبْلِ رَوْعَاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (4)
وقال : أراد : أقبلت بحبليها ، وبقول الآخر : (5)
__________
(1) الأثر : 7640 - مضى مختصرًا برقم : 7155.
(2) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 230.
(3) هو حميد بن ثور الهلالي.
(4) ديوانه : 35 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 230 ، واللسان (نسع) و (فرق) وفي رواية البيت في مادة (فرق) خطأ قبيح وتصحيف ، صوابه ما في التفسير هنا. وأما رواية الديوان فهي : فَجِئْتُ بِحَبْلَيْهَا ، فَرَدَّتْ مَخَافةً ... إِلى النَّفْسِ رَوْعَاءُ الجنانِ فَرُوقُ
و " روعاء الجنان " : شديدة الذكاء ، حية النفس ، شهمة ، كأن بها فزعًا من حدتها وخفة روحها. و " فروق " : شديدة الفزع. لم يرد ذمًا ، ولكنه مدح ناقته بحدة الفؤاد ، تفزع لكل نبأة من يقظتها ، كما قالوا في مدحها : " مجنونة " . يقول ذلك في ناقته : رأتني أقبلت بالحبلين ، لأشد عليها رحلي ، فصدت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال : فلما شددت عليها الرحل ، كانت في الحبل ذكية شهمة ، تتوجس لكل نبأة من يقظتها وتوقدها.
(5) هو أبو الطمحان القينى ، حنظلة بن الشرقي ، من بني كنانة بن القين. وهو أحد المعمرين وينسب هذا الشعر أيضًا لعدي بن زيد ، وللمسحاج بن سباع الضبي.

(7/113)


حَنْتنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى... كأَنِّي خَاتِلٌ أَدْنُو لِصَيْدِ (1)
قَرِيبُ الخَطُوِ يَحْسِبُ مَنْ رَآنِي... وَلْسُت مقَيدًا أَنِّى بِقَيْدِ
فأوجب إعمال فعل محذوف ، وإظهار صلته وهو متروك. (2) وذلك في مذاهب العربية ضعيف ، ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات ، فغير دالّ على صحة دعواه ، لأن في قول الشاعر : " رأتني بحبليها " ، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكًا ، ففي إخباره عنها أنها " رأته بحبليها " ، إخبارٌ منه أنها رأته ممسكًا بالحبلين. فكان فيما ظهر من الكلام مستغنًى عن ذكر " الإمساك " ، وكانت " الباء " صلة لقوله : " رأتني " ، كما في قول القائل : (3) " أنا بالله " ، مكتف بنفسه ، ومعرفةِ السامع معناه ، أن تكون " الباء " محتاجة إلى كلام يكون لها جالبًا غير الذي ظهر ، وأن المعنى : " أنا بالله مستعين " .
* * *
__________
(1) كتاب المعمرين : 57 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 230 ، والأغاني 2 : 353 ، 356 ، وفيه أيضا 12 : 347 ، وحماسة البحتري : 202 ، وأمالي القالي 1 : 110 ، وأمالي الشريف 1 : 46 ، 257 ، ومجموعة المعاني : 123 ، والمعاني الكبير : 1214 ، مع اختلاف كبير في الرواية ، واللسان (ختل) ، وغيرها. هذا ، وقد اقتصرت المطبوعة والمخطوطة على البيت الأول ، وهو عمل فاسد جدًا ، وليس من فعل أبي جعفر بلا شك ، ولكنه من سهو الناسخ. لأن أبا جعفر نقل مقالة الفراء في معاني القرآن ، وإسقاط البيت الثاني ، وهو بيت الشاهد ، فساد عظيم ، فأثبت البيت ، وأثبت أيضًا تعقيب الفراء عليه ، وهو قوله : " يريد مقيدًا بقيد " ، ولم أضع هذا بين أقواس ، لأن سهو الناسخ أمر مقطوع به بالدليل البين.
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " أحنو لصيد " ، وهو تصحيف لا شك فيه. ذلك أن أبا جعفر إنما ينقل مقالة الفراء ، وهو في كتاب الفراء ، وفيما نقله عنه الناقلون في المراجع السالفة ، هو الذي أثبته. هذا مع ظهور التصحيف وقربه ، ومع فساد معنى هذا التصحيف ، ومع فقدان هذه الرواية الغريبة. وقوله : " خاتل " ، يعني صائدًا ، يقال : " ختل الصيد " ، أي : استتر الصائد بشيء ليرمي الصيد ، فهو في سبيل ذلك يمشي قليلا قليلا في خفية ، لئلا يسمع الصيد حسه. فهذا هو الختل والمخاتلة.
(2) " الصلة " هنا : الجار والمجرور.
(3) في المطبوعة : " كما في قول القائل " بزيادة " في " ، وهي أشد إفسادًا للكلام من تصحيف هذا الناسخ في بعض ما يكتب. وقوله : " مكتف بنفسه " خبر لقوله : " كما قول القائل " وقوله : " ومعرفة السامع " معطوف على قوله : " بنفسه " أي : مكتف بنفسه وبمعرفة السامع معناه.

(7/114)


وقال بعض نحويي البصرة ، قوله : " إلا بحبل من الله " استثناء خارجٌ من أول الكلام.قال : وليس ذلك بأشد من قوله : ( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا ) [سورة مريم : 62]
* * *
وقال آخرون من نحويي الكوفة : هو استثناء متصل ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، أي : بكل مكان إلا بموضع حبل من الله ، كما تقول : ضُربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان.
* * *
وهذا أيضًا طلب الحق فأخطأ المفصل. وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل ، ولو كان متصلا كما زعم ، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة. وليس ذلك صفة اليهود ، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس ، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس ، فالذلة مضروبة عليهم ، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثُقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلةُ مضروبةً عليهم. وذلك خلاف ما وصَفهم الله به من صفتهم ، وخلافُ ما هم به من الصفة ، فقد تبين أيضًا بذلك فساد قول هذا القائل أيضًا.
* * *
قال أبو جعفر : ولكن القول عندنا أن " الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله " ، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتضٍ في المعنى " الباء " . وذلك أن معنى قوله : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا " ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا ثم قال : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " على غير وجه الاتصال بالأول ، ولكنه على الانقطاع عنه. ومعناه : ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ،

(7/115)


كما قيل : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً ) [سورة النساء : 92] ، فالخطأ وإن كان منصوبًا بما عمل فيما قبل الاستثناء ، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى : " إلا خطأ " ، فإن له قتله كذلك ولكن معناه : ولكن قد يقتله خطأ. فكذلك قوله : " أينما ثقفوا إلا بحبل من الله ، وإن كان الذي جلب " الباء " التي بعد " إلا " الفعل الذي يقتضيها قبل " إلا " ، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله ، بمعنى : أن القوم إذا لُقوا ، فالذلة زائلة عنهم ، بل الذلة ثابتة بكل حال. ولكن معناه ما بينا آنفا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " وباؤوا بغضب من الله " ، وتحمَّلوا غضب الله فانصرفوا به مستحقِّيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده ، ومعنى " المسكنة " وأنها ذل الفاقة والفقر وخُشوعهما ، ومعنى : " الغضب من الله " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله : " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " ، يعني جل ثناؤه بقوله : " ذلك " ، أي بوْءُهم الذي باءوا به من غضب الله ، وضْربُ الذلة عليهم ، بدل مما كانوا
__________
(1) انظر تفسير " باء " فيما سلف 2 : 138 ، 345. وتفسير " غضب الله " 1 : 188 ، 189 / 2 : 138 ، 345. وتفسير " ضربت عليهم " 2 : 136 / 7 : 110 وتفسير " المسكنة " 2 : 137 ، 292 ، 293 / 3 : 345 / 4 : 295.

(7/116)


يكفرون بآيات الله يقول : مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه ، وما فرض عليهم من فرائضه " ويقتلون الأنبياء بغير حق " ، يقول : وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم ، اعتداءً على الله وجرأة عليه بالباطل ، وبغير حق استحقوا منهم القتل.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : ألزِموا الذلة بأي مكان لُقوا ، إلا بذمة من الله وذمة من الناس ، وانصرفوا بغضب من الله متحمِّليه ، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر ، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه ، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلمًا واعتداء.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فعلنا بهم ذلك بكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، ومعصيتهم ربَّهم ، واعتدائهم أمرَ ربهم.
* * *
وقد بينا معنى " الاعتداء " في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته (1) .
* * *
فأعلم رُّبنا جل ثناؤه عبادَه ، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب ، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا ، مع ما ذخر لهم في الأجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب ، (2) إذ تعدوا حدودَ الله ، واستحلوا محارمه تذكيرًا منه تعالى ذكره
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 142 ، 167 ، 307 / 3 : 375 ، 376 ، 564 ، 580 / 4 : 583 ، 584 ، وغيرها.
(2) في المطبوعة : " مع ما ادخر لهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء في المعنى.

(7/117)


لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)

لهم ، وتنبيهًا على موضع البلاء الذي من قِبَاله أتوا لينيبوا ويذّكروا ، وعِظة منه لأمتنا أن لا يستنُّوا بسنتهم ويركبوا منهاجهم ، (1) فيسلك بهم مسالكهم ، ويحل بهم من نقم الله ومثُلاته ما أحل بهم. كما : -
7643 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، اجتنِبُوا المعصية والعدوان ، فإن بهما أهلِك مَنْ أُهْلك قبلكم من الناس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ليسوا سواء " ، ليس فريقًا أهل الكتاب ، أهل الإيمان منهم والكفر : سواء. يعني بذلك : أنهم غير متساوين. يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد ، والخير والشر. (2) .
* * *
وإنما قيل : " ليسوا سواء " ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله : ( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، (3) ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده ، المؤمنة منهما والكافرة فقال : " ليسوا سواء " ، أي : ليس هؤلاء سواء ، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبرَ جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل
__________
(1) في المطبوعة : " منها جهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أجود.
(2) انظر تفسير " سواء " فيما سلف 1 : 256.
(3) هي الآية السالفة قبل قليل : 110 من سورة آل عمران.

(7/118)


الكتاب ، ومدحَهم ، وأثنى عليهم ، بعد ما وصف الفِرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ، ونَخْب الجَنان ، (1) ومحالفة الذل والصغار ، وملازمة الفاقة والمسكنة ، وتحمُّل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة ، فقال : " من أهل الكتاب أمَّة قائمةٌ يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون " ، الآيات الثلاث ، إلى قوله : " والله عليم بالمتقين " .
* * *
فقوله : (2) " أمة قائمة " مرفوعةٌ بقوله : " من أهل الكتاب " .
* * *
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدَّمين منهم في صناعتهم : (3) أن ما بعد " سواء " في هذا الموضع من قوله : " أمة قائمة " ، ترجمةٌ عن " سواء " وتفسيرٌ عنه ، (4) بمعنى : لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة. وزعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى ، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين ، وهي " الأمة القائمة " ، ومثَّلوه بقول أبي ذئيب :
عَصَيْتُ إلَيْهَا القَلْبَ : إنِّي لأمْرِهَا... سَمِيعٌ ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابُهَا? (5)
ولم يقل : " أم غير رشد " ، اكتفاء بقوله : " أرشد " من ذكر " أم غير رشد " ، . وبقول الآخر : (6)
أَرَاك فَلا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتُه?... وَذُو الهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ (7)
* * *
__________
(1) النخب (بفتح فسكون) : الجبن وضعف القلب. ورجل منخوب الجنان ونخيب الجنان : جبان لا قلب له ، كأنه منتزع الفؤاد فلا فؤاد له.
(2) في المطبوعة : " قوله " بغير فاء في أولها ، والصواب من المخطوطة.
(3) يعني الفراء في معاني القرآن 1 : 230 ، 231 ، وهذا قريب من نص كلامه ، وبعض شواهده.
(4) الترجمة : يعني البدل ، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2 : 340 ، 374 ، 420 ، 424 ، 426 ، وغيرها من المواضع في فهرس المصطلحات.
(5) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1 : 327.
(6) لم أعرف قائله.
(7) معاني القرآن للفراء 1 : 231 . وكان في المطبوعة : " أزال فلا أدري ... " ، وهو لا معنى له ، والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن. ولست أدري أيخاطب امرأة فيقول لها : إن الهم يغلبني إذا رأيتك. فأنا له خاشع متضائل أم هو يريد الهم والفتك ، فيقول : إن الذي يضمر في نفسه شيئًا يهم به من الفتك ، يخفى شخصه حتى يبلغ غاية ثأره بعدوه. ولا أرجح شيئًا حتى أجد إخوة هذا البيت.

(7/119)


قال أبو جعفر : وهو مع ذلك عندهم خطأٌ قولُ القائل المريد أن يقول : " سواء أقمتَ أم قعدت " : " سواء أقمت " ، حتى يقول : " أم قعدت " . ، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيًا بواحد ، دون ما كان ناقصًا عن ذلك ، وذلك نحو : " ما أبالي " أو " ما أدري " ، فأجازوا في ذلك : " ما أبالي أقمت " ، وهم يريدون : " ما أبالي أقمت أم قعدت " ، لاكتفاء " ما أبالي " بواحد وكذلك في " ما أدري " . وأبوا الإجازة في " سواء " ، من أجل نقصانه ، وأنه غير مكتف بواحد ، فأغفلوا في توجيههم قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " على ما حكينا عنهم ، إلى ما وجهوه إليه - مذاهبَهم في العربية (1) إذّ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع " سواء " ، وأخطأوا تأويل الآية. فـ " سواء " في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء ، لا بالمعنى الذي تأوَّله من حكينا قوله.
* * *
وقد ذكر أن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآيات الثلاث ، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم.
*ذكر من قال ذلك :
7644 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال ، حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سَعْية ، وأسَيْد بن سعية ، وأسد بن عُبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا
__________
(1) قوله : " مذاهبهم " مفعول " فأغفلوا " . والسياق : فأغفلوا في توجيههم قوله إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية. . .

(7/120)


فيه ، (1) قالت : أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! (2) ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله " إلى قوله : " وأولئك من الصالحين " . (3)
7645 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، (4) عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه. (5)
7646 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية ، يقول : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية. (6)
7647 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : " أمة قائمة " ، عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سلام أخوه ، وسعية ، (7) ومبشر ، وأسَيْد وأسد ابنا كعب.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله ، سواء عند الله.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " ومنحوا فيه " ، وفي المخطوطة : " ومحوا " غير منقوطة ، وهي تصحيف للذي أثبته من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أشرارنا " كما أثبتها ، والذي في سيرة ابن هشام " شرارنا " . وهي أجود.
(3) الأثران : 7644 ، 7645 - سيرة ابن هشام 2 : 206.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " يونس عن بكير " ، وهو خطأ ، وهذا إسناد كثير الدوران في التفسير أقربه رقم : 7334.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " أشرارنا " كما أثبتها ، والذي في سيرة ابن هشام " شرارنا " . وهي أجود.
(6) في المخطوطة " لله فيهم عليه " غير منقوطة ، وتركت ما في المطبوعة ، لأنه وافق ما في الدر المنثور 2 : 64 ، 65.
(7) في المطبوعة : " شعية " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/121)


7648 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمةُ محمد صلى الله عليه وسلم . (1)
7649 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود ، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك ، قولُ من قال : قد تمت القصة عند قوله : " ليسوا سواء " ، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم ، وأنّ قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم ، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله : " أمة قائمة " ، جماعة ثابتةٌ على الحق.
* * *
وقد دللنا على معنى " الأمة " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
وأما " القائمة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناها : العادلة.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الحديث : 7648 - أبو عاصم : هو النبيل ، الضحاك بن مخلد. مضى في : 2155. عيسى : هو ابن ميمون الجرشي المكي. مضى في : 278.
الحسن بن يزيد العجلى : تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمة البخاري في الكبير ، 1 / 2 / 306 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 42 - فلم يذكرا فيه جرحًا وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2 : 224 ، عن ابن أبي نجيح غير منسوب لتخريج وسيأتي له بقية بهذا الإسناد 7660 ، وقد جمعها السيوطي حديثا واحدا 2 : 65 ، كما سيأتي هناك .
(2) انظر ما سلف قريبًا ص : 106 والتعليق : 2 ، وفيه المراجع.

(7/122)


7650 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أمة قائمة " ، قال : عادلة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه.
*ذكر من قال ذلك :
7651 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده.
7652 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه.
7653 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنى أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، يقول : أمة مهتدية ، قائمة على أمر الله ، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
* * *
وقال آخرون. بل معنى " قائمة " ، مطيعة.
*ذكر من قال ذلك :
7654 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله و " القانتة " ، المطيعة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم ، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله : " قائمة " ، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه ، والعدلُ والطاعةُ

(7/123)


وغير ذلك من أسباب الخير ، (1) من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك ، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
7655 - " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم ركبوا سفينة " ، ثم ضرب لهم مثلا. (2) .
* * *
فالقائم على حدود الله : هو الثابت على التمسك بما أمره الله به ، واجتناب ما نهاهُ الله عنه.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله ، متمسكة به ، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " بالعدل والطاعة. . . " ، وهو خطأ وفساد كبير في السياق ، والصواب ما أثبت ، لأن الطبري فسر " قائمة " بمعنى مستقيمة ، ثم ذكر أقوال أهل التأويل التي قالوها قبل من " العدل " و " الطاعة " ، ثم قال إنها " من صفة أهل الاستقامة " . فهي بذلك داخلة في معنى " قائمة " كما فسرها.
(2) الحديث : 7655 - هذا حديث صحيح ، أشار إليه الطبري إشارة ، دون أن يذكره بتمامه ، ولم يذكر إسناده.
وقد رواه أحمد في المسند 4 : 268 (حلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بَشِير قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَثَلُ القائم على حدود الله تعالى ، والمُدْهِنِ فيها ، كَمَثَلِ قوم اسْتَهَمُوا على سَفِينة في البحر فأصاب بعضُهم أَسْفَلهَا ، وأصاب بعضُهم أَعْلاها ، فكان الذين في أسفلها يَصْعَدُون فيَسْتَقُون الماءَ ، فيَصُبُّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أَعلاها : لا نَدَعُكم تَصْعَدون فتؤْذوننا ، فقال الذين في أسفلها : فإننا نَنْقُبُها من أسفلها فنَسْتَقِي! قال : فإن أَخَذُوا على أيديهم فمَنَعُوهم نَجَوْا جميعًا ، وإن تركوهم غَرِقُوا جميعًا " .
ثم رواه أحمد أيضًا 4 : 269 ، عن يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، و 270 ، عن إسحاق بن يوسف ، عن زكريا بن أبي زائدة ، و 273 - 274 ، عن سفيان ، عن مجالد - كلاهما ، أعني زكريا ومجالد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، نحوه.
ورواه البخاري 5 : 94 (فتح) ، عن أبي نعيم ، عن زكريا ، عن الشعبي.
ثم رواه أيضا 5 : 216 : 217 ، عن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، به نحوه.

(7/124)


القول في تأويل قوله : { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " يتلون آيات الله " ، يقرءون كتاب الله آناء الليل. ويعني بقوله : " آيات الله " ، ما أنزل في كتابه من العبَر والمواعظ. يقول : يتلون ذلك آناء الليل ، يقول : في ساعات الليل ، فيتدبَّرونه ويتفكرون فيه.
* * *
وأما " آناء الليل " ، فساعات الليل ، واحدها " إنْيٌ " ، كما قال الشاعر : (1)
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ... فِي كُلِّ إِنْيٍ حذَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (2)
__________
(1) هو المتنخل الهذلي ، ولكنه سيأتي في الطبري منسوبًا إلى " المنخل السعدي " ، وهو خطأ حققته في موضعه بعد.
(2) ديوان الهذليين 2 : 35 ، ومجاز القرآن 1 : 102 ، وسيرة ابن هشام 2 : 206 ، واللسان " أنى " ، وسيأتي من التفسير 16 : 168 (بولاق) ، من قصيدته في رثاء ابنه أثيلة ، والبيت في صفة ولده ، وقد رواه ابن الأنباري ، كما جاء في اللسان : السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ ... بِكُلِّ إِنْيٍ قَضَاه اللَّيلُ يَنْتَعِلُ
فذكر الأزهري رواية ابن الأنباري ، وقال : وأنشده الجوهري ، ثم ساق البيت كما هو في التفسير ، ثم قال : " ونسبه أيضا للمنخل ، فإما أن يكون هو البيت بعينه ، أو آخر من قصيدة أخرى " . وهذا كلام لا شك في ضعفه ، والذي رواه ابن الأنباري خلط خلطه من بيت آخر في القصيدة ، أخطأ في روايته. وهو قوله قبل ذلك بأبيات : السَّالِكُ الثَّغْرَةَ اليَقْظَانَ كَالِئُهَا ... مَشْىَ الهَلُوكِ عَلَيْها الخَيْعَلُ الفُضُلُ
وأما معنى البيت الذي رواه في التفسير ، فإنه يعني بقوله : " حلو ومر " ، أنه سهل لمن لاينه ، صعب على من خاشنة. وقوله " كعطف القدح " ، يريد أنه يطوى كما يطوى القدح ثم يعود إلى شدته واستقامته. والمرة : القوة والشدة. ورواية الديوان والطبري " حذاه الليل " ، أي قطعه الليل حذاء ، وهو شبيه في المعنى بقوله : " قضاه " ، لأن معنى " قضاه " : أي صنعه وقدره وفصله. وانتعل الليل : اتخذه نعلا ، يعني سرى فيه ، غير حافل بما يلقى. هذا ، وقد كان في المطبوعة من التفسير : " قضاه الليل " ، نقله ناشر من مكان غير التفسير ، لأن في المخطوطة " حداه " غير منقوطة ، فلم يعرف معناها ، ولم يعرف صوابها فاستبدل بها ما أثبته من اللسان أو غيره.

(7/125)


وقد قيل إنّ واحد " الآناء " ، " إنًى " مقصور ، كما واحد " الأمعاء " " مِعًى " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : ساعات الليل ، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك :
7656 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، أي : ساعات الليل.
* * *
7657 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا أبن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : " آناء الليل " ، ساعات الليل.
7658 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ، عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول : " آناء الليل " ، ساعات الليل.
وقال آخرون " آناء الليل " ، جوف الليل.
*ذكر من قال ذلك :
7659 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، أما " آناء الليل " ، فجوفُ الليل.

(7/126)


وقال آخرون : بل عنى بذلك قومٌ كانوا يصلون العشاء الآخرة. (1)
*ذكر من قال ذلك :
7660 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، صلاة العَتَمة ، هم يصلُّونها ، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها. (2)
7661 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن سليمان ، عن زِرّ بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، كان عند بعض أهله ونسائه : فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فبشَّرنا وقال : " إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب! فأنزل الله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " العشاء " الأخيرة " ، والصواب من المخطوطة.
(2) الحديث : 7660 - هذا تتمة الحديث الماضي بهذا الإسناد : 7648 ، كما أشرنا هناك. وقد جمعهما السيوطى 2 : 65 حديثًا واحدًا ، نسبه للفريابي ، والبخاري في تاريخه. وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
ولم نر من هذه المصادر إلا ابن جرير ، وهو قد رواه مفرقًا حديثين ، كما ترى - وإلا التاريخ الكبير للبخاري ، وهو لم يروه كله. بل روى هذا القسم الأخير وحده موجزًا كعادته ، في ترجمة الحسن بن يزيد 1 / 2 / 306 ، قال ، " قال محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن ابن مسعود (يتلون آيات الله آناء الليل) ، قال : صلاة العتمة. وروى عمر بن ذر ، عن الحسن بن يزيد العجلى ، مرسلا " .
وانظر الحديثين بعد هذا.
(3) الحديث : 7661 - عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي : ثقة ، وثقه البخاري فيما نقل عنه الترمذي ، كما في التهذيب ، وكذلك وثقه أحمد بن صالح ، فيما روى عنه أبو داود. وضعفه أحمد ، وابن معين ، وابن المديني. وروى ابن أبي حاتم 2 / 2 / 315 عن أبيه ، أنه قال : " لين الحديث " . وعن أبي زرعة ، أنه قال : " لا بأس به ، صدوق " . ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء ، ونرى أن من تكلم فيه إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني ، الحمل فيها على علي بن يزيد. وانظر التهذيب.
و " زحر " : بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة.
سليمان : هو الأعمش.
وأنا أخشى أن يكون قد سقط من هذا الإسناد " عن عاصم " - بين سليمان الأعمش وزر بن حبيش. فإن الأعمش لم يذكر أنه يروى عن زر ، وإنما روايته عنه بواسطة " عاصم بن أبي النجود " وأقرانه من هذه الطبقة.
والحديث سيأتي - نحوه - عقب هذا. وتخريجه هناك.

(7/127)


7662 - حدثني يونس قال ، حدثنا علي بن معبد ، عن أبي يحيى الخراساني ، عن نصر بن طريف ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء - يريد العَتَمة - فقال لنا : ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال : فنزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " (1)
__________
(1) الحديث : 7662 - علي بن معيد بن شداد العبدي. الرقي ، نزيل مصر : ثقة ، روى عنه أبو حاتم ووثقه. وقال الحاكم : " شيخ من جلة المحدثين " .
أبو يحيى الخراساني : لم أعرف من هو ، بعد طول البحث والتتبع. وفي كنية " أبي يحيى " ، وفي نسبة " الخراساني " كثرة.
نصر بن طريف ، أبو جزى القصاب الباهلي : ضعيف جدًا ، أجمعوا على ضعفه. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 105 ، وقال : " سكتوا عنه ، ذاهب " ، وابن سعد 7 / 2 / 41 ، وقال : " ليس بشيء ، وقد ترك حديثه " . وقال يحيى : " من المعروفين بوضع الحديث " ؛ وذكره الفلاس فيمن " أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم " .
وكنيته " أبو جزى " : بفتح الجيم وكسر الزاي ، كما ضبطه الذهبي في المشتبه ، ص 104. والحديث ثابت ، بنحوه - بإسناد آخر صحيح ، يغني عن إسنادى الطبري هذين : فرواه أحمد في المسند : 3760 ، عن أبي النضر وحسن بن موسى ، كلاهما عن شيبان ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 312. وقال : " رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في الكبير " ، ثم ذكره بنحوه ، بلفظ يكاد يكون لفظ الرواية الماضية : 7661. ثم قال : " ورجال أحمد ثقات ، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود ، وهو مختلف في الاحتجاج به. وفي إسناد الطبراني عبيد الله بن زحر. وهو ضعيف " . وذكره السيوطي 2 : 65 ، وزاد نسبته للنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(7/128)


وقال آخرون : بل عُني بذلك قومٌ كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
* * *
*ذكر من قال ذلك :
7663 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور قال ، بلغني أنها نزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " فيما بين المغرب والعشاء.
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرتُها على اختلافها ، متقاربة المعاني. وذلك أن الله تعالى ذكره وَصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل ، وهي آناؤه ، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليًا لها آناء الليل ، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء ، ومن تلاها جوفَ الليل ، فكلٌّ تالٍ له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية ، قولُ من قال : " عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء " ، لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب " ، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله.
* * *
وأما قوله : " وهم يسجدون " ، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى " السجود " في هذا الموضع ، اسم الصلاة لا للسجود ، (1) لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فكان معنى الكلام عنده : يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون ، (2) .
* * *
وليس المعنى على ما ذهب إليه ، وإنما معنى الكلام : من أهل الكتاب أمة قائمة ، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم ، وهم مع ذلك يسجدون فيها ، فـ " السجود " ، هو " السجود " المعروف في الصلاة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " لا السجود " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 231.

(7/129)


يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

القول في تأويل قوله : { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يؤمنون بالله واليوم الآخر " ، يصدِّقون بالله وبالبعث بعد الممات ، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله ، ويعبدون معه غيره ، ويكذبون بالبعث بعد الممات ، وينكرون المجازاة على الأعمال والثوابَ والعقابَ.
* * *
وقوله : " ويأمرون بالمعروف " ، يقول : يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله ، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1) " وينهون عن المنكر " ، يقول : وينهون الناس عن الكفر بالله ، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله : (2) يعني بذلك : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به ، وينهونهم عن المعروف من الأعمال ، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله. " ويسارعون في الخيرات " ، يقول : ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب ، هم من عداد الصالحين ، (3) لأن من كان منهم فاسقًا ، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وعصيانه ربّه واعتدائه في حدوده.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص : 105 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المنكر " فيما سلف ص : 105 تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف 3 : 91 / 6 : 380.

(7/130)


وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الكوفة : ( وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ) ، جميعًا ، ردًّا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعًا : ( " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَروهُ " ) ، بمعنى : وما تفعلوا ، أنتم أيها المؤمنون ، من خير فلن يكفُرَكموه ربُّكم.
* * *
وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزًا بالياء والتاء ، في الحرفين.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " وما يفعلوا ، من خير فلن يُكفروه " ، بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبرَ عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله.
وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات ، خبر عنهم. فإلحاق هذه الآية إذْ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم بمعاني الآيات قبلها ، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ.
7664 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبيّ قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعًا بالياء. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7664 - " أحمد بن يوسف التغلبي " سلفت ترجمته في رقم : 5954 ، وأما المطبوعة فقد حذفت " التغلبي " ، لأن الناشر لم يحسن قراءة الكلمة ، فإنها كانت فيها " التعلبى " غير منقوطة ولا بينة ، فحذفها الناشر.

(7/131)


قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا ، على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عملٍ لله فيه رضًى ، فلن يكفُرهم الله ذلك ، يعني بذلك : فلن يبطل الله ثوابَ عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يُجزل لهم الثواب عليه ، ويسني لهم الكرامة والجزاء.
* * *
وقد دللنا على معنى " الكفر " فيما مضى قبل بشواهده ، وأنّ أصله تغطية الشيء (1)
* * *
فكذلك ذلك في قوله : " فلن يكفروه " ، فلن يغطّى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يُشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوَّل من تأول ذلك من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7665 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " يقول : لن يضلّ عنكم.
7666 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله.
* * *
وأما قوله : " والله عليم بالمتقين " ، فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه ، لطاعته واجتناب معاصيه ، وحافظٌ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها ، تبشيرًا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا ، وحضًّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 255 ، 382 ، 552 ، ثم ما بعد ذلك في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.

(7/132)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)

القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) }
قال أبو جعفر : وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون ، وأنهم قد باؤوا بغضب منه ، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.
يقول تعالى ذكره : " إن الذين كفروا " ، يعني : الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا " ، يعني : لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا ، وأولاده الذين ربَّاهم فيها ، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة ، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها.
* * *
وإنما خصّ أولاده وأمواله ، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه ، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره ، (1) وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه ، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه ، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم ، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله : " وأولئك أصحاب النار " . وإنما جعلهم أصحابها ، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها ،
__________
(1) في المطبوعة : " وهو على ماله أقرب ... " ، وهي في المخطوطة شبيهة بها ، إلا أنها سيئة الكتابة ، ولكن لا معنى لها ، والصواب ما أثبت ، فهو حق السياق.

(7/133)


مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله. (1) ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم " فيها خالدون " ، أنّ صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها ، (2) إذْ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال ، ويزايله في بعض الأوقات ، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النارَ التي أصْلوها ، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع. نعوذ بالله منها ومما قرَّب منها من قول وعمل.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا ، أي : شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله ، (3) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب ، في أن ذلك غير نافعه مع كفره ، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه ، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد شديد ، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد " حرثَ قوم " ، (4) يعني : زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه ، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه " ظلموا أنفسهم " ، يعني : أصحاب الزرع ، عصوا الله ، وتعدَّوا حدوده " فأهلكته " ، يعني : فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك ، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف 1 : 286 ، 287 / 4 : 317 / 5 : 429 / 6 : 14.
(2) في المطبوعة أسقط " أن " من أول هذه العبارة ، وهي ثابتة في المخطوطة. وفيهما جميعًا بعد : " إذا كان من الأشياء " ، وصواب السياق " إذ " ، كما أثبتها.
(3) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف 5 : 555 ، 580 / 6 : 265.
(4) انظر تفسير " الحرث " فيما سلف 4 : 240 ، 397 / 6 : 257.

(7/134)


يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته ، حين يلقاه ، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة ، والمراد بـ " المثل " صنيع الله بالنفقة ، فبيَّن ذلك قوله : " كمثل ريح فيها صرٌّ " ، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (1) [سورة البقرة : 17] وما أشبه ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام ، : مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر " إبطال الله أجر ذلك " ، لدلالة آخر الكلام عليه ، وهو قوله : " كمثل ريح فيها صرٌّ " ، ولمعرفة السامع ذلك معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " النفقة " التي ذكرها في هذه الآية.
فقال بعضهم : هي النفقة المعروفة في الناس.
*ذكر من قال ذلك :
7667 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا " ، قال : نفقة الكافر في الدنيا.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه ، مما لا يصدِّقه بقلبه.
*ذكر من قال ذلك :
7668 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " مثل ما ينفقون في هذ الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته " ، يقول : مثل ما يقول فلا يقبل
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 318 - 328.

(7/135)


منه ، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون ، فأصابه ريح فيها صر ، أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.
* * *
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل.
* * *
وقد تقدم بياننا تأويل " الحياة الدنيا " بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما " الصر " فإنه شدة البرد ، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء ، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية ، (2) كما :
7669 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث قال ، سمعت عكرمة يقول : " ريح فيها صر " ، قال : بردٌ شديد.
7670 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " ريح فيها صر " ، قال : برد شديد وزمهرير.
7671 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " ريح فيها صر " ، يقول : برد.
7672 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " الصر " ، البرد.
7673 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، أي : برد شديد.
7674 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
7675 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في " الصر " ، البرد الشديد.
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 314 ، 316.
(2) هذا البيان عن معنى " الصر " قلما تصيب مثله في كتب اللغة.

(7/136)


7676 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " كمثل ريح فيها صر " ، يقول : ريح فيها برد.
7677 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " ريح فيها صر " ، قال : " صر " ، باردة أهلكت حرثهم. قال : والعرب تدعوها " الضَّريب " ، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع ، (1) تقول : " قد ضُرب الليلة " أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته.
7678 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك : " ريح فيها صر " ، قال : ريح فيها برد.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم ، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم يعني : وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله ، بل وضَع فعله ذلك في موضعه ، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون ، ولأمره مُتبعون ، ولرسله مصدقون ، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ، ولأمره مخالفون ، ولرسله مكذبون ، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له ، والإقرار بنبوة أنبيائه ، وتصديق ما جاءوهم به ، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد
__________
(1) الضريب : الصقيع والجليد.

(7/137)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

الإعذار إليه ، (1) من إحباط وَفْر عمله له ظالمًا ، بل الكافرُ هو الظالم نفسه ، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ، ما أوردها به نار جهنم ، وأصلاها به سعير سقَرَ. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم " من دونكم " يقول : من دون أهل دينكم وملَّتكم ، يعني من غير المؤمنين.
* * *
وإنما جعل " البطانة " مثلا لخليل الرجل ، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه ، لحلوله منه - في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه - محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه.
* * *
فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذرهم بذلك منهم ومن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " الاعتذار إليه " ، وهو خطأ صرف. وأعذر إعذارًا : أي بلغ الغاية في البلاغ ، ومنه قولهم : " أعذر من أنذر " ، أي بالغ في الإنذار حتى بان عذره ، إذا أنزل بمن أنذره ما يسوءه. وقوله : " وفر عمله " أي كثير عمله ووافره. و " الوفر " (بفتح فسكون). وكان في المطبوعة " وافر عمله " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) سياق الجملة : " فلم يكن. . . له ظالما " ، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله : " ظالما " ولكنه مقدم عليه.

(7/138)


مخالَّتهم ، (1) فقال تعالى ذكره : " لا يألونكم خبالا " ، يعني لا يستطيعونكم شرًّا ، من " ألوت آلُو ألوًا " ، يقال : " ما ألا فلان كذا " ، أي : ما استطاع ، كما قال الشاعر : (2)
جَهْرَاءُ لا تَأْلُو ، إذَا هِيَ أَظْهَرَتْ ، ... بَصَرًا ، وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني (3)
يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصارًا.
* * *
وإنما يعني جل ذكره بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، البطانةَ التي نهى المؤمنين
__________
(1) في المطبوعة : " فحذرهم بذلك منهم عن مخاللتهم " ، فك إدغام اللام وحذف الواو قبل " عن " ، وفي المخطوطة " وعن مخالتهم " ، والصواب في قراءتها ما أثبت ، إلا أن يكون سقط من الكلام " نهاهم " فيكون " ونهاهم عن مخالتهم " .
(2) هو أبو العيال الهذلي .
(3) ديوان الهذليين 2 : 263 ، الحيوان 3 : 535 ، المعاني الكبير : 690 ، اللسان (ألا) (جهر). من شعر جيد في مقارضات بينه وبين بدر بن عامر الهذلي ، قال بدر بن عامر أبياتًا ، حين بلغه أن ابن أخ لأبي العيال ، أنه ضلع مع خصمائه ، فانتفى من ذلك وزعم أنه ليس ممن يأتي سوءًا إلى أخيه أبي العيال ، فكذبه أبو العيال ، فبادر بدر يرده. وكله شعر حسن في معناه. فشبه أبو العيال شعر بدر فيه وفي الثناء عليه بالشاة فقال له : أَقْسَمْتَ لا تَنْسَى شَبابَ قَصِيدَةٍ ... أبدًا!! فَمَا هذا الَّذِي يُنْسِينِي?
فَلَسَوْفَ تَنْسَاهَا وَتَعْلَمُ أَنَّها ... تَبَعٌ لآبِيَةِ العِصَابِ زَبُونِ
وَمَنَحْتَني فَرَضِيتُ زِىَّ مَنِيحَتي ... فَإِذَا بِهَا ، وَأَبِيكَ ، طَيْفُ جُنُونِ
جَهْرَاءَ لا تَأْلُو................... ... ....................................
والجهراء : هي التي لا تبصر في الشمس ، وهو ضعف في البصر. ويقال : " عال يعيل عيلا وعيلة " افتقر. يقول : أهديت لي شعرًا وثناء وقولا فرضيته ، ثم إذا لا شيء إلا قول وكلام ، إذا انكشف الأمر وظهر ، عمى هذا الشعر وانطفأ ، وإذا جد الجد ، لم يغن قولك شيئًا ، بل كنت كما قلت لك آنفًا : فَلَقَد رَمَْقُتك فِي المجَالِسِ كلِّهَا ... فَإِذَا ، وأنتَ تُعِينُ من يَبْغِيني "

(7/139)


عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. (1)
* * *
وأصل " الخبْل " و " الخبال " ، الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدل على ذلك الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم :
7679 - " من أصيب بخبْل أو جرَاح " . (2)
* * *
وأما قوله : " ودوا ما عنِتُّم " ، فإنه يعني : ودوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنَت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم. (3)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) لقد أبعد أبو جعفر المذهب في احتياله في تفسير " لا يألونكم " ، فإن بيان أهل اللغة عن معنى هذا الحرف من العربية ، أصدق وأكمل من بيانه ، فقد ذكروا المعنى الذي ذكره ثم قالوا : " ما ألوت ذلك : أي ما استطعته ؛ وما ألوت أن أفعله : أي ما تركت " وقالوا : " هي من الأضداد ؛ ألا : فتر وضعف وألا : اجتهد " ، فراجع ذلك في كتب العربية.
(2) الأثر : 7679 - رواه أبو جعفر غير مسند ؛ ورواه أحمد في مسنده 4 : 31 ، والبيهقي في السنن 8 : 53 ، ورواية أحمد من طريق شيخه " محمد بن سلمة الحراني ، عن ابن إسحاق ويزيد بن هرون قال أنبأنا محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل ، عن فضيل ، عن سفيان بن أبي العوجاء - قال يزيد : السلمي - عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال يزيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - : من أصيب بدم أو خبل الخبل : الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو ، فإن أراد رابعة فخذوا على يده ، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل ، فله النار خالدا فيها مخلدا " .
يعني بالدم : قتل النفس - وبالخبل أو الجراح : قطع العضو. وقد تركت ما في الطبري على حاله : " أو جراح " وبينت بالترقيم أنها كأنها رواية أخرى في قوله : " خبل " ، شك من الراوي. ولكن سياق الخبر يرجح عندي أنها : " أي : جراح " ، لأنه قد جاء في الحديث نفسه تفسير " الخبل " بالجراح.
(3) انظر تفسير " العنت " فيما سلف 4 : 358 - 361.

(7/140)


7680 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال ، قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، ينهاهم عن مباطنتهم (1) تخوُّف الفتنة عليهم منهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " إلى قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " . (2)
7681 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولَّوهم.
7682 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم " ، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، (3) أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم من دون المؤمنين. (4)
7683 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، هم المنافقون.
7684 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " فنهاهم " بالفاء في أوله ، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(2) الأثر : 7680 - سيرة ابن هشام 2 : 207 ، وهو تابع الأثرين السالفين رقم : 7644 ، 7645.
(3) قوله : " يستدخلوا " أي يتخذوهم أخلاء. استدخله : اتخذه دخيلا ، مثل قولهم استصحبه : اتخذه صاحبًا ، والدخيل والمداخل : الذي يداخل الرجل في أموره كلها. وهذا البناء " استدخله " مما أغفلته كتب اللغة ، وهو عربي معرق كما ترى.
(4) في المطبوعة : " أي يتولوهم " ، وفي المخطوطة : " أن يتولوهم " ، والصواب ما أثبت.

(7/141)


الربيع ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، (1) تتولوهم دون المؤمنين.
7685 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الأزهر بن راشد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال : فلم ندر ما ذلك ، حتى أتوا الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : " لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا " ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم " محمد " ، وأما قوله : " ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك " ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم. قال : قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " . (2) .
__________
(1) انظر ص 141 ، تعليق : 3.
(2) الحديث : 7685 - الأزهر بن راشد البصري : ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 455 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 313 - فلم يذكر فيه جرحا.
وهناك راو آخر ، اسمه " الأزهر بن راشد الكاهلي " ، وهو كوفي ، وهو غير البصري ، ومتأخر عنه. وترجمه البخاري وابن أبي حاتم أيضا. فإن البصري يروى عنه " العوام بن حوشب " المتوفي سنة 148 ، والكوفي الكاهلي يروى عنه " مروان بن معاوية الفزاري " المتوفي سنة 193. ومروان بن معاوية من شيوخ أحمد. والعوام بن حوشب من شيوخ شيوخه. فشتان هذا وهذا.
ومع هذا الفرق الواضح أخطأ الحافظ المزي ، فذكر في التهذيب الكبير أن أبا حاتم قال في البصري : " مجهول " . وتبعه الحافظ في تهذيب التهذيب ، والذهبي في الميزان. وزاد الأمر تخليطًا ، فذكر أنه ضعفه ابن معين .
وابن معين وأبو حاتم إنما قالا ذلك في الكاهلي الكوفي. فروى ابن أبي حاتم في ترجمة " الكاهلي " 1 / 1 / 313 ، رقم : 1180 ، عن ابن معين ، قال : " أزهر بن راشد ، الذي روى عنه مروان بن معاوية : ضعيف " . ثم قال : " سألت أبي عن أزهر بن راشد ؟ فقال : هو مجهول " .
ولم يحقق الحافظ ابن حجر ، واشتبه عليه الكلام في الترجمتين ، فقال في ترجمة " الكاهلي " - بعد ترجمة " البصري " - : " أخشى أن يكونا واحدًا! لكن فرق بينهما ابن معين " . والفرق بينهما كالشمس.
والحديث رواه أحمد في المسند : 11978 (ج 3 ص 99 حلبى) ، عن هشيم ، بهذا الإسناد - دون كلام الحسن ، وهو البصري.
ورواه البخاري كذلك في الكبير 1 / 1 / 455 - دون كلام الحسن ، عن مسدد ، عن هشيم ، به. ثم فسر البخاري بعضه ، فقال : " قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : عربيًا ، يعني " محمد رسول الله " . يقول : لا تكتبوا مثل خاتم النبي : " محمد رسول الله " .
ورواه أبو يعلى مطولا - مثل رواية الطبري أو أطول قليلا - وفيه كلام الحسن. رواه عن إسحاق بن إسرائيل ، عن هشيم ، بهذا الإسناد. نقله عنه ابن كثير 2 : 227 ، ثم قال : " هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله. وقد رواه النسائي ، عن مجاهد بن موسى ، عن هشيم ، به. ورواه الإمام أحمد ، عن هشيم ، بإسناده مثله ، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر " - إلى آخر ما قال. ولم أجده في سنن النسائي ، فلعله في السنن الكبرى.
وذكره السيوطي 2 : 66 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب. ولم ينسبه للنسائي ، ولا لتاريخ البخاري.

(7/142)


7686 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، أما " البطانة " ، فهم المنافقون.
7687 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. (1)
7688 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون. وقرأ قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " الآية.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفوا في تأويل قوله : " ودّوا ما عنِتُّم " .
فقال بعضهم معناه : ودوا ما ضللتم عن دينكم. (2)
*ذكر من قال ذلك :
7689 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ودوا ما عنتم " ، يقول : ما ضللتم.
* * *
وقال آخرون بما : -
__________
(1) انظر : 141 ، تعليق : 3 / ص : 142 ، تعليق : 1.
(2) انظر تفسير " العنت " فيما سلف ص4 : 358 - 361.

(7/143)


7690 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ودوا ما عنتم " ، يقول : في دينكم ، يعني : أنهم يودون أن تعنتُوا في دينكم.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " ودوا ما عنتم " ، فجاء بالخبر عن " البطانة " ، بلفظ الماضي في محل الحال ، والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ (1) .
قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله : " ودوا ما عنتم " حال من " البطانة " ، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطعٌ عن الأول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا ، صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعًا من صفة شخص واحد.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام " البطانة " بصلته. (2) ولكن القول في ذلك كما بينا قبل ، من أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، خبر مبتدأ عن " البطانة " ، غير الخبر الأول ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. (3) .
* * *
__________
(1) انظر " القطع " فيما سلف 6 : 270 ، تعليق : 3 ، وسائر فهارس المصطلحات.
(2) انظر تفسير " الصلة " فيما سلف 5 : 299 ، تعليق : 5 ، وهو نعت النكرة.
(3) انظر " القطع " فيما سلف 6 : 270 ، تعليق : 3 ، وسائر فهارس المصطلحات.

(7/144)


القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون ، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم " من أفواههم " ، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم ، (1) إقامتهم على كفرهم ، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ، ومقامهم عليه ، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة.
* * *
وقد قال بعضهم : معنى قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان ، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر ، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق ، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك.
* ذكر من قال ذلك :
7691 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد عن قتادة ، قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار ، من غشهم للإسلام وأهله ، وبغضهم إياهم.
7692 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : من أفواه المنافقين.
* * *
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة ، قول لا معنى له. وذلك أن الله تعالى
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " بأفواههم " ، والصواب المطابق لنص هذه الآية ، هو ما أثبت.

(7/145)


ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء ، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته ، (1) فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته ، إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها.
وإذْ كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار ، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم ، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم ، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم ، على ما وصفهم الله عز وجل به ، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها ، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين ، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين ، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل.
* * *
و " البغضاء " ، مصدر. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : ( " قَدْ بَدَا البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " ) ، على وجه التذكير. وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث ، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم ، فيجوز تذكيرُ ما خرج منها
__________
(1) في المطبوعة : " فأما من لم يتئسوه معرفة " ، ولا معنى له ، وفي المخطوطة : " لم سوه معرفة " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال : " أثبته معرفة " أي : عرفه حق المعرفة.

(7/146)


على لفظ المؤنث وتأنيثه ، كما قال عز وجل : ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) [سورة هود : 67] ، وكما قال : ( فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) [سورة الأنعام : 157] ، وفي موضع آخر : ( وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) [سورة هود : 94]( " وجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ " ) [سورة الأعراف : 73 ، 85 ] (1)
* * *
وقال : " من أفواههم " ، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم ، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم ، فقال : " قد بدت البغضاء من أفواههم " بألسنتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذي تخفي صدورهم يعني : صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة ، فتخفيه عنكم ، أيها المؤمنون " أكبر " ، يقول : أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما : -
7693 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما تخفي صدورهم أكبر " ، يقول : وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
7694 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وما تخفي صدورهم أكبر " يقول : ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 231.

(7/147)


القول في تأويل قوله : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قد بينا لكم " أيها المؤمنون " الآيات " ، يعني بـ " الآيات " العبر. قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم " إن كنتم تعقلون " ، يعني : إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه ، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ، ومبلغ عائدته عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ها أنتم ، أيها المؤمنون ، الذين تحبونهم ، يقول : تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم ، بل يبطنون لكم العداوة والغش (1) " وتؤمنون بالكتاب كله " .
* * *
ومعنى " الكتاب " في هذا الموضع معنى الجمع ، كما يقال : " كثر الدرهم في أيدي الناس " ، بمعنى الدراهم.
فكذلك قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " ، إنما معناه : بالكتب كلها ،
__________
(1) في المطبوعة : " بل سطروه " ، وفي المخطوطة : " بل ينتظرون " غير منقوطة ، وصوابها ما أثبت كما استظهره طابع الأميرية.

(7/148)


كتابكم الذي أنزل الله إليكم ، وكتابهم الذي أنزله إليهم ، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده.
يقول تعالى ذكره : فأنتم إذ كنتم ، أيها المؤمنون ، تؤمنون بالكتب كلها ، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله ، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم ، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه (1) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم ، منهم بعداوتكم وبغضائكم ، مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما : -
7695 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " تؤمنون بالكتاب كله " ، أي : بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم ، منهم لكم. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وقال : " ها أنتم أولاء " ولم يقل : " هؤلاء أنتم " ، (3) ففرق بين " ها و " أولاء " بكناية اسم المخاطبين ، لأن العرب كذلك تفعل في " هذا " إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر ، (4) وذلك مثل
__________
(1) سياق هذه العبارة : فأنتم ... أولى بعداوتكم إياهم.
(2) الأثر : 7695 - سيرة ابن هشام 2 : 207 ، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها : 7680.
(3) في المخطوطة : " ولم يقل : هذا أنتم " ، والصواب ما في المطبوعة ، فهو حق السياق.
(4) التقريب " من اصطلاح الكوفيين ، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع 1 : 113 ، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن " هذا " و " هذه " ، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات " كان " ، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب ، نحو : " كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا ؟ " ، " وكيف أخاف البرد ، وهذه الشمس طالعة ؟ " ، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود ، نحو : " هذا ابن صياد أسقى الناس " ، فيعربون " هذا " تقريبًا ، والمرفوع اسم التقريب ، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم ، وعن الشمس بالطلوع ، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران ؟ وأيضًا ، فالخليفة والشمس معلومان ، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب ، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى ، كما لو أسقطت " كان " من : " كان زيد قائما " ].

(7/149)


أن يقال لبعضهم : أين أنت " ، فيجيب المقول ذلك له. " ها أنا ذا " (1) فتفرق بين التنبيه و " ذا " بمكنيّ اسم نفسه ، (2) ولا يكادون يقولون : " هذا أنا " ، ثم يثني ويجمع على ذلك. وربما أعادوا حرف التنبيه مع : " ذا " فقالوا : " ها أنا هذا " . ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبًا ، (3) فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا : " هذا هو " " وهذا أنت " . وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة ، يقولون : " هذا عمرو قائمًا " ، إن كان " هذا " تقريبًا. (4) وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب ، (5) تفرقة بين " هذا " إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام ، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. (6)
* * *
وقوله : " تحبونهم " خَبَرٌ للتقريب. (7)
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين ، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان ، كما : -
__________
(1) في المطبوعة : " فيفرق " ، والصواب بالتاء ، لأنه يريد " العرب " . وسياق الكلام : " لأن العرب كذلك تفعل ... فتفرق ... " .
(2) في المخطوطة : " بين التنبيه وأولاء " . والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق ، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري ، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه ، وكأنه لما نقل هذا الكلام ، وهو كلام الفراء ، اختصر أوله فقال : " لأن العرب كذلك تفعل في هذا " ، واقتصر عليها ، مع أن الفراء ذكر " هذا ، وهذان ، وهؤلاء " . هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها ، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق.
(3) انظر معنى " التقريب " فيما سلف ص : 149 تعليق : 4.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وإن كان ... " بالواو ، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون : " قائما " ، إن كان " هذا " بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك.
(5) انظر معنى " التقريب " فيما سلف ص : 149 تعليق : 4.
(6) في المطبوعة : " وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح " ، زاد من زاد " وبين ما " ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة!
(7) يعني بقوله : " خبر للتقريب " ، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب ، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص 149 ، تعليق : 4.

(7/150)


هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

7696 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله " ، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه ، لأباد خضراءه. (1)
7697 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن ، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه ، لأباد خضراءه.
* * *
وكان مجاهد يقول : نزلت هذه الآية في المنافقين.
7698 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم ، ووصفهم بصفتهم ، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم : " قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم " ، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون ، (2) عضوا - على ما يرون من ائتلاف
__________
(1) أوى له وأوى إليه : رثى له وأشفق عليه ورحمه. ويقال : " أباد خضراءهم " ، أي سوادهم ومعظمهم ، واستأصلهم. وذلك أن الكثرة المجتمعة ، ترى من بعيد سوداء ، والعرب تسمى الأخضر ، أسود.
(2) انظر تفسير " خلا " فيما سلف 1 : 298 ، 299.

(7/151)


المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملَهم ، وهي أطراف أصابعهم ، تغيُّظًا مما بهم من الموجدة عليهم ، وأسىً على ظهرٍ يسنِدون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
7699 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، إذا لقوا المؤمنين قالوا : " آمنا " ، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم ، فصانعوهم بذلك " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، يقول : مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين ، (2) فهم كما نعت الله عز وجل.
7700 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله إلا أنه قال : من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه ولم يقل : " لو يجدون ريحًا " ، وما بعده.
7701 - حدثنا عباس بن محمد قال ، حدثنا مسلم قال : حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال ، حدثنا أبي قال : كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية : " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، قال : هم الإباضية. (3)
* * *
__________
(1) الظهر : الأعوان والأنصار ، كأنهم لمن ينصرونه ظهر.
(2) الريح : القوة والغلبة ، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة : أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ ... أَوْ تَعْدُوَان ، فَإِنَّ الرِّيحَ للعَادِي
(3) الأثر : 7701 - " عباس بن محمد بن حاتم " الدوري ، روى عنه الأربعة. مترجم في التهذيب. و " مسلم " هو " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " ، مضت ترجمته برقم : 2861. و " يحيى بن عمرو بن مالك النكري " . روى عن أبيه ، وهو منكر الحديث. و " النكرى " بضم النون وتسكين الكاف ، نسبة إلى بني نكرة بن لكيز من عبد قيس. وأبوه " عمرو بن مالك النكري " ، ثقة وتكلم فيه البخاري وضعفه. روى عن أبيه وعن أبي الجوزاء. و " أبو الجوزاء " هو " أوس بن عبد الله الربعي من الأزد " ، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس. كان عابدًا فاضلا. واستضعف البخاري إسناده إلى عائشة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. مترجم في التهذيب.
و " الإباضية " ، فرقة من الحرورية ، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي ، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم : إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين ، ومناكحتهم جائزة ، وموارثتهم حلال ، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال ، وما سواه حرام ، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا : إن مرتكب الكبيرة موحد ، لا مؤمن.

(7/152)


و " الأنامل " جمع " أنملة " ويقال " أنملة " ، (1) وربما جمعت " أنملا " ، (2) قال الشاعر : (3)
أوَدُّكُما ، مَا بَلَّ حَلْقِيَ رِيقَتِي... وَما حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا (4) وهي أطراف الأصابع; كما : -
7702 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " الأنامل " ، أطراف الأصابع.
7702 م - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله.
7703 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل " ، الأصابع.
7704 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي
__________
(1) يعني بفتح الهمزة وضم الميم ، وضم الهمزة والميم جميعا.
(2) " أنمل " هذا جمع لم تورده كتب اللغة ، وإنما ذكروا " أنملات " ، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء ، قال ابن سيدهْ : " إنما قلت هذا ، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة ، وبجمع السلامة بالتكسير ، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا " .
(3) لم أعرف قائله.
(4) قوله : " أود كما " أي : لا أود كما ، حذفت " لا " مع القسم. والريقة : الريق. وقوله : " ما بل حلقي ريقي ... " إلى آخر البيت بمعنى التأييد ، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت.

(7/153)


الأحوص ، عن عبد الله ، قوله : " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، قال : عضوا على أصابعهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قل " ، يا محمد ، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم ، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ : " موتوا بغيظكم " الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم.
وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر ، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله ، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين ، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم ، والضلالة بعد هداهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : أهلكوا بغيظكم " إن الله عليم بذات الصدور " ،
__________
(1) عند هذا آخر قسم من التقسيم القديم ، وفي المخطوطة هنا ما نصه : " يتلوه القولُ في تأويل قوله : قُلْ مُوتُوا بِغَيظكم إنَّ الله عليمٌ بذات الصُّدُور وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرًا "
ثم يتلوه بعد :
" بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير " ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة ، في 6 : 495 ، 496 تعليق : 5 / ثم 7 : 23 ، تعليق 1.

(7/154)


إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

يعني بذلك : إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين ، قالوا : " آمنا " ، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم ، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء ، وبما في صدور جميع خلقه ، حافظٌ على جميعهم ما هو عليه منطوٍ من خير وشر ، حتى يجازي جميعهم على ما قدَّم من خير وشر ، واعتقد من إيمان وكفر ، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة ، أو غِلّ وغِمْر. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " ، إن تنالوا ، أيها المؤمنون ، سرورًا بظهوركم على عدوكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم يسؤهم. (2) وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدوٍّ لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها. كما : -
7705 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرَّهم
__________
(1) الغمر (بكسر الغين وسكون الميم) ، والغمر (بفتحتين) ، الحقد والغل ، الذي يغمر القلب غمرًا.
(2) انظر تفسير " المس " فيما سلف 5 : 118.

(7/155)


ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به. فهم كلما خرج منهم قَرْنٌ أكذبَ الله أحدوثته ، وأوطأ محلَّته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقى إلى يوم القيامة.
7706 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، قال : هم المنافقون ، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورًا على عدوهم ، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم. وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا ، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين ، سرَّهم ذلك وأعجبوا به. قال الله عز وجل : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط " .
7707 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " إن تمسكم حسنه تسؤهم " ، قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافًا فرحوا.
* * *
وأما قوله : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصبروا ، أيها المؤمنون ، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه : من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم " وتتقوا " ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجبَ عليكم من حقه وحق رسوله " لا يضركم كيدهم شيئًا " ، أي : كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
ويعني بـ " كيدهم " ، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ، ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحق.
* * *

(7/156)


قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " لا يضركم " .
فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعضُ البصريين : ( لا يَضُرُّكُمْ ) مخففة بكسر " الضاد " ، من قول القائل : " ضارني فلان فهو يضيرني ضيرًا " . وقد حكي سماعًا من العرب : " ما ينفعني ولا يضورني " ، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : ( لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) ، ولكني لا أعلم أحدًا قرأ به " . (1)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة : ( لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) بضم " الضاد " وتشديد " الراء " ، من قول القائل : ضرّني فلان فهو يضرني ضرًا " .
* * *
وأما الرفع في قوله : " لا يضركم " ، فمن وجْهين.
أحدهما : على إتباع " الراء " في حركتها إذْ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقربَ حركات الحروف التي قبلها. وذلك حركة " الضاد " وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : " مُدُّ يا هذا " .
والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون " لا " بمعنى " ليس " ، وتكون " الفاء " التي هي جواب الجزاء ، متروكة لعلم السامع بموضعها.
وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا ، فليس يضرُّكم كيدهم شيئًا - ثم تركت " الفاء " من قوله : " لا يضركم كيدهم " ، ووجهت " لا " إلى معنى " ليس " ، كما قال الشاعر : (2)
فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي... إلَى قَطَرِيٍّ ، لا إخَالُكَ رَاضِيَا (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 232.
(2) هو سوار بن المضرب السعدي التميمي.
(3) نوادر أبي زيد : 45 ، الكامل 1 : 300 ، حماسة ابن الشجري : 54 ، 55 ، معاني القرآن للفراء 1 : 232 ، من أبيات ضرب بها وجه الحجاج بن يوسف الثقفي ، لما كتب على بني تميم البعث إلى قتال الخوارج ، فهرب سوار وقال : أَقَاتِلِىَ الحَجَّاجُ أَنْ لَمْ أَزُرْ لَهُ ... دَرَابَ ، وَأَتْرُكْ عِنْدَ هِنْدٍ فُؤَادِيَا?
فَإن كُنْتَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ ، لا إِخالُكَ رَاضِيَا!!
إذَا جَاوَزَتْ دَرْبَ المُجِيزِينَ نَاقَتي ... فَبِأسْتِ أبي الحَجَّاجِ لَمَّا ثَنَانِيَا
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وطَاعَتِي ، ... وَدُونِي تَمِيمٌ ، والفَلاةُ وَرَائِيَا!!
وقوله : " دراب " يعني : دراب جرد ، وهي بلدة في بلاد فارس ، وكان المهلب يومئذ يقاتل بها الخوارج ورأسهم قطرى بن الفجاءة. ثم يقول له في البيت الثاني : إن كان لا يرضبيك إلا ردي إلى قتال قطري ، فلا أظنك تبلغ رضاك ، فإنك غير مدركي ، ولن تنالني يدك. يسخر بسطوة الحجاج. وقوله : " درب المجيزين " هم المقيمون على أبواب المدن والثغور. يمنعون الخارج والداخل ، إلا من كان بيده جواز معطى من أميره. يقول : إذا جاوزت الدرب فيا بعد يديك عن أن تنالني وتثنيني عن وجهتي! والشاهد عند الطبري هو في قوله : " لا إخالك راضيًا " ، أي : فلست إخالك راضيًا.

(7/157)


ولو كانت " الراء " محركة إلى النصب والخفض ، كان جائزًا ، كما قيل : " مُدَّ يا هذا ، ومُدِّ. (1)
* * *
وقوله : " إنّ الله بما يعملون محيطٌ " ، يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله ، والعداوة لأهل دينه ، وغير ذلك من معاصي الله " محيط " بجميعه ، حافظ له ، لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ، ويذيقهم عقوبته عليه. (2)
* * *
__________
(1) الذي سلف هو مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 232.
(2) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 2 : 284 / 5 : 396.

(7/158)


وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم ، أيها المؤمنون ، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئًا ، ولكن الله ينصرُكم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي ، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم ، أيها المؤمنون ، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحُد ، واذكروا ذلك اليوم ، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين.
فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه ، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحُد ، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم.
وأخرج الخطاب في قوله : " وإذ غدوت من أهلك " ، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمعناه : الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بيَّن إذًا أن قوله : " وإذ " ، إنما جرَّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال " .
فقال بعضهم : عنى بذلك يوم أحُد.
*ذكر من قال ذلك :

(7/159)


7708 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين.
7709 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، ذلك يوم أحد ، غدا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
7710 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
7711 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فهو يوم أحد.
7712 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، قال : هذا يوم أحد.
7713 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : مما نزل في يوم أحد : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " . (1)
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك يوم الأحزاب.
*ذكر من قال ذلك :
7714 - حدثني محمد بن سنان القزاز قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ،
__________
(1) الأثر : 7713 - مختصر من سيرة ابن هشام 3 : 112.

(7/160)


حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " وإذ غدوتَ من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم ، غدا يبوئ المؤمنين مقاعدَ للقتال يوم الأحزاب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال : " عنى بذلك يوم أحد " . لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها : ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عُنى بالطائفتين : بنو سلمة وبنو حارثة ، (1) ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّ الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد ، دون يوم الأحزاب.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَاح إلى أحُد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس ، كالذي حدثكم : -
7715 - ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلَّى الجمعة إلى أحُد ، دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج عليهم وقال : " ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " ؟. (2)
* * *
__________
(1) بنو سلمة (بفتح السين وكسر اللام) ، وليس في العرب " سلمة " بكسر اللام غيرها ، وسائرها بفتح اللام. وهم بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج.
(2) الأثر : 7715 - إسناده في سيرة ابن هشام 3 : 64 ، ثم اختصر أبو جعفر خبر ابن إسحاق الذي رواه ابن هشام في السيرة 3 : 67 ، 68. واللأمة : هي الدرع الحصينة ، وسائر أداة الحرب من السلاح كالسيف والرمح. هذا وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم " . وهذا غير جيد ، وكأنه عجلة من الناسخ ، وأثبت نص ابن هشام.

(7/161)


قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحًا ، (1) فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدَهم للقتال عند خروجه ، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوّه. وذلك أنّ المشركين نزلوا منزلهم من أحُد - فيما بلغنا - يوم الأربعاء ، فأقاموا به ذلك اليوم ويومَ الخميس ويومَ الجمعة ، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة ، بعد ما صَلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشِّعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال.
7716 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. (2)
* * *
فإن قال : وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعدَ للقتال غُدُوًّا قبل خروجه ، وقد علمت أن " التبوئة " ، اتخاذ الموضع.
قيل : كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه ، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم ، بيوم أو يومين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحُدًا قال فيما : -
7717 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط عن السدي لأصحابه : أشيروا عليَّ ما أصنع ؟ " فقالوا : يا رسول الله ، اخرج إلى هذه الأكلُب! فقالت الأنصار : يا رسول الله ، ما غلبنا عدوٌّ لنا أتانا في ديارنا ، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره ، فقال : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى هذه الأكلب!
__________
(1) الرواح : هو وقت العشى آخر النهار.
(2) الأثر : 7716 - جمعه أبو جعفر من مواضع متفرقة من خبر ابن إسحاق في يوم أحد.

(7/162)


وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة ، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة ، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له : بم ؟ قال : بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأني لا أفرُّ من الزحف! قال : " صدقت. فقُتل يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها ، فلما رأوه وقد لبس السلاح ، ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. (1)
7718 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّي قد رأيتُ بقرًا فأوّلتها خيرًا ، ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمًا ، (2) ورأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة ، فأوّلتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأيُ عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد ، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبُنَّا عنهم وضعُفنا! فقال عبد الله بن أبى ابن سلول : يا رسول الله ، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فوالله
__________
(1) الأثر : 7717 - هو في تاريخ الطبري 3 : 11 ، 12.
(2) ذباب السيف : طرفه المتطرف الذي يضرب به. والثلم : هو الكسر في حرفه.

(7/163)


ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ، فدعْهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبِس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رَجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كان من أمرهم حُبُّ لقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته. (1) .
* * *
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعدَ للقتال ، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا ، على ما وصفه الذين حكينا قولهم.
* * *
يقال منه : " بوَّأت القوم منزلا وبوّأته لهم ، فأنا أبوِّئهم المنزل تبوئة ، وأبوئ لهم منزلا تبوئة " .
وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِِ ) ، وذلك جائز ، كما يقال : " رَدِفَك ورَدِفَ لك " ، و " نقدت لها صَداقها ونقدتها " ، كما قال الشاعر :
أَسْتغِفرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ (2)
والكلام : أستغفر الله لذنب. (3) وقد حكي عن العرب سماعًا : " أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة " ، ويقال منه : " أبأت الإبل " . إذا رددتها إلى المباءة. و " المباءة " ، المُرَاح الذي تبيت فيه.
* * *
" والمقاعد " جمع " مقعد " ، وهو المجلس.
* * *
__________
(1) الأثر : 7718 - سيرة ابن هشام 3 : 66 ، 67 ، وهو السابق مباشرة للأثر السالف رقم : 7751 ، وهو من تمامه.
(2) مضى تخريجه فيما سلف 1 : 169 ، وهو في معاني القرآن للفراء 1 : 233.
(3) هذه الفقرة من معاني القرآن للفراء 1 : 233.

(7/164)


قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت ، يا محمد ، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرًا وموضعًا لقتال عدوهم.
* * *
وقوله : " والله سميع عليم " ، يعني بذلك تعالى ذكره : " والله سميع " ، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه ، من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم ، من قول من قال : " اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة " ، وقول من قال لك : " لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا " ، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد (1) " عليم " بأصلح تلك الآراء لك ولهم ، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك ، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة ، وغير ذلك من أمرك وأمورهم ، كما : -
7719 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " والله سميع عليم " ، أي : سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ومما تشير به. . . " ، والصواب الذي يقتضيه السياق ، هو ما أثبت.
(2) الأثر : 7719 - سيرة ابن هشام 3 : 112 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 7713.

(7/165)


إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

القول في تأويل قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله سميع عليم ، حين همت طائفتان منكم أن تفشلا.
والطائفتان اللتان همتا بالفشل ، ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة. (1)
__________
(1) انظر ضبط " سلمة " ص : 161 تعليق : 1.

(7/165)


*ذكر من قال ذلك :
7720 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : بنو حارثة ، كانوا نحو أحُد ، وبنو سلِمة نحو سَلْع ، وذلك يوم الخندق.
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى ، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
7721 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، الآية ، وذلك يوم أحد ، والطائفتان : بنو سلِمة وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، همُّوا بأمر فعصمهم الله من ذلك قال قتادة : وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا : ما يسرُّنا أنَّا لم نَهُمَّ بالذي هممنا به ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
7722 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إذ همت طائفتان منكم " الآية ، وذلك يوم أحد ، فالطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة ، حيان من الأنصار. فذكر مثل قول قتادة.
7723 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتحَ إن صبروا. فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعنَّ معنا وقال [الله عز وجل] : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي ، فعصمهم
__________
(1) انظر ما سلف ص : 161 وما قبلها.

(7/166)


الله ، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمئة. (1)
7724 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة : نزلت في بني سلِمة من الخزرج ، وبني حارثة من الأوس ، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
7725 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، فهو بنو حارثة وبنو سلمة.
7726 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، والطائفتان : بنو سلمة من جشم بن الخزرج ، وبنو حارثة من النبيت من الأوس ، وهما الجناحان. (2)
7727 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " الآية ، قال : هما طائفتان من الأنصار هَّما أن يفشلا فعصمهم الله ، وهزَم عدوهم.
7728 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : هم بنو سلمة وبنو حارثة ، وما نحبُّ أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجلّ : " والله وليهما " . (3) .
7729 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول ، فذكر نحوه.
__________
(1) الأثر : 7723 - في تاريخ الطبري 3 : 12 ، وهو تمام الأثر السالف رقم : 7177 ، والزيادة بين القوسين من التاريخ.
(2) الأثر : 7726 - سيرة ابن هشام 3 : 112 ، وهو من تتمة الأثر السالف رقم : 7791.
(3) الأثر : 7728 - رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7 : 275 / 8 : 169) من طريق علي بن عبد الله ، عن سفيان بن عيينة ، بغير هذا اللفظ. وكان في المطبوعة : " وما نحب أن لو لم تكن همتا " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، ولكن الناشر لم يحسن قراءتها.

(7/167)


7730 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : هذا يوم أحد.
* * *
وأما قوله : " أن تفشلا " ، فإنه يعني : همَّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما.
* * *
يقال منه : " فشل فلان عن لقاء عدوه ويفشل فشلا " ، كما : -
7731 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " الفشل " ، الجبن.
* * *
قال أبو جعفر : وكان همُّهما الذي همَّا به من الفشل ، الانصرافَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه ، جبنًا منهم ، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق ، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له ، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه ، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق ، وأخبر أنه وليُّهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار ، (1) كما :
7732 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله وليُهما " ، أي : المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما. (2) وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما ، من غير شك أصابهما في دينهما ، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما ، ولحقتا بنبِّيهما صلى الله عليه وسلم. يقول : " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، أي : من كان به ضعف من المؤمنين أو وهَن ،
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف 6 : 497 تعليق : 1. والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " الدافع عنهما " ، وأثبت ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة " ما هما به " ، وهو صواب ، ولكني أثبت نص ابن هشام ، فهو أقوم على السياق ، والتصحيف في مثل هذا قريب ، ولست أظنه من أصل الطبري.

(7/168)


وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

فليتوكل عليّ ، وليستعن بي أعنِه على أمره ، وأدفع عنه ، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ : ( " وَاللهُ وَليُّهُمْ " ) ، وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك ، لأن " الطائفتين " وإن كانتا في لفظ اثنين ، فإنهما في معنى جماع ، بمنزلة " الخصمين " و " الحزبين " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا ، وينصركم ربكم ، " ولقد نصركم الله ببدر " على أعدائكم وأنتم يومئذ " أذلة " يعني : قليلون ، في غير منعة من الناس ، حتى أظهركم الله على عدوكم ، مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، وأنتم اليوم أكثر عددًا منكم حينئذ ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم ، " فاتقوا الله " ، يقول تعالى ذكره : فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه " لعلكم تشكرون " ، يقول : لتشكروه على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم ، ولما هداكم له من الحق الذي ضلّ عنه مخالفوكم ، كما : -
__________
(1) الأثر : 7732 - سيرة ابن هشام 3 : 112 ، 113 ، وهو من سياق الأثر السالف رقم : 7726.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 133.

(7/169)


7733 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " ، يقول : وأنتم أقل عددًا وأضعف قوة " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، أي : فاتقون ، فإنه شكر نعمتي. (1)
* * *
واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر " بدرًا " .
فقال بعضهم : سمي بذلك ، لأنه كان ماء لرجل يسمى " بدرًا " ، فسمي باسم صاحبه.
*ذكر من قال ذلك :
7734 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن الشعبي قال : كانت " بدر " لرجل يقال له " بدر " ، فسميت به.
* * *
7735 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا ، عن الشعبي أنه قال : " ولقد نصركم الله ببدر " ، قال : كانت " بدر " بئرًا لرجل يقال له " بدر " ، فسميت به.
وأنكر ذلك آخرون وقالوا : ذلك اسم سميت به البقعة ، كما سمى سائر البلدان بأسمائها.
*ذكر من قال ذلك :
7736 - حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا ابن سعد قال ، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال ، حدثنا منصور ، عن أبي الأسود ، عن زكريا ، عن الشعبي قال : إنما سمي " بدرًا " ، لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له " بدر " وقال الحارث ، قال ابن سعد ، قال الواقدي : فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا فلأيّ شيء سميت " الصفراء " ؟ ولأي شيء سميت
__________
(1) الأثر : 7733 - سيرة ابن هشام 3 : 113 ، هو بقية الآثار التي آخرها رقم : 7732 ، وسياق أبي جعفر في روايته ، أقوم من سياق ابن هشام.

(7/170)


" الحمراء " ؟ ولأيّ شيء سمي " رابغ " ؟ هذا ليس بشيء ، إنما هو اسم الموضع قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاريّ فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون : هو ماؤنا ومنزلنا ، وما ملكه أحدٌ قط يقال له " بدر " ، وما هو من بلاد جهينة ، إنما هي بلاد غِفار قال الواقدي : فهذا المعروف عندنا.
7737 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : " بدر " ، ماء عن يمين طريق مكة ، بين مكة والمدينة.
* * *
وأما قوله : " أذلة " ، فإنه جمع " ذليل " ، كما " الأعزة " جمع " عزيز " ، " والألِبَّة " جمع " لبيب " .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما سماهم الله عز وجل " أذلة " ، لقلة عددهم ، لأنهم كانوا ثلثمئة نفس وبضعة عشر ، وعدوهم ما بين التسعمئة إلى الألف - على ما قد بينا فيما مضى - فجعلهم لقلة عددهم " أذلة " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7738 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، وبدر ماء بين مكة والمدينة ، التقى عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم والمشركون ، وكان أول قتال قاتله نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ : " أنتم اليوم بعدَّة أصحاب طالوت يوم لقى جالوت " : فكانوا ثلثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون يومئذ ألفٌ ، أو راهقوا ذلك. (1)
__________
(1) الأثر : 7738 - مضى بعضه برقم : 5730 ، وانظر عدة أهل بدر فيما سلف من 5724 - 5732. وقوله : " راهقوا ذلك " أي : قاربوا ذلك.

(7/171)


7739 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، قال : يقول : " وأنتم أذلة " ، قليل ، وهم يومئذ بضعة عشر وثلثمئة.
7740 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو قول قتادة.
7741 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " ، أقل عددًا وأضعف قوة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، فإن تأويله ، كالذي قد بيَّنت ، كما : -
7742 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، أي : فاتقوني ، فإنه شكر نعمتي. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 7741 - سيرة ابن هشام 3 : 113 ، وهو بعض الأثر السالف قريبًا رقم : 7733.
(2) الأثر : 7742 - سيرة ابن هشام 3 : 113 ، وهو أيضًا بعض الأثر : 7733. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " نعمى " ، وأثبت ما مضى في المخطوطة والمطبوعة في الأثر السالف ، وهو مطابق نص ابن هشام.

(7/172)


إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

القول في تأويل قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك : ألن يكفيكم أن يمدكم ربَكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ؟ وذلك يوم بدر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حرَبهم ، في أيّ يوم وُعدوا ذلك ؟
فقال بعضهم : إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدَّهم بملائكته ، إن أتاهم العدو من فورهم ، فلم يأتوهم ، ولم يُمَدُّوا. (1)
*ذكر من قال ذلك :
7743 - حدثني حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عامر قال ، حُدِّث المسلمون أن كُرز بن جابر المحاربي يُمِدُّ المشركين ، قال : فشق ذلك على المسلمين ، فقيل لهم : " ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومِّين " ، قال : فبلغت كرزًا الهزيمة ، فرجع ، ولم يمدّهم بالخمسة.
__________
(1) في المخطوطة : " ولم يعدوا " ، وهو خطأ صرف. هذا والمخطوطة في هذا الموضع كثيرة الخطأ فيما هو واضح كهذا الحرف الذي أثبته ، ولذلك أغفلت كثيرًا من أشباهه ، ونبهت عليه.

(7/173)


7744 - حدثني ابن المثني قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر قال : لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : " ويأتوكم من فورهم هذا " - يعني كرزا وأصحابه - " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين " ، قال : فبلغ كرزًا وأصحابه الهزيمة ، فلم يمدهم ، ولم تنزل الخمسة ، وأمِدّوا بعد ذلك بألف ، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين.
7745 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد عن الحسن في قوله : " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة " ، الآية كلها ، قال : هذا يوم بدر.
7746 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : حُدِّث المسلمون أن كرزَ بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ببدر ، قال : فشق ذلك على المسلمين ؛ فأنزل الله عز وجلّ : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم " إلى قوله : " من الملائكة مسومِّين " ، قال : فبلغته هزيمة المشركين ، فلم يمدّ أصحابه ، ولم يمدُّوا بالخمسة.
* * *
وقال آخرون : كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر ، فصبر المؤمنون واتقوا الله ، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم.
*ذكر من قال ذلك :
7747 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن

(7/174)


ومعي بَصَري ، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشُك ولا أتمارى.
7748 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق ، وحدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة ، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة ، وكان شهد بدرًا : أنه قال بعد إذ ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري ، لأريتكم الشِّعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارَى. (1)
7749 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني عبد الله بن أبي بكر : أنه حُدِّث عن ابن عباس : أن ابن عباس قال : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يُشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر الوقعة ، على من تكون الدَّبْرة فننتهِبُ مع من ينتهب. (2) قال : فبينا نحن في الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم. (3) قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه ، (4) وأما أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت. (5)
7750 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، وحدثني الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن عباس قال : لم تُقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عَددًا ومَددًا لا يضربون. (6)
7751 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال محمد بن إسحاق ،
__________
(1) الأثران : 7747 ، 7748 - سيرة ابن هشام 2 : 286 ، وانظره بإسناد آخر يأتي برقم : 7777 مع اختلاف في لفظه ، ومع نسبته إلى يوم أحد ، لا يوم بدر. وانظر التعليق عليه هناك.
(2) الدبرة (بفتح الدال وسكون الباء ، وبفتحتين أيضًا) والدابرة : الهزيمة في القتال ، وهي اسم من " الإدبار " . يقال : على من الدبرة ؟ أي الهزيمة. ثم يقال : لمن الدبرة ؟ أي لمن الدولة والظفر.
(3) قوله : " أقدم " هي كلمة زجر تزجر بها الخيل ، وأمر لها بالتقدم. وحيزوم : اسم فرس من خيل الملائكة يومئذ. ويقال هو فرس جبريل عليه السلام. هذا وفي المخطوطة : " إذ ذهب منا سحابة " وهو تصحيف.
(4) قناع القلب : غشاؤه ، تشبيهها له بقناع المرأة الذي تلبسه.
(5) الأثر : 7749 - سيرة ابن هشام 2 : 285.
(6) الأثر : 7750 - سيرة ابن هشام 2 : 286.

(7/175)


حدثني أبي إسحاق بن يسار ، عن رجال من بني مازن بن النجار ، عن أبي داود المازني ، وكان شهد بدرًا قال : إني لأتبعُ رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه ، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن قد قتله غيري. (1)
7752 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال محمد : حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت ، فأسلم العباس وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ. وكان العباس يهاب قومه ويكرَهُ أن يخالفهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلَّف عن بدر وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وكذلك صنعوا ، لم يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبرُ عن مُصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعِزًّا. (2) قال : وكنت رجلا ضعيفًا ، وكنت أعمل القِداح أنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرُّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طُنُب الحجرة ، (3) فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم! قال : قال أبو لهب : هلُمّ إليّ يا ابن أخي ، فعندك الخبر! قال : فجلس إليه والناس قيام عليه ، فقال : يا ابن أخي أخبرني ، كيف كان أمرُ الناس ؟ قال : لا شيء والله ، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا! وايم الله ،
__________
(1) الأثر : 7751 - سيرة ابن هشام 2 : 286.
(2) في المطبوعة : " قوة وعونة " ، وليست بشيء ، وفي المخطوطة " قوة وعبدا " وصواب قراءتها ما أثبته من سيرة ابن هشام.
(3) طنب الحجرة : جانبها المسدل. أخذ من طنب الخباء ، وهو الحبل يشد به إلى الأرض.

(7/176)


مع ذلك ما لمتُ الناس ، لقينا رجالا بيضًا على خيل بلق ما بين السماء والأرض ما تلِيق شيئًا ، ولا يقوم لها شيء. (1) قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت : تلك الملائكة! (2)
7753 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد قال ، حدثني الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليَسَر كعب بن عمرو أخو بني سلِمة ، (3) وكان أبو اليسر رَجلا مجموعًا ، (4) وكان العباس رجلا جسيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر : " كيف أسرت العباس أبا اليسر ؟! قال : يا رسول الله ، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا! (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أعانك عليه ملك كريم " . (6)
7754 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ، أمدوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين " ،
__________
(1) يقال الكريم : " فلان لا يليق شيئًا " من " ألاق " ، أي : ما يحبس شيئا ولا يمسكه. ويقال للسيف : " سيف لا يليق شيئًا " ، أي : ما يرد ضربته شيء. وهذا الأخير هو المراد هنا. وكان في المطبوعة : " ما يليق لها شيء " بدل ما في المخطوطة ، إذ لم يفهمه. وأثبت ما في المخطوطة والسيرة.
(2) الأثر : 7752 - سيرة ابن هشام 2 : 301 ، مع اختلاف يسير في بعض اللفظ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " أبا اليسر ... أخا بني سلمة " ، وأثبت ما في التاريخ ، فهو أجود عربية.
(4) قوله : " مجموعًا " ، يعني : قد اجتمع خلقه فلم يبسط ، وهو نقيض الجسيم ، كما يظهر من سياق الأثر. ولم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(5) في المخطوطة : " هيئته كذا ، هيئته كذا " ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، لأنه مطابق لما في التاريخ.
(6) الأثر : 7753 - لم أجده في المطبوع من سيرة ابن هشام ، وهو في تاريخ الطبري 2 : 288 ، 289.

(7/177)


وذلك يوم بدر ، أمدَّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة.
7755 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه.
7756 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنى أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، (1) عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين " ، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مسوِّمين.
7757 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
* * *
وقال آخرون : إن الله عز وجلّ : إنما وعدهم يوم بدر أن يمدَّهم إن صبروا عند طاعته وجهاد أعدائه ، واتقوه باجتناب محارمه ، أن يمدهم في حروبهم كلها ، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب ، فأمدَّهم حين حاصروا قريظة.
*ذكر من قال ذلك :
7758 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم ، فلم يفتح علينا ، فرجعنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فهو يغسل رأسه ، (2) إذ جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة ، فلفَّ بها رأسه ولم يغسله ، ثم نادى فينا فقمنا
__________
(1) " قال حدثني أبي " هذه ، سقطت من المطبوعة ، والصواب من المخطوطة ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(2) في المطبوعة : " فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يغسل رأسه " ، وهو تصرف لا شك فيه من ناشر أو ناسخ آخر ، فإن الذي في المخطوطة : " فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يغسل رأسه " ، لما سقط من الجملة قوله : " بماء " ، تصرف الناسخ ، وما كان له أن يفعل! والصواب كما أثبته ، مطابقًا لما في الخصائص الكبرى للسيوطي. وانظر البغوي (بهامش ابن كثير) 2 : 235.

(7/178)


كالِّين مُعْيِينَ لا نعبأ بالسير شيئًا ، (1) حتى أتينا قريظة والنضير ، فيومئذ أمدنا الله عز وجل بثلاثة آلاف من الملائكة ، وفتح اللهُ لنا فتحًا يسيرًا ، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل. (2)
* * *
وقال آخرون بنحو هذا المعنى ، غير أنهم قالوا : لم يصبر القوم ولم يتقوا ولم يُمدوا بشيء في أحُد.
* ذكر من قال ذلك :
7759 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، حدثني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، سمعه يقول : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : يوم بدر. قال : فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد ، ولو مُدُّوا لم يُهزموا يومئذ.
__________
(1) في المخطوطة : " فقمنا كالبر معين " غير منقوطة ، فلم يحسن الناشر أن يقرأها ، فجعلها في المطبوعة : " كالزمعين " ، فجاء معلق على التفسير ففسر الكلمة تفسيرًا لا يصلح أن يكون كلامًا ها هنا ، فخرج الكلام تصحيفًا وخلطًا معًا!! وأما السيوطي في الخصائص الكبرى ، فالظاهر أنه لم يحسن هو أيضًا قراءة المخطوطة ، أو كانت في نسخة مصحفة عنده كمثل هذا التصحيف ، فأسقط الجملة كلها وساق الكلام هكذا : " فقمنا حتى أتينا بني قريظة " . وكذلك فعل البغوي. وصواب القراءة هو ما أثبت ، وهو مطابق لصفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجهم إلى بني قريظة. يقال " كل الرجل يكل من المشي فهو كال " : إذا بلغ منه التعب والإعياء. ويقال : " أعيى الرجل والبعير وغيره يعيي إعياء فهو معي " ، إذا أكله السير وطلحه وبرح به. يقول : فقمنا وقد بلغ منا ومن دوابنا التعب.
(2) الأثر : 7785 - أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى 1 : 233 نقلا عن ابن جرير في تفسيره هذا. و " عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي " ، مضت ترجمته برقم : 5796 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عبد الله بن موسى " ، وهو خطأ. وأما " سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي " فهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 15 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 117 ، قال يحيى بن معين " ليس بثقة ، كذاب ، ليس يسوى حديثه فلسًا " . وقال النسائي : " متروك الحديث " . وكان في المطبوعة : " أبو آدم " وهو خطأ ، ومثله في التهذيب في ترجمته ، وهو خطأ أيضًا صوابه ما أثبت من المخطوطة. و " عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي " ، شهد بيعة الرضوان ، ومات رضي الله عنه سنة 88 ، كما صححه الذهبي في تاريخه.
وهذا الأثر ، وإن كان إسناده لا يقوم ، فإن معناه يشبه أن يكون حقًا ، لموافقته ما جاءت به الرواية عن غزوة بني قريظة في الروايات الصحيحة عن غير عبد الله بن أبي أوفى.

(7/179)


7760 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : لم يمدوا يوم أحُد ولا بملك واحد أو قال : إلا بملك واحد ، أبو جعفر يشك.
7761 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، سمعت عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف " إلى " خمسة آلاف من الملائكة مسوّمين " ، كان هذا موعدًا من الله يوم أحُد عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنّ المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ؛ ففرّ المسلمون يوم أحد وولَّوا مدبرين ، فلم يمدهم الله.
7762 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا " الآية كلها. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ينظرون المشركين : يا رسول الله ، أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ، وإنما أمدكم يوم بدر بألف ؟ " قال : فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا ، قال : بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية كلها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبرَ عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددًا لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآف ، ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم.
وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم ، على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر

(7/180)


عندنا صحَّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمِدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف. وغير جائز أن يقال في ذلك قولٌ إلا بخبر تقوم الحجة به. ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله. غير أنّ في القرآن دلالةً على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، وذلك قوله : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) [سورة الأنفال : 9] فأما في يوم أحُد ، فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبينُ منها في أنهم أمدوا. وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا ، ويُنالَ منهم ما نيل منهم. فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره.
* * *
وقد بينا معنى " الإمداد " فيما مضى ، " والمدد " ، ومعنى " الصبر " و " التقوى. " (1)
* * *
وأما قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، فإنّ أهل التأويل اختلفوا فيه.
فقال بعضهم : معنى قوله : " من فورهم هذا " ، من وجههم هذا.
* ذكر من قال ذلك :
7763 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة قال : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : من وجههم هذا.
7764 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم هذا.
7765 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
7766 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، من وجههم هذا.
__________
(1) انظر معنى " الإمداد والمدد " فيما سلف 1 : 307 ، 308 / " والصبر " 2 : 11 ، 124 / 3 : 214 ، 349 كم فهارس اللغة فيما سلف / و " التقوى " 1 : 232 ، 333 ، 364 / 4 : 162 ، وفهارس اللغة.

(7/181)


7767 - حدثت عن عمار بن الحسن ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم هذا.
7768 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " يقول : من وجههم هذا.
7779 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من سفرهم هذا ويقال - يعني عن غير ابن عباس - بل هو من غضبهم هذا.
7770 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " من فورهم هذا " ، من وجههم هذا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : من غضبهم هذا.
* ذكر من قال ذلك :
7771 - حدثني محمد بن المثني قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة " ، قال : " فورهم ذلك " ، كان يوم أحد ، غضبوا ليوم بدر مما لقوا.
7772 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا سهل بن عامر قال ، حدثنا مالك بن مغول قال : سمعت أبا صالح مولى أم هانئ يقول : " من فورهم هذا " ، يقول : من غضبهم هذا.
7773 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : غضَبٌ لهم ، يعني الكفار ، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة ، وذلك يوم أحد.
7774 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : " من فورهم هذا " ، قال : من غضبهم هذا.

(7/182)


7775 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك ، في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم وغضبهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " الفوْر " ، ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، ثم يوصل بآخر ، (1) يقال منه : " فارت القدرُ فهي تفور فورًا وفورانًا " إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل. و " مضيت إلى فلان من فوْري ذلك " ، يراد به : من وجهي الذي ابتدأت فيه.
* * *
فالذي قال في هذه الآية : معنى قوله : " من فورهم هذا " ، من " وجههم هذا " قصد إلى أن تأويله : ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين.
* * *
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من غضبهم هذا فإنما عنوا أن تأويل ذلك : ويأتيكم كفار قريش وتُبَّاعهم يوم أحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها ، يمددكم ربكم بخمسة آلاف.
* * *
ولذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، (2) اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحُد بملائكته.
فقال بعضهم : لم يمدوا بهم ، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم ولم يتقوا الله عز وجل ، بترك من ترك من الرماة طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه ، ولكنهم أخلُّوا به
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يوجد فيه " ، وهو كلام سخيف. وأخذ في الأمر : شرع وبدأ.
(2) في المطبوعة : " وكذلك من اختلاف تأويلهم. . . " ، وهو كلام غير مستقيم. ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة ، لأن من عادة ناسخها أن يترك كثيرًا شرطة الكاف ، ويدعها كاللام ، فظنها هنا " كذلك " ، ولكنها " لذلك " كما قرأتها لك. يقول الطبري : ومن أجل اختلافهم في تأويل : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، اختلف أهل التأويل.

(7/183)


طلبَ الغنائم ، (1) فقتل من قتل المسلمين ونال المشركون منهم ما نالوا ، (2) وإنما كان الله عز وجل وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادَهم بهم إن صبروا واتقوا الله.
* * *
وأما الذين قالوا : كان ذلك يوم بدر بسبب كُرْز بن جابر ، فإن بعضهم قالوا : لم يأت كرزٌ وأصحابُه إخوانَهم من المشركين مددًا لهم ببدر ، ولم يمد الله المؤمنين بملائكته ، لأن الله عز وجل إنما وعدهم أن يمدهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم ، ولم يأتهم المددُ.
* * *
وأما الذين قالوا : إنّ الله تعالى ذكره أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر ، فإنهم اعتلوا بقول الله عز وجل : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) [سورة الأنفال : 9] ، قال : فالألف منهم قد أتاهم مددًا. وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط ، فما زاد على الألف ، (3) فأما الألف فقد كانوا أمدُّوا به ، لأن الله عز وجل كان قد وعدهم ذلك ، ولن يُخلف الله وعده.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " مسوّمين " .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( مُسَوَّمِينَ ) بفتح " الواو " ، بمعنى أن الله سوَّمها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الكوفة والبصرة : ( مُسَوِّمِينَ ) بكسر " الواو " ، بمعنى أن الملائكة سوَّمتْ لنفسها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " طلبًا للغنائم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مثله في المعنى.
(2) في المطبوعة : " فقتل من المسلمين " ، وهي غير مستقيمة ، وفي المخطوطة : " في قتل من قتل من المسلمين " ، وهي الصواب ، إلا في تصحيف الناسخ وخطئه إذ كتب مكان " فقتل " - " في قتل " .
(3) في المطبوعة : " فيما زاد " ، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(7/184)


قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر " الواو " ، لتظاهرُ الأخبار عن [أصحاب] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم (1) بأن الملائكة هي التي سوَّمت أنفسها ، من غير إضافة تسويمها إلى الله عز وجل ، أو إلى غيره من خلقه.
ولا معنى لقول من قال : إنما كان يُختار الكسرُ في قوله : " مسوِّمين " ، لو كان في البشر ، فأما الملائكة فوصفهم غيرُ ذلك ظنًا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويمُ أنفسها إمكانَ ذلك في البشر. وذلك أنه غيرُ مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها نحو تمكينه البشر من تسويم أنفسهم ، فسوَّموا أنفسهم نحو الذي سوَّم البشر ، (2) طلبًا منها بذلك طاعة ربها ، فأضيف تسويمها أنفسهَا إليها. وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه. وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسهَا تقرٌُّبًا منها إلى ربها ، كأن أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها.
* * *
ذكر الأخبار بما ذكرنا : من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة ، دون إضافة ذلك إلى غيرهم ، على نحو ما قلنا فيه :
__________
(1) في المطبوعة : " لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم. . . " وهي عبارة فاسدة ، ثم لا تؤيدها الأخبار التي رواها بعد. وفي المخطوطة مثلها ، إلا أنه كتب " بأهل التأويل " ، وهو تحريف وخطأ. والصواب أن الأخبار المتظاهرة التي سيذكرها هي عن أصحاب رسول الله وأهل التأويل منهم ، فلذلك زدت " أصحاب " بين القوسين ، وجعلت " فأهل " ، " وأهل " ، واستقام الكلام. ولو تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان به ولا بأحد حاجة إلى تظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله وأهل التأويل منهم ومن التابعين من بعدهم. ففي خبره صلى الله عليه وسلم كفاية من كل خبر ، بأبي هو وأمي.
(2) في المطبوعة : " . . . مكنها من تسويم أنفسها بحق تمكينه البشر. . . " ثم " . . . فسوموا أنفسهم بحق الذي سوم البشر " ، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة أساء الكاتب في الكلمة الأولى فنقط الحروف ومجمجها فاختلطت ، وكتب الثانية " بحق " غير منقوطة ، وصواب قراءتها في الموضعين " نحو " كما أثبتها.

(7/185)


7776 - حدثني يعقوب قال ، أخبرنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : إن أول ما كان الصوف ليومئذ يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسوَّموا ، فإنّ الملائكة قد تسوَّمت. (1)
7777 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مختار بن غسان قال ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن الزبير بن المنذر ، عن جده أبي أسيد - وكان بدريًا - فكان يقول : لو أن بصري فُرِّج منه ، (2) ثم ذهبتم معي إلى أحد ، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صُفر قد طرحوها بين أكتافهم. (3)
__________
(1) الأثر : 7776 - " ابن عون " ، هو : " عبد الله بن عون بن أرطبان المزني " أبو عوف الخراز البصري أحد الفقهاء الكبار. رأى أنس بن مالك ، وروى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والحسن البصري والشعبي وطبقتهم. وكان في المطبوعة : " ابن عوف " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة. و " عمير بن إسحاق القرشي " أبو محمد مولى بني هاشم ، روى عن المقداد بن الأسود ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وكان قليل الحديث. وقال أبو حاتم والنسائي : " لا نعلم روى عنه غير ابن عون " قال ابن معين : " ثقة " ، وقال أيضا : " لا يساوي حديثه شيئًا ، ولكن يكتب حديثه " . فهذا الحديث كما ترى مرسل ، وعن رجل يكتب حديثه ولا يحتج به.
(2) في المطبوعة : " لو أن بصري معي ، ثم ذهبتم معي " ، وهو تصرف من الطابعين فيما يظهر ، نقلا عن تصرف السيوطي في الدر المنثور 2 : 70. أما المخطوطة ، فكان فيها : " لو أن بصرى حرح منه ، ثم ذهبتم معي " فيها " حرح " غير منقوطة ، والظاهر أن السيوطي رآها كذلك ، فعجز عنها ، فاستظهرها من الأثرين السالفين : 7747 ، 7748 ، ولكني حرصت على متابعة ما في المخطوطة ، فوجدت رواية الأثرين السالفين من طريق ابن شهاب عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد : " قال لي أبو أسيد الساعدي ، بعد ما ذهب بصره : يا ابن أخي ، لو كنت أنت وأنا ببدر ثم أطلق الله لي بصري ، لأريتك الشعب. . . " (الاستيعاب : 621) فاستظهرت أن " حرح " تصحيف " فرج " (بتشديد الراء ، والبناء للمجهول) ، وهي بمعنى " أطلقه الله " . وقوله : " فرج منه " ، أي : فرج الله عن بعضه. ولو كانت " فرج عنه " لكان صوابًا مطابقًا لرواية سهل بن سعد في المعنى. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى الصواب بحمد الله وتوفيقه.
(3) الأثر : 7777 - " مختار بن غسان التمار الكوفي العبدي " ، روى عن حفص بن عمر البرجمي وإسماعيل بن مسلم. مترجم في التهذيب. و " عبد الرحمن بن الغسيل " ، هو : " عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري " سلفت ترجمته في رقم : 5123. أما " الزبير بن المنذر ابن أبي أسيد " فيقال أيضا أنه " الزبير بن أبي أسيد " ، أن أبا أسيد أبوه لا جده ، وإسناد الطبري مبين عن أنه جده. وقد ذكر ذلك البخاري في الكبير 2 / 1 / 375 ، في خبر ساقه عن ابن الغسيل ، وكذلك ابن أبي حاتم 1 / 2 / 579 ، وذكره الحافظ في التهذيب وقال : " وفي إسناده اختلاف " ، إشارة إلى هذا الاختلاف في أن أبا أسيد أبوه أو جده.
أما خبر أبي أسيد هذا فقد سلف بإسناد أبي كريب وابن حميد : 7747 ، 7748 ، مع اختلاف في بعض اللفظ ، ومع نسبة هذا إلى يوم بدر ، لا يوم أحد. والأول هو الثابت الصحيح. وأخشى أن يكون الذي هنا سهوًا من ناسخ أو راو ، وأن صوابه " إلى بدر " .

(7/186)


7778 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، يقول : معلمين ، مجزوزة أذنابُ خيلهم ، ونواصيها - فيها الصوف أو العِهْن ، (1) وذلك التسويم.
7779 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين " ، قال : مجزوزة أذنابها ، وأعرافها فيها الصوف أو العهن ، فذلك التسويم.
7780 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مسوّمين " ، ذكر لنا أن سيماهم يومئذ ، الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها ، وأنهم على خيل بُلْق.
7781 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " مسومين " ، قال : كان سيماها صوفًا في نواصيها.
7782 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : " مسومين " ، قال : كانت خيولهم مجزوزة الأعراف ، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعِهْن.
7783 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : كانوا يومئذ على خيل بُلْق.
7784 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا
__________
(1) في المخطوطة : " الصوف ، العهن " ، بحذف " أو " ، وهو صواب. والعهن : هو الصوف المصبوغ الملون.

(7/187)


جويبر ، عن الضحاك وبعض أشياخنا ، عن الحسن ، نحو حديث معمر ، عن قتادة.
7785 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " مسومين " ، معلمين.
7786 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين " ، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، مسوِّمين بالصوف ، فسوَّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
7787 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عباد بن حمزة قال ، نزلت الملائكة في سيما الزبير ، عليهم عمائم صفر. وكانت عمامة الزبير صَفراء.
7788 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " مسومين " ، قال : بالصوف في نواصيها وأذنابها.
7789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة قال : نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق ، عليهم عمائم صفر. وكان على الزبير يومئذ عمامة صفراء.
7790 - حدثني أحمد بن يحيى الصوفي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير : أنّ الزبير كانت عليه مُلاءة صفراء يوم بدر ، فاعتم بها ، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم معمَّمين بعمائم صفر. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7790 - " أحمد بن يحيى الصوفي " روى عن محمد بن بشر ، ومحمد بن عبيد وزيد بن الحباب ، وكتب عنه أبو حاتم ، وقال : " ثقة " ، وروى عنه أبو عوانة الكوفي. مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 81. و " عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي " . روى عن أبيه. روى عنه البخاري في الأدب ، وأبو كريب. قال أبو حاتم : " واهن الحديث " ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : " ربما أخطأ " .

(7/188)


قال أبو جعفر : فهذه الأخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه : " تسوَّموا فإن الملائكة قد تسوَّمت " وقول أبي أسيد : " خرجت الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم " ، وقول من قال منهم : " مسوِّمين " معلمين ينبئ جميعُ ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها ، على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى.
* * *
وأما الذين قرأوا ذلك : " مسوَّمين " ، بالفتح ، فإنهم أراهم تأوَّلوا في ذلك ما :
7791 - حدثنا به حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة : " بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين " ، يقول : عليهم سيما القتال.
7792 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، يقول : عليهم سيما القتال ، وذلك يوم بدر ، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، يقول : عليهم سيما القتال.
* * *
فقالوا : كان سيما القتال عليهم ، لا أنهم كانوا تسوَّموا بسيما فيضاف إليهم التسويم ، فمن أجل ذلك قرأوا : " مسوَّمين " ، بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى مَنْ سوَّمهم تلك السيما.
* * *
و " السيما " العلامة يقال : " هي سيما حسنة ، وسيمياء حسنة " ، كما قال الشاعر : (1)
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بِالحُسْنِ يَافِعًا... لَهُ سِيمِياءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (2)
__________
(1) هو أسيد بن عنقاء الفزاري.
(2) سلف تخريجه وشرحه في 5 : 594 ، 595.

(7/189)


وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

يعني بذلك : علامة من حسن ، (1) فإذا أعلم الرجل بعلامة يعرف بها في حرب أو غيره قيل : " سوَّم نفسه فهو يسوِّمها تسويمًا " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم " إلا بشرى لكم " ، يعني بشرى ، يبشركم بها " ولتطمئن قلوبكم به " ، يقول. وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم ، فتسكن إليه ، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم ، وقلة عددكم " وما النصر إلا من عند الله " ، يعني : وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله ، لا من قِبَل المدد الذي يأتيكم من الملائكة. يقول : فعلى الله فتوكلوا ، وبه فاستعينوا ، لا بالجموع وكثرة العدد ، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف ، (3) فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم ، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أحْرَى ، (4) فاتقوا الله واصبروا
__________
(1) انظر تفسيره " السيما " فيما سلف 5 : 594.
(2) انظر تفسير " سوم " فيما سلف 5 : 251 - 257.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وبعونه معكم من ملائكته. . . " بإسقاط الواو من " معكم " ، وهو خلل في الكلام والسياق.
(4) سياق الكلام : " فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم. . . أحرى " . ثم انظر إلى هذا الإمام كيف يتحرى في بيان معاني كتاب الله إخلاص التوحيد لله ، ونفى الشرك عنه في صفاته سبحانه ، فأخرج من النصر ما يتوهم المتوهم أن نزول الملائكة كان هو سبب نصر المؤمنين ، فلخص المعنى تلخيصًا كله تقوى لله وإخلاص له ، ونفي للشرك عن صفاته سبحانه ، فبين أن النصر من عند الله للمؤمنين وللملائكة جميعًا على عدو الله وعدوهم ، وأنهم إنما كانوا مددًا للمؤمنين ، كما قال ربنا سبحانه. وهذا من فقه أبي جعفر وبصره وتحققه بمعاني هذا الكتاب الذي لا يدرك أحد توحيد الله حق توحيده إلا بتلاوته وفهمه وتفقهه فيه ، واتباعه لبيانه العربي المحكم. ورحم الله أبا جعفر ، فإنه كان إمامًا في التفسير ، قيما عليه.

(7/190)


على جهاد عدوكم ، فإن الله ناصركم عليهم. كما : -
7793 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما جعله الله إلا بشرى لكم " ، يقول : إنما جعلهم ليستبشروا بهم وليطمئنوا إليهم ، ولم يقاتلوا معهم يومئذ يعني يوم أحد قال مجاهد : ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر.
7794 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به " ، لما أعرف من ضعفكم ، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي ، وذلك أن العزّ والحكم إلىّ ، (1) لا إلى أحد من خلقي. (2)
7795 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وما النصر إلا من عند الله " ، لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعَل " العزيز الحكيم " .
* * *
وأما معنى قوله : " العزيز الحكيم " ، فإنه جل ثناؤه يعني : " العزيز " في انتقامه من أهل الكفر به بأيدي أوليائه من أهل طاعته " الحكيم " في تدبيره لكم ، أيها المؤمنون ، على أعدائكم من أهل الكفر ، وغير ذلك من أموره. (3) يقول :
__________
(1) في المطبوعة : " وذلك أني أعرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي " ، وهو كلام قد ضل عنه معناه. وفي المخطوطة : " وذلك أن العرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي " ، وهو شبيه به في الخطل. والصواب ما أثبته من نص ابن إسحاق في سيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 7994 - سيرة ابن هشام 3 : 114 ، وهو تابع للأثرين السالفين : 7733 ، 7741.
(3) في المخطوطة : " في تدبيره ولكم أيها المؤمنون وعلى أعدائكم " ، وهو لا يستقيم مع سياقته ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/191)


لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

فأبشروا أيها المؤمنون ، بتدبيري لكم على أعدائكم ، ونصري إياكم عليهم ، إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به ، وصبرتم لجهاد عدوِّى وعدوِّكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولقد نصركم الله ببدر " ليقطع طرفًا من الذين كفروا " ، ويعني بـ " الطرف " ، الطائفة والنفر.
* * *
يقول تعالى ذكره : ولقد نصركم الله ببدر ، كما يُهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله ، فجحدوا وحدانية ربهم ، ونبوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -
7796 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ليقطع طرفًا من الذين كفروا " ، فقطع الله يوم بدر طرفًا من الكفار ، وقتل صناديدهم ورؤساءهم ، وقادتهم في الشر.
7797 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه.
7798 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ليقطع طرفًا من الذين كفروا " الآية كلها ، قال : هذا يوم بدر ، قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة.
7799 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليقطع طرفًا من الذين كفروا " ، أي : ليقطع طرفًا من المشركين بقتل ينتقم به منهم. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7799 - سيرة ابن هشام 3 : 114 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 7994. هذا وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة " عن ابن إسحاق " ، فأثبتها ، فهو إسناد دائر في التفسير كما ترى.

(7/192)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفًا من الذين كفروا. وقال : إنما عنى بذلك من قُتل بأحد.
*ذكر من قال ذلك :
7800 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر الله قتلى المشركين - يعني بأحد - وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال : " ليقطع طرفًا من الذين كفروا " ، ثم ذكر الشهداء فقال : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) الآية. [سورة آل عمران : 169]
* * *
وأما قوله : " أو يكبتهم " ، فإنه يعني بذلك : أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر بكم.
وقد قيل : إن معنى قوله : " أو يكبتهم " ، أو يصرعهم لوجوههم. ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول : " كبته الله لوجهه " ، بمعنى صرعه الله. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : ولقد نصركم الله ببدر ليهلك فريقًا من الكفار بالسيف ، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر " فينقلبوا خائبين " ، يقول : فيرجعوا عنكم خائبين ، لم يصيبوا منكم شيئًا مما رجوا أن ينالوه منكم ، كما : -
7801 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أو يكبتهم فينقلبوا خائبين " ، أو يردهم خائبين ، أي : يرجع من بقي منهم فلاًّ خائبين ، (2) لم ينالوا شيئًا مما كانوا يأملون. (3)
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 103.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أو يرجع من بقي. . . " ، والصواب من سيرة ابن هشام. وأما المطبوعة فقد حذفت قوله : " فلا " ، لأن قلم الناسخ قد اضطرب فضرب خطأ غير بالغ على قوله : " فلا " ، فظنها الناشر علامة حذف. والصواب إثباتها كما في سيرة ابن هشام. والفل (بفتح الفاء وتشديد اللام) : المنهزمون ، يقال : " جاء فل القوم " ، أي منهزموهم ، يستوي فيه الواحد والجمع.
(3) الأثر : 7801 - سيرة ابن هشام 3 : 114 ، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم : 7799.

(7/193)


لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

7802 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أو يكبتهم " ، يقول : يخزيهم ، " فينقلبوا خائبين " .
7803 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفًا من الذين كفروا ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء.
* * *
فقوله : " أو يتوب عليهم " ، منصوبٌ عطفًا على قوله : " أو يكبتهم " .
وقد يحتمل أن يكون تأويله : ليس لك من الأمر شيء ، حتى يتوب عليهم فيكون نصب " يتوب " بمعنى " أو " التي هي في معنى " حتى " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحدٍ سوى خالقهم ، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك.
* * *
وتأويل قوله : " ليس لك من الأمر شيء " ، ليس إليك ، يا محمد ، من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري ، وتنتهيَ فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري ، أقضى فيهم وأحكمُ بالذي أشاء ، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنّقَم المبيرة ، وإما في آجل الآخرة بما أعددتُ لأهل الكفر بي. كما : -
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 234.

(7/194)


7804 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي ، إلا ما أمرتك به فيهم ، أو أتوب عليهم برحمتي ، فإن شئتُ فعلتُ ، أو أعذبهم بذنوبهم (1) " فإنهم ظالمون " ، أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي. (2)
* * *
وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما أصابه بأحُد ما أصابه من المشركين ، قال ، كالآيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحق : " كيف يفلح قومٌ فعلوا هذا بنبيهم!!
*ذكر الرواية بذلك :
7805 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا حميد قال ، قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رَبَاعيته ، وشُجَّ ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم!! فأنزلت : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوبَ عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " . (3)
__________
(1) في سيرة ابن هشام : " . . . بذنوبهم ، فبحقي " .
(2) الأثر : 7804 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، وهو تابع الآثار التي آخرها : 7801 ، مع اختلاف يسير في بعض لفظه.
(3) الحديث : 7805 - هذا الحديث رواه الطبري متصلا بخمسة أسانيد : 7805 - 7808 ، 7810 ، من طريق بشر بن المفضل ، وابن أبي عدي ، وهشيم ، وأبي بكر بن عياش ، وابن علية الخمسة عن حميد بن أبي حميد الطويل ، عن أنس بن مالك. ورواه : 7809 ، من حديث الحسن البصري ، بنحوه ، مرسلا.
وقد رواه أحمد في المسند : 11980 ، عن هشيم ، و : 12862 ، عن سهل بن يوسف ، و : 13115 ، عن يزيد بن هارون ، و : 13170 ، عن ابن أبي عدي أربعتهم عن حميد الطويل ، به. (ج3 ص99 ، 178 - 179 ، 201 ، 206 حلبى). ورواه الترمذي 4 : 83 ، عن أحمد بن منيع ، وعبد بن حميد - كلاهما عن يزيد بن هارون ، كرواية المسند : 13115. وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " . ورواه أبو جعفر النحاس ، في الناسخ والمنسوخ ، ص : 90 ، من طريق يزيد بن هارون.
ورواه أحمد أيضًا ، بنحوه : 13692 (ج3 ص253 حلبي) ، عن عفان ، عن حماد - وهو ابن سلمة - عن ثابت ، عن أنس.
وكذلك رواه مسلم 2 : 67 ، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ، عن حماد بن سلمة ، به
وذكره البخاري في الصحيح 7 : 281 ، مختصرًا ، معلقًا ، من الوجهين. قال : " قال حميد وثابت ، عن أنس. . . " . وبين الحافظ في الفتح أن رواية حميد وصلها أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن إسحاق في المغازي. وأن رواية ثابت وصلها مسلم.
وذكر ابن كثير 2 : 238 رواية البخاري المعلقة. وفي ص : 239 رواية أحمد عن هشيم. ثم أشار إلى رواية مسلم.
وذكره السيوطي 2 : 70 - 71 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل.
وانظر ما يأتي : 7818 - 7821.
" الرباعية " - على وزن " ثمانية " : الأسنان الأربعة التي تلي الثناياه ، بين الثنية والناب.

(7/195)


7806 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
7807 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
7808 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شُجَّ في جبهته وكسِرت رباعيته : لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم! فأوحى الله إليه : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " . (1)
7809 - حدثني يعقوب ، عن ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحُد : كيف يفلح قوم دمَّوا وجه نبيهم وهو
__________
(1) الحديث : 7808 - يحيى بن طلحة اليربوعي : سبق في : 421 أن النسائي ضعفه. والراجح توثيقه. فقد ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 160 ، فلم يذكر فيه جرحًا.

(7/196)


يدعوهم إلى الله عز وجل!! فنزلت : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " . (1)
7810 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك.
7811 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وقد جُرح نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيبَ بعضُ رباعيته ، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
7812 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكِسرت رباعيته ، وفُرِق حاجبه ، فوقع وعليه درعان ، والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله! فأنزل الله تبارك وتعالى : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
7813 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قوله : " ليس لك من الأمر شيء " الآية قال قال الربيع بن أنس : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، وقد شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيبتْ رباعيته ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ عليهم ،
__________
(1) الحديث : 7809 - هذه رواية الحسن المرسلة. وقد ذكر السيوطي 2 : 71 رواية عن الحسن ، مطولة مرسلة أيضًا ، ونسبها لعبد بن حميد ، وحده.

(7/197)


فقال : " كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله وهم يدعونه إلى الشيطان ، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة ، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار! فهمَّ أن يدعوَ عليهم ، فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم.
7814 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم " الآية كلها ، فقال : جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صُنع بأصحابه يوم بدر ، فقاتل أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد قتالا شديدًا ، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً علم الله أنها قد خالطت غضبًا : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الإسلام! فقال الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
7815 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن رباعية النبي صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجه في وجهه. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم الدمَ ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : كيف يفلح قوم صنعوا بنبيهم هذا!! فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
7816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، وعن عثمان الجزري ، عن مقسم : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد ، حين كسر رباعيته ، وَوثأ وجهه ، (1)
__________
(1) وثأه وثأه : فهو أن يضرب حتى يرهص الجلد واللحم ، ويصل الضرب إلى العظم من غير أن ينكسر ، يكسر اللحم ولا يكسر العظم.

(7/198)


فقال : " اللهم لا يحل عليه الحول حتى يموت كافرا! " قال : فما حال عليه الحول حتى مات كافرا.
7817 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : شج النبي صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه ، وكسرت رباعيته.
قال ابن جريج : ذكر لنا أنه لما جرح ، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله! " . فأنزل الله عز وجل : (ليس لك من الأمر شيء)
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعا على قوم ، فأنزل الله عز وجل : ليس الأمر إليك فيهم.
* ذكر الرواية بذلك :
7818 - حدثني يحيى بن حبيب بن عربي قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عز وجل : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال : وهداهم الله للإسلام (1) .
__________
(1) الحديث : 7818 - خالد بن الحارث بن عبيد ، أبو عثمان الهجيمي : ثقة ثبت إمام . وقال أحمد : " إليه المنتهى في التثبت بالبصرة " .
والحديث رواه أحمد في المسند : 5813 ، عن يحيى بن حبيب بن عربي - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية قبله .
ورواه الترمذي 4 : 84 عن يحيى بن حبيب بن عربي أيضًا . وقال : " هذا حديث حسن غريب صحيح ، يستغرب من هذا الوجه ، من حديث نافع عن ابن عمر. ورواه يحيى بن أيوب ، عن ابن عجلان " .
ورواه أحمد أيضًا : 5812 - قبل الرواية السابقة - : عن أبي معاوية الغلابي ، عن خالد بن الحارث.
ورواه أحمد أيضًا : 5997 ، بنحوه ، عن هارون بن معروف المروزي ، عن ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن ابن عمر .
وهو متابعة صحيحة لرواية ابن عجلان عن نافع ، التي استغربها الترمذي - فكانت غير غريبة ، بهذه المتابعة الصحيحة .
وذكره ابن كثير 2 : 238 ، من رواية المسند : 5812 .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 170 ، من روايتي أحمد والترمذي .
وذكره السيوطي 2 : 71 ، ونسبه للترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، فقط .
وانظر الحديث التالي لهذا.

(7/199)


7819 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا أحمد بن بشير ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم العن أبا سفيان ! اللهم العن الحارث بن هشام ! اللهم العن صفوان بن أميه ! فنزلت : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (1) .
__________
(1) الحديث : 7819 - أحمد بن بشير ، أبو بكر الكوفي ، مولى عمرو بن حريث المخزومي : ثقة ، أخرج له البخاري في صحيحه ، وترجمه هو وابن أبي حاتم ، فلم يذكرا فيه جرحًا . ومن نقل فيه جرحًا عن ابن معين فقد وهم . ذاك " أحمد بن بشير " آخر ، كما بينه الخطيب في تاريخ بغداد 4 : 46 - 48 .
ووقع في المطبوعة هنا اسم أبيه " سفيان " ، وفي المخطوطة " سنين " - وكلاهما خطأ ، ليس في الرواة من يسمى بهذا أو بذاك ، إلا راويًا اسمه " أحمد بن سفيان أبو سفيان النسائي " وهو متأخر عن هذه الطبقة . وأثبتنا الصواب عن ذلك ، وعن رواية الترمذي هذا الحديث بهذا الإسناد ، كما سيأتي .
عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب : رجحنا توثيقه في شرح المسند : 5638 ، بأنه أخرج له مسلم في صحيحه ، وبقول الحاكم : " أحاديثه كلها مستقيمة " . وهو يروي هنا عن عمه " سالم بن عبد الله بن عمر " عن جده " عبد الله بن عمر " .
والحديث رواه أحمد في المسند : 5674 ، عن أبي النضر ، عن أبي عقيل عبد الله بن عقيل ، عن عمر بن حمزة ، به وزاد في آخره بعد نزول الآية : " قال : فتيب عليهم " .
ورواه الترمذي 4 : 83 ، عن أبي السائب سلم بن جنادة بن سلم الكوفي - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد . وزاد في آخره : " فتاب عليهم ، فأسلموا فحسن إسلامهم " .
وقال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب ، يستغرب من حديث عمر بن حمزة عن سالم . وكذا رواه الزهري ، عن سالم ، عن أبيه " .
ورواية الزهري عن سالم - التي أشار إليها الترمذي - رواها أحمد في المسند : 6349 ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه .
وكذا رواها أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص : 89 ، من طريق عبد الرزاق ، به . ورواه أيضًا ابن المبارك عن معمر .
فرواه أحمد في المسند : 6350 ، عن علي بن إسحاق ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن سالم . عن أبيه .
وكذلك رواه البخاري 7 / 281 ، 8 : 170 / و 13 : 263 - 264 ، من طريق عبد الله بن المبارك .
ورواه البخاري أيضًا 7 : 281 ، من رواية ابن المبارك ، عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي ، عن سالم بن عبد الله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو . . . " رواه تبعًا لحديث ابن المبارك عن معمر ، فقال الحافظ في الفتح : " والراوي له عن حنظلة ، هو عبد الله بن المبارك " .
ووهم من زعم أنه معلق . وقوله : " سمعت سالم بن عبد الله يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " ، إلى آخره - : هو مرسل.
وقد ذكره ابن كثير 2 : 238 ، عن رواية المسند : 5674 .
وذكره السيوطي 2 : 71 ، وزاد نسبته للنسائي ، والبيهقي في الدلائل .

(7/200)


7820 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قالاللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين! اللهم اشدد وطأتك على مضر! اللهم سنين كسنين آل يوسف ! فأنزل الله : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم) (1) الآية.
__________
(1) الحديث : 7820 - عبد الله بن كعب : هو الحميري المدني ، مولى عثمان بن عفان . وهو ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه ، وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 142 .
وهذا الحديث مرسل ، لأن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي - تابعي - وقد مضت ترجمته في : 2351. ولم أجد هذا الحديث المرسل في موضع آخر . ومعناه ثابت صحيح في الحديث الآتي عقبه : 7821 ، وفي حديث أبي هريرة في المسند : 7656 ، من رواية الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن . عن أبي هريرة . ولكن ليس فيه نزول الآية .
ثم وجدته موصولا من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه :
فرواه البخاري 2 : 241 - 242 ، في حديث مطول ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري " قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن : أن أبا هريرة ... قالا : وقال أبو هريرة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه . . . " - إلخ .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 207 ، مقتصرًا على القسم الأخير منه ، من أول قوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " - من طريق عثمان بن سعيد الدارمي ، عن أبي اليمان ، بمثل إسناد البخاري ، ثم قال : " رواه البخاري في الصحيح ، عن أبي اليمان " .
ووجدته أيضا مرسلا ، مثل رواية الطبري هنا :
فرواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 142 ، من طريق سلمة بن رجاء ، عن محمد بن إسحاق ، بمثل إسناد الطبري هنا . وزاد في آخره بعد الآية : " قال : فما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء على أحد " .

(7/201)


وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

7821 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب أخبره ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن : أنهما سمعا أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ ، في صلاة الفجر ، من القراءة ويكبر ويرفع رأسه : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد " ثم يقول وهو قائم : " اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين! اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسني يوسف! اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله! " . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) }
__________
(1) الحديث : 7821 - روى مسلم في صحيحه 1 : 187 ، عن أبي الطاهر ، وحرملة بن يحيى - كلاهما عن ابن وهب ، بهذا الإسناد .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 197 ، من طريق بحر بن نصر ، عن ابن وهب ، به . ثم أشار إلى رواية مسلم .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 142 ، عن يونس بن عبد الأعلى - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد ؛ ولكنه اختصر آخره ، فلم يذكر قوله : " ثم بلغنا أنه ترك ذلك . . . " .
ورواه أحمد في المسند : 7458 ، عن أبي كامل ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، بهذا الإسناد ، نحوه .
وكذلك رواه البخاري 8 : 170 - 171 (فتح) ، عن موسى بن إسماعيل ، عن إبراهيم بن سعد ، به .
وكذلك رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ، ص : 89 ، من طريق الحسن بن محمد ، عن إبراهيم بن سعد .
وكذلك رواه البيهقي 2 : 197 ، من طريق محمد بن عثمان بن خالد ، عن إبراهيم بن سعد .
ونقله ابن كثير 2 : 238 ، عن رواية البخاري ، التي أشرنا إليها آنفًا .
وذكره السيوطي 2 : 71 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم . ولم يفرق بين روايتي إبراهيم بن سعد ويونس ، والفرق بينهما واضح - فنسبه بنحو رواية يونس - للبخاري والنحاس ، وهما لم يروياه بهذا اللفظ .
وقد قال الحافظ في الفتح 7 : 282 ، في شرح حديث ابن عمر ، الذي أشرنا إليه في شرح : 7819 - قال : " ووقع في رواية يونس ، عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، نحو حديث ابن عمر ، لكن فيه : اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية ، قال : ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت : ( ليس لك من الأمر شيء ) . قلت : [القائل ابن حجر] . وهذا إن كان محفوظًا احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن قصة أحد . لأن قصة رعل وذكوان كانت بعدها ، كما سيأتي تلو هذه الغزوة ، وفيه بعد . والصواب : أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد . والله أعلم . ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية : ( ليقطع طرفًا من الذين كفروا ) أي يقتلهم ، ( أو يكبتهم ) أي يخزيهم ، ثم قال : ( أو يتوب عليهم) أي فيسلموا ، ( أو يعذبهم ) أي إن ماتوا كفارًا " .
وهذا تحقيق نفيس جيد من الطراز العالي.

(7/202)


قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ليس لك يا محمد ، من الأمر شيء ، ولله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما يشاء ، ويقضي فيهم ما أحب ، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمرَه ونهيه ، ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه ، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح ، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم. كما : -
7822 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله غفور رحيم " ، أي يغفر الذنوب ، ويرحم العباد ، على ما فيهم. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7822 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم : 7804.

(7/203)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد إذ هداكم له ، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم.
* * *
وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم : أنّ الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخِّر عنى ديْنك وأزيدك على مالك. فيفعلان ذلك. فذلك هو " الربا أضعافًا مضاعفة " ، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه ، . كما : -
7823 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : كانت ثقيف تدَّاين في بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حلّ الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخِّرون ؟ فنزلت : " لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة " .
7824 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة " ، أي : لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم الله له ، (1) ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره ، مما لا يحل لكم في دينكم. (2)
7825 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجلّ : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة " قال : ربا الجاهلية.
7826 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول
__________
(1) سيرة ابن هشام : " هداكم الله به " .
(2) الأثر : 7824 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، من بقية الآثار التي آخرها رقم : 7822.

(7/204)


في قوله : " لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة " ، قال : كان أبي يقول : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن. (1) يكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ (2) فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلا حوَّله إلى السن التي فوق ذلك إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ، ثم حِقَّة ، ثم جَذَعة ، ثم رباعيًا ، (3) ثم هكذا إلى فوق وفي العين يأتيه ، (4) فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا ، فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة ، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. قال : فهذا قوله : " لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة " .
* * *
وأما قوله : " واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، فإنه يعني : واتقوا الله أيها المؤمنون ، في أمر الربا فلا تأكلوه ، وفي غيره مما أمركم به أو نهاكم عنه ، وأطيعوه فيه " لعلكم تفلحون " ، يقول : لتنجحوا فتنجوا من عقابه ، وتدركوا ما رغَّبكم فيه من ثوابه والخلود في جنانه ، كما : -
7827 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، أي : فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه. (5)
* * *
__________
(1) السن : العمر. يريد بها أسنان الأنعام ، كما سيتبين لك من بقية الأثر.
(2) في المخطوطة : " تقضي أو تزدني " .
(3) " المخاض " : النوق الحوامل. و " ابن المخاض " و " ابنة المخاض " ، ما دخل في السنة الثانية ، لأن أمه لحقت بالمخاض ، أي الحوامل. " واللبون " : الناقة ذات اللبن. و " ابن اللبون " و " ابنة لبون " ، ما أتى عليه سنتان ، ودخل في السنة الثالثة. فصارت أمه لبونًا ، أي ذات لبن. و " الحق " و " الحقة " البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة. " والجدع " و " الجذعة " ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة. فإذا طعن البعير في السادسة فهو " ثنى " ، وقد سقط هذا من الأسنان التي يذكرها. أما " الرباع " للذكر ، و " الرباعية " للأنثى ، فهو الذي دخل في السابعة.
(4) العين : المال. من ذهب وفضة وأشباهها.
(5) الأثر : 7827 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، وهو تابع الآثار التي آخرها : 7824 ، وفي السيرة " لعلكم تنجون. . . وتدركون " .

(7/205)


وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين : واتقوا ، أيها المؤمنون ، النارَ أن تصلوْها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه التي أعددتها لمن كفر بي ، فتدخلوا مَدْخَلَهم بعد إيمانكم بي ، (1) بخلافكم أمري ، وترككم طاعتي. كما : -
7828 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " ، التي جعلت دارًا لمن كفر بي. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأطيعوا الله ، أيها المؤمنون ، فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء ، وفيما أمركم به الرسول. يقول : وأطيعوا الرسول أيضًا كذلك " لعلكم ترحمون " ، يقول : لترحموا فلا تعذبوا.
* * *
وقد قيل إن ذلك معاتبة من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خالفوا أمرَه يوم أحد ، فأخلُّوا بمراكزهم التي أمروا بالثبات عليها.
*ذكر من قال ذلك :
7829 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وأطيعوا
__________
(1) في المطبوعة : " مداخلهم " بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 7828 - سيرة ابن هشام 3 : 115 تابع الآثار التي آخرها : 7827.

(7/206)


الله والرسول لعلكم ترحمون " ، معاتبة للذين عصوْا رسوله حين أمرهم بالذي أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره - يعني : في يوم أحُد. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 7829 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، تابع الآثار التي آخرها : 7828.

(7/207)


وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

القول في تأويل قوله : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وسارعوا " ، وبادروا وسابقوا (1) " إلى مغفرة من ربكم " ، يعني : إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته ، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها " وجنة عرضها السموات والأرض " ، يعني : وسارعوا أيضًا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
* * *
ذكر أن معنى ذلك : وجنة عرضها كعرض السموات السبع والأرضين السبع ، إذا ضم بعضها إلى بعض.
*ذكر من قال ذلك :
7830 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وجنة عرضها السموات والأرض " ، قال : قال ابن عباس : تُقرن السموات السبع والأرضون السبع ، كما تُقرن الثياب بعضها إلى بعض ، فذاك عرض الجنة.
* * *
وإنما قيل : " وجنة عرضها السموات والأرض " ، فوصف عرضها بالسموات والأرضين ، والمعنى ما وصفنا : من وصف عرضها بعرض السموات والأرض ،
__________
(1) انظر تفسير " سارع " فيما سلف 7 : 130.

(7/207)


تشبيها به في السعة والعظم ، كما قيل : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [سورة لقمان : 28] ، يعني : إلا كبعث نفس واحدة ، وكما قال الشاعر : (1)
كأَنَّ عَذِيرَهُمْ بِجَنُوب سِلَّى... نَعَامٌ قَاقَ فِي بَلَدٍ قِفَارِ (2)
أي : عذيرُ نعام ، وكما قال الآخر : (3)
حَسِبتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا!... وَمَا هي ، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (4)
يريد صوت عناق.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له :
__________
(1) هو شقيق بن جزء بن رياح الباهلي ، وينسب لأعشى باهلة ، وللنابغة خطأ.
(2) الكامل 2 : 196 ، معجم البلدان (سلى) ، واللسان (فوق) (سلل) ، وكان شقيق بن جزء قد أغار على بني ضبة بروضة سلى وروضة ساجر ، وهما روضتان لعكل - وضبة وعدى وعكل وتيم حلفاء متجاورون - فهزمهم ، وأفلت عوف بن ضرار ، وحكيم بن قبيصة بن ضرار بعد أن جرح ، وقتلوا عبيدة بن قضيب الضبي ، فقال شقيق : لَقَدْ قَرَّتْ بِهِمْ عَيْني بِسِلَّى ... وَرَوْضَةِ سَاجِرٍ ذَاتِ القَرَارِ
جَزَيْتُ المُلْجِئِينَ بِمَا أَزَلْتْ ... مِنَ البُؤْسَى رِمَاحُ بني ضِرَارِ
وَأَفْلَتَ من أسِنَّتِنَا حَكِيمٌ ... جَرِيضًا مِثْلَ إفْلاتِ الحِمارِ
كأَنَّ عَذِيرَهُمْ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المعجم " ذات العرا " ، والصواب ما أثبت. والقرار : المكان المنخفض المطمئن يستقر فيه الماء ، فتكون عندها الرياض ، ومنه قوله تعالى : " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " . والملجئ الذي قد تحصن بملجأ واعتصم. وأزل إليه زلة : أي أنعم إليه واصطنع عنده صنيعة ، وإنما أراد : ما قدم من السوء ، سخرية منهم. يقول : جزيتهم هؤلاء المعتصمين بأسوأ ما صنعوا. وقوله : " جريضًا " ، أي أفلت وقد كاد يقضى ويهلك. والعذير : الحال. يقول كأن حالهم حال نعام في أرض قفر يصوت مذعورًا ، هزموا وتصايحوا. والقفار جمع قفر ، يقال : " أرض قفر وأرض قفار " ، يوصف بالجمع.
(3) هو ذو الخرق الطهوي.
(4) سلف تخريجه وشرحه في 3 : 103.

(7/208)


هذه الجنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال : هذا النهار إذا جاء ، أين الليل.
*ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره.
7831 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة قال : لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخًا كبيرًا قد فُنِّد. (1) قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره. قال قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية. فإذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، (2) فأين النار ؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ (3)
__________
(1) في المطبوعة : " قد أقعد " . وهو خطأ لا شك فيه ، وفي تفسير ابن كثير 2 : 240 " قد فسد " ، وهو خطأ أيضًا ، ولكنه رجع عندي أن نص الطبري هنا قد " فند " (بضم الفاء وتشديد النون المكسورة مبنيًا للمجهول) بمعنى : قد نسب إلى الفند (بفتحتين) وهو العجز ، والخرف وإنكار العقل من الهرم والمرض ، ولم يرد ذلك إنما أراد الكبر والهرم إلى أقصى العمر. وأهل اللغة يقولون في ذلك " أفند " (بالبناء للمعلوم) ، وأفنده الكبر : إذا أوقعه في الفند ، وأما رواية أحمد في المسند ، فنصها : " شيخًا كبيرًا قد بلغ الفند أو قرب " .
(2) في المطبوعة : " فإذا هو أنك كتبت تدعوني " ، وهو محاولة تصحيح لما في المخطوطة ، وكان فيها : " فإذا كان كتبت تدعوني " ، والصواب الذي أثبته من ابن كثير في تفسيره 2 : 241 ، ومثله في خبر أحمد في مسنده.
(3) الحديث : 7831 - " مسلم بن خالد " : هو الزنجي المكي الفقيه ، شيخ الإمام الشافعي. وهو في نفسه صدوق ، ولكنه يخطئ كثيرًا في روايته ، حتى قال البخاري : " منكر الحديث " ولذلك رجحنا تضعيفه في المسند : 613. ابن خثيم - بضم الخاء المعجمة ثم فتح الثاء المثلثة : هو عبد الله بن عثمان بن خثيم ، مضت ترجمته في : 4341. سعيد بن أبي راشد : في التهذيب 4 : 26 ويقال : ابن ر0اشد. روى عن يعلى بن مرة الثقفي ، وعن التنوخي النصراني رسول قيصر ، ويقال : رسول هرقل. وعنه عبدالله بن عثمان بن خثيم. ذكره ابن حبان في الثقات ، قلت : وفي الرواة سعيد بن أبي راشد ، أو ابن راشد - آخر " .
ثم نقل طابع التهذيب هامشة عن الأصل الذي يطبع عنه. وجعل رقمها عند قوله " النصراني " - وهذا نصها : " قال شيخنا : أسلم متأخرًا ، عن هذا يقال له أبو محمد المازني ، السماك ، مذكور في كتاب الضعفاء. نبهت عليه " !!
وهذا تخطيط عجيب من الطابع. فالهامشة أصلها هامشتان يقينًا ، كل منهما في موضع ، كما هو بديهي.
فإن قوله : " أسلم متأخرًا " هو المناسب لقوله " النصراني " . وأما ما بعده ، فإنه يريد به أن " سعيد بن راشد " أو " ابن أبي راشد " متأخر عن المترجم الذي يروى عن رسول قيصر ، وأن هذا المتأخر هو الذي كنيته " أبو محمد المازني السماك " . وهو مترجم في الكبير للبخاري 2 / 1 / 431 ، وقال فيه : " منكر الحديث " . وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 19 - 20 برقم : 80 ، وترجم قبله ، برقم : 79 " سعيد بن أبي راشد " وأنه صحابي ، وترجم بعدهما برقم : 81 " سعيد بن راشد المرادى " - وهو متأخر عن هذين.
وترجم الحافظ في الإصابة 3 : 96 للصحابي ، ثم قال في آخر الترجمة : " وأما سعيد بن أبي راشد شيخ عبد الله بن عثمان بن خثيم ، روى عنه عن رسول قيصر حديثًا فأظنه غير هذا " .
وترجم الذهبي في الميزان 1 : 379 ثلاث تراجم ، فرق بينها ، وبين ضعف " سعيد بن راشد المازني السماك " . وكذلك صنع الحافظ في لسان الميزان 3 : 27 - 28. و " سعيد بن راشد السماك " الضعيف : ترجمه ابن حبان في المجروحين ، برقم : 398 ، وأساء القول فيه. والراجح عندي أن " سعيد بن أبي راشد " الذي هنا هو الصحابي. وأنه روى هذا عن التنوخي رسول هرقل.
يعلى بن مرة : هو الثقفي الصحابي المعروف. وعندي أن ذكره في هذا الإسناد مقحم خطأ ، كما سيأتي.
التنوخي رسول هرقل : لم أجد له ترجمة ، إلا ذكره بهذا الوصف وأنه روى عنه سعيد بن أبي راشد ، كما ذكره الحافظ في التعجيل ، ص : 535. وإلا الكلمة التي نقلها طابع التهذيب عن هامش أصله بأنه أسلم متأخرًا. فهو بهذا لا يعتبر من الصحابة ، لأنه حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلمًا ، وإنما أسلم بعده. ولا يعتبر من الصحابة إلا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مسلمًا حين الرؤية. أما من رآه وكان كافرًا حين الرؤية ثم أسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم - كالتنوخي هذا - فلا صحبة له. انظر تدريب الراوي ، ص : 202
ولكن روايته تكون صحيحة مقبولة ، لأنه كان مسلمًا حين الأداء ، أعني التبليغ والتحديث ، وإن كان كافرًا حين التحمل ، أعني الرؤية وسماع ما يرويه. وانظر أيضًا تدريب الراوي ، ص : 128. وهذا الحديث طرف من حديث طويل في قصة ، رواه الإمام أحمد في المسند : 15719 (ج3 ص 441 - 442 حلبي) ، عن إسحاق بن عيسى - وهو الطباع - عن يحيى بن سليم ، وهو الطائفي ، " عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، قال : رأيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بحمص ، وكان جارًا لي ، شيخًا كبيرًا ، قد بلغ الفند أو قرب. . . " - إلى آخر القصة.
وقد نقله الحافظ ابن كثير في التاريخ 5 : 15 - 16 ، عن المسند - بطوله - وبإسناده ، ثم قال : " هذا حديث غريب ، وإسناده لا بأس به. تفرد به أحمد " . وأشار إليه في التفسير 2 : 240 ، إشارة موجزة.
وقد وقع في نسختي المسند - المطبوعة والمخطوطة : " يحيى بن سليمان " ، بدل " يحيى بن سليم " . وهو خطأ من الناسخين. وثبت على الصواب في تاريخ ابن كثير. فهذه رواية يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم - فيها أن سعيد بن أبي راشد هو الذي لقى التنوخي وسمع منه هذا الحديث.
ويحيى بن سليم : سبق توثيقه في : 4894. وقد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه ، ومهما يقل في حفظه فلا نشك أنه كان أحفظ من مسلم بن خالد الزنجي الضعيف ، وخاصة في حديث ابن خثيم ، فقد شهد أحمد ليحيى بن سليم بأنه " كان قد أتقن حديث ابن خثيم " .
فعن ذلك قطعنا بأن زيادة " عن يعلى بن مرة " - في إسناد الطبري هذا - خطأ ووهم. والراجح أن الخطأ من مسلم بن خالد. ورواية الطبري - هذه - ذكرها ابن كثير في التفسير 2 : 240 - 241 ، والسيوطي 2 : 71 ، ولم ينسبها لغيره.

(7/209)


7832 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ،

(7/210)


حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أنّ ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن " جنة عرضها السموات والأرض " ، أين النار ؟ قال : أرأيتم إذا جاء الليل ، أن يكون النهار ؟ " فقالوا : اللهم نزعْتَ بمثَله من التوراة! (1) .
7833 - حدثني محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران ، فسألوه وعنده أصحابه فقالوا : أرأيت قوله : " وجنة عرضها السموات والأرض " ، فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر : " أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ " فقالوا : نزعت مثَلها من التوراة.
7834 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، أخبرنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بنحوه ، في الثلاثة الرّهط الذين أتوا عمر فسألوه : عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض ، بمثل حديث قيس بن مسلم.
__________
(1) في المطبوعة : " مثله من التوراة " ، وفي المخطوطة " فمثله " ، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال : " انتزع معنى جيدًا ونزعه " ، أي استخرجه واستنبطه.

(7/211)


7835 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، أخبرنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : تقولون : " جنة عرضها السموات والأرض " ، أين تكون النار ؟ فقال له عمر : أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ فقال : إنه لمثلها في التوراة ، فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه : دعه ، إنه بكلٍّ موقنٌ.
7836 - حدثني أحمد بن حازم قال ، أخبرنا أبو نعيم قال ، حدثنا جعفر بن برقان قال ، حدثنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس فقال : تقولون " جنة عرضها السموات والأرض " ، فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 7836 - جعفر بن برقان - بضم الباء الموحدة وسكون الراء - الكلابي الجزري : ثقة صدوق ، وثقه ابن معين ، وابن نمير ، وغيرهما. يزيد بن الأصم بن عبيد البكائي : تابعي ثقة ، أمه برزة بنت الحارث ، أخت ميمونة أم المؤمنين. وعبد الله بن عباس هو ابن خالته.
ووقع في المطبوعة هنا " يزيد الأصم " ، وهو خطأ. " الأصم " لقب أبيه ، وليس لقبه. وهذا الحديث رواه يزيد بن الأصم عن ابن خالته ابن عباس ، موقوفًا عليه من كلامه. والإسناد إليه صحيح.
وقد رواه أيضًا يزيد ، عن أبي هريرة ، مرفوعًا قال ، " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، أرأيت جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء ، أين جعل ؟ قال : الله أعلم ، قال : فإن الله يفعل ما يشاء " . رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 103 بتحقيقنا ، والحاكم في المستدرك 1 : 36 - من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. وقال الحاكم : " حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولا أعلم له علة " ، ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البزار من حديثه. نقله عنه ابن كثير 2 : 241 ، بنحوه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 327 ، وقال : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح " . وذكره السيوطي 2 : 71 ، ونسبه للبزار والحاكم فقط. وأما الموقوف على ابن عباس ، فقد نقله ابن كثير 2 : 241 ، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره السيوطي 2 : 71 ، ونسبه إليه وإلى عبد بن حميد.

(7/212)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

قال أبو جعفر : وأما قوله : " أعدت للمتقين " فإنه يعني : إنّ الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع ، أعدها الله للمتقين ، الذين اتقوا الله فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم ، فلم يتعدوا حدوده ، ولم يقصِّروا في واجب حقه عليهم فيضيِّعوه. كما : -
7837 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " ، أي : دارًا لمن أطاعني وأطاع رسولي. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء " ، أعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مُضعِف على النهوض لجهاده في سبيل الله. (2)
* * *
وأما قوله : " في السراء " ، فإنه يعني : في حال السرور ، بكثرة المال ورخاء العيش
* * *
__________
(1) الأثر : 7837 - سيرة ابن هشام 3 : 115 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها : 7829. وكان في المطبوعة : " أي ذلك لمن أطاعني " ، وهو إن كان مستقيما على وجه ، إلا أن نص ابن هشام أشد استقامة على منهاج المعنى في الآية ، فأثبت نص ابن هشام. هذا مع قرب التصحيف في " دارًا " إلى " ذلك " . فمن أجل هذا رجحت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة : " للجهاد " ، بلامين ، وأثبت ما في المخطوطة. والمضعف : الذي قد ضعفت دابته.

(7/213)


" والسراء " مصدر من قولهم " سرني هذا الأمر مسرَّة وسرورًا "
* * *
" والضراء " مصدر من قولهم : " قد ضُرّ فلان فهو يُضَرّ " ، إذا أصابه الضُّر ، وذلك إذا أصابه الضيق ، والجهد في عيشه. (1)
* * *
7838 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء " ، يقول : في العسر واليسر.
* * *
فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها ، لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة ، (2) وفي حال الضيق والشدة ، في سبيله.
* * *
وقوله : " والكاظمين الغيظ " ، يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه.
* * *
يقال منه : " كظم فلان غيظه " ، إذا تجرَّعه ، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه ، باستمكانها ممن غاظها ، وانتصارها ممن ظلمها.
وأصل ذلك من " كظم القربة " ، يقال منه : " كظمتُ القربة " ، إذا ملأتها ماء. و " فلان كظيمٌ ومكظومٌ " ، إذا كان ممتلئًا غمٌّا وحزنًا. ومنه قول الله عز وجل ، ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) [سورة يوسف : 84] يعني : ممتلئ من الحزن. ومنه قيل لمجاري المياه : " الكظائم " ، لامتلائها بالماء. ومنه قيل : " أخذت بكَظَمِه " يعني : بمجاري نفسه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الضراء " فيما سلف 3 : 350 - 352.
(2) في المخطوطة : " في حال الرضا " ، وكأنها صواب أيضًا.

(7/214)


و " الغيظ " مصدر من قول القائل : " غاظني فلان فهو يغيظني غيظًا " ، وذلك إذا أحفظه وأغضبهُ.
* * *
وأما قوله : " والعافين عن الناس " ، فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبَةَ ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم.
* * *
وأما قوله : " والله يحب المحسنين " ، فإنه يعني : فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدَّ للعاملين بها الجنة التي عرضُها السموات والأرض ، والعاملون بها هم " احسنون " ، وإحسانهم ، هو عملهم بها ، . كما : -
7839 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " الذين ينفقون في السراء والضراء " الآية : " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، أي : وذلك الإحسان ، وأنا أحب من عمل به. (1)
7840 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل ، ولا قوة إلا بالله. فنِعْمت والله يا ابن آدم ، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ ، وأنت مظلومٌ.
7841 - حدثني موسى بن عبد الرحمن قال ، حدثنا محمد بن بشر قال ، حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر. فما يقوم إلا إنسان عفا ، ثم قرأ هذه الآية : " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " . (2)
__________
(1) الأثر : 7839 - سيرة ابن هشام 3 : 115 وهو من تمام الآثار التي آخرها : 7837.
(2) الأثر : 7841 - " موسى بن عبد الرحمن المسروقي " سلفت ترجمته برقم : 3345. و " محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي " مضت ترجمته أيضًا برقم : 4557. و " محرز " " أبو رجاء " هو " محرز بن عبد الله الجزري " ، مولى هشام بن عبد الملك. ذكره ابن حبان في الثقات وقال : " كان يدلس عن مكحول " .

(7/215)


7842 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله : " والكاظمين الغيظ " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمنًا وإيمانًا. (1)
7843 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والكاظمين الغيظ " إلى " والله يحب المحسنين " ، فـ " الكاظمين الغيظ " كقوله : ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ )
__________
(1) الحديث 7842 - داود بن قيس الفراء : سبق توثيقه في : 5398. زيد بن أسلم : تابعي ثقة معروف ، مضى في 5465.
وأما عبد الجليل ، الذي ذكر غير منسوب ، إلا بأنه من أهل الشام - : فإنه مجهول. وعمه أشد جهالة منه.
وقد ذكره الذهبي في الميزان ، والحافظ في اللسان ، في ترجمة " عبد الجليل " ، وقالا : " قال البخاري : لا يتابع عليه " .
وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 33 ، وقال : " روى عنه داود بن قيس. وقال بعضهم : عن داود ابن قيس ، عن زيد بن أسلم " . أي كمثل رواية الطبري هنا.
وهذا الإسناد ضعيف ، لجهالة اثنين من رواته. وقد نقله ابن كثير 2 : 244 ، عن عبد الرزاق ، به.
ونقله السيوطي 2 : 71 - 72 ، ونسبه لعبد الرزاق ، والطبري وابن المنذر.
وذكره في الجامع الصغير : 8997 ، ونسبه لابن أبي الدنيا في ذم الغضب ؛ ولم ينسبه لغيره ، فكان عجبًا!!
وفي معناه حديثان ، رواهما أبو داود : 4777 ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه. و : 4778 ، عن سويد بن وهب ، عن رجل من أبناء الصحابة ، عن أبيه.
وقد روى أحمد في المسند : 6114 ، عن علي بن عاصم ، عن يونس بن عبيد ، أخبرنا الحسن ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ ، يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى " .
وهذا إسناد صحيح. ونقله ابن كثير 2 : 244 ، من تفسير ابن مردويه. من طريق علي بن عاصم ، عن يونس بن عبيد ، به. ثم قال : " رواه ابن جرير. وكذا رواه ابن ماجه ، عن بشر بن عمر ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس بن عبيد ، به " . فنسبه ابن كثير - في هذا الموضع - لرواية الطبري. ولم يقع إلينا فيه في هذا الموضع. فلا ندري : أرواه ابن جرير في موضع آخر ، أم سقط هنا سهوًا من الناسخين ؟ فلذلك أثبتناه في الشرح احتياطًا.

(7/216)


وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

[سورة الشورى : 37] ، يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حرامًا ، فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله " والعافين عن الناس " كقوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) إلى( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) [سورة النور : 22] ، يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئًا واعفوا واصفحوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السراء والضراء ، والذين إذا فعلوا فاحشة. وجميع هذه النعوت من صفة " المتقين " ، الذين قال تعالى ذكره : " وجنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين " ، كما : -
7844 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، ثم قرأ : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " إلى " أجر العاملين " ، فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد.
7845 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : هذان ذنبان ، " الفاحشة " ، ذنب ، " وظلموا أنفسهم " ذنب.
* * *

(7/217)


وأما " الفاحشة " ، فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة.
* * *
ومعنى " الفاحشة " ، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذِن الله عز وجل فيه. وأصل " الفحش " : القبح ، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول : " إنه لفاحش الطول " ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : " كلام فاحش " ، وقيل للمتكلم به : " أفحش في كلامه " ، إذا نطق بفُحش (1) .
* * *
وقيل : إن " الفاحشة " في هذا الموضع ، معنىٌّ بها الزنا.
*ذكر من قال ذلك :
7846 - حدثنا العباس بن عبد العظيم قال ، حدثنا حبان قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن جابر : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، قال : زنى القوم وربّ الكعبة.
7847 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أما " الفاحشة " ، فالزنا.
* * *
وقوله : " أو ظلموا أنفسهم " ، يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك ، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته ، كما : -
7848 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفحشاء " فيما سلف 3 : 303 / 4 : 571.

(7/218)


وقوله : " ذكروا الله " ، يعني بذلك : ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه " فاستغفروا لذنوبهم " ، يقول : فسألوا ربهم أن يستُر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، يقول : وهل يغفر الذنوب - أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه - إلا الله " ولم يصروا على ما فعلوا " ، يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها " وهم يعلمون " ، يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أنّ الله قد تقدم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبةَ من ركبها.
* * *
وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصًا بتخفيفها ويسرها أُمَّتَنا ، (1) مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها.
7849 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبى رباح : أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : " اجدع أذنك " ، " اجدع أنفك " ، " افعل " ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " إلى قوله : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير من ذلك " ؟ فقرأ هؤلاء الآيات.
7850 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال ، حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال : قال ابن مسعود : كانت
__________
(1) في المطبوعة : " أمنا " ، مكان " أمتنا " ، أخطأ الناشر الأول قراءتها ، لأنها غير منقوطة في المخطوطة ، وقوله : " أمتنا " منصوب ، مفعول به لقوله : " خصوصًا " . أي : قد خص الله بتخفيفها ويسرها أمتنا.

(7/219)


بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرًا من ذلك ، هذه الآية. (1)
7851 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني قال : لما نزلت : " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه " ، بكى إبليس فزعًا من هذه الآية.
7852 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، بكى.
7853 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال ، سمعت علي بن ربيعة يحدِّث ، عن رجل من فزارة يقال له أسماء - و : ابن أسماء - ، عن علي قال : كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [منه] ، فحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد - قال شعبة : وأحسبه قال : مسلم - يذنب ذنبًا ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [إلا غفر له] وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الآيتين : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ )( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ). (2)
__________
(1) الأثر : 7850 - " عمر بن أبي خليفة العبدي " ، واسم " أبي خليفة " : " حجاج بن عتاب " ، ثقة مات سنة 189 ، مترجم في التهذيب ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عمر بن خليفة " وهو خطأ.
(2) الحديث : 7853 - عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي : هو عثمان بن المغيرة مولى ثقيف. وسيأتي باسم أبيه في الحديث التالي لهذا. وهو ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين وغيرهما.
علي بن ربيعة بن فضلة الوالبي الأسدي : تابعي ثقة ، روى له الشيخان وأصحاب السنن. أسماء أو ابن أسماء ؛ هكذا شك فيه شعبة. وغيره لم يشك فيه. وهو أسماء بن الحكم الفزاري ، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا. وهو تابعي ثقة ، وثقه العجلي وغيره. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 1 / 325 ، فلم يذكر فيه جرحًا.
وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 55 ، وأشار إلى روايته هذا الحديث ، ثم قال : " ولم يتابع عليه. وقد روى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم عن بعض ، فلم يحلف بعضهم بعضًا " . وهذا لا يقدح في صحة الحديث ، كما قال الحافظ المزي.
والحديث رواه الطيالسي ، عن شعبة ، بهذا الإسناد. وهو أول حديث في مسنده المطبوع.
ورواه أحمد في المسند ، برقم : 48 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، به. ورواه أيضًا ، برقم : 47 ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة.
ورواه أيضًا ، برقم : 56 ، عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عثمان بن أبي زرعة ، عن علي بن ربيعة. و " عثمان بن أبي زرعة " : هو عثمان بن المغيرة الثقفي. وكذلك رواه الترمذي 1 : 313 - 314 (رقم : 406 بشرحنا). عن قتيبة ، عن أبي عوانة. وكذلك رواه أيضا في كتاب التفسير 4 : 84 ، بهذا الإسناد.
وقال في الموضع الأول : " حديث على حديث حسن ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، من حديث عثمان بن المغيرة. وروى عنه شعبة وغير واحد ، فرفعوه مثل حديث أبي عوانة. ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه ، ولم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم " ! وقال نحو ذلك في الموضع الثاني. كأنه يريد تعليل المرفوع بالموقوف. وما هي بعلة. ولكنه وهم - رحمه الله - وهمًا شديدًا فيما نسب إلى مسعر وسفيان. وها هي ذي روايتهما عقب هذه الرواية ، مرفوعة أيضًا. ولعل له عذرًا أن تكون روايتهما وقعت له موقوفة

(7/220)


7854 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وحدثنا الفضل بن إسحاق قال ، حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدَّقته. وحدثني أبو بكر ، وصدق أبو بكر ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يتوضأ ، ثم يصلي قال أحدهما : ركعتين ، وقال الآخر : " ثم يصلي ويستغفر الله ، إلا غفر له " . (1)
__________
(1) الحديث : 7854 - هو تكرار للحديث السابق ، ولكنه مختصر قليلا. والفضل بن إسحاق - شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة. ولعله محرف عن اسم آخر.
والحديث من هذا الوجه رواه أحمد في المسند ، برقم : 2 ، عن وكيع ، عن مسعر وسفيان ، بهذا الإسناد ، مرفوعًا أيضًا. فهو يرد على الترمذي ادعاءه أن سفيان ومسعرًا روياه موقوفًا.
وقد نقله ابن كثير 2 : 246 ، عن رواية المسند هذه. ثم قال : " وهكذا رواه علي بن المديني ، والحميدي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ، وابن حبان في صحيحه ، والبزار ، والدارقطني - من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به " .
وذكره السيوطي 2 : 77 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1 : 241 ، مختصرًا ، ونسبه لبعض من ذكرنا ، ثم قال : " وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد ، وذكر فيه الركعتين " .

(7/221)


7855 - حدثنا الزبير بن بكار قال ، حدثني سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لَهُوَ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب. قال علي رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يذنب ذنبًا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ويستغفر الله من ذنبه ذلك ، إلا غفره الله له. (1)
* * *
وأما قوله " ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فإنه كما بينا تأويله.
وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون :
7856 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا ابن إسحاق : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أي إن أتوا فاحشة " أو ظلموا أنفسهم " بمعصية ،
__________
(1) الحديث : 7855 - وهذا إسناد ثالث للحديث السابق. ولكنه إسناد ضعيف جدًا. الزبير بن بكار - شيخ الطبري : ثقة ثبت عالم بالنسب ، عارف بأخبار المتقدمين. وهو ابن أخي المصعب بن عبد الله الزبيري ، صاحب كتاب " نسب قريش " .
سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري : قال أبو حاتم - فيما روى عنه ابنه 2 / 1 / 85 : " هو في نفسه مستقيم ، وبليته أنه يحدث عن أخيه عبد الله بن سعيد ، وعبد الله بن سعيد ضعيف الحديث ، ولا يحدث عن غيره. فلا أدري ، منه أو من أخيه ؟ " . وأخوه : هو عبد الله بن سعيد المقبري ، وهو ضعيف جدًا ، رمي بالكذب. والإسنادان السابقان كافيان كل الكفاية لصحة الحديث ، دون هذا الإسناد الواهي.

(7/222)


ذكروا نهي الله عنها ، وما حرَّم الله عليهم ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوبَ إلا هو. (1)
* * *
وأما قوله : " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، فإن اسم " الله " مرفوع ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعد " إلا " بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : " ما في الدار أحد إلا أخوك " . (2) فأما إذا قيل : " قام القوم إلا أباك " ، فإن وجه الكلام في " الأب " النصب. و " مَنْ " بصلته في قوله : " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، معرفة. فإن ذلك إنما جاء رفعًا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحدٌ أو : ما يغفر الذنوب أحدٌ إلا الله. فرفع ما بعد " إلا " من [اسم] الله ، (3) على تأويل الكلام لا على لفظه.
* * *
وأما قوله : " ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون " ؛ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل " الإصرار " ، ومعنى هذه الكلمة.
فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به.
*ذكر من قال ذلك :
7857 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرُّون ، الماضون قُدُمًا ، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرَّمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموتُ وهم على ذلك.
__________
(1) الأثر : 7856 - ابن هشام 3 : 115 ، 116 - وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7839.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 234.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " ما بعد إلا من الله " ، والصواب زيادة ما بين القوسين.

(7/223)


7858 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ؟ قال : قُدمًا قُدُمًا في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله ، حتى جاءهم أمر الله.
7859 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أي : لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي ، فيما عملوا به من كفرٍ بي. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به.
*ذكر من قال ذلك :
7860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : إتيان العبد ذنبًا إصرارٌ ، حتى يتوب.
7861 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : لم يواقعوا. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى " الإصرار " ، السكوت على الذنب وترك الاستغفار.
*ذكر من قال ذلك :
7862 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أما " يصروا " فيسكتوا ولا يستغفروا.
* * *
__________
(1) الأثر : 7859 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7856.
(2) في المخطوطة : " قال : لم يصروا " ، لم يفعل غير إعادة لفظ الآية ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب ، كما سترى في ترجيح أبي جعفر بعد.

(7/224)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : " الإصرار " ، الإقامة على الذنب عامدًا ، وترك التوبة منه. (1) ولا معنى لقول من قال : " الإصرار على الذنب هو مواقعته " ، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مُواقع الذنب ، فقال : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، ولو كان المواقع الذنب مصرًّا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم. لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه ، وجهٌ.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أصرَّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " .
7863 - حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أو ترك التوبة " ، ولا معنى لوضع " أو " هنا والصواب ما أثبت.
(2) الحديث : 7863 - الحسين بن يزيد السبيعي ؛ مضى الكلام في : 2892 بالشك في نسبته " السبيعي " . ولكن هكذا ثبتت هذه النسبة مرة أخرى في هذا الموضع. فلعله شيخ للطبري لم تصل إلينا معرفته. عبد الحميد الحماني - بكسر الحاء وتشديد الميم : هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني الكوفي ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين ، وأخرج له الشيخان. عثمان بن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر : ثقة ، وثقه ابن معين. وقال أحمد : " لا أرى به بأسا " .
أبو نصيرة - بضم النون وفتح الصاد المهملة - الواسطي : اسمه مسلم بن عبيد. وهو تابعي ثقة. والحديث ذكره ابن كثير 2 : 248 ، من رواية أبي يعلى ، من طريق عبد الحميد الحماني ، بهذا الإسناد ، ووقع فيه تحريف في كنية " أبي نصيرة " واسمه ونسبته. وهو خطأ مطبعي فيما أرجح.
وقال ابن كثير - بعد ذكره : " ورواه أبو داود ، والترمذي ، والبزار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد ، وقد وثقه يحيى بن معين - به. وشيخه أبو نصيرة الواسطى ، واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد ، وابن حبان. وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر. ولكن جهالة مثله لا تضر ، لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر ، فهو حديث حسن " .
وذكره السيوطي 2 : 78 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب.

(7/225)


فلو كان مواقع الذنب مصرًّا ، لم يكن لقوله " ما أصرَّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ، معنى لأن مواقعةَ الذنب إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسمَ الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم " زان " وعن القاتل اسم " قاتل " ، توبته منه ، ولا معنى غيرها. وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرٍّ عليه ، فمعلوم بذلك أن " الإصرار " غير المواقعة ، وأنه المقام عليه ، على ما قلنا قبل.
* * *
واختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله : " وهم يعلمون " .
فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا.
*ذكر من قال ذلك :
7864 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " وهم يعلمون " ، فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله. (1)
*ذكر من قال ذلك :
7865 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وهم يعلمون " ، قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " معصية الله " ، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر : 7865 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7859 وكان في المطبوعة والمخطوطة : " بما حرمت عليهم " ، وأثبت ما في ابن هشام ، فهو الصواب.

(7/226)


أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك " ، الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السموات والأرض ، من المتقين ، ووصفهم بما وصفهم به. ثم قال : هؤلاء الذين هذه صفتهم " جزاؤهم " ، يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصَفهم تعالى ذكره أنهم عملوها ، (1) " مغفرة من ربهم " ، يقول : عفوٌ لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم ، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها " جنات " ، وهي البساتين (2) " تجري من تحتها الأنهار " ، يقول : تجري خلال أشجارها الأنهار وفي أسافلها ، جزاء لهم على صالح أعمالهم (3) " خالدين فيها " يعني : دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها " ونعم أجر العاملين " ، يعني : ونعم جزاء العاملين لله ، الجنات التي وصفها ، كما : -
7866 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " ، أي ثواب المطيعين. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " الجزاء " فيما سلف 2 : 27 ، 28 ، 314 / 6 : 576.
(2) انظر تفسير : " الجنات " فيما سلف 1 : 384 / 5 : 535 ، 542.
(3) انظر تفسير : " تجري من تحتها الأنهار " فيما سلف 5 : 542.
(4) الأثر : 7866 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7865.

(7/227)


قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

القول في تأويل قوله : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " قد خلت من قبلكم سنن " ، مضت وسلفت منى فيمن كان قبلكم ، (1) يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به ، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط ، وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم (2) " سنن " ، يعني : مثُلات سيرَ بها فيهم وفيمن كذَّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم ، بإمهالي أهلَ التكذيب بهم ، واستدراجي إياهم ، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجَّلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم ، ثم أحللت بهم عقوبتي ، وأنزلتُ بساحتهم نِقَمي ، (3) فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرًا " فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانَ عاقبه المكذبين " ، يقول : فسيروا - أيها الظانّون ، أنّ إدالتي مَنْ أدلت من أهل الشرك يوم أحُد على محمد وأصحابه ، لغير استدراج مني لمن أشرك بي ، وكفرَ برسلي ، وخالف أمري - في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم ، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي ، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي ، وما الذي آل إليه غِبُّ خلافهم أمري ، (4) وإنكارهم وحدانيتي ، فتعلموا عند ذلك أنّ إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد ، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم.
__________
(1) انظر تفسير " خلا " فيما سلف 3 : 100 ، 128 / 4 : 289.
(2) " سلاف " على وزن " جهال " جمع " سلف " ، وجمعه أيضًا " أسلاف " ، والسلاف : المتقدمون من الآباء الذين مضوا.
(3) في المطبوعة : " نقمتي " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " عن خلافهم أمري " ، وهي في المخطوطة " عب " غير منقوطة ، فلم يحسن الناشر قراءتها ، وغب الأمر : عاقبته وآخرته.

(7/228)


ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم : من تعجيل العقوبة عليهم ، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7867 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، فقال : ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقومَ صالح ، والأممَ التي عذَّب الله عز وجل ؟
7868 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن " ، يقول : في الكفار والمؤمنين ، والخير والشرّ.
7869 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قد خلت من قبلكم سنن " ، في المؤمنين والكفار.
7870 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم يعني بالمسلمين يوم أحد والبلاء الذي أصابهم ، والتمحيص لما كان فيهم ، واتخاذه الشهداء منهم ، فقال تعزية لهم وتعريفًا لهم فيما صنعوا ، وما هو صانع بهم : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، أي : قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي : (1) عادٍ وثمودَ وقوم لوط وأصحاب مدين ، فسيروا في الأرض تروْا مثُلات قد مضت فيهم ، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " والشرك في عاد وثمود. . . " ، وهو خطأ جدًا ، والصواب ما أثبته من سيرة ابن هشام.

(7/229)


مني ، (1) وإن أمْليْتُ لهم ، (2) أي : لئلا تظنوا أنّ نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي ، (3) للدوْلة التي أدلتها عليكم بها ، لأبتليكم بذلك ، (4) لأعلم ما عندكم. (5)
7871 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه المكذبين " ، يقول : متَّعهم في الدنيا قليلا ثم صيرَّهم إلى النار.
* * *
قال أبو جعفر : وأما " السنن " فإنها جمع " سنَّة " ، " والسُّنَّة " ، هي المثالُ المتبع ، والإمام المؤتمُّ به. يقال منه : " سنّ فلان فينا سُنة حسنة ، وسنّ سُنة سيئة " ، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر ، ومنه قول لبيد بن ربيعة :
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ... وَلِكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا (6)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ما هم عليه مثل ذلك مني " ، والصواب من ابن هشام.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إن أمكنت لهم " ، والصواب من ابن هشام. والإملاء : الإمهال والاستدراج.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " عن عدوهم وعدوي " ، والصواب من ابن هشام ، وهو مقتضى سياق الضمائر في عبارته.
(4) الإدالة الغلبة. يقال : " أديل لنا على عدونا " ، أي نصرنا عليهم ، و " أدلني على فلان " ، أي : انصرني عليه. والدولة (بضم الدال ، وبفتحها وسكون الواو) : الانتقال من حال إلى حال في الحرب وغيرها. وانظر ما سيأتي في تفسير ذلك بعد قليل ص : 239.
(5) الأثر : 7870 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها : 7866.
(6) من معلقته البارعة ، يذكر قومه وفضلهم ، والبيت متعلق بقوله قبل : إِنّا إِذَا التَقَتِ المَجَامِعُ لم يَزَلْ ... مِنَّا لِزَازُ عَظِيمَةٍ جَشّامُهَا
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِى العَشِيرَةَ حَقّهَا ... ومُغَذْمِرٌ لِحقوقِها هَضّامُها
فَضْلا وَذُو كَرَمٍ يعِين عَلَى النَّدَى ... سَمْحٌ كَسُوبُ رَغَائِبٍ غَنّامُهَا
مِنْ مَعْشَرٍ............................ ... ......................................
يقول : هذه العادة سنة وطريقة قد توارثناها ، ولكل سنة إمام قد تقدم الناس فيها فاتبعوه ، فنحن أهل الفضل القديم الذي ابتدعته أوائلنا للناس.

(7/230)


هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

وقولُ سليمان بن قَتَّه : (1)
وَإنَّ الألَى بالطَفِّ مِنْ آل هَاشِم... تَآسَوْا فَسَنُّوا لِلكِرَامِ التَّآسِيَا (2)
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما : -
7872 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن " ، قال : أمثالٌ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بـ " هذا " .
فقال بعضهم : عنى بقوله " هذا " ، القرآن.
*ذكر من قال ذلك :
7873 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " سليمان بن قنة " ، وهو تصحيف وقع في كتب كثيرة ، و " قتة " أمه ، وهو مولى لتيم قريش. وهو من التابعين ، روى عن أبي سعيد الخدري ، وابن عمر وابن عباس ، وعمرو ابن العاص ، ومعاوية. ترجم له البخاري في الكبير 2 / 2 / 33 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136. وزعم بعضهم أنه " سليمان بن حبيب المحاربي " ، وهو خطأ ، بل هما رجلان ، هذا محاربي ، وهذا تيمي. وهو أحد الشعراء الفرسان ، وهو القائل : وَقَدْ يَحْرِمُ الله الفَتَى وَهْوَ عَاقِلٌ ... وَيُعْطِى الفَتَى مَالا وَلَيْس له عَقْلُ
وهو من أول من سن رثاء أهل البيت ، وله في رثائهم شعر كثير.
(2) تاريخ الطبري 7 : 184 ، وأنساب الأشراف 5 : 339 ، وأمالي الشجري 1 : 131 ، واللسان (أسى) ، وغيرها. وهذا البيت ، أنشده مصعب بن الزبير قبل مقتله ، فعلم الناس أن لا يريم حتى يقتل. و " الطف " : أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية ، فيها كان مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وقوله : " تآسوا " ، صار بعضهم أسوة لبعض في الصبر على المصير إلى الموت بلا رهبة ولا فرق.

(7/231)


عباد ، عن الحسن في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، قال : هذا القرآن.
7874 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة. قوله : " هذا بيان للناس " ، وهو هذا القرآن ، جعله الله بيانًا للناس عامة ، وهدى وموعظة للمتقين خصوصًا.
7875 - حدثنا المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، خاصةً.
7876 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، خاصةً.
* * *
وقال آخرون : إنما أشير بقوله " هذا " ، إلى قوله : " قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظرُوا كيف كان عاقبه المكذبين " ، ثم قال : هذا الذي عرَّفتكم ، يا معشر أصحاب محمد ، بيان للناس.
*ذكر من قال ذلك :
7877 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : قوله : " هذا " ، إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله : " هذا " ، إشارة إلى حاضر : إما مرئيّ وإما مسموع ، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة.
فمعنى الكلام : هذا الذي أوضحتُ لكم وعرفتكموه ، بيانٌ للناس يعني بـ " البيان " ، الشرح والتفسير ، كما : -

(7/232)


7878 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " هذا بيان للناس " ، أي : هذا تفسير للناس إن قبلوه. (1)
7879 - حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : " هذا بيان للناس " ، قال : من العَمى.
7880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الشعبي ، مثله.
* * *
وأما قوله : " وهدى وموعظة " ، فإنه يعني بـ " الهدى " ، الدلالةَ على سبيل الحق ومنهج الدين و بـ " الموعظة " ، التذكرة للصواب والرشاد ، (2) كما : -
7881 - حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : " وهدى " ، قال : من الضلالة " وموعظة " ، من الجهل.
7882 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي مثله.
7883 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " للمتقين " ، أي : لمن أطاعني وعرَف أمري. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 7878 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم : 7870.
(2) انظر تفسير : " الهدى " فيما سلف ، من فهارس اللغة وتفسير " الموعظة " ، فيما سلف 2 : 180 / 6 : 14.
(3) الأثر : 7883 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7878 ، والظاهر أنه قد سقط من نص ابن إسحاق ، ما أثبته ابن هشام في تفسير هذه الآية ، وهو قوله قبل الذي رواه أبو جعفر : أي : " نور وأدب للمتقين " . أما ما رواه أبو جعفر فهو تفسير قوله : " للمتقين " ، وهو في هذا الموضع يفسر " الهدى " ، و " الموعظة " .

(7/233)


وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

القول في تأويل قوله : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) }
قال أبو جعفر : وهذا من الله تعالى ذكره تعزيةٌ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد.
قال : " ولا تهنوا ولا تحزنوا " ، يا أصحاب محمد ، يعني : ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد ، من القتل والقروح - عن جهاد عدوكم وحربهم.
* * *
من قول القائل : " وهنَ فلان في هذا الأمر فهو يهنُ وَهْنًا " .
* * *
" ولا تحزنوا " ، ولا تأسوْا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ ، فإنكم " أنتم الأعلون " ، يعني : الظاهرُون عليهم ، ولكم العُقبَى في الظفر والنُّصرة عليهم " إن كنتم مؤمنين " ، يقول : إن كنتم مصدِّقي نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يَعدكم ، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم. كما : -
7884 - حدثنا المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري قال : كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتلُ والجراح ، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأسُ ، فأنزل الله عز وجل القرآن ، فآسَى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قومًا من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية ، فقال : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنم مؤمنين " إلى قوله : " لبرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم " .
7885 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوهم ، وينهاهم عن العجز والوَهن في طلب عدوهم في سبيل الله.

(7/234)


7886 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، قال : يأمر محمدًا ، يقول : " ولا تهنوا " ، أن تمضوا في سبيل الله. (1)
7887 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولا تهنوا " ، ولا تضعفوا.
7888 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7889 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا " ، يقول : ولا تضعفوا.
7890 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ولا تهنوا " ، قال ابن جريج : ولا تضعفوا في أمر عدوكم ، " ولا تحزنوا وأنتم الأعلون " ، قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب ، فقالوا : ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضًا ، وتحدَّثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزَن. فبينما هم كذلك ، إذ علا خالد بن الوليد الجبلَ بخيل المشركين فوقهم ، وهم أسفلُ في الشِّعب. فلما رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فرحوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا قوة لنا إلا بك ، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر " !. قال : وثاب نفرٌ من المسلمين رُماة ، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبلَ. فذلك قوله : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " .
7891 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولا تهنوا " ، أي : لا تضعفوا " ولا تحزنوا " ، ولا تأسوا على ما أصابكم ، (2) " وأنتم الأعلون " ،
__________
(1) في المخطوطة : " وأن تمضوا " ، بزيادة " واو " ، والذي في المطبوعة أظهر.
(2) في سيرة ابن هشام : " ولا تبتئسوا " .

(7/235)


إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

أي : لكم تكون العاقبة والظهور " إن كنتم مؤمنين " إن كنتم صدَّقتم نبيي بما جاءكم به عني. (1)
7892 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا يعلُون علينا " . فأنزل الله عز وجل : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " .
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ }
قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) ، كلاهما بفتح " القاف " ، بمعنى : إن يمسسكم القتل والجراح ، يا معشر أصحاب محمد ، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتلٌ وجراح مثله.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ ). [كلاهما بضم القاف]. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 7891 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7878.
(2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق كلامه. هذا ، وظاهر من ترجيح أبي جعفر بعد ، أن في الكلام سقطًا من الناسخ ، وذلك تفسير " القرح " بضم القاف ، ولعله كان قد ذكر هنا ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 234 وذلك قوله : " وقد قرأ أصحابُ عبد الله " قُرْح " وكأن القُرْح : ألم الجراحات ، وكأن القَرْحَ الجراحاتُ بأعيانها " .

(7/236)


قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : " إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قَرْح مثله " ، بفتح " القاف " في الحرفين ، لإجماع أهل التأويل على أن معناه : القتل والجراح ، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح.
وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن " القَرح " و " القُرح " لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. (1)
* * *
*ذكر من قال : إنّ " القَرح " ، الجراح والقتل.
7893 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرحٌ مثله " ، قال : جراحٌ وقتلٌ.
7894 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
7895 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله " ، قال : إن يقتلوا منكم يوم أحد ، فقد قتلتم منهم يوم بدر.
7896 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، والقرح الجراحة ، وذاكم يوم أحد ، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة ، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثلُ الذي أصابكم ، وأن الذي أصابكم عقوبة.
__________
(1) انظر التعليق السالف ، فنص قوله هنا دال على خرم في نص الطبري.

(7/237)


7897 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله " ، قال : ذلك يوم أحد ، فشا في المسلمين الجراح ، وفشا فيهم القتل ، فذلك قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، يقول : إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوّكم مثله يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهُّم على القتال.
7898 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، والقرح هي الجراحات.
7899 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن يمسسكم قرح " أي : جراح " فقد مس القوم قرح مثله " ، أي : جراح مثلها. (1)
7900 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نام المسلمون وبهم الكلوم يعني يوم أحد قال عكرمة : وفيهم أنزلت : " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، وفيهم أنزلت : ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ) [سورة النساء : 104].
* * *
وأما تأويل قوله : " إن يمسسكم قرحٌ " ، فإنه : إن يصبكم ، . (2) كما : -
7901 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إن يمسسكم " ، إن يصبكم.
* * *
__________
(1) الأثر : 7899 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7891.
(2) انظر تفسير : " المس " فيما سلف 2 : 274 / 5 : 118 / 7 : 155.

(7/238)


القول في تأويل قوله : { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره [بقوله] (1) " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، أيام بدر وأحُد.
* * *
ويعني بقوله : " نداولها بين الناس " ، نجعلها دُوَلا بين الناس مصرَّفة. ويعني بـ " الناس " ، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد ، فقتلوا منهم سبعين ، سوى من جرحوا منهم.
* * *
يقال منه : " أدال الله فلانًا من فلان ، فهو يُديله منه إدالة " ، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المُدَال منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7902 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، قال جعل الله الأيام دولا أدال الكفار يوم أحُد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7903 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون ، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب.
7904 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فأظهر الله عز وجل
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق تفسيره.

(7/239)


نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر ، وأظهر عليهم عدوَّهم يوم أحُد. وقد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب. وأما من ابتلى منهم من المسلمين يوم أحد ، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7905 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، يومًا لكم ، ويومًا عليكم.
7906 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " نداولها بين الناس " ، قال : أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
7907 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فإنه كان يوم أحُد بيوم بدر ، قُتل المؤمنون يومَ أحد ، اتخذ الله منهم شهداء ، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين ، فجعل له الدولة عليهم.
7908 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصابَ ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد! يا محمد! ألا تخرج ؟ ألا تخرج ؟ الحربُ سجال : يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أجيبوه ، فقالوا : لا سواء ، لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان : لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم! فقال رَسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان : اعْلُ هُبَل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان : موعدكم وموعدنا بدرٌ الصغرى قال عكرمة : وفيهم أنزلت : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " .
7909 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ،

(7/240)


عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، في قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
7910 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، أي نصرِّفها للناس ، للبلاء والتمحيص. (1)
7911 - حدثني إبراهيم بن عبد الله قال ، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن عون ، عن محمد في قول الله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، قال : يعني الأمراء. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس.
ولو لم يكن في الكلام " واو " ، لكان قوله : " ليعلم " متصلا بما قبله ، وكان " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت " الواو " فيه ، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها ، وأن بعدها خبرًا مطلوبًا ، واللام التي في قوله : " وليعلم " ، به متعلقة. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 7910 - سيرة ابن هشام 3 : 116 ، 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7899.
(2) الأثر : 7911 - " إبراهيم بن عبد الله " ، كثير ، والذي نصوا على أن الطبري روى عنه ، هو : " إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي ، أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة " توفى سنة 265. مترجم في التهذيب. " وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي " ، روى عن مالك وحماد بن زيد. وروى عنه البخاري ، مات سنة 228. مترجم في التهذيب. و " محمد " هو ابن سيرين.
(3) في المطبوعة والمخطوطة " اللام " بغير واو ، والصواب إثباتها. وفي المطبوعة : " متعلقة به " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/241)


فإن قال قائل : وكيف قيل : " وليعلم الله الذين آمنوا " معرِفةً ، وأنت لا تستجيز في الكلام : " قد سألت فعلمتُ عبد الله " ، وأنت تريد : علمت شخصه ، إلا أن تريد : علمت صفته وما هو ؟
قيل : إن ذلك إنما جاز مع " الذين " ، لأن في " الذين " تأويل " مَن " و " أيّ " ، وكذلك جائز مثله في " الألف واللام " ، كما قال تعالى ذكره : ( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [سورة العنكبوت : 3] ، (1) لأن في " الألف واللام " من تأويل " أيّ " ، و " مَن " ، مثل الذي في " الذي " . ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على " أيّ " ، جاز ، كما يقال : " سألت لأعلم عبد الله مِنْ عمرو " ، ويراد بذلك : لأعرف هذا من هذا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وليعلم الله الذين آمنوا منكم ، أيها القوم ، من الذين نافقوا منكم ، نداول بين الناس فاستغنى بقوله : " وليعلم الله الذين آمنوا منكم " ، عن ذكر قوله : " من الذين نافقوا " ، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله : " الذين آمنوا " تأويل " أيّ " على ما وصفنا. فكأنه قيل : وليعلم الله أيكم المؤمن ، كما قال جل ثناؤه : ( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) [سورة الكهف : 12] (3) غير أن " الألف واللام " ، و " الذي " و " من " إذا وضعت مع العَلم موضع " أيّ " ، نصبت بوقوع العلم عليه ، كما قيل : " وليعلمَنَّ الكاذبين " ، فأما " أيّ " فإنها ترفع. (4)
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " ويتخذ منكم شهداء " ، فإنه يعني : " وليعلم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وليعلمن الله " بالواو ، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة.
(2) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 234 ، 235.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " ليعلم " بالياء ، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة.
(4) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 234 ، 235.

(7/242)


الله الذين آمنوا " وليتخذ منكم شهداء ، أي : ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها.
* * *
" والشهداء " جمع " شهيد " ، (1) كما : -
7912 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، أي : ليميِّز بين المؤمنين والمنافقين ، وليكرم من أكرَم من أهل الإيمان بالشهادة. (2)
7913 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، قال : فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم : " ربنا أرنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونُبليك فيه خيرًا ، ونلتمس فيه الشهادة " ! فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء.
7914 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوِّهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
7915 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، قال : قال ابن عباس : كانوا يسألون الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء.
7916 - حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، كان المسلمون يسألون ربهم أن يُريهم يومًا كيوم بدر ، يبلون فيه خيرًا ، ويرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون الجنة والحياة والرزق ، فلقوا المشركين
__________
(1) انظر تفسير " الشهداء " فيما سلف 1 : 376 - 378 / 3 : 97 ، 145 / 6 : 75.
(2) الأثر : 7912 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7910.

(7/243)


يوم أحد ، (1) فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ) الآية ، [سورة البقرة : 154].
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " والله لا يحب الظالمين " ، فإنه يعني به : الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم ، ، كما : -
7917 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله لا يحب الظالمين " ، أي : المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة ، وقلوبهم مصرَّة على المعصية. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلقى المسلمون " ، بدل الناشر ما كان في المخطوطة : " فلقوا المسلمين " ، أما السيوطي في الدر المنثور 2 : 79 ، فحذف " المسلمين " ، وكتب : " فلقوا يوم أحد " لفساد العبارة التي في مخطوطة الطبري فيما استظهر. ولكني رجحت أن الناسخ الكثير السهو ، سها أيضًا فكتب " المسلمين " مكان " المشركين " ، وأثبت ما رجحت ، لأنه حق الكلام.
(2) الأثر : 7917 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7912.

(7/244)


وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

القول في تأويل قوله : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وليمحِّصَ الله الذين آمنوا " ، وليختبرَ الله الذين صدَّقوا الله ورسوله ، فيبتليهم بإدالة المشركين منهم ، حتى يتبين المؤمن منهم المخلصَ الصحيحَ الإيمان ، من المنافق. كما : -
7918 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : ليبتلي. (1)
__________
(1) في المطبوعة : " . . . عن مجاهد مثله في قوله. . . " ، وزيادة " مثله " فساد ، وليس في المخطوطة.

(7/244)


7919 - حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
7920 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : ليمحص الله المؤمن حتى يصدِّق.
7921 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، يقول : يبتلي المؤمنين.
7922 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : يبتليهم.
7923 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " ، فكان تمحيصًا للمؤمنين ، ومحقًا للكافرين.
7924 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، " وليمحص الله الذين آمنوا " ، أي يختبر الذين آمنوا ، حتى يخلِّصهم بالبلاء الذي نزل بهم ، وكيف صَبْرهم ويقينُهم. (1)
7925 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " ، قال : يمحق من مُحق في الدنيا ، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار.
* * *
وأما قوله : " ويمحق الكافرين " ، فإنه يعني به : أنه ينقُصهم ويفنيهم.
* * *
يقال منه : " محقَ فلان هذا الطعام " ، إذا نقصه أو أفناه ، " يمحقه محقًا " ، ومنه قيل لمحاق القمر : " مُحاق " ، وذلك نقصانه وفناؤه ، (2) كما : -
7926 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الأثر : 7924 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7917.
(2) انظر تفسير " محق " فيما سلف 6 : 15. و " المحاق " بضم الميم وكسرها.

(7/245)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " ويمحق الكافرين " ، قال : ينقصهم.
7927 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ويمحق الكافرين " ، قال : يمحق الكافر حتى يكذِّبه.
7928 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ويمحق الكافرين " ، أي : يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " أم حسبتم " ، يا معشر أصحاب محمد ، وظننتم " أن تدخلوا الجنة " ، وتنالوا كرامة ربكم ، وشرف المنازل عنده " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " ، يقول : ولما يتبيَّن لعبادي المؤمنين ، المجاهدُ منكم في سبيل الله ، على ما أمره به.
* * *
وقد بينت معنى قوله : " ولما يعلم الله " ، " وليعلم الله " ، وما أشبه ذلك ، بأدلته فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته. (2) .
* * *
وقوله : " ويعلم الصابرين " ، يعني : الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه. كما : -
__________
(1) الأثر : 7928 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7924.
(2) انظر تفسير " لنعلم فيما سلف 3 : 158 - 162.

(7/246)


7929 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " وتصيبوا من ثوابي الكرامة ، ولم أختبركم بالشدة ، وأبتليكم بالمكاره ، حتى أعلم صِدق ذلك منكم الإيمان بي ، والصبر على ما أصابكم فيّ. (1)
* * *
ونصب " ويعلم الصابرين " ، على الصرف. و " الصرف " ، أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق ، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق ، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف ، لأنه مصروف عن معنى الأول ، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام. (2) وذلك كقولهم : " لا يسعني شيء ويضيقَ عنك " ، لأن " لا " التي مع " يسعني " لا يحسن إعادتها مع قوله : " ويضيقَ عنك " ، فلذلك نصب. (3) .
والقرأة في هذا الحرف على النصب.
* * *
وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ : ( وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ ) ، فيكسر " الميم " من " يعلم " ، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله : " ولما يعلم الله " .
* * *
__________
(1) الأثر : 7929 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7928 وكان في المطبوعة والمخطوطة : " حتى أعلم أصدق ذلكم الإيمان بي. . . " فرددته إلى الصواب من رواية ابن هشام.
(2) انظر " الصرف " فيما سلف 1 : 569 ، وتعليق : 1 / 3 : 552 ، تعليق : 1.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 235 ، 236.

(7/247)


وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

القول في تأويل قوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولقد كنتم تمنون الموت " ، ولقد كنتم ، يا معشر أصحاب محمد " تمنون الموت " ، يعني أسبابَ الموت ، وذلك : القتالُ " فقد رأيتموه " ، فقد رأيتم ما كنتم تمنونه - و " الهاء " في قوله " رأيتموه " عائدة على " الموت " ، والمعنىُّ : [القتال] (1) " وأنتم تنظرون " ، يعني : قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر ، أي بقرب منكم.
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل : " وأنتم تنظرون " ، على وجه التوكيد للكلام ، كما يقال : " رأيته عيانًا " و " رأيته بعيني ، وسمعته بأذني " .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قيل : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، لأن قومًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرًا ، كانوا يتمنون قبل أحد يومًا مثل يوم بدر ، فيُبْلُوا الله من أنفسهم خيرًا ، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر. فلما كان يوم أحد فرّ بعضهم ، وصبرَ بعضهم حتى أوفَى بما كان عاهد الله قبل ذلك ، فعاتب الله من فرّ منهم فقال : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، الآية ، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم.
*ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك :
7930 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، قال : غاب رجال عن بدر ، فكانوا
__________
(1) في المطبوعة : " عائدة على الموت ، ومعنى وأنتم تنظرون " ، وهو كلام فاسد. وفي المخطوطة : " عائدة على الموت ، والمعنى " وبعدها بياض قدر كلمة ، ثم كتب : " وأنتم تنظرون " فوضعت بين القوسين ما استظهرته من كلام أبي جعفر.

(7/248)


يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه ، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصابَ أهل بدر. فلما كان يوم أحد ، ولَّى من ولىَّ منهم ، فعاتبهم الله أو : فعابهم ، أو : فعيَّبهم على ذلك. (1) شك أبو عاصم.
7931 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه - إلا أنه قال : " فعاتبهم الله على ذلك " ، ولم يشكّ.
7932 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أناسٌ من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر ، فكان يتمنون أن يرزقوا قتالا فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أحُد ، فقال الله عز وجل كما تسمعون : " ولقد كنتم تمنون الموت " ، حتى بلغ " الشاكرين " .
7933 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، قال : كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم ، فلما لقوهم يوم أحد ولّوا.
7934 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن أناسًا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان بناحية المدينة يوم أحد ، فأنزل الله عز وجل : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، الآية.
7935 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف ،
__________
(1) في المطبوعة : " أو فعتبهم " ، وفي المخطوطة " فتعتهم " غير منقوطة ، وكأن صواب قراءتها ما أثبت عابه وعيبه : نسبه إلى العيب.

(7/249)


عن الحسن قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : " لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلن ولنفعلن " ، فابتلوا بذلك ، فلا والله ما كلُّهم صَدق الله ، فأنزل الله عز وجل. " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " .
7936 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : كان ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدوا بدرًا ، فلما رأوا فضيلة أهل بدر قالوا : " اللهم إنا نسألك أن ترينا يومًا كيوم بدر نبليك فيه خيرًا " ! فرأوا أحدًا ، فقال لهم : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " .
7937 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أي : لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم يعني الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوهم ، (1) لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر ، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به. يقول : " فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أي : الموتَ بالسيوف في أيدي الرجال ، قد خلَّى بينكم وبينهم ، (2) وأنتم تنظرون إليهم ، فصددتُم عنهم. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يعني الذين حملوا رسول الله. . " ، غيره الناشر ، وكان في المخطوطة " استاصوا " غير منقوطة ، ولولا أن الذي في سيرة ابن هشام " استنهضوا " ، لقلت إن صواب قراءتها : " استباصوا " بالصاد في آخره من قولهم : " بصت فلانًا " إذا استعجلته. والبوص (بفتح فسكون) : أن تستعجل إنسانًا في تحميلكه أمرًا ، لا تدعه يتمهل فيه. وهذه صفة فعل أصحاب رسول الله الذين لم يشهدوا بدرًا ، وأرادوا القتال يوم أحد.
(2) في المطبوعة : " قد حل بينكم وبينهم " ، وهي في المخطوطة غير بينة ، والصواب ما جاء في سيرة ابن هشام ، وقد أثبته.
(3) الأثر : 7937 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7929. هذا وفي السيرة خطأ بين ، تصحيحه في رواية الطبري ، فليراجع. وقد جاء في السيرة. " ثم صدهم عنكم " مكان " فصددتم عنهم " ، وهما معنيان مختلفان ، ولكنها الرواية ، لا يمكن أن أرجح فيها بغير مرجح ، فكلاهما صواب.

(7/250)


وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

القول في تأويل قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه ، داعيًا إلى الله وإلى طاعته ، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه. (1) يقول جل ثناؤه : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانعٌ من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله ، كسائر رسله إلى خلقه الذين مضوْا قبله ، (2) وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم.
ثم قال لأصحاب محمد ، معاتبَهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحُد : " إنّ محمدًا قتل " ، ومُقبِّحًا إليهم انصرافَ من انصرفَ منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم : أفائن مات محمد ، أيها القوم ، لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدو (3) " انقلبتم على أعقابكم " ، يعني : ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدًا بالدعاء إليه ورجعتم عنه كفارًا بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وَضَحت لكم صحةُ ما دعاكم محمد إليه ، وحقيقةُ ما جاءكم به من عند ربه " ومن ينقلب على عقبيه " ، يعني بذلك : ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرًا بعد إيمانه ، (4)
__________
(1) قوله : " الذين حين انقضت آجالهم " ، من صفة " رسل الله " الذين ذكرهم قبل.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " كسائر مدة رسله إلى خلقه " بزيادة " مدة " ، وهي مفسدة للكلام وكأنها سبق قلم من الناسخ ، فلذلك أسقطتها.
(3) في المطبوعة : " أو قتله عدوكم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير " انقلب على عقبيه " فيما سلف 3 : 163.

(7/251)


" فلن يضر الله شيئًا " يقول : فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذلك نقصٌ في ملكه ، (1) بل نفسه يضر بردَّته ، وحظَّ نفسه ينقص بكفره " وسيجزي الله الشاكرين " ، يقول : وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه ، بثبوته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل ، واستقامته على منهاجه ، وتمسكه بدينه وملته بعده. كما : -
7938 - حدثنا المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، أخبرنا سيف بن عمر ، (2) عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " وسيجزي الله الشاكرين " ، الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه. فكان عليّ رضي الله عنه يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين أحِباء الله ، وكان أشكرَهم وأحبَّهم إلى الله.
7939 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر قال : إن أبا بكر أمينُ الشاكرين. وتلا هذه الآية : " وسيجزي الله الشاكرين " . (3)
7940 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وسيجزي الله الشاكرين " ، أي : من أطاعه وعمل بأمره. (4)
* * *
وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه.
__________
(1) في المطبوعة : " ولا يدخل بذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " سيف بن عمرو " ، وهو خطأ والصواب من المخطوطة. وهو : " سيف بن عمر التميمي " صاحب كتاب الردة والفتوح. وقد أكثر أبو جعفر سياق روايته في تاريخه.
(3) الأثر : 7939 - " العلاء بن بدر " ، هو : " العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي " ، نسب إلى جده ، أرسل عن علي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(4) الأثر : 7940 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها : 7937.

(7/252)


*ذكر الأخبار الواردة بذلك :
7941 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " إلى قوله : " وسيجزي الله الشاكرين " ، ذاكم يوم أحُد ، حين أصابهم القَرْح والقتل ، ثم تناعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم تَفِئة ذلك ، (1) فقال أناسٌ : " لو كان نبيًّا ما قتل " ! وقال أناس من عِليْة أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : " قاتلوا على ما قاتل عليه محمدٌ نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به " ! فقال الله عز وجل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، يقول : إن مات نبيكم أو قُتل ، ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم.
7942 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه وزاد فيه ، قال الربيع : وذكر لنا والله أعلم ، أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه ، (2) فقال : يا فلان ، أشعرت أنّ محمدًا قد قتل ؟ (3) فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلَّغ ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله عز وجل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، يقول : ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم.
__________
(1) في المطبوعة : " ثم تنازعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بقية ذلك " ، وهو كلام أهدر معناه. وأما السيوطي في الدر المنثور 2 : 80 فقد خفى عليه صواب الكلام ، فجعله : " ثم تداعوا نبي الله قالوا قد قتل " ، ولعلها رواية الربيع ، كما نسبها إليه. أما المخطوطة فإن فيها " ساعوا " ، و " ذلك " غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله : " تناعوا نبي الله " أي نعاه بعضهم لبعض ، قالوا : قتل نبي الله. وكانت العرب تتناعى في الحرب ، ينعون قتلاهم ليحرضوهم على القتل وطلب الثأر. وقوله : " تفئة ذلك " ، أي : على إثر ذلك. يقال : " أتيته على تفئة ذلك " أي : على حينه وزمانه. وفي الحديث : " دخل عمر فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دخل أبو بكر على تفئة ذلك " ، أي على إثره ، وفي ذلك الحين.
(2) تشحط القتيل في دمه : تخبط فيه واضطرب وتمرغ.
(3) قوله : " أشعرت " ، أي : أعلمت.

(7/253)


7943 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحُد إليهم - يعني : إلى المشركين - أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : " لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم " . (1) وأمرَّ عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوَّات بن جبير. (2)
ثم شدّ الزبيرُ بن العوام والمقدادُ بن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد ، وهو على خيل المشركين ، كرّ. (3) فرمته الرماة فانقمع. (4) فلما نظرَ الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادرُوا الغنيمة ، فقال بعضهم : " لا نترك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله ثم حمل ، فقتل الرماة وحَمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركونَ أنّ خيلهم تقاتل ، تنادوْا ، (5) فشدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (6) .
فأتى ابن قميئة الحارثي - أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة (7) - فرمى
__________
(1) نص ما في تاريخ الطبري : " إن رأيتم قد هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين " ، وهي أجود ، وأخشى أن يكون ما في التفسير من تصرف الناسخ. ثم انظر ما سيأتي رقم : 8004.
(2) بين هذه الفقرة والتي تليها ، كلام قد اختصره أبو جعفر ، وأثبته في روايته في التاريخ.
(3) في المطبوعة مكان " كر " " قدم " بمعنى أقدم. وهو تصرف كالمقبول من الناشر الأول ، ولكنه في المخطوطة " لر " وعلى الراء شدة ، وصواب قراءتها ما أثبت. " كر على العدو " رجع وعطف ثم حمل عليه. وأما رواية التاريخ ، ففيها مكان " كر " " حمل " ، وهما سواء في المعنى ، والأولى أجودهما. وانظر ما سيأتي في التعليق على الأثر : 8004.
(4) انقمع : رجع وارتد وتداخل فرقًا وخوفًا.
(5) في المطبوعة : " تبادروا " ، وهو خطأ غث ، والصواب من المخطوطة والتاريخ ، ومن الأثر الآتي : 8004. وقوله : " تنادوا " تداعوا ونادى بعضهم بعضًا لكي يؤوبوا إلى المعرك.
(6) إلى هذا الموضع من الأثر ، انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 3 : 14 ، 15 ، وسيأتي تخريج بقية الأثر كله في آخره. وانظر ما سيأتي رقم : 8004.
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " بني الحارث بن عبد مناف " ، وهو خطأ محض. والصواب من التاريخ ومن نسب القوم.

(7/254)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسرَ أنفه ورباعيته ، وشجَّه في وجهه فأثقله ، (1) وتفرق عنه أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إليَّ عباد الله! إلى عباد الله! " ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحدٌ إلا طلحة وسهل بن حنيف. فحماه طلحة ، فَرُمِيَ بسهم في يده فيبست يده.
وأقبل أبي بن خلف الجمحي - وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتله (2) - فقال : يا كذاب ، أين تفرّ ؟ فحمل عليه ، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع ، (3) فجُرح جَرحًا خفيفًا ، فوقع يخور خوار الثور. (4) فاحتملوه وقالوا : ليس بك جراحة! ، [فما يُجزعك] ؟ (5) قال : أليس قال : " لأقتلنك " ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! ولم يلبث إلا يومًا وبعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : " ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أمَنَةً من أبي سفيان!! يا قوم ، إن محمدًا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم " . (6) قال أنس بن النضر : " يا قوم ، إن كان محمد قد قُتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم إنى أعتذر إليك مما
__________
(1) الرباعية (مثل ثمانية) : إحدى الأسنان الأربعة التي تلي الثنايا ، بين الثنية والناب.
(2) في المطبوعة : " بل أقتلك " ، غير الناشر ما في المخطوطة ، وهو موافق لما في التاريخ ، ظنًا منه أن أبي بن خلف ، قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك كذلك ، بل قاله في مغيبه لا في مشهده. فلما بلغ ذلك رسول الله قال : بل أنا أقتله.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " جنب الدرع " ، وهو خطأ ، صوابه من التاريخ. وجيب القميص والدرع : الموضع الذي يقور منه ويقطع ، لكي يلبس من ناحيته.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " يخور خوران الثور " ، وهو خطأ صرف ، والصواب من التاريخ. خار الثور يخور خوارًا : صاح وصوت أشد صوت. وليس في مصادره " خوران " .
(5) الزيادة بين القوسين من التاريخ.
(6) الأمنة (بفتح الألف والميم والنون) : الأمان.

(7/255)


يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء " ! ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.
وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس ، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه ، وضع رجُل سهمًا في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال : " أنا رسول الله " ! ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ، وفرحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أنّ في أصحابه من يمتنع به. (1) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. (2)
فقال الله عز وجل للذين قالوا : إن محمدًا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين " . (3)
7944 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن ينقلب على عقبيه " ، قال : يرتدّ.
7945 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه وحدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه : أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل! فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلَّغ! فقاتلوا عن دينكم.
7946 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أخو بني عدي بن النجار قال : انتهى
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة " من يمتنع " بإسقاط " به " وليست بشيء ، والصواب من التاريخ. وانظر التعليق على الأثر رقم : 8064 ، الآتي.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ويذكرون أصحابه " ، والصواب من التاريخ.
(3) الأثر : 7943 - صدره في التاريخ 3 : 14 ، 15 / ثم سائره فيه 3 : 20 / ثم انظر رقم : 8004.

(7/256)


أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر ، وطلحة بن عبد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، (1) فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل محمدٌ رسول الله! قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! واستقبل القومَ فقاتل حتى قتل وبه سمي أنس بن مالك. (2)
7947 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : نادى منادٍ يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : " ألا إنّ محمدًا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأول " ! فأنزل الله عز وجل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، الآية.
7948 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : القى في أفواه المسلمين يومَ أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فنزلت هذه الآية : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
7949 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة ، والناس يفرُّون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : " ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم ، فيقولون : " والله ما ندري ما فعل " ! فقال : " والذي نفسي بيده ، لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ، لنعطينَّهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا " ! وقالوا : " إن محمدًا إن كان حيًّا لم يهزم ، ولكنه قُتل " ! فترخَّصوا في الفرار حينئذ. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، الآية كلها.
__________
(1) " ألقى بيده " : استسلم ، فبقى لا يصنع شيئًا يأسًا أو مللا. وهو مجاز ، كأنه طرح يده طرحًا بعيدًا عنه.
(2) الأثر : 7946 - سيرة ابن هشام 3 : 88 ، وتاريخ الطبري 3 : 19.

(7/257)


7950 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية ، ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق ، قالوا يوم فرّ الناس عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وشُجَّ فوق حاجبه وكُسرت رباعيته : " قُتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول " ! فذلك قوله : " أفإئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " .
7951 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، قال : ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين : فسوف يموت ، أو يقتل.
7952 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، إلى قوله : " وسيجزي الله الشاكرين " ، أي : لقول الناس : " قتل محمد " ، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم أي : أفائن مات نبيكم أو قتل ، رجعتم عن دينكم كفارًا كما كنتم ، وتركتم جهاد عدوكم وكتابَ الله ، وما قد خلف نبيُّه من دينه معكم وعندكم ، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميتٌ ومفارقكم ؟ " ومن ينقلب على عقبيه " ، أي : يرجع عن دينه " فلن يضر الله شيئا " ، أي : لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه. (1)
7953 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : قال : أهل المرض والارتياب والنفاق ، حين فرّ الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " قد قتل محمد ، فألحقوا بدينكم الأول " ! فنزلت هذه الآية.
* * *
__________
(1) الأثر : 7952 - سيرة ابن هشام 3 : 117 ، 118 ، وهو تتمة الآثار السالفة التي آخرها : 7937 ، ثم تتمة هذا الأثر ، مرت برقم : 7940.

(7/258)


قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفتنقلبون على أعقابكم ، إن مات محمد أو قتل ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا فجعل الاستفهام في حرْف الجزاء ، ومعناه أن يكون في جوابه. وكذلك كلّ استفهام دخل على جزاء ، فمعناه أن يكون في جوابه. لأن الجواب خبرٌ يقوم بنفسه ، والجزاء شرط لذلك الخبر ، ثم يجزم جوابه وهو كذلك ومعناه الرفع ، لمجيئه بعد الجزاء ، كما قال الشاعر : (1)
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدْلِجِ اللَّيلَ لا يَزَلْ... أَمَامَك بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِي سَائِر (2)
فمعنى " لا يزل " رفع ، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء ، فصار كالجواب. ومثله : ( أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) [سورة الأنبياء : 34] و( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ ) [سورة المزمل : 17] ، (3) ولو كان مكان " فهم الخالدون " ، " يخلدون " ، وقيل : " أفائن مت يخلدوا " ، جاز الرفع فيه والجزم. وكذلك لو كان مكان " انقلبتم " ، " تنقلبوا " ، جاز الرفع والجزم ، لما وصفت قبل. (4) وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله : " انقلبتم " ، اكتفاءً بالاستفهام في أول الكلام ، وأنّ الاستفهام في أوَّله دالٌّ على موضعه ومكانه.
وقد كان بعض القرأة يختار في قوله : ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا
__________
(1) هو الراعي.
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 69 ، 236 ، والمعاني الكبير : 805 ، والخزانة 4 : 450 ، وسيأتي في التفسير 13 : 69 (بولاق) ، ورواه ابن قتيبة في المعاني الكبير : " عائر " مكان " سائر " وقال : " أي بيت هجاء سائر " . وذلك من قولهم : " عار الفرس " ، إذا أفلت وذهب على وجهه ، وذهب وجاء مترددًا. ويقال : " قصيدة عائرة " ، أي سائرة في كل وجه. وكان في المطبوعة هنا " ساتر " وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، ومن الموضع الآخر من التفسير ، ومن المراجع.
(3) في المطبوعة والمخطوطة " وكيف تتقون. . . " ، وهو خطأ في التلاوة.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 236.

(7/259)


وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

لَمَبْعُوثُونَ ) [سورة الإسراء : 82\سورة الصافات : 16\سورة الواقعة : 47] ، (1) ترك إعادة الاستفهام مع " أئنا " ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : " أئذا كنا ترابًا " ، ويستشهد على صحة وجه ذلك بإجماع القرأة على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله : (2) " انقلبتم " ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : " أفائن مات " ، إذ كان دالا على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه. (3) وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن.
وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له ، وأذن له بالموت ، فحينئذ يموت. فأما قبل ذلك ، فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال ، كما : -
7954 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا " ، أي : أن لمحمد أجلا هو بالغه ، إذا أذن الله له في ذلك كان. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أئذا كنا ترابًا وعظامًا " أسقط " متنا " والواو من " وكنا " ، وهو خطأ في التلاوة.
(2) في المطبوعة " باجتماع القراء " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " إذا كان دالا " ، والصواب " إذ " كما أثبتها.
(4) كأنه يعني ما سيأتي في تفسيره 13 : 69 (بولاق) ، فإذا وجدت بعد ذلك مكانًا آخر غيره أشرت إليه.
(5) الأثر : 7954 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7940.

(7/260)


وقد قيل إنّ معنى ذلك : وما كانت نفسٌ لتموت إلا بإذن الله. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله : " كتابًا مؤجلا " .
فقال بعض نحويي البصرة : هو توكيد ، ونصبه على : " كتب الله كتابًا مؤجلا " . قال : وكذلك كل شيء في القرآن من قوله : (حَقًّا) إنما هو : أحِقُّ ذلك حقًّا " . وكذلك : ( وَعَدَ اللَّهُ )( ورَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) ، ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )( وكِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) ، (2) إنما هو : صَنَعَ الله هكذا صنعًا. فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا ، فإنه كثيرٌ.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " ، معناه : كتب الله آجالَ النفوس ، ثم قيل : " كتابًا مؤجلا " ، فأخرج قوله : " كتابًا مؤجلا " ، نصبًا من المعنى الذي في الكلام ، إذ كان قوله : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " ، قد أدَّى عن معنى : " كتب " ، (3) قال : وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، فهو على هذا النحو.
* * *
وقال آخرون منهم : قول القائل : " زيد قائم حقًّا " ، بمعنى : " أقول زيد قائم حقًّا " ، لأن كل كلام " قول " ، فأدى المقول عن " القول " ، ثم خرج ما بعده منه ، كما تقول : " أقول قولا حقًّا " ، وكذلك " ظنًّا " و " يقينًا " وكذلك : " وعدَ الله " ، وما أشبهه.
* * *
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 104.
(2) هذه مواضع الآيات من كتاب الله على الترتيب : [سورة النساء : 122 / سورة يونس : 4 / سورة لقمان : 9] / [سورة الكهف : 82 / سورة القصص : 46 / سورة الدخان : 6] / [سورة النمل : 88] / [سورة النساء : 24].
(3) في المطبوعة : " عن معناه كتب " ، وهو كلام مختل ، والصواب من المخطوطة.

(7/261)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله ، لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظُها ألفاظَ ما قبلها من الكلام ، معانِيَ ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ ، فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : من يرد منكم ، أيها المؤمنون ، بعمله جزاءً منه بعضَ أعراض الدنيا ، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده " نؤته منها " ، يقول : نعطه منها ، يعني من الدنيا ، يعني أنه يعطيه منها ما قُسم له فيها من رزق أيام حياته ، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة " ومن يرد ثوابَ الآخرة " ، يقول : ومن يرد منكم بعمله جزاءً منه ثواب الآخرة ، يعني : ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة " نؤته منها " ، يقول : نعطه منها ، يعني من الآخرة. والمعنى : من كرامة ألله التي خصَّ بها أهلَ طاعته في الآخرة. فخرج الكلامُ على الدنيا والآخرة ، والمعنىُّ ما فيهما. كما : -
7955 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها " ، أي : فمن كان منكم يريد الدنيا ، ليست له رغبة في الآخرة ، نؤته ما قسم له منها من رزق ، ولا حظ له في

(7/262)


وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

الآخرة ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها " ما وعده ، مع ما يُجرى عليه من رزقه في دنياه. (1)
* * *
وأما قوله : " وسنجزي الشاكرين " ، يقول : وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي ، وانتهائه إلى أمري ، وتجنُّبه محارمي في الآخرة مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي.
وقال ابن إسحاق في ذلك بما : -
7956 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وسنجزي الشاكرين " ، أي : ذلك جزاء الشاكرين ، يعني بذلك ، إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة ، مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه بعضهم : (وَكَأَيِّنْ) ، بهمز " الألف " وتشديد " الياء " .
* * *
وقرأه آخرون بمد " الألف " وتخفيف " الياء "
* * *
وهما قراءتان مشهورتان في قرأة المسلمين ، ولغتان معروفتان ، لا اختلاف في معناهما ، فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيبٌ. لاتفاق معنى ذلك ، وشهرتهما في كلام العرب. ومعناه : وكم من نبي.
* * *
__________
(1) الأثر : 7955 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7954. والاختلاف عظيم في لفظ الأثر.
(2) الأثر : 7956 - ليس في سيرة ابن هشام بنصه.

(7/263)


القول في تأويل قوله : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " قتل معه ربيون " . (1)
فقرأ ذلك جماعة من قرأة الحجاز والبصرة : (قُتِلَ) ، بضم القاف.
* * *
وقرأه جماعة أخر بفتح " القاف " و " بالألف " . (2) وهي قراءة جماعة من قرأة الحجاز والكوفة.
* * *
قال أبو جعفر : فأما من قرأ(قَاتَلَ) ، فإنه اختار ذلك ، لأنه قال : لو قُتلوا لم يكن لقوله : " فما وهنوا " ، وجه معروف. لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يَهِنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا.
وأما الذين قرأوا ذلك : (قُتِلَ) ، فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبيَّ وبعضَ من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقى من الربيين ممن لم يقتل.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ بضم " القاف " : ( " قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ " ) ، لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها من قوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) (3) الذين انهزموا يوم أحُد ، وتركوا القتال ، أو سمعوا الصائح يصيح : " إن محمدًا قد قتل " . فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال فقال : أفائن مات محمد أو قتل ، أيها المؤمنون ، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم ؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم ، وقال لهم : هلا فعلتم كما كان
__________
(1) في المطبوعة : " ربيون كثير " ، واتبعت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " جماعة أخرى " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) السياق : إنما عاتب بهذه الآية. . . الذين انهزموا. . .

(7/264)


أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج نبيهم ، والقتال على دينه أعداءَ دين الله ، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم ولم تهنوا ولم تضعفوا ، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم ، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم ؟ وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوِّلين. (1)
* * *
وأما " الربيون " ، فإنهم مرفوعون بقوله : " معه " لا بقوله : " قتل " . وإنما تأويل الكلام : وكأين من نبيّ قتل ، ومعه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله. وفي الكلام إضمار " واو " ، لأنها " واو " تدل على معنى حال قَتْل النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها ، وذلك كقول القائل في الكلام : " قتل الأمير معه جيش عظيم " ، بمعنى : قتل ومعه جيشٌ عظيم.
* * *
وأما " الربيون " ، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه.
فقال بعض نحويي البصرة : هم الذين يعبدون الرَّبَّ ، واحدهم " رِبِّي " .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا " رَبِّيون " بفتح " الراء " ، ولكنه : العلماء ، والألوف.
* * *
و " الربيون " عندنا ، الجماعات الكثيرة ، (2) واحدهم " رِبِّي " ، وهم الجماعة. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معناه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تأويل المتأول " ، ولكن " لام " " المتأول " في المخطوطة ممدودة في الهامش ، وتحتها نقطتان ، فهذا صواب قراءتها ، وهو صواب السياق.
(2) في المطبوعة : " الجماعة الكثيرة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وهم جماعة " ، وكأن الأجود ما أثبت ، إلا أن يكون قد سقط من الناسخ شيء.

(7/265)


فقال بعضهم مثل ما قلنا.
*ذكر من قال ذلك :
7957 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله : الربيون : الألوف.
7958 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله ، مثله.
7959 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله ، مثله.
7960 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عمرو عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله.
7961 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " ربيون كثير " ، قال : جموع كثيرة.
7962 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " قاتل معه ربيون كثير " (1) قال : جموع.
7963 - حدثني حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : الألوف.
* * *
وقال آخرون بما : -
7964 - حدثني به سليمان بن عبد الجبار قال ، حدثنا محمد بن الصلت
__________
(1) في هذا الموضع من الآثار التالية ، كتب " قاتل معه " ، وسائرها " قتل " ، كالقراءة التي اختارها أبو جعفر ، فتركت قراءة أبي جعفر كما هي في هذه الآثار ، وإن خالفت القراءة التي عليها مصحفنا وقراءتنا في مصر وغيرها. وذلك لأن معاني الآثار كلها مطابقة لقراءتها " قتل " بالبناء للمجهول.

(7/266)


قال ، حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : علماء كثير.
7965 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، قال : فقهاء علماء.
7966 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية. عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : الجموع الكثيرة قال يعقوب : وكذلك قرأها إسماعيل : ( " قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ " ).
7967 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " يقول : جموع كثيرة.
7968 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " قتل معه ربيون كثير " ، قال : علماء كثير (1) وقال قتادة : جموعٌ كثيرة.
7969 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة في قوله : " ربيون كثير " ، قال : جموع كثيرة.
7970 - حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، مثله.
7971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " قتل معه ربيون كثير " قال : جموع كثيرة.
7972 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " علماء كثيرة " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/267)


7973 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " قتل معه ربيون كثير " يقول : جموع كثيرة.
7974 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، يقول : جموع كثيرة ، قُتل نبيهم.
7975 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جعفر بن حبان والمبارك ، عن الحسن في قوله : " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " ، قال جعفر : علماء صبروا وقال ابن المبارك : أتقياء صُبُر. (1)
7976 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " قتل معه ربيون كثير " يعني الجموع الكثيرة ، قتل نبيهم.
7977 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " قاتل معه ربيون كثير " ، يقول : جموع كثيرة.
7978 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : وكأين من نبي أصابه القتل ، ومعه جماعات. (2)
7979 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، الربيون : هم الجموع الكثيرة. (3)
* * *
وقال آخرون : الربيون ، الاتباع.
__________
(1) في المطبوعة : " أتقياء صبروا " والصواب ما في المخطوطة : " صبر " (بضمتين) جمع " صبور " .
(2) الأثر : 7978 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها : 7955 مع بعض خلاف في لفظه.
(3) في المطبوعة : " الربيون الجموع " بإسقاط " هم " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/268)


*ذكر من قال ذلك :
7980 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، قال : " الربيون " الأتباع ، و " الرّبانيون " الولاة ، و " الربِّيون " الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه ، (1) حين صاح الشيطان : " إن محمدًا قد قتل " قال : كانت الهزيمة عند صياحه في [سه صاح] : (2) أيها الناس ، إنّ محمدًا رسول الله قد قُتل ، فارجعوا إلى عشائركم يؤمِّنوكم!.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله " ، فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله ، (3) ولا لقتل من قُتل منهم ، عن حرب أعداء الله ، ولا نكلوا عن جهادهم " وما ضعفوا " ، يقول : وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم " وما استكانوا " ، يعني وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم ، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم ، صبرًا على أمر الله وأمر نبيهم ، وطاعة لله واتباعًا لتنزيله ووحيه
__________
(1) في المطبوعة : " وهذا عاتبهم " ، وكأن صواب قراءتها في المخطوطة ما أثبت ، وهو السياق.
(2) الكلمات التي بين القوسين ، هكذا جاءت في المخطوطة غير منقوطة ، أما المطبوعة فقد قرأها " في سننية صاح " ، وهو لا معنى له. وقد جهدت أن أجد هذا الأثر في مكان آخر ، أو أن أعرف وجهًا مرضيًا في قراءته ، فأعياني طلب ذلك. وقد بدا لي أنها محرفة عن اسم موضع ، أو ثنية ، وقف عندها إبليس فنادى بذلك النداء ، ولكني لم أجد ما أردت. والمعروف في السير ، أن أزب العقبة إبليس قد تصور متمثلا في شبه جعال بن سراقة ، وصرخ بما صرخ به ، حتى هم أناس بقتل جعال ، فشهد له خوات بن جبير ، وأبو بردة بن نيار ، بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما يقاتل ، حين صرخ ذلك الصارخ. فأرجو أن أجد بعد إن شاء الله صواب قراءة هذا الرسم المشكل.
(3) انظر تفسير " وهن " فيما سلف قريبًا : 234.

(7/269)


" والله يحب الصابرين " ، يقول : والله يحب هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته وطاعة رسوله في جهاد عدوه ، لا مَنْ فشل ففرَّ عن عدوه ، ولا من انقلب على عقبيه فذلّ لعدوه لأنْ قُتِل نبيه أو مات ، ولا مَن دخله وهن عن عدوه ، وضعفٌ لفقد نبيه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
7981 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا " ، يقول : ما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم " وما استكانوا " يقول : ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم ، (1) بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
7982 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " ، يقول : ما عجزوا وما ضعفوا لقتل نبيهم " وما استكانوا " ، يقول : وما ارتدوا عن بصيرتهم ، (2) قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالله.
7983 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما وهنوا " ، فما وهن الربيون " لما أصابهم في سبيل الله " من قتل النبي صلى الله عليه وسلم " وما ضعفوا " ، يقول : ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبي " وما استكانوا " ، يقول : ما ذلُّوا حين قال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع " عن نصرتهم " ، وهو خطأ لا معنى له. و " البصيرة " : عقيدة القلب ، والمعرفة على تثبت ويقين واستبانة. يريد ما اعتقدوا في قلوبهم من الدين عن بصر ويقين. وقد سلف منذ أسطر " : ولكن مضوا قدمًا على بصائرهم " ، وانظر ما سيأتي في الأثر التالي ، والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة : " عن نصرتهم " كما في الأثر السالف ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة " عن نصرتهم " غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها. انظر التعليق السالف.

(7/270)


وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

وسلم : " اللهم ليس لهم أن يعلونا " - و( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) .
7984 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فما وهنوا " لفقد نبيهم " وما ضعفوا " ، عن عدوهم " وما استكانوا " ، لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر " والله يحب الصابرين " . (2)
7985 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " وما استكانوا " ، قال : تخشَّعوا.
7986 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وما استكانوا " ، قال : ما استكانوا لعدوهم " والله يحب الصابرين " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وما كان قولهم " ، وما كان قول الرِّبِّيين - و " الهاء والميم " من ذكر أسماء الربيين - " إلا أن قالوا " ، يعني : ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول ، إذ قتل نبيهم وقوله : " ربنا اغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : لم يعتصموا ، إذ قتل نبيهم ، إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوهم ، وبمسألة
__________
(1) في المطبوعة : " ليس لهم أن يعلونا ولا تهنوا. . . " ، وفي المخطوطة : " ليس لهم أن يعلونا لا تهنوا. . . " ، والصواب ما أثبت ، مع الفصل ، يعني : ما ذلوا حين قال لهم رسول الله ما قال ، وحين نزل الله على رسوله الآية. وانظر تفسير الآية فيما سلف ص : 234 ، والأثر : 7892.
(2) الأثر : 7984 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7978.

(7/271)


ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا. (1) .
* * *
وأما " الإسراف " ، فإنه الإفراط في الشيء : يقال منه : " أسرف فلانٌ في هذا الأمر " ، إذا تجاوز مقداره فأفرط.
* * *
ومعناه هاهنا : اغفر لنا ذنوبنا : الصغارَ منها ، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر. كما : -
7987 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : " وإسرافنا في أمرنا " ، قال : خطايانا.
7988 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإسرافنا في أمرنا " ، خطايانا وظلمَنا أنفسنا.
7989 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال ، سمعت الضحاك في قوله : " وإسرافنا في أمرنا " ، يعني : الخطايا الكِبار.
7990 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قال ، الكبائر.
7991 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " وإسرافنا في أمرنا " ، قال : خطايانا.
7992 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإسرافنا في أمرنا " ، يقول : خطايانا.
* * *
__________
(1) هذا نص الآية ؛ وكأن الصواب : " وما كان قولا لهم إلا أن قالوا " ؛ ليبين عن أن " قولهم " خبر " كان " و " أن قالوا " اسمها. وانظر ص : 273 ، 274.

(7/272)


وأما قوله : " وثبت أقدامنا " ، فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرَّ منهم ولا يثبتُ قدمه في مكان واحد لحربهم " وانصرنا على القوم الكافرين " ، يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عبادَه الذين فرُّوا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديبٌ لهم. يقول : الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : " قُتل نبيكم " - كما فعل هؤلاء الرِّبِّيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم. فصبرتم لعدوكم صبرَهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الرِّبِّيون ولم يستكينوا لعدوهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحب من صَبر لأمره وعلى جهاد عدوه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوه ؟. كما : -
7993 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " ، أي : فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدُّوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبِّت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قُتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة في قوله : ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضًا وراثة عن الحجة. (3)
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 5 : 354.
(2) الأثر : 7993 - سيرة ابن هشام 3 : 118 ، 119 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7984.
(3) انظر استعمال " وراثة " ، و " موروثة " فيما سلف 6 : 127 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.

(7/273)


وإنما اختير النصب في " القول " ، لأن " أن " لا تكون إلا معرفة ، (1) فكانت أولى بأن تكون هي الاسم ، دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانًا ونكرة أحيانًا ، (2) ولذلك اختير النصب في كل اسم وِلى " كان " إذا كان بعده " أن " الخفيفة : كقوله : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ) [سورة العنكبوت : 24] (3) وقوله : ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ) [سوة الأنعام : 23] (4) فأمّا إذا كان الذي يلي " كان " اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفعُ والنصبُ في الذي ولى " كان " . فإن جعلت الذي ولى " كان " هو الاسم ، رفعته ونصبت الذي بعده. وإن جعلت الذي ولى " كان " هو الخبر ، نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جل ثناؤه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى ) [سورة الروم : 10] إن جعلت " العاقبة " الاسم رفعتها ، وجعلت " السوأى " هي الخبر منصوبةً. وإن جعلت " العاقبة " الخبر ، نصبت فقلت : " ثم كان عاقبةَ الذين أساءوا السوأى " ، وجعلت " السوأى " هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر : (5)
لَقَدْ عَلِمَ الأقْوَام مَا كَانَ دَاءَهَا... بِثَهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمَّنْ يَقُودُهَا (6)
وروي أيضًا : " ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ " ، نصبًا ورفعًا على ما قد
__________
(1) في المطبوعة : " لأن إلا أن لا تكون إلا معرفة " بزيادة " إلا " الأولى ، وهو فساد مستهجن ، والصواب من المخطوطة ، ولكن الناسخ كان قد أخطأ ، فغير وضرب ، فأخطأ الناشر الأول قراءة ما كتب.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 237.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " وما كان جواب... " بالواو ، وصحيح التلاوة ما أثبت.
(4) أثبت قراءة النصب كما ذكر الطبري ، والذي عليه مصحفنا وقراءتنا ، رفع " فتنتهم " .
(5) لم أعرف قائله.
(6) سيبويه 1 : 24 ، ولم ينسبه ، قال الشنتمري : " استشهد به على استواء اسم كان وخبرها في الرفع والنصب ، لاستوائهما في المعرفة. وصف كتيبة انهزمت ، فيقول : لم يكن داؤها وسبب انهزامها إلا جبن من يقودها وانهزامه. وجعل الفعل للخزي مجازًا واتساعًا ، والمعنى : إلا قائدها المنهزم الخزيان ، وثهلان : اسم جبل " .

(7/274)


فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

بينت. ولو فُعل مثل ذلك مع " أن " كان جائزًا ، غير أن أفصحَ الكلام ما وصفت عند العرب.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم ، من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم ، وعلى جهاد عدوهم ، والاستعانة بالله في أمورهم ، واقتفائهم مناهج إمامهم على ما أبلوا في الله - " ثوابَ الدنيا " ، يعني : جزاء في الدنيا ، وذلك : النصرُ على عدوهم وعدو الله ، والظفرُ ، والفتح عليهم ، والتمكين لهم في البلاد " وحسن ثواب الآخرة " ، يعني : وخير جزاء الآخرة على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة ، وذلك : الجنةُُ ونعيمُها ، كما : -
7994 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " ، فقرأ حتى بلغ : " والله يحب المحسنين " ، أي والله ، لآتاهم الله الفتح والظهورَ والتمكينَ والنصر على عدوهم في الدنيا " وحسنَ ثواب الآخرة " ، يقول : حسن الثواب في الآخرة ، هي الجنة.
7995 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وما كان قولهم " ، ثم ذكر نحوه.
7996 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : " فآتاهم الله ثواب الدنيا " ، قال : النصر والغنيمة " وحسن ثواب الآخرة " ، قال : رضوانَ الله ورحمته.

(7/275)


7997 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فآتاهم الله ثوابَ الدنيا " ، الظهورَ على عدوهم (1) " وحسن ثواب الآخرة " ، الجنةَ وما أعدَّ فيها وقوله : " والله يحب المحسنين " ، يقول تعالى ذكره : فعل الله ذلك بهم بإحسانهم ، فإنه يحب المحسنين ، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيُّهم. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " حسن الظهور على عدوهم " ، وفي المخطوطة كتب " وحسن الظهور " ثم ضرب على " وحسن " . وفي ابن هشام : " بالظهور " بالباء.
(2) الأثر : 7997 - سيرة ابن هشام 3 : 119 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7993 ، مع اختلاف في اللفظ ، ومع اختصاره.

(7/276)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه " إن تطيعوا الذين كفروا " ، يعني : الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى - فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه - فتقبلوا رأيهم في ذلك وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون " يردوكم على أعقابكم " ، يقول : يحملوكم على الرِّدة بعد الإيمان ، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام (1) " فتنقلبوا خاسرين " ، يقول : فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له " خاسرين " ، يعني : هالكين ، قد خسرتم أنفسكم ، وضللتم عن دينكم ، وذهبت دنياكم وآخرتكم. (2) .
__________
(1) انظر تفسير " ارتد على عقبه " فيما سلف قريبًا : 251 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 1 : 417 / 2 : 166 ، 572 / 6 : 570.

(7/276)


بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

ينهى بذلك أهل الإيمان بالله أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم ، وينتصحوهم في أديانهم. كما : -
7998 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " ، أي : عن دينكم : فتذهب دنياكم وآخرتكم. (1)
7999 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا " ، قال ابن جريج : يقول : لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ، ولا تصدِّقوهم بشيء في دينكم.
8000 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " ، يقول : إن تطيعوا أبا سفيان ، يردَّكم كفارًا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن الله مسدِّدكم ، أيها المؤمنون ، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.
* * *
__________
(1) الأثر : 7998 - سيرة ابن هشام 3 : 119 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7997. وفي سيرة ابن هشام : " أي : عن عدوكم ، فتذهب دنياكم وآخرتكم " ، وهو فاسد المعنى ، تصحيحه من هذا الموضع من الطبري.
(2) في المطبوعة : " يردوكم كفارًا " بالجمع ، وهو غير مستقيم ، والصواب من المخطوطة.

(7/277)


وإنما قيل : " بل الله مولاكم " ، لأن في قوله : " إن تطيعوا الذين كفروا يردُّوكم على أعقابكم " ، نهيًا لهم عن طاعتهم ، فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا لا تُطيعوا الذين كفروا فيردُّوكم على أعقابكم ، ثم ابتدأ الخبر فقال : " بل الله مولاكم " ، فأطيعوه ، دون الذين كفروا ، فهو خيرُ من نَصَر. ولذلك رفع اسم " الله " ، ولو كان منصوبًا على معنى : بل أطيعوا الله مولاكم ، دون الذين كفروا كان وجهًا صحيحًا.
* * *
ويعني بقوله : " بل الله مولاكم " ، وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا ، (1) " وهو خير الناصرين " ، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا ، وإياه فاستنصروا ، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل ، ويرصدكم بالمكاره ، كما : -
8001 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " بل الله مولاكم " ، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم " وهو خير الناصرين " ، أي : فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره ، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدِّين عن دينكم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المولى " فيما سلف 6 : 141.
(2) الأثر : 8001 - سيرة ابن هشام 3 : 119 ، 120 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 7998 ، مع اختلاف يسير في اللفظ.

(7/278)


سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

القول في تأويل قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : سيلقى الله ، أيها المؤمنون " في قلوب الذين كفروا " بربهم ، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ممن حاربكم بأحد " الرعب " ، وهو الجزع والهلع " بما أشركوا بالله " ، يعني : بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام ، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة وهي " السلطان " التي أخبر عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم.
وهذا وعدٌ من الله جل ثناؤه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم ، والفلج عليهم ، ما استقاموا على عهده ، وتمسكوا بطاعته. ثم أخبرهم ما هو فاعلٌ بأعدائهم بعد مصيرهم إليه ، فقال جل ثناؤه : " ومأواهم النار " ، يعني : ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة ، النارُ " وبئس مثوى الظالمين " ، يقول : وبئس مقام الظالمين - الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقابَ الله - النارُ ، كما : -
8002 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين " ، إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم ، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة ، أي : فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور عليكم ، ما اعتصمتم واتبعتم أمري ، للمصيبة التي أصابتكم

(7/279)


منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم ، خالفتم بها أمري ، وعصيتم فيها نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم. (1)
8003 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجِّهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم ، إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! (2) ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، فانهزموا. فلقوا أعرابيًّا ، فجعلوا له جُعْلا وقالوا له : إن لقيت محمدًا فأخبره بما قد جمعنا لهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قُذف في قلبه من الرعب فقال : " سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله " . (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 8002 - سيرة ابن هشام 3 : 120 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8001.
(2) " الشريد " ، هكذا في المطبوعة والدر المنثور 2 : 82 ، وأما المخطوطة ، فاللفظ فيها مضطرب لا يستبين. وانظر أيضًا رقم : 8237.
(3) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه : " يتلوه القول في تأويل قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم " ثم يتلوه ما نصه : " بسم الله الرحمن الرحيم رب يسرِّ " . أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير " ثم انظر ما سلف في ص6 : 495 ، 496 التعليق رقم : 5 / ثم 7 : 21 ، تعليق 1 / ثم 7 : 154 ، تعليق : 1.

(7/280)


وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

القول في تأويل قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " ولقد صدقكم الله " ، أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأحُد وعدَه الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
و " الوعد " الذي كان وعدَهم على لسانه بأحد ، قوله للرماة : " اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا ، وإن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره ، كالذي : -
8004 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد ، أمر الرماة ، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : " لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ، " وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوّات بن جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان ، صاحب لواء المشركين ، قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى يعجِّلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجلَه ، فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك الله والرحم ، ابنَ عم! فتركه.

(7/281)


فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لعليّ أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه.
ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل ، (1) فرمته الرماة ، فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل ، تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (2) .
8005 - حدثنا هارون بن إسحاق قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : لما كان يوم أحُد ولقينا المشركين ، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا بإزاء الرماة ، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير ، وقال لهم : " لا تبرحوا مكانكم ، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعينونا " . فلما التقى القوم ، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهنّ ، فجعلوا يقولون : " الغنيمة ، الغنيمة " ! قال عبد الله : مهلا! أما علمتم ما عهدَ إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا ، فانطلقوا ، فلما أتوهم صرف الله وجوههم ، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا.
__________
(1) في التعليق على الأثر السالف : 7943 ، ذكرت أن المخطوطة هناك ، كان فيها " لر " غير منقوطة ، واستظهرت مرجحًا أنها " كر " ، ولكنه عاد هنا في المخطوطة ، فكتبها " حمل " واضحة ، فأخشى أن يكون هذا هو الصواب الراجح.
(2) الأثر : 8004 - الأثر السالف رقم : 7943 ، والتاريخ 3 : 14 ، 15.

(7/282)


8006 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه. (1)
8007 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه " ، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال حتى نزل أحدًا ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذَّن في الناس ، فاجتمعوا ، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلا من قريش يقال له : مصعب بن عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر ، (2) وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وقال : " استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك " . وأمر بخيل أخرى ، فكانوا من جانب آخر ، فقال : " لا تبرحوا حتى أوذنكم " . وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه ، كما قال : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون " ، وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم. (3)
8008 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني
__________
(1) الأثران : 8005 ، 8006 - تاريخ الطبري 3 : 13 ، 14 وانظر مسند أحمد 4 : 293 ، 294.
(2) في المطبوعة : " بالجسر " ، وهو خطأ ، " والحسر " جمع حاسر ، وهم الرجالة الذين لا خيل لهم ، يقال : سموا بذلك لأنهم يحسرون عن أيديهم وأرجلهم. ويقال إنه يقال لهم " حسر " ، لأنه لا بيض لهم ولا دروع يلبسونها.
(3) الأثر : 8007 - تاريخ الطبري 3 : 14.

(7/283)


محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، (1) وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا - في قصة ذكرها عن أحد - ذكر أن كلهم قد حدَّث ببعضها ، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث ، فكان فيما ذكر في ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحُد في عُدوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحُد ، وقال : " لا يقاتلنَّ أحدٌ ، حتى نأمره بالقتال " . (2) وقد سرَّحت قريش الظهر والكُراع ، (3) في زروع كانت بالصَّمغة من قناة للمسلمين ، (4) فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أترعى زروع بني قيلة ولما نُضارِب! (5) وتعبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمئة رجل ، (6) وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، (7) ومعهم مائتا فرس قد جَنَبوها ، (8) فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير ، أخا بني عمرو بن عوف ، وهو يومئذ مُعلم بثياب بيض ، والرماةُ خمسون رجلا وقال : " انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك ، لا نؤتيَنَّ من قبلك " . (9) فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض. (10) واقتتلوا ، حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب ، في رجال من المسلمين. فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده ، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم ، وكانت الهزيمةَ لا شك فيها. (11)
8009 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده قال ، قال الزبير : والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمِّرات هوارب ، (12) ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أن محمد بن يحيى. . . " ، والصواب من سيرة ابن هشام 3 : 64 وتاريخ الطبري 3 : 9.
(2) في المطبوعة : " لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال " ، وفي المخطوطة مثله ، إلا أنه كتب : " نأمره " والصواب من سيرة ابن هشام ، ومن تاريخ الطبري.
(3) الظهر : الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع : اسم يجمع الخيل والسلاح ، ويعني هنا الخيل.
(4) " الصمغة " : أرض في ناحية أحد. و " قناة " واد يأتي من الطائف ، حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد.
(5) بنو قيلة : هم الأوس والخزرج ، الأنصار. وقيلة : أم قديمة لهم ينسبون إليها.
(6) في المطبوعة : " وصفنا رسول الله. . . " ، وهو خطأ محض ، والصواب من سيرة ابن هشام ، والتاريخ ، والمخطوطة ، وهي فيها غير منقوطة.
(7) في المطبوعة : " وتصاف قريش. . . " ، وهو خطأ صرف ، والصواب من التاريخ ، ومن المخطوطة وهي فيها غير منقوطة.
(8) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو مجنوب وجنيب ، وخيل جنائب : إذا قادهما إلى جنبه. ويقال : " خيل مجنبة " بتشديد النون مثلها.
(9) نضح عنه : ذب عنه ، ورد عنه ونافح.
(10) هذا اختصار مخل جدًا ، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق ، والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري هنا. وذلك أنه من أول قوله : " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة. . . " مقدم على قوله : " وتعبأت قريش " ، وذلك في السيرة 3 : 69 ، 71. أما قوله : " فلما التقى الناس " فإنه يأتي في السيرة في ص 72 ، وسياق الجملة : " فلما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم " ، وساق ما كان من أمرهن ، ثم قال : " قال ابن إسحاق : فاقتتل الناس حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس " ، أما قوله بعد ذلك : " وحمزة بن عبد المطلب. . . " ، فهو عطف علي " وقاتل أبو دجانة " ، استخرجه الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق 3 : 77 ، لا من نصه. وقد تركت ما في التفسير على حاله ، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما قوله : " ثم أنزل الله نصره. . . " إلى آخر الأثر فهو في السيرة 3 : 82.
(11) الأثر : 8008 - هذا أثر ملفق من نص ابن إسحاق ، وهو فيما رواه ابن هشام في سيرته من مواضع متفرقة كما سترى 3 : 69 ، 70 / ثم ص : 72 / ثم ص : 77 / ثم ص 82 ، وانظر التعليق السالف. ثم انظر تاريخ الطبري 3 : 13 / ثم ص16. وقوله : " حسوهم " أي قتلوهم واستأصلوهم ، كما سيأتي في تفسير الآية بعد.
(12) في المخطوطة : " مسموات هوادن " وضبط الكلمة الأولى بالقلم بفتح الميم وضم السين وميم مشددة مفتوحة !! وهذا أعجب ما رأيت من السهو والغفلة! والكلمتان خطأ محض ، وفي المطبوعة : " هوازم " ، والصواب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. و " الخدم " جمع خدمة : وهي الخلخال ، ويجمع أيضًا " خدام " بكسر الخاء. " شمر تشميرًا فهو مشمر " : جد في السير أو العمل وأسرع ومضى مضيًا ، وأصله من فعل العادي إذا جد في عدوه وشمر عن ساقه وجمع ثوبه في يده ، ليكون أسرع له.

(7/284)


يريدون النهب ، وخلَّوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا. وصرخ صارخٌ : " ألا إنّ محمدًا قد قُتل " ! فانكفأنا ، وأنكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ، (1) حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم. (2)
8010 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، أي : لقد وفَيتُ لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم. (3)
8011 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، وذلك يوم أحد ، قال لهم : " إنكم ستظهرون ، فلا أعرِفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا ، (4) حتى تفرُغوا " ! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عَهْده الذي عَهِده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " بعد أن رأينا أصحابناب " وضرب على " بنا " من " أصحابنا " ، فاجتهد الناشر قراءة هذا الكلام الفاسد فجعل مكان " أصبنا " " هزمنا " ولكني رددته إلى نص ابن إسحاق من رواية ابن هشام في السيرة ، والطبري في التاريخ. " انكفأ " : مال ورجع وانقلب ، وهو صورة حركة الراجع ، من انكفاء الإناء إذا أملته ناحية ، و " انكفأوا علينا " ، أي مالوا راجعين عليهم.
(2) الأثر : 8009 - سيرة ابن هشام 3 : 82 ، وهو تابع آخر الأثر السالف رقم : 8008 ، وفي تاريخ الطبري 3 : 16 ، 17.
(3) الأثر : 8010 - سيرة ابن هشام 3 : 120 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8002.
(4) في المخطوطة : " فلا عرض ما أصبتم " ، وفي المطبوعة : " فلا تأخذوا ما أصبتم " ، تصرف في طلب المعنى ، وهو خطأ ، وستأتي على الصواب في الأثر رقم : 8025 ، في المطبوعة والمخطوطة معًا ، كما كتبتها هنا. وقوله : " فلا أعرفن ما أصبتم. . . " ، يعني : لا يبلغني أنكم أصبتم من غنائمهم شيئًا. وقولهم : " لا أعرفن كذا " و " ولأعرفن كذا " كلمة تقال عند الوعيد والتهديد والزجر الشديد. وانظر مجيئها في الأثرين رقم : 8158 ، 8160 والتعليق عليهما. وانظر الدر المنثور 2 : 85.
(5) انظر الأثر الآتي رقم : 8025.

(7/286)


القول في تأويل قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولقد وَفَى الله لكم ، أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحُد ، حين " تحُسُّونهم " ، يعني : حين تقتلونهم.
* * *
يقال منه : " حسَّه يَحُسُّه حسًا " ، إذا قتله ، (1) كما : -
8012 - حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال ، حدثنا يعقوب بن عيسى قال ، حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : " إذ تحُسُّونهم بإذنه " ، قال : الحسُّ : القتل. (2)
8013 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه قال : سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل : " إذ تحسُّونهم " ، قال : القتل.
8014 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الحس " فيما سلف 6 : 443.
(2) الأثر : 8012 - " محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطى " ، مضى القول فيه برقم : 2867 ، 2868 ، 2888 ، وفي 2868 " محمد بن عبيد الله بن سعيد " . و " يعقوب بن عيسى " هو : " يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري " ، سلف في رقم : 2867. و " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز. . . الزهري " ، هو الأعرج ، المعروف بابن أبي ثابت ، قيل : " ليس بثقة ، إنما كان صاحب شعر " ، وقال يحيى : " رأيته ببغداد ، كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. ليس حديثه بشيء " . مترجم في التهذيب. و " محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف " قال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال أبو حاتم : " هم ثلاثة إخوة : محمد بن عبد العزيز ، وعبد الله بن عبد العزيز ، وعمران بن عبد العزيز ، وهم ضعفاء الحديث ، ليس لهم حديث مستقيم ، وليس لمحمد عن أبي الزناد ، والزهري ، وهشام بن عروة ، حديث صحيح " . مترجم في الكبير 1 / 1 / 167 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 7.

(7/287)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إذ تحسونهم بإذنه " ، قال : تقتلونهم.
* * *
8015 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم " ، أي : قتلا بإذنه.
8016 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إذ تحسونهم " ، يقول : إذ تقتلونهم.
8017 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إذ تحسونهم بإذنه " ، والحس القتل.
8018 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " ، يقول : تقتلونهم.
8019 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ تحسونهم " بالسيوف : أي القتل. (1)
8020 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : " إذ تحسونهم بإذنه " ، يعني : القتل.
8021 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : " إذ تحسونهم بإذنه " ، يقول : تقتلونهم.
* * *
وأما قوله : " بإذنه " ، فإنه يعني : بحكمي وقضائي لكم بذلك ، وتسليطي إياكم عليهم ، (2) كما : -
__________
(1) الأثر : 8019 - سيرة ابن هشام 3 : 120 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8010 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " أي : بالقتل " ، والباء زيادة لا خير فيها ، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 2 : 449 ، 450 / 4 : 286 ، 371 / 5 : 352 ، 355 ، 395.

(7/288)


8022 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : إذ تحسونهم بإذني ، وتسليطي أيديكم عليهم ، وكفِّي أيديهم عنكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " حتى إذا فشلتم " ، حتى إذا جبنتم وضعفتم (2) " وتنازعتم في الأمر " ، يقول : واختلفتم في أمر الله ، يقول : وعصيتم وخالفتم نبيكم ، فتركتم أمره وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرَهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشِّعب بأحُد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين ، الذين ذكرنا قبلُ أمرَهم.
وأما قوله : " من بعد ما أراكم ما تحبون " ، فإنه يعني بذلك : من بعد الذي أراكم الله ، أيها المؤمنون بمحمد ، من النصر والظفر بالمشركين ، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها ، وقبل خروج خيل المشركين على المومنين من ورائهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
__________
(1) الأثر : 8022 - سيرة ابن هشام 3 : 120 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8019.
(2) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7 : 168.

(7/289)


وقد مضى ذكر بعض من قال ، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى.
*ذكر من قال ذلك :
8023 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " ، أي اختلفتم في الأمر " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذاكم يوم أحد ، عهد إليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وأمرَهم بأمر فنسوا العهد ، وجاوزوا ، (1) وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقذف عليهم عدوَّهم ، (2) بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون.
8024 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسًا من الناس - يعني : يوم أحُد - فكانوا من ورائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كونوا هاهنا ، فردّوا وجه من فرَّ منا ، (3) وكونوا حرسًا لنا من قِبل ظهورنا " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه ، قال الذين كانوا جُعلوا من ورائهم ، بعضهم لبعض ، (4) لما رأوا النساء مُصْعِدات في الجبل ورأوا الغنائم ،
__________
(1) في المطبوعة : " وجاوزوا " ، وهي ضعيفة المعنى هنا. ولم تذكر كتب اللغة " حاوز " لكنهم قالوا : " انحاز القوم وتحوزوا وتحيزوا : تركوا مركزهم ومعركة قتالهم وتنحوا عنه ، ومالوا إلى موضع آخر " . وانظر ما سلف في التعليق على رقم : 7524 ، من قوله : " تحاوز الناس " .
(2) في المطبوعة : " فانصرف عليهم " ، ولا معنى لها ، ولكنه أخذها من الأثر التالي 8025 ، من رسم المخطوطة هناك. وفي الدر المنثور 2 : 85 " فانصر عليهم " ، ولا معنى لها أيضًا. وهي في المخطوطة هنا " فصرف " ، فرجحت أن يكون هذا تصحيف " فقذف " ، فأثبتها ، وهي سياق المعنى حين انحطت عليهم خيل المشركين من ورائهم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " من قدمنا " ، والصواب من تاريخ الطبري. وفي الدر المنثور 2 : 84 " من ند منا " ، يقال " ند البعير " ، إذا نفر وشرد وذهب على وجهه ، ولا بأس بمعناها هنا.
(4) في المطبوعة : " اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم فقال بعضهم لبعض " ، زاد الناشر الأول " اختلف " ، أما المخطوطة ، والدر المنثور 2 : 84 ، فليس فيها " اختلف " ، والكلام بعد كما هو ، وهو مضطرب ، ورددته إلى الصواب من تاريخ الطبري ، حذفت " فقال " من وسط الكلام ، ووضعت " قال " في أوله.

(7/290)


قالوا : " انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها " ! وقالت طائفة أخرى : " بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا " ! فذلك قوله : " منكم من يريد الدنيا " ، للذين أرادوا الغنيمة " ومنكم من يريد الآخرة " ، للذين قالوا : " نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا " . فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول : " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة.
8025 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " حتى إذا فشلتم " ، يقول : جبنتم عن عدوكم " وتنازعتم في الأمر " ، يقول : اختلفتم " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذلك يوم أحد قال لهم : " إنكم ستظهرون ، فلا أعرفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا حتى تفرغوا " ، (1) فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به ، فانقذف عليهم عدوهم ، (2) من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون. (3)
8026 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " حتى إذا فشلتم " ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : الفشَل : الجبن.
8027 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، من الفتح.
__________
(1) انظر التعليق على الأثر : 8011 ، ص : 286 ، تعليق : 4.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فانصرف عليهم عدوهم " ، ولا معنى لها ، وفي الدر المنثور 2 : 85 " فانصر عليهم " ، ولا معنى لها ، وانظر التعليق السالف ص : 290 تعليق : 2.
(3) الأثر : 8025 - مضى برقم : 8011 مختصرًا.

(7/291)


8028 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " حتى إذا فشلتم " ، أي تخاذلتم (1) " وتنازعتم في الأمر " ، أي : اختلفتم في أمري " وعصيتم " ، أي : تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ؛ وما عهد إليكم ، يعني الرماة " من بعد ما أراكم ما تحبون " ، أي : الفتح لا شك فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم. (2)
8029 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : " من بعد ما أراكم ما تحبون " ، يعني : من الفتح.
* * *
قال أبو جعفر : وقيل معنى قوله : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون وأنه من المقدم الذي معناه التأخير ، (3) وإن " الواو " دخلت في ذلك ، ومعناها السقوط ، كما يقال ، (4) ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ) [سورة الصافات : 103 - 104] معناه : ناديناه. وهذا مقول في : ( حَتَّى إِذَا ) وفي( فَلَمَّا أَنْ ). [لم يأت في غير هذين]. (5) ومنه قول الله عز وجل : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثُمَّ قَالَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) [سورة الأنبياء : 96 - 97].
__________
(1) في المطبوعة : " تجادلتم " ، وهو خطأ صرف ، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 8028 - سيرة ابن هشام 3 : 121.
(3) في المطبوعة : " أنه من المقدم. . . " بإسقاط الواو ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة " كما قلنا في فلما أسلما. . . " بزيادة " في " وفي المخطوطة : " كما قلنا فلما أسلما " ، بإسقاط " في " ، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء 1 : 238 ، فهذا نص كلامه.
(5) في المطبوعة : " وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (لما) ومنه قول الله. . . " ، وفي المخطوطة : " وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (فلما أن) ، وفلما ، ومنه قول الله عز وجل " . والذي في المطبوعة تغيير لا خير فيه ، والذي في المخطوطة خطأ لا شك فيه ، فآثرت إثبات ما في معاني القرآن للفراء 1 : 238 ، فإنه نص مقالته ، وزدت منه ما بين القوسين.

(7/292)


ومعناه : اقترب ، (1) كما قال الشاعر : (2)
حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ... وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا (3) وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا... إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخَبُّ (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " منكم من يريد الدنيا ، الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب من أحُد لخيل المشركين ، ولحقوا بعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين " ومنكم من يريد الآخرة " ، يعني بذلك : الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 238.
(2) هو الأسود بن يعفر النهشلي ، وهو في أكثر الكتب غير منسوب.
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 107 ، 238 / اللسان (قمل) والجزء : 20 : 381 / تأويل مشكل القرآن : 197 ، 198 / المعاني الكبير : 533 / مجالس ثعلب : 74 / أمالي الشجري 1 : 357 ، 358 / الإنصاف لابن الأنباري : 189 / الخزانة 4 : 414 / وهو في جميعها غير منسوب ، وهو من شعر لم أجده تامًا ، ذكر أبياتًا منه البكري في معجم ما استعجم : 379 ، فيها البيت الأول وحده ، وبيتان آخران منها في اللسان (وقب) وتهذيب الألفاظ : 196. وهو من شعر يهجو فيه بني نجيح ، من بني عبد الله بن مجاشع بن دارم يقول في هجائهم : أَبَنِي نَجِيحٍ ، إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ ، وإنَّ أَبَاكُمُ وَقْبُ
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزَّادِ فَاتَّخَمَتْ ... عَنْهُ ، وَشَمَّ خِمَارَهَا الكَلْبُ
وقوله : " قملت بطونكم " ، كثرت قبائلكم. والبطون بطون القبائل.
(4) يقال : " قلبت له ظهر المجن " - والمجن : الترس ، لأنه يوارى صاحبه - كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ، ثم حال عن ذلك فعاداه. والخب (بفتح الخاء ، وكسرها) الخداع الخبيث المنكر : وفي الحديث : " المؤمن غر كريم ، والكافر خب لئيم " .

(7/293)


أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا أمره ، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم والدار الآخرة. كما : -
8030 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " منكم من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة " ، فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا ، والذين بقوا وقالوا : " لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، أرادوا الآخرة.
8031 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله.
8032 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أحد طائفة من المسلمين ، فقال : " كونوا مَسْلحة للناس " ، (1) بمنزلةٍ أمرَهم أن يثبتوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم. فلما لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين ، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وسلم! فلما رأى المسلحةُ أن الله عز وجل هزم المشركين ، انطلق بعضهم وهم يتنادون : " الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم " ! وثبت بعضهم مكانهم ، وقالوا : لا نَريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم!. ففي ذلك نزل : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها ، (2) حتى كان يوم أحد.
__________
(1) المسلحة : القوم ذوو السلاح يوكلون بثغر من الثغور يحفظونه مخافة أن يأتي منه العدو. وسميت الثغور " مسالح " من ذلك ، وهي مواضع المخافة.
(2) " ما شعرت " ، أي : ما علمت ، يأتي كذلك في الأثر التالي.

(7/294)


8033 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : " أدركوا الناس ونبيَّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم ، فتكون لهم دونكم " ! وقال بعضهم : " لا نَريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم " . فنزلت : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، قال : ابن جريج ، قال ابن مسعود : ما علمنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها ، حتى كان يومئذ.
8034 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : " منكم من يريد الدنيا " ، هؤلاء الذين يجترون الغنائم (1) " ومنكم من يريد الآخرة " ، الذين يتبعونهم يقتلونهم.
8035 - حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي عن عبد خير قال : قال عبد الله : ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " . (2)
8036 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن عبد خير قال ، قال ابن مسعود : ما كنت أظن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أحدًا يريد الدنيا ، حتى قال الله ما قال.
8037 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع
__________
(1) في المطبوعة : " يحيزون الغنائم " ، وهو خطأ ، والكلمة في المخطوطة غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها. واجتر الشيء : جره ، يعني يطلبونها إلى أنفسهم.
(2) الأثر 8035 - " الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي " ، مضى مرارًا ، وسلف ترجمته في رقم : 1625 ، وكان في المطبوعة : " العبقري " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط. وأما " عبد خير " ، فهو " عبد خير بن يزيد الهمداني " . أدرك الجاهلية ، وروي عن أبي بكر ، وابن مسعود وعلي ، وزيد بن أرقم ، وعائشة. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.

(7/295)


قال ، قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم : ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم.
8038 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان ابن مسعود يقول : ما شعرتُ أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضها ، حتى كان يومئذ. (1)
8039 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق " منكم من يريد الدنيا " ، أي : الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وتركَ ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة " ومنكم من يريد الآخرة " ، أي : الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة فيها ، (2) رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ثم صرفكم ، أيها المؤمنون ، عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم ، من هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم ، فردَّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي ، ومخالفتكم طاعته ، وإيثاركم الدنيا على الآخرة ،
__________
(1) الأثر : 8038 - هو من بقية الأثر السالف : 8024 ، ورواه في تاريخه 3 : 14.
(2) في المطبوعة : " لم يخالفوا " بإسقاط الواو ، وأثبتها من المخطوطة وابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة : " لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله " ، وهو كلام يتلجلج ، والصواب ما في سيرة ابن هشام ، وهو الذي أثبت.
(3) الأثر : 8039 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8028.

(7/296)


- عقوبةً لكم على ما فعلتم ، " ليبتليكم " ، يقول : ليختبركم ، (1) فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم. كما : -
8040 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد : " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " .
8041 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن في قوله : " ثم صرفكم عنهم " ، قال : صرف القوم عنهم ، فقتل من المسلمين بعدَّة من أسروا يوم بدر ، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشُجّ في وجهه ، وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربهم " ؟ فنزلت : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) [سورة آل عمران : 128] ، الآية. فقالوا : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر ؟ فأنزل الله عز وجل : " ولقد صدقكم الله وعده " إلى قوله : " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم " .
8042 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " ، أي : صرفكم عنهم ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ابتلى " فيما سلف 2 : 49 / 3 : 7 ، 220 / 5 : 339.
(2) الأثر : 8042 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8039. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة ، سقط بعض الكلام ، فاضطرب لفظه ، ويستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.

(7/297)


القول في تأويل قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولقد عفا عنكم " ، ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم ، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه ، عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم ، وصرفِ وجوهكم عنهم ، (1) إذ لم يستأصل جمعكم ، كما : -
8043 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : " ولقد عفا عنكم " ، قال : قال الحسن ، وصفَّق بيديه : وكيف عفا عنهم ، وقد قتل منهم سبعون ، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشج في وجهه ؟ قال : ثم يقول : قال الله عز وجل : " قد عفوت عنكم إذ عصيتموني ، أن لا أكون استأصلتكم " . قال : ثم يقول الحسن : هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله غضابٌ لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تركوا حتى غُمُّوا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يَتَجَرْثَمُ كل كبيرة ، (2) ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف يعلم.
8044 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " ولقد عفا عنكم " ، قال : لم يستأصلكم.
__________
(1) في المخطوطة : " وصرف وجوهكم عنه " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة : " يتجرأ على كل كبيرة " ، تصرف في نص المخطوطة ، وتجرثم الشيء : أخذ معظمه ، وجرثومة كل شيء : أصله ومجتمعه.

(7/298)


إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

8045 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد عفا عنكم " ، ولقد عفا الله عن عظيم ذلك ، لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ، ولكن عُدْت بفضلي عليكم. (1)
* * *
وأما قوله : " والله ذو فضل على المؤمنين " ، فإنه يعني : والله ذو طَوْل على أهل الإيمان به وبرسوله ، (2) بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم ، فإن عاقبهم على بعض ذلك ، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم. كما : -
8046 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين " ، يقول : وكذلك منَّ الله على المؤمنين ، أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة ، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم ، لما أصابوا من معصيته ، رحمةً لهم وعائدة عليهم ، لما فيهم من الإيمان. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولقد عفا عنكم ، أيها المؤمنون ، إذ لم يستأصلكم ، إهلاكًا منه جمعكم بذنوبكم وهربكم " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد " .
* * *
__________
(1) الأثر : 8045 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8042.
(2) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف 2 : 344 / 5 : 164 ، 571 / 6 : 156.
(3) الأثر : 8046 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8045. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة فساد قبيح. يستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.

(7/299)


واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري : ( إِذْ تُصْعِدُونَ ) بضم " التاء " وكسر " العين " . وبه القراءة عندنا ، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به ، واستنكارهم ما خالفه.
* * *
وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : ( إِذْ تَصْعَدُونَ ) ، بفتح " التاء " و " العين " .
8047 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن هرون ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن.
* * *
فأما الذين قرأوا : (تُصْعِدُون) بضم " التاء " وكسر " العين " ، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أنّ القوم حين انهزموا عن عدوِّهم ، أخذوا في الوادي هاربين. وذكروا أنّ ذلك في قراءة أبي : ( " إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي " ).
8048 - حدثنا [بذلك] أحمد بن يوسف قال ، حدثنا أبو عبيد قال ، حدثنا حجاج ، عن هرون.
* * *
قالوا : فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية و الشعاب : " إصعاد " ، لا صعود. (1) قالوا وإنما يكون " الصعود " على الجبال والسلاليم والدَّرج ، لأن معنى " الصعود " ، الارتقاء والارتفاع على الشيء عُلوًا. (2) قالوا : فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط ، فإنما هو " إصعاد " ، كما يقال : " أصعَدْنا من مكة " ، إذا بتدأت في السفر منها والخروج " وأصعدنا
__________
(1) في المطبوعة : " قالوا : الهرب في مستوى الأرض " . وفي المخطوطة : " بالهرب " ، والصواب ما أثبت.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 105 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 239.

(7/300)


من الكوفة إلى خراسان " ، بمعنى : خرجنا منها سفرًا إليها ، وابتدأنا منها الخروج إليها.
قالوا : وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل ، بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي.
*ذكر من قال ذلك :
8049 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تلوون على أحد " ، ذاكم يوم أحد ، أصعدوا في الوادي فرارًا ، (1) ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم : " إلىَّ عباد الله ، إلى عباد الله " !. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأما الحسن ، فإني أراه ذهب في قراءته : " إذ تَصْعَدون " بفتح " التاء " و " العين " ، إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل. وقد قال ذلك عددٌ من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8050 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما شدَّ المشركون على المسلمين بأحُد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم على الجبل ، ثم ذكر دعاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم ، فقال : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . (3)
__________
(1) في المخطوطة : " في الوادي نبي الله " وما بينهما بياض ، وما ثبت في المطبوعة ، صواب موافق لما في الدر المنثور 2 : 87 ، على خطأ ظاهر في الدر.
(2) في المخطوطة : " قال عباد الله قال عباد الله " ، والذي في المطبوعة هو الصواب الموافق لما في الدر المنثور 2 : 87 ، إلا أن ناشر المطبوعة زاد " قال " قبل : " إلى عباد الله " ، وهو فاسد فخذفتها ، فإن الذي في المخطوطة تصحيف " إلى. . . إلى " . وانظر الأثر التالي : 8050.
(3) الأثر : 8050 - هو بعض الأثر السالف : 7943 ، مع زيادة فيه ، وفي تاريخ الطبري أيضًا 3 : 20 ، مع زيادة هنا.

(7/301)


8051 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم.
8052 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
8053 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس ، قوله : " إذ تصعدون ولا تلووْن على أحد " ، قال صعدوا في أحُدٍ فرارًا.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ : " إذ تُصعِدون " ، بضم " التاء " وكسر " العين " ، بمعنى : السبق والهرب في مستوى الأرض ، أو في المهابط ، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك ، الدليلُ الواضح على أنّ أولى التأويلين بالآية ، تأويل من قال : " اصْعدوا في الوادي ومضوْا فيه " ، دون قول من قال : " صعدوا على الجبل " .
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " ولا تلوون على أحد " ، فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ، هربًا من عدوّكم مُصْعدين في الوادي. (1)
* * *
ويعني بقوله : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه " في أخراكم " ، يعني : أنه يناديكم من خلفكم : " إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله " !. (2) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " لوى " فيما سلف : 6 : 536 ، 537.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 105 ، ومعاني القرآن للفراء : 1 : 239.

(7/302)


8054 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، إليّ عباد الله ارجعوا ، إليّ عباد الله ارجعوا!.
8055 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : " إليّ عباد الله " !
8056 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي مثله.
8057 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، أنَّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم ، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . (1)
8058 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، هذا يوم أحد حين انكشف الناسُ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فأثابكم غمًّا بغم " ، يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوكم ، ومعصيتكم ربكم " غمًّا بغم " ، يقول : غما على غم.
* * *
__________
(1) الأثر : 8057 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8046.

(7/303)


وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال " ثوابًا " ، إذ كان عوضًا من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم ، (1) فدلّ بذلك جل ثناؤه أنّ كل عوض كان لمعوَّض من شيء من العمل ، خيرًا كان أو شرًّا أو العوض الذي بذله رجل لرجل ، أو يد سلفت له إليه ، فإنه مستحق اسم " ثواب " ، كان ذلك العوض تكرمةً أو عقوبة ، ونظير ذلك قول الشاعر : (2)
أخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُه... أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (3)
فجعل " العطاء " القيود. (4) وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه : " لأجازينَّك على فعلك ، ولأثيبنك ثوابك " . (5)
* * *
وأما قوله : " غمًّا بغم " ، فإنه قيل : " غمًّا بغم " ، معناه : غمًّا على غم ، كما قيل : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) [سورة طه : 71] ، بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز ذلك ، لأن معنى قول القائل : " أثابك الله غمًّا على غم " ، جزاك الله
__________
(1) في المطبوعة : " إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه " ، وكان في المخطوطة مكان " ذلك " بياض ، والصواب ما أثبت ، استظهارًا من كلام أبي جعفر التالي.
(2) هو الفرزدق.
(3) ديوانه : 227 ، النقائض : 618 ، طبقات فحول الشعراء : 256 ، وتاريخ الطبري 6 : 139 ، معاني القرآن للفراء 1 : 239 ، وغيرها. من شعره في زياد بن أبي سفيان ، وهو يلي الأبيات التي ذكرتها في التفسير آنفًا 2 : 195 ، تعليق : 1 ، والرواية التي ذكرها الطبري هنا ، متابعة للفراء ، وهي لا تستقيم مع الشعر ، وأجمع الرواة على أنه : فلمَّا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نَمَيْتُ إلَى حَرْفٍ أَضَرَّ بِنَيِّها ... سُرَى البِيدِ وَاسْتِعْراضُهَا البَلَدَ القَفْرَا
والأداهم جمع أدهم : وهو القيد ، سمي بذلك لسواده. والمحدرجة : السياط. حدرج السوط : فتله فتلاً محكمًا حتى استوى. وجعلها " سمرًا " ، لأدمة جلدها الذي تصنع منه.
(4) في المطبوعة : " فجعل العطاء العقوبة " ، والصواب من المخطوطة ، ولا أدري لم غيره الناشر الأول.
(5) انظر لما سلف ، معاني القرآن للفراء 1 : 239 ، وانظر معنى " الثواب " فيما سلف قريبًا : 2 : 458 / 7 : 272 ، وقد نسيت أن أذكر مرجعه هناك.

(7/304)


غمًّا بعد غم تقدَّمه ، (1) فكان كذلك معنى : " فأثابكم غمًّا بغم " ، لأن معناه : فجزاكم الله غمًّا بعقب غمّ تقدمه ، (2) وهو نظير قول القائل : " نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان " ، " وضربته بالسيف وعلى السيف " . (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم ، وما كان غمُّهم الأول والثاني ؟
فقال بعضهم : " أما الغم الأول ، فكان ما تحدَّث به القوم أنّ نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأما الغمّ الآخر ، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح " .
*ذكر من قال ذلك :
8059 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأثابكم غمًّا بغم " ، كانوا تحدَّثوا يومئذ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أصيب ، وكان الغم الآخر قَتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم. قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ستة وستون رجلا من الأنصار ، وأربعة من المهاجرين وقوله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم " ولا ما أصابكم " ، في أنفسكم من القتل والجراحات.
8060 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فأثابكم غمًّا بغم " ، قال : فرّة بعد فرّة : الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدًا قد قتل ، والثانية حين رجع الكفار ، فضربوهم مدبرين ، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا ثم انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم.
__________
(1) في المطبوعة : " يقدمه " في الموضعين ، وهو خطأ لا شك فيه.
(2) في المطبوعة : " يقدمه " في الموضعين ، وهو خطأ لا شك فيه.
(3) انظر ما سلف 1 : 299 ، 313 / 2 : 411 ، 412.

(7/305)


8061 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
* * *
وقال آخرون : " بل غمهم الأول كان قتْل من قتل منهم وجرح من جرح منهم. والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل : " قُتل محمد " ، صلى الله عليه وسلم .
*ذكر من قال ذلك :
8062 - حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " غمًّا بغم " ، قال : الغم الأول : الجراحُ والقتل ، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " .
* * *
8063 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فأثابكم غمًّا بغم " ، قال : الغم الأول الجراح والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول الله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " .
وقال آخرون : " بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة ، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشِّعب. وذلك أن أبا سفيان - فيما زعم بعض أهل السير - لما أصاب من المسلمين ما أصاب ، وهرب المسلمون ، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أحد ، الذي كانوا ولَّوا إليه عند الهزيمة ، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. (1)
__________
(1) إذا أبيد القوم من أصلهم واستأصلهم عدوهم قيل : " اصطلموا " بالبناء للمجهول.

(7/306)


*ذكر الخبر بذلك :
8064 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه ، وضع رجل سهمًا في قوسه ، فأراد أن يرميَه ، فقال : " أنا رسول الله! " ، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. (1) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه ، نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمَّهم أبو سفيان ، (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تُعبَد " ! ثم ندَب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، فقال أبو سفيان يومئذ : " اعْلُ هُبَل! حنظلة بحنظلة ، ويوم بيوم بدر " ! وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب ، وكان جُنُبًا فغسَّلته الملائكة ، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر وقال أبو سفيان : " لنا العُزَّى ، ولا عُزَّى لكم " ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : " قل الله مولانا ولا مولى لكم " ! فقال أبو سفيان : فيكم محمد ؟ (3) قالوا : نعم! قال : " أما إنها قد كانت فيكم مُثْلة ، ما أمرتُ بها ، ولا نهيتُ عنها ، ولا سرَّتني ، ولا ساءتني " ! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال : " فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، الغم الأول : ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والغم الثاني :
__________
(1) انظر ما سلف : 256 تعليق : 1 ، فإني زدت " به " من التاريخ ، ولكنه عاد هنا في المخطوطة فأسقطها ، فاتفقت المخطوطة في الموضعين ، فتركت هذه على حالها ، وإن كنت لا أرتضيها.
(2) في التاريخ " وأهمهم " ، وهمه الأمر وأهمه ، سواء في المعنى.
(3) في التاريخ : " أفيكم محمد " بالألف ، وهما سواء.

(7/307)


إشراف العدوّ عليهم " لكيلا يحزنوا على ما فاتكم " ، من الغنيمة " ولا ما أصابكم " من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان. (1)
8065 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، فيما ذكَروا من حديث أحُد ، قالوا : كان المسلمون في ذلك اليوم - لما أصابهم فيه من شدة البلاء - أثلاثًا ، ثلثٌ قتيل ، وثلثٌ جريح ، وثلثٌ منهزم ، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع (2) وحتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشِقِّه ، وأصيبتْ رَباعيته ، وشجَّ في وجهه ، وكُلِمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. (3) (4) وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل ، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي ، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى قريش فقال : " قتلت محمدًا " . (5)
8066 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس : " قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن
__________
(1) الأثر 8064 - تاريخ الطبري 3 : 20 ، 21 ، وبعضه في الأثرين السالفين : 7943 ، 8050 ، وكلها سياق واحد في التاريخ.
(2) هذه الفقرة من الأثر ، لم أجدها في سيرة ابن هشام.
(3) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3 : 84 ، وانظر التخريج في آخره. ودثه بالعصا وبالحجر رماه رميًا متتابعًا ، أو ضربه بالعصا ضربًا متقاربًا من وراء الثياب حتى يأخذه الألم. والشق : الجنب. والكلم : الجرح.
(4) الفقرة التالية من الأثر في سيرة ابن هشام 3 : 77 ، قبل السالفة.
(5) الأثر : 8065 - هذا أثر ملفق من سيرة ابن إسحاق ، كما رأيت في التعليقين السالفين ، وهو فيها من 3 : 84 / 3 : 77 / والقسم الأول لم أعثر عليه فيها.

(7/308)


إسحاق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري كعبُ بن مالك أخو بني سلِمة قال : عرفتُ عينيه تَزْهَران تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : " يا معشر المسلمين : أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ! فأشار إليَّ رسو ل الله أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ، ونهض نحو الشعب ، معه عليّ بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوّام ، والحارث بن الصِّمة ، (1) في رهط من المسلمين. (2) .
قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا " ! فقاتل عمرُ بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ، حتى أهبطوهم عن الجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُدِّن ، فظاهرَ بين درعين ، (3) فلما ذهب لينهض ، فلم يستطع ، جلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض حتى استوى عليها. (4) .
ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى
__________
(1) في المطبوعة : " والحارث بن الصامت " ، والصواب من المخطوطة والمراجع ، ولا أدري فيم غيره الناشر الأول!!
(2) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3 : 88 ، 89.
(3) بدن الرجل تبدينا : ألبسه البدن ، أي الدرع. وقد مضى شراح السيرة ، فزعموا أن " بدن " (بالبناء للمعلوم) هنا ، معناها : أسن. قال أبو ذر الخشني في تفسير غريب سيرة ابن هشام : 228 " بدن الرجل ، إذا أسن. وبدن ، إذا عظم بدنه من كثرة اللحم " . وكلا التفسيرين خطأ هنا ، وإن كان صحيحًا في اللغة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يوم قاتل في أحد مسنًا ولا بلغ في السن ما يضعفه. وأيضًا فإنه ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، لم يوصف قط بالبدانة والسمن. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصلاة : " إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود " ، فإنه لم يعن البدانة ، وإنما أراد أن الحركة قد ثقلت عليه ، كما تثقل على الرجل البادن. ولو قرئت في " بدن " بالبناء للمعلوم لكان عربية صحيحة.
وأما قوله : " ظاهر بين درعين " ، أي ليس إحداهما على الأخرى ، وكذلك " ظاهر بين ثوبين ، أو نعلين " ، لبس أحدهما على الآخر.
(4) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3 : 91 ، وتاريخ الطبري 3 : 21.

(7/309)


صوته : " أنعمْتَ فعالِ! إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر ، اعْلُ هُبَل " ، أي : أظهر دينك ، (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : " قم فأجبه ، فقل : الله أعلى وأجل! لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " ! فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : " هلم إليَّ يا عمر " ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائته فانظر ما شأنُه " ؟ فجاءه ، فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمدًا ؟ فقال عمر : اللهمّ لا وإنه ليسمع كلامك الآن!. فقال : أنت أصدقُ عندي من ابن قميئة وأبرُّ! (2) لقول ابن قميئة لهم : إنّي قتلت محمدًا ثم نادى أبو سفيان ، فقال : إنه قد كان في قتلاكم. مُثْلة ، والله ما رضيتُ ولا سخطتُ ، ولا نهيت ولا أمرتُ. (3)
8067 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق : " فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، أي : كربًا بعد كرب ، قتلُ من قتل من إخوانكم ، وعلوّ عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : " قُتل نبيكم " ، فكان ذلك مما تتابع عليكم غمًّا بغم " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم " ولا ما أصابكم " من قتل إخوانكم ، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم " والله خبير بما تعملون " ، وكان الذي فرَّج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم ، (4) أن الله عز وجل ردّ عنهم كِذبة الشيطان بقتل نبيهم. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا بين أظهرهم ، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم ، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم ، (5) حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. (6)
8068 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فأثابكم غمًّا بغم " ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قُتلوا. فلما تولَّجُوا في الشعب وهم مصابون ، (7) وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب ، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم
__________
(1) قوله : " أنعمت " ، أي جئت بالسهم الذي فيه " نعم " ، و " عال " ، أي : تجاف عنها - عن الأصنام - ولا تذكرها بسوء. يقال : " عال عني ، وأعل عني " ، أي تنح. وذلك أن الرجل من قريش من أهل الجاهلية ، كان إذا أراد ابتداء أمر ، عمد إلى سهمين فكتب على أحدهما " نعم " وعلى الآخر " لا " ، ثم يتقدم إلى الصنم ويجيل سهامه ، فإن خرج سهم " نعم " أقدم ، وإن خرج سهم " لا " امتنع. وكان أبو سفيان لما أراد الخروج إلى أحد ، استفتى هبل ، فخرج له سهم الإنعام. فذلك تفسير كلمته. ومن لطيف أخبار الاستقسام بالأزلام. ما فعل امرؤ القيس ، حين قتل أبوه ، فاستقسم عند ذي الخلصة ، فأجال سهامه فخرج له السهم الناهي " لا " ثلاث مرات ، فجمع قداحه وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال له : " مصصت ببظر أمك! لو أبوك قتل ما عقتني!! " ، ثم خرج فقاتل ، فظفر. فيقال إنه لم يستقسم بعد ذلك بقدح عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام ، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي ، وأبطل الله أمر الجاهلية كله.
وقد قيل لأبي سفيان يوم الفتح : " أين قولك ، أنعمت فعال " ؟ فقال : " قد صنع الله خيرًا ، وذهب أمر الجاهلية " .
هذا وقد كان في المطبوعة : " أنعمت فقال إن الحرب سجال " ، وهو خطأ صرف. والحرب سجال : أي مرة لهذا ، ومرة لهذا. وقوله : " اعل هبل " قد شرحه ابن إسحاق ، فيظن بعض من يضبط السيرة أنه " أعل " (بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام) وهو خطأ ، والصواب أنه أمر من " علا " ، يريد : زد علوًا.
(2) في المطبوعة : " وأشار لقول ابن قميئة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام. وقوله : " وأبر " ، من " البر " ، وهو الصدق والخير كله.
(3) الأثر 8066 - هذا الأثر مجموع من مواضع في السيرة كما أشرت إليه ، وهي في : سيرة ابن هشام 3 : 88 ، 89 / 3 : 91 ، وتاريخ الطبري 3 : 21 / والسيرة 3 : 99.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " وكان الذي خرج عنهم " بإسقاط " به " والسياق يقتضى إثباتها ، فأثبتها من سيرة ابن هشام.
(5) في المطبوعة : " فهان الظهور عليهم " ، وفي المخطوطة : " فهذا الظهور عليهم " كتب " فهذا " في آخر " السطر " و " الظهور " في أول السطر التالي ، فلم يحسن الناشر قراءتها ، والصواب من سيرة ابن هشام.
(6) الأثر : 8067 - سيرة ابن هشام 3 : 121 ، 122 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8057.
(7) في المطبوعة : " فلما تولجوا في الشعب يتصافون " ، وهو لا معنى له ، والصواب من المخطوطة إلا أن كاتبها كان قد سقط من كتابته من أول " وهم مصابون " إلى " باب الشعب " ، فكتبها في الهامش. فاستعجمت على الناشر الأول قراءتها.

(7/310)


فيقتلونهم أيضًا ، فأصابهم حزن في ذلك أيضًا أنساهم حُزنهم في أصحابهم ، فذلك قوله : " فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " قال ابن جريج ، قوله : " على ما فاتكم " ، يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم " ولا ما أصابكم " ، في أنفسكم.
8069 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج. قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد بن عمير قال : جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه ، حتى وقف بالشعب ، ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة ؟ (1) فسكتوا ، فقال أبو سفيان : قُتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فسكتوا ، فقال : قُتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا ، فقال : قُتل ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان : اعل هُبل ، يوم بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة ، وأنتم واجدون في القوم مَثْلا (2) لم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا ، ولم نكرهه حين رأيناه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : قم فناد فقل : الله أعلى وأجل! نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا! لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما : -
__________
(1) " ابن أبي كبشة " ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان المشركون يذكرون رسول الله. فقيل إن " أبا كبشة " ، رجل من خزاعة ، خالف قريشًا في عبادة الأوثان وعبد الشعري العبور ، فذكروه بذلك لمخالفته إياهم إلى عبادة الله تعالى ، كما خالفهم أبو كبشة إلى عبادة الشعري. ويقال : إنها كنية وهب بن عبد مناف ، جد رسول الله من قبل أمه ، فنسب إليه ، لأنه نزع إليه في الشبه. ويقال : هي كنية زوج حليمة السعدية التي أرضعته صلى الله عليه وسلم.
(2) في المخطوطة : " وأنتم واحد ورقى القوم سلا " ، وهو كلام " فاسد " صوابه في المطبوعة. والمثل (بفتح الميم وسكون الثاء) مصدر " مثل بالقتيل " إذا جدع أنفه ، أو أذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه وجسده ، طلب التشويه لجثته. والاسم " المثلة " (بضم الميم وسكون الثاء).

(7/312)


8070 - حدثني به محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " ، فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم ، ثم لنقتلنهم! قد جرحوا منا! (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا ؛ فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني! فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم قد ائتشبوا وقد اخترطوا سيوفهم ، (2) فكان غمَّ الهزيمة وغمهم حين أتوهم " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، من القتل " ولا ما أصابكم " ، من الجراحة " فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا " الآية ، وهو يوم أحد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قولُ من قال : " معنى قوله : " فأثابكم غمًّا بغم ، " أيها المؤمنون ، بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم ، والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ - بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربَّكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ، غمَّ ظنَّكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم. (3) .
والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه ، قوله : " لكيلا تحزنوا
__________
(1) في المطبوعة : " قد خرجوا منا " ، وأسقطها السيوطى في الدر المنثور 2 : 87 ، فاستظهر ناشر الطبعة السالفة إسقاطها كما فعل السيوطي ، وهي في المخطوطة : " قد حرحوا منا " ، غير منقوطة ، كما أثبتها وصواب قراءتها ما أثبت. ومعنى : " جرحوا منا " ، أي أصابوا بعضنا بالجراحات والقتل ، وبلغوا في ذلك مبلغًا. ولم تثبت كتب اللغة ذلك ، ولكنه عربي معرق عتيق ، وما كل اللغة تثبته كتب اللغة ، وخاصة مجاز العبارات.
(2) في المطبوعة : " قد أنسوا وقد اخترطوا سيوفهم " ، وفي الدر المنثور 2 : 87 " قد ايسوا " وفي المخطوطة : " قد انسوا " غير منقوطة ، والذي في المطبوعة والدر لا معنى له ، وقد رجحت قراءتها. تأشب القوم وائتشبوا : انضم بعضهم لبعض واجتمعوا والتفوا ، وفي الحديث " فتأشب أصحابه إليه " ، أي اجتمعوا إليه وطافوا به. وأصله من " أشب الشجر " ، إذا التف وكثر حتى ضاقت فرجه ، وحتى لا مجاز فيه لمجتاز.
(3) قوله : " بعد فلولكم منهم " يعني : بعد هزيمتكم وفراركم منهم ، ولم تصرح كتب اللغة بفعل ثلاثي لازم مصدره " فلول " ، بل قالوا : " فله يفله ، فانفل " ، ولكن يرجح صواب ما في نص الطبري أنه جاء في أمثالهم : " من فل ذل " ، أي من فر عن عدوه ذل. وأما ابن كثير فقد نقل في تفسيره 2 : 270 نص الطبري هذا ، وفيه " ونبوكم منهم " ، وليست بشيء ، وكأن الصواب ما في التفسير ، فهو جيد في العربية.

(7/313)


على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، والفائت ، لا شك أنه هو ما كانوا رجَوْا الوصول إليه من غيرهم ، إما من ظهور عليهم بغلَبهم ، وإما من غنيمة يحتازونها وأنّ قوله : " ولا ما أصابكم " ، هو ما أصابهم : إما في أبدانهم ، وإما في إخوانهم.
فإن كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن " الغم " الثاني هو معنًى غير هذين. لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه أثابهم غمًّا بغم لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم ، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم ، وهو الغم الأول ، على ما قد بيناه قبل.
* * *
وأما قوله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، فإن تأويله على ما قد بيَّنت ، من أنه : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور ، وحيازة غنائمهم " ولا ما أصابكم " ، في أنفسكم. من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبلُ على السبيل التي اختلفوا فيه ، كما : -
8071 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون " ولا تحزنوا على ما أصابكم " ، من الهزيمة.
* * *
وأما قوله : " والله خبير بما تعملون " ، فإنه يعني جل ثناؤه : والله بالذي تعملون ، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هربًا من عدوكم ، وانهزامكم

(7/314)


منهم ، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم ، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم وما أصابكم في أنفسكم ذو خبرة وعلم ، وهو محصٍ ذلك كله عليكم ، حتى يجازيكم به : المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته ، أو يعفو عنه.
* * *

(7/315)


ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

القول في تأويل قوله : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ثم أنزل الله ، أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله " أمنة " ، وهي الأمان ، (1) على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك.
* * *
ثم بين جل ثناؤه ، عن " الأمنة " التي أنزلها عليهم ، ما هي ؟ فقال " نعاسًا " ، بنصب " النعاس " على الإبدال من " الأمنة " .
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " يغشى " .
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء : (يَغْشَى).
* * *
وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث : (تَغْشَى) بالتاء.
* * *
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير ، إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من
__________
(1) انظر تفسير " الأمن " فيما سلف 3 : 29 / 4 : 87.

(7/315)


المؤمنين دون الأمَنة ، فذكَّره بتذكير " النعاس " .
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث ، إلى أنّ الأمَنة هي التي تغشاهم فأنثوه لتأنيث " الأمنة " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، غير مختلفتين في معنى ولا غيره. لأن " الأمنة " في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس هو الأمنة. فسواء ذلك ، (1) وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته. وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) [سورة الدخان : 43 - 45] و( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى ) [سورة القيامة : 37] ، ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ ) [سورة مريم : 25]. (2) .
* * *
فإن قال قائل : وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما ، فأمِنت إحداهما بنفسها حتى نعست ، وأهمَّت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية ؟
قيل : كان سبب ذلك فيما ذكر لنا ، كما : -
8072 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا من قابلٍ ، فقال نعم! نعم! فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال :
__________
(1) في المطبوعة : " وسواء ذلك " بالواو ، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 240.

(7/316)


" انظر ، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم ، (1) فإن القوم ذاهبون ، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم ، (2) فإن القوم ينزلون المدينة ، فاتقوا الله واصبروا " ووطَّنهم على القتال. فلما أبصرهم الرسولُ قعدوا على الأثقال سراعًا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم. فلما رأى المؤمنون ذلك صدَّقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا ، وبقى أناس من المنافقين يظنون أنّ القوم يأتونهم. فقال الله جل وعز ، يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ويظنون بالله غير الحقّ ظن الجاهلية " .
8073 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : أمَّنهم يومئذ بنعاس غشَّاهم. وإنما ينعُسُ من يأمن " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " .
8074 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد أمنة ، حتى سقط من يدي مرارًا قال أبو جعفر : يعني سوطه ، أو سيفه.
8075 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحُد ، فجعلت ما أرى أحدًا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس. (3) .
__________
(1) الأثقال جمع ثقل (بفتحتين) : وهو متاع المسافر ، وعنى به الإبل التي تحمل المتاع. وجنب الفرس والأسير وغيره : قاده إلى جنبه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2 : 87 : " وجنبوا على أثقالهم " ، والصواب الذي لا شك فيه حذف " على " .
(3) " الحجفة " : ضرب من الترسة ، تتخذ من جلود الإبل مقورة ، يطارق بعضها على بعض ، ليس فيه خشب ، وهي الحجفة والدرقة. " ماد يميد " : مال وتحرك واضطرب.

(7/317)


8076 - حدثنا ابن بشار وابن المثني قالا حدثنا أبو داود قال ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن صبَّ عليه النعاس يوم أحد.
8077 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، حدثنا أنس بن مالك : عن أبي طلحة : أنه كان يومئذ ممن غشِيه النعاس ، قال : كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه ، من النعاس.
8078 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا ، والله أعلم ، عن أنس : أن أبا طلحة حدثهم : أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ويسقط والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همَّة إلا أنفسهم ، " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " ، الآية كلها.
8079 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا ضرار بن صُرد قال ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه قال : سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنةً نعاسًا " . قال : ألقي علينا النوم يوم أحد.
8080 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا " ، الآية ، وذاكم يوم أحد ، كانوا يومئذ فريقين ، فأما المؤمنون فغشّاهم الله النعاس أمنةً منه ورحمة.
8081 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، نحوه.
8082 - حدثنا المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمنة نعاسًا " ، قال : ألقي عليهم النعاس ، فكان ذلك أمنةً لهم.

(7/318)


8083 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين قال ، قال عبد الله : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان.
8084 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا " ، قال : أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به ، فهم نيامٌ لا يخافون. (1)
8085 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أمنة نعاسًا " ، قال : ألقى الله عليهم النعاس ، فكان " أمنة لهم " . وذكر أن أبا طلحة قال : ألقي عليًّ النعاس يومئذ ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي.
8086 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن الزبير ، أنهما قالا لقد رفعنا رءوسنا يوم أحد ، فجعلنا ننظر ، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته. قال : وتلا هذه الآية : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاسًا " .
* * *
__________
(1) الأثر : 8084 - سيرة ابن هشام 3 : 122 ، وهو من تتمة الأثار التي آخرها : 8067.

(7/319)


القول في تأويل قوله : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وطائفة منكم " ، أيها المؤمنون " قد أهمتهم أنفسهم " ، يقول : هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم ، فهم من حذر القتل على أنفسهم ، وخوف المنية عليها في شغل ، قد طار عن أعينهم الكرى ، يظنون بالله الظنون الكاذبة ، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكًا في أمر الله ، وتكذيبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وَمحْسَبة منهم أن الله خاذل نبيه ومُعْلٍ عليه أهل الكفر به ، (1) يقولون : هل لنا من الأمر من شيء. كالذي : -
8087 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبُه وأخذله للحق ، يظنون بالله غير الحق ظنونًا كاذبة ، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ).
8088 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا ) قال الله عز وجل : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) الآية.
8089 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وطائفة
__________
(1) حسب الشيء يحسبه (بكسر السين) حسبانًا (بكسر الحاء) ومحسبة ومحسبة (بكسر السين وفتحها) ، ظنه طنًا.

(7/320)


قد أهمتهم أنفسهم " ، قال : أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوُّف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبةٌ. (1)
8090 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون.
* * *
وأما قوله : " ظنّ الجاهلية " ، فإنه يعني أهل الشرك. كالذي : -
8091 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ظنّ الجاهلية " ، قال : ظن أهل الشرك.
8092 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ظن الجاهلية " ، قال : ظن أهل الشرك.
* * *
قال أبو جعفر : وفي رفع قوله : " وطائفة " ، وجهان.
أحدهما ، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : " قد أهمتهم " .
والآخر : بقوله : " يظنون بالله غير الحق " ، ولو كانت منصوبة كان جائزًا ، وكانت " الواو " ، في قوله : " وطائفة " ، ظرفًا للفعل ، بمعنى : وأهمت طائفة أنفسهم ، كما قال( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) [سورة الذاريات : 47]. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 8089 - سيرة ابن هشام 3 : 122 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8084.
(2) قد استقصى هذا الباب من العربية ، الفراء في معاني القرآن 1 : 240 - 242.

(7/321)


القول في تأويل قوله : { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك الطائفة المنافقةَ التي قد أهمَّتهم أنفسهم ، يقولون : ليس لنا من الأمر من شيء ، قل إن الأمر كله لله ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما : -
8093 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قيل لعبد الله بن أبيّ : قُتل بنو الخزرج اليوم! قال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ قيل إنّ الأمر كله لله!. (1)
* * *
وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين : " إن الأمر كله لله " ، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ.
ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين ، فقال : " يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك " يقول : يخفي ، يا محمد ، هؤلاء المنافقون الذين وصفتُ لك صفتهم ، في أنفسهم من الكفر والشك في الله ، ما لا يبدون لك. ثم أظهر نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم ، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد ، فقال مخبرًا عن قيلهم الكفرَ وإعلانهم النفاقَ بينهم : " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا " ، يعني بذلك ، أنّ هؤلاء المنافقين يقولون : لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا ، ما خرجنا
__________
(1) في المطبوعة : " قل إن الأمر كله لله " كنص الآية ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/322)


إليهم ، ولا قُتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد.
* * *
وذكر أن ممن قال هذا القول ، معتّب بن قشير ، أخو بني عمرو بن عوف.
*ذكر الخبر بذلك :
8094 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، قال ، قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير قال : والله إنّي لأسمع قول معتِّب بن قشير ، أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاسُ يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لوْ كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا! (1)
8095 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : ( قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ ) ، بنصب " الكل " على وجه النعت لـ " الأمر " والصفة له.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل البصرة : ( قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) برفع " الكل " ، على توجيه " الكل " إلى أنه اسم ، وقوله " لله " خبره ، كقول القائل : " إن الأمر بعضه لعبد الله. (2) .
* * *
وقد يجوز أن يكون " الكل " في قراءة من قرأه بالنصب ، منصوبًا على البدل.
* * *
__________
(1) لم أجد نص الخبر في سيرة ابن هشام ، في خبر أحد ، ولكني وجدت معناه والإشارة إليه قبل أحد في ذكر من اجتمع إلى يهود من منافقي الأنصار 2 : 169.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 243.

(7/323)


قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا ، النصبُ في " الكل " لإجماع أكثر القرأة عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية. ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة ، لكانت سواءً عندي القراءةُ بأيِّ ذلك قرئ ، لاتفاق معاني ذلك بأيَ وجهيه قرئ.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (154) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قل ، يا محمد ، للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين : لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم ، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين ، فيظهرَ للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم ، وتكتمونه من شككم في دينكم (1) " لبرز الذين كُتب عليهم القتل " ، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه ، من قد كتب عليه القتل منهم ، (2) ولخرج من بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كُتب عليه أن يصرع فيه. (3) .
* * *
وأما قوله : " وليبتلي الله ما في صدوركم " ، فإنه يعني به : وليبتلي الله ما في صدوركم ، أيها المنافقون ، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " من شرككم في دينكم " ، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير " برز " فيما سلف 5 : 354.
(3) في المطبوعة : " ويخرج من بيته " ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

(7/324)


ويعني بقوله : " وليبتلي الله ما في صدوركم " ، وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك ، فيميِّزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين. (1)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أنّ معاني نظائر قوله : " ليبتلي الله " و " وليعلم الله " وما أشبه ذلك ، وإن كان في ظاهر الكلام مضافًا إلى الله الوصف به ، فمرادٌ به أولياؤه وأهل طاعته (2) وأنّ معنى ذلك : وليختبر أولياءُ الله ، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض ، فيعرفوكم ، [فيميّزوكم] من أهل الإخلاص واليقين " وليمحص ما في قلوبكم " ، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية. (3)
* * *
" والله عليم بذات الصدور " ، يقول : والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر ، وإيمان وكفر ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، سرائرها علانيتها ، وهو لجميع ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول :
8096 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ذكر الله تلاومَهم - يعني : تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما أصابهم ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل : " لو كنتم في بيوتكم " ، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه ، حتى يبتلي به ما في صدوركم " وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور " ، أي لا يخفى عليه ما في صدورهم ، (4)
__________
(1) انظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف 7 : 297 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص : 246 ، تعليق 2 ، / ثم انظر 3 : 160 - 162.
(3) انظر تفسير " محص " فيما سلف ص : 244.
(4) في المطبوعة " لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم " ، وفي المخطوطة " لا يخفى عليه شيء ما في صدورهم " ، وضرب بالقلم على " شيء " ، ولكن الناشر آثر إثباتها ، وجعل " ما " " مما " ، والصواب المطابق لنص السيرة هو ما أثبت.

(7/325)


إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

مما اسْتَخْفَوْا به منكم. (1)
8097 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الحارث بن مسلم ، عن بحر السقاء ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : سئل عن قوله : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " ، قال : كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله ، وليس كل من يقاتل يُقتل ، ولكن يُقتل من كَتب الله عليه القتل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الذين ولَّوا عن المشركين ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانهزموا عنهم.
* * *
وقوله : " تولَّوا " ، " تفعَّلوا " ، من قولهم : " ولَّى فلان ظهره " . (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 8096 - سيرة ابن هشام 3 : 122 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8089.
(2) الأثر : 8097 - " الحارث بن مسلم الرازي المقرئ " ، روى عن الثوري ، والربيع بن صبيح وغيرهما. قال أبو حاتم : " الحارث بن مسلم ، عابد ، شيخ ثقة صدوق. رأيته وصليت خلفه " . مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 2 / 88.
و " بحر السقاء " ، هو " بحر بن كنيز الباهلي السقاء أبو الفضل " روي عن الحسن ، والزهري وقتادة. وهو جد " عمرو بن علي الفلاس " . وروى عنه الثوري وكناه ولم يسمه ، قال يحيى بن سعيد القطان : " كان سفيان الثوري يحدثني ، فإذا حدثني عن رجل يعلم أني لا أرضاه كناه لي ، فحدثني يوما قال حدثني أبو الفضل ، يعني بحرًا السقاء " . وقال يحيى بن معين : " بحر السقاء ، لا يكتب حديثه " . وهو متروك. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 418.
(3) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 2 : 162 ، 299 / 3 : 115 ، 131 / 4 : 237 / 6 : 283 ، 291 ، 477 ، 483.

(7/326)


وقوله : " يوم التقى الجمعان " ، يعني : يوم التقى جمعُ المشركين والمسلمين بأحد " إنما استزلهم الشيطان " ، أي : إنما دعاهم إلى الزّلة الشيطانُ.
* * *
وقوله " استزل " " استفعل " من " الزلة " . و " الزلة " ، هي الخطيئة. (1)
* * *
" ببعض ما كسبوا " ، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب (2) . " ولقد عفا الله عنهم " ، يقول : ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه (3) " إن الله غفور " ، يعني به : مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله ، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها " حليم " ، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. (4)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عُنوا بهذه الآية.
فقال بعضهم : عني بها كلُّ من ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين بأحد.
*ذكر من قال ذلك :
8098 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا عاصم بن كليب ، عن أبيه قال : خطب عمر يوم الجمعة فقرأ " آل عمران " ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله : " إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، قال : لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررتُ حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أرْوَى ، (5) والناس يقولون : " قُتل محمد " ! فقلت : لا أجد أحدًا يقول : " قتل محمد " ، إلا قتلته!. حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية كلها. (6)
__________
(1) انظر تفسير : " زل " فيما سلف 1 : 524 ، 525 / 4 : 259 ، 260.
(2) انظر تفسير " كسب " فيما سلف 2 : 273 ، 274 / 3 : 101 ، 128 / 4 : 449 / 6 : 131 ، 295.
(3) انظر تفسير " عفا " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " غفور حليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) " أنزو " : أثبت ، والنزو الوثب. والأروى : أنثى الوعول ، وهي قوية على التصعيد في الجبال.
(6) الأثر : 8098 - " أبو هشام الرفاعي " هو " محمد بن يزيد بن محمد بن كثير " ، مضى في رقم : 3286 ، 4557 ، 4888 ، وغيرها. و " أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط " ، قيل اسمه " محمد " ، وقيل : " عبد الله " وقيل وقيل ، ولكن الحافظ قال : " والصحيح أن اسمه كنيته ، كان حافظًا متقنًا ، ولكنه لما كبر ساء حفظه ، فكان يهم إذا روى ، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر ، كما قال ابن حبان " . مترجم في التهذيب.
و " عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي " ، روى عن أبيه ، وأبي بردة بن أبي موسى ، ومحمد بن كب القرظي ، وغيرهم. روى عنه ابن عون وشعبة وشريك والسفيانان وغيرهم. قال أحمد : " لا بأس بحديثه " ، وقال النسائي وابن معين : " ثقة " . وكان من العباد ، ولم يكن كثير الحديث. مترجم في التهذيب.
وأبوه : " كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي " ، روى عن أبيه ، وعن خاله الفلتان بن عاصم ، وعمر ، وعلي ، وسعد ، وأبي ذر ، وأبي موسى ، وأبي هريرة وغيرهم. قال ابن سعد : " كان ثقة ، ورأيتهم يستحسنون حديثه ويحتجون به " . مترجم في التهذيب.

(7/327)


8099 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية ، وذلك يوم أحد ، ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبيّ الله يومئذ ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون : أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم.
8100 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية ، فذكر نحو قول قتادة.
* * *
وقال آخرون : بل عني بذلك خاصٌّ ممن ولَّى الدبر يومئذ ، قالوا : وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم.
*ذكر من قال ذلك :
8101 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما انهزموا يومئذ ، تفرّق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7/328)


أصحابه ، فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، فذكر الله عز وجل الذين انهزموا فدخلوا المدينة فقال : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية.
* * *
وقال آخرون : بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين.
*ذكر من قال ذلك :
8102 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، قال : نزلت في رافع بن المعلَّى وغيره من الأنصار ، وأبي حُذيفة بن عتبة ورجل آخر قال ابن جريج : وقوله : " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " ، إذ لم يعاقبهم.
8103 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فرّ عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان - رجلان من الأنصار - حتى بلغوا الجلْعَب (1) جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثًا ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضةً!! (2)
8104 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " الآية ،
__________
(1) " الجلعب " ضبطه البكري بفتح الجيم وسكون اللام وفتح العين ، وضبطه ياقوت بفتح الجيم واللام وسكون العين ، وقال : وقد تناء بعضهم في الشعر كعادتهم في أمثاله فقال (من أبيات صححتها ، ففي مطبوعة معجم البلدان خطأ كثير) : فَمَا فَتِئَتْ ضُبْعُ الجَلَعْبَيْنِ تَعْتَرى ... مَصَارِعَ قَتْلَى فِي التُّرَابِ سِبَالُهَا
(2) قوله : " لقد ذهبتم فيها عريضة " ، أي واسعة. والضمير في قوله : " فيها " إلى " الأرض " ، يقول : لقد اتسعت منادح الأرض في وجوهكم حين فررتم ، فأبعدتم المذهب ، يتعجب من فعلهم. هذا ، ولم أجد الأثر في سيرة ابن هشام.

(7/329)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

والذين استزلهم الشيطان : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان ، الأنصاريان ، ثم الزّرَقَّيان (1) .
* * *
وأما قوله : " ولقد عفا الله عنهم " ، فإن معناه : ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوّهم. كما : -
8105 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : " ولقد عفا الله عنهم " ، يقول : " ولقد عفا الله عنهم " ، إذ لم يعاقبهم.
8106 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله في تولِّيهم يوم أحد : " ولقد عفا الله عنهم " ، فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة ، أم عفوٌ عن المسلمين كلهم ؟.
* * *
وقد بينا تأويل قوله : " إن الله غفور حليم " ، فيما مضى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله ، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله ، فجحد نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال لإخوانه من أهل الكفر " إذا ضربوا في الأرض "
__________
(1) الأثر : 8104 - لم أجد هذا الأثر أيضًا في سيرة ابن هشام.
(2) انظر ما سلف 5 : 117 ، 521.

(7/330)


فخرجوا من بلادهم سفرًا في تجارة " أو كانوا غُزًّى " ، يقول : أو كان خروجهم من بلادهم غزاةً فهلكوا فماتوا في سفرهم ، أو قتلوا في غزوهم " لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " ، يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل ، أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله ، أو تجارة : لو لم يكونوا خرجوا من عندنا ، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا " ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " ، يعني : أنهم يقولون ذلك ، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنًا في قلوبهم وغمًّا ، ويجهلون أن ذلك إلى الله جل ثناؤه وبيده.
* * *
وقد قيل : إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبَّهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله ، هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك :
8107 - حدثني محمد قال : حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي.
8108 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى " ، قول المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول.
8109 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون في ذلك : هم جميع المنافقين.
*ذكر من قال ذلك :
8110 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها

(7/331)


الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " الآية ، أي : لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله ، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا : لو أطاعونا ما ماتوا وما قُتلوا. (1)
* * *
وأما قوله : " إذا ضربوا في الأرض " ، فإنه اختلف في تأويله. (2) فقال بعضهم : هو السفر في التجارة ، والسير في الأرض لطلب المعيشة.
*ذكر من قال ذلك :
8111 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إذا ضربوا في الأرض " ، وهي التجارة.
* * *
وقال آخرون : بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
*ذكر من قال ذلك :
8112 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذا ضربوا في الأرض " ، الضربُ في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله. (3)
* * *
وأصل " الضرب في الأرض " ، الإبعاد فيها سيرًا. (4)
* * *
وأما قوله : " أو كانوا غُزًّى " ، فإنه يعني : أو كانوا غزاة في سبيل الله.
* * *
و " الغزَّى " جمع " غاز " ، جمع على " فعَّل " كما يجمع " شاهد " " شهَّد " ، و " قائل " " قول " ، . وقد ينشد بيت رؤبة :
__________
(1) الأثر : 8110 - سيرة ابن هشام 3 : 122 ، 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8096.
(2) انظر تفسير " ضرب في الأرض " فيما سلف 5 : 593 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 106.
(3) الأثر : 8112 - سيرة ابن هشام 3 : 122 ، 123 ، وهو بعض الأثر السالف : 8110 ، وتتمته.
(4) انظر تفسير " ضرب في الأرض " فيما سلف 5 : 593 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 106.

(7/332)


فاليوم قَدْ نَهْنَهِني تَنَهْنُهِي... وَأوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالمُسَفَّهِ وَقُوَّلٌ : إلا دَهٍ فَلا دَهِ (1)
وينشد أيضًا :
وقَوْلُهُمْ : إلا دَهٍ فَلا دَهِ *
* * *
وإنما قيل : " لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى " ، فأصحبَ ماضي الفعل ، الحرفَ الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل ، فقيل : " وقالوا لإخوانهم " ، ثم قيل : " إذا ضربوا " ، وإنما يقال في الكلام : " أكرمتك إذْ زرتني " ، ولا يقال : " أكرمتك إذا زرتني " . لأن " القول " الذي في قوله : " وقالوا لإخوانهم " ، وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى
__________
(1) ديوانه : 166 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 106 ، ومشكل القرآن : 438 ، وجمهرة الأمثال : 23 ، وأمثال الميداني 1 : 38 ، والخزانة 3 : 90 ، واللسان (قول) (دها) ، وغيرها كثير ، وسيأتي في التفسير 24 : 66 (بولاق). وهو من قصيدته التي يذكر فيها نفسه وشبابه ، وقد سلفت منها عدة أبيات في مواضع متفرقة.
" نهنهت فلانًا عن الشيء فتنهنه " ، أي : زجرته فانزجر ، وكففته فانكف. و " الأول " : الرجوع. يقول : قد كفني عن الصبا طولى عتابي لنفسي وملامتي إياها ، ورجوع عقل لا يوصف بالسفه ، بعد جنون الشباب ، ثم قول الناس : " إلا ده ، فلا ده " .
وقد اختلف في تفسير " إلا ده فلا ده " ، اختلاف كثير ، قال أبو عبيدة : " يقول إن لم يكن هذا فلا ذا. ومثل هذا قولهم : إن لم تتركه هذا اليوم فلا تتركه أبدًا ، وإن لم يكن ذاك الآن ، لم يكن أبدًا " . وقال ابن قتيبة : " يريدون : إن لم يكن هذا الأمر لم يكن غيره . . . ويروى أهل العربية أن الدال فيه مبدلة من ذال ، كأنهم أرادوا : إن لم تكن هذه ، لم تكن أخرى " .
وقال أبو هلال : " قال بعضهم : يضرب مثلا للرجل يطلب شيئًا ، فإذا منعه طلب غيره. وقال الأصمعي : لا أدري ما أصله! وقال غيره : أصله أن بعض الكهان تنافر إليه رجلان فامتحناه ، فقالا له : في أي شيء جئناك ؟ قال : في كذا ، قالا : لا! فأعاد النظر وقال : إلا ده فلا ده - أي : إن لم يكن كذا فليس غيره ، ثم أخبرهما. . . وكانت العرب تقول ، إذا رأى الرجل ثأره : إلا ده فلا ده - أي : إن لم يثأر الآن ، لم يثأر أبدًا " .
ومهما يكن من أصله ، فإن رؤبة يريد : زجرني عن ذلك كف نفسي عن الغي ، وأوبة حلم أطاره جنون الشباب ، وقول ناصحين يقول : إن لم ترعو الآن عن غيك ، فلن ترعوى ما عشت!

(7/333)


المستقبل. وذلك أن العرب تذهب بـ " الذين " مذهب الجزاء ، وتعاملها في ذلك معاملة " من " و " ما " ، لتقارب معاني ذلك في كثير من الأشياء ، وإن جميعهنّ أشياء (1) مجهولات غير موقتات توقيت " عمرو " و " زيد " . (2) .
فلما كان ذلك كذلك وكان صحيحًا في الكلام فصيحًا أن يقال للرجل : " أكرمْ من أكرمك " " وأكرم كل رجل أكرمك " ، فيكون الكلام خارجًا بلفظ الماضي مع " من " ، و " كلٍّ " ، مجهولَيْنِ ومعناه الاستقبال ، (3) إذ كان الموصوف بالفعل غير مؤقت ، وكان " الذين " في قوله : " لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض " ، غير موقَّتين ، (4) أجريت مجرى " من " و " ما " في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء ، (5) وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الأفعال وهي بمعنى الاستقبال ، كما قال الشاعر في " ما " : (6)
وإنّي لآتِيكُمْ تَشَكُّرَ مَا مَضَى... مِنَ الأمْرِ واسْتِيجَابَ مَا كَانَ فِي غَدِ (7)
فقال : " ما كان في غد " ، وهو يريد : ما يكون في غد. ولو كان أراد الماضي لقال : " ما كان في أمس " ، ولم يجز له أن يقول : " ما كان في غد " .
ولو كان " الذي " موقَّتًا ، لم يجز أن يقال ذلك. خطأ أن يقال : " لتُكرِمن
__________
(1) في المطبوعة : " وأن جمعهن أشياء. . . " ، وهو خطأ صوابه من المطبوعة.
(2) الموقت ، والتوقيت : هو المعرفة المحددة ، والتعريف المحدد ، وهو الذي يعني سماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد ، مثل " زيد " ، فإنه يعين مسماه تعيينًا مطلقًا ، أو محددًا. وانظر ما سلف 1 : 181 ، تعليق : 1 / 2 : 339. والمجهول : غير المعروف ، وهو النكرة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة " مع من وكل مجهول " ، والصواب ما أثبت ، ويعني بقوله " مجهولين " : نكرتين.
(4) " موقتين " جمع " موقت " بالياء والنون ، وهي المعرفة كما سلف. والسياق " وكان الذين .. .. .. غير موقتين " ، لأن " الذين " جمع ، فوصفها بالجمع.
(5) في المخطوطة " التي تذهب الجزاء " ، وفي معاني القرآن للفراء 1 : 243 : " لأن " الذين " يذهب بها إلى معنى الجزاء ، من : من ، وما " . فالتصرف الذي ذهب إليه الناشر الأول صواب جيد جدًا. " والترجمة " هنا : التفسير والبيان.
(6) هو الطرماح بن حكيم.
(7) مضى تخريج البيت وشرحه فيما سلف 2 : 351 ، تعليق : 5.

(7/334)


هذا الذي أكرمك إذا زرته " ، (1) لأن " الذي " ههنا موقّت ، فقد خرج من معنى الجزاء ، ولو لم يكن في الكلام " هذا " ، لكان جائزًا فصيحًا ، لأن " الذي " يصير حينئذ مجهولا غير موقت. ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) [سورة الحج : 25] فردّ " يصدون " على " كفروا " ، لأن " الذين " غير موقتة. فقوله : " كفروا " ، وإن كان في لفظ ماض ، فمعناه الاستقبال ، وكذلك قوله : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) [سورة مريم : 60] وقوله : ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) [سورة المائدة : 34] ، معناه : إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم وإلا من يتوب ويؤمن. ونظائر ذلك في القرآن والكلام كثير ، والعلة في كل ذلك واحدة. (2) .
* * *
وأما قوله : " ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " ، فإنه يعني بذلك : حزنًا في قلوبهم ، (3) كما : -
8113 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " في قلوبهم " ، قال : يحزنهم قولهم ، لا ينفعهم شيئًا.
8114 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
8115 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " ، لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة " خطأ أن يقال لك من هذا الذي. . . " أخطأ قراءة المخطوطة فجعل " لتكرمن " " لك من " وهو فاسد ، والصواب ما أثبت ، وهو الذي يدل عليه السياق.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 243 ، 244.
(3) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف 3 : 295 - 299.
(4) الأثر : 8115 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8110 ، 8112.

(7/335)


القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (والله يحيي ويميت) والله المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء ، (1) والمميت من يشاء كلما شاء ، دون غيره من سائر خلقه.
وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم ، وإخراج هيبتهم من صدورهم ، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده ، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له ونهيٌ منه لهم ، إذ كان كذلك ، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين.
* * *
ثم قال جل ثناؤه : " والله بما تعملون بصيرٌ " ، يقول : إن الله يرى ما تعملون من خير وشر ، فاتقوه أيها المؤمنون ، إنه محصٍ ذلك كله ، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال ابن إسحاق.
8116 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله يحيي ويميت " ، أي : يعجل ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته. (2)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون سقط من الناسخ بعض تفسير الآية ، وكأنه كان : " والله المؤخر أجل من يشاء من حيث شاء ، وهو المعجل. . . " ، وانظر الأثر الآتي رقم : 8116.
(2) الأثر : 8116 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8115.

(7/336)


وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) }
قال أبو جعفر : يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين ، يقول لهم : (1) لا تكونوا ، أيها المؤمنون ، في شك من أن الأمور كلها بيد الله ، وأن إليه الإحياء والإماتة ، كما شك المنافقون في ذلك ، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله ، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ ، وأخبرهم أن موتًا في سبيل الله وقتلا في الله ، (2) خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ، ويتأخرون عن لقاء العدو ، كما : -
8117 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، أي : إن الموت كائن لا بد منه ، فموت في سبيل الله أو قتل ، خير لو علموا فأيقنوا مما يجمعون في الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد ، تخوفًا من الموت والقتل لما جمعوا من زَهرة الدنيا ، وزهادةً في الآخرة. (3) .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قال الله عز وجل : " لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، وابتدأ الكلام : " ولئن متم أو قتلتم " بحذف جواب " لئن " ، (4) لأن في قوله :
__________
(1) في المطبوعة : " فخاطب " ، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وقتلا " وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أجود.
(3) الأثر : 8117 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8116. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " لما جمعوا من زهيد الدنيا " وهو تحريف ، والصواب من سيرة ابن هشام. وزهرة الدنيا : حسنها وبهجتها وغضارتها ، وكثرة خيرها ، ورغيد عيشها. وفي سيرة ابن هشام : " زهادة في الآخرة " ، بغير واو.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " بحذف جزاء لئن " ، وهو خطأ بين وتصحيف من الناسخ ، سقطت منه باء " جواب " فكتب " جزاء " .

(7/337)


" لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " معنى جواب للجزاء ، (1) وذلك أنه وَعدٌ خرج مخرج الخبر.
* * *
فتأويل الكلام : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ، ليغفرن الله لكم وليرحمنّكم فدلّ على ذلك بقوله : " لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، وجمع مع الدلالة به عليه ، الخبَرَ عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة ، أنه إن قيل : كيف يكون : " لمغفرة من الله ورحمة " جوابًا لقوله : " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم " ؟ فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال : ولئن متم أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة ، إذ كان ذلك في سبيلي ، (2) فقال : " لمغفرة من الله ورحمة ، " يقول : لذلك خير مما تجمعون ، يعني : لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون.
* * *
ودخلت اللام في قوله : " لمغفرة من الله " ، لدخولها في قوله : و " لئن " ، كما قيل : ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ) [سورة الحشر : 12]
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " معنى جواز للجزاء " ، وهو تصحيف لا معنى له ، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فإن [القول] فيه أن يقال فيه : كأنه قال : ولئن متم أو قتلتم [فذكر لهم] رحمة من الله ومغفرة ، إذا كان ذلك في [السبيل] " ، وقد وضعت الكلمات التي استبدلت بها غيرها بين أقواس. وهذه الجملة التي في المطبوعة والمخطوطة لا يكاد يكون لها معنى. فالكلمة الأولى " القول " لا شك في خطئها ، وصوابها ما أثبت. أما " فذكر لهم " ، فإني أظن أن الناسخ قد أخطأ قراءة المخطوطة القديمة التي نقل عنها فقرأ " فذلك لكم " " فذكر لهم " وأما " السبيل " ، ففي المخطوطة ضرب خفيف على ألف " السبيل " ، فرجحت قراءتها كما أثبت. وهو حق المعنى ، فاستقامت هذه الجملة مع ما بعدها ، والحمد لله.

(7/338)


وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

القول في تأويل قوله : { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولئن متم أو قتلتم ، أيها المؤمنون ، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم ، فيجازيكم بأعمالكم ، فآثروا ما يقرّبكم من الله ويوجب لكم رضاه ، ويقربكم من الجنة ، من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته ، على الركون إلى الدنيا وما تجمعون فيها من حُطامها الذي هو غير باقٍ لكم ، بل هو زائلٌ عنكم ، وعلى ترك طاعة الله والجهاد ، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم ، ويوجب لكم سخطه ، ويقرِّبكم من النار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق :
8118 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولئن متم أو قتلتم " ، أيُّ ذلك كان " لإلى الله تحشرون " ، أي : أن إلى الله المرجع ، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا تغتروا بها ، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه ، آثر عندكم منها. (1)
* * *
وأدخلت " اللام " في قوله : " لإلى الله تحشرون " ، لدخولها في قوله : " ولئن " . ولو كانت " اللام " مؤخرة إلى قوله : " تحشرون " ، لأحدثت " النون " الثقيلة فيه ، كما تقول في الكلام : " لئن أحسنتَ إليّ لأحسننَّ إليك " بنون مثقّلة. فكان كذلك قوله : ولئن متم أو قتلتم لتحشرن إلى الله ، ولكن لما حِيل بين " اللام " وبين " تحشرون " بالصفة ، (2) أدخلت في الصفة ، وسلمت " تحشرون " ،
__________
(1) الأثر : 8118 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8117.
(2) في المطبوعة : " لما حيز بين اللام. . . " ، وفي المخطوطة : " ولما حين. . . " ، وصواب قراءتها ما أثبت. و " الصفة " حرف الجر ، انظر ما سلف 1 : 299 ، تعليق : 1 ، وسائر فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.

(7/339)


فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

فلم تدخلها " النون " الثقيلة ، كما تقول في الكلام : " لئن أحسنتَ إليّ لإليك أحسن " ، بغير " نون " مثقلة.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فبما رحمة من الله " ، فبرحمة من الله ، و " ما " صلة. (1) وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) [سورة البقرة : 26]. (2) والعرب تجعل " ما " صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ) [سورة النساء : 155\ سورة المائدة : 13] ، والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم. وهذا في المعرفة. وقال في النكرة : ( عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ) [سورة المؤمنون : 40] ، والمعنى : عن قليل. وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانًا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر : (3)
فَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا... حُبُّ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (4)
إذا جعلت غير صلة رفعتَ بإضمار " هو " ، وإن خفضت أتبعت " من " ، (5) فأعربته. فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات.
__________
(1) " الصلة " ، الزيادة ، انظر ما سلف 1 : 190 / 405 ، تعليق : 4 / 406 / 548 ، ثم فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء.
(2) انظر ما سلف 1 : 404 ، 405.
(3) هو حسان بن ثابت ، أو كعب بن مالك ، أو غيرهما ، انظر ما سلف 1 : 404 تعليق : 5.
(4) سلف تخريج البيت في 1 : 404 ، تعليق : 5.
(5) وذلك أن " من " و " ما " حكمهما في هذا واحد ، كما سلف في 1 : 404.

(7/340)


فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، والرفع جائز في العربية. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8119 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، يقول : فبرحمة من الله لنت لهم.
* * *
وأما قوله : " ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، فإنه يعني بـ " الفظ " الجافي ، وبـ " الغليظ القلب " ، القاسي القلب ، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله به : ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [سورة التوبة : 128].
* * *
فتأويل الكلام : فبرحمة الله ، يا محمد ، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك " لنت لهم " ، لتبَّاعك وأصحابك ، فسُهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه ، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم. كما : -
8120 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، إي والله ، لطهَّره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبًا رحيما بالمؤمنين رءوفًا وذكر لنا أن نعت محمد صلى
__________
(1) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 244 ، 245.

(7/341)


الله عليه وسلم في التوراة : " ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح " .
8121 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه.
8122 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، قال : ذكر لينه لهم وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيِّهم. (1)
* * *
وأما قوله : " لانفضوا من حولك " ، فإنه يعني : لتفرقوا عنك. كما : -
8123 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح قال ، قال ابن عباس : قوله : " لا نفضوا من حولك " ، قال : انصرفوا عنك.
8124 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " لانفضوا من حولك " ، أي : لتركوك. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 8122 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها : 8118 ، وهو في السيرة تال للأثر الآتي رقم : 24 : 8.
(2) الأثر : 8124 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8122 ، ولكنه سابق له في سيرة ابن هشام.

(7/342)


القول في تأويل قوله : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فاعف عنهم " ، فتجاوز ، يا محمد ، عن تُبَّاعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك " واستغفر لهم " ، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جُرْم ، واستحقوا عليه عقوبة منه. كما : -
8125 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فاعف عنهم " ، أي : فتجاوز عنهم " واستغفر لهم " ، ذنوبَ من قارف من أهل الإيمان منهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه ؟
فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " وشاورهم في الأمر " ، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو ، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم ، وتألّفًا لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عز وجل قد أغناه بتدبيره له أمورَه ، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه عنهم.
*ذكر من قال ذلك :
8126 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " ،
__________
(1) الأثر : 8125 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8124 ، ولكنه تال للأثر رقم : 8122 في سياق السيرة. وفي سيرة ابن هشام : " ذنوبهم من قارف " ، ولكن طابع السيرة جعل " ذنوبهم " من الآية ، فحصرها بين أقواس مع لفظ الآية!! وهو عجب!

(7/343)


أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله ، عزم لهم على أرشدِه.
8127 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وشاورهم في الأمر " ، قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء ، لأنه أطيب لأنفسهم.
8128 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وشاورهم في الأمر " ، أي : لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم ، و إن كنت عنهم غنيًّا ، تؤلفهم بذلك على دينهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوبَ الأمور في التدبير ، (2) لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضْل.
*ذكر من قال ذلك :
8129 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " وشاورهم في الأمر " ، قال : ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة ، إلا لما علم فيها من الفضل.
8130 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم. (3)
* * *
وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه بمشاورتهم فيه ، مع
__________
(1) الأثر : 8128 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8125.
(2) في المطبوعة : " بل أمره بذلك في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور. . . " ، لم يستطع الناشر أن يحسن قراءة المخطوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) الأثر : 8130 - " إياس بن دغفل الحارثي ، أبو دغفل " ، روي عن الحسن ، وأبي نضرة وعطاء وغيرهم ، وروى عنه معتمر بن سليمان ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو عامر العقدي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.

(7/344)


إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويستنُّوا بسنَّته في ذلك ، ويحتذوا المثالَ الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورتَه في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابَهُ وتبَّاعَهُ في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، (1) فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم. لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك ، لم يُخْلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا : وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) [سورة الشورى : 38].
*ذكر من قال ذلك :
8131 - حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال ، قال سفيان بن عيينة في قوله : " وشاورهم في الأمر " ، قال : هي للمؤمنين ، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه ، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها ، (2) ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك ، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق ، (3) وإرادةِ
__________
(1) قوله : " أصحابه وتباعه " منصوب مفعول لقوله : " من مشاورته في أموره. . . "
(2) في المطبوعة : " ما في الأمور " ، والصواب ما في المخطوطة ، ولكن الناشر الأول لم يحسن قراءتها. يريد : الوجه الذي تؤتى منه الأمور وتطلب.
(3) " توخى الأمر " : تحراه وقصده ويممه ، ثم تقلب واوه ألفًا فيقال " تأخيت الأمر " ، والشافعي رضي الله عنه يكثر من استعمالها في كتبه كذلك. ثم انظر تعليق أخي السيد أحمد ، على رسالة الشافعي ص : 504 ، تعليق : 2.

(7/345)


جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حَيْد عن هدى ، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم.
* * *
وأما قوله : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، فإنه يعني : فإذا صحِّ عزمك بتثبيتنا إياك ، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك ، أو خالفها " وتوكل " ، فيما تأتي من أمورك وتدع ، وتحاول أو تزاول ، على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه ، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم " فإن الله يحب المتوكلين " ، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما : -
8132 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين " " فإذا عزمت " ، أي : على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرتَ به ، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك و " توكل على الله " ، (1) أي : ارضَ به من العباد " إن الله يحب المتوكلين " . (2)
8133 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيمَ على أمر الله ، ويتوكل على الله.
8134 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، الآية ، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه.
* * *
__________
(1) هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة وسيرة ابن هشام : " وتوكل " بالواو ، وهو جائز ، لأنه في سياق التفسير ، وأما الآية فهي " فتوكل " بالفاء ، فلذلك جعلت الواو خارج القوس.
(2) الأثر : 8132 - سيرة ابن هشام 3 : 123 ، 124 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها : 8128.

(7/346)


إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

القول في تأويل قوله : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " إن ينصركم الله " ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه والكافرين به " فلا غالب لكم " من الناس ، يقول : فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد ، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه ، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم ، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله ، فإن الغلبة لكم والظفر ، دونهم " وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " ، يعني : إن يخذلكم ربكم بخلافكم أمره وترككم طاعته وطاعة رسوله ، فيكلكم إلى أنفسكم " فمن ذا الذي ينصركم من بعده " ، يقول : فأيسوا من نصرة الناس ، (1) فإنكم لا تجدون [ناصرًا] من بعد خذلان الله إياكم إن خذلكم ، (2) يقول : فلا تتركوا أمري وطاعتي وطاعة رسولي فتهلكوا بخذلاني إياكم " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، يعني : ولكن على ربكم ، أيها المؤمنون ، فتوكلوا دون سائر خلقه ، وبه فارضوا من جميع من دونه ، ولقضائه فاستسلموا ، وجاهدوا فيه أعداءه ، يكفكم بعونه ، ويمددكم بنصره. كما : -
8135 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن ينصركم
__________
(1) أيست من الشيء آيس يأسًا ، لغة في " يئست منه أيأس يأسًا " ، وقد سلف مثل ذلك في موضع آخر لم أجده الآن.
(2) في المطبوعة : " فإنكم لا تجدون امرءًا من بعد خذلان الله " ، وفي المخطوطة : " لا تجدون أمرًا " ، ولم أجد لهما معنى أرتضيه ، فوضعت " ناصرًا " مكان " أمرًا " بين القوسين ، استظهارًا من معنى الآية ، وإن كنت أخشى أن يكون قد سقط من الناسخ شيء ، أو كتبت شيئًا مصحفًا لم أهتد لأصله. وانظر سهو الناسخ في التعليق التالي.

(7/347)


وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، أي : إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس لن يضرك خذلان من خذلك ، و إن يخذلك فلن ينصرك الناس " فمن الذي ينصركم من بعده " ، أي : لا تترك أمري للناس ، وارفض [أمر] الناس لأمري ، وعلى الله ، [لا على الناس] ، فليتوكل المؤمنون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قرأة الحجاز والعراق : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) ، بمعنى : أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم. واحتجَّ بعض قارئي هذه القراءة : أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطيفة فُقدت من مغانم القوم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : " لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها! " ، ورووا في ذلك روايات ، فمنها ما : -
8136 - حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف قال ، حدثنا مقسم قال ، حدثني ابن عباس : أن هذه الآية : " وما كان لنبيّ أن يغل " ، نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، قال : فقال بعض الناس : أخذها! قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلُل يأت بما غل يوم القيامة " . (2)
8137 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 8135 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8132 ، بيد أنه في سيرة ابن هشام مختصر. لم يرو ابن هشام صدر هذا الخبر ، بل بدأ من قوله : " أي : لا تترك " ، وقد أخطأ الناسخ فيما أرجح فسقط منه ما أثبت من سيرة ابن هشام بين الأقواس.
(2) الأثر : 8136 - " محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي الأموي " ، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ، قال النسائي : " لا بأس به " ، وهو ثقة جليل صدوق. و " عبد الواحد بن زياد العبدي " أحد الأعلام سلفت ترجمته في : 2616. و " خصيف بن عبد الرحمن الجزري " ، رأى أنسًا ، وروي عن عطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقسم وغيرهم. قال أحمد " ضعيف الحديث " ، وقال : " شديد الاضطراب في المسند " . وقال ابن عدي : " إذا حدث عن خصيف ثقة ، فلا بأس بحديثه " . وقال ابن حبان : " تركه جماعة من أئمتنا واحتج به آخرون ، وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا ، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروى ، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه ، وهو صدوق في روايته ، إلا أن الإنصاف فيه ، قبول ما وافق الثقات ، وترك ما لم يتابع عليه " . مترجم في التهذيب.
والحديث رواه الترمذي في باب تفسير القرآن ، من طريق قتيبة ، عن عبد الواحد بن زياد ، بمثله وقال : " هذا حديث حسن غريب " ، وقد روى عبد السلام بن حرب عن خصيف نحو هذا ، وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم ، ولم يذكر فيه ابن عباس " - يعني مرسلا. ونسبه ابن كثير في تفسيره 2 : 279 ، إلى أبي داود أيضًا ، ونسبه السيوطى في الدر المنثور 2 : 91 إلى أبي داود ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والترمذي ، وابن جرير.

(7/348)


خصيف قال ، سألت سعيد بن جبير : كيف تقرأ هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغُل " أو : " يُغَل " ؟ قال : لا بل " يَغُل " ، فقد كان النبي والله يُغَل ويقتل.
8138 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر ، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فلعل النبي أخذها " ! فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغُل " [قال سعيد : بلى والله ، إنّ النبي ليُغَلّ ويُقتل]. (1)
8139 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خلاد ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : " أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم! " . فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبيّ أن يغُلّ " .
__________
(1) الأثر : 8138 - " عتاب بن بشير الجزري " . روي عن خصيف وغيره. قال أحمد : " أرجو أن لا يكون به بأس ، روى بأخرة أحاديث منكرة ، وما أرى إلا أنها من قبل خصيف " . مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " بل والله " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة ، وأما قوله في آخر الأثر : " قال سعيد : . . . " ، فإني تركته مكانه هنا ، ولكني أرجح أنه من تمام الأثر التالي رقم : 8140 ، فوضعته بين القوسين. هذا ، إذا لم يكن قد سقط من الناسخ أثر آخر من رواية سعيد بن جبير.

(7/349)


8140 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة في قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، قالا يغُل قال قال عكرمة أو غيره ، عن ابن عباس ، قال كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ! قال : فأنزل الله هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " .
8141 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا قزعة بن سويد الباهلي ، عن حميد الأعرج ، عن سعيد بن جبير قال : نزلت هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " ، في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة. (1)
8142 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن سليمان الأعمش قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ ) ، فقال ابن عباس : بلى ، ويُقْتَل قال : فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَلَّها ، يوم بدر. فأنزل الله : " وما كان لنبيّ أن يَغُل " .
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك ، بفتح " الياء " وضم " الغين " : إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجَّههم في وجه ، ثم غنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ ، وأنّ الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم ، ويعرِّفه الواجبَ عليه من الحكم فيما
__________
(1) الأثر : 8141 - " قزعة بن سويد بن حجير الباهلي " ، روى عن أبيه ، وحميد بن قيس الأعرج ، وابن أبي مليكة ، وابن أبي نجيح وغيرهم. قال أحمد : " مضطرب الحديث ، وهو شبه المتروك " . وقال أبو حاتم : " ليس بذاك القوى " ، وقال ابن حبان : " كان كثير الخطأ فاحش الوهم ، فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره " . وقال البزار : " لم يكن بالقوي ، حدث عنه أهل العلم " . مترجم في التهذيب.

(7/350)


أفاء الله عليه من الغنائم ، وأنه ليس له أن يخصّ بشيء منها أحدًا ممن شهد الوقعة - أو ممن كان رِدْءًا لهم في غزوهم - دون أحد. (1)
*ذكر من قال ذلك :
8143 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة " ، يقول : ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم ، ولكن يقسم بالعدل ، ويأخذ فيه بأمر الله ، ويحكم فيه بما أنزل الله. يقول : ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه ، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استنُّوا به. (2)
8144 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : أنه كان يقرأ : " ما كان لنبي أن يغلَّ " ، قال : أن يعطي بعضًا ، ويترك بعضًا ، إذا أصاب مغنمًا.
8145 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع ، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبيّ أن يغل " .
8146 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : " ما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان لنبيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة ، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل ، ويحكم فيه بما أنزل الله.
8147 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا
__________
(1) الردء (بكسر فسكون) : الناصر والمعين.
(2) الأثر : 8143 - هذا إسناد دائر في التفسير ، وانظر الكلام فيه برقم : 305.

(7/351)


جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ما كان لنبي أن يغل " ، قال : ما كان له إذا أصاب مغنمًا أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضًا ، ولكن يقسم بينهم بالسوية.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح " الياء " وضم " الغين " : إنما أنزل ذلك تعريفًا للناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يكتم من وحي الله شيئًا.
*ذكر من قال ذلك :
8148 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان لنبيّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، أي : ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك : ما ينبغي لنبي أن يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم.
* * *
يقال منه : " غلّ الرجل فهو يغُلُّ " ، إذا خان ، " غُلولا " . ويقال أيضًا منه : " أغلَّ الرجل فهو يُغِلُّ إغلالا " ، كما قال شريح : " ليس على المستعير غير المغِلِّ ضمَان " ، يعني : غير الخائن. ويقال منه : " أغلّ الجازر " ، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8149 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 8148 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8135 ، وفي بعض لفظه اختلاف يسير.
(2) يعني عند سلخ الذبيحة ، يسلخها فيترك شيئًا من اللحم ملتزقًا بإهابها.

(7/352)


أسباط ، عن السدي : " ما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان ينبغي له أن يخون ، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا.
8150 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يخون.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ ) بضم " الياء " وفتح " الغين " ، وهي قراءة عُظم قرأة أهل المدينة والكوفة.
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : ما كان لنبي أن يَغُلّه أصحابه ، ثم أسقط " الأصحاب " ، فبقي الفعل غير مسمًّى فاعله. وتأويله : وما كان لنبيّ أن يُخان.
*ذكر من قال ذلك :
8151 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه كان يقرأ : " وما كان لنبيّ أن يُغَل " قال عوف ، قال الحسن : أن يخان.
8152 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، يقول : وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غَلَّ طوائف من أصحابه.
8153 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وما كان لنبي أن يُغَل " ، قال : أن يغله أصحابه.
8154 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وما كان لنبي أن يُغَلَّ " ، قال

(7/353)


الربيع بن أنس ، يقول : ما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه - قال : ذكر لنا ، والله أعلم : أن هذه الآية أنزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غَلّ طوائف من أصحابه.
* * *
وقال آخرون منهم : معنى ذلك : وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخوَّن ويسرَّق. وكأن متأولي ذلك كذلك ، وجَّهوا قوله : " وما كان لنبي أن يغل " إلى أنه مراد به : " يغَلَّل " ، ثم خففت " العين " من " يفعَّل " ، فصارت " يفعل " كما قرأ من قرأ قوله : ( فإنهم لا يكذبونك ) [سورة الأنعام : 33] بتأوُّل : يُكَذِّبُونَك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) بمعنى : ما الغلول من صفات الأنبياء ، ولا يكون نبيًّا من غلَّ.
وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله : " وما كان لنبي أن يغل " أهلَ الغلول فقال : " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، الآية والتي بعدها. فكان في وعيده عقيب ذلك أهلَ الغلول ، الدليلُ الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول ، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : " وما كان لنبيّ أن يغلّ " . لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول ، لعقَّب ذلك بالوعيد على التُّهَمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالوعيد على الغلول. وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول ، بيانٌ بيِّنٌ ، أنه إنما عرّف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتفٍ من صفة الأنبياء وأخلاقهم ، لأنّ ذلك جرم عظيم ، والأنبياء لا تأتي مثله.
* * *

(7/354)


فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه (1) " وما كان لنبي أن يخونه أصحابه " ، إن كان ذلك كما ذكرت ، (2) ولم يعقّب الله قوله : " وما كان لنبي أن يغل " إلا بالوعيد على الغلول ، ولكنه إنما وجب الحكمُ بالصحة لقراءة من قرأ : " يغل " بضم " الياء " وفتح " الغين " ، لأن معنى ذلك : وما كان للنبي أن يغله أصحابه ، فيخونوه في الغنائم ؟
قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم فيخونوه ، حتى خُصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فإن قالوا : " نعم " ، خرجوا من قول أهل الإسلام. لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط.
وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره.
قيل : فما وجه خصوصهم إذًا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغُلوله وغُلول بعض اليهود بمنزلةٍ فيما حرم الله على الغالِّ من أموالهما ، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما ؟
وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا ، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه ، ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلول ، وآمرًا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم ، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ، (3) ثم عقَّب تعالى ذكره نهيَهم عن الغلول بالوعيد عليه فقال : " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، الآيتين معًا.
* * *
__________
(1) قوله : " فأولى منه " ، أي فأولى من المذهب الذي ذهبت إليه في قراءة الآية وتفسيرها يقوله هذا القائل ، ردًا على أبي جعفر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " إن ذلك كما ذكرت " سقط من الناسخ " كان " فأثبتها ، لأن هذا هو حق المعنى الذي أراده أبو جعفر في سياق قول من رد عليه قوله.
(3) يعني الأثر : 8143 ، " وعطية " المذكور ، هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفي " ، الذي روى عن ابن عباس ، وهو المذكور في الإسناد السالف " عن أبيه " . وقد أشكل ذلك على بعض من علق على التفسير ، فقال : لم يمض لعطية هذا ذكر!! ولكنه مذكور كما ترى.

(7/355)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ومن يخُن من غنائم المسلمين شيئًا وفيئهم وغير ذلك ، يأت به يوم القيامة في المحشر. كما : -
8155 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال : ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء ، (1) يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئًا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة ، (2) يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئًا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ ، (3) يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئًا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار (4) ، يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك! ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقاع تخفِق
__________
(1) " الثغاء " : صوت الشاء والمعز والظباء وما شاكلها. " ثغت الشاة تثغو " : صاحت. يقال : " ماله ثاغية ولا راغية " ، الثاغية : الشاء : والراغية : الإبل.
(2) الحمحمة : صوت الفرس دون الصهيل ، كالذي يكون منه إذا طلب العلف ، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه ، فاستأنس إليه.
(3) الصامت هو الذهب والفضة ، أو ما لا روح فيه من أصناف المال. يقال : " ما له صامت ولا ناطق " . فالناطق : الحيوان ، كالإبل والغنم وغيرها.
(4) " الخوار " : صوت الثور ، وما اشتد من صوت البقرة والعجل. " خار الثور يخور " .

(7/356)


يقول : (1) يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك! (2)
8156 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي حيّان ، عن أبى زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل هذا زاد فيه
__________
(1) " الرقاع " جمع رقعة : وهو الخرقة ، و " تخفق " تضطرب وتلمع إذا حركتها الرياح ، أو إسراع حاملها. يريد الثياب التي يغلها الغال مما يختطفه من الغنائم. وقد فسره كثير من الشراح بأنه أراد الرقاع المكتوبة التي تكون فيها الحقوق والديون ، وخفوقها حركتها ، وأرجح القولين ما قدمت منهما.
(2) الحديث : 8155 - أبو حيان - بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء التحتية - يحيى بن سعيد ابن حيان التيمي : مضت ترجمته : 5382. ووقع في المطبوعة في الإسنادين التاليين لهذا " أبو حبان " بالباء الموحدة ، وهو خطأ.
ووقع هنا في المخطوطة : " عن يحيى بن سعيد ، عن أبي حيان " . وهو خطأ. فإن " أبا حيان " : اسمه " يحيى بن سعيد " - كما ذكرنا. ومحمد بن فضيل بن غزوان سمع منه ، ويروى عنه مباشرة ، كما هو ثابت في ترجمتهما.
نعم : إن " يحيى بن سعيد القطان " روى هذا الحديث عن " أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي " ، كما سيأتي في التخريج - ولكن ليس في هذا الإسناد.
أبو زرعة - بضم الزاي وسكون الراء : هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي. وهو تابعي ثقة ، من علماء التابعين. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 2 / 243 - 244 ، فيمن اسمه " هرم " ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 265 - 266 ، فيمن اسمه " عبد الرحمن " ، لاختلافهم في اسمه. والظاهر أن اسمه كنيته. ووقع في المطبوعة ، في الرواية الآتية : 8157 - " عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير " ، وهو تحريف ، صوابه " بن " بدل " عن " .
والحديث سيأتي عقب هذا بإسنادين : من طريق عبد الرحمن ، عن أبي حيان ، ومن طريق ابن علية ، عن أبي حيان.
ورواه أحمد في المسند : 9499 (ج2 : ص : 426 حلبي). عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أبي حيان.
ورواه مسلم 2 : 83 ، عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، وهو ابن علية ، به.
ورواه البخاري 6 : 129 (فتح) ، عن مسدد ، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان ، عن أبي حيان وهو يحيى بن سعيد التيمي.
ورواه مسلم أيضا بأسانيد. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9 : 101 بأسانيد.
وروى البخاري قطعة منه ، ضمن حديث ، من وجه آخر 3 : 213 (فتح). وذكره ابن كثير 2 : 281 ، من رواية المسند ، ثم قال : " أخرجاه من حديث أبي حيان ، به " يريد الشيخين. وذكره السيوطى 2 : 92 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب.

(7/357)


" لا ألفين أحدكم على رقبته نفسٌ لها صياح " . (1)
8157 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو حيّان ، عن أبي زرعة ، بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا يومًا ، فذكر الغُلول ، فعظَّمه وعظَّم أمره فقال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني (2) ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن عبد الرحمن. (3)
8158 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن بشر ، عن يعقوب القمي قال ، حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أعرفَنّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، ينادي : يا محمد! يا محمد! (4) فأقول : لا أملك لك من الله شيئًا قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رُغاء يقول : يا محمد! يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئًا ، قد بلغتك! ولا أعرفنَّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسًا له حمحمة ينادي : يا محمد! يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئًا ، قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قِشْعًا من أَدَمٍ ، (5)
__________
(1) الحديث : 8156 - هو تكرار للحديث السابق. ولكن " عبد الرحمن " - في هذا الإسناد : لم أستطع أن أجزم فيه بشيء. وأخشى أن يكون محرفًا عن " عبد الرحيم " ، فيكون : " عبد الرحيم بن سليمان الأشل " ، فهو الذي يروى عن أبي حيان ، ويروى عنه " أبو كريب " . وهو راوي هذا الحديث - رواه مسلم 2 : 83 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن سليمان.
قوله : " نفس لها صياح " ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح : " وكأنه أراد بالنفس ، ما يغله من الرقيق ، من امرأة أو صبي " .
(2) " الرغاء " : صوت ذوات الخف كالإبل ، وقد يستعار لغيره : " رغا البعير يرغو " .
(3) الحديث : 8157 - هو تكرار للحديثين قبله. وقوله في آخره " ثم ذكر نحو حديث أبي كريب عن عبد الرحمن " أخشى أن يكون محرفًا ، وأن صوابه " عن عبد الرحيم " ، كما بينا من قبل.
(4) قوله : " لا أعرفن " قد سلف أن بينت في التعليق على الأثر : 8011 ، ص : 286 تعليق : 4 ، والأثر : 8025 ، أنها كلمة تقال عند التهديد والوعيد والزجر الشديد ، وستأتي أيضًا في رقم : 8160 بعد.
(5) " القشع " : هو النطع الخلق من الجلد ، وهو الفرو الخلق أيضًا. وقال ابن الأثير : أراد القربة البالية. و " الأدم " جمع أديم : وهو الجلد. وفي المطبوعة والمخطوطة وابن كثير " قسما " ، خطأ محض.

(7/358)


ينادي : يا محمد! يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئًا ، قد بلغتك. (1)
8159 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أسباط بن محمد قال ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن عبد الله بن ذكوان ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد قال ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا فجاء بسوادٍ كثير ، قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه منه. فلما أتوه جعل يقول : هذا لي ، وهذا لكم. قال فقالوا : من أين لك هذا ؟ قال : أهدي إليّ! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، فخرج فخطب فقال : " أيها الناس ، ما بالي أبعث قومًا إلى الصدقة ، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير ، (2) فإذا بعثت من يقبضه قال : " هذا لي ، وهذا لكم " ! فإن كان صادقًا أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه أو في بيت أمه ؟ " ثم قال : " أيها الناس ، من بعثناه على عمل فغَلَّ شيئًا ، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله ، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رغاء ، أو بقرة تخور ، أو شاة تثغو " . (3)
8160 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له " ابن الأتْبِيَّة " على صدقات
__________
(1) الحديث : 8158 - حفص بن بشر ، ويعقوب بن عبد الله القمي ، مضيا في : 4842. حفص بن حميد القمي أبو عبيد : مترجم في التهذيب ، وعند ابن أبي حاتم 1 / 2 / 171. وهو ثقة ، وثقه النسائي وغيره. وقال ابن معين : " صالح " . وجهله ابن المديني ، ولئن جهله لقد عرفه غيره. وهذا إسناد صحيح. والحديث ذكره ابن كثير 2 : 280 ، عن هذا الموضع من الطبري. وقال : " لم يروه أحد من أهل الكتب الستة " . ولم أجده في موضع آخر مما بين يدي من المراجع ، حتى السيوطي لم يذكره في الدر المنثور.
(2) " السواد " العدد الكثير من المال ، سمى بذلك لأن الإبل والغنم وغيرها إذا جاءت كثيرة مجتمعة ، ترى كأنها سواد في خافق الأرض. يقال : " لفلان سواد كثير " ، أي مال كثير من إبل وغنم وغيرها. ويقال للشخص الذي يرى من بعيد " سواد " ، وفي الحديث : " إذا رأى أحدكم سوادًا بليل ، فلا يكن أجبن السوادين ، فإنه يخافك كما تخافه " ، يعني بالسواد الشخص.
(3) انظر التعليق على رقم : 8161 .

(7/359)


بني سليم ، فلما جاء قال : " هذا لكم ، وهذا هدية أهديت لي " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا يجلس أحدكم في بيته فتأتيه هديته! ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله ، فيقول أحدهم : هذا الذي لكم ، وهذا هدية أهديت إليّ! أفلا يجلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فتأتيه هديته ؟ والذي نفسي بيده ، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، فلا أعرفنَّ ما جاء رجل يحمل بعيرًا له رغاء ، (1) أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر! (2) ثم رفع يده فقال : " ألا هل بلغت " ؟
8161 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد ، حدثه بمثل هذا الحديث قال : أفلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك ؟ ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه ، ثم قال : " اللهم هل بلغت ؟ " قال أبو حميد : بَصَرُ عيني وسَمْعُ أذني. (3)
8162 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن موسى بن جبير حدثه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه : أن عبد الله بن أنيس حدثه : أنه تذاكر هو وعمر يومًا الصدقة فقال : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر
__________
(1) قوله : " فلا أعرفن " ، انظر التعليق السالف ص : 358 تعليق : 4.
(2) يعرت العنز تيعر (مثل فتح يفتح) يعارًا (بضم الياء) : صوتت صوتًا شديدًا. وكان في المطبوعة : " تثغو " ، وهو وإن كان صوابًا في المعنى ، فهو خطأ في الرواية ، صوابه من المخطوطة ، ومن رواية الحديث كما ترى في التخريج.
(3) الأحاديث : 8159 - 8161 ، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وعبد الرحيم - في ثالثها هو ابن سليمان الأشل. والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 423 - 424 (حلبي) ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد الساعدي ، بنحوه. وكذلك رواه البخاري 13 : 144 - 146 ، ومسلم 2 : 83 - 84 ، من طريق سفيان بن عيينة. ورواه البخاري أيضًا في مواضع أخر.
ورواه مسلم - عقب تلك الرواية - من أوجه أخر ، منها من طريق عبد الرحيم بن سليمان. وذكره ابن كثير : 2 : 280 - 281 ، من رواية المسند ، ثم قال : " أخرجاه (يعني الشيخين) ، من حديث سفيان بن عيينة. . . ومن غير وجه عن الزهري ، ومن طرق عن هشام بن عروة - كلاهما عن عروة ، به " .
قوله : " بصر عيني ، وسمع أذني " اختلفوا في ضبطه ، فروى على أنه فعل " بصر " (بفتح الباء وضم الصاد " " وسمع " فعل. وروى " بصر ، وسمع " اسمان. يراد به : " أعلم هذا الكلام يقينًا ، أبصرت عيني النبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم به ، وسمعته أذني فلا شك في علمي به " ، كما قال النووي في شرح مسلم 12 : 220 ، 221.

(7/360)


غلول الصدقة : " من غل منها بعيرًا أو شاة ، فإنه يحمله يوم القيامة " ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى. (1)
8163 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدِّقًا ، فقال : إياك ، يا سعد ، أنْ تجيء يوم القيامة ببعير تحمله رغاء! قال : لا آخذه ولا أجئ به! فأعفاه. (2)
__________
(1) الحديث : 8162 - موسى بن جبير الأنصاري المدني : مضت ترجمته وتوثيقه في : 2941. عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري المدني : تابعي ثقة. ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 96. ونقل الحافظ في التهذيب أن البخاري صرح بأنه " سمع عبد الله بن أنيس " . عبد الله بن أنيس - بالتصغير - الجهني المدني ، حليف الأنصار : صحابي معروف ، مترجم في التهذيب ، والإصابة.
وهذا الحديث من مسند عمر ، ومن مسند عبد الله بن أنيس ، لتصريح كل منهما بأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن الإمام أحمد لم يذكره في مسند عمر ، وذكره في مسند عبد الله بن أنيس فقط.
فرواه أحمد : 16131 (ج 3 ص 498 حلبي) ، عن هارون بن معروف ، عن عمرو بن الحارث - بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابنه عبد الله بن أحمد ، عن هارون بن معروف.
ورواه ابن ماجه : 1810 ، من طريق عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، به. وقال البوصيري في زوائده : " في إسناده مقال ، لأن موسى بن جبير ذكره ابن حبان في الثقات وقال : إنه يخطئ. وقال الذهبي في الكاشف : ثقة ، ولم أر لغيرهما فيه كلامًا وعبد الله بن عبد الرحمن : ذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجاله ثقات " . ونقله ابن كثير 2 : 283 ، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ، ثم نسبه أيضًا لابن ماجه ، ولم يزد! ففاته أن ينسبه للمسند ، وهو أهم.
وذكره السيوطي في الجامع الصغير : 8882 ، ونسبه لأحمد ، والضياء المقدسي ، عن عبد الله بن أنيس فقط. وهو عنه وعن عمر ، كما بينا.
(2) الحديث : 8163 - سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي : مضيا في : 2255 يحيى بن سعيد الأنصاري النجاري : مضى مرارًا ، آخرها : 4809. وهذا إسناد صحيح ، رجاله رجال الصحيح. وسيأتي تخريج الحديث في الذي بعده.

(7/361)


8164 - حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد قال ، حدثنا الربيع بن روح قال ، حدثنا ابن عياش قال ، حدثني عبيد الله بن عمر بن حفص ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل سعد بن عبادة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إياك ، يا سعد ، أن تجيء يوم القيامة تحمل على عنقك بعيرًا له رغاء! فقال سعد : فإن فعلتُ يا رسول الله ، إن ذلك لكائن! قال : نعم! قال سعد : قد علمت يا رسول الله أني أُسأَل فأعْطِى! فأعفنى. فأعفاه. (1)
8165 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زيد بن حبان قال ، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث قال ، حدثني جدي عبيد بن أبي عبيد - وكان أول مولود
__________
(1) الحديث : 8164 - أحمد بن المغيرة ، شيخ الطبري : مضى في : 3473 أني لم أعرفه. وقد زادنا أبو جعفر هنا تعريفًا به ، فنسبه " الحمصي " ، وأن كنيته " أبو حميد " . ولا يزال مع هذا غير معروف لنا. الربيع بن روح الحمصي ، أبو روح الحضرمي. ثقة ، روى عنه أيضًا أبو حاتم ، وقال : " وكان ثقة خيارًا " . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 1 / 255 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 461. ابن عياش : هو إسماعيل بن عياش الحمصي ، مضى توثيقه في : 5445.
وهذا إسناد صحيح أيضًا ، لكن إسماعيل بن عياش لم يخرج له شيء في الصحيحين. والحديث في معنى الذي قبله ، أطول في اللفظ قليلا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 86 ، من حديث ابن عمر ، بنحو اللفظ السابق. وقال : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح " .
وذكره ابن كثير 2 : 283 ، عن الرواية الماضية من الطبري. ثم قال : " ثم رواه من طريق عبيد الله ، عن نافع ، به. نحوه " . ولم يروه أحمد في المسند في مسند عبد الله بن عمر ، ولكن رواه في مسند " سعد بن عبادة " ، من حديثه 5 : 285 (حلبي) ، بنحوه - بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب ، عن سعد بن عبادة. وهو إسناد منقطع بين ابن المسيب وابن عبادة. فإن سعد بن عبادة توفي سنة 15 ، وقيل : سنة 11. وسعيد بن المسيب ولد سنة 15 ، فلم يدركه يقينًا. وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 85 ، من حديث سعد بن عبادة. وقال : " رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات ، إلا أن سعيد بن المسيب لم ير سعد بن عبادة " .

(7/362)


بالمدينة - قال : استعملت على صدقة دَوْس ، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه ، فسلَّم ، فخرجت إليه فسلمت عليه فقال : كيف أنت والبعير ؟ كيف أنت والبقر ؟ كيف أنت والغنم ؟ ثم قال : سمعت حبِيِّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ بعيرًا بغير حقه جاء به يوم القيامة له رغاء ، ومن أخذ بقرة بغير حقها جاء بها يوم القيامة لها خوار ، ومن أخذ شاة بغير حقها جاء بها يوم القيامة على عنقه لها يعار " ، (1) فإياك والبقر فإنها أحدُّ قرونًا وأشدُّ أظلافًا. (2)
8166 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثني محمد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن جده عبيد بن أبي عبيد قال : استعملت على صدقة دوس ، فلما قضيت العمل قدمت ، فجاءني أبو هريرة فسلم علي فقال : أخبرني كيف أنت والإبل ثم ذكر نحو حديثه عن زيد ، إلا أنه قال : جاء به يوم القيامة على عنقه له رُغاء. (3)
8167 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم
__________
(1) في المطبوعة : " لها ثغاء " ، وأثبت ما في المخطوطة. قد سلف " اليعار " ص : 360 ، تعليق : 2.
(2) الحديث : 8165 - أبو كريب : هو محمد بن العلاء ، الحافظ الثقة. زيد بن حبان : هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم بأنه محرف. فليس في الرواة - فيما نعلم - إلا زيد بن حبان الرقى ، وهو قديم ، مات سنة 158. فلم يدركه أبو كريب المتوفي سنة 248. والراجح عندي أنه محرف عن " زيد بن الحباب العكلي " ، الذي يروي عنه كريب كثيرًا. وهو ثقة ، مضت ترجمته : 2185.
عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد بن أبي عبيد : ثقة. قال أبو زرعة : " لا بأس به " . وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 224 ، باسم " عبد الرحمن بن الحارث بن أبي عبيد " . فقصر في نسبه ، إذ حذف اسم جده الأدنى. وقد ثبت نسبه على الصواب في ترجمة جده في التهذيب. ولم أجد لعبد الرحمن هذا ترجمة غيرها. عبيد بن أبي عبيد الغفاري ، مولى بني رهم : تابعي ثقة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 411 ، وثقات ابن حبان ، ص : 269 (مخطوط مصور). وقد خلط ابن أبي حاتم في اسم حفيده " عبد الرحمن بن الحارث " فذكره في ترجمة جده ، في الرواة عنه ، باسم " عبد الرحمن بن عبيد بن الحارث " . والحديث سيأتي عقبه بإسناد آخر.
(3) الحديث : 8166 - خالد بن مخلد : هو القطواني البجلي. مضت ترجمته في : 2206.
وقوله " حدثني محمد " - هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم أنه خطأ ، زيادة من الناسخين. فإن " خالد بن مخلد " يروي عن " عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد " مباشرة ، كما ثبت في ترجمة " عبد الرحمن " عند ابن أبي حاتم. وفيه : " سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن الحارث الذي يحدث عنه خالد بن مخلد القطواني " .
ولو كان هذا الراوي " محمد " ثابتا في الإسناد ، لبين نسبه أو نحو ذلك ، فإن اسم " محمد " أكثر الأسماء دورانًا ، فلا يذكر هكذا مجهلا ، دون قرينة ترشد عن شخصه. والحديث مكرر ما قبله.
وقد مضى معناه من حديث أبي هريرة ، من رواية أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عنه : 8155 - 8157. وأما من هذا الوجه ، من رواية عبيد بن أبي عبيد ، عنه - : فإني لم أجده في موضع آخر.

(7/363)


القيامة " ، قال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم مغنمًا بعث مناديًا : " ألا لا يغلَّن رجلٍ مخْيَطًا فما دونه ، (1) ألا لا يغلّنّ رجل بعيرًا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ، ألا لا يغلنّ رجل فرسًا ، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حَمْحمة " .
* * *
القول في تأويل قوله : { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه (2) : " ثم توفى كل نفس " ، ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها ، وافيًا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك (3) " وهم لا يظلمون " ، يقول : لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم ، من غير أن يعتدي عليهم فينقصوا عما استحقوه. كما : -
__________
(1) " المخيط " (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء) : ما يخاط به ، كالإبرة ونحوها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والصواب يقتضي ما أثبت.
(3) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 6 : 465 - وتفسير " كسب " فيما سلف ص : 327 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(7/364)


أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

8168 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، ثم يُجزى بكسبه غير مظلوم ولا متعدًّى عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : معنى ذلك : أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول ، كمن باء بسخَط من الله بغلوله ما غلّ ؟
*ذكر من قال ذلك :
8169 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك في قوله : " أفمن اتبع رضوان الله " ، قال : من لم يغلّ " كمن باء بسخط من الله " ، كمن غل.
8170 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني سفيان بن عيينة ، عن مطرف بن طريف ، عن الضحاك قوله : " أفمن اتبع رضوان الله " ، قال : من أدَّى الخمُس " كمن باء بسخط من الله " ، فاستوجب سخطًا من الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما : -
8171 - حدثني به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أفمن
__________
(1) الأثر : 8168 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8148 ، وفي المطبوعة : " معتدى عليه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو موافق لما في السيرة.

(7/365)


اتبع رضوان الله " ، على ما أحب الناس وسخطوا " كمن باء بسخط من الله " ، لرضى الناس وسخطهم ؟ يقول : أفمن كان على طاعتي فثوابه الجنة ورضوانٌ من ربه ، كمن باء بسخط من الله ، فاستوجب غضبه ، وكان مأواه جهنم وبئس المصير ؟ أسَواءٌ المثلان ؟ أي : فاعرفوا (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية عندي ، قولُ الضحاك بن مزاحم. لأن ذلك عَقيب وعيد الله على الغلول ، ونهيه عباده عنه. ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده : أسواءٌ المطيع لله فيما أمره ونهاه ، والعاصي له في ذلك ؟ أي : إنهما لا يستويان ، ولا تستوي حالتاهما عنده. لأن لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه ، الجنةُ ، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه النار.
* * *
فمعنى قوله : " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " إذًا : أفمن ترك الغلول وما نهاه الله عنه عن معاصيه ، وعمل بطاعة الله في تركه ذلك ، وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه ، متبعًا في كل ذلك رضا الله ، ومجتنبًا سخطه " كمن باء بسخط من الله " ، يعني : كمن انصرف متحمِّلا سخط الله وغضبه ، فاستحق بذلك سكنى جهنم " يقول : ليسا سواءً. (2)
* * *
وأما قوله : " وبئس المصير " ، فإنه يعني : وبئس المصير الذي يصير إليه ويئوب إليه من باء بسخط من الله جهنم. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 8171 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8168 ، وفي بعض لفظه اختلاف يسير.
(2) انظر تفسير " باء " فيما سلف 2 : 138 ، 345 / ثم 7 : 116.
(3) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 3 : 56 / 6 : 128 ، 317. وسياق الجملة : " وبئس المصير. . . جهنم " وما بينهما تفسير " المصير " .

(7/366)


هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

القول في تأويل قوله تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أنّ من اتبع رضوان الله ومن باء بسخَط من الله ، مختلفو المنازل عند الله. فلمن اتبع رضوان الله ، الكرامةُ والثواب الجزيل ، ولمن باء بسخط من الله ، المهانةُ والعقاب الأليم ، كما : -
8172 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ، أي : لكلٍّ درجات مما عملوا في الجنة والنار ، إنّ الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (1) .
8173 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " هم درجات عند الله " ، يقول : بأعمالهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لهم درجات عند الله ، يعني : لمن اتبع رضوان الله منازلُ عند الله كريمة.
*ذكر من قال ذلك :
8174 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " هم درجات عند الله " ، قال : هي كقوله : ( " لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ " ).
8175 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " هم درجات عند الله " ، يقول : لهم درجاتٌ عند الله.
* * *
__________
(1) الأثر : 8172 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8171.

(7/367)


وقيل : قوله " هم درجات " كقول القائل : " هم طبقات " ، (1) كما قال ابن هَرْمة :
أرَجْمًا لِلْمَنُونِ يَكُونُ قَوْمي... لِرَيْبِ الدَّهْرِ أَمْ دَرَجُ السّيولِ (2)
* * *
وأما قوله : " والله بصير بما يعملون " ، فإنه يعني : والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته ، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء ، يحصى على الفريقين جميعًا أعمالهم ، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشر ، كما : -
8176 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله بصير بما يعملون " ، يقول : إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (3) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير درجة فيما سلف 4 : 533 - 536.
(2) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2 : 547 ، 548 ، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع ، غريب من مثل أبي جعفر ، فراجع شرح البيت هناك.
(3) الأثر : 8176 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8172 ، وجزء منه.

(7/368)


لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

القول في تأويل قوله : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : لقد تطوّل الله على المؤمنين " إذ بعث فيهم رسولا " ، حين أرسل فيهم رسولا " من أنفسهم " ، نبيًّا من أهل لسانهم ، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول " يتلو عليهم آياته " ، يقول : يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله (1) " ويزكيهم " ، يعني : يطهّرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم (2) " ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه ، ويبين لهم تأويله ومعانيه " والحكمة " ، ويعني بالحكمة ، السُّنةَ التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيانَه لهم (3) " وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " ، يعني : وإن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته " لفي ضلال مبين " ، يقول : في جهالة جهلاء ، وفي حيرة عن الهدى عمياء ، لا يعرفون حقًّا ، ولا يبطلون باطلا.
* * *
وقد بينا أصل " الضلالة " فيما مضى ، وأنه الأخذ على غير هدى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " يتلو " فيما سلف 2 : 411 ، 569 / 6 : 466 ، تعليق : 3 ، وفهارس اللغة " تلا " .
(2) انظر تفسير " يزكي " فيما سلف 1 : 573 ، 574 / 3 : 88 / 5 : 29 / 6 : 528.
(3) انظر تفسير " الحكمة " فيما سلف 3 : 87 ، 88 / 5 : 15 ، 371 ، 576 - 579.
(4) انظر تفسير " الضلالة " فيما سلف 1 : 195 / 2 : 495 ، 496.

(7/369)


و " المبين " ، الذي يبَين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه ، أنه على غير استقامة ولا هدى (1) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8177 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " ، منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة ، جعله الله رحمة لهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم قوله : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، الحكمة ، السنة " وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " ، ليس والله كما تقول أهل حروراء : " محنة غالبة ، من أخطأها أهَريق دمه " ، (2) ولكن الله بعث نييه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلَّمهم ، وإلى قوم لا أدب لهم فأدَّبهم.
8178 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، " لقد منّ الله على المؤمنين " ، إلى قوله : " لفي ضلال مبين " ، أي : لقد منّ الله عليكم ، يا أهل الإيمان ، إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم فيما أحدثتم وفيما عملتم ، (3) ويعلمكم الخير والشر ، لتعرفوا الخير فتعملوا به ، والشر فتتقوه ، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه ، لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته ، فتتخلصوا بذلك من نقمته ، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته " وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين " ، أي : في عمياء من الجاهلية ،
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف 3 : 300 / 4 : 258.
(2) أهل حروراء : هم الخوارج ، وهذا مذهبهم.
(3) في المطبوعة : " فيما أخذتم وفيما عملتم " لم يحسن قراءة المخطوطة ، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام.

(7/370)


أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

لا تعرفون حسنة ولا تستغفرون من سيئة ، (1) صُمٌّ عن الحق ، عُمْيٌ عن الهدى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أوَ حين أصابتكم ، أيها المؤمنون ، " مصيبة " ، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد ، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد ، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرًا " قد أصبتم مثليها " ، يقول : قد أصبتم ، أنتم أيها المؤمنون ، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم ، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر ، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين " قلتم أنى هذا " ، يعني : قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد " أنى هذا " ، من أيِّ وجه هذا ؟ (3) ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا ، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء ، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك ؟ " قل " يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك " هو من عند أنفسكم " ، يقول : قل لهم : أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم ، بخلافكم أمري وترككم طاعتي ، لا من عند غيركم ، ولا من قبل أحد سواكم " إن الله على كل شيء قدير " ، يقول : إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة ، وتفضل
__________
(1) في المطبوعة : " تستغيثون من سيئة " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة " يستغيثون " غير منقوطة ، والأرجح أنه خطأ ، صوابه ما في سيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 8178 - سيرة ابن هشام 3 : 124 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8172 ، 8176. والجملة الأخيرة في ابن هشام : " صم عن الخير ، بكم عن الحق ، عمى عن الهدى " .
(3) انظر تفسير " أني " فيما سلف 4 : 398 - 416 / 5 : 12 ، 447 / 6 : 358 ، 420.

(7/371)


وانتقام " قدير " ، يعني : ذو قدرة. (1) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " قل هو من عند أنفسكم " ، بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل.
فقال بعضهم : تأويل ذلك : " قل هو من عند أنفسكم " ، بخلافكم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، إذْ أَشار عليكم بترك الخروج إلى عدوكم والإصحار لهم حتى يدخلوا عليكم مدينتكم ، ويصيروا بين آطامكم ، (2) فأبيتم ذلك عليه ، وقلتم : " اخرج بنا إليهم حتى نصْحر لهم فنقاتلهم خارج المدينة " .
*ذكر من قال ذلك :
8179 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " أصيبوا يوم أحد ، قُتل منهم سبعون يومئذ ، وأصابوا مثليها يوم بدر ، قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد ، حين قدم أبو سفيان والمشركون ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أنا في جُنَّة حصينة " ، يعني بذلك المدينة ، " فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم " (3) فقال له ناس من أصحابه من الأنصار : يا نبي الله ، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة ، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية ، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه! (4) فابرز بنا إلى القوم. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر تفسير " قدير " في فهارس اللغة فيما سلف من الأجزاء.
(2) " أصحر القوم " : برزوا إلى الصحراء. و " أصحروا لأعدائهم " : برزوا إلى فضاء لا يواريهم ، لكي يقاتلوهم في الصحراء. و " الآطام " جمع أطم (بضم الهمزة والطاء) : وهو حصن مبني بالحجارة ، كان أهل المدينة يتخذونها ويسكنونها يحتمون بها.
(3) " الجنة " (بضم الجيم وتشديد النون) : هو ما وراك من السلاح واستترت به ، كالدروع والبيضة ، وكل وقاية من شيء فهو جنة.
(4) في المطبوعة : " وقد كنا نمتنع في الغزو. . . أن نمتنع فيه " ، وفي المخطوطة : " قد كنا نمتنع من الغزو. . . أن نمتنع فيه " ، والصواب فيها ما أثبت ، كما في الدر المنثور 2 : 94.

(7/372)


فلبس لأمته ، فتلاوم القوم فقالوا : عرَّض نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرَّضتم بغيره! اذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم : " أمرُنا لأمرك تبعٌ " . فأتى حمزة فقال له : يا نبي الله ، إن القوم قد تلاوموا وقالوا : " أمرنا لأمرك تبع " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز ، (1) وإنه ستكون فيكم مصيبه. قالوا : يا نبي الله ، خاصة أو عامةً ؟ قال : سترونها ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بقرًا تُنحر ، فتأولها قتلا في أصحابه ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم ، فكان قتل عمه حمزة ، قتل يومئذ ، وكان يقال له : أسد الله ورأى أن كبشًا عُتِر ، (2) . فتأوّله كبش الكتيبة ، عثمان بن أبي طلحة ، أصيب يومئذ ، وكان معه لواء المشركين.
8180 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه غير أنه قال : " قد أصبتم مثليها " ، يقول : مثليْ ما أصيب منكم " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، يقول : بما عصيتم.
8181 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة ، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قَتلوا وأسروا ، فقال الله عز وجل : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " .
8182 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) " اللأمة " : الدرع الحصينة ، وسائر أداة الحرب.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أن كبشًا أغبر " ، ولا معنى له ، ولا هو يستقيم. واستظهرت صوابها كما ترى ، وأن الناسخ صحفها. يقال : " عتر الشاة والظبية يعترها عترًا ، وهي عتيرة " ، ذبحها. ومنه " العتيرة " ، وهي أول نتاج أنعامهم ، كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية. هذا على أنى لم أجد هذا الخبر بلفظه في مكان آخر ، ولكن المروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه مردف كبشًا ، فقال : أما الكبش ، فإني أقتل كبش القوم ، أي حاميهم وحامل لوائهم.

(7/373)


ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين ، فذلك قوله : " قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إذ نحن مسلمون ، نقاتل غضبًا لله وهؤلاء مشركون " قل هو من عند أنفسكم " ، عقوبة لكم بمعصيتكم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين قال ما قال.
8183 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، قالوا : فإنما أصابنا هذا لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى ، وعصينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فمن قتل منا كان شهيدًا ، ومن بقي منا كان مطهَّرًا ، رضينا ربَّنا!. (1)
8184 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن وابن جريج قالا معصيتهم أنه قال لهم : " لا تتبعوهم " ، يوم أحد ، فاتبعوهم.
8185 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين - يعني بأحد - وقتل منهم سبعون إنسانًا " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " ، كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين " قلتم أنى هذا " ، أن : من أين هذا " قل هو من عند أنفسكم " ، أنكم عصيتم.
8186 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " يقول : إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثليْ ما أصابوا منكم يوم أحد.
__________
(1) في المطبوعة : " رضينا بالله ربا " ، غير ما في المخطوطة ، كأنه لم يفهمه!!

(7/374)


8187 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم فقال : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، أي : إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم ، فبذنوبكم قد أصبتم مثليها قبلُ من عدوكم ، (1) في اليوم الذي كان قبله ببدر ، قتلى وأسرى ، ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيّكم صلى الله عليه وسلم. أنتم أحللتم ذلك بأنفسكم. (2) " إن الله على كل شيء قدير " ، أي : إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو ، قدير. (3) .
8188 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " ، الآية ، يعني بذلك : أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد.
* * *
وقال بعضهم : بل تأويل ذلك : " قل هو من عند أنفسكم " ، بإساركم المشركين يوم بدر ، (4) وأخذكم منهم الفداء ، وترككم قتلهم.
*ذكر من قال ذلك :
8189 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال ، أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتتقوَّوْا به على
__________
(1) في المطبوعة : " قتلا من عدوكم " وقبلها رقم (3) لشك المصحح في صحتها. وفي المخطوطة مثل ذلك غير منقوط ، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إنكم أحللتم. . . " ، ورجحت رواية ابن هشام ، فهي أجود في السياق.
(3) الأثر : 8187 - سيرة ابن هشام 3 : 125 ، هو تتمة الآثار التي آخرها : 8178.
(4) في المطبوعة : " بإسارتكم " وهو خطأ ، أوقعه فيه ناسخ المخطوطة ، لأن كتب (تكم) ، ولكنه أدخل الراء على التاء ، فاختلطت كتابته. والصواب ما أثبت.

(7/375)


عدوكم ، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون أو تقتلوهم. فقالوا : بل نأخذ الفدية منهم ويُقتل منا سبعون. قال : فأخذوا الفدية منهم ، وقتلوا منهم سبعين قال عبيدة : وطلبوا الخيرتين كلتيهما.
8190 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : أنه قال في أسارى بدر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم. قالوا : بل نأخذ الفداء فنستمتع به ، ويستشهد منا بعدتهم.
8191 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني إسماعيل ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة السلماني وحدثني حجاج ، عن جرير ، عن محمد ، عن عبيدة السلماني عن علي قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : يا محمد ، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أمرين : أن يقدَّموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدتهم. قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا!! لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عِدَّتهم ، فليس في ذلك ما نكره! قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.
* * *

(7/376)


وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)

القول في تأويل قوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذي أصابكم " يوم التقى الجمعان " ، وهو يوم أحد ، حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بـ " الذي أصابهم " ، ما نال من القتل مَنْ قُتِل منهم ، ومن الجراح من جرح منهم " فبإذن الله ، " يقول : فهو بإذن الله كان يعني : بقضائه وقدَره فيكم. (1) .
* * *
وأجاب " ما " بالفاء ، لأن " ما " حرف جزاء ، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل (2) .
* * *
" وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا " ، بمعنى : وليعلم الله المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا ، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد ، ليميِّز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم ، لا يخفى عليهم أمر الفريقين.
وقد بينا تأويل قوله : " وليعلم المؤمنين " فيما مضى ، وما وجه ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
8192 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين " ، أي : ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوّكم ، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم ، بعد أن جاءكم
__________
(1) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 2 : 449 ، 450 / 4 : 286 / 5 : 355 ، 395 / 7 : 289.
(2) انظر ما سلف 5 : 585.
(3) انظر ما سلف 3 : 160 / 7 : 246 ، 325.

(7/377)


وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

نصري ، وصدقتكم وعدي ، (1) ليميز بين المنافقين والمؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا منكم ، أي : ليظهروا ما فيهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه ، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم ، فقال لهم المسلمون : تعالوا قاتلوا المشركين معنا ، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم ، ولكنا معكم عليهم ، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه ، وأبدوا بألسنتهم بقولهم : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به ، كما : -
8193 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدَّث قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين
__________
(1) في المطبوعة : " وصدقتم وعدي " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 8192 - سيرة ابن هشام 3 : 125 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8187.

(7/378)


أحد والمدينة ، انخزل عنهم عبدالله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس وقال : (1) أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب ، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم ، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
8194 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " ، يعني : عبدالله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد وقوله : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، يقول : لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم ، ولدفعنا عنكم ، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم يقول الله عز وجل : " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " ، يظهرون لك الإيمان ، وليس في قلوبهم ، (3) " والله أعلم بما يكتمون " ، أي : يخفون. (4)
8195 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يوم أحد - في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا ، رجع عبدالله بن أبي ابن سلول في ثلثمئة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا
__________
(1) في المطبوعة : " فقال " ، والصواب من المخطوطة ، وسيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 8193 - سيرة ابن هشام 3 : 68 ، وهو تابع الأثر الماضي رقم : 7715 ، وبين رواية الطبري ، ورواية ابن هشام خلاف في بعض اللفظ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ، وليس في قلوبهم " ، وقد اختل الكلام ، وأظنه سقط من سهو الناسخ ، فأتممته من السيرة ، وأتممت الآية وتفسيرها بعدها.
(4) الأثر : 8194 - سيرة ابن هشام 3 : 125 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8192.

(7/379)


لترجعن معنا! (1) قال : فذكر الله أصحاب عبدالله بن أبيّ ابن سلول ، وقول عبدالله بن جابر بن عبدالله الأنصاري حين دعاهم فقالوا : " ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا لترجعُنّ معنا " ، فقال : ( الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ ). (2) .
8196 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال عكرمة : " قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، قال : نزلت في عبدالله بن أبيّ ابن سلول قال ابن جريج ، وأخبرني عبدالله بن كثير ، عن مجاهد " لو نعلم قتالا " ، قال : لو نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال ، لاتبعناكم.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله " أو ادفعوا " .
فقال بعضهم : معناه : أو كثِّروا ، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم.
*ذكر من قال ذلك :
8197 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أو ادفعوا " ، يقول : أو كثِّروا.
8198 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " أو ادفعوا " ، قال : بكثرتكم العدو ، وإن لم يكن قتال.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أو رابِطوا إن لم تقاتلوا.
*ذكر من قال ذلك :
8198م - حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا
__________
(1) في هذا الأثر اختصار مخل ، وقد مضى تمامه برقم 7723 ، وجواب " فلما غلبوه " ، في بقية الأثر وهو : " هموا بالرجوع " ، يعني بني سلمة رهط أبي جابر السلمي. وانظر التخريج بعد.
(2) الأثر : 8195 - مضى بعضه برقم : 7723 ، والتاريخ 3 : 12.

(7/380)


الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

الوليد بن مسلم قال ، حدثنا عتبة بن ضمرة قال : سمعت أبا عون الأنصاري في قوله : " قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " ، قال : رابطوا. (1)
* * *
وأما قوله : " والله أعلم بما يكتمون " ، فإنه يعني به : والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن ، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم ، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك ، (2) مطلع عليه ، ومحصيه عليهم ، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به ، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " وليعلم الله الذين نافقوا " " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا " .
* * *
فموضع " الذين " نصب على الإبدال من " الذين نافقوا " . وقد يجوز أن
__________
(1) الأثر : 8198م - " إسماعيل بن حفص الأيلي " ، سلفت ترجمته برقم : 7581 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا " الآملي " مكان " الأيلي " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة " الأيلي " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت. و " الوليد بن مسلم القرشي " ، سلفت ترجمته برقم : 6410. و " عتبة بن ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي " ، روى عن أبيه ، وعمه المهاجر ، ومحمد بن زياد الألهاني ، وأبي عون الشامي. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب ، و " أبو عون الأنصاري الشامي الأعور " روى عن أبي إدريس الخولاني ، ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة : " بما يخفونه من ذلك " ، غير ما في المخطوطة لغير شيء!! ، إلا أن يريدوا أن يدرجوا به على ما ألفوا من الكلام!!

(7/381)


يكون رفعًا على الترجمة عما في قوله : " يكتمون " من ذكر " الذين نافقوا " .
* * *
فمعنى الآية : وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم " وقعدوا " ، يعني : وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله " لو أطاعونا " ، يعني : لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا " ما قتلوا " يعني : ما قتلوا هنالك قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل " ، يا محمد ، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين " فادرأوا " ، يعني : فادفعوا.
* * *
من قول القائل : " درأت عن فلان القتل " ، بمعنى دفعت عنه ، " أدرؤه دَرْءًا " ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي... أهذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِيني (3)
* * *
يقول تعالى ذكره : قل لهم : فادفعوا إن كنتم ، أيها المنافقون ، صادقين في قيلكم : لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريشْ ، ما قُتلوا هنالك بالسيف ، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم ، وتخلّفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه [عن أنفسكم] الموت ، (4) فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد تخلفتم عن جهادهم ، وأنتم لا محالة ميتون. كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الدرء " فيما سلف 2 : 222 - 228.
(2) هو المثقب العبدي.
(3) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2 : 547 ، 548 ، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع ، غريب من مثل أبي جعفر ، فراجع شرح البيت هناك.
(4) السياق : " قل لهم : فادفعوا. . . عن أنفسكم الموت " ، والزيادة التي بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق ، وعن نص الآية ، فلذلك أثبتها.

(7/382)


8199 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " الذين قالوا لإخوانهم " ، الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم " لو أطاعونا ما قتلوا " الآية ، أي : أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا. وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، حرصًا على البقاء في الدنيا ، وفرارًا من الموت. (1)
* * *
*ذكر من قال : الذين قالوا لإخوانهم هذا القول ، هم الذين قال الله فيهم : " وليعلم الذين نافقوا " .
8200 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " الآية ، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبدالله بن أبيّ.
8201 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هم عبدالله بن أبيّ وأصحابه.
8202 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : هو عبدالله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : " لو أطاعونا ما قتلوا " ، الآية قال ابن جريج ، عن مجاهد قال ، قال جابر بن عبدالله : هو عبدالله بن أبيّ ابن سلول.
8203 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا " الآية ، قال : نزلت في عدوّ الله عبدالله بن أبيّ. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 8199 - سيرة ابن هشام 3 : 125 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8194.
(2) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفي المخطوطة ما نصه : " يتلوهُ إِن شاء الله : القول في تأويل قوله جل ثناؤه ولا تحسبَنَّ الذينَ قتلوا في سبيلِ الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون. والحمد لله على إحسانه ونعمته ، وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين ، وسلَّمَ كثيرًا " .
ثم يتلوه أول الجزء ، وفيها ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر يا كريم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود قال ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير " .
وانظر التعليق على هذا الإسناد فيما سلف 6 : 496 ، 497 / 7 : 23 ، 154 ، 280 ، 281.

(7/383)


وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " ولا تحسبن " ، ولا تظنن. كما : -
8204 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولا تحسبن " ، ولا تظنن. (1)
* * *
وقوله : " الذين قتلوا في سبيل الله " ، يعني : الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمواتًا " ، يقول : ولا تحسبنهم ، يا محمد ، أمواتًا ، لا يحسُّون شيئًا ، ولا يلتذُّون ولا يتنعمون ، فإنهم أحياء عندي ، متنعمون في رزقي ، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي ، وحبَوْتهم به من جزيل ثوابي وعطائي ، كما : -
8205 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق وحدثني
__________
(1) الأثر : 8204 - سيرة ابن هشام 3 : 126 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8199.

(7/384)


يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحُسن مَقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب! (1) فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات. (2)
8206 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير بن عبد الحميد وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قالا جميعًا : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبى الضحى ، عن مسروق بن الأجدع قال : سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآيات : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " الآية ، قال : أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا : إنه لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فيطَّلع الله إليهم اطِّلاعةً فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون : ربنا ، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! (3) ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون : رّبنا ، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن تُردّ أرواحنا في أجسادنا ، (4) ثم تردَّنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى " . (5) .
8207 - حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : سألنا
__________
(1) نكل عن عدوه : جبن فنكص على عقبيه ، وانصرف عنه هيبة له وخوفًا.
(2) الحديث : 8205 - أبو الزبير : هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، وهو تابعي ثقة ، مضى مرارًا. وقيل إنه لم يسمع من ابن عباس ، ففي المراسيل لابن أبي حاتم ، ص : 71 ، عن ابن عيينة : " يقولون : ابن المكي لم يسمع من ابن عباس " . وفيه أيضًا : " سمعت أبي يقول : رأى ابن عباس رؤية " .
والحديث رواه أحمد في المسند : 2388 ، عن يعقوب ، وهو ابن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، بهذا الإسناد. ثم رواه عقبة : 2389 ، " نحوه " ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن عبد الله بن إدريس ، عن ابن إسحاق ، به. وزاد في الإسناد " عن سعيد بن جبير " ، بين أبي الزبير وابن عباس.
وكذلك رواه أبو داود في السنن : 2520 ، عن عثمان بن أبي شيبة ، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2 : 297 - 298 ، من طريق عثمان بن أبي شيبة. وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2 : 290 - 291 ، من رواية المسند الأولى ، وأشار إلى رواية الطبري هذه ، ثم إلى زيادة سعيد بن جبير في الإسناد ، عند أبي داود والحاكم ، ثم قال : " وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " .
وذكره السيوطي 2 : 95 ، وزاد نسبته إلى هناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل. وقوله : " وحسن مقيلهم " - في المسند : " منقلبهم " . ومعناها صحيح أيضًا. ولكن وجدت بعد ذلك في مخطوطة الرياض من المسند (المصور عندي) نسخة أخرى بهامشها " مقيلهم " . وهي أصح وأجود. وهي الموافقة لما في ابن كثير نقلا عن المسند ، والموافقة لروايتي أبي داود والحاكم. ويؤيد صحتها أنها الموافقة لألفاظ الكتاب العزيز. قال الله تعالى : (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا) [سورة الفرقان : 24].
وانظر ما يأتي من حديث ابن مسعود : 8206 - 8208 ، 8218 ، 8219. وما يأتي من حديث ابن عباس : 8209 - 8213.
(3) قوله : " لا فوق ما أعطيتنا " ، أي لا شيء فوق ذلك. و " الجنة " قال أبو ذر الخشني : " يروى هنا بالخفض والرفع ، بخفض الجنة ، على البدل من " ما " في قوله : ما أعطيتنا - ورفعها على خبر مبتدأ مضمر ، تقديرها هو الجنة " . وجائز أن تكون على النصب أيضًا ، على تقدير " أعطيتنا الجنة " .
(4) في المطبوعة : إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا. . . " ، وفي المخطوطة : " إلا أنا نختار ترد أرواحنا " ، وهو تصحيف ما في سيرة ابن هشام " نحب أن ترد " ، فأثبت ما في السيرة ، وفي رواية مسلم " إلا أنا نريد أن ترد " ، وهما سواء.
(5) الحديث : 8206 - أبو الضحى : هو مسلم بن صبيح - بالتصغير - الهمداني. مضى الكلام عليه مرارًا ، آخرها : 7217. والحديث سيأتي عقب هذا ، من رواية الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق. ويأتي بعده : 8208 ، من رواية سليمان - وهو الأعمش - عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق. فللأعمش فيه شيخان. سمعه منهما عن مسروق. وسيأتي تخريجه في الأخير.

(7/385)


عبدالله عن هذه الآية ثم ذكر نحوه وزاد فيه : إني قد قضيت أن لا ترجعوا. (1) .
8208 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبدالله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبدالله عن أرواح الشهداء ، ولولا عبدالله ما أخبرنا به أحدٌ! قال : أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش ، تسرحُ في الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها ، فيطَّلع إليها ربُّها ، فيقول : ماذا تريدون ؟ فيقولون : نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى. (2)
8209 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن
__________
(1) الحديث : 8207 - الحسن بن أبي يحيى المقدسي ، شيخ الطبري : لم أصل إلى الآن إلى معرفته. وقد مضى كذلك من قبل في : 7216. ووقع اسمه في المطبوعة هنا : " الحسن بن يحيى العبدي " . والتصويب من المخطوطة. ومن السهل جدًا على الناسخ أو الطابع سقوط كلمة " أبي " ، وتحريف كلمة " المقدسي " إلى " العبدي " إذا كانت غير واضحة الرسم. وهذا الحديث تكرار للذي قبله من هذا الوجه ، كما قلنا.
(2) الحديث : 8208 - سليمان : هو ابن مهران الأعمش. والحديث مكرر ما قبله باختصار ، من وجه آخر ، من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق.
وعبد الله بن مرة الهمداني الخارفي : تابعي ثقة ، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 203 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 165. والحديث رواه مسلم 2 : 98 ، بأسانيد ، من طريق الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، به نحوه - أطول مما هنا.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 84 - 85 ، من رواية الأعمش ، عن عبد الله بن مرة. ونقله ابن كثير 2 : 289 ، عن صحيح مسلم. وذكره السيوطي 2 : 96 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق في المصنف ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الدلائل. ولم يروه أحمد في المسند ، فيما تحقق لدي ، إلا أن يكون أثناء مسند صحابي آخر فيما بعد المسانيد التي حققتها. فالله أعلم. وسيأتي مرة رابعة : 8218 ، من رواية عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله - وهو ابن مسعود ويأتي مرة خامسة : 8219 ، من رواية أبي عبيد بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه.

(7/387)


ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وقال عبدة : " في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنةُ بكرة وعشيًّا " . (1)
8210 - حدثنا أبو كريب ، وأنبأنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا أنه قال : في قبة خضراء وقال : يخرج عليهم فيها.
8211 - حدثنا ابن وكيع ، وأنبأنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
8212 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال محمد بن إسحاق ، وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا.
8213 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني أيضًا يعني إسماعيل بن عياش عن ابن إسحاق ، عن الحارث بن الفضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)
8214 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال محمد بن إسحاق ، وحدثني بعض أصحابي عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشرك يا جابر ؟
__________
(1) الحديث : 8209 - سبق هذا الحديث ، بهذا إسناد : 2323. وفصلنا القول فيه هناك. وسيأتي عقبه - هنا - بأربعة أسانيد.
(2) الأحاديث : 8210 - 8213 ، هي أربعة أسانيد ، تكرارًا للحديث قلبها.

(7/388)


قال قلت : بلى ، يا رسول الله! قال : إن أباك حيث أصيب بأحد ، أحياه الله ثم قال له : ما تحب يا عبدالله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب ، أحب أن تردَّني إلى الدنيا ، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى " . (1) .
8215 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا ليتنا نعلم ما فعل
__________
(1) الحديث : 8214 - هكذا روى ابن إسحاق هذا الحديث مجهلا شيخه الذي حدثه ، فأضعف الإسناد بذلك. وهو في سيرة ابن هشام 3 : 127. وقد ورد معناه عن جابر ، بإسناد آخر صحيح :
فروى أحمد في المسند : 14938 (ج3 ص 361 حلبي) ، عن علي بن المديني ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن محمد بن علي بن رُبَيِّعة - بالتصغير - السُّلَمي ، عن عبد الله بن محمد بن عُقيل ، عن جابر ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جابر ، أمَا علمتَ أن الله عز وجل أحيا أباك ، فقال له : تَمَنَّ عليَّ. فقال : أُرَدُّ إلى الدنيا ، فأُقتَل مرة أخرى. فقال : إني قَضَيْتُ الحكمَ ، أنهم إليها لا يُرْجَعون " . وهذا إسناد صحيح. محمد بن علي بن ربيعة السلمي : ثقة ، وثقه ابن معين ، وغيره ، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 26 - 27. وترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 183 - 184 باسم " محمد بن علي السلمي " . وكذلك ابن سعد في الطبقات 6 : 257 - فلم يذكروا فيه جرحًا.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 289 من رواية المسند. ثم قال : " تفرد به أحمد من هذا الوجه " . يشير بهذا إلى أن الترمذي روى معناه مطولا 4 : 84 ، من وجه آخر ، وقال : " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه " . ثم قال : " وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر - شيئًا من هذا " . وهو إشارة إلى حديث المسند.
وقد ذكر السيوطي الرواية المطولة 2 : 95 ، ونسبها أيضًا لابن ماجه ، وابن أبي عاصم في السنة ، وابن خزيمة والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل. وانظر المستدرك 3 : 203 - 204 ووالد جابر : هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، الخزرجي ، السلمي ، صحابي جليل مشهور ، من أهل العقبة ، وممن شهد بدرًا ، وكان من النقباء. استشهد يوم أحد ، رضي الله عنه.

(7/389)


إخواننا الذين قتلوا يوم أحد! فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " كنا نحدَّث أن أرواح الشهداء تَعارَف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ، وأنّ مساكنهم السِّدرة. (1) .
8216 - حدثت عن عمار ، وأنبأنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه إلا أنه قال : تعارف في طير خضر وبيض وزاد فيه أيضًا : وذكر لنا عن بعضهم في قوله : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء " ، قال : هم قتلى بدر وأحد.
8217 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال : قالوا : يا رب ، ألا رسول لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم ، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " ، الآيتين.
8218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبدالله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبدالله عن هذه الآيات : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، قال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت. قال : فاطلع إليهم ربك اطِّلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : ربنا ، ألسنا نسرح في الجنة في أيِّها شئنا! ثم اطَّلع عليهم الثالثة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم. (2)
__________
(1) الأثر : 8215 - مضى مطولا برقم : 2319.
(2) الحديث : 8218 - هذا هو الإسناد الرابع لحديث عبد الله بن مسعود ، الذي مضى بثلاثة أسانيد : 8206 - 8208.
رواه هنا من طريق عبد الرزاق. وهو في مصنف عبد الرزاق 3 : 115 (مخطوط مصور). بهذا الإسناد وهذا اللفظ. ولكن ليس في نسخة المصنف كلمة " خضر " في وصف الطير. وقوله : " ثم اطلع عليهم الثالثة " - هكذا ثبت أيضا في المصنف ، بحذف الاطلاعة الثانية. فليس ما هنا سقطًا من الناسخين ، بل هو اختصار في الرواية.

(7/390)


8219 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة ، عن عبدالله : أنهم قالوا في الثالثة حين قال لهم : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : تقرئ نبينا عنا السلام ، وتخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا. (1)
8220 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يرغِّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهوِّن عليهم القتل : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، أي : قد أحييتهم ، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها ، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه. (2)
__________
(1) الحديث : 8219 - هذا هو الإسناد الخامس لحديث عبد الله بن مسعود. وهو من رواية ابنه أبي عبيدة عنه. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : تابعي ثقة. الراجح أن اسمه كنيته. وقيل إن اسمه " عامر " . وبه ترجم في التهذيب ، وترجمه ابن سعد 6 : 149 بالكنية. وكذلك ترجمه البخاري في الكنى ، رقم : 447 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 403.
وروايته عن أبيه منقطعة ، مات أبوه وهو صغير. وجزم أبو حاتم وغيره بأنه لم يسمع منه ، انظر المراسيل ، ص : 91 - 92. وروى الترمذي (1 : 26 بشرحنا) ، بإسناد صحيح ، عن عمرو بن مرة ، قال ، " سألت أبا عبيدة بن عبد الله : هل تذكر من عبد الله شيئًا ؟ قال : " لا " .
والحديث - من هذا الوجه - رواه الترمذي ، عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه ، بل جعله تابعًا لرواية الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، كمثل صنيع الطبري هنا ، وقال الترمذي : " هذا حديث حسن " .
وقوله : " ورضي عنا " : هو بالبناء لما لم يسم فاعله. أي : ورضى الله عنا. كما هو ظاهر من السياق ، وكما نص عليه شارح الترمذي.
(2) الأثر : 8220 - سيرة ابن هشام 3 : 126 ، وهو تمام الآثار التي آخرها : 8204.

(7/391)


8221 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك قال : كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يومًا كيوم بدر ، يبلون فيه خيرًا ، يرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله فقال : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا " الآية.
8222 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر الشهداء فقال : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " ، زَعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، (1) في قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، فهي ترعى بُكرة وعشية في الجنة ، تبيت في القناديل ، فإذا سرحن نادى مناد : ماذا تريدون ؟ ماذا تشتهون ؟ فيقولون : ربنا ، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضًا : ماذا تشتهون ؟ وماذا تريدون ؟ فيقولون : نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة ، فيقولون ما قالوا : ولكنا نحب أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب. (2)
8223 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عباد قال ، حدثنا إبراهيم بن معمر ، عن الحسن قال : ، ما زال ابن آدم يتحمَّد (3) حتى صار حيًّا ما يموت. ثم تلا هذه الآية : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " .
8224 - حدثنا محمد بن مرزوق قال ، حدثنا عمر بن يونس ، عن عكرمة قال ،
__________
(1) قوله : " زعم " ، لا يراد به القول الباطل ، بل يراد به القول الحق ، والزعم : هو القول ، يكون تاره حقًا ، وتارة باطلا ، وفي شعر أمية بن أبي الصلت : وَإنِّي أَذِينٌ لَكُمْ أَنَهُ ... سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ ما زَعَمْ
أي : ما قال وما وعد.
(2) في المطبوعة : " لما يرون من فضل للثواب " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) " تحمد الرجل يتحمد " ، إذا طلب بفعله الحمد ، و " فلان يتحمد إلى الناس بفعله " ، أي يلتمس بذلك حمدهم.

(7/392)


حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة ، قال : لا أدري أربعين أو سبعين. قال : وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماء قعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلِّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال - أُراه أبو ملحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج حتى أتى حيًّا منهم ، فاحتبى أمام البيوت ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح ، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، (1) فقال : الله أكبر ، فزتُ ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه ، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل (2) قال : قال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : إنّ الله تعالى أنزل فيهم قرآنًا ، رُفع بعد ما قرأناه زمانًا. (3) وأنزل الله : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " . (4) .
8225 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ،
__________
(1) البيت : يعني الخيمة. وكسر البيت (بكسر الكاف وسكون السين) : أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من عن يمين ويسار.
(2) في المخطوطة : " فقتلوهم أجمعين " ، والصواب من التاريخ وسائر المراجع.
(3) نص ما في التاريخ : " أَنزَل فيهم قرآنًا : { " بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ " } ، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا " .
(4) الحديث : 8224 - محمد بن مرزوق - شيخ الطبري - هو محمد بن محمد بن مرزوق ، نسب إلى جده. وقد مضت له عنه رواية ، برقم : 28. مترجم في التهذيب. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 3 : 199 - 200 ، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 89 - 90 باسم " محمد بن مرزوق " .
عمر بن يونس اليمامي : مضى في : 4435. ووقع في الأصول هنا باسم " عمرو بن يونس " ، وكذلك في تاريخ الطبري في هذا الحديث ، وكذلك في تفسير ابن كثير ، في نقله الحديث عن هذا الموضع. ولعل الخطأ في هذا يكون من الطبري نفسه ، إذ يبعد أن يخطئ الناسخون في هذه المصادر الثلاثة خطأ واحدًا. وليس في الرواة - فيما أعلم - من يسمى " عمرو بن يونس " . ووقع في الإسناد هنا - في التفسير - خطأ آخر. في المخطوطة والمطبوعة ، إذ سقط من الإسناد [عن عكرمة] بين عمر بن يونس وإسحاق بن أبي طلحة. وهو ثابت في التاريخ وتفسير ابن كثير. وعكرمة هذا : هو عكرمة بن عمار اليمامي ، مضت ترجمته في : 2185. وعمر بن يونس معروف بالرواية عنه. ولم يدرك أن يروى عن " عكرمة مولى ابن عباس " . إسحاق بن أبي طلحة : هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري البخاري. نسب إلى جده. وهو تابعي ثقة حجة ، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1 / 1 / 393 - 394 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 226. وأبوه " أبو طلحة " : هو " زيد بن سهل " ، وهو أخو أنس بن مالك لأمه.
وهذا الحديث رواه الطبري أيضًا في التاريخ 3 : 36 ، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير 2 : 288 ، عن هذا الموضع من التفسير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 7 : 298 ، حيث قال : " في رواية الطبري من طريق عكرمة بن عمار ، عن إسحاق بن أبي طلحة. . . " ولكن وقع فيه " عكرمة عن عمار " - وهو خطأ مطبعي واضح.
ووقع في أصل الطبري هنا - المخطوط والمطبوع - : " فقال أراه أبو ملحان " . وكذلك في نقل ابن كثير عن هذا الموضع. وهو خطأ قديم من الناسخين ، صوابه : " ابن ملحان " . وثبت على الصواب في التاريخ ، ومنه صححناه.
وهو " حرام بن ملحان الأنصاري " ، وهو خال أنس بن مالك ، أخو أمه " أم سليم بنت ملحان " . ولا نعلم أن كنيته " أبو ملحان " - حتى نظن أنه ذكر هنا بكنيته. وهو مترجم في ابن سعد 3 / 2 / 71 - 72 ، والإصابة.
وهذا الحديث - في قصة بئر معونة - ثابت عن أنس بن مالك من أوجه ، مختصرًا ومطولا.
وقد رواه أحمد في المسند : 13228 ، عن عبد الصمد ، و : 14119 ، عن عفان - كلاهما عن همام ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس (المسند ج3 ص 210 ، 288 - 289 حلبي). ورواه أيضا : 12429 (3 : 137 حلبي) ، من رواية ثابت ، عن أنس.
ورواه البخاري 7 : 297 - 299 ، عن موسى بن إسماعيل ، عن همام ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة " ورواه قبله وبعده من أوجه أخر.
ورواه ابن سعد في الطبقات 3 / 2 / 71 - 72 ، عن عفان ، كرواية المسند : 14119. وقد مضى بعض معناه مختصرًا ، في تفسير الطبري : 1769 ، من رواية قتادة ، عن أنس. وتفصيل القصة في تاريخ ابن كثير 4 : 71 - 74. وانظر أيضًا جوامع السيرة لابن حزم ، ص : 178 - 180 ، وما أشير إليه من المراجع في التعليق عليه هناك. وروى أحمد في المسند ، بعض هذا المعنى ، من حديث ابن مسعود : 3952.

(7/393)


فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

عن الضحاك قال : لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوا ربَّهم ، فأكرمهم ، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب ، قالوا : يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا! فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " . فهذا النبأ الذي بلَّغ الله رسوله والمؤمنين ما قال الشهداء.
* * *
وفي نصب قوله : " فرحين " وجهان.
أحدهما : أن يكون منصوبًا على الخروج من قوله : " عند ربهم " . (1) والآخر من قوله : " يرزقون " . ولو كان رفعًا بالردّ على قوله : " بل أحياء فرحون " ، كان جائزًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله ، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه ، فهم لذلك مستبشرون بهم ، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك
__________
(1) " الخروج " ، نصبها على الخروج ، يعني على خروجها منه على الحال. انظر ما سلف 5 : 253 / ثم 6 : 586 / 7 : 25 ، تعليق : 3. ثم انظر معاني القرآن للفراء 1 : 247.

(7/395)


" لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، يعني بذلك : (1) لا خوف عليهم ، لأنهم قد أمنوا عقاب الله ، وأيقنوا برضاه عنهم ، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها ، للخفض الذي صارُوا إليه والدعة والزُّلْفة. (2) .
* * *
ونصب " أن لا " بمعنى : يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (3) .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8226 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية ، يقول : لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم ، لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم.
8227 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية ، قال ، يقولون : إخواننا يقتلون كما قتلنا ، يلحقونا فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا.
8228 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا عن بعضهم في قوله : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، قال : هم قتلى بدر وأحد ، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة ، (4) جُعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 1 : 551 / 2 : 150 ، 512 ، 513 / 5 : 519.
(2) " الخفض " : لين العيش وسعته وخصبه ، يقال : " عيش خفض ، وخافض ، وخفيض ، ومخفوض " : خصيب في دعة ولين. و " الزلفة " : القربة والدرجة والمنزلة ، عند الله رب العالمين.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 247.
(4) انظر تفسير " زعم " فيما سلف قريبًا ص 392 تعليق : 1.

(7/396)


الجنة ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة ، قالوا : ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه! فإذا شهدوا قتالا تعجَّلوا إلى ما نحن فيه! فقال الله تعالى : إنيّ منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه. ففرحوا به واستبشروا ، وقالوا : يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه ، فإذا شهدوا قتالا أتوكم! قال : فذلك قوله : " فرحين بما آتاهم الله من فضله " إلى قوله : " أجر المؤمنين " .
8229 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، أي : ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم ، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن. (1) .
8230 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، قال : هم إخوانهم من الشهداء ممَّن يُستشهد من بعدهم " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " حتى بلغ : " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " .
8231 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله ، فيقال : " يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا " ، فيستبشر حين يقدم عليه ، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
* * *
__________
(1) الأثر : 8229 - سيرة ابن هشام 3 : 126 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8220 ونص ابن هشام : " قد أذهب الله. . . " ، وهو أجود.

(7/397)


يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

القول في تأويل قوله : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : " يستبشرون " ، يفرحون " بنعمة من الله " ، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه " وفضل " يقول : وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، كما : -
8232 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق : " يستبشرون بنعمة من الله وفضل " الآية ، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب. (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " .
فقرأ ذلك بعضهم بفتح " الألف " من " أنّ " بمعنى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وبأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين.
* * *
وبكسر " الألف " ، على الاستئناف. واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبدالله : ( " وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ " ). قالوا : فذلك دليل على أن قوله : " وإن الله " مستأنف غير متصل بالأول. (2) .
* * *
ومعنى قوله : " لا يضيع أجر المؤمنين " ، لا يبطل جزاء أعمال من صدّق رسوله واتبعه ، وعمل بما جاءه من عند الله.
* * *
__________
(1) الأثر : 8232 - سيرة ابن هشام 3 : 126 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8229.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 247.

(7/398)


الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ، قراءه من قرأ ذلك : " وأن الله " بفتح " الألف " ، لإجماع الحجة من القرأة على ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم. (1) .
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك : الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو - أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش - مُنصَرَفهم عن أحد. وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم. كالذي : -
8233 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني حسين بن عبدالله ، (2) عن عكرمة قال : كان يوم أحد [يوم] السبت للنصف من شوال ، (3) فلما كان الغد من يوم أحد ، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب
__________
(1) انظر تفسير " القرح " فيما سلف 7 : 237.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " حسان بن عبد الله " ، وهو خطأ ، والصواب من تاريخ الطبري. وهو " حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب " . روي عن عكرمة ، وروي عنه هشام ابن عروة ، وابن جريج ، وابن المبارك ، وابن إسحاق. وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب.
(3) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام ومن تاريخ الطبري.

(7/399)


العدو ، وأذَّن مؤذِّنه أن : " لا يخرجنَّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس " . فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إنّ أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : " يا بني ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولستُ بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلَّف على أخواتك " ، فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبًا للعدوّ ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. (1) .
8234 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال ، فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شهد أحدًا قال : شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا ، أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين : فلما أذَّن [مؤذِّن] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ ، (2) قلت لأخي - أو قال لي - : أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحًا منه ، فكنتُ إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عقبة ، (3) حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها ثلاثًا ، الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة. (4)
__________
(1) الأثر : 8233 - سيرة ابن هشام 3 : 106 ، 107 ، وتاريخ الطبري 3 : 29.
(2) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
(3) " العقبة " : قدر ما يسره الماشي ما استطاع المشي ، يريد : حملته شوطًا ، وسار شوطًا.
(4) الأثر : 8234 - سيرة ابن هشام 3 : 107 - 108 ، وتاريخ الطبري 3 : 29.

(7/400)


8235 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله تبارك وتعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرحُ " ، أي : الجراح ، وهم الذين سارُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم أحد إلى حمراء الأسد ، على ما بهم من ألم الجراح " للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " . (1)
8236 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " الآية ، وذلك يوم أحد ، بعد القتل والجراح ، وبعد ما انصرف المشركون - أبو سفيان وأصحابه - فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا عِصابة تنتدبُ لأمر الله ، (2) تطلب عدوّها ؟ فإنه أنكى للعدو ، وأبعد للسَّمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجَهد.
8237 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : انطلق أبو سفيان منصرفًا من أحد ، حتى بلغ بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئسما صنعتم! (3) إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فهزموا ، فأخبر الله رسوله ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " . (4)
8238 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،
__________
(1) الأثر : 8235 - سيرة ابن هشام 3 : 128.
(2) في المطبوعة : " ألا عصابة تشد لأمر الله " ، ولا معنى له ، وفي المخطوطة : ألا عصابة تشدد لأمر الله " ، وهو بلا ريب تصحيف ما أثبت. " ندب القوم إلى الأمر فانتدبوا " : دعاهم إليه وحثهم ، فأسرعوا إليه واستجابوا. وفضلا عن ذلك ، فهذا هو اللفظ الذي كثر وروده في أخبار حمراء الأسد.
(3) في المخطوطة : " بئس ما صنعنا صنعتم " ، وهو سهو ، والصواب ما في المطبوعة. وانظر ما سلف رقم : 8003.
(4) الأثر : 8237 - مضى برقم : 8003 ، وانظر التعليق هناك.

(7/401)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب - يعني يوم أحد - بعد ما كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرّفًا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب " ! وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدَمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإنّ رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه ، ويتَّبعوا ما كانوا متَّبعين ، وقال : إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل ، فجاء الشيطان فخوَّف أولياءه ، فقال : " إن الناس قد جمعوا لكم " ! فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : " إني ذاهبٌ وإن لم يتبعني أحد " ، لأحضِّضَ الناس. (1) فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبدالله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله تعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم " .
8239 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هاشم بن القاسم قال ، حدثنا أبو سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت لعبدالله بن الزبير : يا ابن أختي ، أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لممن قال الله تعالى فيهم : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " . (2) .
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة " وتفسير ابن كثير 2 : 298. أما الدر المنثور 2 : 101 ، فقد أسقط " لأحضض الناس " ، وأنا أرجح أن صوابه هو : " ليحضض الناس " ، ولا أشك أن هذه الكلمة ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم.
(2) الحديث : 8239 - هاشم بن القاسم : هو أبو النضر الإمام الحافظ ، شيخ الإمام أحمد ، وإسحاق ، وابن المديني. وهو ثقة ثبت حجة. كان أهل بغداد يفخرون به. أبو سعيد : هو المؤدب ، واسمه " محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي " . وهو ثقة مأمون.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 298 ، من طريق العباس بن محمد الدوري ، عن هاشم بن القاسم ، بهذا الإسناد. ووقع في مطبوعة المستدرك " هشام بن القاسم " ، وهو خطأ مطبعي لا شك فيه.
وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
والحديث في الصحيحين ، كما سيأتي في الرواية الآتية : 8241. ولعلهما اعتبراه من المستدرك لقوله في هذه الرواية " أنها قالت لعبد الله بن الزبير " . والذي في الرواية الآتية أنها قالت لعروة بن الزبير. وهما أخوان ، والكلام لهما واحد. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى ، كرواية مسلم ، كما سيأتي.

(7/402)


8240 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرتُ أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد ، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم عامدون إلى المدينة! فقال : إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال ، فإنهم عامدون إلى المدينة ، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل ، فقد رَعَبهم الله ، (1) وليسوا بعامديها " . فركبوا الأثقال ، فرعبهم الله. ثم ندب ناسًا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة ، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثًا ، فنزلت : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " .
8241 - حدثني سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قالت لي عائشة : إنْ كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير. (2) .
__________
(1) في المطبوعة : " قد أرعبهم الله " ، وفي المخطوطة " فقد رعبهم " كما أثبته وهو الصواب. يقال " رعبه يرعبه " (على وزن فتح) ، و " رعبه " (مشدد العين) ، وقد نص أهل اللغة أنه لا يقال : " أرعبه " . وستأتي على الصواب في السطر التالي.
(2) الحديث : 8241 - سعيد بن الربيع الرازي - شيخ الطبري : مضت له رواية عنه في : 3791 ، ولم نجد له ترجمة. والحديث تكرار للحديث السابق : 8239. ولكن في هذا أن خطاب عائشة لعروة بن الزبير ، وهناك خطابها لأخيه عبد الله ، وهما ابنا أختها أسماء بنت أبي بكر.
ورواه مسلم 2 : 241 ، بأسانيد ، من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، ومن رواية إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي - وهو : عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير - عن عروة ، به ، نحوه.
ورواه البخاري 7 : 287 ، مطولا ، من طريق أبي معاوية ، عن هشام بن عروة. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى 3 : 363 ، من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي ، عن عروة - كرواية مسلم. ثم قال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ! وسقطت هذه الرواية من تلخيص الذهبي ، مخطوطًا ومطبوعًا.
وذكره ابن كثير 2 : 297 - 298 رواية البخاري ، ثم أشار إلى رواية الحاكم الأولى ، وتعقبه في دعواه أن الشيخين لم يخرجاه ، بقوله : " كذا قال " . ثم أشار إلى أنه رواه ابن ماجه ، وسعيد بن منصور ، وأبو بكر الحميدي في مسنده. ثم أشار إلى رواية الحاكم الثانية.
وذكره السيوطي 2 : 102 ، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل.

(7/403)


الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

8242 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان عبدالله من الذين استجابوا لله والرسول.
* * *
قال أبو جعفر : فوعد تعالى ذكره ، مُحسنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، إذا اتقى الله فخافه ، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره " أجرًا عظيما " ، وذلك الثواب الجزيل ، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم " .
* * *

(7/404)


و " الذين " في موضع خفض مردود على " المؤمنين " ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول.
* * *
و " الناس " الأوّل ، هم قوم - فيما ذكر لنا - كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.
و " الناس " الثاني ، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش ، الذين كانوا معه بأحد.
* * *
ويعني بقوله : " قد جمعوا لكم " ، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرّة إليكم لحربكم " فاخشوهم " ، يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم " فزادهم إيمانًا " ، يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين ، يقينًا إلى يقينهم ، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا ثقة بالله وتوكلا عليه ، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، يعني بقوله : " حسبنا الله " ، كفانا الله ، يعني : يكفينا الله (1) " ونعم الوكيل " ، يقول : ونعم المولى لمن وليَه وكفَله.
* * *
وإنما وصف تعالى نفسه بذلك ، لأن " الوكيل " ، في كلام العرب ، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات ، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله ، ووثِقوا به ، وأسندوا ذلك إليه ، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف 4 : 244.

(7/405)


واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الناس قد جمعوا لكم " .
فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد ، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين.
ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومن قائله :
8243 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : مرَّ به - يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم - معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد وكانت خزاعة ، مسلمُهم ومشركهم ، عَيْبةَ نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، (1) صفقتهم معه ، (2) لا يخفون عليه شيئًا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : والله يا محمد ، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! (3) ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، (4) حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا! حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟! (5) لنَكرَّن على بقيَّتهم ، فلنفرغنَّ منهم " . فلما رأى أبو سفيان معبدًا
__________
(1) العيبة : وعاء من أدم يكون في المتاع. ثم أخذوا منه على المثل قولهم : " عيبة الرجل " ، أي موضع سره ، وفي الحديث : " الأنصار كرشى وعيبتي " أي : خاصتي وموضع سرى. ويقال لأهل الرجل " هم عيبته " ، من ذلك.
(2) الصفقة : البيعة ، ثم استعملت في العهد والميثاق ، وفي الحديث : " إن أكبر الكبائر أن تقاتل أهل صفقتك " ، وذلك إذا أعطى الرجل عهده وميثاقه ثم يقاتله ، وأصل ذلك كله من الصفق باليد. لأن المتعاهدين والمتبايعين ، يضع أحدهما يده في يد الآخر. ومنه حديث ابن عمر : " أعطاه صفقة يده ، وثمرة قلبه " . فالصفقة المرة من التصفيق باليد.
(3) عافاه الله وأعفاه : وهب له العافية من العلل والبلايا. وفي سيرة ابن هشام " عافاك فيهم " ، وهما سواء. وقوله : " عافاك فيهم " ، أي : صانك مما نزل بأصحابك.
(4) في المطبوعة : " من حمراء الأسد " ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام ، وتاريخ الطبري.
(5) في المطبوعة : " أصبنا في أحد أصحابه. . . " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام والتاريخ. وحد كل شيء : طرف شباته ، كحد السكين والسيف والسنان. ومنه يقال : " حد الرجل " وهو بأسه ونفاذه في نجدته. و " رجل ذو حد " : أي بأس ماض. وقوله : " أصبنا حد أصحابه " ، أي : كسرنا حدهم وثلمناه كما يثلم السيف ، فصاروا أضعف مما كانوا.

(7/406)


قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد ، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرَّقون عليكم تحرُّقا ، (1) قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنَق عليكم شيء لم أر مثله قط! (2) . قال : ويلك! ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال : فإنّي أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتًا من شعر! قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتي... إِذْ سَالَتِ الأرَضُ بِالجُرْدِ الأبَابيِل (3) تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ... عِنْد اللِّقَاء وَلا خُرْقٍ مَعَازِيِل (4)
__________
(1) يتحرق : يتلهب من الغيظ كمثل حريق النار.
(2) في المطبوعة : " فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام ، وتاريخ الطبري.
(3) هد البناء : ضعضعه وهدمه. ومنه " هده الأمر " إذا بلغ منه فضعضعه وكسره وأوهنه. يقول : كادت تنهار راحلته من الفزع. و " الجرد " جمع أجرد : وهو القصير الشعر من الخيل ، وهو من علامات عتقها وكرمها. و " الأبابيل " الجماعات المتفرقة ، واحدها " إبيل " (بكسر الهمزة وتشديد الباء المكسورة) ، وقيل غير ذلك ، وقيل : هو جمع لا واحد له. وزعم معبد كثرة خيل المسلمين في مخرجهم إلى حمراء الأسد ، والذي في السير أن المسلمين كانوا في أحد ألفًا ، فيهم مئة دارع. وفرسان : أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر لأبي بردة بن نيار.
(4) ردت الخيل تردى (على وزن جرى يجري) : رجمت الأرض بحوافرها في سيرها أو عدوها. و " التنابل " جمع تنبال وتنبالة (بكسر التاء) ، وهو القصير ، والقصر معيب ، لأن المقاتل القصير لا يطول باعه إذا قاتل بسيف أو رمح. وفي المطبوعة " ولا ميل معازيل " ، كما في سيرة ابن هشام ، ولكن الذي أثبته هو رواية الطبري في التفسير ، وفي التاريخ. و " الخرق " جمع. خرق : وهو الأحمق الذي لا رفق له في عمل. وأنا أرجح أنه أراد الصفة من قولهم : " خرق الظبي وغيره " : إذا دهش وفزع ، فلصق بالأرض ولم يقدر على النهوض ، والصفة من ذلك " خرق " على وزن " فرح " ، ولكنه جمعه على باب " أفعل " .
وأما " الميل " فهو جمع أميل : وهو الذي يميل على السرج في جانب ولا يستوي عليه ، لأنه لا يحسن الركوب ولا الفروسية. و " المعازيل " جمع معزال : وهو الذي لا سلاح معه. وأنا أرى أن " الأميل " ، هو الذي يميل عن عدوه من الخوف و " المعزال " ، الذي يعتزل المعركة من الفرق ، فلا يكاد يقاتل ، ولا ينجد من استغاث به.

(7/407)


فَظَلْتُ عَدْوًا ، أَظُنُّ الأرْضَ مَائِلَةً... لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ (1) فَقُلْتُ : وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ منْ لِقَائِكُمُ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحَاءُ بِالخِيِل (2) إنِّي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً... لِكَلِّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ (3) مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالقِيلِ (4)
قال : فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة. قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة. قال : فهل
__________
(1) قوله : " فظلت عدوا " ، أي : فظللت أعدو عدوًا. و " سما الرجل لعدوه " : إذ أشرف له وقصد نحوه ، عاليًا عليه.
(2) " تغطمطت القدر " : اشتد غليانها ، وبان صوتها كصوت اضطراب الأمواج. و " البطحاء " : مسيل الوادي ، فيه دقاق الحصى. و " الخيل " ، ضبطه السهيلي في الروض الأنف (2 : 144) بفتح الخاء وسكون الباء ، وقال : " قوله : بالخيل ، جعل الردف حرف لين ، والأبيات كلها مردفة الروى بحرف مد ولين. وهذا هو السناد.. ونظيره قول ابن كلثوم : " ألا هبى بصحنك فاصبحينا " ثم قال : " تصفقها الرياح إذا جرينا " . وهو وجه صحيح مقارب. وأما أبو ذر الخشني فقد ضبطه " الجيل " بكسر الجيم ، وقال : " الجيل : الصنف من الناس " . وهذا لا معنى له. وهو في مطبوعة سيرة ابن هشام " الجيل " بالجيم ، وكذلك هو في تاريخ الطبري. فلو صح أنها بالجيم ، فأنا أرى أنها جماعة الخيل ، وذلك أنهم قالوا : " الجول " (بضم الجيم) و " الجول " بفتحها : هي جماعة الخيل أو الإبل ، وقالوا أيضا : " الجول " بضم الجيم و " الجال " و " الجيل " ناحية البئر وجانبها. فكأنه قاس هذا على هذا. أو كأنه جمع جائل من قولهم : " جالت الخيل بفرسانها " إذا طافت وذهبت وجاءت ، جمعه كجمع : هائم وهيم ، على شذوذه. فأما إذا كانت الرواية " الخيل " بكسر الخاء ، فهو جمع خائل أيضا كالذي سلف ، والخائل هو الحافظ للشيء الراعي له ، من خال المال يخوله : إذا ساسه وأحسن القيام عليه ، فهو خائل وخال. يقال : " من خال هذا الفرس " ، أي صاحبها القائم بأمرها.
(3) قال أبو ذر الخشني : " البسل : الحرام. وأراد بأهل البسل قريشًا ، لأنهم أهل مكة ، ومكة حرام " . وقوله : " ضاحية " أي علانية من " ضحا " أي برز ، والضاحية من كل شيء ما برز منه. فهو إما مصدر على وزن " عافية " ، أو اسم فاعل قام مقامه. و " الإربة " البصر بالأمور. و " المعقول " مصدر كالمصادر التي جاءت على وزنه ، وهو العقل.
(4) " الوخش " : رذالة الناس وسقاطهم وصغارهم. و " القنابل " جمع قنبلة (بفتح القاف) وهي الطائفة من الناس والخيل.

(7/408)


أنتم مبلَّغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها ، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا : نعم. قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : (1) " حسبنا الله ونعم الوكيل " . (2)
8244 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله : " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ، و " الناس " الذين قالوا لهم ما قالوا النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال : إنّ أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " الآية. (3)
8245 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ندموا يعني أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : " ارجعوا فاستأصلوهم " ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا ، فلقوا أعرابيًّا فجعلوا له جُعْلا فقالوا له : إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابيَّ في الطريق ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .
__________
(1) أسقطت المطبوعة : " وأصحابه " ، وهي ثابتة في التاريخ وفي المخطوطة ، وفعل الناشر ذلك ليوافق ما في سيرة ابن هشام.
(2) الأثر : 8243 - سيرة ابن هشام 3 : 108 - 110 ، وهو بقية الأثر السالف : 8233 ، وتاريخ الطبري 3 : 28 - 29.
(3) الأثر : 8244 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8235.

(7/409)


8246 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عِيرًا واردةَ المدينة ببضاعة لهم ، (1) وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حِبال ، (2) فقال : إنّ لكم عليَّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدًا ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي ، وأخبرتموه أنّي قد جمعت له جموعًا كثيرة. فاستقبلت العيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : (3) يا محمد إنا نخبرك أنّ أبا سفيان قد جمع لك جموعًا كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا ، وقالوا : (4) " حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله تبارك وتعالى : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية.
8247 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناسُ يأتون عليهم فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس! فقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله تعالى فيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .
* * *
وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له ، في غزوة بدر الصغرى ، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عامَ قابلٍ من وقعة أحد للقاء عدوِّه أبي سفيان وأصحابه ، للموعد الذي كان واعده الالتقاءَ بها.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) " العير " (بكسر العين) : القافلة من الإبل أو الحمير أو البغال ، تحمل عليها الميرة.
(2) " الحبال " جمع حبل : وهو العهد.
(3) في المطبوعة : " قالوا له " ، بحذف الفاء ، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " ولم يزده ذلك " بالواو ، والصواب من المخطوطة.

(7/410)


8248 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم " ، قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد : " موعدكم بدرٌ حيث قتلتم أصحابنا " ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " عسى " ! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرًا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا ، فذلك قوله تبارك وتعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " ، وهي غزوة بدر الصغرى.
8249 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه وزاد فيه : وهي بدر الصغرى قال ابن جريج : لما عبَّى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، (1) فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : " قد جمعوا لكم " ! يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يَرْعَبوهم ، فيقول المؤمنون : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، حتى قدموا بدرًا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. (2) قال : وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام ، وقال في ذلك : (3)
نَفَرَتْ قَلُوصيِ عَنْ خُيولِ مُحَمَّدِ... وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كَالعُنْجُدِ وَاتَّخَذَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
* * *
قال أبو جعفر : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو :
__________
(1) في المطبوعة : " لما عمد النبي. . . " ، وفي المخطوطة " لما عبد " ، ورجحت أن صحة قراءتها ما أثبت. " عبى الجيش تعبئة " : هيأه وأصلح أمره وجمعه ، مثل " عبأه " . ورجحت ذلك ، لأن معناه وارد في الآثار الأخرى.
(2) قوله : " أسواقهم عافية " ، أي وافرة ، من قولهم : " أرض عافية " : لم يرع أحد نبتها ، فوفر نبتها وكثر. يعني أن الأسواق لم يحضرها أحد يزاحمهم في تجارتها. وانظر الأثر الآتي رقم : 8252.
(3) هو معبد بن أبي معبد الخزاعي ، كما روى ابن هشام في سيرته 3 : 220 ، 221 ، والطبري في تاريخه 3 : 41.

(7/411)


قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمَّدِ... وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبٍ كَالعُنْجُدِ (1) تَهْوِي عَلَى دِينِ أَبيهَا الأتْلَدِ... قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي (2)
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ (3)
* * *
8250 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : كانت بدر متجرًا في الجاهلية ، فخرج ناس من المسلمين يريدونه ، ولقيهم ناسٌ من المشركين فقالوا لهم : " إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ! فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة ، وقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ! فأتوهم فلم يلقوا أحدًا ، فأنزل الله عز وجل فيهم : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " قال ابن يحيى قال ، عبد الرزاق قال ، ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشعبي ، عن عبدالله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، فقال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : " إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش ، مُنْصَرَفهم عن أحد إلى حمراء الأسد " .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 220 ، 221 ، وتاريخ الطبري 3 : 41 ، ومعجم ما استعجم : 856 ، 857. وقوله : " رفقتي محمد " بالتثنية ، يعنى المهاجرين والأنصار. و " العجوة " ضرب من أجود التمر بالمدينة ، ونخلته هي " اللينة " المذكورة في قوله تعالى : " ما قطعتم من لينة " ، في سورة الحشر. و " يثرب " مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و " العنجد " : الزبيب الأسود.
(2) تهوي : تسرع ، هوت الناقة تهوى : أسرعت إسراعًا. والدين : الدأب والعادة. و " الأتلد " الأقدم ، من التليد ، وهو القديم. و " قديد " : موضع ماء بين مكة والمدينة.
(3) و " ضجنان " (بفتح أوله وسكون الجيم) : وهو جبل على طريق المدينة من مكة ، بينه وبين قديد ليلة ، كما بينه هذا الشعر. قاله أبو عبيد البكرى في معجم ما استعجم.

(7/412)


لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، لما قيل لهم : " إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد.
وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى ، (1) فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمُه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها ، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها ، بعد سنة من غزوة أحد ، في شعبان سنة أربع من الهجرة. وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث ، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرَّجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرَّجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا الصغرى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأما قول الذين خرجوا معه " ، وهي زيادة فاسدة ، وليست في المخطوطة.

(7/413)


فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

القول في تأويل قوله : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فانقلبوا بنعمة من الله " ، فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، (1) من وجههم الذي توجَّهوا فيه - وهو سيرهم في أثر عدوهم - إلى حمراء الأسد " بنعمة من الله " ، يعني : بعافية من ربهم ، لم يلقوا بها عدوًّا. (2) " وفضل " ، يعني : أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي تَجَروا بها ، (3) الأجر الذي اكتسبوه (4) : " لم يمسسهم سوء " يعني : لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى (5) " واتبعوا رضوان الله " ، يعني بذلك : أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك ، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ ، وطاعتهم " والله ذو فضل عظيم " ، يعني : والله ذو إحسان وطَوْل عليهم - بصرف عدوهم الذي كانوا قد همُّوا بالكرة إليهم ، وغير ذلك من أياديه عندهم وعلى غيرهم - بنعمه (6) " عظيم " عند من أنعم به عليه من خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8251 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) انظر تفسير " انقلب " فيما سلف 3 : 163.
(2) انظر تفسير " النعمة " فيما سلف 4 : 272.
(3) في المطبوعة : " اتجروا بها " ، وأثبت ما في المخطوطة. " تجر يتجر تجرًا وتجارة " : باع واشترى ، ومثله : " اتجر " على وزن (افتعل). والثلاثي على وزن (نصر وينصر).
(4) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف ص299 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " المس " فيما سلف 5 : 118 / 7 : 155 ، 238.
(6) السياق : " والله ذو إحسان وطول. . . بنعمه " .

(7/414)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " ، قال : والفضل ما أصابوا من التجارة والأجر.
8252 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال ، وافقوا السوق فابتاعوا ، وذلك قوله : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " . قال : الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر قال ابن جريج : ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل ، أصابوا عَفْوه وغِرَّته (1) لا ينازعهم فيه أحد قال : وقوله : " لم يمسسهم سوء " ، قال : قتل " واتبعوا رضوان الله " ، قال : طاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
8253 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله ذو فضل عظيم " ، لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. (2)
8254 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم ، ولم يؤذهم أحد ، " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " .
8255 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى - ببدر دراهم ، (3) ابتاعوا بها من موسم بدر فأصابوا تجارة ، فذلك قول الله : " فانقلبوا بنعمة من لله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله " . أما " النعمة " فهي العافية ، وأما " الفضل " فالتجارة ، و " السوء " القتل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وعزته " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة غير منقوطة. و " الغرة " (بكسر الغين) الغفلة ، يريد خلو السوق ممن يزاحمهم فيها ، كأنهم أتوها والناس في غفلة عنها. وهو مجاز ، ومثله عيش غرير : أي ناعم ، لا يفزع أهله.
(2) الأثر : 8253 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8244.
(3) في المطبوعة والدر المنثور " ببدر دراهم " ، وفي المخطوطة " بردراهم " غير منقوطة ، وأخشى أن تكون كلمة مصحفة لم أهتد إليها ، وإن قرأتها " نثر دراهم " ، فلعلها! وشيء نثر (بفتحتين) متناثر. ولا أدري أيصح ذلك أو لا يصح.

(7/415)


إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إنما الذي قال لكم ، أيها المؤمنون : " إن الناس قد جمعوا لكم " ، فخوفوكم بجموع عدوّكم ومسيرهم إليكم ، من فعل الشيطان ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم ، يخوفكم بأوليائه من المشركين - أبي سفيان وأصحابه من قريش - لترهبوهم ، وتجبنوا عنهم ، كما : -
8256 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه " ، يخوف والله المؤمنَ بالكافر ، ويُرهب المؤمن بالكافر.
8257 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : " إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه " ، قال : يخوّف المؤمنين بالكفار.
8258 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، يقول : الشيطان يخوّف المؤمنين بأوليائه.
8259 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه " ، أي : أولئك الرهط ، يعني النفر من عبد القيس ، الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا ، وما ألقى الشيطان على أفواههم " يخوّف أولياءه " ، أي : يرهبكم بأوليائه. (1)
8260 - حدثني يونس قال ، أخبرنا علي بن معبد ، عن عتاب بن بشير مولى قريش ، عن سالم الأفطس في قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، قال : يخوفكم بأوليائه.
* * *
__________
(1) الأثر : 8259 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8253.

(7/416)


وقال آخرون : معنى ذلك ، إنما ذلكم الشيطان يعظِّم أمر المشركين ، أيها المنافقون ، في أنفسكم فتخافونه.
* ذكر من قال ذلك :
8261 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر أمر المشركين وعِظمهم في أعين المنافقين فقال : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " يخوف أولياءه " ؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه ؟ [وكيف] قيل إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه " يخوف أولياءه " ؟ (1) قيل : ذلك نظير قوله : ( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) [سورة الكهف : 2] بمعنى : لينذركم بأسه الشديد ، وذلك أن البأس لا يُنذر ، وإنما ينذر به. (2)
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى ذلك : يخوف الناسَ أولياءه ، كقول القائل : " هو يُعطي الدراهم ، ويكسو الثياب " ، بمعنى : هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب ، فحذف ذلك للاستغناء عنه.
* * *
قال أبو جعفر : وليس الذي شبه [من] ذلك بمشتبه ، (3) لأن " الدراهم " في قول القائل : " هو يعطي الدراهم " ، معلوم أن المعطَى هي " الدراهم " ، وليس كذلك " الأولياء " - في قوله : " يخوف أولياءه " - مخوَّفين ، (4) بل التخويف من الأولياء لغيرهم ، فلذلك افترقا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وهل يخوف الشيطان أولياءه ؟ قيل إن كان معناه يخوفكم بأوليائه " وهو كلام لا يستقيم ، ورجحت أن الناسخ أسقط ما زدته بين القوسين.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 248.
(3) في المطبوعة : " الذي شبه ذلك بمشبه " ، والذي في المخطوطة مثله إلا أنه كتب " بمشتبه " ورجحت أن الناسخ أسقط " من " فوضعها بين القوسين ، مع إثبات نص المخطوطة ، وهو الصواب.
(4) السياق : " وليس كذلك الأولياء. . . مخوفين " .

(7/417)


القول في تأويل قوله : { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) }
قال أبو جعفر : يقول : فلا تخافوا ، أيها المؤمنون ، المشركين ، ولا يعظُمَن عليكم أمرهم ، ولا ترهبوا جمعهم ، مع طاعتكم إياي ، ما أطعتموني واتبعتم أمري ، وإني متكفِّل لكم بالنصر والظفر ، (1) ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري ، فتهلكوا " إن كنتم مؤمنين " ، يقول : ولكن خافونِ دون المشركين ودون جميع خلقي ، أنْ تخالفوا أمري ، إن كنتم مصدِّقي رسولي وما جاءكم به من عندي.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : ولا يحزنك ، يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدِّين على أعقابهم من أهل النفاق ، (2) فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئًا ، وكما أنّ مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته ، (3) كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارَّته. كما : -
8262 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ، يعني : أنهم المنافقون. (4)
__________
(1) في المخطوطة : " وإني متكلف لكم بالنصر " ، وهو خطأ فاحش ، تعالى ربنا عن أن يتكلف شيئًا ، وهو القادر الذي لا يؤوده شيء. وقد أصاب ناشر الطبعة السالفة فيما فعل.
(2) انظر تفسير " سارع " فيما سلف 7 : 130 ، 207.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " كما أن مسارعتهم " بغير واو ، والصواب إثبات الواو.
(4) في المطبوعة : " هم المنافقون " ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولو قرئت المخطوطة : " فهم المنافقون " ، لكان أجود.

(7/418)


وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

8263 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ، أي : المنافقون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر ، نصيبًا في ثواب الآخرة ، فلذلك خذلهم فسارعوا فيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الآخرة ، لهم عذاب عظيم في الآخرة ، وذلك عذابُ النار. وقال ابن إسحاق في ذلك بما : -
8264 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يريد الله أن لا يجعل لهم حظًّا في الآخرة " ، أن يُحبط أعمالهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه المنافقين الذين تقدَّم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم : أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) الأثر : 8263 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8259.
(2) الأثر : 8264 - ليس في سيرة ابن هشام.

(7/419)


إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم فارتدوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه ، (1) ورضوا بالكفر بالله وبرسوله ، عوضًا من الإيمان ، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم عن إيمانهم شيئًا ، بل إنما يضرون بذلك أنفسهم ، بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قِبل لها به.
* * *
وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله : ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) إلى هذه الآية ، عبادَه المؤمنين على إخلاص اليقين ، ولانقطاع إليه في أمورهم ، والرضى به ناصرًا وحدَه دون غيره من سائر خلقه ورغَّب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه ، وشجَّع بها قلوبهم ، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميعُ من خالفه وحادَّه ، وأن من خذله فلن ينصره ناصرٌ ينفعُه نصرُه ، ولو كثرت أعوانه ونصراؤه ، (2) كما : -
8265 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان " ، أي : المنافقين " لن يضروا الله شيئًا ولهم عذاب أليم " ، أي : موجع. (3)
8266 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هم المنافقون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاشتراء " فيما سلف 1 : 312 - 315 / 2 : 341 ، 342 / 3 : 228.
(2) في المطبوعة : " أو نصراؤه " ، والصواب ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 8265 - سيرة ابن هشام : 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8263. وليس في سيرة ابن هشام تفسير " أليم " .

(7/420)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

القول في تأويل قوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله (1) ، أن إملاءنا لهم خيرٌ لأنفسهم.
* * *
ويعني بـ " الإملاء " ، الإطالة في العمر ، والإنساء في الأجل ، ومنه قوله جل ثناؤه : ( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) [سورة مريم : 46] أي : حينًا طويلا ومنه قيل : " عشتَ طويلا وتملَّيت حبيبًا " (2) . " والملا " نفسه الدهر ، " والملوان " ، الليل والنهار ، ومنه قول تميم بن مقبل : (3)
أَلا يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوَانِ (4)
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف قريبا ص : 384.
(2) في المطبوعة : " وتمليت حينًا " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة : " وتمليت حنينًا " ، وهو تصحيف ، والصواب ما أثبت. وهو قول يقال في الدعاء ، ومثله في الدعاء لمن لبس ثوبًا جديدًا : " أبليت جديدًا ، وتمليت حبيبًا " ، أي : عشت معه ملاوة من دهرك وتمتعت به.
(3) وينسب البيت لابن أحمر ، وإلى أعرابي من بني عقيل.
(4) سيبويه 2 : 322 ، ومجاز القرآن 1 : 109 ، والأمالي 1 : 233 ، والسمط : 533 ، والخزانة 3 : 275 ، واللسان (ملل) ، وغيرها ، وسيأتي في التفسير 13 : 106 (بولاق). وقد بين صاحب الخزانة نسبة هذه الأبيات وذكر الشعر المختلف فيه ، وقال إن أبيات ابن مقبل بعد هذا البيت : نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالِ النَّاسِ يَخْتَلِفَانِ
ألا يا دَيارَ الحَيِّ لا هَجْرَ بَيْننَا ... وَلكنَّ رَوْعَاتٍ مِنَ الحَدَثَانِ
لِدَهْمَاءَ إِذْ لِلنَّاس والعَيْشِ غِرَّةٌ ... وَإِذْ خُلُقَانَا بِالصِّبَا عَسِرَانِ
قال أبو عبيد البكري : " أمل عليها " : دأب ولازم ، وقال أبو عبيدة : أي رجع عليها حتى أبلاها ، أي : طال عليها. وعندي أن أصله من " الملل " ، يقول : حتى بلغ أقصى الملل والسآمة.

(7/421)


يعني : بـ " الملوان " ، الليل والنهار.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : " ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم " .
فقرأ ذلك جماعة منهم : ( وَلا يَحْسَبَنَّ ) بالياء ، وبفتح " الألف " من قوله : " أَنَّمَا " ، على المعنى الذي وصفتُ من تأويله.
* * *
وقرأه آخرون : ( وَلا تَحْسَبَنَّ ) بالتاء و " أَنَّمَا " أيضا بفتح " الألف " من " أنما " ، بمعنى : ولا تحسبنّ ، يا محمد ، الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.
* * *
فإن قال قائل : فما الذي من أجله فتحت " الألف " من قوله : " أنما " في قراءة من قرأ بالتاء ، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت " تحسبن " ، في " الذين كفروا " ، وإذا أعملتها في ذلك ، لم يجز لها أن تقع على " أنما " لأن " أنما " إنما يعمل فيها عاملٌ يعمل في شيئين نصبًا ؟
قيل : أما الصواب في العربية ووجهُ الكلام المعروف من كلام العرب ، كسر " إن " إذا قرئت " تحسبن " بالتاء ، لأن " تحسبن " إذا قرئت بالتاء فإنها قد نصبت " الذين كفروا " ، فلا يجوز أن تعمل ، وقد نصبت اسمًا ، في " أن " . ولكني أظن أنّ من قرأ ذلك بالتاء في " تحسبن " وفتح الألف من " أنما " ، إنما أراد تكرير تحسبن على " أنما " ، كأنه قصد إلى أنّ معنى الكلام : ولا تحسبن ، يا محمد أنت ، الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، كما قال جل ثناؤه : ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) [سورة محمد : 18] بتأويل : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. (1) وذلك وإن كان وجهًا
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 248 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 108 ، 109.

(7/422)


جائزًا في العربية ، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالياء من " يحسبن " ، وبفتح الألف من " أنما " ، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم ، ثم يعمل في " أنما " نصبًا لأن " يحسبن " حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه ، وهي تطلب منصوبين.
وإنما اخترنا ذلك لإجماع القرأة على فتح " الألف " من " أنما " الأولى ، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة فى " يحسبن " بالياء لما وصفنا.
وأما ألف " إنما " الثانية ، فالكسر على الابتداء ، بإجماع من القرأة عليه :
* * *
وتأويل قوله : " إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا " ، إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثمًا ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر " ولهم عذاب مهين " ، يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر.
8267 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود قال ، قال عبدالله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. وقرأ : " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا " ، وقرأ : ( نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ ) [سورة آل عمران : 198]. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مهين " فيما سلف 2 : 347 ، 348.
(2) الحديث : 8267 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي. وسفيان : هو الثوري.
خيثمة : هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي. وهو تابعي ثقة ، أخرج له الجماعة كلهم.
الأسود : هو ابن يزيد النخعي.
وهذا الحديث ، وإن كان موقوفًا لفظًا ، فإنه - عندنا - مرفوع حكمًا ، لأنه مما لا يدرك بالرأي.
وسيأتي مرة أخرى : 8374 ، من طريق عبد الرزاق ، عن الثوري ، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 298 ، من رواية جرير ، عن الأعمش ، به. وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2 : 328 ، من رواية ابن أبي حاتم ، من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، به ، نحوه. ثم قال : " وكذا رواه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، به " .
وذكره السيوطي 2 : 104 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبي بكر المروزى في الجنائز ، وابن المنذر ، والطبراني.
وسيأتي نحو معناه ، من حديث أبي الدرداء : 8375.

(7/423)


مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

القول في تأويل قوله : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " ما كان الله ليذر المؤمنين " ، ما كان الله ليدع المؤمنين (1) " على ما أنتم عليه " من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا " حتى يميز الخبيث من الطيب " ، يعنى بذلك : " حتى يميز الخبيث " وهو المنافق المستسرُّ للكفر (2) " من الطيب " ، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان ، (3) بالمحن والاختبار ، كما ميَّز بينهم يوم أحد عند لقاء العدوّ عند خروجهم إليهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في " الخبيث " الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم فيه ، مثل قولنا.
* ذكر من قال ذلك :
8268 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثني أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ما كان الله ليذر المؤمنين على
__________
(1) انظر تفسير " يذر " فيما سلف 6 : 22.
(2) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف 5 : 559.
(3) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف 3 : 301 / 5 : 555 ، 556 / 6 : 361.

(7/424)


ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : ميز بينهم يوم أحد ، المنافقَ من المؤمن.
8269 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : ابن جريج ، يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب قال ابن جريج ، قال مجاهد : يوم أحد ، ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن.
8270 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، أي : المنافقين. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد.
* ذكر من قال ذلك :
8271 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " ، يعني الكفار. يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة : " حتى يميز الخبيث من الطيب " ، يميز بينهم في الجهاد والهجرة.
8272 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن.
8273 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من
__________
(1) الأثر : 8270 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو جزء من الأثر السالف رقم : 8265 ، وتتمة الآثار التي قبله من تفسير ابن إسحاق. وكان في المطبوعة هنا " المنافق " ، والصواب من المخطوطة ، والأثر السالف ، وسيرة ابن هشام.

(7/425)


الطيب " قالوا : " إن كان محمدٌ صادقًا ، فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر " !! فأنزل الله : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، حتى يخرج المؤمن من الكافر.
* * *
قال أبو جعفر : والتأويل الأول أولى بتأويل الآية ، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين ، وهذه في سياقتها. فكونها بأن تكون فيهم ، أشبه منها بأن تكون في غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بما : -
8274 - حدثنا به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، وما كان الله ليطلع محمدًا على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا.
* * *
وقال آخرون بما : -
8275 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، أي : فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل

(7/426)


عليكم فيه " ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء " ، يعلمه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده ، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد وجهاد عدوه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم ، بوحيه ذلك إليه ورسالته ، كما : -
8276 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " ، قال : يخلصهم لنفسه.
* * *
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية ، لأنّ ابتداءها خبرٌ من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده (2) - يعني بغير محن - حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر ، دلالةٌ واضحةٌ على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم ، إلا بالذي ذكر أنه مميِّزٌ به نعتَهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه.
* * *
__________
(1) الأثر : 8275 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8270 ، وكان في المطبوعة : " بعلمه " بالباء في أوله ، والصواب من سيرة ابن هشام ، ونصه : " أي : يعلمه ذلك " ، أما المخطوطة ، فالكلمة فيها غير منقوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " وابتداؤها خبر من الله " ، وهو سياق لا يستقيم ، والظاهر أن ناسخ المخطوطة لما نسخ ، أشكل على بصره ، " الآية " ثم " لأن " بعقبها. فأسقط " لأن " ، وكتب " وابتداؤها " ، ورسم الكلمة في المخطوطة " وابتداها " ، فلذلك رجحت ما أثبته ، وإن كان ضبط السياق وحده كافيًا في الترجيح.

(7/427)


القول في تأويل قوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (1) " وإن تؤمنوا " ، وإن تصدِّقوا من اجتبيته من رُسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم " وتتقوا " ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه " فلكم أجر عظيم " ، يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ، ثوابٌ عظيم ، كما : -
8277 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا " ، أي : ترجعوا وتتوبوا " فلكم أجر عظيم " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : ( " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُون " ) بالتاء من " تحسبن " .
* * *
وقرأته جماعة أخر : ( وَلا يَحْسَبَنَّ ) بالياء. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني بذلك جل ثناؤه بقوله " ، وإقحام " بذلك " مفسدة وهجنة في الكلام ، فأسقطتها ، وهي سبق قلم من الناسخ.
(2) الأثر : 8277 - سيرة ابن هشام 3 : 128 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها : 8275.
(3) في المطبوعة والمخطوطة في ذكر هاتين القراءتين ، كتب القراءة الأولى " ولا يحسبن " بالياء ، والقراءة الثانية " ولا تحسبن " بالتاء. وهو خطأ بين جدًا ، لأنه عقب على هذه القراءة الأخيرة بقوله : " ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك " ، واختلافهم كما ترى في قراءة " الياء " لا " التاء " ، فمن أجل ذلك صححت مكان القراءتين ، كما أثبتها ، وهو الصواب المحض إن شاء الله.

(7/428)


ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي الكوفة : (1) معنى ذلك : لا يحسبن الباخلون البخلَ هو خيرًا لهم فاكتفى بذكر " يبخلون " من " البخل " ، كما تقول : " قدم فلان فسررت به " ، وأنت تريد : فسررت بقدومه. و " هو " ، عمادٌ. (2)
* * *
وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم " (3) " لا يحسبن البخل هو خيرًا لهم " ، (4) فألقى الاسم الذي أوقع عليه " الحسبان " به ، هو البخل ، لأنه قد ذكر " الحسبان " وذكر ما آتاهم الله من فضله " ، فأضمرهما إذ ذكرهما. (5)
__________
(1) هو الفراء.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 104 ، 248 ، 249 ، وهو نص كلامه ، و " العماد " عند الكوفيين ، هو ضمير الفصل عند البصريين ، ويسمى أيضا " دعامة " و " صفة " ، انظر ما سلف 2 : 312 ، تعليق 2 / ثم ص313 / ثم ص : 374.
(3) في المطبوعة : " ولا تحسبن " بالتاء ، والصواب بالياء كما أثبتها. وانظر التعليق السالف. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(4) وكان في المطبوعة أيضا : " ولا تحسبن البخل " ، بالتاء ، والصواب بالياء ، وانظر التعليق السالف.
(5) هكذا جاءت هذه الجملة من أولها ، وهي مضطربة أشد الاضطراب ، وكان في المطبوعة : " به وهو البخل " بزياد واو ، ولكني أثبت ما في المخطوطة كما هو على اضطراب الكلام. وقد جهدت أن أجد إشارة في كتب التفسير وإعراب القرآن ، إلى هذا الذي قاله البصري فيما رواه أبو جعفر ، فلم أجد شيئًا ، وأرجح أن الناسخ قد أسقط من الكلام سطرًا أو بعضه ، وأرجح أن سياق الجملة من أولها ، كان هكذا :
" وقال بعض نحوِّيى أهل البصرة : إِنّما أراد بقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الذين يبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْله هو خيرًا لهم بل هو شَرٌّ لهم) : ولا يحسبَنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهم الله من فضله ، لا يَحْسَبُنَّ البُخْلَ هو خيرًا لهم فألقى " الحسبان " الثاني ، وألقى الاسمَ الذي أوقعَ عليه " الحسبان " . وما وقع " الحسبان " به هو البخل لأنه قد ذكر " الحسبان " ، وذكر " ما آتاهم الله من فضله " ، فأضمرهما إذ ذكرهما " .
ويكون القائل هذا من أهل البصرة ، قد عنى أن هذه الآية شبيهة بأختها الآتية في سورة آل عمران : 188 (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمفَازَةِ مِنَ العَذَابِ)
إذ كرر " لا تحسبن " تأكيدًا لما طال الكلام ، وهو صحيح كلام العرب وصريحه. فكذلك هو في هذه الآية ، على ما أرجح أن البصري قال ، كرر " الحسبان " ، ولكنه حذف " الحسبان " الذي كرره ، وأبقى الأول الذي ألجأ إلى التكرار والتوكيد.
ويعني بقوله : " أضمرهما " ، " الحسبان " الثاني في تأويله ، و " البخل " ، ولم أجد وجهًا يستقيم به الكلام غير هذا الوجه ، فإن أصبت فبحمد الله وتوفيقه ، وإن أخطأت ، فأسأل الله المغفرة بفضله.

(7/429)


قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) ولم يقل : " ومن أنفق من بعد الفتح " ، لأنه لما قال : ( أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ ) [سورة الحديد : 10] ، كان فيه دليل على أنه قد عناهم.
* * *
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة : إنّ " مَنْ " في قوله : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) في معنى جمع. ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح ؟ فالأول مكتفٍ. وقال : في قوله : " لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم " محذوف ، غير أنه لم يُحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن " هو " عائد البخل ، و " خيرا لهم " عائد الأسماء ، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : " يبخلون " من " البخل " .
* * *
قال : وهذا إذا قرئ بـ " التاء " ، فـ " البخل " قبل " الذين " ، وإذا قرئ بـ " الياء " ، فـ " البخل " بعد " الذين " ، وقد اكتفى بـ " الذين يبخلون " ، من البخل ، كما قال الشاعر : (1)
__________
(1) لم يعرف قائله.

(7/430)


إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلى خِلافِ (1)
كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن " السفه " بـ " السفيه " ، كذلك اكتفى بـ " الذين يبخلون " ، من " البخل " .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " ) بالتاء ، بتأويل : ولا تحسبن ، أنت يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم ثم ترك ذكر " البخل " ، إذ كان في قوله : " هو خيرًا لهم " دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدمه قوله : " الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " .
وإنما قلنا : قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن " المحسبة " من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرئ قوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون " بالياء : لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : " هو خيرًا لهم " خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء ، كان قوله : " الذين يبخلون " اسمًا له قد أدّى عن معنى " البخل " الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : " هو خيرًا لهم " خبرًا لها ، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـ " التاء " في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة بـ " الياء " غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبن ، يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات ، هو خيرًا
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1 : 104 ، 249 ، أمالي الشجري 1 : 68 ، 113 ، 305 / 2 : 132 ، 209 ، والإنصاف : 63 ، والخزانة 2 : 383 ، وسائر كتب النحاة.

(7/431)


لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شر لهم عنده في الآخرة ، كما : -
8278 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم " ، هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدُّوا زكاتها.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
ذكر من قال ذلك :
8279 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " إلى " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس.
8280 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " ، قال : هم يهود ، إلى قوله : ( وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) [سورة آل عمران : 184]. (1)
* * *
وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية ، التأويل الأوَل ، وهو أنه معني بـ " البخل " في هذا الموضع ، منع الزكاة ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوَّل قوله : ( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال : البخيل الذي منع حق الله منه ، أنه يصير ثعبانًا في عنقه ولقول الله عقيب هذه الآية : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) ، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من
__________
(1) تركت الآية في هذه الآثار على قراءة أبي جعفر " ولا تحسبن " بالتاء ، وقراءة مصحفنا اليوم " ولا يحسبن " بالياء.

(7/432)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقيرٌ.
* * *
القول في تأويل قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " سيطوَّقون " ، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاةَ ، طوقًا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة ، كالذي : -
8281 - حدثني الحسن بن قزعة قال ، حدثنا مسلمة بن علقمة قال ، حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن أبي مالك العبدي قال : ما من عبد يأتيه ذُو رَحمٍ له ، يسأله من فضلٍ عنده فيبخل عليه ، إلا أخرِج له الذي بَخِل به عليه شجاعًا أقْرَع. (1) قال : وقرأ : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة " إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) " الشجاع " : الحية الذكر ، وهو ضرب من الحيات خبيث مارد. و " أقرع " صفة من صفات الحيات الخبيثة ، يزعمون أنه إذا طال عمر الحية ، وكثر سمه ، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه.
(2) الحديث : 8281 - الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي ، شيخ الطبري : ثقة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 34.
و " قزعة " : بفتح القاف والزاي ، وقيل : بسكون الزاي. انظر المشتبه ، ص425. واقتصر الحافظ في تحريره على الفتح.
مسلمة - بفتح الميم - بن علقمة المازني : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. وضعفه أحمد. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 388 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 367 - 368. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. فهو ثقة عنده.
داود : هو ابن أبي هند.
أبو قزعة : هو سويد بن حجير - بالتصغير فيهما - بن بيان ، الباهلي البصري. وهو تابعي ثقة ، وثقه أحمد ، وابن المديني ، وغيرهما. مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 148 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 235 - 236.
وسها الحافظ في الإصابة 1 : 331 ، في ترجمة أبيه ، فذكر أنه " ذهلي " ، والمصادر كلها على أنه " باهلي " .
وسيأتي في : 8283 " عن أبي قزعة حجر بن بيان " ؛ وهو خطأ صرف ، كما سنبينه هناك ، إن شاء الله.
أبو مالك العبدي : لا ندري من هو ؟ ولا ندري : أهو صحابي أم تابعي ؟ فما علمت أحدًا ترجمه ، إلا الحافظ في الإصابة 7 : 169 ، بنى ترجمته على هذا الحديث عند الطبري وحده :
فأشار إلى هذه الرواية ، وإلى الرواية التالية " عن أبي قزعة ، عن رجل " ، وذكر أن الثعلبى رواها : " عن رجل من قيس " . وإلى الرواية الثالثة : " عن أبي قزعة ، مرسلا " . ثم قال : " وأبو قزعة : تابعي بصري مشهور ، لكنه كان يرسل عن الصحابة. فهو على الاحتمال " .
يعني الحافظ : أنه من المحتمل أن يكون " أبو مالك العبدي " هذا صحابيًا ، لأن أبا قزعة يروي عن الصحابة ويرسل الرواية عنهم! وما بمثل هذا تثبت الصحبة ، ولا بمثله يثبت وجود الشخص والصفة معًا!! خصوصًا وأنه في الرواية التالية " عن رجل " - لم يزعم أنه من الصحابة ، ولم يقل ما يشير لذلك.
فلا يزال - بعد هذا - الحديث ضعيفًا ، لأنه لم يعرف أن راويه عن رسول الله صحابي.
وقد أشار ابن كثير 2 : 307 إلى هذه الروايات الثلاث عند الطبري ، ولم ينسبها لغيره.
ولا نعلم أحدًا رواها غير الطبري ، إلا إشارة الحافظ في الإصابة لرواية الثعلبي.

(7/433)


8282 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبى قزعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شُجاع يتلمَّظ حتى يطوِّقه " . (1)
8283 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال ، حدثنا داود ، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمِه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوِّقه " . ثم قرأ : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " حتى انتهى إلى قوله : " سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة " . (2)
__________
(1) الحديث : 8282 - عبد الأعلى : هو ابن عبد الأعلى ، القرشي السامي ، من بني " سامة ابن لؤي " . وهو ثقة ، أخرج له الجماعة كلهم. والحديث مكرر ما قبله.
" تلمظت الحية " ، إذا أخرجت لسانها كتلمظ الآكل ، وهو تحريك للسان في الفم ، والتمطق بالشفتين.
(2) الحديث : 8283 - هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة : " عن أبي قزعة حجر بن بيان " ؛ وهو خطأ من وجهين :
* فأولا : " حجر " ، صوابه " حجير " بالتصغير ، وقد وقع هذا الخطأ في الإصابة أيضا ، في ترجمة " أبي مالك العبدي " : " عن أبي قزعة سويد بن حجر " . وهو خطأ ناسخ أو طابع ، لا شك في ذلك لأن الحافظ ترجم لأبي قزعة في التهذيب وغيره على الصواب " سويد بن حجير " .
* وثانيا : سقط هنا بين الكنية والاسم كلمة " بن " . لأن " حجير بن بيان " - هو والد أبي قزعة ، وليس اسمه.
* وأبوه " حجير بن بيان " : مذكور في الصحابة. مترجم في الاستيعاب ، رقم : 543 ، وأسد الغابة 1 : 387 ؛ والإصابة 1 : 330 - 331 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 290. وهو عندهم جميعًا بالتصغير نصا.
* وسها الحافظ ابن كثير ، ولم يراجع المصادر! فاغتر بهذه الرواية المغلوطة من وجهين - فذكر في هذه الروايات : " عن أبي قزعة ، واسمه حجر بن بيان " !! فزاد على الخطأ الذي في أصول الطبري بحذف " بن " - فصرح بأن هذا اسم أبي قزعة! وما كان ذلك في رواية ولا قول قط.
* والسيوطي تبع الحافظ ابن كثير ، ثم زاد خطأ على خطأ ، فذكر الحديث 2 : 105 ، ونسبه لابن أبي شيبة في مسنده ، وابن جرير " عن حجر بن بيان " !!

(7/434)


8284 - حدثني زياد بن عبيد الله المرّي قال ، حدثنا مروان بن معاوية وحدثني عبدالله بن عبدالله الكلابي قال ، حدثنا عبدالله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد ، واللفظ ليعقوب جميعًا ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه. عن جده قال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دُعِيَ له يوم القيامة شجاعٌ يتلمَّظ فضله الذي منع. (1)
__________
(1) الحديث : 8284 - هذا الحديث رواه الطبري عن ثلاثة شيوخ : زياد بن عبيد الله المرى ، وعبد الله بن عبد الله الكلابي - وهذان لم أعرفهما ، ولم أجد لواحد منهما ترجمة ولا ذكرًا في غير هذا الموضع. ثم إن في المطبوعة بدل " عبد الله بن عبد الله الكلابي " : " محمد بن عبد الله " ! وهو أشد جهالة من ذاك.
وفي لسان الميزان 2 : 495 ، ترجمة : " زياد بن عبد الله بن خزاعى ، عن مروان بن معاوية. قال ابن حبان في الثقات : حدثنا عنه شيوخنا ، ربما أغرب " .
فمن المحتمل أن يكون هذا الشيخ هو شيخ الطبري " زياد بن عبيد الله الكلابي " ، وأن يكون " عبيد الله " محرفًا في طبعة اللسان إلى " عبد الله " .
والشيخ الثالث : يعقوب بن إبراهيم ، وهو الدورقي الحافظ ، مضى مرارًا ، آخرها : 3726.
وأسانيده صحاح ، على الرغم من جهالة شيخي الطبري الأولين ، اكتفاء برواية الحافظ الدورقي. ولأن الحديث ثابت عن شيوخ آخرين عن بهز بن حكيم ، كما سنذكر في التخريج ، إن شاء الله.
وقد بينا فيما مضى رقم : 873 صحة إسناد بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
والحديث رواه أحمد في المسند ، عن عبد الرزاق عن معمر ، وعن يزيد - وهو ابن هارون ، وعن يحيى بن سعيد : ثلاثتهم عن بهز بن حكيم ، بهذا الإسناد.
ورواه النسائي 1 : 358 ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن معتمر ، عن بهز.
ومن عجب أنه - وهو في المسند وسنن النسائي - لا ينسبه الحافظ ابن كثير 2 : 307 ، إلا لابن جرير وابن مردويه!
وذكره السيوطي 2 : 105 ، وزاد نسبته لأبي داود ، والترمذي وحسنه ، والبيهقي في الشعب.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 33 ، ونسبه لأبي داود ، والترمذي ، والنسائي.

(7/435)


8285 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبدالله بن مسعود : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به! (1) .
8286 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، سمعت أبا وائل يحدّث : أنه سمع عبدالله قال في هذه الآية : " سيطوقون ما بخلوا له يوم القيامة " ، قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم.
8287 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة قال ، حدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبدالله بمثله - إلا أنهما قالا قال : شجاع أسود.
8288 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ،
__________
(1) الحديث : 8285 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي. وسفيان : هو الثوري. وأبو إسحاق : هو السبيعي.
وهذا الحديث لفظه هنا موقوف على ابن مسعود. وهو في معناه مرفوع. وهو أيضًا مختصر اللفظ.
وقد رواه الطبري هكذا ، مختصرًا موقوفًا ، بأسانيد : 8285 - 8288 ، 8292. ثم رواه أثناء ذلك : 8289 ، مرفوعًا بلفظ أطول.
ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك 2 : 298 - 299 ، من طريق أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، ومن طريق الثوري ، عن أبي إسحاق - موقوفًا ، بنحوه. وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وقد تساهل الحافظ ابن كثير 2 : 306 فأشار إلى رواية الحاكم هذه ، عقب رواية الحديث المرفوع من مسند أحمد - بصيغة توهم أن رواية الحاكم مثل رواية المسند مرفوعة.
ثم زاد القارئ لبسًا ، إذ قال عقب ذلك : " ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود - موقوفًا " ! فهذا السياق عقب ذكر رواية الحاكم ، يوقع في وهم الناظر أنها مرفوعة!! وليست كذلك.

(7/436)


عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعبانًا ، فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به! فينطوي على عنقه.
8289 - حدثت عن سفيان بن عيينة قال ، حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثَل له شجاع أقرع يطوقه. (1) ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم " الآية. (2)
__________
(1) " مثل له " : انتصب له ماثلا ، قائمًا.
(2) الحديث : 8289 - هكذا أبهم الطبري شيخه في هذا الإسناد. ولكن الحديث ثابت برواية الثقات عن ابن عيينة ، كما سنذكر في التخريج ، إن شاء الله.
جامع بن أبي راشد الكاهلي الصيرفي : ثقة ، وثقه أحمد وغيره ، وأخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 240 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 530.
ووقع هنا في نسخ الطبري : " جامع بن شداد " . وهو خطأ ، فليس لجامع بن شداد في هذا الحديث رواية ، فيما أعلم - كما يتبين من التخريج.
ثم إن جامع بن شداد قديم الوفاة ، لم يدركه ابن عيينة ولا روى عنه. لأنه ولد سنة 107 ، وابن شداد مات سنة 107 وقيل سنة 108. وأما ما وقع في ترجمته في التهذيب 2 : 56 ، في الأقوال في سني وفاته ، بين : 128 ، 118 ، 127 ، فإنه غلط ، بعضه من الحافظ المزي في التهذيب الكبير ، وبعضه من نسخ تهذيب التهذيب. وقد ثبتت هذه الأرقام على الصواب بالكتابة بالحروف في الكبير للبخاري 1 / 2 / 239 - 240 ، والصغير ، ص : 132 ؛ وابن سعد 6 : 222 ، 226.
عبد الملك بن أعين الكوفي : تابعي ثقة. وقد تكلم فيه بأنه شيعي ، ولكن لم يدفعه أحد عن الصدق. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 343. وذكره البخاري في الضعفاء ، ص : 222 ، فقال : " عبد الملك بن أعين ، وكان شيعيًا. روى عنه ابن عيينة وإسماعيل ابن سميع. يحتمل في الحديث " . فلم يجرحه في صدقه وروايته ، ولذلك أدخله في صحيحه.
والحديث رواه أحمد في المسند : 3577 ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، عن جامع ، وهو ابن أبي راشد ، عن أبي وائل ، به ، نحوه ، مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 85 ، وابن ماجه : 1784 ، كلاهما عن ابن أبي عمر. والنسائي1 : 333 - 334 ، عن مجاهد بن موسى - كلاهما عن سفيان بن عيينة ، به. ولكن زاد الترمذي وابن ماجه في روايتهما : أنه عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين - كرواية الطبري هنا. وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " .
وذكره ابن كثير 2 : 306 ، من رواية المسند ، ثم ذكر أنه رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه.
وذكره السيوطي 2 : 105 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن خزيمة ، وابن المنذر.

(7/437)


8290 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أمّا " سيطوقون ما بخلوا به " ، فإنه يُجعل ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوِّقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار.
8291 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي وائل قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيُجْعل حية فيطوَّقها ، فيقول : ما لي ولك! فيقول : أنا مالك!
8292 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن قوله : " سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : يطوقون شجاعًا أقرع ينهش رأسه. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، فيجعل في أعناقهم طوقًا من نار.
ذكر من قال ذلك :
8293 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقًا من النار.
__________
(1) الحديث : 8292 - أبو غسان : هو مالك بن إسماعيل بن درهم النهدي الحافظ. مضت ترجمته في : 2989.
إسرائيل : هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
حكيم بن جبير الأسدي : ضعيف ، بينا ضعفه في شرح المسند : 3675. وهو مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 2 / 1 / 16 ، والصغير ، ص : 150 ، 152 ؛ والضعفاء له ص : 10 ، وللنسائي ص : 9 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 201 - 202. وهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود. وضعف إسناده لا يضر ، فقد مضى موقوفًا بأسانيد صحاح : 8285 - 8288 ، ومرفوعًا : 8289.

(7/438)


8294 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية : " سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقًا من نار.
8295 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " سيطوقون " ، قال : طوقًا من نار.
8296 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقًا من نار. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ، ما كتموا من ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
8297 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، ألم تسمع أنه قال : ( يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) [سورة النساء : 37\ سورة الحديد : 24] ، (2) يعني أهل الكتاب : يقول : يكتمون ، ويأمرون الناس بالكتمان.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلَّفون يوم القيامة أن يأتوا بما بَخِلوا به في الدنيا من أموالهم.
* ذكر من قال ذلك :
8298 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : سيكلَّفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : " والكتاب المنير " .
__________
(1) في المطبوعة : " طوق " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) وإنما عنى آية سورة النساء ، لأن تمامها " ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " .

(7/439)


8299 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " سيطوقون " ، سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية ، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله : " سيطوقون ما بخلوا به " ، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحدَ أعلم بما عَنى الله تبارك وتعالى بتنزيله ، منه عليه السلام.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه الحي الذي لا يموت ، والباقي بعد فَناء جميع خلقه.
* * *
فإن قال قائل : فما معنى قوله : " له ميراث السموات والأرض " ، و " الميراث " المعروف ، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟
قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا ، من وصفه نفسه بالبقاء ، وإعلام خلقه أنه كتِب عليهم الفناء. وذلك أنّ ملك المالك إنما يصير ميراثًا بعد وفاته ، فإنما قال جل ثناؤه : " ولله ميراث السموات والأرض " ، إعلامًا بذلك منه عبادَه أن أملاك جميع

(7/440)


خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لا أحد إلا وهو فانٍ سواه ، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم ، لم يبق أحدٌ يكون له ما كانوا يملكونه غيره.
وإنما معنى الآية : " لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، بعد ما يهلكون وتزولُ عنهم أملاكهم ، في الحين الذي لا يملكون شيئًا ، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعلم هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلقه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه ، المحسنَ بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره.
* * *

(7/441)


لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

القول في تأويل قوله : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ }
قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الآثار بذلك :
8300 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس ، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص ، كان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه

(7/441)


لفنحاص : ويحك يا فِنحاص ، اتق الله وأسلِم ، فوالله إنك لتعلم أنّ محمدًا رسول الله ، قد جاءكم بالحقّ من عند الله ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيُّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا الربا! (1) فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عُنقك يا عدو الله! فأكذِبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيمًا ، زعم أنّ الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربتُ وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال : ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ، ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر : " لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق " وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : ( لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) [سورة آل عمران : 186]. (2)
8301 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد
__________
(1) كان في المخطوطة سقط بين ، فيها : " وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر " ، واستدركت المطبوعة هذا السقط من الدر المنثور فيما أرجح (2 : 105) ، فتركته كما هو ، لموافقته لما جاء في تفسير ابن كثير 2 : 308 ، وإن خالف رواية ابن هشام في سيرته ، في بعض ألفاظ.
(2) الأثران : 8300 ، 8301 - سيرة ابن هشام 2 : 207 ، 208 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 7695 ، مما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق.

(7/442)


بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : دخل أبو بكر فذكر نحوه ، غير أنه قال : " وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغنيٍّ ، ولو كان غنيًّا " ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. (1)
8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، قالها فنحاص اليهوديّ من بني مَرثد ، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له : يا فنحاص ، اتق الله وآمن وصدِّق ، وأقرض الله قرضًا حسنًا! فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا فقير يستقرِضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقًّا ، فإن الله إذًا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا ، فقال أبو بكر : فلولا هُدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مَرثد لقتلته.
8303 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : صك أبو بكر رجلا منهم الذين قالوا : " إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني ؟! وهم يهود.
8304 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : " الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني ؟ قال شبل : بلغني أنه فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : " إنّ الله ثالث ثلاثة " و " يدُ الله مغلولة " .
8305 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثني يحيى بن واضح قال ، حدثت عن عطاء ، عن الحسن قال ، لما نزلت : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) [سورة البقرة : 245\ سورة الحديد : 11] قالت اليهود : إنّ ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " .
__________
(1) انظر خبر فنحاص أيضًا في الأثر الآتي رقم : 8316.

(7/443)


8306 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحسن البصري قال : لما نزلت : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) قال : عجبت اليهود فقالت : إن الله فقير يستقرض! فنزلت : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " .
8307 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، ذكر لنا أنها نزلت في حُيَيّ بن أخطب ، لما أنزل الله : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) قال : يستقرضنا ربنا ، إنما يستقرض الفقير الغنيَّ!
8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرضُ الله قرضًا حسنًا " ، قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال : فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء " .
8309 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، قال : هؤلاء يهود. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود : " إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه " ، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم ، وقتلهم أنبياءهم بغير حق.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " سنكتب ما قالوا وقتلهم " .
فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق : ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) بالنون ،
__________
(1) في المطبوعة : " هؤلاء اليهود " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/444)


" وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بغير حقٍّ " بنصب " القتل " .
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( " سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ " ) بالياء من " سيكتب " وبضمها ، ورفع " القتل " ، على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله : " ونقول ذوقوا " ، يذكر أنها في قراءة عبد الله : " ويُقَالُ " . (1)
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله ، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ : " سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء " على وجه ما لم يسم فاعله ، أن يقرأ : " ويقال " ، لأن قوله : " ونقول " عطف على قوله : " سنكتب " . فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله ، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله ، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله ، من غير معنى ألجأه على ذلك ، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " سَنَكْتُب " بالنون " وقَتْلَهُمْ " بالنصب ، لقوله : " وَنَقُول " ، ولو كانت القراءة في " سيكتب "
__________
(1) هذا كلام الفراء بلا شك ، في معاني القرآن 1 : 249 ، ولكن وقع في نسخ الفراء خرم لم يتنبه إليه مصححو المطبوعة ، تمامه مما ذكره الطبري ورواه عنه كعادته. والنص الذي في المطبوعة من معاني القرآن : " وقرئ : سيكتب ما قالوا ، قرأها حمزة اعتبارًا ، لأنها في مصحف عبد الله " ، وانقطع الكلام ، فظاهر أن فيه سقطًا ، وظاهر أن تمامه ما رواه الطبري من قراءة عبد الله التي اعتبر بها حمزة في قراءة " سيكتب " .
(2) المعروف في كلامهم " ألجأه إلى كذا " ، واستعمل الطبري " ألجأه عليه " بمعنى حمله عليه ، على إرادة التضمين ، وهو كلام فصيح لا يعاب ، وهو من النوادر التي لم أجدها في كتاب ، وإن كنت أذكر أني قرأتها في بعض كتب الشافعي رحمه الله ، وغاب اليوم عني مكانها.

(7/445)


بالياء وضمها ، لقيل : " ويقال " ، على ما قد بيّنا.
* * *
فإن قال قائل : كيف قيل : " وقتلهم الأنبياء بغير حق " ، وقد ذكرت في الآثار التي رويتَ ، أن الذين عنوا بقوله : (1) " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ " بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من أولئك أحدٌ قتل نبيًا من الأنبياء ، لأنهم لم يدركوا نبيًا من أنبياء الله فيقتلوه ؟
قيل : إنّ معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية ، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء ، وكانوا منهم وعلى منهاجهم ، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جلّ ثناؤه فعلَ ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته ، إلى جميعهم ، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحْلة واحدة ، وبالرِّضى من جميعهم فَعل ما فعل فاعلُ ذلك منهم ، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ونقول " للقائلين بأن الله فقيرٌ ونحن أغنياء ، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة " ذوقوا عذاب الحريق " ، يعني بذلك : عذاب نار محرقة ملتهبة. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وقد ذكرت الآثار التي رويت " ، أسقطت " في " ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2 : 23 ، 24 ، 38 ، 39 ، 164 ، 165 وفهارس المباحث في الجزء الثاني ص 611 ، " إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء. . . " .
(3) تفسير " الحريق " كما فسره أبو جعفر ، مما لا تكاد تظفر به في كتب اللغة ، بل قالوا : الحريق : اضطرام النار وتلهبها. والحريق أيضًا اللهب " . وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 110 ، ونصه : " النار اسم جامع ، تكون نارًا وهي حريق وغير حريق ، فإذا التهبت ، فهي حريق " .

(7/446)


و " النار " اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة ، وإنما " الحريق " صفة لها يراد أنها محرقة ، كما قيل : " عذابٌ أليم " يعني : مؤلم ، و " وجيع " يعني : موجع.
* * *
وأما قوله : " ذلك بما قدمت أيديكم " ، أي : قولنا لهم يوم القيامة ، " ذوقوا عذاب الحريق " ، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا ، (1) وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت ، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل ، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة (2) من اليهود الذين وصف صفتهم ، فأخبر عنهم أنهم قالوا : " إنّ الله فقير ونحن أغنياء " ، وقتلوا الأنبياء بغير حق بما جازاهم به من عذاب الحريق ، بما اكتسبوا من الآثام ، واجترحوا من السيئات ، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا ، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه ، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه ، ولكنه العادل بينهم ، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " بما قدمت أيديهم " فيما سلف 2 : 367 ، 368.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها لاستقامة الكلام ، ويعني بقوله : " الذي قال لهم ذلك " ، أي قال لهم : " ذوقوا عذاب الحريق " . وسياق العبارة : " فجازى الذين قال لهم ذلك يوم القيامة. . . بما جازاهم به من عذاب الحريق " .

(7/447)


الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لقد سمع الله قول الذين قالوا : " إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول " .
* * *
وقوله : " الذين قالوا إن الله " ، في موضع خفض ردًّا على قوله : " الذين قالوا إن الله فقيرٌ " .
* * *
ويعني بقوله : " قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول " ، أوصانا ، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه (1) " أن لا نؤمن لرسول " ، يقول : أن لا نصدِّق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك " حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ، يقول : حتى يجيئنا بقربان ، وهو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة.
* * *
وهو مصدر مثل " العدوان " و " الخسران " من قولك : " قرَّبتُ قربانًا " .
وإنما قال : " تأكله النار " ، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان ، كان دليلا على قبول الله منه ما قرِّب له ، ودلالة على صدق المقرِّب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال ، كما : -
8310 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ،
__________
(1) انظر تفسير " عهد إليه " فيما سلف 3 : 38 ، وتفسير " العهد " في فهارس اللغة.

(7/448)


كان الرجل يتصدق ، فإذا تُقُبِّل منه ، أنزلت عليه نارٌ من السماء فأكلته.
8311 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ، قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " بقربان تأكله النار " ، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتُقُبِّلت منه ، بعث الله نارًا من السماء فنزلت على القربان فأكلته.
* * *
فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : [قل ، يا محمد ، للقائلين : إنّ الله عهد إلينا] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار : [قد جاءكم] رسل من قبلي بالبينات " ، (1) يعني : بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم " وبالذي قلتم " ، يعني : وبالذي ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته ، من أكل النار قُربانه إذا قرَّب لله دلالة على صدقه ، (2) " فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين " ، يقول له : قل لهم : قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم ، فقتلتموهم ، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم " إن كنتم صادقين " في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقُربان تأكله النار حجة له على نبوته ؟
* * *
قال أبو جعفر : وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية : أنّ الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لن يَعْدوا أن يكونوا
__________
(1) في المخطوطة : " فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار رسل من قبلي بالبينات. . . " ، وقد وضع ناسخ المخطوطة أمام السطرين في الهامش (ط ط كذا) ، يعني أنه خطأ كان في النسخة التي نقل عنها ، فنقله هكذا كما وجده ، فجاء ناشر المطبوعة - أو ناسخ قبله - فأراد أن يصححها ، فزاد صدر الآية : " قل قد جاءكم " بعد قوله : " بقربان تأكله النار " ، ولكن يبقى السياق غير حسن ، فزدت ما بين القوسين ، استظهارًا من نهج أبي جعفر في بيانه عن معاني آي كتاب الله ، والله الموفق للصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " إذ قرب لله " ، والسياق يقتضي " إذا " .

(7/449)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

في كذبهم على الله وافترائهم على ربهم وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمونه صادقًا محقًّا ، وجحودهم نبوَّته وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه ، مفروضة طاعته (1) إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها ، والأدلة التي أبان صدقهم بها ، افتراء على الله ، واستخفافًا بحقوقه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) }
قال أبو جعفر : وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له : لا يحزنك ، يا محمد ، كذب هؤلاء الذين قالوا : " إن الله فقير " ، وقالوا : " إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ، وافتراؤهم على ربهم اغترارًا بإمهال الله إياهم ، ولا يَعظمن عليك تكذيبهم إياك ، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم ، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله ، فقد كذَّبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذرَ ، والأدلة الباهرة العقلَ ، والآيات المعجزة الخلقَ ، وذلك هو البينات. (2)
* * *
وأما " الزبر " فإنه جمع " زبور " ، وهو الكتاب ، وكل كتاب فهو : " زبور " ، ومنه قول امرئ القيس :
__________
(1) في المطبوعة : " لن يفروا أن يكونوا في كذبهم على الله " ، وفي المخطوطة : " لن يقروا " ولا معنى لهما ، وصوابهما ما أثبت. وسياق العبارة : " لن يعدوا أن يكونوا في كذبهم. . . إلا كمن مضى من أسلافهم " .
(2) انظر تفسير " البينات " فيما سلف 2 : 318 ، 355 / 3 : 249 / 4 : 259 / 5 : 379 ، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.

(7/450)


لِمنْ طَللٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي?... كخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِي (1)
* * *
ويعني : بـ " الكتاب " ، التوراة والإنجيل. وذلك أن اليهود كذَّبت عيسى وما جاء به ، وحرَّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبدلت عهده إليهم فيه ، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته ، وغيرت ما أمرهم به في أمره.
* * *
وأما قوله : " المنير " ، فإنه يعني : الذي يُنير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه.
* * *
وإنما هو من " النور " والإضاءة ، يقال : " قد أنار لك هذا الأمر " ، بمعنى : أضاء لك وتبين ، " فهو ينير إنارة ، والشيء منيرٌ " ، (2) وقد : -
8312 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك " ، قال : يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
8313 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " ، قال : يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق : " وَالزُّبُرِ " بغير " باء " ، وهو في مصاحف أهل الشام : " وبالزُّبُرِ " بالباء ، مثل الذي في " سورة فاطر " . [25].
* * *
__________
(1) ديوانه : 186 ، وهو مطلع قصيدته. قال الشنتمرى في شرح البيت : " يقول : نظرت إلى هذا الطلل فشجاني ، أي : أحزنني. وقوله : " كخط زبور " ، أي قد درس وخفيت آثاره ، فلا يرى منه إلا مثل الكتاب في الخفاء والدقة. والزبور : الكتاب. وقوله : " في عسيب يمان " ، كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم. ويروى : " عسيب يماني " ، على الإضافة ، أراد : في عسيب رجل يمان.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " والشيء المنير " ، وعبارة بيان اللغة تقتضي ما أثبت.

(7/451)


كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

القول في تأويل قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود ، المكذبين برسوله ، الذين وصف صفتهم ، وأخبر عن جراءتهم على ربهم ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره ، ومرجع جميعهم ، إليه. لأنه قد حَتم الموت على جميعهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيبُ من كذبك ، يا محمد ، من هؤلاء اليهود وغيرهم ، وافتراء من افترى عليَّ ، فقد كُذِّب قبلك رسلٌ جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه ، بمثل الذي جئتَ من أرسلت إليه ، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم ، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليّ وغيرهم ومرجعهم إليّ ، فأوفّي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة ، كما قال جل ثناؤه : " وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة " ، يعني : أجور أعمالكم ، إن خيرًا فخيرٌ ، وإن شرًّا فشر " فمن زحزح عن النار " ، يقول : فمن نُحِّي عن النار وأبعد منها (1) " فقد فاز " ، يقول : فقد نجا وظفر بحاجته.
* * *
يقال منه : " فاز فلان بطلبته ، يفوز فوزًا ومفازًا ومفازة " ، إذا ظفر بها.
* * *
وإنما معنى ذلك : فمن نُحِّي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة ، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، يقول : وما لذّات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها " إلا متاع الغرور " ، يقول : إلا متعة
__________
(1) انظر تفسير " زحزح " فيما سلف 2 : 375.

(7/452)


يمتعكموها الغرور والخداع المضمحلّ الذي لا حقيقة له عند الامتحان ، ولا صحة له عند الاختبار. فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم ، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. يقول تعالى ذكره : ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها ، فإنما أنتم منها في غرور تمتَّعون ، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون. (1)
* * *
وقد روي في تأويل ذلك ما : -
8314 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، قال : كزاد الراعي ، تزوِّده الكفّ من التمر ، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن.
* * *
فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا ، إلى أن معنى الآية : وما الحياة الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ ، لا يُبلِّغ مَنْ تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل ، وإن كان وجهًا من وجوه التأويل ، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن " الغرور " إنما هو الخداع في كلام العرب. وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة ، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور. وأما الذي هو في غرور ، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور.
* * *
و " الغرور " مصدر من قول القائل : " غرني فلان فهو يغرُّني غرورًا " بضم " الغين " . وأما إذا فتحت " الغين " من " الغرور " ، فهو صفة للشيطان الغَرور ، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته.
* * *
وقد :
8315 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا
__________
(1) انظر تفسير : " المتاع " فيما سلف 1 : 539 ، 540 / 3 : 55.

(7/453)


لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، واقرءوا إن شئتم " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (186) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : تعالى ذكره : (2) " لتبلون في أموالكم " ، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (3) " وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من
__________
(1) الحديث : 8315 - عبدة : هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. وعبد الرحيم : هو ابن سليمان المروزي الأشل.
والحديث رواه أحمد في المسند : 9649 (ج2 ص438 حلبي) ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد ابن عمرو - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 85 ، عن عبد بن حميد وغيره ، عن محمد بن عمرو. وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2 : 299 ، من طريق شجاع بن الوليد ، عن محمد بن عمرو. وقال : " هذا حديث على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2 : 311 ، من رواية ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن محمد بن عمرو.
ثم قال ابن كثير : " هذا حديث ثابت في الصحيحين ، من غير هذا الوجه ، بدون هذه الزيادة [يعني ذكر الآية في الحديث]. وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن عمرو " .
وذكره السيوطي 2 : 107 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4 : 277 ، من رواية الترمذي - ضمن ألفاظ للحديث بمعناه ، عند أحمد ، والبخاري ، والطبراني في الأوسط " بأسناد رواته رواة الصحيح " ، وابن حبان في صحيحه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " يعني بذلك تعالى ذكره " ، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف 2 : 49 / 3 : 7 ، 220 / 5 : 339 / 7 : 297 ، 235.

(7/454)


أهل نصرتكم وملتكم (1) " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : من اليهود وقولهم : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، وقولهم : " يد الله مغلولة " ، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله " ومن الذين أشركوا " ، يعني النصارى " أذى كثيرًا " ، (2) والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : " المسيح ابن الله " ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله " وإن تصبروا وتتقوا " ، يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته " وتتقوا " ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته " فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقيل : إن ذلك كله نزل في فنخاص اليهودي ، سيد بني قَيْنُقَاع ، كالذي : -
8316 - حدثنا به القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عكرمة في قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا " ، قال : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : " لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع " . (3) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : " قد احتاج ربكم أن نمده " ! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع " ،
__________
(1) انظر تفسير " أنفسهم " فيما سلف 6 : 501.
(2) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف 4 : 374.
(3) كل من أحدث دونك شيئا ، ومضى عليه ولم يستشرك ، واستبد به دونك ، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو " افتعال " من " الفوت " ، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.

(7/455)


فكف ، ونزلت : ( " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ " ). (1) وما بين الآيتين إلى قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " ، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " ، قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم ، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال : " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : اليهود والنصارى " ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا) فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : " عزير ابن الله " ، ومن النصارى : " المسيح ابن الله " ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم ، (2) فقال الله : " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتشبّب بنساء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك :
8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا " ، قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار ، فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل
__________
(1) انظر أخبار فنخاص اليهودي في الآثار السالفة : 8300 - 8302.
(2) في المطبوعة : " ويسمعون إشراكهم " بالواو ، وفي المخطوطة ، هذه الواو كأنها (د) ، فآثرت أن أجعلها " إذ " ، لأنها حق المعنى.

(7/456)


يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعَوَالي ، (1) فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة! قال : فليدن إليّ بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعًا عندنا لنستنفق بها. (2) فقال : والله لئن فعلتم لقد جُهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاءً حين هدأ عنهم الناس ، (3) فأتوه فنادوه ، فقالت امرأته : ما طَرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم.
(4) قال معمر : فأخبرني أيوب ، عن عكرمة : أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهَنُوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال ، فقالوا : إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال : " هذا رهينة وَسْق ، وهذا رهينة وسقين " ! (5) فقال : أترهنوني نسائكم ؟ قالوا : أنت أجملُ الناس ، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم. قالوا : فأنزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينزل ، (6)
__________
(1) " العوالي " ، جمع عالية. و " العالية " : اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة ، من قراها وعمائرها إلى تهامة ، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهو " السافلة " . وعوالي المدينة ، بينها وبين المدينة أربعة أميال ، وقيل ثلاثة ، وذلك أدناها ، وأبعدها ثمانية.
(2) استنفق بالمال : جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله.
(3) هدأ عنهم الناس : سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة : " حين هدى عنهم الناس " بطرح الهمزة ، وهو صواب جيد ، جاء في شعر ابن هرمة ، من أبياته الأليمة الموجعة : لَيْتَ السَّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً ... وَأَنَّنَا لا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدَا
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا عَنْ فَرائِسِهَا ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا
يريد : " لتهدأ " و " بهادئ شرهم " .
(4) هذا بدأ سياق آخر للخبر ، منقطع عما قبله من خبر الزهري ، ولم يتم خبر الزهري ، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه.
(5) " الوسق " كيل معلوم ، قيل : هو حمل بعير ، وقيل : ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
(6) قوله : " ذهب ينزل " ، أي تحرك لينزل ، و " ذهب " من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة ، أو بيان فعل مثل قولهم : " قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه " ، أو " قعد لا يسأله سائل إلا حرمه " ، لا يراد به حقيقة القعود ، بل استمرار ذلك منه واتصاله ، وحاله عند رؤية الناس ، أو طروق السائل. واستعمال " ذهب " بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم ، وإن لم تذكره كتب اللغة.

(7/457)


فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال : لو وجدني هؤلاء نائمًا ما أيقظوني! قالت : فكلِّمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوحُ ريحه. قالوا : ما هذه الريح يا فلان ؟ قال : هذا عطرُ أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عَبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : قتل سيدنا غيلة! فذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صَنيعه ، وما كان يحضّ عليهم ، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا ، قال : فكان ذلك الكتابُ مع عليّ رضوان الله عليه.
* * *

(7/458)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : واذكر أيضا من [أمر] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم ، يا محمد ، (1) إذ أخذ الله ميثاقهم ، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم ، وهو التوراة والإنجيل ، وأنك لله رسول مرسل بالحق ، ولا يكتمونه " فنبذوه وراء ظهورهم " ، يقول :
__________
(1) الزيادة بين القوسين مما لا يستقيم الكلام إلا بها أو بشبهها.

(7/458)


فتركوا أمر الله وضيعوه. (1) ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك ، فكتموا أمرك ، وكذبوا بك " واشتروا به ثمنًا قليلا " ، يقول : وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك ، عوضًا منه خسيسًا قليلا من عرض الدنيا (2) ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال : " فبئس ما يشترون " . (3)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عني بها اليهود خاصّة.
* ذكر من قال ذلك :
8318 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه ، عن ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " إلى قوله : " عذاب أليم " ، يعني : فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار.
8319 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله. (4)
__________
(1) انظر تفسير " نبد " فيما سلف 2 : 401 وتفسير " وراء ظهورهم " فيما سلف 2 : 404.
(2) انظر تفسير " اشترى " فيما سلف 1 : 312 - 315 / 2 : 340 - 342 ، 455 / 3 : 330 / 4 : 246 : 6 : 527 / 7 : 420.
وانظر تفسير " الثمن " فيما سلف 1 : 565 / 3 : 328 / 6 : 527 بولاق.
(3) انظر بيان معنى " بئس " فيما سلف 2 : 338 - 340 / 3 : 56.
(4) الأثران : 8318 ، 8319 - سيرة ابن هشام 2 : 208 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 8300 ، 8301.

(7/459)


8320 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " ، كان أمرهم أن يتبعوا النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته ، وقال : ( اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [سورة الأعراف : 158] فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قال : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) [ سورة البقرة : 40] عاهدهم على ذلك ، فقال حين بعث محمدًا : صدِّقوه ، وتلقون الذي أحببتم عندي.
8321 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " الآية ، قال : إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس ، محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، " فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا " .
8322 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحّاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج بن يوسف جُلساءه عن هذه الآية : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب " يهود ، " ليبيننه للناس " ، محمدًا صلى الله عليه وسلم ، " ولا يكتمونه فنبذوه " .
8323 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " ، قال : وكان فيه إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده ، وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
وقال آخرون : عني بذلك كل من أوتي علمًا بأمر الدين.
ذكر من قال ذلك :

(7/460)


8324 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية ، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم شيئًا فليعلِّمه ، وإياكم وكتمانَ العلم ، فإن كتمان العلم هَلَكة ، ولا يتكلَّفن رجلٌ ما لا علم له به ، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلِّفين ، كان يقال : " مثلُ علم لا يقال به ، كمثل كنز لا ينفق منه! ومثل حكمة لا تخرج ، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب " . وكان يقال : " طوبي لعالم ناطق ، وطوبي لمستمع واعٍ " . هذا رجلٌ علم علمًا فعلّمه وبذله ودعا إليه ، ورجلٌ سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به.
8325 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبدالله بن مسعود فقال : إنّ أخاكم كعبًا يقرئكم السلام ، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " . فقال له عبدالله : وأنت فأقره السلام وأخبرهُ أنها نزلت وهو يهوديّ.
8326 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة بنحوه ، عن عبدالله وكعب.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
ذكر من قال ذلك :
8327 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان قال ، حدثني يحيى بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبدالله يقرأون : ( " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِيثَاقَهَمْ " ) ، قال : من النبيين على قومهم.

(7/461)


8328 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد قال ، قلت لابن عباس : إن أصحاب عبدالله يقرأون : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) ، قال فقال : أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
* * *
وأما قوله : " لتبيننه للناس " ، فإنه كما : -
8329 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا محمد بن ذكوان قال ، حدثنا أبو نعامة السعدي قال : كان الحسن يفسر قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " ، لتتكلمن بالحق ، ولتصدِّقنه بالعمل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه بعضهم : ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) بالتاء. وهي قراءة عُظْم قرأة أهل المدينة والكوفة ، (2) على وجه المخاطب ، بمعنى : قال الله لهم : لتُبيننّه للناس ولا تكتمونه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( " لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ " ) بالياء جميعًا ، على وجه الخبر عن الغائب ، لأنهم في وقت إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم ، كانوا غير موجودين ، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب.
* * *
__________
(1) كانت الآية في المطبوعة : " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " بالياء ، في جميع الآثار السالفة ، فجعلتها على قراءة مصحفنا بالتاء في الكلمتين.
(2) في المطبوعة : " وهي قراءة أعظم قراء أهل المدينة. . . " وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة كما سلف عشرات من المرات. وعظم القوم : أكثرهم ومعظمهم.

(7/462)


قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان ، صحيحةٌ وجوههما ، مستفيضتان في قرأة الإسلام ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك. غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك ، فإن أحب القراءتين إليّ أن أقرأ بها : ( " لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ " ) ، بالياء جميعًا ، استدلالا بقوله : " فنبذوه " ، (1) إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله : " فنبذوه " حتى يكون متَّسقًا كله على معنى واحد ومثال واحد. ولو كان الأول بمعنى الخطاب ، لكان أن يقال : " فنبذتموه وراء ظهوركم " أولى ، من أن يقال : " فنبذوه وراء ظهورهم " .
* * *
وأما قوله : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به.
وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك ، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8330 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا يحيى بن أيوب البَجَلي ، عن الشعبي في قوله : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : إنهم قد كانوا يقرأونه ، إنما نبذوا العمل به.
8331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " استدلالا بقوله فنبذوه ، أنه إذ كان قد خرج مخرج الخبر. . . " وهو كلام لا يستقيم ، فحذفت : " أنه " ، ويكون السياق : " فإن أحب القراءتين إلى أن أقرأ بها. . . حتى يكون متسقا كله على معنى واحد " . وما بينهما فصل ، علل به اختيار قراءته.
(2) انظر ما سلف 2 : 404 ، وما سلف ص : 459 ، تعليق : 1.

(7/463)


ابن جريج : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : نبذوا الميثاق.
8332 - حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا عثمان بن عمر قال ، حدثنا مالك بن مغول : قال ، نبئت عن الشعبي في هذه الآية : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : قذفوه بين أيديهم ، وتركوا العمل به.
* * *
وأما قوله : " واشتروا به ثمنًا قليلا " ، فإن معناه ما قلنا ، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب ، (1) كما : -
8333 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " واشتروا به ثمنًا قليلا " ، أخذوا طمعًا ، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله : " فبئس ما يشترون " ، يقول : فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب ، كما : -
8334 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فبئس ما يشترون " ، قال : تبديل اليهود التوراة.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص : 459 ، تعليق : 2.

(7/464)


لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

القول في تأويل قوله : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : عني بذلك قومٌ من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو ، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه ، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
* ذكر من قال ذلك :
8335 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال ، حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو ، تخلّفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله. وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فأنزل الله تعالى فيهم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية. (1)
8336 - حدثني يونس قال ، أخبرنا بن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هؤلاء المنافقون ، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها.
* * *
__________
(1) الحديث : 8335 - رواه البخاري من طريق شيخه سعيد بن أبي مريم ، كرواية الطبري (الفتح : 8 : 175). وقال ابن كثير 2 : 317 : " رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه " .

(7/465)


وقال آخرون : عني بذلك قوم من أحبار اليهود ، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ، ونسبة الناس إياهم إلى العلم.
* ذكر من قال ذلك :
8337 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : " ولهم عذاب أليم " ، يعني فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زيَّنوا للناس من الضلالة " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أن يقول لهم الناس علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، (1) ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا. (2)
8338 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك إلا أنه قال : وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى. (3)
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك قومٌ من اليهود ، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم : أهل صلاة وصيام.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) سيرة ابن هشام " هدى ولا حق " . وفي المطبوعة : " لم يحملوهم على هدى " غير ما في المخطوطة ، ولكنها الصواب ، ويدل على ذلك الأثر التالي ، فإنه ذكر وجه الخلاف بين الروايتين.
(2) الأثر : 8337 ، 8338 - سيرة ابن هشام 2 : 208 ، وهو تتمة الأثر السالف رقم : 8318 ، والإسناد متصل إلى ابن عباس ، كما مضى مرارًا.
(3) في المطبوعة : " ابن كريب " ، وهو خطأ ، قد مضى على صحته في مئات من المواضع.

(7/466)


8339 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : " قد جمع الله كلمتنا ، ولم يخالف أحد منا أحدًا [أن محمدًا ليس بنبي]. (1) وقالوا : " نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام " ، وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله ، قال الله : " يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " .
8340 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : كانت اليهود أمر بعضهم بعضًا ، (2) فكتب بعضهم إلى بعض : " أنّ محمدًا ليس بنبي ، فأجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم " ، ففعلوا وفرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
8341 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي
__________
(1) هذه الجملة بين القوسين ، كان مكانها في المطبوعة : " أنه نبي " ، وفي المخطوطة " أن بنبي " ، والذي في المطبوعة مخالف لما تمالأ عليه اليهود ، والذي في المخطوطة بين الفساد والخرم ، واستظهرت ما بين القوسين من الأثر الذي رواه السيوطي في الدر المنثور 2 : 109 ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك ، والذي سيأتي في الأثر التالي ، ونصه : " إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض أن محمدًا ليس بنبي ، فأجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم " . فمن هذا استظهرت صواب العبارة التي أثبتها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " قال : قالت اليهود أمر بعضهم بعضًا " ، وهو كلام غير مستقيم ، صحفت " كانت " إلى " قالت " فأثبتها على الصواب إن شاء الله.

(7/467)


قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
8342 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون : " نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم " ، فأنزل الله فيهم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أحبوا أن تحمدهم العرب ، بما يزكون به أنفسهم ، وليسوا كذلك.
8343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية : " لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا " ، قال سعيد بن جبير : بكتمانهم محمدًا " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هو قولهم : " نحن على دين إبراهيم عليه السلام " . (1)
8344 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، هم أهل الكتاب ، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ويصلون ، ويطيعون الله. فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، كفرًا بالله وكفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم (2) " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، من الصلاة والصوم ، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " .
* * *
__________
(1) الأثر : 8343 - انظر الأثر السالف رقم : 8322.
(2) في المطبوعة : " كفروا بالله ، وكفروا بمحمد " ، والصواب من المخطوطة.

(7/468)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من تبديلهم كتاب الله ، ويحبون أن يحمَدهم الناس على ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
8345 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، قال : يهودُ ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه ، ولا تملك يهود ذلك. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك :
8346 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية : " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : اليهود ، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام.
* * *
8347 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة عن أبي المعلى العطّار ، عن سعيد بن جبير قال : هم اليهود ، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام.
وقال آخرون : بل عُني بذلك قومٌ من اليهود ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه ، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) قوله : " ولا تملك يهود ذلك " كأنه يعني : ولا تملك يهود النجاة من عذاب الله ، كما أنذرهم في الآية.

(7/469)


8348 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني ابن أبي مليكة : أن علقمة بن أبي وقاص أخبره : أن مروان قال لرافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : " لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا ، ليعذبنا الله أجمعين " ! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه. ثم قال : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، الآية.
8349 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : أخبرني عبدالله بن أبي مليكة : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره : أن مروان بن الحكم قال لبوابه : يا رافع ، اذهب إلى ابن عباس فقل له : " لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا ، لنعذبن جميعًا " ! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس " إلى قوله : " أن يحمدوا بما لم يفعلوا " . قال ابن عباس : سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. (1)
* * *
__________
(1) الأثران : 8348 ، 8349 - أخرجهما البخاري في كتاب التفسير ، الأول من طريق : " إبراهيم بن موسى عن هشام ، أن ابن جريج أخبرهم... " والآخر من طريق : " ابن مقاتل ، أخبرنا الحجاج ، عن ابن جريج " ، وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير. وقد استوفى الحافظ ابن حجر في الفتح 8 : 175 ، 176 ، في هذين الأثرين ، ذكر رافع ، الذي لم يروا له ذكرًا في كتب الرواة ، وفي اختلافهم على ابن جريج في شيخ شيخه مرة " علقمة بن أبي وقاص " ، وأخرى " حميد بن عبد الرحمن بن عوف " . وانظر أسباب النزول الواحدي : 101 ، 102.

(7/470)


وقال آخرون : بل عني بذلك قومٌ من يهود ، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد ، والله عالم منهم خلاف ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
8350 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أنّ أعداء الله اليهود ، يهود خيبر ، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه ، وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمَدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، الآية.
8351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : " إنا على رأيكم وسنتكم ، (1) وإنا لكم رِدْء " . (2) فأكذبهم الله فقال : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآيتين.
8352 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى عبدالله فقال : إن كعبًا يقرأ عليك السلام ويقول : إن هذه الآية لم تنزل فيكم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : أخبروه أنها نزلت وهو يهودي. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، قول من قال : " عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر
__________
(1) في المطبوعة : " على رأيكم وهيئتكم " ، والذي في المخطوطة " على رأيكم وسكم " غير منقوطة ، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت. وأكثر من روى هذا الخبر حذف منه هذه الكلمة. و " السنة " : الطريقة والنهج.
(2) " الردء " : العون والناصر ، ينصره ويشد ظهره.
(3) الأثر : 8352 - انظر الأثر السالف رقم : 8325 ، " وكعب " هو " كعب الأحبار " .

(7/471)


الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك.
فإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : لا تحسبن ، يا محمد ، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحق ، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء ، لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " .
* * *
وقوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا ، (1) من الخسف والمسخ والرجف والقتل ، وما أشبه ذلك من عقاب الله ، ولا هم ببعيد منه ، (2) كما : -
8353 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، قال : بمنجاة من العذاب.
* * *
قال أبو جعفر : " ولهم عذاب أليم " ، يقول : ولهم عذابٌ في الآخرة أيضًا مؤلم ، مع الذي لهم في الدنيا معجل. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فاز " فيما سلف قريبا ص : 452.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 250.
(3) أخشى أن يكون صواب العبارة : " ولهم عذاب مؤلم في الآخرة أيضا مؤجل ، مع الذي لهم في الدنيا معجل " .

(7/472)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

القول في تأويل قوله : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
قال أبو جعفر : وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " . يقول تعالى ذكره ، مكذبا لهم : لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون أيها المفترون على الله ، من كان ملك ذلك له فقيرًا ؟
ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك ، ولكل مكذب به ومفتر عليه ، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب ، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه فقال : " والله على كل شيء قدير " ، يعني : من إهلاك قائلي ذلك ، وتعجيل عقوبته لهم ، وغير ذلك من الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) }
قال أبو جعفر : وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك ، وعلى سائر خلقه ، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب ، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده ، فقال جل ثناؤه : تدبروا أيها الناس واعتبروا ، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم ، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم ، (1) تتصرفون في هذا لمعاشكم ، وتسكنون في
__________
(1) عاقب بين الشيئين : راوح بينهما ، لهذا مرة ولذاك مرة. واستعمل الطبري " عقب " مشددة القاف ، بنفس المعنى ، كما يقال : " ضاعف وضعف " ، و " عاقد وعقد " . و " اعتقب الليل والنهار " جاء هذا بعد هذا ، دواليك.

(7/473)


الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)

هذا راحة لأجسادكم معتبر ومدَّكر ، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل ، يعلم أن من نسبني إلى أنّي فقير وهو غني كاذب مفتر ، (1) فإنّ ذلك كله بيدي أقلّبه وأصرّفه ، ولو أبطلت ذلك لهلكتم ، فكيف ينسب إلى فقر من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه ؟ (2) أم كيف يكون غنيًّا من كان رزقه بيد غيره ، إذا شاء رزقه ، وإذا شاء حَرَمه ؟ فاعتبروا يا أولي الألباب.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال أبو جعفر : وقوله : " الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا " من نعت " أولي الألباب " ، و " الذين " في موضع خفض ردًّا على قوله : " لأولي الألباب " .
* * *
ومعنى الآية : إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم يعني بذلك : قيامًا في صلاتهم ، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم ، وعلى جنوبهم نيامًا. كما : -
8354 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " يعلم أنه أن من نسبي إلى أني فقير وهو غني ، دادب معى " ، وهو كلام مصحف مضطرب ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب إن شاء الله.
(2) في المطبوعة : " فكيف ينسب فقر إلى من كان... " ، أخر " إلى " ، والصواب الجيد تقديمها كما في المخطوطة.

(7/474)


ابن جريج ، قوله : " الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا " الآية ، قال : هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة ، وقراءة القرآن.
8355 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم " ، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، فاذكره وأنت على جنبك ، يُسرًا من الله وتخفيفًا.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " وعلى جنوبهم " : فعطف بـ " على " ، وهي صفة ، (1) على " القيام والقعود " وهما اسمان ؟
قيل : لأن قوله : " وعلى جنوبهم " في معنى الاسم ، ومعناه : ونيامًا ، أو : " مضطجعين على جنوبهم " ، فحسن عطف ذلك على " القيام " و " القعود " لذلك المعنى ، كما قيل : ( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) [سورة يونس : 12] فعطف بقوله : " أو قاعدا أو قائما " على قوله : " لجنبه " ، لأن معنى قوله : " لجنبه " ، مضطجعا ، (2) فعطف بـ " القاعد " و " القائم " على معناه ، فكذلك ذلك في قوله : " وعلى جنوبهم " . (3)
* * *
وأما قوله : " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " ، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك ، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء ، ومن هو مالك كل شيء ورازقه ، وخالق كل شيء ومدبره ، ومن هو على كل شيء قدير ، وبيده الإغناء والإفقار ، والإعزاز والإذلال ، والإحياء والإماتة ، والشقاء والسعادة.
* * *
__________
(1) " الصفة " : حرف الجر ، كما سلف في مواضع كثيرة ، وانظر 1 : 299 ، تعليق : 1 ، وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(2) انظر ما سلف 3 : 475.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 250.

(7/475)


القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " قائلين : " ربنا ما خلقت هذا باطلا " ، فترك ذكر " قائلين " ، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه.
* * *
وقوله : " ما خلقت هذا باطلا " يقول : لم تخلق هذا الخلق عبثًا ولا لعبًا ، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة ، وإنما قال : " ما خلقت هذا باطلا " ولم يقل : " ما خلقت هذه ، ولا هؤلاء " ، لأنه أراد بـ " هذا " ، الخلقَ الذي في السموات والأرض. يدل على ذلك قوله : " سبحانك فقنا عذاب النار " ، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم. ولو كان المعنيّ بقوله : " ما خلقت هذا باطلا " ، السموات والأرض ، لما كان لقوله عقيب ذلك : " فقنا عذاب النار " ، معنى مفهوم. لأن " السموات والأرض " أدلة على بارئها ، لا على الثواب والعقاب ، وإنما الدليل على الثواب والعقاب ، الأمر والنهي.
وإنما وصف جل ثناؤه : " أولي الألباب " الذين ذكرهم في هذه الآية : أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين قالوا : " يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك " ، يعني : تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا ، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر ، لجنة أو نار.
ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار ، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره ، فيكونوا من أهل جهنم.
* * *

(7/476)


رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)

القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها ، فقد أخزيته. قال : ولا يخزي مؤمن مصيرُه إلى الجنة ، وإن عذِّب بالنار بعض العذاب.
* ذكر من قال ذلك :
8356 - حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار قالا أخبرنا المؤمل ، أخبرنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : من تُخلد. (1)
8357 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن ابن المسيب : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : هي خاصة لمن لا يخرج منها.
8358 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا قبيصة بن مروان ، عن الأشعث الحمْليّ قال ، قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أرأيت ما تذكر من الشفاعة ، حق هو ؟ قال : نعم حق. قال ، قلت : يا أبا سعيد ، أرأيت قول الله تعالى : " ربنا إنك من تدخل النار فقد
__________
(1) الأثر : 8356 - " أبو حفص الجبيري " ، لم أجده ، والذي يروى عنه أبو جعفر هو عمرو بن علي الفلاس ، " أبو حفص الصيرفي " ، وهو في المخطوطة " الحبرى " غير منقوطة ، ولا أدري أيقرأ " الجبيري " أو " الخيبري " ، ولم أجد هذه النسبة في ترجمة " عمرو بن علي الفلاس " ، . وعمرو بن علي الفلاس يروي عن مؤمل بن إسماعيل كما مضى في مواضع كثيرة منها رقم : 1885 ، 1891 ، 1898 ، وغيرها كثير.

(7/477)


أخزيته " و( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ) (1) [سورة المائدة : 37] ؟ قال فقال لي : إنك والله لا تسطو على بشيء ، (2) إنّ للنار أهلا لا يخرجون منها ، كما قال الله. قال قلت : يا أبا سعيد ، فيمن دخلوا ثم خرجوا ؟ قال : كانوا أصابوا ذنوبًا في الدنيا فأخذهم الله بها ، فأدخلهم بها ثم أخرجهم ، بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به. (3)
8359 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : هو من يخلد فيها.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار ، من مخلد فيها وغير مخلد فيها ، فقد أخزي بالعذاب.
* ذكر من قال ذلك :
8360 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الحارث بن مسلم ، عن بحر ، عن عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبدالله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ؟ قال :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة ، أسقط " الواو " بين الآيتين ، والصواب إثباتها كما يدل عليه سياق سؤاله ، وجواب الحسن له.
(2) في المطبوعة : " إنك والله لا تستطيع على شيء " ، وهو كلام لا خير فيه ، والصواب ما أثبته من المخطوطة ، غيره الناشرون إذ لم يفهموه. وقوله : " لا تسطو علي بشيء " ، أي : إنك لا تحتج علي بحجة تقهرني بها وتغلبني. وأصله من " السطو " ، وهو البطش والقهر. و " فلان يسطو على فلان " ، أي يتطاول عليه.
(3) الأثر : 8358 - " قبيصة بن مروان بن المهلب " روى عن والان ، وروى عنه حماد بن زيد. مترجم في الكبير 4 / 1 / 177 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 125. والأشعث الحملي " منسوب إلى جده ، وهو : " الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأعمى " ويقال : " الأزدي " ، و " حدان " بطن من الأزد. روى عن أنس ، والحسن ، وابن سيرين. وروى عنه شعبة ، وحماد بن سلمة ، ويحيى بن سعيد القطان ، مترجم في التهذيب.

(7/478)


وما أخزاه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك لخزيًا. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب عندي ، قول جابر : " إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها ، وإن أخرج منها " . وذلك أن " الخزي " إنما هو هتك ستر المخزيّ وفضيحته ، (2) ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه ، فقد فضحه بعقابه إياه ، وذلك هو " الخزي " .
* * *
وأما قوله : " وما للظالمين من أنصار " ، يقول : وما لمن خالف أمر الله فعصاه ، من ذي نُصرة له ينصره من الله ، فيدفع عنه عقابه ، أو ينقذه من عذابه.
* * *
__________
(1) الأثر : 8360 - " الحارث بن مسلم الرازي " مضى برقم : 8097 ، و " بحر السقاء " ، هو " بحر بن كنيز الباهلي السقاء " مضى أيضًا برقم : 8097 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الحارث بن مسلم ، عن يحيى بن عمرو بن دينار " ، وهو خطأ صرف.
وهذا الأثر قد أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 300 ، ولم يقل فيه شيئًا ، وقال الذهبي في تعليقه : " قلت : بحر هالك " ، ورواه بأتم مما هنا ، بيد أن السيوطي في الدر المنثور 2 : 111 ، خرجه ، ونسبه للحاكم وابن جرير ، وساق لفظ الأثر بأتم من لفظ أبي جعفر ، ومخالفًا لفظ الحاكم ، ولفظه : " قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهت إليه أنا وعطاء ، فقلت : " وما هم بخارجين من النار " ؟ قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الكفار. قلت لجابر : فقوله : إنك من تدخل النار فقد أخزيته... " ، وسائر لفظه مطابق لما في الطبري.
وفي المخطوطة : " حين أحروه بالنار " ، والصواب ما في المطبوعة ، موافقًا لفظ الحاكم والسيوطي. وفي المخطوطة والمطبوعة : " وما إخزاؤه " وهو لا يستقيم ، والصواب ما في الدر المنثور. وقوله : " ما أخزاه " تعجب. والذي في الحاكم " قد أخزاه حين أحرقه بالنار " . فهما روايتان تصحح إحداهما معنى الأخرى. ويدل على صواب ذلك ترجيح الطبري لقول جابر في الفقرة التالية.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 2 : 314 ، 525.

(7/479)


رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل " المنادي " الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية.
فقال بعضهم : ا " لمنادي " في هذا الموضع ، القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
8361 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : " إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " ، قال : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
8362 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا منصور بن حكيم ، عن خارجة ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " ، قال : ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنادي القرآن. (2)
* * *
وقال آخرون : بل هو محمد صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 8361 - " قبيصة بن عقبة بن محمد السوائي " مضى برقم : 489 ، 2792 ، وهو ثقة معروف ، أخرج له الستة ، وتكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري : بأنه يخطئ في بعض روايته ، بأنه سمع من الثوري صغيرًا.
و " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، ضعيف جدا ، مضى برقم : 1875 ، 1876 ، 3291.
(2) الأثر : 8362 - " منصور بن حكيم " ، لم أعرفه ولم أجد له ترجمة ، وكذلك " خارجة " لم أعرف من يكون فيمن اسمه " خارجة " ، وأخشى أن يكون فيهما تصحيف أو تحريف.

(7/480)


8363 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " : قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم.
8364 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " ، قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول محمد بن كعب ، وهو أن يكون " المنادي " القرآن. لأن كثيرًا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه ، ولكنه القرآن ، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرًا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) [سورة الجن : 1 ، 2]
وبنحو ذلك : -
8365 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " إلى قوله : " وتوفَّنَا مع الأبرار " ، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها ، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال ، وعن مؤمن الجنّ كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) وأما مؤمن الإنس فقال : " إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا " ، الآية.
* * *
وقيل : " إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان " ، يعني : ينادي إلى الإيمان ، كما

(7/481)


قال تعالى ذكره : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) [سورة الأعراف : 43] بمعنى : هدانا إلى هذا ، (1) وكما قال الراجز : (2)
أَوْحَى لَها القَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ... وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ (3)
بمعنى : أوحى إليها ، ومنه قوله : ( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) [سورة الزلزلة : 5]
* * *
وقيل : يحتمل أن يكون معناه : إننا سمعنا مناديًا للإيمان ، ينادي أن آمنوا بربكم. (4)
* * *
فتأويل الآية إذًا : ربنا سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان يقول : إلى التصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك ، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك " فآمنا ربنا " ، يقول : فصدقنا بذلك يا ربنا. " فاغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : فاستر علينا خطايانا ، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد ، بعقوبتك إيانا عليها ، ولكن كفّرها عنا ، وسيئات أعمالنا ، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا " وتوفنا مع الأبرار " ، (5) يعني بذلك : واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك ، في عداد الأبرار ، واحشرنا محشرهم ومعهم.
* * *
و " الأبرار " جمع " بَرَ " ، وهم الذين برُّوا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له ، حتى أرضوه فرضي عنهم. (6)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 169.
(2) هو العجاج.
(3) سلف تخريجهما في 6 : 405 ، تعليق : 3.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 250 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 111.
(5) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 111.
(6) وانظر تفسير " البر " فيما سلف 2 : 8 / 3 : 336 - 338 ، 556 / 4 : 425 / 6 : 587.

(7/482)


رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

القول في تأويل قوله : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربَّهم أن يؤتيهم ما وعدهم ، وقد علموا أن الله منجز وعده ، وغيرُ جائز أن يكون منه إخلاف موعد ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل البحث. (1)
فقال بعضهم : ذلك قول خرج مخرج المسألة ، ومعناه الخبر. قالوا : وإنما تأويل الكلام : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار " لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. قالوا : وليس ذلك على أنهم قالوا : " إن توفيتنا مع الأبرار ، فأنجز لنا ما وعدتنا " ، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد ، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء ، (2) ولكنه تفضل بابتدائه ، ثم ينجزه. (3)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك قول من قائليه على معنى المسألة والدعاء لله بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله ، (4) لا أنهم كانوا قد
__________
(1) " أهل البحث " ، أهل النظر من المتكلمين ، وانظر ما سلف 5 : 387 ، تعليق 2 ، وأيضا : 406 ، تعليق : 1.
(2) في المخطوطة : " بعطية " ، وعلى الياء شدة ، وكأن الصواب ما في المطبوعة على الأرجح.
(3) في المطبوعة : " تفضل بإيتائه " ، والصواب ما في المخطوطة ، يعني أن الله ابتدأه متفضلا به من غير سؤال ولا دعاء.
(4) في المطبوعة : " بل ذلك قول من قائله " على الإفراد ، وصواب السياق الجمع ، كما في المخطوطة.

(7/483)


استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم ، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم ، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يُخلف وعده. قالوا : ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار ، لكانوا قد زكَّوْا أنفسهم ، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه. قالوا. وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين.
* * *
وقال آخرون : بل قالوا هذا القول على وجه المسألة ، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر ، والظفر بهم ، وإعلاء كلمة الحق على الباطل ، فيعجل ذلك لهم. قالوا : ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به ، كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد ، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك ، ولكنهم كانوا وُعدوا النصرَ ، ولم يوقَّت لهم في تعجيل ذلك لهم ، لما في تعجَله من سرور الظفر ورَاحة الجسد.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، أن هذه الصفة ، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره ، مفارقًا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله ، وغيرهم من تُبّاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم ، فقالوا : ربنا آتنا ما وعدتنا من نُصرتك عليهم عاجلا فإنك لا تخلف الميعاد ، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم ، فعجل [لهم] خزيهم ، ولنا الظفر عليهم. (1)
يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى ، وهو قوله : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ
__________
(1) في المطبوعة : " فعجل حربهم " ، وفي المخطوطة ، غير منقوطة ، إلا نقطة على الخاء ، وصواب قراءتها ما أثبت. وزدت " لهم " بين القوسين ، استظهارًا من قوله " ولنا الظفر عليهم " . ولو كان قوله " ولنا " تصحيف " وآتنا " ، لكان جيدًا أيضًا ، ولما احتاج الكلام إلى زيادة " لهم " .

(7/484)


بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ) الآيات بعدها. وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء. وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال : " افعل بنا يا رب كذا وكذا " ، بمعنى : " لتفعل بنا كذا وكذا " . (1) ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقول القائل لآخر (2) : " أقبل إليّ وكلمني " ، بمعنى : " أقبل إليّ لتكلمني " ، وذلك غير موجود في الكلام ولا معروف جوازه.
وكذلك أيضًا غير معروف في الكلام : " آتنا ما وعدتنا " ، بمعنى : " اجعلنا ممن آتيته ذلك " . وإن كان كل من أعطى شيئًا سنيًّا ، فقد صُيِّر نظيرًا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه. ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك ، وإن كان قد يؤول معناه إليه. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك : أنك تُعلي كلمتك كلمةَ الحق ، بتأييدنا على من كفر بك وحادَّك وعبد غيرك (4) وعجَل لنا ذلك ، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك - ولا تخزنا يوم القيامة فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا ، ولكن كفِّرها عنا واغفرها لنا. وقد : -
8366 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " ، قال : يستنجز موعود الله على رُسله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بمعنى أفعل بنا لكذا الذي. ولو جاز ذلك... " ، وهذا خلط ليس له معنى مفهوم. وفي المخطوطة : " بمعنى : افعل بنا كذى الذي. ولو جاز ذلك " ، وهذا خلط أشد فسادًا من الأول. والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته ، لأن هذا رد من أبي جعفر على أصحاب القول الأول الذين قالوا إنها بمعنى : " لتؤتينا ما وعدتنا " في تفسير " وآتنا ما وعدتنا " ، ولأنه مثل بعد بقوله : " أقبل إلي وكلمني " ، أنه غير موجود بمعنى " أقبل إلي لتكلمني " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يقول القائل الآخر " وهو خطأ لا شك فيه.
(3) وهذا رد على أصحاب القول الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرها قبل. وهم الذين قالوا إن قوله : " وآتنا ما وعدتنا " ، على معنى المسألة والدعاء لله بإن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم.
(4) في المخطوطة : " بأيدينا على من كفر بك " ، وأرجح ما جاء في المطبوعة.

(7/485)


فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

القول في تأويل قوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به (1) ربُّهم ، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرًا ، ذكرًا كان العامل أو أنثى.
* * *
وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة " ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.
8367 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر ؟ فنزلت : " أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " ، الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة " فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم... " وهو كلام لا يستقيم. وفي المخطوطة : " فأجاب الله هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوه به ربهم.. " وهو أيضًا غير مستقيم ، والصواب الراجح ما أثبت. لأن الله عدد أدعيتهم التي دعوه بها قبل في الآيات السالفة ، فكان صوابًا أن يذكرها إجمالا في بيان تفسير الآية. وغير مستقيم في العربية أن يقال : " وصف عن فلان كذا " ، فلذلك رجحت قراءتها كما أثبت. والناسخ كما ترى كثير السهو والغلط.
وسياق الكلام " فأجاب هؤلاء الداعين... ربهم " برفع " ربهم " ، وما بينهما فصل في السياق ، وهو تأويل قوله : " فاستجاب لهم ربهم " .
(2) الحديث : 8367 - هذا إسناد صحيح. ومؤمل : هو ابن إسماعيل ، وهو ثقة ، كما ذكرنا في : 2057.
سفيان - هنا - : هو الثوري ، وإن كان مؤمل يروى أيضا عن ابن عيينة. ولكن بين أنه الثوري في رواية الحاكم ، كما سنذكر في التخريج ، إن شاء الله.
والحديث رواه الطبري أيضا ، فيما يأتي في تفسير الآية : 25 من سورة الأحزاب (ج22 ص8 بولاق) ، عن ابن حميد ، عن مؤمل ، بهذا الإسناد. وذكره سببًا لنزول تلك الآية.
والحديث مروي على أنه سبب في نزول هذه الآية وتلك.
فرواه الحاكم في المستدرك 2 : 416 ، من طريق الحسين بن حفص ، عن سفيان بن سعيد [وهو الثوري] ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة ، قالت : " قلت : يا رسول الله ، يذكر الرجال ولا يذكر النساء ؟ فأنزل الله عز وجل : " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " الآية ، وأنزل : " أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
والحسين بن حفص الهمداني الإصبهاني : ثقة ، كما ذكرنا في شرح : 2435.
وقد ذكر ابن كثير رواية الطبري الأخرى ، في سورة الأحزاب 6 : 533 ، غير منسوب.
ورواه أحمد في المسند 6 : 301 (حلبى) ، سببًا لنزول آية الأحزاب. رواه من وجهين ، جمعهما في إسناد واحد : من رواية عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، ومن رواية عبد الرحمن بن شيبة المكي الحجبي كلاهما عن أم سلمة.
ثم أعاده مرة أخرى ، ص : 305 من الوجهين ، فرقهما إسنادين.
ورواه المزي في تهذيب الكمال ، في ترجمة " عبد الرحمن بن شيبة " ، بإسناده إليه.
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن النسائي رواه في التفسير من طريق عبد الرحمن. فهو في السنن الكبرى.
ورواه الطبري ، فيما سيأتي (ج22 ص8 بولاق) ، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أم سلمة - سببًا لنزول آية الأحزاب.
ويحيى بن عبد الرحمن : تابعي ثقة جليل رفيع القدر.
وذكر ابن كثير 6 : 533 أنه رواه النسائي من طريقه ثم أشار إلى رواية الطبري إياه.
وانظر أيضا الدر المنثور 5 : 200.
فالحديث في الموضعين في الطبري ، من طريق مجاهد مختصر.
وانظر الروايتين التاليتين لهذا.

(7/486)


8368 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " .
8369 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن رجل من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة : أنها

(7/487)


قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله تعالى : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عملٍ عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " . (1)
* * *
وقيل : " فاستجاب لهم " بمعنى : فأجابهم ، كما قال الشاعر : (2)
وَدَاٍع دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى?... فَلَم يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (3)
بمعنى : فلم يجبه عند ذاك مجيب.
* * *
__________
(1) الحديثان : 8368 ، 8369 - الرجل من ولد أم سلمة : أبهم هنا ، ولكنه عرف من إسناد آخر.
وكذلك ذكره الترمذي في روايته مبهمًا.
فرواه 4 : 88 ، عن ابن أبي عمر ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد.
وكذلك أبهمه سعيد بن منصور : فرواه عن سفيان ، به. فيما نقله عنه ابن كثير في التفسير 2 : 326.
وبينه الحاكم في المستدرك.
فرواه 2 : 300 ، من طريق يعقوب بن حميد : " حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة بن أبي سلمة : رجل من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة " .
وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه. سمعت أبا أحمد الحافظ - وذكر في بحثين في كتاب البخاري : يعقوب عن سفيان ، ويعقوب عن الدراوردي فقال أبو أحمد : هو يعقوب بن حميد " . والذهبي وافق الحاكم على أنه على شرط البخاري.
ويعقوب بن حميد بن كاسب : مضى توثيقه في : 4779 ، 4880 ، ومضى اعتراض الذهبي على الحاكم في تصحيح حديثه هناك. فالعجب أن يوافقه هنا!
و " سلمة بن أبي سلمة " هذا : هو " سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة " ، نسب إلى جده الأعلى. وبعضهم يذكر نسبه كاملا ، وبعضهم ينسبه لجده ، يقول : " سلمة بن عمر بن أبي سلمة " . وأم سلمة أم المؤمنين : هي أم جده " عمر بن أبي سلمة " .
و " سلمة " هذا : مترجم في تهذيب التهذيب ، ولم يترجم في أصله " تهذيب الكمال " . وله ترجمة في الكبير للبخاري 2 / 2 / 81 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 166.
والحديث ذكره السيوطي 2 : 112 ، دون التقيد بتابعي معين عن أم سلمة ، وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني.
(2) كعب بن سعد الغنوي.
(3) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1 : 320 ، تعليق : 1 / 3 : 483 ، تعليق : 1.

(7/488)


وأدخلت " من " في قوله : " من ذكر أو أنثى " على الترجمة والتفسير عن قوله : (1) " منكم " ، بمعنى : " لا أضيع عمل عامل منكم " ، من الذكور والإناث. وليست " من " هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد ، (2) لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به.
* * *
وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم : " قد كان من حديث " ، قال : و " من " ههنا أحسن ، لأن النهي قد دخل في قوله : " لا أضيع " .
* * *
وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال : لا تدخل " من " وتخرج إلا في موضع الجَحد. (3) وقال : قوله : " لا أضيع عمل عامل منكم " ، لم يدركه الجحد ، لأنك لا تقول : " لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت " ، فتدخل ، " ولا " ، (4) لأنه لم ينله الجحد ، ولكن " مِنْ " مفسرة. (5)
* * *
وأما قوله : " بعضكم من بعض " ، فإنه يعني : بعضكم أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم من بعض ، في النصرة والملة والدين ، (6) وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل ، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم ولا أنثى.
* * *
__________
(1) " الترجمة " : البدل ، كما سلف في 2 : 340 ، تعليق : 1 ، ص : 374 ، 420 ، 424 - 426. أما " التفسير " ، فكأنه عنى به " التبيين " ، ولم يرد التمييز ، وانظر فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء السالفة.
(2) انظر زيادة " من " في الجحد فيما سلف 2 : 126 ، 127 ، 442 ، 470 / 5 : 586.
(3) انظر ما سلف 2 : 127.
(4) في المطبوعة " فيدخل " بالياء ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها.
(5) يعني بقوله " مفسرة " مبينة ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 .
(6) في المطبوعة : " والمسألة والدين " ، والصواب من المخطوطة.

(7/489)


القول في تأويل قوله : { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فالذين هاجروا " قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله ، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله ، والتصديق برسوله ، (1) " وأخرجوا من ديارهم " ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة " وأوذوا في سبيلي " ، يعني : وأوذوا في طاعتهم ربَّهم ، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين ، وذلك هو " سبيل الله " التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها (2) " وقاتلوا " يعني : وقاتلوا في سبيل الله " وقتلوا " فيها (3) " لأكفرن عنهم سيئاتهم " ، يعني : لأمحونها عنهم ، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي ، ولأغفرنها لهم (4) " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا " ، يعني : جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله (5) " من عند الله " ، يعني : من قبل الله لهم (6) " والله عنده حسن الثواب " ، يعني : أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه ،
__________
(1) انظر تفسير " هاجر " فيما سلف 4 : 317 ، 318.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف 3 : 563 ، 583 ، 592 / 4 : 318 / 5 : 280 / 6 : 230.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وقتلوا : يعني ، وقتلوا في سبيل الله ، وقاتلوا فيها " قدم وأخر في سياق الآية ، وفي سياقة المعنى ، والصواب ما أثبت ، وإن كانت إحدى القراءات تجيز ما كان في المخطوطة ، وانظر القراآت في الآية بعد.
(4) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف قريبًا ص : 482.
(5) انظر تفسير " الثواب " فيما سلف 2 : 458 / 7 : 262 ، 304.
(6) انظر تفسير " عند " فيما سلف 2 : 501.

(7/490)


وذلك ما لا يبلغه وصف واصفٍ ، لأنه مما لا عينٌ رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَر على قلب بشر ، كما : -
8370 - حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال ، حدثني عمرو بن الحارث : أن أبا عشانة المعافري حدثه : أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره ، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان ، لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : " أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة " ، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : " ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ، ونقدس لك ، مَنْ هؤلاء الذين آثرتهم علينا " فيقول الرب جل ثناؤه : " هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي " . فتدخل الملائكة عليهم من كل باب : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ). (1) [سورة الرعد : 24]
* * *
__________
(1) الحديث : 8370 - أبو عشانة ، بضم العين المهملة وتشديد الشين المعجمة ، المعافري ، بفتح الميم : هو حي بن يؤمن بن عجيل المصري. تابعي ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 1 / 110 ، وابن سعد 7 / 2 / 201 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 276.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 71 - 72 ، من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن ابن وهب - وهو عبد الله - بهذا الإسناد ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
ورواه أيضا الطبراني ، من طريق أحمد بن صالح ، عن ابن وهب - فيما نقل عنه ابن كثير 4 : 519
ورواه أحمد في المسند ، بنحوه : 6570 ، من طريق معروف بن سويد الجذامي ، عن أبي عشانة المعافري.
ثم رواه - بنحوه أيضًا : 6571 ، من طريق ابن لهيعة ، عن أبي عشانة.
ورواه أبو نعيم في الحلية - مختصرًا - من طريق معروف بن سويد 1 : 347. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 259 ، من روايتي المسند ، وذكر في الأولى أنه رواه أيضًا البزار ، والطبراني ، " ورجالهم ثقات " . وذكر في الثانية أنه رواه أيضًا الطبراني ، " ورجال الطبراني رجال الصحيح ، غير أبي عشانة ، وهو ثقة " . وذكره السيوطي 2 : 112 ، ونسبه لابن جرير ، وأبي الشيخ ، والطبراني والحاكم " وصححه " ، والبيهقي في الشعب.
ثم ذكره مرة أخرى 4 : 57 - 58 ، ونسبه لأحمد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبي الشيخ ، والحاكم " وصححه " ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان.
ولم يذكره ابن كثير في هذا الموضع ، بل ذكره في ذاك الموضع ، في تفسير سورة الرعد ، كما أشرنا إليه.

(7/491)


قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وقاتلوا وقتلوا " .
* * *
فقرأه بعضهم : ( " وَقَتَلُوا وَقُتِّلُوا " ) بالتخفيف ، بمعنى : أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا ) بتشديد " قتَلوا " ، بمعنى : أنهم قاتلوا المشركين وقتَّلهم المشركون ، بعضًا بعد بعض ، وقتلا بعد قتل.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين : ( وَقَاتَلُوا وَقَتَلُوا ) بالتخفيف ، بمعنى : أنهم قاتلوا المشركين وقَتَلوا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : " وَقُتِلُوا " بالتخفيف. " وقاتلوا " ، بمعنى : أن بعضهم قُتِل ، وقاتل من بقي منهم.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها ، إحدى هاتين القراءتين ، وهي : " وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا " بالتخفيف ، أو " وَقَتَلُوا " بالتخفيف " وَقَاتَلُوا " لأنها القراءة المنقولة نقل وراثةٍ ، وما عداهما فشاذ. وبأيّ هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوَهما ، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصوابَ من القراءة ، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام ، مع اتفاق معنييهما.
* * *

(7/492)


لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)

القول في تأويل قوله : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولا يغرنك " يا محمد " تقلب الذين كفروا في البلاد " ، يعني : تصرفهم في الأرض وضربهم فيها ، (1) كما : -
8371 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ، يقول : ضربهم في البلاد.
* * *
فنهى الله تعالى ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد ، وإمهال الله إياهم ، مع شركهم ، وجحودهم نعمه ، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنيُّ به غيره من أتباعه وأصحابه ، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله ولكن كان بأمر الله صادعًا ، وإلى الحق داعيًا. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة.
8372 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يغرَّنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ، والله ما غرُّوا نبيَّ الله ، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله ، حتى قبضه الله على ذلك.
* * *
وأما قوله : " متاع قليل " ، فإنه يعني : أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها ،
__________
(1) انظر تفسير " التقلب " فيما سلف 3 : 172.
(2) أخشى أن يكون سقط من هذه العبارة شيء ، وإن كان الكلام مفهوم المعنى ، وكأن أصل العبارة " كما قد بينا فيما مضى قبل - ولم يكل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشرك والكفر شيئًا من أمر الله ، ولكن كان بأمر الله صادعًا ، وإلى الحق داعيًا " .

(7/493)


لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

متعة يمتَّعون بها قليلا حتى يبلغوا آجالهم ، فتخترمهم منياتهم " ثم مأواهم جهنم " ، بعد مماتهم.
* * *
و " المأوى " : المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة ، فيصيرون فيه. (1)
* * *
ويعني بقوله : " وبئس المهاد " . وبئس الفراش والمضجع جهنم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (3) " لكن الذين اتقوا ربهم " ، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتّباع مرضاته ، في العمل بما أمرهم به ، واجتناب ما نهاهم عنه " لهم جنات " يعني : بساتين ، (4) " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " ، يقول : باقين فيها أبدًا. (5) " نزلا من عند الله " ، يعني : إنزالا من الله إياهم فيها ، أنزلوها.
ونصب " نزلا " على التفسير من قوله : " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار " ،
__________
(1) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص : 279.
(2) انظر تفسير " المهاد " فيما سلف 4 : 246 / 6 : 229.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف 1 : 384 / 5 : 535 ، 542 / 6 : 261 ، 262 / 7 : 227.
(5) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف 6 : 261 : 262 تعليق : 1 ، والمراجع هناك ، وفهارس اللغة.

(7/494)


كما يقال : " لك عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا " ، وكما يقال : " هو لك صدقة " : و " هو لك هبة " . (1)
* * *
وقوله : " من عند الله " يعني : من قبل الله ، (2) ومن كرامة الله إياهم ، وعطاياه لهم.
* * *
وقوله : " وما عند الله خير للأبرار " ، يقول : وما عند الله من الحياة والكرامة ، وحسن المآب " ، " خير للأبرار " ، مما يتقلب فيه الذين كفروا ، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فانٍ ، وهو قليلٌ من المتاع خسيس ، وما عند الله من كرامته للأبرار - (3) وهم أهل طاعته (4) باقٍ ، غيرُ فانٍ ولا زائل.
* * *
8373 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " وما عند الله خير للأبرار " ، قال : لمن يطيع الله.
8374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : ما من نَفْس بَرَّة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. ثم قرأ عبد الله : " وما عند الله خير للأبرار " ، وقرأ هذه الآية : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ ). (5) [سورة آل عمران : 178]
__________
(1) " التفسير " ، عند الكوفيين ، هو التمييز عند البصريين ، وانظر ما سلف 2 : 338 ، تعليق : 1 / 3 : 90 ، تعليق : 2 / 5 : 91 ، تعليق : 4 وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 251.
(2) انظر تفسير " عند " فيما سلف قريبًا ص : 490 ، تعليق 6 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة : " وما عند الله خير من كرامته للأبرار " ، وهو فاسد المعنى ، وكان مثله في المخطوطة ، إلا أنه ضرب على " خير " بإشارة الحذف ، ولكن الناشر لم يدرك معنى الإشارة فأبقاها. فأفسدت الكلام.
(4) انظر تفسير " الأبرار " فيما سلف قريبًا ص : 482 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك.
(5) الحديث : 8374 - مضى برقم : 8267 ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن - وهو ابن مهدي - عن سفيان.
ورواه ابن أبي حاتم ، من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش كما نقله ابن كثير عنه 2 : 328.

(7/495)


وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

8375 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : " وما عند الله خير للأبرار " ، ويقول : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ). (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم : عنى بها أصحمة النجاشي ، وفيه أنزلت.
* ذكر من قال ذلك :
8376 - حدثنا عصَام بن رواد بن الجراح قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو بكر الهذليّ ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله : أن
__________
(1) الحديث - : 8375 - فرج بن فضالة : ضعيف ، كما بينا في : 1688.
لقمان : هو ابن عامر الوصابي الحمصي. وهو ثقة ، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 251 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 182 - 183. ولم يذكرا فيه جرحا.
و " الوصابي " : بفتح الواو وتشديد الصاد المهملة ، كما ضبطه ابن الأثير في اللباب ، والذهبي في المشتبه ، ووهم الحافظ ابن حجر ، فضبطه في التقريب بتخفيفها.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 328 - 329 ، عن هذا الموضع من الطبري. ووقع في طبعته " نوح ابن فضالة " بدل " فرج بن فضالة " ، وهو خطأ مطبعي سخيف.
وذكره السيوطي 2 : 104 ، عند الآية السابقة : 178 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(7/496)


النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اخرجوا فصلوا على أخ لكم " . فصلى بنا ، فكبر أربع تكبيرات ، فقال : " هذا النجاشي أصحمة " ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرَاني لم يره قط! (1) فأنزل الله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " . (2)
8377 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا : يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال : فنزلت : " وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " . قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) [سورة البقرة : 115]
8378 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، ذكر
__________
(1) " العلج " : الرجل من كفار العجم ، غير العرب ، والجمع " علوج " و " أعلاج " .
(2) الحديث : 8376 - عصام بن رواد بن الجراح : مضت ترجمته وتوثيقه : 2183. وقع هنا في المطبوعة " عصام بن زياد بن رواد بن الجراح " ؛ فزيادة اسم " زياد " في نسبه لا أصل لها. وثبت في المخطوطة بحذفها ، على الصواب.
أبوه " رواد بن الجراح " : مضت ترجمته وتضعيفه : 126 ، 2183.
أبو بكر الهذلي : سبق بيان ضعفه جدًا ، في : 597 ، وشرح : 2526.
وهذا الحديث ذكره السيوطي 2 : 113 ، ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره ابن كثير 2 : 330 ، عن الطبري ، ولكن في روايته خلاف في بعض لفظه لما هنا ، ولم يذكر أول إسناده. فلعله نقله عن موضع آخر من الطبري.
وهذا الحديث ضعيف كما ترى ، وسيأتي قول الطبري ، ص : 499 س : 15 " قيل : ذلك خبر في إسناده نظر " .
والضعف إنما هو في هذا الإسناد لحديث جابر ، أما أصل المعنى ، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة ، فإنه ثابت صحيح لا شك في صحته. رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ، ومن حديث أبي هريرة. انظر المنتقى : 1821 - 1824.

(7/497)


لنا أن هذه الآية نزلت في النَّجاشي ، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به. قال : وذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : " صلّوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم " ! فقال أناس من أهل النفاق : " يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه " ؟ فأنزل الله هذه الآية : " وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب " .
8379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، قال : نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم واسم النجاشي ، أصحْمة.
8380 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، قال عبد الرزاق ، وقال ابن عيينة : اسم النجاشي بالعربية : عطية.
8381 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، طعن في ذلك المنافقون ، فنزلت هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " ، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك عبد الله بن سَلامٍ ومن معه.
* ذكر من قال ذلك :
8382 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت - يعني هذه الآية - في عبد الله بن سلام ومن معه.
8383 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن زيد في

(7/498)


قوله : " وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، الآية كلها قال : هؤلاء يهود.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك مُسْلِمة أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
8384 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم " ، من اليهود والنصارى ، وهم مسلمة أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله : " وإنّ من أهل الكتاب " أهلَ الكتاب جميعًا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من " أهل الكتاب " من يؤمن بالله. وكلا الفريقين أعني اليهود والنصارى من أهل الكتاب.
* * *
فإن قال قائل : فما أنت قائلٌ في الخبر الذي رويتَ عن جابر وغيره : أنها نزلت في النجاشي وأصحابه ؟
قيل : ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحًا لا شك فيه ، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف. (1) وذلك أنّ جابرًا ومن قال بقوله ، إنما قالوا : " نزلت في النجاشيّ " ، وقد تنزل الآية في الشيء ، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشيّ ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشيّ ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيّ في اتباعهم
__________
(1) في المطبوعة : " خلاف " ، والصواب ما في المخطوطة. وقوله : " بخلاف " ، أي بمخالف.

(7/499)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين ، التوراة والإنجيل.
* * *
فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " وإن من أهل الكتاب " التوراة والإنجيل " لمن يؤمن بالله " فيقرّ بوحدانيته " وما أنزل إليكم " ، أيها المؤمنون ، يقول : وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم " وما أنزل إليهم " ، يعني : وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب ، وذلك التوراة والإنجيل والزبور " خاشعين لله " ، يعني : خاضعين لله بالطاعة ، مستكينين له بها متذلِّلين ، (1) كما : -
8385 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن زيد في قوله : " خاشعين لله " ، قال : الخاشع ، المتذلل لله الخائف.
* * *
ونصب قوله : " خاشعين لله " ، على الحال من قوله : " لمن يؤمن بالله " ، وهو حال مما في " يؤمن " من ذكر " من " . (2)
* * *
" لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا " ، يقول : لا يحرِّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدِّلونه ، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه ، لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل ، وابتغاء الرياسة على الجهال ، (3) ولكن ينقادون للحق ، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه ، وينتهون عما نهاهم عنه فيها ، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخشوع " فيما سلف 2 : 16 ، 17.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 251.
(3) انظر تفسير " الاشتراء " وتفسير " الثمن " فيما سلف قريبًا : 459 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(7/500)


القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه (1) " أولئك لهم أجرهم " ، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " لهم أجرهم عند ربهم " ، يعني : لهم عوض أعمالهم التي عملوها ، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه (2) " عند ربهم " يعني : مذخور ذلك لهم لديه ، حتى يصيروا إليه في القيامة ، فيوفِّيهم ذلك " إنّ الله سريع الحساب " ، وسرعة حسابه تعالى ذكره : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها ، وبعد ما عملوها ، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك ، فيقع في الإحصاء إبطاء ، فلذلك قال : " إن الله سريع الحساب " . (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : " اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورَابطوهم " .
ذكر من قال ذلك :
8386 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ،
__________
(1) في المطبوعة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف 2 : 148 ، 512 / 5 : 519.
(3) انظر تفسير " سريع الحساب " فيما سلف 4 : 207 / 6 : 279.

(7/501)


عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن : أنه سمعه يقول في قول الله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سَرَّاء ولا ضراء ، وأمرهم أن يُصابروا الكفار ، وأن يُرابطوا المشركين.
8387 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، أي : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله " واتقوا الله لعلكم تفلحون " .
8388 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله.
8389 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : اصبروا على الطاعة ، وصابروا أعداء الله ، ورابطوا في سبيل الله.
8390 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدو ورابطوهم.
* * *

(7/502)


وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وَعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورَابطوا أعداءكم.
* ذكر من قال ذلك :
8391 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوِّي وعدوَّكم ، حتى يترك دينه لدينكم. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوكم ورابطوهم.
* ذكر من قال ذلك :
8392 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوَّكم ، ورابطوا على عدوكم.
8393 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مطرف بن عبد الله المدنّي قال ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب ، فذكر له جموعًا من الروم وما يتخوَّف منهم ، فكتب إليه عمر : " أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة ، يجعل الله بعدها فرجًا ، وإنه لن يغلب عُسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورَابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 8391 - " أبو صخر " هو : حميد بن زياد بن أبي المخارق ، أبو صخر الخراط ، صاحب العباء ، سكن مصر. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر : 8393 - " مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان الهلالي ، المدني ، مولى ميمونة أم المؤمنين ، وأمه أخت مالك بن أنس ، روى عن خاله مالك بن أنس ، وابن أبي ذئب ، وعبد الله بن عمر العمري ، وغيرهم. روى عنه البخاري والترمذي ، عن محمد بن أبي الحسن عنه وابن ماجه ، عن الذهلي عنه ، والربيع المرادي ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة وآخرون. قال أبو حاتم : " مضطرب الحديث صدوق " . وقال ابن سعد " كان ثقة ، وبه صمم " . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 397 ، والجرح 4 / 1 / 315. وكان في المطبوعة : " المرى " ، وفي المخطوطة مثلها ، وتقرأ " المزني " والصواب " المدني " أو " المديني " في نسبه كما جاء في المراجع ، وابن كثير 2 : 337.
وفي ابن كثير 2 : 337 : " مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة " ، وفي الدر المنثور 2 : 114 " مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة " ، وفي المطبوعة والمخطوطة : " مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة " ، بحذف " من " والصواب إثباتها.
ومن الأخطاء الشائعة أن يقال إن " مهما " لا تدخل على الماضي ، وقد وردت في الآثار والأخبار والأشعار ، من ذلك قول أبي هريرة للفرزدق : " مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله " (الكامل 1 : 70) وقول الأسود بن يعفر (نوادر أبي زيد : 159) : أَلا هَلْ لِهَذَا الدَّهْرِ مِنْ مُتَعَلَّلِ ... سِوَى النَّاسِ ، مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ
وهذا الأثر رواه الحاكم مطولا في المستدرك 2 : 300 بإسناده قال :
" أخبرنا أبو العباس السباريّ ، حدثنا عبد الله بن علي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه بلغه أن أبا عبيدة حُصِر بالشأم ، وقد تألّبَ عليه القوم ، فكتب إليه عمر : " سلام الله عليك ، أمّا بعد ، فإنه ما ينزلْ بعبد مؤمن من منزلة شدة ، إلا يجعل الله له بعدها فرجًا ، ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرين ، (يَأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فكتب إليه أبو عبيدة : " سلامٌ عليك ، أما بعد ، فإن الله يقول في كتابه : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأوْلادِ) - إلى آخرها " .
قال : فخرج عمر بكتابه ، فقعد على المنبر ، فقرأ على أهل المدينة ثم قال : يا أهْل المدينة ، إِنما يعرّضُ بكم أبو عبيدة : أَنِ ارغبوا في الجهادِ " .
قال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.

(7/503)


وقال آخرون : معنى : " ورابطوا " ، أي : رابطوا على الصلوات ، أي : انتظروها واحدة بعد واحدة.
ذكر من قال ذلك :
8394 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال ، حدثني داود بن صالح قال ، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ؟ قال قلت : لا! قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يُرَابَطُ فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. (1)
__________
(1) الأثر : 8394 - " مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير " ، مضت ترجمته برقم : 6456. و " داود بن صالح التمار المدني " ، . روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، والقاسم ، وسالم ، وأبي سلمة. قال أحمد : " لا أعلم به بأسًا " ، وذكره ابن حبان في الثقات ، مترجم في التهذيب. و " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " من التابعين ، روى عن خلق من الصحابة والتابعين. كان ثقة فقيها كثير الحديث.
والأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 332 ، وذكر سياق ابن مردويه له (2 : 331) من طريق " محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة ، عن محمد بن يزيد ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل على أبو هريرة يومًا فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية " ، وساق الخبر بغير هذا اللفظ.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 301 من طريق سعيد بن منصور ، عن ابن المبارك ، بمثل رواية الطبري ، إلا أنه قال في جواب السؤال : " قال : قلت : لا. قال : يا ابن أخي إني سمعت أبا هريرة يقول : لم يكن في زمان النبي... " بلفظه.
وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 113 ، ونسبه لابن المبارك وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي جميع هذه المواضع : " انتظار الصلاة بعد الصلاة " ، والثابت في المخطوطة " خلف الصلاة " ، وكان الكاتب قد كتب فيها " بعد " ثم جعل الباء والعين خاء ، ومد الدال وعقد عليها فاء ، فالظاهر أنه كتبها كما كان يحفظها ، ثم استدرك ، لأنه رأى في النسخة التي كتب عنها " خلف " .

(7/504)


8395 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط " . (1)
8396 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا محمد بن مهاجر قال ، حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ،
__________
(1) الحديث : 8395 - أبو السائب : هو سلم بن جنادة. وابن فضيل : هو محمد بن فضيل بن غزوان.
عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري : ضعيف جدا ، رمي بالكذب. وقد مضى في : 7855.
شرحبيل : لست أدري من هو ؟ والإسناد ضعيف من أجل عبد الله بن سعيد ، كما ترى.
ولو صح هذا الإسناد لظننت أنه " شرحبيل بن السمط الكندى " ، من كبار التابعين ، مختلف في صحبته. وهو معاصر لعلي. ومن المحتمل أن يروي عنه أبو سعيد المقبري ، الذي يروي عن علي مباشرة.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 332 ، عن هذا الموضع. ولم ينسبه لغير الطبري. وأشار إليه السيوطي 2 : 114 ، بعد حديث جابر ، الآتي بعد هذا ، فقال : " وأخرج ابن جرير عن علي مثله " .
ومعنى الحديث ثابت عن علي ، من وجه آخر صحيح. ولكن ليس فيه قوله : " فذلك الرباط " - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2 : 36 ، وقال : " رواه أبو يعلى ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح " .
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1 : 97 ، وقال : " رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم " .

(7/505)


عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفِّر به الذنوب ؟ " قال : قلنا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطَا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط. (1)
8397 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يحطُّ الله به الخطايا ويَرفع به
__________
(1) الحديث : 8396 - محمد بن مهاجر بن أبي مسلم ، الأنصاري الشامي : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 229 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 91.
يحيى بن يزيد الجزري ، أبو شيبة الرهاوي : قال البخاري في الكبير 4 / 2 / 310 : " لم يصح حديثه " وذكره في الضعفاء أيضا ، ص : 37 ، وقال مثل ذلك. وقال ابن أبي حاتم 4 / 2 / 198 ، عن أبيه : " ليس به بأس ، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء ، يحول من هناك " .
فمثل هذا حديثه حسن. ثم هو لم ينفرد براوية هذا الحديث ، كما سنذكر في التخريج ، إن شاء الله.
زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. قال ابن سعد 7 / 2 / 180 : " كان ثقة كثير الحديث ، فقيها راوية للعلم " . أخرج له الجماعة كلهم.
شرحبيل - هنا - : هو ابن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار. مختلف فيه ، والحق أنه ثقة. إلا أنه اختلط في آخر عمره ، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند : 2104 ، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 252 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن سعد 5 : 228 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 338 - 339.
وقد بين ابن حبان في صحيحه ، في رواية هذا الحديث ، أنه شرحبيل بن سعد.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه (2 : 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق أبي عبد الرحيم ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل بن سعد ، عن جابر ، به.
وأبو عبد الرحيم : هو خالد بن أبي يزيد الحراني ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. فروايته متابعة صحيحة ، توثق رواية يحيى بن يزيد ، التي هنا ، وتؤيدها.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 332 ، عن رواية الطبري هذه.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1 : 160 - 161 ، عن رواية ابن حبان في صحيحه ، وأشار إليه أيضا قبل ذلك ، ص : 128.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2 : 37 ، ونسبه للبزار ، وذكر أن " في إسناده شرحبيل بن سعد ، وهو ضعيف عند الجمهور ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج له في صحيحه هذا الحديث " .
وذكره السيوطي 2 : 114 ، ونسبه لابن جرير ، وابن حبان.

(7/506)


الدرجات ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّباط ، فذلكم الرباط " . (1)
8398 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 8397 - خالد بن مخلد : هو القطواني. ومحمد بن جعفر : هو ابن أبي كثير. وقد مضى مثل هذا الإسناد في حديث آخر : 2206.
والحديث رواه أحمد في المسند : 7208 ، من طريق شعبة ، عن العلاء ، عن أبيه ، دون كلمة " فذلك " الرباط " .
ورواه أحمد أيضا : 7751 ، مع هذه الكلمة - من طريق مالك عن العلاء.
ثم رواه ثالثًا : 8008 ، (ج2 ص303 حلبي) ، من طريق مالك أيضًا. وفي آخره : " فذلكم الرباط " - ثلاث مرات.
وهو بهذا اللفظ ، في الموطأ ، ص : 161.
وكذلك رواه النسائي 1 : 34 ، من طريق مالك.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه (2 : 329 - 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق مالك.
ونقله ابن كثير 2 : 331 ، من رواية ابن أبي حاتم ، من حديث مالك ، كرواية الموطأ.
ورواه مسلم 1 : 86 ، من طريق مالك ، ومن طريق شعبة. وذكر أن رواية مالك - عنده - " فذلكم الرباط " مرتين.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1 : 97 ، 128 ، ونسبه لمالك ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي.
وذكره السيوطي 2 : 114 ، وزاد نسبته للشافعي ، وعبد الرزاق.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(2) الحديث : 8398 - القاسم : هو ابن الحسن ، والحسين : هو ابن داود المصيصي ، ولقبه " سنيد " .
وهذا الإسناد " القاسم ، عن الحسين " يدور عند الطبري كثيرًا ، في التفسير والتاريخ ، فما مضى منه في التفسير : 144 ، 165 ، 1688. وفي التاريخ - مثلا - 1 : 21 ، 41.
أما " سنيد " فقد ترجمنا له في : 144 ، 1688.
وأما " القاسم بن الحسن " - شيخ الطبري : فلم أجد له ترجمة. ولكن في تاريخ بغداد 12 : 432 - 433 ترجمة " القاسم بن الحسن بن يزيد ، أبو محمد الهمذاني الصائغ " ، المتوفى سنة 272. فهذا يصلح أن يكون هو المراد ، ولكن لا أطمئن إلى ذلك ، ولا أستطيع الجزم به ، بل لا أستطيع ترجيحه.
وعسى أن نجد ما يدل على حقيقة هذا الشيخ ، في فرصة أخرى ، إن شاء الله.
إسماعيل : هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري القارئ ، وهو ثقة مأمون. مضت الإشارة إليه في شرح : 6884.
وهذا الحديث تكرار لما قبله.
وكذلك رواه مسلم 1 : 86 ، والترمذي. (رقم : 51 بشرحنا) كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر. ورواه الترمذي أيضا : 52 ، من طريق الدراوردي ، عن العلاء. وقال : " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح " .

(7/507)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بتأويل الآية ، قول من قال في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، " اصبروا " على دينكم وطاعة ربكم. وذلك أنّ الله لم يخصص من معاني " الصبر " على الدين والطاعة شيئًا ، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عني بقوله : " اصبروا " ، الأمرَ بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها. (1)
" وصابروا " ، يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في " المفاعلة " أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدًا ، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم. (2)
* * *
وكذلك قوله : " ورابطوا " ، معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك ، في سبيل الله.
* * *
قال أبو جعفر : ورأى أن أصل " الرباط " ، ارتباط الخيل للعدوّ ، كما
__________
(1) انظر تفسير " الصبر " فيما سلف 2 : 11 ، 124 / 3 : 214 ، 349 / 5 : 352 / 6 : 264 / 7 : 181.
(2) في المطبوعة : " وإلا يكن عددهم " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(7/508)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

ارتبط عدوهم لهم خيلهم ، (1) ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر ، كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رَجْلة لا مركب له. (2)
* * *
وإنما قلنا معنى : " ورابطوا " ، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني " الرباط " . وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه ، دون الخفي ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : " واتقوا الله " ، أيها المؤمنون ، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه (4) " لعلكم تفلحون " ، يقول : لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد ، وتنجحوا في طلباتكم عنده ، (5) كما : -
__________
(1) في المخطوطة : " كما ارتبط عددهم لهم حملهم " ، ولعل صواب قراءتها " جيادهم " ، ولكني تركت ما في المطبوعة على حاله ، فهو صواب حسن.
(2) " الرجلة " (بضم الراء وسكون الجيم) : المشي راجلا غير راكب.
(3) قوله : " حجة " ، فاعل قوله : " حتى تأتي بخلاف ذلك.. " . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه... " ، والصواب " مما يوجب " كما أثبتها ، وفي المطبوعة أيضا : " إلى الخفي من معاينة " ، وهو خطأ ظاهر.
(4) في المطبوعة : " وتتقدموا " بالواو ، والصواب من المخطوطة. وقوله : " تتقدموا نهيه " هكذا جاء متعديا ، وكأنه أراد : أو تسبقوا نهيه ، وسبقهم نهيه. أن يخاطروا بالإسراع إلى المحارم بشهواتهم ، قبل أن يردهم نهي الله عن إتيانها.
(5) انظر تفسير " لعل " فيما سلف 1 : 364 ، 365 ، ومواضع أخرى كثيرة. وانظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 1 : 249 ، 250 / 3 : 561 / 7 : 91.

(7/509)


8399 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في قوله : " واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني.
* * *
آخر تفسير سورة آل عمران. (1)
* * *
__________
(1) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه :
" يتلوه القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا "
ثم يتلوه ما أثبتناه في أول تفسير سورة النساء.

(7/510)


تفسير سورة النساء

(7/511)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

{ القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء }
بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يسِّرْ
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ، احذروا ، أيها الناس ، ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم وفيما نهاكم ، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به.
ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحِّد بخلق جميع الأنام من شخص واحد ، مُعَرِّفًا عباده كيف كان مُبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ، (1) ومنبِّهَهم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة وأن بعضهم من بعض ، وأن حق بعضهم على بعض واجبٌ وجوبَ حق الأخ على أخيه ، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض ، وإن بَعُدَ التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم ، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة وعرف عباده... " ، واستظهرت من نهج أبي جعفر في بيانه ، ومن قوله بعد : " ومنبههم " ثم قوله : " وعاطفًا " ، على أن الصواب " ومعرفًا " ، وهو مقتضى سياق الكلام بعد ذلك كله.

(7/512)


الأدنى (1) وعاطفًا بذلك بعضهم على بعض ، ليتناصفوا ولا يتظالموا ، وليبذُل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له ، فقال : " الذي خلقكم من نفس واحدة " ، يعني : من آدم ، كما : -
8400 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أمّا " خلقكم من نفس واحدة " ، فمن آدم عليه السلام. (2)
8401 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ، يعني آدم صلى الله عليه. (3)
8402 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : " خلقكم من نفس واحدة " ، قال : آدم.
* * *
ونظير قوله : " من نفس واحدة " ، والمعنيُّ به رجل ، قول الشاعر.
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلدَتْهُ أُخْرَى... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ، ذَاكَ الكَمَالُ (4)
فقال ، " ولدته أخرى " ، وهو يريد " الرجل " ، فأنّث للفظ " الخليفة " . وقال تعالى ذكره : " من نفس واحدة " لتأنيث " النفس " ، والمعنى : من رجل واحد. ولو قيل : " من نفس واحد " ، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى ، كان صوابًا. (5)
* * *
__________
(1) قوله : " وعاطفًا " ، عطف على قوله : " معرفًا عباده... ومنبههم... " .
(2) في المطبوعة : " صلى الله عليه وسلم " ، وأثبت ما فيه المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " صلى الله عليه وسلم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) سلف البيت وتخريجه في 6 : 362.
(5) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 252.

(7/514)


القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وخلق منها زوجها " ، وخلق من النفس الواحدة زوجها يعني بـ " الزوج " ، الثاني لها. (1) وهو فيما قال أهل التأويل ، امرأتها حواء.
* ذكر من قال ذلك :
8403 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وخلق منها زوجها " ، قال : حواء ، من قُصَيري آدم وهو نائم ، (2) فاستيقظ فقال : " أثا " بالنبطية ، امرأة.
8404 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8405 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وخلق منها زوجها " ، يعني حواء ، خلقت من آدم ، من ضِلَع من أضلاعه.
8406 - حدثني موسى بن هارون قال ، أخبرنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أسكن آدمَ الجنة ، فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها. (3) فنام نومةً ، فاستيقظ ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة ، خلقها
__________
(1) انظر تفسير " الزوج " فيما سلف 1 : 514 / 2 : 446 ، وأراد بقوله في تفسير " الزوج " " الثاني لها " ، أن " الزوج " هو " الفرد الذي له قرين " ، فكل واحد من القرينين ، يقال له : " زوج " ، ثم قيل لامرأة الرجل ، وللرجل صاحب المرأة : " زوج " .
(2) القصرى (بضم القاف وسكون الصاد وفتح الراء) والقصيري (بضم القاف وفتح الصاد ، على التصغير) : أسفل الأضلاع ، أو هي الضلع التي تلي الشاكلة ، بين الجنب والبطن.
(3) قوله : " وحشا " ، أي وحده ليس معه غيره.

(7/515)


الله من ضلعه ، فسألها ما أنت ؟ قالت : امرأة. قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إليّ. (1)
8407 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السَّنة - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبدالله بن العباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه ، من شِقٍّه الأيسر ، ولأم مكانه ، (2) وآدم نائمٌ لم يهبَّ من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضِلَعه تلك زوجته حواء ، فسوَّاها امرأة ليسكن إليها ، فلما كُشِفت عنه السِّنة وهبَّ من نومته ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون ، والله أعلم - : لحمي ودمي وزوجتي! فسكن إليها. (3)
8408 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وخلق منها زوجها " . جعل من آدم حواء.
* * *
وأما قوله : " وبثَّ منهما رجالا كثيرًا ونساء " ، فإنه يعني : ونشر منهما ، يعني من آدم وحواء " رجالا كثيرًا ونساء " ، قد رآهم ، كما قال جل ثناؤه : ( كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ) [سورة القارعة : 4]. (4)
* * *
يقال منه : " بثَّ الله الخلق ، وأبثهم " . (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الأثر : 4806 - مضى هذا الأثر مطولا برقم : 710 ، وكان في المطبوعة هنا : " لتسكن إلي " باللام في أولها ، وأثبت نص المخطوطة ، وما سلف في الأثر : 710.
(2) لأم الشيء لأمًا ، ولاءمه ، فالتأم : أصلحه حتى اجتمع وذهب ما كان فيه من الصدع. وفي روايته في الأثر رقم : 711 : " ولأم مكانه لحما " .
(3) الأثر : 8407 - مضى هذا الأثر برقم : 711 ، وتخريجه هناك.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 252.
(5) انظر تفسير " بث " فيما سلف 3 : 275.

(7/516)


* ذكر من قال ذلك :
8409 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبث منهما رجالا كثيرًا ونساء " ، وبثَّ ، خلق.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : " تَسَّاءَلونَ " بالتشديد ، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى " التاءين " في " السين " ، فجعلهما " سينًا " مشددة.
* * *
وقرأه بعض قرأة الكوفة : " تَسَاءَلُونَ " ، بالتخفيف ، على مثال " تفاعلون " ،
* * *
وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان أعني التخفيف والتشديد في قوله : " تساءلون به " وبأيِّ ذلك قرأ القارئ أصابَ الصواب فيه. لأن معنى ذلك ، بأيّ وجهيه قرئ ، غير مختلف.
* * *
وأما تأويله : واتقوا الله ، أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضًا سأل به ، فقال السائل للمسئول : " أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، وأعزِم عليك بالله " ، وما أشبه ذلك. يقول تعالى ذكره : فكما تعظّمون ، أيها الناس ، رّبكم بألسنتكم حتى تروا أنّ من أعطاكم عهده فأخفركموه ، (1) فقد أتى عظيمًا. فكذلك فعظّموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ،
__________
(1) أخفر الذمة والعهد : نقضه وغدره وخاس به ، ولم يف بعهده.

(7/517)


واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه ، كما : -
8410 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، قال يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به.
8411 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون.
8412 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس مثله.
8413 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " تساءلون به " ، قال : تعاطفون به.
* * *
وأما قوله : " والأرحام " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم قال السائل للمسئول : " أسألك به وبالرّحِم "
ذكر من قال ذلك :
8414 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : " اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام. يقول : الرجل يسأل بالله وبالرَّحم.
8415 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : هو كقول الرجل : " أسألك بالله ، أسألك بالرحم " ، يعني قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " .

(7/518)


8416 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : " أسألك بالله وبالرحم " .
8417 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هو كقول الرجل : " أسألك بالرحم " .
8418 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : " أسألك بالله وبالرحم " .
8419 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن منصور - أو مغيرة - عن إبراهيم في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : هو قول الرجل : " أسألك بالله والرحم " .
8420 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الحسن قال : هو قول الرجل : " أنشدك بالله والرحم " .
* * *
قال محمد : (1) وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : " وَالأرْحَامِ " بالخفض عطفًا بـ " الأرحام " ، على " الهاء " التي في قوله : " به " ، كأنه أراد : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض. وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب ، لأنها لا تَنسُق بظاهر على مكني في الخفض ، (2)
__________
(1) قوله : " قال محمد " ، يعني محمد بن جرير الطبري ، أبا جعفر صاحب التفسير. وهذه أول مرة يكتب فيها الطبري ، أو أحد تلامذته ، أو بعض ناسخي تفسيره " قال محمد " ، دون كنيته قال " أبو جعفر " . وانظر ما سيأتي ص : 569 ، تعليق : 2.
(2) قوله : " تنسق " ، أي تعطف. و " النسق " العطف ، انظر فهارس المصطلحات في هذه الأجزاء من التفسير ، و " المكني " الضمير ، انظر فهارس المصطلحات.

(7/519)


إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر. (1) وأما الكلام ، فلا شيء يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق ، والرديء في الإعراب منه. ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض ، قول الشاعر : (2)
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا... وَمَا بَيْنَهَا والكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ (3)
فعطف بـ " الكعب " وهو ظاهر ، على " الهاء والألف " في قوله : " بينها " وهي مكنية.
* * *
وقال آخرون : تأويل ذلك : " واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 252 ، 253 ، وقد ذكر هذه القراءة بإسنادها إلى إبراهيم بن يزيد النخعي ، وهي قراءة حمزة وغيره.
(2) هو مسكين الدارمي.
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 253 ، الحيوان 6 : 493 ، 494 ، الإنصاف : 193 ، الخزانة ، 2 : 338 ، العيني (بهامش الخزانة) 4 : 164 ، وهو من أبيات ذكرها الجاحظ ، وأتمها العيني ، يمجد نفسه وقومه ، قال : لَقَدْ عَلِمَتْ قَيْسٌ وَخِنْدِفُ أنَّني ... بِثَغْرِهِمُ مِنْ عَارِمِ النَّاسِ وَاقِفُ
وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَنْ يُبقَّى عَدُوُّهُمْ ... إِذَا قَذَفَتْه في يَدَيّ القَوَاذِفُ
وأنَّ أبَانَا بِكرُ آدَمَ ، فَاعْلَمُوا ، ... وَحَوَّاءَ ، قَرْمٌ ذُو عَثَانينَ شَارِفُ
كَأَنَّ عَلَى خُرْطُومِهِ مُتَهافِتًا ... مِنَ القُطْنِ هَاجَتْهُ الأكُفُ النَّوَادِفُ
وَللَصَّدَأُ المُسْوَدُّ أَطْيبُ عِنْدَنَا ... مِنَ المِسْكِ ، دَافَتْهُ الأَكُفُّ الدَّوَائِفُ
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... وما بَيْنَها والكَعْبِ غُوطٌ نفانِفُ
وَتَضْحَكُ عِرْفَانَ الدرُوع جُلُودُنَا ... إِذَا جَاء يَوْمٌ مُظْلِمُ اللَّوْن كاسِفُ
في أبيات أخر ، ورواية الحيوان : " والكعب منا تنائف " ، وفي الطبري ومعاني القرآن والخزانة " نعلق " بالنون ، وكلتاهما صواب. و " السواري " جمع سارية ، وهي الأسطوانة. و " الغوط " جمع غائط ، وهو المطمئن من الأرض. و " النفانف " جمع نفنف : وهو الهواء بين شيئين ، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوي بعيد فهو نفنف.

(7/520)


* ذكر من قال ذلك :
8421 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها.
8422 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد عن قتادة : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اتقوا الله ، وصلُوا الأرحام ، فإنه أبقى لكم في الدنيا ، وخير لكم في الآخرة.
8423 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصِلُوها.
8424 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام.
8425 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
8426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : هو قول الرجل : " أنشدك بالله والرَّحم " .
8427 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله ، وصلوا الأرحام.

(7/521)


8428 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
8429 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : اتقوا الله في الأرحام فصلوها.
8430 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : واتقوا الله في الأرحام فصلوها.
8431 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد ، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز ، عن جويبر ، عن الضحاك : أن ابن عباس كان يقرأ : " والأرحام " ، يقول : اتقوا الله لا تقطعوها.
8432 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : اتقوا الأرحام.
8433 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال ، " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، أن تقطعوها.
8434 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرأ : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) [سورة الرعد : 21].
* * *
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبًا بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها عطفًا بـ " الأرحام " ، في إعرابها بالنصب

(7/522)


على اسم الله تعالى ذكره.
قال : والقراءة التي لا نستجيز لقارئٍ أن يقرأ غيرها في ذلك ، (1) النصب : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ ) ، بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهرٍ من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إنّ الله لم يزل عليكم رقيبًا.
* * *
ويعني بقوله : " عليكم " ، على الناس الذين قال لهم جل ثناؤه : " يا أيها الناس اتقوا ربكم " ، والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر ، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول : إذا خاطبتْ رجلا واحدًا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غُيَّبٌ معهم فعلا " فعلتم كذا ، وصنعتم كذا " .
ويعني بقوله : " رقيبًا " ، حفيظًا ، مُحصيًا عليكم أعمالكم ، متفقدًا رعايتكم حرمةَ أرحامكم وصلتكم إياها ، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها ، كما : -
8435 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الله كان عليكم رقيبًا " ، حفيظًا.
8435م - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد في قوله : " إن الله كان عليكم رقيبًا " ، على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها.
ومنه قول أبي دُؤاد الإيادِيّ :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لا نستجيز القارئ أن يقرأ " بتعريف " القارئ " ، وهو خطأ صوابه ما أثبت.
(2) انظر ما سلف قريبا ص : 519 ، 520.

(7/523)


وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِ أَيْدِيهمْ نَوَاهِدْ (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياءَ اليتامى. يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى : [اليتامى] أموالهم إذا هم بلغوا الحلم ، (2) وأونس منهم الرشد (3)
__________
(1) تهذيب الألفاظ : 475 ، المعاني الكبير : 1148 ، مجاز القرآن 1 : 113 ، الميسر والقداح : 133 ، وغيرها ، وهو من أبيات جياد في نعت الثور الأبيض ، لم أجدها مجتمعة ، منها : وَقَوَائِمٌ خُذُفٌ ، لَهَا مِنْ ... خَلْفِهَا زَمَعٌ زَوَائِدْ
كَمقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَ ... بَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ
لَهَقٌ كَنَارِ الرَّأْسِ بِالـ ... عَلْيَاءِ تُذْكِيهَا الأَعَابِدْ
وَيُصِيخُ أَحْيَانًا كَمَا اسْـ ... ـتَمَعَ المُضِلُّ لِصَوْتِ نَاشِدْ
يصف قوائم هذا الثور ، " خذف " جمع خذوف ، وهي السريعة السير والعدو ، تخذف الحصى بقوائمها. أي تقذفه. و " الزمع " جمع زمعة ، وهي هنة زائدة ناتئة فوق ظلف الشاة والثور ، مدلاة فيها شعر. ثم وصف هذه الزمع الناتئة خلف أظلاف الثور ، وشبه إشرافها على الأظلاف بالرقباء المشرفين على الضرباء ، وقد مدوا أيديهم. وهذا وصف في غاية البراعة والحسن. و " الرقباء " جمع رقيب ، وهو أمين أصحاب الميسر ، يحفظ ضربهم بالقداح ويرقبهم. و " الضرباء " جمع ضريب ، وهو الضارب بالقداح. وزعم ابن قتيبة أن قوله : " أيديهم " أي : أيدي الضرباء ، وأخطأ ، إنما عنى أيدي الرقباء لا الضرباء. وقوله : " لهق " هو البياض ، يعني بياض الثور ، فشبه بياضه بياض النار على رأس رابية مشرقة ، تذكي لهيبها العبيد. ثم وصف الثور عند الارتياع ، فقال إنه يصيخ - أي ينصت مميلا رأسه ناحية من الفزع - و " المضل " الذي أضاع شيئًا فهو يترقب أن يجده. " والناشد " ، هو الذي ينشد ضالة ، أي يعرفها ويصفها. فهو يصغي لصوت المنشد المعرف إصغاء من يرجو أن تكون هي ضالته. وهذا من جيد الشعر وبارعه.
(2) في المخطوطة والمطبوعة ، أسقط ما وضعته بين القوسين ، ولكن السياق يقتضي إثباتها ، وكأن الناسخ غره التكرار ، فأسقط إحداهما ، فأساء.
(3) انظر تفسير " آتى " في فهارس اللغة ، وتفسير " اليتامى " فيما سلف 2 : 292 / 3 : 345 / 4 : 295.

(7/524)


" ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم ، كما : -
8436 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : الحلال بالحرام.
8437 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8438 - حدثني سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : الحرام مكان الحلال.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث كان بالطيب ، الذي نهوا عنه ، ومعناه. (1)
فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيِّد من ماله والرفيعَ منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه.
* ذكر من قال ذلك :
8439 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعط زيفًا وتأخذ جيِّدًا.
8440 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ومعمر عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولا ويأخذ سمينًا.
8441 - وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك قال : لا تعط فاسدًا ، وتأخذ جيدًا.
__________
(1) في المطبوعة : " في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب " ، أسقط الناشر " كان " لأن عربيته أنكرت عربية أبي جعفر!! وهي الصواب المحض ، فأثبتها.

(7/525)


8442 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : " شاة بشاة " ! ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : " درهم بدرهم " !!
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قُدِّر لك من الحلال.
* ذكر من قال ذلك :
8443 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعجِّل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدِّر لك.
8444 - وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك ، كالذي : -
8445 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساءَ ولا يورِّثون الصغار ، يأخذه الأكبر وقرأ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) قال : إذا لم يكن لهم شيء : ( وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ) [سورة النساء : 127] ، لا يورثونهم. (1) قال : فنصيبه من الميراث طيِّب ، وهذا الذي أخذه خبيث.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدلوا أموال أيتامكم - أيها الأوصياء - الحرامَ عليكم الخبيثَ لكم ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " لا يورثوهم " ، والصواب ما أثبت.

(7/526)


فتأخذوا رفائعها وخيارَها وجيادَها. بالطيب الحلال لكم من أموالكم [أي لا تأخذوا] الرديء الخسيس بدلا منه. (1)
وذلك أنّ " تبدل الشيء بالشيء " في كلام العرب : أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه أو يجعله مكان الذي أخذ. (2)
* * *
فإذْ كان ذلك معنى " التبدل " و " الاستبدال " ، (3) فمعلوم أنّ الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبرِ ولد الميت جميع مال ميِّته ووالده ، دون صغارهم ، إلى ماله - قولٌ لا معنى له. لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئًا. فما " التبدل " الذي قال جل ثناؤه : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، ولم يتبدَّل الآخذ مكان المأخوذ بدلا ؟
* * *
وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك : لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال فإنهما أيضًا ، إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : " إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها " ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد. لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال ، فلم يبدِّل شيئًا مكان شيء. وإن كانا قد أرادا بذلك ، (4) أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلُهم ذلك
__________
(1) هذا الذي زدته بين القوسين ، استظهار من تأويله الآتي. والجملة بغير هذه الزيادة لا تكاد تستقيم.
ثم انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف 5 : 559 / 7 : 424 وتفسير " الطيب " فيما سلف 3 : 301 / 5 : 555 / 6 : 361 / 7 : 424.
(2) انظر تفسير " تبدل " و " استبدل " فيما سلف 2 : 112 ، 130 ، 494.
(3) في المطبوعة : " التبديل " ، وأثبت الصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " وإن كانا أراد بذلك " بحذف " قد " وفي المخطوطة : " وإن كان قال أراد بذلك " وهو فساد من عجلة الناسخ ، ولكن صواب قراءتها ما أثبت.

(7/527)


سببًا لحرمان الطيِّب منه فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول. يحتمله التأويل. غير أن أشبه [القولين] في ذلك بتأويل الآية ، ما قلنا ؛ (1) لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جل ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلأن يكون ذلك من جنس حُكمِ أول الآية وآ خرها ، [أولى] من أن يكون من غير جنسه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلِطوا أموالهم - يعني : أموال اليتامى بأموالكم - فتأكلوها مع أموالكم ، (3) كما : -
8446 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ، يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعًا.
8447 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليُّ اليتيم يعزل مالَ اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) في المطبوعة : " غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الآية ما قلنا " ، وهو غير جيد ، وفي المخطوطة : " غير أن أشبه في ذلك بتأويل الآية ما قلنا " ، وبين أن الناسخ عاد فسها ، فأسقط " القولين " وهو ما أثبته ما بين القوسين.
(2) في المطبوعة : " فلا يكون ذلك من جنس حكم أول الآية ، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه " جعل " وآخرها " ، " فأخرجها " ، فأنزل الكلام منزلة من الفساد لا مخرج منها. وأما المخطوطة فكان سياقها : " فلا يكون ذلك من جنس حكم أول الآية وآخرها من أن يكون من غير جنسه " ، وهو سهو من الناسخ وعجلته أفسد الجملة ، صواب " فلا يكون " " فلأن يكون " ، والصواب أيضًا زيادة " أولى " التي وضعتها بين القوسين.
(3) انظر تفسير " أكل الأموال " فيما سلف 3 : 548 ، 549 وتفسير " إلى " بمعنى " مع " فيما سلف 1 : 299 / 6 : 443 ، 444.

(7/528)


فأنزل الله : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) [سورة البقرة : 220] قال : فخالطوهم واتقوا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره [بقوله] : (2) " إنه كان حوبًا كبيرًا " ، إن أكلكم أموال أيتامكم ، حوبٌ كبير.
* * *
و " الهاء " في قوله : " إنه " دالة على اسم الفعل ، أعني " الأكل " .
* * *
وأما " الحوب " ، فإنه الإثم ، يقال منه : " حاب الرجل يَحُوب حَوبًا وحُوبًا وحِيَابة " ، ويقال منه : " قد تحوَّب الرجل من كذا " ، إذا تأثم منه ، ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي : (3)
وَإنَّ مُهَاجِرَيْنِ تَكنَّفَاهُ... غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطَئَا وحَابَا (4)
ومنه قيل : " نزلنا بحَوبة من الأرض ، وبحِيبَةٍ من الأرض " ، إذا نزلوا بموضع سَوْءٍ منها.
* * *
و " الكبير " العظيم. (5)
* * *
__________
(1) الأثر : 8447 - هذا الأثر لم يروه أبو جعفر في تفسير آية سورة البقرة 4 : 349 - 355 ، وهو من الدلائل على اختصاره تفسيره هذا.
(2) الذي بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام بغيرها.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " بن الأسكن " ، وهو خطأ صرف.
(4) مضى البيت وتخريجه في 2 : 110 ، وسيأتي في 13 : 37 (بولاق) ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 13 ، ولم أثبتت هناك ، مواضع تكراره في التفسير ، فليقيد هناك ، وروايته هناك : " لعمر الله قد خطئا وخابا " بالخاء ، وأرجح أن أجود الروايتين ، روايته في هذا الموضع ، بالحاء المهملة ؛ وإن كانت أكثر الكتب قد أثبتها بالخاء المعجمة ، وأرجح أيضًا أنه تصحيف قديم ، ومعنى رواية أبي جعفر أشبه بسياق الشعر إن شاء الله.
(5) انظر تفسير " كبير " فيما سلف 2 : 15 / 3 : 166 / 4 : 300.

(7/529)


فمعنى ذلك : إنّ أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8448 - حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " حوبًا كبيرًا " قال : إثمًا.
8449 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8450 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إنه كان حوبًا كبيرًا " ، قال : إثمًا عظيما.
8451 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كان حوبًا " أما " حوبا " فإثمًا.
8452 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " حوبًا " ، قال : إثمًا.
8453 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إنه كان حوبًا كبيرًا " يقول : ظلمًا كبيرًا.
8454 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " إنه كان حوبًا كبيرًا " قال : ذنبا كبيرًا وهي لأهل الإسلام.
8455 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا قرة بن خالد قال ، سمعت الحسن يقول : " حوبًا كبيرًا " ، قال : إثمًا والله عظيمًا.
* * *

(7/530)


وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

القول في تأويل قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : وإن خفتم ، يا معشر أولياء اليتامى ، أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه ، وتبلغوا بصداقهنَّ صدقات أمثالهنّ ، فلا تنكحوهن ، ولكن انكحوا غيرَهن من الغرائب اللواتي أحلّهن الله لكم وطيبهن ، من واحدة إلى أربع ، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فلا تعدلوا ، فانكحوا منهن واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم.
* ذكر من قال ذلك :
8456 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : " وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء " ، فقالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حِجر ولِّيها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى من سُنة صداقها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهُنَّ من النساء. (1)
8457 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة
__________
(1) الحديث : 8456 - روى الطبري هذا الحديث - مطولا ومختصرًا - بسبعة أسانيد : 8456 - 8461 ، 8477. وهو ثابت صحيح ، في الصحيحين وغيرهما.
وهذا الإسناد : هو من رواية عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري. وسيأتي : 8460 ، من رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، دون ذكر لفظه ، إحالة على هذه الرواية.
وقد رواه البخاري في صحيحه اثنتي عشرة مرة ، سنشير إليها ، إن شاء الله.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 141 - 142 ، بأسانيد ، من أوجه متعددة.

(7/531)


زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء " ، قالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة ، تكون في حجر ولِّيها تُشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوَّجها بغير أن يُقسِط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سُنتَّهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال يونس بن يزيد قال ربيعة في قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال يقول : اتركوهنّ ، فقد أحللت لكم أربعًا. (1)
8458 - حدثنا الحسن بن الجنيد وأخبرنا سعيد بن مسلمة قالا. أنبأنا إسماعيل بن أمية ، عن ابن شهاب ، عن عروة قال : سألت عائشة أم المؤمنين فقلت : يا أم المؤمنين ، أرأيت قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ؟ قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداق نسائها ، فنهوا عن ذلك : أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيكمِّلوا لهن الصداق ، ثم أمروا أن ينكحوا سواهن من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق. (2)
__________
(1) الحديث : 8457 - وهذا من رواية ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري.
وسيأتي : 8459 ، من رواية الليث بن سعد ، عن يونس ، عن الزهري ، دون ذكر لفظه ، إحالة على هذه الرواية. ورواه البخاري 5 : 94 - 95 (فتح) ، من طريق الليث ، عن يونس ، عن الزهري.
وقد رواه مسلم 2 : 398 - 399 ، من طريق ابن وهب ، عن يونس - أطول مما هنا. لكن ليس فيه ما ذكر في آخره هنا ، من كلام ربيعة الذي رواه عنه يونس. وليس هذا من صلب الحديث.
ورواه البخاري 9 : 91 (فتح) ، من رواية حسان بن إبراهيم ، عن يونس ، عن الزهري - بنحو مما هنا ، مع اختصار قليل. وليس فيه كلمة ربيعة.
وقوله : " أعلى سنتهن في الصداق " - هذا هو الثابت في صحيح مسلم أيضًا. وفي المخطوطة " سبيلهن " بدل " سنتهن " . والظاهر أنه تصحيف من الناسخ.
(2) الحديث : 8458 - الحسن بن الجنيد بن أبي جعفر البزار البغدادي : ثقة. أخرج عنه ابن خزيمة في صحيحه. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 4 ، فلم يذكر فيه جرحًا والخطيب 7 : 292 ، كلاهما في ترجمة " الحسن " . وترجمه الحافظ المزي في التهذيب الكبير باسم " الحسين " . وتبعه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ، تبعًا لترتيب الكتاب ، ولكنه صرح بأنه " بفتح الحاء والسين " ، يعني " الحسن " ، وهو الصواب. سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان : ضعيف. قال البخاري في الكبير 2 / 1 / 473 : " فيه نظر " . وذكر أن عنده " مناكير " . وقال في الضعفاء ، ص15 : " منكر " . وقال ابن معين : " ليس بشيء " . وقال أبو حاتم : " هو ضعيف الحديث ، منكر الحديث " - ابن أبي حاتم 2 / 1 / 67.
ووقع في المطبوعة هنا : " الحسن بن جنيد وأبو سعيد بن مسلمة " ، وهو خطأ ، كتب " وأبو " بدل " وأنا " اختصار " وأخبرنا " .
إسماعيل بن أمية الأموي : مضت ترجمته في : 2615. وضعف هذا الإسناد ، من أجل سعيد بن مسلمة ، لا يمنع صحة الحديث في ذاته من أوجه أخر ، كما مضى ، وكما سيأتي.

(7/532)


8459 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب.
8460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري عن عروة ، عن عائشة ، مثل حديث ابن حميد ، عن ابن المبارك. (1)
8461 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : نزل تعني قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، الآية في اليتيمة تكون عند الرجل ، وهي ذات مال ، فلعله ينكحها لمالها ، وهي لا تعجبه ، ثم يضربها ، ويسيء صحبتها ، فوُعظ في ذلك. (2)
* * *
__________
(1) الحديثان : 8459 ، 8460 - هما تكرار للحديثين : 8457 ، 8456. وقد أشرنا إلى كل منهما في موضعه.
(2) الحديث : 8461 - القاسم : هو ابن الحسن. و " الحسين " : هو ابن داود الملقب " سنيد " . انظر ما مضى في الإسناد : 8398.
حجاج : هو ابن محمد المصيصي الأعور. مضت ترجمته في : 1691. وترجم له أخي السيد محمود ، في ج6 ص548 ، تعليق : 3.
والحديث - من هذا الوجه - رواه البخاري 8 : 179 (فتح). من طريق هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، به ، نحوه. ولكن سياقه يوهم أنها نزلت في شخص معين. فقال الحافظ : " والمعروف عن هشام بن عروة التعميم. وكذلك أخرجه الإسماعيلي ، من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج. ولفظه : أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة ، إلخ " .
أقول : ورواية حجاج ، هي هذه التي في الطبري أيضًا.
ورواه البخاري أيضًا 8 : 199 (فتح) ، من طريق أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، على الصواب.
وكذلك رواه مسلم ، بنحوه 2 : 399 ، من طريق أبي أسامة ، عن هشام.
ورواه البخاري أيضًا ، بنحوه 9 : 119 ، من طريق عبدة ، وهو ابن سليمان ، عن هشام ابن عروة.
وسيأتي : 8477 ، من رواية وكيع ، عن هشام. ونخرجه هناك ، إن شاء الله.
ونحن ذاكرون هنا باقي طرقه في الصحيحين - عدا رواية وكيع تتمة للفائدة :
فرواه البخاري 5 : 94 - 95 (فتح) ، ومسلم 2 : 399 كلاهما من طريق صالح ، عن الزهري ، عن عروة.
ورواه البخاري 5 : 292 (فتح) ، و 9 : 169 - 170 و 12 : 298 من طريق شعيب ، عن الزهري.
ورواه أيضًا 9 : 117 ، 169 - 170 من طريق عقيل ، عن الزهري.
ورواه أيضًا 9 : 162 ، من طريق أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، مختصرًا.
وابن كثير ذكر حديث عائشة 2 : 342 - 343 ، من روايتين من روايات البخاري. ولم يزد في تخريجه شيئا.
والسيوطي ذكره بثلاثة ألفاظ ، مطولا ومختصرًا 2 : 118. وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(7/533)


قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل ، جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا " ، قوله : " فانكحوا " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : النهي عن نكاح ما فوق الأربع ، حِذارًا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم. (1) وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدمًا ، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به. فنهوا عن ذلك ، وقيل لهم : إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها ، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مُؤن نسائكم ،
__________
(1) في المطبوعة : " حذرًا على أموال اليتامى " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/534)


فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربعٍ وإن خفتم أيضًا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم ، فاقتصروا على الواحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم.
ذكر من قال ذلك :
8462 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال ، سمعت عكرمة يقول في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كان الرجل من قريش يكون عنده النِّسوة ، ويكون عنده الأيتام ، فيذهب ماله ، فيميل على مال الأيتام ، قال : فنزلت هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " .
8463 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : كان الرجل يتزوج الأربع والخمس والستَّ والعشر ، فيقول الرجل : " ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان " ؟ فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به ، فنهوا أن يتزوجوا فوق الأربع.
8464 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قصر الرجال على أربعٍ من أجل أموال اليتامى.
8465 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، فإن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن القوم كانوا يتحوّبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها ، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدِلوا فيهن ، فقيل لهم : كما خفتم أن

(7/535)


لا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ، ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الزيادة على الواحدة ، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
* ذكر من قال ذلك :
8466 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال ، كان الناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو يُنهوا عنه ، قال : فذكروا اليتامى ، فنزلت : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء.
8467 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) إلى : " أيمانكم " ، كانوا يشددون في اليتامى ، ولا يشددون في النساء ، ينكح أحدُهم النسوة ، فلا يعدل بينهن ، فقال الله تبارك وتعالى : كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى ، فخافوا في النساء ، فانكحوا واحدة إلى الأربع. فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم.
8468 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " حتى بلغ " أدنى ألا تعولوا " ، يقول : كما خفتم الجور في اليتامى وهمَّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، (1) وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة
__________
(1) في المخطوطة : " جميع النساء " ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/536)


فما دون ذلك ، فأحل الله جل ثناؤه أربعًا ، ثم صيَّرهن إلى أربع قوله : (1) " مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، يقول ، إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاث ، وإلا فثنتين ، وإلا فواحدة. وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك.
8469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما أحل لكم من النساء " مثنى وثلاث ورباع " ، فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى : أن لا تقسطوا فيهنَّ.
8470 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : جاء الإسلام والناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء فيتّبعوه ، أو ينهوا عن شيء فيجتنبوه ، حتى سألوا عن اليتامى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " .
8471 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال ، بعث الله تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وكانوا يسألونه عن اليتامى فأنزل الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، قال : فكما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى ، فخافوا أن لا تقسطوا وتعدِلوا في النساء.
8472 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرًا من النساء الأيامى ، وكانوا
__________
(1) في المطبوعة : " ثم الذي صيرهن إلى أربع " ، زاد " الذي " ، وما في المخطوطة صواب جيد.

(7/537)


يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم ، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ، فقال : " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية. (1)
8473 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئا ، وهم ينكحون عشرًا من النساء ، وينكحون نساء آبائهم ، فتفقدوا من دينهم شأن النساء ، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء ، فقال في اليتامى : ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) إلى( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) ووعظهم في شأن النساء فقال : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " الآية ، وقال : ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) [سورة النساء : 22].
8474 - حدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " إلى " ما ملكت أيمانكم " ، يقول : فإن خفتم الجور في اليتامى وغمَّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، (2) قال :
__________
(1) الحديث : 8472 - عبد الله بن صالح ، كاتب الليث بن سعد : مضت ترجمته وتوثيقه في : 186.
معاوية بن صالح الحضرمي : سبق توثيقه في : 186. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 335 ، والصغير ، ص : 193 ، وابن سعد 7 / 2 / 207 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 382 - 383. وتاريخ قضاة قرطبة ، ص : 30 - 40 ، وقضاة الأندلس للنباهي ، ص : 43.
علي بن أبي طلحة : قد بينا في : 1833 أنه لم يسمع من ابن عباس. فيكون هذا الإسناد منقطعًا ، ضعيف الإسناد لانقطاعه.
والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 150 ، من طريق عثمان بن سعيد ، عن عبد الله بن صالح ، بهذا الإسناد.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 179 - 180 ؛ في شرح حديث عائشة ؛ قال : " تأويل عائشة هذا ؛ جاء عن ابن عباس مثله. أخرجه الطبري " .
وذكره السيوطي 2 : 118 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، فقط.
(2) في المخطوطة والمطبوعة هنا " في جميع النساء " ، والصواب ما أثبت ، وانظر التعليق السالف ص : 536 ، تعليق : 1.

(7/538)


وكان الرجل يتزوج العشر في الجاهلية فما دون ذلك ، وأحل الله أربعًا ، وصيَّرهم إلى أربع ، يقول : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فكما خفتم في اليتامى ، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تَزْنُوا بهن ، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء.
* ذكر من قال ذلك :
8475 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، يقول : إن تحرَّجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانًا وتصديقًا ، فكذلك فتحرّجوا من الزّنا ، وانكحوا النساء نكاحًا طيبًا " مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
8476 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم وُلاتهن ، فلا تنكحوهن ، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن.
* ذكر من قال ذلك :
8477 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل ، هو وليها ، ليس لها ولي غيره ، وليس أحد ينازعه فيها ، ولا ينكحها لمالها ، فيضربها ، ويسيء صحبَتها. (1)
__________
(1) الحديث : 8477 - هذا إسناد ضعيف ، لضعف سفيان بن وكيع ، وقد بينا ضعفه مرارًا ، أولها في : 142 ، 143.
ولكن الحديث في ذاته صحيح ، كما مضى في : 8456 - 8461 ، وفي الروايات التي خرجناها من الصحيحين.
ثم هو ثابت صحيح من رواية وكيع ، من غير رواية ابنه سفيان عنه.
فرواه البخاري 9 : 160 (فتح) ، بأطول مما هنا عن يحيى ، عن وكيع ، بهذا الإسناد.
ويحيى - شيخ البخاري في هذا الإسناد - قال الحافظ في الفتح : " هو ابن موسى ، أو ابن جعفر. كما بينته في المقدمة " . والذي في مقدمة الفتح ، ص : 236 ، أن ابن السكن نسبه " يحيى بن موسى " .

(7/539)


8478 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " أي : ما حَلّ لكم من يتاماكم من قراباتكم " مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع ، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن " .
وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال ، فقال تعالى ذكره : ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء ، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى ، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن ، (1) كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال : انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ، ما أبحت لكم منهن وحلّلته ، مثنى وثُلاث ورباع ، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة ، بأن لا تقدروا على إنصافها ، فلا تنكحوها ،
__________
(1) لعل الأجود أن يقول : " وأعلمهم كيف المخلص لهم " ، كالتي تليها.

(7/540)


ولكن تسرَّوا من المماليك ، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن ، لأنهن أملاككم وأموالكم ، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.
ففي الكلام - إذ كان المعنى ما قلنا - متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام : وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم ، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع ، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله : " فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء " ، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
* * *
فإن قال قائل : فأين جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ؟
قيل : قوله " فانكحوا ما طاب لكم " ، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " .
* * *
وقد بينا فيما مضى قبلُ أن معنى " الإقساط " في كلام العرب : العدل والإنصاف وأن " القسط " : الجور والحيف ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما " اليتامى " ، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 77 ، 270.
(2) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف قريبًا ص : 524 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.

(7/541)


وأما قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فإنه يعني : فانكحوا ما حلَّ لكم منهن ، دون ما حُرِّم عليكم منهنّ ، كما : -
8479 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ما حلّ لكم.
8480 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما حلَّ لكم.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ولم يقل : " فانكحوا مَنْ طاب لكم " ؟ وإنما يقال : " ما " في غير الناس.
قيل : معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما معناه : فانكحوا نكاحًا طيبًا ، كما : -
8481 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فانكحوا النساء نكاحًا طيبًا.
8481م - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
فالمعنيّ بقوله : " ما طاب لكم " ، الفعل ، دون أعيان النساء وأشخاصهنَّ ، فلذلك قيل " ما " ولم يقل " من " ، كما يقال : " خذ من رقيقي ما أردت " ، إذا عنيت : خذ منهم إرادتك. ولو أردت : خذ الذي تريد منهم ، لقلت : " خذ من رقيقي من أردت منهم " . (1) وكذلك قوله : " أو ما ملكت أيمانكم " ، بمعنى : أو ملك أيمانكم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 253 ، 254.

(7/542)


وإنما معنى قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع ، كما قيل : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) [سورة النور : 4].
* * *
وأما قوله : " مثنى وثلاث ورباع " ، فإنما تُرك إجراؤهن ، لأنهن معدولات عن " اثنين " و " ثلاث " و " أربع " ، كما عدل " عمر " عن " عامر " ، و " زُفرَ " عن " زافِر " فترك إجراؤه ، وكذلك ، " أحاد " و " ثناء " و " مَوْحد " و " مثنى " و " مَثْلث " و " مَرْبع " ، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه. ومما يدلّ على أن ذلك كذلك ، وأن الذكر والأنثى فيه سواء ، ما قيل في هذه السورة و " سورة فاطر " ، [1] : " مثنى وثلاث ورباع " يراد به " الجناح " ، و " الجناح " ذكر وأنه أيضًا لا يضاف إلى ما يضاف إليه " الثلاثة " و " الثلاث " وأن " الألف واللام " لا تدخله فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة ، ولو كان نكرة لدخله " الألف واللام " ، وأضيف كما يضاف " الثلاثة " و " الأربعة " . (1) ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبيّ بن مقبل :
تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ... أُحَادَ وَمَثْنَى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ (2)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 254 ، 255.
(2) من قصيدة له طويلة نقلتها قديمًا ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 255 ، 345 والحيوان 7 : 233. واللسان (نعر) (فرد) (صعق) (ثنى) ، وغيرها ، وسيأتي في التفسير 7 : 184 (بولاق). يصف فرسه ، وبعد البيت. فَرِيسًا ومَغْشِيًّا عَلَيْه ، كأَنَّه ... خُيُوطَةُ مَارِيٍّ لَوَاهُنَّ فَاتِلُهْ
ويروى البيت : " النعرات الخضر " ، و " أحاد ومثنى " و " فراد ومثنى " . والنعرات جمع نعرة (بضم النون وفتح العين والراء) : وهو ذباب ضخم ، أزرق العين ، أخضر ، له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر فيؤذيها ، وربما دخل أنف الحمار فيركب رأسه ، فلا يرده شيء.
و " اللبان " : الصدر من ذي الحافر : و " أصعقتها " : قتلتها. و " صواهله " جمع صاهلة ، وهو مصدر على " فاعلة " ، بمعنى " الصهيل " ، كما يقال ، " رواغي الإبل " ، أي رغاءها. وقوله في البيت الثاني : " فريسًا " ، أي قتيلا ، قد افترسه ودقه وأهلكه ، و " الخيوطة " جمع خيط ، كالفحولة والبعولة ، جمع فحل وبعل. " والماري " : الثوب الخلق. يصف الذباب المغشى عليه ، كأنه من لينه في تهالكه ، خيوط لواه لاو من ثوب خلق.

(7/543)


فرد " أحاد ومثنى " ، على " النعرات " وهي معرفة. وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها ، كما قال الشاعر : (1)
وَإنَّ الغُلامَ المُسْتَهَامَ بذِكْرِهِ... قَتَلْنَا بِهِ مِنْ بين مَثْنًى وَمَوْحَدِ (2) بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ وَآخَرَ خَامِسٍ... وَسَادٍ مَعَ الإظْلامِ فِي رُمْح مَعْبَدِ
ومما يبين أن " ثناء " و " أحاد " غير جاريةٍ ، قول الشاعر : (3)
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُنَاءَ وَمَوْحَدًا... وَتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمْسِ المُدْبِرِ (4)
__________
(1) لم أعرف قائلهما.
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 254 ، وقد كان البيت في المطبوعة والمخطوطة : قتلنا بِه مِنْ بين مَثْنًى وموْحَدٍ ... بأربعةٍ مِنْكُمْ وآخر خامِسِ
وهو كما ترى ملفق من البيتين اللذين أثبتهما من معاني القرآن ، والذي قاله الطبري هنا ، هو نص مقالة الفراء في معاني القرآن. وقوله : " وساد " أي : سادس ، يقولون : " جاء سادسًا وساديًا وساتًا " .
(3) هو صخر بن عمرو السلمي ، أخو الخنساء.
(4) مجاز القرآن 1 : 115 ، والأغاني 13 : 139 ، والمخصص 7 : 124 ، وشرح أدب الكاتب للجواليقي : 394 ، والبطليوسي : 466 ، والخزانة 4 : 474. وسيأتي في التفسير 22 : 76 (بولاق) وغيرها ، إلا أن ابن قتيبة في أدب الكاتب رواه " كأمس الدابر " وتابعه ناشر التفسير في هذا الموضع فكتب " كأمس الدابر " ، ولكنه في المخطوطة ، وفي الموضع الآخر من التفسير ، قد جاء على الصواب. وهما بيتان قالهما في قتله دريد بن حرملة المري ، في خبر مذكور ، وبعده : وَلقَدْ دَفَعْتُ إلى دُرَيْدٍ طَعْنَةً ... نَجْلاءَ تُزْغُلُ مِثْلَ عَطَّ المَنْحَرِ
والطعنة النجلاء : الواسعة. و " أزغلت " الطعنة بالدم : دفعته زغلة زغلة ، أي دفعة دفعة. وعط الثوب عطًا : شقه. والمنحر : هو نحر البعير ، أي أعلى صدره ، حيث ينحر ، أي : يطعن في نحره ، فيتفجر منه الدم.
وأما رواية " كأمس الدابر " فقد ذكر الجواليقي أبياتًا ليزيد بن عمرو الصعق الكلابي هي : أَعَقَرْتُمُ جَمَلِي برَحْلِيَ قائمًا ... ورَمَيْتُمُ جَارِي بِسَهْمٍ نَاقِرِ
فإِذا ركبتُمْ فَالْبَسُوا أَدْرَاعَكُمْ ... إنَ الرِّمَاحَ بَصِيرَةٌ بالحَاسِرِ
إِذْ تَظْلِمُون وتأكُلُونَ صَدِيقَكُمْ ... فالظُّلْمُ تَارِككُمْ بجَاثٍ عَاثِرِ
إِنّي سَأقتلكُمُ ثُنَاءَ ومَوْحَدًا ... وَتَركتُ نَاصِرَكُمْ كَأمْسِ الدَّابِرِ

(7/544)


وقول الشاعر : (1)
مَنَتْ لَكَ أنْ تُلاقِيَني المَنَايَا... أُحَادَ أُحَادَ فِي شَهْرٍ حَلالِ (2)
ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز " الرُّبَّاع " و " المَرْبع " عن جهته. لم يسمع منها " خماس " ولا " المخْمس " ، ولا " السباع " ولا " المسبع " ، وكذلك ما فوق " الرباع " إلا في بيت للكميت. (3) فإنه يروي له في " العشرة " ، " عشار " وهو قوله :
فَلَمْ يَسْتَرِيثُوكَ حَتَّى رَمَيْ... تَ فَوْقَ الرِّجَالِ خِصَالا عُشَارَا (4)
__________
(1) هو عمرو ذي الكلب ، أخو بني كاهل ، وكان جارًا لهذيل. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن لصخر الغي الهذلي ، وهو خطأ.
(2) ديوان الهذليين 3 : 117 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 115 ، والمعاني الكبير : 2840 المخصص 17 : 124 ، الأغاني 13 : 139. ورواية الديوان " في الشهر الحلال " ، وأخطأ صاحب الأغاني فنسب البيت لصخر بن عمرو ، ورواه " في الشهر الحرام " . قوله : " منت لك " ، أي : قدرت لك منيتك أن تلقاني في شهر حلال ، خلوين ، وحدي ووحدك ، فأصرعك لا محالة. وذلك أنه كان قد لقيه قبل ذلك في شهر حرام ، فلم يستطع أن يرفع إليه سلاحًا. ويقول بعده : وَمَا لَبْثُ القِتَالِ إذَا الْتقَيْنَا ... سِوَى لَفْتِ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ
أي : لا يلبث القتال بيني وبينك إلا بمقدار ما ترد يمين إلى شمال.
(3) في المطبوعة : " في بيت الكميت " ، والصواب من المخطوطة.
(4) مجازا القرآن لأبي عبيدة 1 : 116 ، والأغاني 3 : 139 ، واللسان (عشر) ، والمخصص 17 : 125 ، والجواليقي 292 ، 293 ، والبطليوسي : 467 ، والخزانة 1 : 82 ، 83 ، من قصيدة للكميت ، يمدح بها أبان بن الوليد بن عبد الملك ، وقبله : رَجَوْكَ وَلَم تتكامَلْ سِنُوكَ ... عَشْرًا ، ولا نَبْتَ فِيكَ اتِّغَارَا
لأَدْنَى خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ سِنِيكَ ... ألى أَرْبَعٍ ، فَبَقَوْكَ انْتظارَا
وقوله : " ولا نبت فيك اتغارا " أي : لم تخلف سنًا بعد سن ، فتنبت أسنانك : اتغر الصبي : سقطت أسنانه وأخلف غيرها. وقوله : " خسا أو زكا " ، أي فردا ، وزوجًا. قوله : " فبقوك " من قولهم : " بقيت فلانًا بقيًا " انتظرته ورصدته. و " استراثه " : استبطأه. يقول : تبينوا فيك السؤود لسنة أو سنتين من مولدك ، فرجوا أن تكون سيدًا مطاعًا رفيع الذكر ، فلم تكد تبلغ العشر حتى جازت خصالك خصال السادة من الرجال. وأما قول أبي جعفر " يريد : عشرًا عشرًا " ، فكأنه يعني كثرة الخصال التي فاق بها الرجال.

(7/545)


يريد : " عشرًا ، عشرًا " ، يقال : إنه لم يسمع غير ذلك. (1)
* * *
وأما قوله : " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، فإن نصب " واحدة " ، بمعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح ، (2) فيما أوجبه الله لهن عليكم فانكحوا واحدة منهن.
ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع ، كان جائزًا ، بمعنى : فواحدة كافية ، أو : فواحدة مجزئة ، كما قال جل ثناؤه : ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) (3) [سورة البقرة : 282].
* * *
وإن قال لنا قائل : قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر ، نكاحُ أربع ، فكيف قيل : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، وذلك في العدد تسع ؟ (4)
قيل : إن تأويل ذلك : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم وإما ثلاث ، إن لم تخافوا ذلك وإما أربع ، إن أمنتم ذلك فيهن.
يدل على صحة ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، لأن المعنى :
__________
(1) انظر هذا الفصل كله في معاني القرآن للفراء 1 : 254 ، 255 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 114 - 116.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة... " ، وهو لا يستقيم ، صوابه " فيما زاد " كما أثبتها.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 255.
(4) انظر الناسخ والمنسوخ ، لأبي جعفر النحاس : 92.

(7/546)


فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة. ثم قال : وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم.
* * *
فإن قال قائل : فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام ، وقد قال تعالى ذكره : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وذلك أمر ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب ؟
قيل : نعم ، والدليل على ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . فكان معلومًا بذلك أن قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجورَ فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح ، فإن المعنيّ به : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فتحرجتم فيهن ، فكذلك فتحرّجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجورَ فيه منهن ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [سورة الكهف : 29] ، وكما قال : ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) [سورة النحل : 55\ سورة الروم : 34] ، فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيدُ والزجر والنهي ، (1) فكذلك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، بمعنى النهي : فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء.
* * *
وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله : " أو ما ملكت أيمانكم " قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 293 ، 294.

(7/547)


ذكر من قال ذلك :
8482 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، يقول : فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك.
8483 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أو ما ملكت أيمانكم " ، السراري.
8484 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك.
8485 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا " ، قال : في المجامعة والحب.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره (1) وإن خفتم أن لا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباعَ فنكحتم واحدة ، أو خفتم أن لا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم ، فهو " أدنى " يعني : أقرب ، (2) " ألا تعولوا " ، يقول : أن لا تجوروا ولا تميلوا.
* * *
يقال منه : " عال الرجل فهو يعول عَوْلا وعيالة " ، إذا مال وجار. ومنه : " عَوْل الفرائض " ، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بقوله تعالى ذكره " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير " أدنى " فيما سلف 6 : 78.

(7/548)


وأما من الحاجة ، فإنما يقال : " عال الرجل عَيْلة " ، وذلك إذا احتاج ، كما قال الشاعر : (1)
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ... وَمَا يَدْرِي الغَنُّي مَتَى يَعِيل (2)
بمعنى : يفتقر.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
8486 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، قال : العوْل الميل في النساء.
8487 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثني حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : لا تميلوا.
8488 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، أن لا تميلوا.
8489 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8490 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل
__________
(1) هو أحيحة بن الجلاح .
(2) جمهرة أشعار العرب : 125 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 255 ، الجمهرة لابن دريد 2 : 193 ، وتاريخ ابن الأثير 1 : 278 ، اللسان (عيل) ، وسيأتي في التفسير 10 : 75 / 30 : 149 (بولاق) ، من قصيدته التي قالها في حرب بين قومه من الأوس وبني النجار من الخزرج ، قتل فيها أخوه ، وكانت عنده امرأته سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية ، فحذرت قومها مجيء أحيحة وقومه من الأوس ، فضربها حتى كسر يدها وطلقها. وبعد البيت آخر قرين له : وَمَا تَدْرِي ، إذَا أَجْمَعْتَ أَمْرًا ... بِأَيِّ الأَرْضِ يُدْرِكُكَ المَقِيلُ
وكان في المخطوطة : " لما يدرى الفقير " ، وهو خطأ من الناسخ ، وكأن صوابها " فما يدري " .

(7/549)


قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة : " ألا تعولوا " قال : أن لا تميلوا ثم قال : أما سمعت إلى قول أبي طالب :
بِمِيزان قِسْطٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ (1)
8491 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير ، عن حريث ، عن عكرمة في هذه الآية : " ألا تعولوا " ، قال : أن لا تميلوا قال : وأنشد بيتًا من شعر زعم أن أبا طالب قاله :
بِميزَانِ قِسْطٍ لا يُخِسُّ شَعِيرَةً... وَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ (2)
* * *
قال أبو جعفر ويروي هذا البيت على غير هذه الرواية :
بِمِيزَانِ صِدْقٍ لا يُغلُّ شَعِيرَةً... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ (3)
* * *
8492 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ألا تعولوا " ، قال : أن لا تميلوا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 : 296 ، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت : جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ
ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر ، ويروى أيضًا : " لا يحص شعيرة " من حص الشعر إذا أذهبه ، و " شعيرة " في هذه الرواية تصغير " شعرة " ، وأما في سائر الروايات فهي " شعيرة " بفتح الشين ، وكسر العين ، وهي واحدة " الشعير " ، وهو الحب المعروف ، وهو أقل موازين الذهب والفضة ، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر ، وقد قطع من طرفيها ما امتد ، ويسمونه أيضًا " حبة " ، وانظر ما سلف 4 : 586 ، تعليق : 2 ، في تفسير " الحبة " ، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة ، فقيده هناك. وقوله : " لا تخس شعيرة " ، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله : " تغل " من قولهم : " غل يغل غلولا " ، إذا خان أو سرق.
(2) سيرة ابن هشام 1 : 296 ، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت : جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ
ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر ، ويروى أيضًا : " لا يحص شعيرة " من حص الشعر إذا أذهبه ، و " شعيرة " في هذه الرواية تصغير " شعرة " ، وأما في سائر الروايات فهي " شعيرة " بفتح الشين ، وكسر العين ، وهي واحدة " الشعير " ، وهو الحب المعروف ، وهو أقل موازين الذهب والفضة ، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر ، وقد قطع من طرفيها ما امتد ، ويسمونه أيضًا " حبة " ، وانظر ما سلف 4 : 586 ، تعليق : 2 ، في تفسير " الحبة " ، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة ، فقيده هناك. وقوله : " لا تخس شعيرة " ، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله : " تغل " من قولهم : " غل يغل غلولا " ، إذا خان أو سرق.
(3) سيرة ابن هشام 1 : 296 ، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت : جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ
ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر ، ويروى أيضًا : " لا يحص شعيرة " من حص الشعر إذا أذهبه ، و " شعيرة " في هذه الرواية تصغير " شعرة " ، وأما في سائر الروايات فهي " شعيرة " بفتح الشين ، وكسر العين ، وهي واحدة " الشعير " ، وهو الحب المعروف ، وهو أقل موازين الذهب والفضة ، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر ، وقد قطع من طرفيها ما امتد ، ويسمونه أيضًا " حبة " ، وانظر ما سلف 4 : 586 ، تعليق : 2 ، في تفسير " الحبة " ، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة ، فقيده هناك. وقوله : " لا تخس شعيرة " ، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله : " تغل " من قولهم : " غل يغل غلولا " ، إذا خان أو سرق.

(7/550)


8493 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله.
8494 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي قال : كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه عليه فيه : " إنِّي لست بميزان لا أعول " .
8495 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثّام بن علي قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك في قوله : " أدنى ألا تعولوا " ، قال : لا تميلوا. (1)
8496 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، أدنى أن لا تميلوا.
8497 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ألا تعولوا " ، قال : تميلوا.
8498 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : أن لا تميلوا.
8499 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : تميلوا.
8500 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أدنى ألا تعولوا " ، يعني : أن لا تميلوا.
8501 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : ذلك أدنى أن لا تميلوا.
__________
(1) الأثر : 8495 - في المطبوعة : " عباد بن علي " ، وكان كاتب المخطوطة قد كتب " عباد " ثم جعل الدال ميما ، ولم ينقط الكلمة ، فاشتبه الأمر على الناشر ، والصواب " عثام " وهو " عثام بن علي العامري " شيخ أبي كريب ، وقد مضى مئات من المرات ، ومضت ترجمته في رقم : 337.

(7/551)


وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

8502 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، قال : أن لا تجوروا.
8503 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون ، وعارم أبو النعمان قالا حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك مثله.
8504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد : " ذلك أدنى ألا تعولوا " قال : تميلوا. (1)
8505 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، ذلك أقل لنفقتك ، الواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع ، وجاريتُك أهون نفقة من حُرة " أن لا تعولوا " ، أهون عليك في العيال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وأعطوا النساء مهورهن عطيّة واجبة ، (3) وفريضة لازمة.
* * *
يقال منه : " نَحَل فلان فلانًا كذا فهو يَنْحَله نِحْلة ونُحْلا " ، (4) كما : -
8506 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 8504 - في المخطوطة والمطبوعة " عن ابن إسحاق ، عن مجاهد " ، وهو خطأ ظاهر ، والصواب " عن أبي إسحاق " ، وهو أبو إسحاق السبيعي ، وقد مضت روايته عن مجاهد في هذا التفسير مئات من المرات.
(2) في المخطوطة : " أهون عليك في القتال " ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المخطوطة : " عليه واجبة " ، ووضع على " عليه " حرف " ط " ، دلالة على الخطأ. والصواب ما كان في المطبوعة.
(4) " نحلة " (بكسر النون وسكون الحاء) مصدر مثل " حكمة " . و " نحلا " (بضم النون وسكون الحاء) مصدر أيضًا مثل " حكم " (بضم الحاء).

(7/552)


سعيد ، عن قتادة قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، يقول : فريضة.
8507 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، يعني بـ " النحلة " ، المهر.
8508 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، قال : فريضة مسماة.
8509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، قال : " النحلة " في كلام العرب ، الواجب يقول : لا ينكحها إلا بشيء واجب لها ، صدقة يسميها لها واجبة ، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بصداقٍ واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بقوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، أولياء النساء ، وذلك أنهم كانوا يأخذون صَدقاتهن.
* ذكر من قال ذلك :
8510 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال ، كان الرجل إذا زوج أيِّمه أخذ صداقها دونها ، (1) فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ، ونزلت : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .
* * *
وقال آخرون : بل كان ذلك من أولياء النساء ، بأن يعطى الرجل أخته لرجل ، على أن يعطيه الآخر أخته ، على أن لا كثير مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " إذا زوج أيمة " بالتاء في آخره ، وهو خطأ. يقال ، " امرأة أيم ، ورجل أيم : " . وهي من النساء التي لا زوج لها ، بكرًا كانت أو ثيبًا ومن الرجال ، الذي لا امرأة له.
(2) وذلك هو " الشغار " شغار المتناكحين بغير مهر ، إلا بضع وليته أو أيمه. وكان ذلك من نكاح الجاهلية ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

(7/553)


* ذكر من قال ذلك :
8511 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرميٌّ أن أناسًا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ، ويأخذ أخت الرجل ، ولا يأخذون كثير مهر ، فقال الله تبارك وتعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك ، التأويل الذي قلناه. وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساءَ ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهن ، وعرّفهم سبيلَ النجاة من ظلمهنّ. ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صُرِف عنهم إلى غيرهم. فإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين قيل لهم : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، هم الذين قيل لهم : " وآتوا النساء صدقاتهن " وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة ، لأنه قال في أوّل [الآية] : (1) " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ولم يقل : " فأنكحوا " ، فيكون قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن " ، مصروفًا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهن.
وهذا أمرٌ من الله أزواجَ النساء المدخول بهن والمسمَّى لهن الصداق ، أن يؤتوهن صدُقاتهن ، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق.
* * *
__________
(1) في المخطوطة ، أسقط ذكر " الآية " التي وضعتها بين القوسين ، وفي المطبوعة جعلها " في الأول " ، والسياق يقتضي الزيادة كما أثبتها.

(7/554)


القول في تأويل قوله : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن وهب لكم ، أيها الرجال ، نساؤكم شيئًا من صدقاتهن ، طيبة بذلك أنفسهن ، فكلوه هنيئًا مريئًا ، كما : -
8512 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا عمارة ، عن عكرمة : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " ، قال : المهر.
8513 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني حَرَميّ بن عمارة قال ، حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة ، [عن عمارة] في قوله الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " ، قال : الصدقات. (1)
8514 - حدثني المثنى قال ، حدثني الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " قال : الأزواج.
8515 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبيدة قال ، قال لي إبراهيم : أكلتَ من الهنيء المريء! قلت : ما ذاك ؟ قال : امرأتك أعطتك من صَداقها.
8516 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه ، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره ، فقال له علقمة : ادْنُ فكل من الهنيء المريء!
__________
(1) الأثر : 8513 - " حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي " . أبو روح ، روى عن شعبة. قال أحمد : " صدوق ، كانت فيه غفلة " ، مترجم في التهذيب. و " عمارة " الراوي عن عكرمة ، هو أبو " حرمي بن عمارة " هذا ، وهو " عمارة بن أبي حفصة العتكي " . ثقة. مترجم في التهذيب.
أما قوله " عكرمة ، عن عمارة " فلم أعرف فيمن روى عنه عكرمة من يسمى " عمارة " وظني أنه خطأ من الناسخ ، إما أن يكون كرر " عمارة " ، أو يكون صوابه " عن ابن عباس " ، فسها وكتب " عن عمارة " . ولذلك وضعتها بين قوسين.

(7/555)


8517 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " ، يقول : إذا كان غيرَ إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء ، كما قال الله جل ثناؤه.
8518 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " ، قال : الصداق ، " فكلوه هنيئًا مريئًا " .
8519 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " بعد أن توجبوه لهنّ وتُحُّلوه ، " فكلوه هنيئًا مريئًا " . (1) .
8520 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال : زعم حضرميٌّ أن أناسًا كانوا يتأثمون أن يُراجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، (2) فقال الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " .
8521 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " ، يقول : ما طابت به نفسًا في غير كَرْه أو هوان ، (3) فقد أحلّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئًا مريئًا.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بهذا القول أولياء النساء ، فقيل لهم : إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهن ، بصدقاتهن نفسًا ، فكلوه هنيئًا مريئًا.
* ذكر من قال ذلك :
8522 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا سيار ، عن أبي صالح في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " ، قال : كان الرجل
__________
(1) في المطبوعة : " سمعت ابن زيد يقول في قوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " ، وهو كلام غير تام ، لم يذكر إلا نص الآية ، وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كان سقط من الناسخ " فكلوه " ، فأثبتها.
(2) في المطبوعة : " أن يرجع أحدهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة : " في غير ذكره أو هوان " ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/556)


إذا زوّج ابنته ، عمد إلى صداقها فأخذه ، قال : فنزلت هذه الآية في الأولياء : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " .
* * *
قال أبو جعفر وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويلُ الذي قلنا وأن الآية مخاطب بها الأزواج. لأن افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم ، وقوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " في سياقه.
* * *
وإن قال قائل : فكيف قيل : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " ، وقد علمت أنّ معنى الكلام : فإن طابت لكم أنفسهن بشيء ؟ وكيف وُحِّدت " النفس " ، والمعنى للجميع ؟ وذلك أنه تعالى ذكره قال : " وآتوا النساء صَدُقاتهن نحلة " .
قيل : أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس ، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب. من كلامها المعروف : " ضِقت بهذا الأمر ذراعًا وذرعًا " " وقررت بهذا الأمر عينًا " ، والمعنى! ضاق به ذرعي ، وقرّت به عيني ، كما قال الشاعر : (1)
إِذَا التَيَّازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْنَا : ... إلَيْكَ إلَيْكَ " ! ضَاقَ بِها ذِرَاعَا (2)
__________
(1) هو القطامي.
(2) ديوانه : 44 ، معاني القرآن للفراء 1 : 256 ، واللسان (تيز) ، ثم ج 20 : 319 ، وقد استشهدت به فيما سلف 1 : 446 ، تعليق : 6 ، فانظره ، من قصيدته التي مجد فيها زفر بن الحارث ، وهذا البيت في صفة ناقته التي أحسن القيام عليها حتى اشتدت وسمنت وامتلأت نشاطًا ، وقبله : فَلَمَّا أن جَرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا ... كما بَطَّنْتَ بالفَدَن السَّيَاعَا
أَمَرْتُ بِهَا الرِّجَالَ ليأخُذُوهَا ... وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنْ لَنْ تُسْتَطَاعَا
" السياع " الطين ، و " الفدن " القصر. وقلب الكلام ، وأصله : كما بطنت الفدن بالسياع ، فصار أملس. يصف سمنها حتى امتلأت واشتدت كأنها قصر مشيد. و " التياز " : الكثير اللحم الغليظ الشديد. وقوله : " إليك ، إليك " ، أي خذها. يقول له : خذها واضبطها ، ولكنه لم يقو عليها ، وضاق بها ذراعًا. وقد رد ابن بري تفسير " إليك إليك " بمعنى : خذها لتركبها وتروضها ، وقال ، " هذا فيه إشكال ، لأن سيبويه وجميع البصريين ذهبوا إلى أن " إليك " بمعنى : تنح ، وأنها غير متعدية إلى مفعول ، وعلى ما فسروه في البيت ، يقتضي أنها متعدية ، لأنهم جعلوها بمعنى : خذها. ورواه أبو عمرو الشيباني : " لديك لديك " ، عوضًا من " إليك إليك " . قال : وهذا أشبه بكلام العرب وقول النحويين ، لأن " لديك " بمعنى " عندك " و " عندك " في الإغراء تكون متعدية " .
وعندي أن شرح الشراح في " إليك " صواب جيد ، وقد استدرك ابن بري اجتهاده ، ولم يصب فيما استدرك.

(7/557)


فنقل صفة " الذراع " إلى " رب الذراع " ، ثم أخرج " الذراع " مفسِّرة لموقع الفعل.
وكذلك وحد " النفس " في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " إذ كانت " النفس " مفسِّرة لموقع الخبر. (1)
* * *
وأما توحيد " النفس " من النفوس ، لأنه إنما أراد " الهوى " ، و " الهوى " يكون جماعة ، كما قال الشاعر : (2)
بهَا جِيَفُ الحَسْرَى ، فَأَمَّا عِظَامُهَا... فَبِيضٌ ، وأمّا جِلْدُهَا فَصَلِيب (3)
وكما قال الآخر : (4)
فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا (5)
* * *
__________
(1) " التفسير ، والمفسر " : التمييز والمميز ، اصلاح الكوفيين ، انظر ما سلف في فهرس المصطلحات. وانظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 256.
(2) هو علقمة بن عبدة (علقمة الفحل).
(3) ديوانه : 27 ، وشرح المفضليات : 777 ، وسيبويه 1 : 107 وسيأتي في التفسير 17 : 10 (بولاق) ، من قصيدته في الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني ، حين أسر أخاه شأسًا ، فرحل إليه علقمة يطلب فكه. وقوله : " بها جيف الحسري " ، الضمير عائد إلى " العلوب " في البيت السابق ، وهي آثار الطريق في متان الأرض ، و " الحسري " المعيية ، يتركها أصحابها فتموت ، و " الصليب " : الودك الذي يسيل من جلودها إذا مضى على موتها زمن ، وهي تحت الشمس ووقدتها. يقول : ماتت وتقادم بها العهد ، فابيضت عظامها ، وتفانى جلدها فلم يبق منه على أرض الطريق سوى آثار الودك الذي سال من جلودها. والسياق : وأما جلدها ، فلا جلد ، إنما هو الصليب وحده.
والشاهد في البيت " جلدها " وقد أراد " جلودها " .
(4) هو المسيب بن زيد مناة الغنوي.
(5) سيبويه 1 : 107 ، وشرح المفضليات : 778 ، واللسان (شجا) ، وقبله : لا تُنْكِرُوا القَتْل وَقَدْ سُبِينَا
يذكر قومًا سبوا من قومه ، فجاء قومه فقتلوا منهم ، فقال لهم : لا تنكروا قتلنا لكم ، وقد وقع علينا السباء ؛ فإن نكن قتلنا منكم حتى صار القتل في حلوقكم كالعظم اعترض في مجراها ، ففي حلوقنا نحن أيضًا شجا قد اعترض ، هو سباؤكم من سبيتم منا. يقول : هذه بهذه.
والشاهد قوله : " في حلقكم " ، وقد أراد " حلوقكم " .

(7/558)


وقال بعض نحويي الكوفة : جائز في " النفس " في هذا الموضع الجمع والتوحيد ، " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا " و " أنفسًا " ، و " ضقت به ذراعًا " و " ذَرْعًا " و " أذْرُعًا " ، لأنه منسوب إليك وإلى من تخبر عنه ، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك ، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع ، لأن قبله جمعًا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن " النفس " وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد ، مؤدِّيةً معناه إذا ذكر بلفظ الواحد ، وأنه بمعنى الجمع عن الجميع.
* * *
وأما قوله : " هنيئًا " ، فإنه مأخوذ من : " هنأت البعير بالقَطِران " ، إذا جَرِب فعُولج به ، كما قال الشاعر : (1)
مُتَبَذِّلا تَبْدُو مَحَاسِنُهُ... يَضَعُ الهِنَاء مَوَاضِعَ النُّقْبِ (2)
* * *
__________
(1) هو دريد بن الصمة.
(2) الشعر والشعراء 302 ، والأغاني 10 : 22 ، واللسان (نقب) ، وغيرها ، من أبياته التي قالها حين مر بالخنساء بنت عمرو بن الشريد ، وهي تهنأ بعيرًا لها ، وقد تبذلت حتى فرغت منه ، ثم نضت عنها ثيابها فاغتسلت ، ودريد يراها وهي لا تشعر به ، فأعجبته ، فانصرف إلى رحله يقول : حَيُّوا تُمَاضِرَ وَارْبعُوا صَحْبى ... وَقِفُوا ، فَإِنَّ وُقُوفَكُمْ حَسْبى
أَخُنَاسَ ، قَدْ هَامَ الفُؤَادُ بكُمْ ... وأصابَهُ تَبْلٌ مِنَ الحُبِّ
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِه ... كاليَوْمَ طَالِيَ أَيْنقٍ جُرْبِ
مُتَبَذِّلا ... ... ... ... ... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُتَحَسِّرًا نَضَحَ الهِنَاءُ بِه ... نَضْحَ العَبِيرِ برَيْطَةِ العَصْبِ
فَسَلِيهِمُ عَنِّي خُنَاسَ ، إِذَا ... عَضَّ الجَمِيعَ الخَطْبُ : مَا خَطْبي?
ثم خطبها إلى أبيها فردته ، فهجاها ، وزعم أنها ردته لأنه شيخ كبير ، فقيل للخنساء : ألا تجيبينه ؟ فقالت : لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه. و " النقب " : (بضم النون وسكون القاف) و " النقب " (بضم ففتح) جمع نقبة : أول الجرب حين يبدو.

(7/559)


وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

فكأنّ معنى قوله : " فكلوه هنيئًا مريئًا " ، فكلوه دواء شافيًا.
* * *
يقال منه : " هنأني الطعام ومرَأني " ، أي صار لي دواء وعلاجًا شافيًا ، " وهنِئني ومرِئني " بالكسر ، وهي قليلة. والذين يقولون هذا القول ، يقولون : " يهنَأني ويمرَأني " ، والذين يقولون : " هَنَأني " يقولون : " يَهْنِيني وَيمْريني " . فإذا أفردوا قالوا : " قد أمرأني هذا الطعام إمراء " . ويقال : " هَنَأت القوم " إذا عُلتهم ، سمع من العرب من يقول : " إنما سميت هانئًا لتهنأ " ، بمعنى : لتعول وتكفي.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } (1)
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " السفهاء " الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم. (2)
فقال بعضهم : هم النساء والصبيان.
* ذكر من قال ذلك :
8523 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير قال : اليتامى والنساء.
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة سياق الآية إلى " قيامًا " . ولكن تفسير أبي جعفر شمل بقية الآية " وارزقوهم فيها واكسوهم ، " كما سيأتي في ص : 571 ، فأتممتها.
(2) انظر تفسير " السفه " و " السفهاء " فيما سلف 1 / 293 - 295 / 3 : 90 ، 129 / 6 57 - 60.

(7/560)


8524 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعطوا الصغار والنساء.
8525 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن الحسن قال : المرأة والصبيّ.
8526 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الحسن قال : النساء والصغار ، والنساء أسفه السفهاء.
8527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : " السفهاء " ابنك السفيه ، وامرأتك السفيهة. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الله في الضعيفين ، اليتيم والمرأة " .
8528 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا حميد ، عن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن السدي قال : يردّه إلى عبدالله قال : النساء والصبيان.
8529 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أما " السفهاء " ، فالولد والمرأة.
8530 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يعني بذلك : ولد الرجل وامرأته ، وهي أسفه السفهاء.
8531 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : " السفهاء " الولد ،

(7/561)


والنساء أسفه السفهاء ، فيكونوا عليكم أربابًا.
8532 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : أولادكم ونساؤكم.
8533 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك قال : النساء والصبيان.
8534 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء والولدان.
8535 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا ابن أبي غَنِيّة ، عن الحكم : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء والولدان. (1)
8536 - حدثنا بشر بن معاذ : قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " ، أمر الله بهذا المال أن يخزن فتُحسن خِزانته ، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلامُ السفيه.
8537 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن أبي مالك قال : النساء والصبيان.
8538 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : امرأتك
__________
(1) الأثر : 8535 - " أبو نعيم " ، هو " الفضل بن دكين " . مضت ترجمته برقم : 2554 ، 3035. و " ابن أبي غنية " (بفتح الغين وكسر النون وياء مشددة مفتوحة) هو : " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية ، الخزاعي " ، روى عن أبيه ، وأبي إسحاق السبيعي ، وأبي إسحاق الشيباني ، والحكم بن عتيبة. وروى عنه الثوري ، وهو من أقرانه ، ووكيع ، ويحيى بن أبي زائدة ، وعمارة بن بشر ، وأبو نعيم وآخرون. وهو ثقة. وكان في المطبوعة : " ابن أبي عنبسة " ، أما في المخطوطة ، فإن الناسخ لم يحسن كتابة ما كتب فصارت كأنها " ابن أبي عنية " ، والصواب ما أثبت.
و " الحكم " ، هو " الحكم بن عتيبة الكندي " ، مضى مرارًا ، في رقم : 3297.

(7/562)


وبنيك وقال : " السفهاء " ، الولدان ، والنساء أسفه السفهاء.
* * *
وقال آخرون : بل " السفهاء " ، الصبيان خاصة.
* ذكر من قال ذلك :
8539 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : هم اليتامى.
8540 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد قال : " السفهاء " ، اليتامى.
8541 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يونس ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يقول : لا تَنْحَلوا الصغار.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك : السفهاء من ولد الرجل.
* ذكر من قال ذلك :
8542 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده ، الذي هو قوامك بعد الله تعالى.
8543 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يقول : لا تسلط السفيه من ولدك فكان ابن عباس يقول : نزل ذلك في السفهاء ، وليس اليتامى من ذلك في شيء. (1)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وليسوا اليتامى " ، وهي لغة رديئة ، أخشى أن يكون ذلك من سهو الناسخ.

(7/563)


8544 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلِّقْها ، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال الله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه. (1)
8545 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " الآية ، قال : لا تعط السفيه من ولدك رأسًا ولا حائطًا ، ولا شيئًا هو لك قيمًا من مالك.
* * *
وقال آخرون : بل " السفهاء " في هذا الموضع ، النساء خاصة دون غيره.
* ذكر من قال ذلك :
8546 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرميٌّ أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته ، فوضعته في غير الحق ، فقال الله تبارك وتعالى : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " .
8547 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حميد ، عن مجاهد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء.
8548 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا سفيان ، عن الثوري ، عن حميد ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : هنّ النساء.
__________
(1) الأثر : 8544 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 203 من طريق أبي المثنى معاذ بن معاذ العنبري. عن أبيه ، عن شعبة ، مرفوعا ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين " وقد اتفقا جميعًا على إخراجه " وقال الذهبي : " ولم يخرجاه ، لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفًا ، ورفعه معاذ بن معاذ عنه " .

(7/564)


8549 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " ، قال : نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم ، وهنّ سفهاء مَنْ كُنَّ أزواجًا أو أمهاتٍ أو بنات.
8550 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8551 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : المرأة.
8552 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : النساء مِنْ أسفه السفهاء.
8553 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي عوانة ، عن عاصم ، عن مورّق قال : مرت امرأة بعبدالله بن عمر لها شارَة وهيْئة ، فقال لها ابن عمر : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " .
* * *
وقال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا ، أن الله جل ثناؤه عم بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله ، صبيًا صغيرًا كان أو رجلا كبيرًا ، ذكرًا كان أو أنثى.
و " السفيه " الذي لا يجوز لوليه أن يؤتِّيه ماله ، هو المستحقُّ الحجرَ بتضييعه مالَه وفسادِه وإفسادِه وسوء تدبيره ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا ، من أن المعنيَّ بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء " هو من وصفنا دون غيره ، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها : " وابْتَلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم " ، فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا

(7/565)


بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد ، وقد يدخل في " اليتامى " الذكور والإناث ، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لَهُم من الأموال ، الذكورَ دون الإناث ، ولا الإناث دون الذكور.
وإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلومٌ أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم ، إليهم ، وأجيز للمسلمين مبايعتهم ومعاملتهم ، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم ، وحُظِر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم.
فإذْ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن " السفهاء " الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم ، هم المستحقون الحجرَ والمستوجبون أن يُولى عليهم أموالهم ، وهم من وصفنا صفتهم قبل ، وأن من عدا ذلك فغير سفيه ، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ وأونس رشده.
* * *
وأما قول من قال : " عنى بالسفهاء النساء خاصة " ، فإنه جعل اللغة على غير وجهها. وذلك أن العرب لا تكاد تجمع " فعيلا " على " فُعَلاء " إلا في جمع الذكور ، أو الذكور والإناث. وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم ، جمعوه على : " فعائل " و " فعيلات " ، مثل : " غريبة " ، تجمع " غرائب " و " غريبات " ، فأما " الغُرَباء " ، فجمع " غريب " . (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارْزُقوهم فيها واكسوهم " ،
فقال بعضهم : عنى بذلك : لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبيان على
__________
(1) هذه الحجة من حسن النظر في العربية ومعاني أبنيتها. والذي استنكره أبو جعفر من جعل اللغة على غير وجهها ، وتحميل العربية ما لا سيبل إليه في بنائها وتركيبها ، وتأويل كتاب الله خاصة بالانتزاع الشديد والجرأة على اللغة ، كأنه قد أصبح في زماننا هذا ، هو القاعدة التي يركب فسادها كل مبتدع في الدين برأيه ، وكل متورك في طلب الصوت في الناس بما يقول في دين ربه الذي ائتمن عليه من أنزل إليهم كتابه ، ليعلمهم ويهديهم ، فخالفوا طريق العلم ، وجاروا عن سنن الهداية.

(7/566)


ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل أيها الرشداء ، أموالكم التي تملكونها ، فتسلِّطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها ، ولكن ارزقوهم أنتم منها إن كانوا ممن تلزمكم نفقته ، واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفًا.
وقد ذكرنا الرواية عن جماعة ممن قال ذلك ، منهم : أبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وحضرمي ، وسنذكر قول الآخرين الذين لم يذكر قولهم فيما مضى قبل.
8554 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها " ، يقول : لا تعط امرأتك وولدك مالك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، وأطعمهم من مالك واكسُهم.
8555 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفًا " ، يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك ، وأمرَه أن يرزقه منه ويكسوه.
8556 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعط السفيه من مالك شيئًا هو لك.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا تؤتوا السفهاء أموالهم " ، ولكنه أضيف إلى الولاة ، لأنهم قُوَّامها ومدبِّروها.
* * *
* ذكر من قال ذلك :
8557 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ،

(7/567)


[هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه ، وأنفقه عليه حتى يبلغ. وإنّما أضاف إلى الأولياء فقال : " أموالكم " ، لأنهم قوّامها ومدبروها]. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وقد يدخل في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أموالُ المنهيِّين عن أن يؤتوهم ذلك ، وأموال " السفهاء " . لأن قوله : " أموالكم " غير مخصوص منها بعض الأموال دون بعض. ولا تمنع العرب أن تخاطب قومًا خِطابًا ، فيخرج الكلام بعضه خبر عنهم ، وبعضه عن غُيَّب ، وذلك نحو أن يقولوا : " أكلتم يا فلان أموالكم بالباطل " ، فيخاطب الواحد خطاب الجمع ، بمعنى : أنك وأصحابك أو وقومك أكلتم أموالكم. فكذلك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء " ، معناه : لا تؤتوا أيها الناس ، سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم ، فيضيعوها.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد عم بالنهي عن إيتاء السفهاء الأموال كلَّها ، ولم يخصص منها شيئا دون شيء ، كان بيِّنًا بذلك أن معنى قوله : " التي جعل الله لكم قيامًا " ، إنما هو التي جعل الله لكم ولهم قيامًا ، ولكن السفهاء دخل ذكرهم في ذكر المخاطبين بقوله : " لكم " .
* * *
وأما قوله : " التي جعل الله لكم قيامًا " ، فإن " قيامًا " و " قِيَمًا " و " قِوَامًا " في
__________
(1) الأثر : 8557 - هذا الذي بين القوسين زيادة ليست في المطبوعة ولا المخطوطة ، زدتها من تفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2 : 349. وهي أشبه بنص الطبري في ترجمة هذا القول. وقد نسب البغوي هذا القول الذي نقلته ، ورجحت أنها سقطت من ناسخ تفسير الطبري إلى سعيد بن جبير وعكرمة. والظاهر أن السيوطي أيضًا وقف على نسخة من تفسير الطبري فيها هذا السقط ، فأغفل مقالة سعيد بن جبير التي نقلها البغوي ، ونقل عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ما نصه :
" عن سعيد بن جبير في قوله : (وَلا تؤتوا السفهاء) ، قال : اليتامى - (أموالكم) قال : أموالهم ، بمنزلة قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ)
وبين أن نص البغوي ، أقرب إلى ما ذكر أبو جعفر ، من نص السيوطي في الدر المنثور 2 : 120 فلذلك أثبته. وأرجو أن لا يكون سقط من كلام أبي جعفر الآتي شيء.

(7/568)


معنى واحد. وإنما " القيام " أصله " القوام " ، غير أن " القاف " التي قبل " الواو " لما كانت مكسورة ، جعلت " الواو " " ياء " لكسرة ما قبلها ، كما يقال : " صُمْت صيامًا " ، " وصُلْت صِيالا " ، (1) ويقال منه : " فلان قوام أهل بيته " و " قيام أهل بيته " .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم : ( التي جعل الله لكم قِيَمًا ) بكسر " القاف " وفتح " الياء " بغير " ألف " .
وقرأه آخرون : " قِيَامًا " بألف.
* * *
قال محمد : (2) والقراءة التي نختارها : " قِيَامًا " بالألف ، لأنها القراءة المعروفة في قراءة أمصار الإسلام ، وإن كانت الأخرى غير خطأ ولا فاسد. وإنما اخترنا ما اخترنا من ذلك ، لأن القراآت إذا اختلفت في الألفاظ واتفقت في المعاني ، فأعجبها إلينا ما كان أظهر وأشهر في قَرَأة أمصار الإسلام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : " قيامًا " قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8558 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك : " أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " ، التي هي قوامك بعد الله. (3)
8559 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " ، فإن المال هو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حلت حيالا " بالحاء ، وكأن الصواب ما أثبت.
(2) هذه هي المرة الثانية التي كتب فيها " قال محمد " - يعني محمد بن جرير الطبري أبا جعفر - مكان : " قال أبو جعفر ، وانظر 519 تعليق : 1 ، فيما سلف قريبًا.
(3) الأثر : 8558 - هو مختصر الأثر السالف رقم : 8542.

(7/569)


قيام الناس ، قِوَام معايشهم. يقول : كن أنت قيم أهلك ، فلا تعط امرأتك [وولدك] مالك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك. (1)
8560 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " يقول الله سبحانه : لا تعمد إلى مالك وما خوَّلك الله وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بَنيك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم. ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنتَ الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال : وقوله : " قيامًا " ، بمعنى : قوامكم في معايشكم.
8561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن قوله : " قيامًا " قال : قيام عيشك.
8562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بكر بن شرود ، عن مجاهد أنه قرأ : " التي جعل الله لكم قيامًا " ، بالألف ، يقول : قيام عيشك. (2)
8563 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله :
__________
(1) الأثر : 8559 - هو مختصر الأثر السالف رقم : 8554 ، والزيادة بين القوسين منه وبغيرها لا تستقيم الضمائر. وفي المخطوطة والمطبوعة : " كنت أنت " والصواب " كن أنت " كما أثبتها.
(2) الأثر : 8562 - " إسحاق " في هذا الأثر ، هو " إسحاق بن الضيف " ، ويقال : " إسحاق ابن إبراهيم بن الضيف ، الباهلي " ، ثقة. مترجم في التهذيب. وأما " بكر بن شرود " فقد ترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 90 ، وقال : " صنعاني ، قال ابن معين : رأيته ، ليس بثقة " . أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 338 ، فقد ترجم له باسم : " بكر بن عبد الله بن شروس ويقال : ابن شرود ، الصنعاني " ، قال ، " روى عن معمر. روى عنه إسحاق بن إبراهيم بن الضيف. سمعت أبي يقول : هو ضعيف الحديث " . أما الحافظ ابن حجر ، فقد ترجم له في لسان الميزان 2 : 52 - 54 ، وروى عن ابن معين أنه قال : " كذاب ، ليس بشيء " ، واستوفى الكلام فيه. وأما " مجاهد " فهو " مجاهد " ابن جبر التابعي الإمام المشهور. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عن ابن مجاهد " ، وزيادة " ابن " خطأ لا شك فيه. كأن الناسخ ظنه " ابن مجاهد " القارئ ، شيخ الصنعة ، أول من سبع القراءات السبعة ، وهو متأخر الميلاد. ولد سنة 245 ، وهو " أبو بكر بن مجاهد " " أحمد بن موسى بن العباس ابن مجاهد التميمي " .

(7/570)


" أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا " ، قال : لا تعط السفيه من ولدك شيئًا ، هو لك قيِّم من مالك. (1)
* * *
وأما قوله : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فأما الذين قالوا : إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، [أموالَ] أولياء السفهاء ، لا أموال السفهاء ، (2) فإنهم قالوا : " معنى ذلك : وارزقوا ، أيها الناس ، سفهاءكم من نسائكم وأولادكم ، من أموالكم طعامهم ، وما لا بد لهم منه من مُؤَنهم وكسوتهم " .
وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ، وسنذكر من لم يُذكر من قائليه.
8564 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أمروا أن يرزقوا سفهاءهم - من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم - من أموالهم.
8565 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8566 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : " وارزقوهم " ، قال ، يقول : أنفقوا عليهم.
8567 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، يقول : أطعمهم من مالك واكسهم.
* * *
وأما الذين قالوا : " إنما عنى بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أموالَ السفهاء أن لا يؤتيهموها أولياؤهم " ، فإنهم قالوا : " معنى قوله : " وارزقوهم فيها
__________
(1) الأثر : 8563 - انظر الأثر السالف رقم : 8545 ، اختلف لفظاهما مع اتفاق إسنادهما.
(2) هذه الزيادة بين القوسين ، استظهرتها من السياق ، وأثبتها للبيان. وكأن ذلك هو الصواب.

(7/571)


واكسوهم " ، وارزقوا ، أيها الولاة ولاةَ أموال السفهاء ، سفهاءكم من أموالهم ، طعامهم وما لا بد لهم من مؤنهم وكسوتهم. وقد مضى ذكر ذلك. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأما الذي نراه صوابًا في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " من التأويل ، فقد ذكرناه ، ودللنا على صحة ما قلنا في ذلك بما أغنى عن إعادته.
* * *
فتأويل قوله : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، على التأويل الذي قلنا في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وأنفقوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم في أموالكم ، ولا تسلِّطوهم على أموالكم فيهلكوها وعلى سفهائكم منهم ، ممن لا تجب عليكم نفقته ، ومن غيرهم الذين تَلُون أنتم أمورهم ، من أموالهم فيما لا بد لهم من مؤنهم في طعامهم وشرابهم وكسوتهم. (2) لأن ذلك هو الواجب من الحكم في قول جميع الحجة ، لا خلاف بينهم في ذلك ، مع دلالة ظاهر التنزيل على ما قلنا في ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (5) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : معنى ذلك : عِدْهم عِدَة جميلة من البرِّ والصلة.
* ذكر من قال ذلك :
8568 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) انظر الأثر : رقم : 8557.
(2) انظر تفسير " الرزق " فيما سلف 4 : 274 / 5 : 44 / 6 : 311 وتفسير " الكسوة " فيما سلف 5 : 44 ، 480.

(7/572)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وقولوا لهم قولا معروفًا " ، قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفًا في البر والصلة يعني النساء ، وهن السفهاء عنده.
8569 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وقولوا لهم قولا معروفًا " ، قال : عِدَةً تَعِدُهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادعوا لهم.
* ذكر من قال ذلك :
8570 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وقولوا لهم قولا معروفًا " ، إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه ، فقل لهم قولا معروفًا ، قل لهم : " عافانا الله وإياك " ، " وبارك الله فيك " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصحة ، ما قاله ابن جريج. وهو أن معنى قوله : " وقولوا لهم قولا معروفًا " ، أي : قولوا ، يا معشر ولاة السفهاء ، قولا معروفًا للسفهاء : " إن صَلحتم ورشدتم سلَّمنا إليكم أموالكم ، وخلَّينا بينكم وبينها ، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم " ، وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حث على طاعة الله ، ونهي عن معصيته. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " تعدوهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف 3 : 371 / 4 : 547 / 5 : 7 ، 44 ، 76 ، 93 137 / 7 : 91 ، 105 ، 130 وتفسير " قول معروف " فيما سلف 5 : 520.

(7/573)


وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وابتلوا اليتامى " ، واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم ، وصلاحهم في أديانهم ، وإصلاحهم أموالهم ، كما : -
8571 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قالا يقول : اختبروا اليتامى.
8572 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " ابتلوا اليتامى " ، فجرِّبوا عقولهم.
8573 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قال : عقولهم.
8574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قال : اختبروهم.
8575 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو. إذا عُرِف أنه قد أُنِس منه رُشد ، دفع ليه ماله. قال : وذلك بعد الاحتلام.
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى " الابتلاء " الاختبار ، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
وأمّا قوله : " إذا بلغوا النكاح " ، فإنه يعني : إذا بلغوا الحلم : كما : -
8576 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف 2 : 49 / 3 : 7 ، 220 / 5 : 339 / 7 : 297 ، 325 ، 454.

(7/574)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، حتى إذا احتلموا.
8577 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبدالله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : عند الحلم.
8578 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : الحلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا }
قال أبو جعفر : يعني قوله : " فإن آنستم منهم رُشدًا " ، فإن وجدتم منهم وعرفتم ، كما : -
8579 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن آنستم منهم رشدًا " ، قال : عرفتم منهم.
* * *
يقال : " آنست من فلان خيرًا - وبِرًا " (1) بمد الألف " إيناسًا " ، و " أنست به آنَسُ أُنْسًا " ، بقصر ألفها ، إذا ألِفه.
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبدالله : ( فإن أحسيتم منهم رشدا ) ، (2) بمعنى : أحسستم ، أي : وجدتم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " آنست من فلان خيرًا وقرئ بمد الألف " ، لم يحسن قراءة " وبرًا " في المخطوطة ، فأفسد الكلام إفسادًا.
(2) في معاني القرآن للفراء 1 : 257 : " فإن أحستم " بسين واحدة ساكنة ، وفي بعض نسخه كما في تفسير الطبري ، أما في المخطوطة فقد كتب في الموضعين : " أحسستم " بسينين ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة ، وما في معاني القرآن للفراء.

(7/575)


واختلف أهل التأويل في معنى : " الرشد " الذي ذكره الله في هذه الآية. (1)
فقال بعضهم : معنى " الرشد " في هذا الموضع ، العقل والصلاح في الدين.
* ذكر من قال ذلك :
8580 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن آنستم منهم رشدًا " ، عقولا وصلاحًا.
8581 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن آنستم منهم رشدًا " ، يقول : صلاحًا في عقله ودينه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : صلاحًا في دينهم ، وإصلاحًا لأموالهم.
* ذكر من قال ذلك :
8582 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن مبارك ، عن الحسن قال : رشدًا في الدين ، وصلاحًا ، وحفظًا للمال.
8583 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن آنستم منهم رشدًا " ، في حالهم ، والإصلاحَ في أموالهم.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك العقلُ ، خاصة.
* ذكر من قال ذلك :
8584 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : لا ندفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته ، (2) وإن كان شيخًا ، حتى يؤنس منه رشده ، العقل.
__________
(1) انظر تفسير " الرشد " فيما سلف 3 : 482 / 5 : 416.
(2) قوله : " أخذ بلحيته " يعني : الشيب أخذ بلحيته ، وانظر الأثر التالي : 8586.

(7/576)


8585 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " آنستم منهم رشدًا " ، قال : العقل.
8586 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو شبرمة ، عن الشعبي قال : سمعته يقول : إن الرجل ليأخُذُ بلحيته وما بلغ رُشده. (1)
* * *
وقال آخرون : بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه.
* ذكر من قال ذلك :
8587 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فإن آنستم منهم رشدًا " ، قال : صلاحًا وعلمًا بما يصلحه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى " الرشد " في هذا الموضع ، العقل وإصلاح المال (2) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك ، لم يكن ممن يستحق الحجرَ عليه في ماله ، وحَوْزَ ما في يده عنه ، وإن كان فاجرًا في دينه. وإذْ كان ذلك إجماعًا من الجميع ، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يَدي وصيِّ أبيه ، أو في يد حاكم قد وَلي ماله لطفولته واجبٌ عليه تسليم ماله إليه ، إذا كان عاقلا بالغًا ، مصلحًا لماله غير مفسد ، لأن المعنى الذي به يستحق أن يولَّى على ماله الذي هو في يده ، هو المعنى الذي به يستحق أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد وليّ ، (3) فإنه لا فرق بين ذلك.
وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح
__________
(1) الأثر : 8586 - " أبو شبرمة " كنية " ابن شبرمة " ، وهو القاضي الفقيه المفتي " عبد الله بن شبرمة بن حسان الضبي " . وكان عفيفًا حازمًا عاقلا فقيها ، يشبه النساك ، ثقة في الحديث ، شاعرًا ، حسن الخلق ، جوادا.. هكذا وصفوه رحمه الله.
(2) انظر التعليق السالف ص : 576 ، تعليق : 1 ، في مراجع تفسير " الرشد " .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " في يد ولي " ، والصواب حذف هذه الهاء ، فإنه مفسدة للكلام ولو قرئت : " في يد وليه " لكانت جيدة.

(7/577)


ما في يده ، الدليلُ الواضح على أنه غير جائز منْع يده مما هو له في مثل ذلك الحال ، وإن كان قبل ذلك في يد غيره ، لا فرْق بينهما. ومن فرَّق بين ذلك ، عُكِس عليه القول في ذلك ، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإذ كان ما وصفنا من الجميع إجماعًا ، (1) فبيُّنٌ أن " الرشد " الذي به يستحق اليتيم ، إذا بلغ فأونس منه ، دَفْعَ ماله إليه ، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره ولاةَ أموال اليتامى. يقول الله لهم : فإذا بلغ أيتامكم الحلم ، فآنستم منهم عقلا وإصلاحًا لأموالهم ، فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تحبسوها عنهم.
* * *
وأما قوله : " فلا تأكلوها إسرافًا " ، يعني : بغير ما أباحه الله لك ، (2) كما : -
8588 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : " ولا تأكلوها إسرافًا " ، يقول : لا تسرف فيها.
8589 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، (3) حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " فإن كان ما وصفنا " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " أباحه الله لكم " بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر تفسير " أكل المال " فيما سلف 3 : 548 - 551 / 7 : 528.
(3) الأثر : 8589 - " محمد بن الحسين بن موسى بن أبي حنين الكوفي " ، مضت ترجمته برقم : 7120 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " محمد بن الحسن " ، وهو خطأ ، فهذا إسناد دائر في التفسير.

(7/578)


أسباط ، عن السدي : " ولا تأكلوها إسرافًا " ، قال : يسرف في الأكل.
وأصل " الإسراف " : تجاوز الحد المباح إلى ما لم يُبَحْ. وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير. غير أنه إذا كان في الإفراط ، فاللغة المستعملة فيه أن يقال : " أسْرف يُسرف إسرافًا " وإذا كان كذلك في التقصير ، فالكلام منه : " سَرِف يَسْرَفُ سَرَفًا " ، يقال : " مررت بكم فسَرَفْتكم " ، يراد منه : فسهوت عنكم وأخطأتكم ، كما قال الشاعر : (1)
أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ... مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلا سَرَفُ (2)
يعني بقوله : " ولا سرف " ، لا خطأ فيه ، يراد به : أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها.
* * *
__________
(1) هو جرير.
(2) ديوانه : 389 ، وطبقات فحول الشعراء : 359 ، والاشتقاق : 241 ، واللسان (هند) (سرف) ، وغيرها ، وسيأتي في التفسير 8 : 46 / 30 : 159 (بولاق) ، من قصيدته التي مدح بها يزيد بن عبد الملك ، وهجا آل المهلب ، يقول ليزيد ، قبله : أرْجُو الفَوَاضِلَ إِنَّ الله فَضَّلَكُمْ ... يَا قَبْل نَفْسِكَ لاقَى نَفْسِيَ التَّلَفُ
مَا مَنْ جَفَانَا إذَا حَاجَاتُنَا نَزَلَتْ ... كَمنْ لَنَا عِنْدَه التكْرِيمُ واللَّطَفُ
كَمْ قَد نَزَلْتُ بِكُمْ ضَيْفًا ، فَتُلْحِفُنِي ... فَضْلَ اللِّحَافِ ، وَنِعْمَ الفَضْلُ يُلْتَحَفُ
وقوله : " هنيدة " اسم لكل مئة من الإبل ، لا تصرف ، ولا تدخلها الألف واللام ، ولا تجمع ، ولا واحد لها من جنسها. و " هند " مثلها في المعنى ، وبه سميت المرأة فيما أرجح ، تساق في مهرها مئة من الإبل ، من كرامتها وعزها ورغبة الأزواج فيها لشرفها. وقوله : " ثمانية " أي ثمانية من العبيد يقومون بأمرها.

(7/579)


القول في تأويل قوله : { وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وبدارًا " ، ومبادرة. وهو مصدر من قول القائل : " بادرت هذا الأمر مبادرة وبِدارًا " .
* * *
وإنما يعني بذلك جل ثناؤه ولاةَ أموال اليتامى. يقول لهم : لا تأكلوا أموالهم إسرافًا - يعني ما أباح الله لكم أكله - ولا مبادرة منكم بلوغَهم وإيناسَ الرشد منهم ، حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم ، كما : -
8590 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إسرافًا وبدارًا " ، يعني : أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ ، فيحول بينه وبين ماله.
8591 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : " ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا " ، يقول : لا تسرف فيها ولا تبادره. (1)
8592 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبدارًا " ، تبادرًا أن يكبروا فيأخذوا أموالهم.
8593 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إسرافًا وبدارًا " ، قال : هذه لولي اليتيم يأكله ، جعلوا له أن يأكل معه ، إذا لم يجد شيئًا يضع يده معه ، فيذهب يؤخره ، يقول : " لا أدفع إليه ماله " ، وجعلتَ تأكله تشتهي أكله ، لأنك إذا لم تدفعه إليه لك فيه نصيب ، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولا تبادر " بغير هاء في آخره ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) كانت هذه الجملة في المخطوطة هكذا فاسدة الكتابة غير منقوطة : " هذه لولى اليتيم يأكله جعلوا له أن يأكل معه إذا لم يجد سببا يضع معه يده ، فذهب دوحره يقول لا أدفع إليه ماله وجعلت تأكله لسهى أكله ، لأنك لم تدفعه إليه... " ، وهي فاسدة. أما المطبوعة فقد صححها وكتب : " هذه لولي اليتيم خاصة وجعل له " ، وأساء فيما قرأ وفيما كتب. ثم كتب " فيذهب بوجهه " مكان " يؤخره " ، وقد أساء. ثم زاد " إن " في قوله : " لأنك لم تدفعه إليه " فجعلها " " لأنك إن لم تدفعه إليه " ، وقد أصاب ، ولكني آثرت " إذا " .

(7/580)


وموضع " أن " في قوله : " أن يكبروا " نصبٌ بـ " المبادرة " ، لأن معنى الكلام : لا تأكلوها مبادرة كِبرهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ومن كان غنيًّا " ، من ولاة أموال اليتامى على أموالهم ، فليستعفف بماله عن أكلها - بغير الإسراف والبدار أن يكبروا - بما أباح الله له أكلها به ، كما : -
8594 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش وابن أبي ليلى ، عن الحكم عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كان غنيًّا فليستعفف " ، قال : بغناه من ماله ، (2) حتى يستغنى عن مال اليتيم.
8595 - وبه قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " ومن كان غنيًّا فليستعفف " بغناه.
8596 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله :
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 257.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " لغناه عن ماله " ، والصواب بالباء.

(7/581)


" ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : من مال نفسه ، ومن كان فقيرًا منهم ، إليها محتاجًا ، فليأكل بالمعروف.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في " المعروف " الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به ، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها. (1)
فقال بعضهم : ذلك هو القرضُ يستقرضه من ماله ثم يقضيه.
* ذكر من قال ذلك :
8597 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضَرِّب قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت مالَ الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت. (2)
8598 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية ، عن زهير ، عن العلاء بن المسيب ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : وهو القرض.
8599 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، أنه قال في هذه الآية : " ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : الذي ينفق من مال اليتيم ، يكون عليه قرضًا.
8600 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال ، سألت عبيدة عن قوله : " ومن
__________
(1) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص : 573 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) الأثر : 8597 - " حارثة بن مضرب الكوفي " ، روى عن عمر ، وعلي ، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي. مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 87 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 255. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " حارثة بن مصرف " ، وهو خطأ وتصحيف.

(7/582)


كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إنما هو قرض ، ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " ؟ قال : فظننت أنه قالها برأيه.
8601 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا هشام ، عن محمد ، عن عبيدة في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، وهو عليه قرض.
8602 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن سلمة بن علقمة ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : المعروف القرض ، ألا ترى إلى قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " ؟ (1)
8603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة مثل حديث هشام. (2)
8604 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، يعني القرض.
8605 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، يقول : إن كان غنيًّا ، فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئًا ، وإن كان فقيرًا فليستقرض منه ، فإذا وجد مَيْسرة فليعطه ما استقرض منه ، فذلك أكله بالمعروف.
__________
(1) الأثر : 8602 - " سلمة بن علقمة التميمي " ، روى عن محمد بن سيرين. ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " سلمة عن علقمة " ، وهو خطأ ، وانظر الإسناد السالف رقم : 8600 ، جاء على الصواب.
(2) يعني رقم : 8601.

(7/583)


8606 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي يذكر ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير قال : يأكل قرضًا بالمعروف. (1)
8607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن سعيد بن جبير قال : هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر يعني قوله : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " .
8608 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي قال ، حدثنا حماد قال ، سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إن أخذ من ماله قدر قوته قرضًا ، فإن أيسر بعدُ قضاه ، وإن حضره الموت ولم يوسر ، تحلَّله من اليتيم. وإن كان صغيرًا تحلله من وليه. (2)
8609 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : فليأكل قرضًا. (3)
8610 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : هو القرض.
8611 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ، فإن أكل منه شيئًا قضاه.
__________
(1) الأثر : 8606 - " ابن إدريس " هو " عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي " شيخ أبي كريب ، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو إدريس " ، وهو خطأ. و " أبوه " هو " إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي " ، روى عن أبيه ، وأبي إسحاق السبيعي ، وسماك بن حرب وغيرهم. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة " سمعت أبي بكر " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة : " حلله من وليه " ، ولعلها " حلله منه وليه " ، والذي في المطبوعة موافق للسياق.
(3) في المخطوطة : " فلا يأكل قرضًا " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/584)


8612 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة ، عن عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليأكل بالمعروف " ، قال : قرضًا.
8613 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8614 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فليأكل بالمعروف " ، قال : سَلفًا من مال يتيمه.
8615 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعن حماد ، عن سعيد بن جبير " فليأكل بالمعروف " ، قالا هو القرض قال الثوري : وقاله الحكم أيضًا ، ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " ؟
8616 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حجاج ، عن مجاهد قال : هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر يعني : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " .
8617 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : " فليأكل بالمعروف " ، قال : القرض ، ألا ترى إلى قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " ؟
8618 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قرضًا.
8619 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير قال : إذا احتاج الوليُّ أو افتقر فلم يجد شيئًا ، أكل من مال

(7/585)


اليتيم وكَتَبه ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة ، دعا اليتيمَ فاستحلَّ منه ما أكل.
8620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، من مال اليتيم ، بغير إسراف ولا قضاءَ عليه فيما أكل منه.
* * *
واختلف قائلو هذا القول في معنى : " أكل ذلك بالمعروف " . فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه.
* ذكر من قال ذلك :
8621 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي قال ، أخبرني من سمع ابن عباس يقول : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : بأطراف أصابعه.
8622 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عمن سمع ابن عباس يقول ، فذكر مثله. (1)
8623 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، يقول : " فمن كان غنيًا " مَنْ وَلِيَ مال اليتيم ، فليستعفف عن أكله (2) " ومن كان فقيرًا " ، مَنْ وَلِيَ مال اليتيم ، فليأكل معه بأصابعه ، لا يسرف في الأكل ، ولا يلبس.
__________
(1) الأثر : 8622 - " عبيد الله الأشجعي " هو " عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي " . قال ابن معين : " ما كان بالكوفة أعلم بسيفان الثوري من الأشجعي " . وهو ثقة مأمون. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " عبد الله الأشجعي " ، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة : " فليستعفف عن ماله " ، وأثبت الصواب من المخطوطة.

(7/586)


8624 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا حرمي بن عمارة قال ، حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة في مال اليتيم : يدُك مع أيديهم ، ولا تتخذ منه قَلَنْسُوة.
8625 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء وعكرمة قالا تضع يدك مع يده.
* * *
وقال آخرون : بل " المعروف " في ذلك : أن يأكل ما يسدُّ جوعه ، ويلبس ما وارَى العورة.
* ذكر من قال ذلك :
8626 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : إن المعروف ليس بِلبس الكتَّان ولا الحُلَل ، ولكن ما سدَّ الجوع ووارى العورة.
8627 - حدثنا بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان يقال : ليس المعروف بلبس الكتان والحلل ، ولكن المعروفَ ما سد الجوع ووارى العورة.
8628 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم نحوه.
8629 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو معبد قال : سئل مكحول عن وَالي اليتيم ، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرًا ؟ قال : يده مع يده. قيل له : فالكسوة ؟ قال : يلبس من ثيابه ، فأما أن يتخذ من ماله مالا لنفسه فلا.
8630 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فليأكل بالمعروف " ، قال : ما سد الجوع ووارى

(7/587)


العورة. أما إنه ليس لَبُوس الكتان والحلل. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك " المعروف " ، أكل تمْره ، وشرب رِسْل ماشيته ، (2) بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة ، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض.
* ذكر من قال ذلك :
8631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموالَ أيتام ؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها ؟ (3) قال : بلى! قال : ألست تهنأ جَرْباها ؟ (4) قال : بلى! قال : ألست تَلُطُّ حياضها ؟ (5) قال : بلى! قال : ألست تَفْرِط عليها يوم وِرْدها ؟ (6) قال : بلى! قال : فأصِبْ من رسلها يعني : من لبنها.
8632 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتامًا ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي
__________
(1) الأثر : 8630 - " الأشجعي " ، هو " عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي " ، مضى قريبًا في التعليق على الأثر رقم : 8622.
(2) " الرسل " (بكسر الراء وسكون السين) : اللبن.
(3) " بغى الضالة بغاء وبغية وبغاية " (كلها بضم الباء) : نشدها وطلبها.
(4) هنأ البعير الأجرب يهنؤه ، إذا طلاه بالهناء (بكسر الهاء) ، وهو القطران ، يعالج به من الجرب.
(5) " لط الحوض يلطه لطًا " : ألصقه بالطين حتى يسد خلله ، قال ابن الأثير : " كذا جاء في الموطأ " انظر الموطأ : 934 ، ويشير به إلى الرواية الأخرى " تلوط " ، كما ستأتي في الأثر التالي. وكان في المطبوعة هنا " تليط " . ، وهي صواب أيضًا ، جاء في رواية حديث أشراط الساعة : " ولتقومن وهو يليط حوضه ، " أي يطينه أيضًا. ولكنها لم تجيء في المخطوطة ولا في مكان غيره أعرفه.
(6) " فرط يفرط فرطًا " : إذ سبق الواردة الإبل إلى الماء ، فهيأ لها الأرسان والدلاء ، وملأ الحياض واستقى لهم. و " يوم الورد " بكسر الراء ، وهو يومها الذي ترد فيه الماء. وكان في المطبوعة : " يوم ورودها " ، وهي صحيحة المعنى ، والذي في المخطوطة هو محض الصواب.

(7/588)


وأفقر ، (1) فماذا يحلّ لي من ألبانها ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، (2) وتسقى عليها ، (3) فاشرب غير مُضرّ بنسل ، (4) ولا ناهكٍ في الحلب. (5)
8633 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن أبي العالية في هذه الآية : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : من فَضل الرِّسل والتمرة. (6)
8634 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبي العالية في والي مال اليتيم قال : يأكل من رسل الماشية ومن التمرة لقيامه عليه ، ولا يأكل من المال. وقال : ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " ؟
8635 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال سمعت داود ، عن رُفيع أبي العالية قال : رُخّص لولي اليتيم أن يصيب من الرِّسل ويأكل من التمرة ، وأما الذهب والفضة فلا بد أن تردّ. ثم قرأ : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " ،
__________
(1) " منح الشاة والناقة يمنحها منحًا " : أعارها من لا ناقة له ، يأخذ من لبنها ويرعى عليها. ثم يردها عليه. و " أفقرت فلانًا بعيرًا " إذا أعرته بعيرًا يركب ظهره في سفره ثم يرده إليك ، وهو من " فقار " الظهر ، أي ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
(2) " لاطه الحوض يلوطه لوطًا " : طلاه بالطين وملسه. انظر التعليق السالف ص : 588 ، رقم : 5.
(3) في المخطوطة : " وتسعى عليها " وهو خطأ ، ورواية الموطأ : " وتسقيها يوم وردها " .
(4) " نهكت الناقة حلبًا أنهكها " ، إذا بالغت في حلبها ونقصها ، فلم يبق في ضرعها لبن. و " الحلب " (بفتح الحاء واللام) و " الحلب " (بسكون اللام) و " الحلاب " مصدر " حلب الشاء والإبل والبقر يحلبها " : إذا استخرج ما في ضرعها من اللبن.
(5) الأثران : 8631 ، 8632 - رواه مالك في الموطأ من طريق " يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد " كرواية الأثر الثاني هنا ، مع اختلاف في بعض اللفظ ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 93 ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 1 : 122 ، إلى مالك ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والنحاس في ناسخه.
(6) في المطبوعة : " والثمرة " بالثاء المثلثة ، وأثبت ما في المخطوطة هنا ، وستأتي بالمثلثة في المخطوطة في الآثار التالية ، ولكن صوابها " بالتاء " ، وانظر حجتنا في ذلك في الأثر رقم : 8636.

(7/589)


ألا ترى أنه قال : " لا بد من أن يدفع " ؟ (1)
8636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه قال : إنما كانت أموالهم إذْ ذاك النخل والماشية ، (2) فرخّص لهم إذا كان أحدهم محتاجًا أن يصيب من الرِّسْل.
8637 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا كان فقيرًا أكل من التمر ، (3) وشرب من اللبن ، وأصاب من الرسل.
8638 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، ذكر لنا أن عَمَّ ثابت بن رفاعة وثابت يومئذ يتيمٌ في حجره من الأنصار ، أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، إن ابن أخي يتيمٌ في حجري ، فما يحلُّ لي من ماله ؟ قال : أن تأكل بالمعروف ، من غير أن تقي مالك بماله ، ولا تتخذ من ماله وَفْرًا. (4) وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل ، (5) فيقوم وليه على صلاحه وَسقيه ، فيصيب من تمرته ، (6) أو تكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها ، أو يلي علاجها
__________
(1) الأثر - 8635 - " رفيع بن مهران الرياحي " ، " أبو العالية " مضى برقم : 44 ، 184 ومواضع غيرها ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا " رفيع عن أبي العالية " بزيادة " عن " وهو خطأ محض.
(2) في المطبوعة : " أدخال النخل والماشية " ، وفي المخطوطة : " ادحال " ، ولم أجد لشيء من ذلك معنى ، مع تقليبها على أكثر وجوه التصحيف ، ثم هديت إلى أن أرجح أن يكون صوابها ما أثبت ، وكأن الناسخ رأي " ذال " : " ذاك " متصلة بألفها فظنها " حاء " ، فكتب " الكاف " المتطرفة " لامًا " والذي أثبته هو حاق السياق إن شاء الله.
(3) في المطبوعة : " من الثمر " بالثاء المثلثة ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر التعليق السالف ص : 589 ، رقم : 6.
(4) " وفر ماله وفرًا " : حاطه حتى يكثر ويصير وافرًا ، يعني : أن يتأثل مالا لنفسه ويجمعه من مال يتيمه.
(5) " الحائط " البستان من النخل ، إذا كان عليه حائط ، وهو الجدار ، فإذا لم يحيط فهو " ضاحية " .
(6) في المطبوعة : " ثمرته " ، والصواب من المخطوطة ، وانظر ص589 تعليق : 6 والتعليق السالف : 3.

(7/590)


ومؤونتها ، فيصيب من جُزَازها وَعوارضها ورِسْلها. (1) فأما رقاب المال وأصول المال ، (2) فليس له أن يستهلكه. (3)
8639 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ابن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، يعني ركوب الدابة وخدمة الخادم. فإن أخذ من ماله قرضًا في غنى ، فعليه أن يؤديه ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا.
* * *
وقال آخرون منهم : له أن يأكل من جميع المال ، إذا كان يلي ذلك ، وإن أتى على المال ، ولا قضاء عليه.
* ذكر من قال ذلك :
8640 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسماعيل بن صبيح ، عن أبي أوَيس ، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعًا ، عن القاسم بن محمد قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلُح لوليّ اليتيم قال : إن كان غنيًّا فليستعفف ، وإن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف. (4)
__________
(1) الجزاز والجزازة (بضم الجيم) والجزز (بفتحتين) والجزة (بكسر الجيم وتشديد الزاي) ، وجمعها جزز (بكسر ففتح) : هو ما يجزه من صوف الشاة وغيرها. ورواية اللسان والفائق للزمخشري " جززها " جمع " جزة " . " والعوارض " جمع عارضة ، وهي الشاة أو البعير تصيبه آفة أو كسر أو داء فيذبحونها ، ومن هجائهم : " بنو فلان لا يأكلون إلا العوارض " ، أي : لا ينحرون الإبل إلا من داء يصيبها. " والرسل " اللبن.
(2) " رقاب المال " يعني من الأنعام ، و " أصول المال " يعني من النخيل.
(3) الأثر : 8638 - ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة ، في ترجمة " ثابت بن رفاعة " ، ولم ينسبه لابن جرير ، ونسبه لابن مندة ، وابن فتحون ، من طريق عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، وقال : " هذا مرسل ، رجاله ثقات " .
(4) الأثر : 8640 - " إسماعيل بن صبيح اليشكري " مضى برقم : 2996. و " أبو أويس " هو : " عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي " ، ابن عم مالك وصهره على أخته ، قال ابن معين : " صدوق ، وليس بحجة " . وقال أبو حاتم : " يكتب حديثه ، ولا يحتج به ، وليس بالقوي " . مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " عن أبي إدريس " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(7/591)


8641 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب كان يقول : يحل لوليِّ الأمر ما يحلّ لولي اليتيم : " من كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " .
8642 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الفضل بن عطية ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا احتاج فليأكل بالمعروف ، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه.
8643 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى فقال : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، ومعروفُ ذلك : أن يتقي الله في يتيمه.
8644 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى قضاءً على وليّ اليتيم إذا أكل وهو محتاجٌ.
8645 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : " فليأكل بالمعروف " ، في الوصي ، قال : لا قضاء عليه.
8646 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا عمل فيه وليُّ اليتيم أكل بالمعروف.
8647 - حدثنا بشر بن محمد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : إذا احتاج أكل بالمعروف من المال طُعْمَةً من الله له. (1)
__________
(1) " طعمة " (بضم فسكون) : رزق ومأكلة ، يقال : " جعل السلطان ناحية كذا طعمة لفلان " أي : مأكلة يأكل منها كما يأكل من كسبه.

(7/592)


8648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن البصري قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن في حجري يتيمًا ، أفأضربه ؟ قال : فيما كنت ضاربًا منه ولدك ؟ قال : أفأصيب من ماله ؟ قال : بالمعروف ، غير متأثِّل مالا ولا واقٍ مالك بماله. (1)
8649 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن الزبير بن موسى ، عن الحسن البصري ، مثله. (2)
8650 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء أنه قال : يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم ، كقَدْر خدمته وقَدْرِ عمله.
8651 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : والي اليتيم ، إذا كان محتاجًا ، يأكل بالمعروف لقيامه بماله.
8652 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله تبارك وتعالى : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، قال : إن استغنى كفَّ ، وإن كان فقيرًا أكل بالمعروف. قال : أكل بيده معهم ، لِقيامه على أموالهم ، وحفظه إياها ، يأكل مما يأكلون منه. وإن استغنى كفَّ عنه ولم يأكل منه شيئًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : " المعروف "
__________
(1) " تأثل مالا " : اتخذ أصل مال يجمعه ويثبته ويخزنه.
(2) الأثر : 8649 - " الزبير بن موسى بن ميناء المكي " ، روى عن جابر ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن دينار ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم. روى عنه ابن جريج ، والثوري ، وابن أبي نجيح. مترجم في التهذيب. وأخشى أن يكون : " أخبرنا الثوري وابن أبي نجيح " .

(7/593)


الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله. (1)
وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته. فلما كان إجماعًا منهم أنه غير مالكه ، (2) وكان غيرَ جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيمًا كان ربُّ المال أو مدركًا رشيدًا وكان عليه إن تعدَّى فاستهلكه بأكل أو غيره ، ضمانه لمن استهلكه عليه ، بإجماع من الجميع وكان والي اليتيم سبيلُه سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه (3) كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه ، سبيلُه سبيلُ غيره ، وإن فارقه في أنّ له الاستقراضَ منه عند الحاجة إليه ، كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه ، إذا كان قيِّمًا بما فيه مصلحته.
* * *
ولا معنى لقول من قال : " إنما عنى بالمعروف في هذا الموضع ، أكل والي اليتيم من مال اليتيم ، لقيامه عليه على وجه الاعتياض على عَمله وسعيه " . لأنّ لوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره ، إذا كان اليتيم محتاجًا إلى ذلك بأجرة معلومة ، كما يستأجر له غيره من الأجَراء ، وكما يشتري له مَن يعينه ، (4) غنيًّا كان الوالي أو فقيرًا.
وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد دل بقوله : " ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ، على أن أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من وُلاته في حال الفقر والحاجة وكانت الحالُ التي للولاة
__________
(1) في المخطوطة " له أكلها " ، وهو من سهو الناسخ.
(2) في المخطوطة : " إجماعًا منه " ، وهو أيضًا من سهو الناسخ.
(3) السياق : " فلما كان إجماعًا منهم... كان كذلك حكمه... " وما بينهما عطف وفصل.
(4) في المطبوعة : " وكما يشتري له من نصيبه " ، ولا معنى لذلك ، وهي في المخطوطة غير بينة ، واجتهدت قراءتها كما أثبتها ، أي يشتري له رقيقًا يعينه.

(7/594)


أن يُؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلى الأجراء ، غير مخصوص بها حال غِنًى ولا حال فقر (1) كان معلومًا أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كل أحوالهم ، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال.
ومن أبى ما قلنا ، ممن زعم أن لولي اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض ، استدلالا بهذه الآية قيل له : أمجمَعٌ على أن الذي قلت تأويل قوله : " ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف " ؟
فإن قال : لا!
قيل له : فما برهانك على أن ذلك تأويله ، وقد علمت أنه غيرُ مالك مالَ يتيمه ؟
فإن قال : لأن الله أذن له بأكله!
قيل له : أذن له بأكله مطلقًا أم بشرط ؟ (2)
فإن قال : بشرطٍ ، وهو أن يأكله بالمعروف.
قيل له : وما ذلك " المعروف " ؟ وقد علمت القائلين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن ذلك هو أكله قرضًا وسلَفًا ؟
ويقال لهم أيضًا مع ذلك : أرأيت المولَّى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه ، ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه على غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها ، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم ؟ فإن قالوا : ذلك لهم خرجوا من قول جميع الحجة.
وإن قالوا : ليس ذلك لهم.
قيل لهم : فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى ، وحكمُ ولاتهم واحدٌ : في أنهم ولاة أموال غيرهم ؟
__________
(1) السياق : " وإذ كان ذلك كذلك... كان معلومًا... " ، وما بينهما عطف وفصل.
(2) في المخطوطة : " أذن له بأكله مطلقًا بشرط بشرط " ، وهو سهو ناسخ ، والصواب ما في المطبوعة.

(7/595)


فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله. (1)
ويُسألون كذلك عن المحجور عليه : هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه ؟ نحو سؤالِنَاهُمْ عن أموال المجانين والمعاتيه.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا دفعتم ، يا معشرَ ولاة أموال اليتامى ، إلى اليتامى أموالهم " فأشهدوا عليهم " ، يقول : فأشهدوا على الأيتام باستيفائهم ذلك منكم ، ودفعكموه إليهم ، كما : -
8653 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " ، يقول : إذا دفع إلى اليتيم ماله ، فليدفعه إليه بالشهود ، كما أمره الله تعالى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وكفى بالله كافيًا من الشهود الذين يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه ، كما : -
8654 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكفى بالله حسيبًا " ، يقول : شهيدًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فلن يقولوا في أحدهم " ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت.

(7/596)


يقال منه : " قد أحسبني الذي عندي " ، يراد به : كفاني. وسمع من العرب : " لأحْسِبَنَّكم من الأسودين " يعني به : من الماء والتمر (1) " والمُحْسِب " من الرجال : المرتفع الحسب ، " والمُحْسَب " ، المكفِيُّ. (2)
* * *
__________
(1) قيل في شرح هذه الكلمة : " أي : لأوسعن عليكم " ، وهو بمعنى الكفاية.
(2) وانظر تفسير " حسبه " فيما سلف 4 : 244 / 7 : 405.

(7/597)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

القول في تأويل قوله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : للذكور من أولاد الرجل الميِّت حصة من ميراثه ، وللإناث منهم حصة منه ، من قليل ما خلَّف بعده وكثيره ، حصة مفروضة ، (1) واجبةٌ معلومة مؤقتة. (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يُورِّثون الذكور دون الإناث ، كما : -
8655 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كانوا لا يورِّثون النساء ، فنزلت : " وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون " .
__________
(1) انظر تفسير " الفرض " فيما سلف 4 : 121 / 5 : 120.
(2) موقتة : مقدرة محددة ، وأصلها من " الوقت " ثم اتسع في استعمالها في كل محدود ، ومنه حديث علي رضي الله عنه. " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها شيئًا " ، أي : لم يفرض في شرب الخمر مقدارًا معينًا من الجلد. ومنه أخذ النحويون قولهم في العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد ، مثل " زيد " هو : " معرفة موقتة " ، وانظر شرح ذلك في 1 : 181 ، تعليق : 1.

(7/597)


8656 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : نزلت في أم كحلة وابنة كَحْلة ، وثعلبة وأوس بن سويد ، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله ، توفي زوجي وتركني وابنته ، فلم نورَّث! فقال عم ولدها : يا رسول الله ، لا تركب فرسًا ، ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوًّا ، يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت : " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا " . (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 8656 - خرجه الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة " أم كجة " ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 122 ، ونسبه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم. أما الحافظ فذكر رواية الطبري وقال فيها : " نزلت في أم كجة ، وبنت أم كجة ، وثعلبة ، وأوس بن ثابت " فخالف نص الطبري في هذا الموضع ، في " أم كجة " ، و " أوس بن ثابت " كما ترى. وكانت في المطبوعة : " أم كحة " وبنت كحة بالحاء المهملة ، والصواب بضم الكاف وتشديد الجيم المفتوحة ، كما ضبطها الحافظ في الإصابة. وأما السيوطي فقال : " نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة ، أو أم كحة " ، بالحاء المهملة أيضًا وهو خطأ. وأما " أم كحلة " كما جاء في المخطوطة ، وكما أثبتها ، فقد قال الحافظ في الإصابة أيضًا : " وأما المرأة ، فلم يختلف في أنها أم كجة - بضم الكاف وتشديد الجيم - إلا ما حكى أبو موسى عن المستغفري أنه قال فيها : أم كحلة - بسكون المهملة بعدها لام ، وإلا ما تقدم من أنها بنت كجة ، كما في روايتي ابن جريج ، فيحتمل أن تكون كنيتها وافقت اسم أبيها ، فيستفاد من رواية ابن جريج أنها أم كلثوم " .
وهذا كأنه ينفي أن تكون رواية الطبري : " أم كحلة " ، ولكن المخطوطة أثبتت ذلك واضحًا في الموضعين ، فلم أجد سبيلا إلى إغفالها أو تغييرها مع هذه الرواية التي رواها الحافظ عن المستغفري ، وثبوتها أيضًا في نص السيوطي ، فيما نقله عن الطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر.
وسيأتي ذكر أم كجة في الأثر رقم : 8725 وأنها امرأة عبد الرحمن أخو حسان بن ثابت ، فانظر التعليق على الأثر هناك.
وأما " أوس بن سويد " فكما رأيت ، ذكره الحافظ منسوبًا إلى ابن جرير " أوس بن ثابت " ، ولكن الثابت في أصول التفسير وما نقل عنه ، " أوس بن سويد " . وقد ترجم الحافظ لأوس بن ثابت الأنصاري وأوس بن سويد ، ولثعلبة بن ثابت الأنصاري ، وثعلبة بن سويد ، وذكر الاختلاف في اسميهما في هذه القصة نفسها. وقد تركت نص الطبري كما هو ، واكتفيت بإثبات الاختلاف الذي ذكر الحافظ ابن حجر ، ومن شاء فليستوفه من هناك ، ومن مظانه الأخرى.
* * * وقوله : لا تحمل كلا " : أي لا تلي أمر العيال والسعي عليهم. " والكل " : العيال ، يحتاجون إلى من يحملهم ويرزقهم ، كاليتيم وغيره.
وقوله : " ولا تنكى عدوًا " ، يقال منه : " نكيت العدو أنكى (بكسر الكاف) نكاية " ، إذا أصاب منهم ، فقتل وأكثر الجراح. ويقال فيه أيضًا : " ونكأت العدو " بالهمز ، بمعناه. وكان في المطبوعة ؛ " ولا تنكأ " بالهمز ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما صواب جميعًا.

(7/598)


8657 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " ، قال : كان النساء لا يورَّثن في الجاهلية من الآباء ، (1) وكان الكبير يرث ، ولا يرث الصغير وإن كان ذكرًا ، فقال الله تبارك وتعالى : " للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون " إلى قوله : " نصيبًا مفروضًا " .
قال أبو جعفر : ونصب قوله : " نصيبًا مفروضًا " ، وهو نعت للنكرة ، لخروجه مخرجَ المصدر ، كقول القائل : " لك عليّ حقّ واجبًا " . ولو كان مكان قوله : " نصيبًا مفروضًا " اسم صحيح ، لم يجز نصبه. لا يقال : " لك عندي حق درهمًا " فقوله : " نصيبًا مفروضًا " ، كقوله : نصيبًا فريضة وفرضًا ، كما يقال : " عندي درهم هبةً مقبوضة " . (2)
* * *
تم الجزء السابع من تفسير الطبري
ويليه الجزء الثامن ، وأوّله
__________
(1) في المطبوعة : " لا يرثن " غير ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 257 ، فهو كنص عبارته.

(7/599)


وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (8) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية ، هل هو محكم أو منسوخ ؟
فقال بعضهم : هو محكم.
ذكر من قال ذلك :
8658 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال ، محكمة ، وليست منسوخة يعني قوله : " وإذا حضر القسمة أولوا القربى " الآية.
8659 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله. (1) .
8660 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا هي محكمة. (2) .
8661 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، واجب ، ما طابت به أنفس أهل الميراث.
__________
(1) الأثر : 8659 - هذا الأثر ساقط من المطبوعة ، وخلط بينه وبين الذي يليه.
(2) الأثر 8660 - كان في المطبوعة : " حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان... " ، وضع " الأشجعي " من الإسناد السالف الذي أسقطه ، مكان " ابن يمان " فأعدتها إلى الصواب من المخطوطة.

(7/7)


8662 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين " ، قال ، هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.
8663 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا هي محكمة ، ليست بمنسوخة.
8664 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن ، عن سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، هي واجبة على أهل الميراث ، ما طابت به أنفسهم.
8665 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : أنه سئل عن قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " فقال سعيد : هذه الآية يتهاون بها الناس. قال ، وهما وليَّان ، أحدهما يرث ، والآخر لا يرث. والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم قال ، يعطيهم قال ، والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا. وهي محكمة وليست بمنسوخة.
8666 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم بنحو ذلك وقال ، هي محكمة وليست بمنسوخة.
8667 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن مطرف ، عن الحسن قال ، هي ثابتة ، ولكن الناس بخلوا وشحوا.
8668 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا منصور والحسن قالا هي محكمة وليست بمنسوخة.
8669 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال ، هي قائمة يعمل بها.
8670 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،

(7/8)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، ما طابت به الأنفس حقا واجبا.
8671 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن والزهري قالا في قوله : " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " قال ، هي محكمة.
8672 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا منصور ، عن قتادة ، عن يحيى بن يعمر قال ، ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس : هذه الآية : وآية الاستئذان : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [سورة النور : 58] ، وهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) [سورة الحجرات : 13].
8673 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، كان الحسن يقول : هي ثابتة.
* * *
وقال آخرون : منسوخة.
ذكر من قال ذلك :
8674 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد أنه قال في هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " قال ، كانت هذه الآية قسمة قبل المواريث ، فلما أنزل الله المواريث لأهلها ، جعلت الوصية لذوي القرابة الذين يحزنون ولا يرثون.
8675 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا قرة بن خالد ، عن قتادة قال ، سألت سعيد بن المسيب عن هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " قال ، هي منسوخة.

(7/9)


8676 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال ، كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث ، فلما كانت الفرائض والمواريث نسخت.
8677 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال ، نسختها آية الميراث.
8678 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك مثله.
8679 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى " الآية ، إلى قوله : " قولا معروفًا " ، وذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمَّى المتوفَّي.
8680 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال ، نسختها المواريث.
* * *
وقال آخرون : " هي محكمة وليست بمنسوخة ، غير أن معنى ذلك : " وإذا حضر القسمة " ، يعني بها قسمة الميت ماله بوصيته لمن كان يوصي له به " . قالوا : وأمر بأن يجعل وصيته في ماله لمن سماه الله تعالى في هذه الآية.
ذكر من قال ذلك :
8681 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد : أن عبد الله بن عبد الرحمن قَسَم ميراث أبيه ، وعائشة حية ، فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " . قال

(7/10)


القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال ، ما أصاب ، إنما هذه الوصية يريد الميت ، أن يوصي لقرابته. (1) .
8682 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني ابن أبي مليكة : أن القاسم بن محمد أخبره ، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ، فذكر نحوه.
8684 - حدثنا عمران بن موسى الصَّفَّار قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " قال ، أمر أن يوصي بثلثه في قرابته. (2) .
8684 - حدثنا ابن المبارك قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب قال ، إنما ذلك عند الوصية في ثلثه.
8685 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، قال ، هي الوصية من الناس.
8686 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " قال ، القسمة الوصية ، كان الرجل إذا أوصى قالوا : " فلان يقسم ماله " . فقال ، " ارزقوهم منه " . يقول : أوصوا لهم. يقول للذي يوصي : " وقولوا لهم قولا معروفًا " فإن لم توصوا لهم ، فقولوا لهم خيرا.
* * *
__________
(1) الأثر : 8681 - " سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي " مضت ترجمته في : 2225 ، وفي مواضع أخرى. وكان في المطبوعة : " يحيى بن سعيد الأموي " ، قدم وأخر ، والصواب من المخطوطة. و " عبد الله بن عبد الرحمن " هو : " عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق " ، وهو ابن أخت أم سلمة ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) الأثر : 8683 - " عمران بن موسى الصفار " ، مضت ترجمته برقم : 2154 ، ولكنه موصوف في التهذيب وابن أبي حاتم " القزاز " . فهذا اختلاف ينبغي أن يقيد.

(7/11)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال ، " هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وإنما عنى بها الوصية لأولي قربى الموصي وعنى باليتامى والمساكين : أن يقال لهم قول معروف " .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة من غيره ، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره ، (1) أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى التي أثبتها في كتابه أو بيَّنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، غير جائز فيه أن يقال له ناسخ لحكم آخر ، أو منسوخ بحكم آخر ، (2) إلا والحكمان اللذان قضى لأحدهما بأنه ناسخ والآخر بأنه منسوخ ناف كل واحد منهما صاحبه ، غيرُ جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه ، وإن كان جائزًا صرفه إلى غير النسخ أو تقولَ بأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ ، حجة يجب التسليم لها.
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 471 ، 472 ، 482 ، 534 ، 535 / 3 : 385 ، 563 / 4 : 582 / 5 : 414 / 6 : 54 ، 118.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أو منسوخ لحكم " باللام ، والصواب بالباء.

(7/12)


وإذْ كان ذلك كذلك ، لما قد دللنا في غير موضع وكان قوله تعالى ذكره : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، محتملا أن يكون مرادا به : وإذا حضر قسمة مال قاسمٍ مالَه بوصيةٍ ، أولو قرابته واليتامى والمساكين ، فارزقوهم منه - يراد : فأوصوا لأولي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه ، وقولوا لليتامى والمساكين قولا معروفًا ، كما قال في موضع آخر : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [سورة البقرة : 180] ، ولا يكون منسوخا بآية الميراث (1) لم يكن لأحد صرفه إلى أنه منسوخ بآية الميراث ، إذ كان لا دلالة على أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة ، وهو محتمل من التأويل ما بينَّا. وإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل قوله : " وإذا حضر القسمة " ، قسمة الموصي ماله بالوصية ، أولو قرابته " واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، يقول : فاقسموا لهم منه بالوصية ، يعني : فأوصوا لأولي القربى من أموالكم " وقولوا لهم " ، يعني الآخرين ، وهم اليتامى والمساكين " قولا معروفًا " ، يعني : يدعى لهم بخير ، (2) كما قال ابن عباس وسائر من ذكرنا قوله قبلُ.
* * *
وأما الذين قالوا : " إنّ الآية منسوخة بآية المواريث " ، والذين قالوا : " هي محكمة ، والمأمور بها ورثة الميت " فإنهم وَجّهوا قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، يقول : فأعطوهم منه " وقولوا لهم قولا معروفًا " ، وقد ذكرنا بعضَ من قال ذلك ، وسنذكر بقية من قال ذلك ممن لم نذكره :
8687 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " ، أمر الله جل ثناؤه المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يَصِلوا أرحامهم ويتاماهم من الوصية ، إن كان أوصىَ ، وإن لم تكن وصية ، وصَل إليهم من مواريثهم.
8688 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإذا حضر القسمة أولو القربى " الآية ، يعني : عند قسمة الميراث.
8689 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة : أن أباه أعطاهُ من ميراث المُصْعب ، حين قسم ماله.
8690 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا
__________
(1) السياق : " وإذ كان ذلك كذلك ، لما قد دللنا في غير موضع... لم يكن لأحد... " وما بينهما عطف وفصل وبيان.
(2) انظر تفسير " قول معروف " فيما سلف 7 : 572 ، 573 تعليق : 2 ثم 582 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(7/13)


عوف ، عن ابن سيرين قال ، كانوا يرضخون لهم عند القسمة. (1) .
8691 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن الحسن عن حِطَّان : أن أبا موسى أمر أن يُعْطَوا إذا حضر قسمة الميراث : أولو القربى واليتامى والمساكين والجيرانُ من الفقراء.
8692 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ، ومحمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال ، قسم أبو موسى بهذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " .
8693 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد ويحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطّان ، عن أبي موسى في هذه الآية : " وإذا حضر القسمة " الآية قال ، قضى بها أبو موسى.
8694 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر في الميراث إذا قُسم قال ، كانوا يعطون منه التابوت والشيء الذي يُستحيى من قسمته. (2)
8695 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن الحسن وسعيد بن جبير ، كانا يقولان : ذاك عند قسمة الميراث.
8696 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي العالية والحسن قالا يرضخون ويقولون قولا معروفًا ، في هذه الآية : " وإذا حضر القسمة " .
* * *
ثم اختلف الذين قالوا : " هذه الآية محكمة ، وأن القسمة لأولي القربى
__________
(1) رضخ له من ماله رضيخة : أعطاه عطية مقاربة أو قليلة.
(2) أشكل على قوله : " والتابوت " هنا ، وما أراد به.

(7/14)


واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث ، إن كان بعض أهل الميراث صغيرًا فقسم عليه الميراث وليُّ ماله " .
فقال بعضهم : ليس لوليّ ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئًا ، لأنه لا يملك من المال شيئا ، ولكنه يقول لهم قولا معروفًا. قالوا : والذي أمرَه الله بأن يقول لهم معروفًا ، هو ولي مال اليتيم إذا قسم مالَ اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم ، إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة ، فيعطيهم من نصيبه ، ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم. قالوا : فأما من مال الصغير ، فالذي يولَّى عليه ماله ، لا يجوز لوليّ ماله أن يعطيهم منه شيئًا.
ذكر من قال ذلك :
8697 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي سعيد قال ، سألت سعيد بن جبير ، عن هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " قال ، إن كان الميت أوصى لهم بشيء ، أنفذت لهم وصيتهم ، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانوا صغارًا قال وليهم : إني لست أملك هذا المال وليس لي ، وإنما هو للصغار. فذلك قوله : " وقولوا لهم قولا معروفًا " .
8698 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا " قال ، هما وليان ، وليٌّ يرث ، وولي لا يرث. فأما الذي يرث فيعطَى ، وأما الذي لا يرث فقولوا له قولا معروفًا.
8699 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثني داود ، عن الحسن وسعيد بن جبير كانا يقولان : ذلك عند قسمة الميراث. إن كان الميراث لمن قد أدرك ، فله أن يكسو منه وأن يطعم الفقراء والمساكين. وإن كان

(7/15)


الميراث ليتامى صغار ، فيقول الولي : " إنه ليتامى صغار " ، ويقول لهم قولا معروفًا. (1)
8700 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي سعد ، عن سعيد بن جبير قال ، إن كانوا كبارًا رضخوا ، وإن كانوا صغارًا اعتذروا إليهم. (2)
8701 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سليمان الشيباني ، عن عكرمة : " وإذا حضر القسمة أولو القربى " قال ، كان ابن عباس يقول : إذا ولي شيئًا من ذلك ، يرضخ لأقرباء الميت. وإن لم يفعل ، اعتذر إليهم وقال لهم قولا معروفًا.
8702 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا " ، هذه تكون على ثلاثة أوجه : أما وجْهٌ ، فيوصي لهم وصية ، (3) فيحضرون ويأخذون وصيتهم وأما الثاني ، فإنهم يحضرون فيقتسمون إذا كانوا رجالا فينبغي لهم أن يعطوهم وأما الثالث ، فتكون الورثة صغارًا ، فيقوم وليّهم إذا قسم بينهم ، فيقول للذين حضروا : " حقكم حق ، وقرابتكم قرابة ، ولو كان لي في الميراث نصيب لأعطيتكم ، ولكنهم صغار ، فإن يكبروا فسيعرفون
__________
(1) الأثر : 8699 - في المطبوعة " حدثنا ابن داود " ، وهو خطأ أوقعته فيه المخطوطة فإن كتب أولا " حدثنا " ثم ضرب على " ثنا " وكتب " ثني " ، مكانها ، فظنها القارئ " ابن " فكتب ما كتب. و " داوود " هو : " داود بن أبي هند " ، وقد مضت ترجمته فيما سلف : 1608 ، وفي غيره من المواضع.
(2) الأثر : 8700 - في المطبوعة : " عن أبي سعيد ، عن سعيد بن جبير " وأثبت ما في المخطوطة. و " أبو سعد " ، هو : " أبو سعد الأرحبي الكوفي " قارئ الأزد ، ويقال ، " أبو سعيد " روى عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة : " أما الأول ، فيوصي لهم... " ، كأنه ظن عبارة الخبر خطأ ، فغيرها لتطابق قوله بعد : " وأما الثاني " ، والذي في المخطوطة صواب جدًا ، ولا معنى لتغييره.

(7/16)


حقكم " ، فهذا القول المعروف. (1)
8703 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن رجل ، عن سعيد أنه قال ، " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا " قال ، إذا كان الوارث عند القسمة ، فكان الإناء والشيء الذي لا يستطاع أن يقسم ، فليرضخ لهم. وإن كان الميراث لليتامى ، فليقل لهم قولا معروفًا.
* * *
وقال آخرون منهم : ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين ، فإن كان الورثة كبارًا تولَّوا عند القسمة إعطاءهم ذلك ، وإن كانوا صغارًا تولّى إعطاء ذلك منهم وليُّ مالهم.
ذكر من قال ذلك :
8704 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس في قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، فحدث عن محمد ، عن عبيدة : أنه وَلِي وصية ، فأمر بشاة فذبحت وصنع طعامًا ، لأجل هذه الآية ، وقال ، لولا هذه الآية لكان هذا من مالي قال ، وقال الحسن : لم تنسخ ، كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق قال يونس : إن محمد بن سيرين ولي وصية - أو قال ، أيتاما - فأمر بشاة فذبحت ، فصنع طعامًا كما صنع عبيدة.
8705 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا هشام بن حسان ، عن محمد : أن عبيدة قسم ميراث أيتام ، فأمر بشاة فاشتريت من مالهم ،
__________
(1) الأثر : 8702 - في المخطوطة والمطبوعة : " حدثنا أحمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل " ، وهو خطأ صوابه : " حدثنا محمد بن الحسين " . وقد مضت ترجمته برقم : 7120. ومضى إسناده مئات من المرات على الصواب ، أقربها رقم : 8654.

(7/17)


وبطعام فصنع ، وقال ، لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي. ثم قرأ هذه الآية : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر : فكأن من ذهب من القائلين القولَ الذي ذكرناه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، ومن قال ، " يرضخ عند قسمة الميراث لأولي القربى واليتامى والمساكين " ، تأول قوله : " فارزقوهم منه " ، فأعطوهم منه وكأن الذين ذهبوا إلى ما قال عبيدة وابن سيرين ، تأولوا قوله : " فارزقوهم منه " ، فأطعموهم منه.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله : " وقولوا لهم قولا معروفًا " .
فقال بعضهم : هو أمر من الله تعالى ذكره ولاةَ اليتامى أن يقولوا لأولي قرابتهم ولليتامى والمساكين إذا حضروا قسمتهم مالَ من وَلُوا عليه ماله من الأموال بينهم وبين شركائهم من الورثة فيها ، أن يعتذروا إليهم ، على نحو ما قد ذكرناه فيما مضى من الاعتذار ، كما : -
8706 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : " وقولوا لهم قولا معروفًا " قال ، هو الذي لا يرث ، أمر أن يقول لهم قولا معروفًا. قال يقول : " إن هذا المال لقوم غُيَّب ، أو ليتامى صغار ، ولكم فيه حق ، ولسنا نملك أن نعطيكم منه شيئًا " . قال ، فهذا القول المعروف.
* * *
وقال آخرون : بل المأمور بالقول المعروف الذي أمر جل ثناؤه أن يقال له ، هو الرجل الذي يوصي في ماله و " القول المعروف " ، هو الدعاء لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الخير ، وقد ذكرنا قائلي ذلك أيضًا فيما مضى. (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، زاد بعد قوله : " فيما مضى " " بما أغنى عن إعادته " ، كأنه استأنس بما أكثر أبو جعفر من تكرار مثل هذه الجملة ، ولكنها ليست في المخطوطة ، والكلام هنا غني عنها.

(7/18)


وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (9) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك : فقال بعضهم : " وليخش " ، ليخف الذين يحضرون موصيًا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصيةً منه فيمن لا يرثه ، (1) ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي ، يسره أن يحثَّه من يحضره على حفظ ماله لولده ، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال. (2) .
ذكر من قال ذلك :
8707 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " إلى آخر الآية ، فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضر بورثته ، فأمر الله سبحانه الذي سمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يُصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيَّعة.
8708 - حدثنا علي قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم " ، يعني : الذي يحضره الموت فيقال له : " تصدق من مالك ، وأعتق ، وأعط منه في سبيل الله " . فنهوا أن يأمروه بذلك يعني أن من حضر
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وصية به " ، والصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 1 : 559 ، 560 / 2 : 239 ، 243 ، تعليق : 3 ثم انظر " الذرية " فيما سلف 3 : 19 ، 73 / 5 : 543 / 6 : 327 ، 361 ، 362 ثم تفسير " الضعفاء " و " الضعاف " 5 : 543 ، 551 ، والأثر الآتي رقم : 8708.

(7/19)


منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله ، ولكن يأمره أن يبيِّن ماله وما عليه من دين ، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون ، ويوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول : أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغار أن يتركهم بغير مال ، فيكونوا عيالا على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ، ولكن قولوا الحق من ذلك.
8709 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " ، قال يقول : من حضر ميتًا فليأمره بالعدل والإحسان ، ولينهه عن الحَيْف والجور في وصيته ، وليخش على عياله ما كان خائفًا على عياله لو نزل به الموت.
8710 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " قال ، إذا حضرتَ وصية ميت فمره بما كنت آمرًا نفسك بما تتقرَّب به إلى الله ، وخَفْ في ذلك ما كنت خائفًا على ضَعَفَةٍ ، لو تركتهم بعدك. (1) يقول : فاتّق الله وقل قولا سديدًا ، إن هو زاغ.
8711 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا " ، الرجل يحضره الموت ، فيحضره القوم عند الوصية ، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له : " أوصِ بمالك كله ، وقدم لنفسك ، فإن الله سيرزق عيالك " ، ولا يتركوه يوصي بماله كله ، يقول للذين حضروا : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم " ، فيقول : كما
__________
(1) في المطبوعة : " على ضعفتك " ، زاد إضافة الكاف ، وما في المخطوطة صواب محض ، وعنى بقوله " ضعفة " : صغار.

(7/20)


يخاف أحدكم على عياله لو مات - إذ يتركهم صغارًا ضعافًا لا شيء لهم - الضيعة بعده ، (1) فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم ، فيقول له القول السديد.
8712 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب قال ، ذهبت أنا والحكم بن عتيبَة إلى سعيد بن جبير ، فسألناه عن قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " الآية ، قال قال ، الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : " اتق الله ، صلهم ، أعطهم ، بِرَّهم " ، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية ، لأحبوا أن يُبقوا لأولادهم. (2)
8713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " قال ، يحضرهم اليتامى فيقولون : " اتق الله ، وصلهم ، وأعطهم " ، فلو كانوا هم ، لأحبُّوا أن يبقوا لأولادهم.
8714 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " ، الآية ، يقول : إذا حضر أحدكم من حضره الموتُ عند وصيته ، فلا يقل : " أعتق من مالك ، وتصدق " ، فيفرِّق ماله ويدع أهله عُيَّلا (3) ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه ، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله ، ويدع سائره لورثته.
8715 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وليخش الذين لو تركوا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يتركهم صغارًا... " ، وهذا لا يستقيم ، فآثرت " إذ يتركهم " ، وصواب أيضًا أن تكون " إن تركهم صغارًا " .
(2) الأثر : 8712 - " الحكم بين عتيبة الكندي " ، مضت ترجمته برقم : 3297 ، وكان في المطبوعة : " بن عيينة " وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط. وانظر التعليق على الأثر : 8716.
(3) " عيل " (بضم العين وتشديد الياء المفتوحة) و " عالة " جمع " عائل " : وهو الفقير المحتاج.

(7/21)


من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم " الآية قال ، هذا يفرِّق المال حين يقسم ، فيقول الذين يحضرون : " أقللت ، زد فلانًا " ، فيقول الله تعالى : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " ، فليخش أولئك ، وليقولوا فيهم مثل ما يحب أحدهم أن يقال في ولده بالعَدل إذا أكثر : " أبق على ولدك " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمروه بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي ، لسرَّهم أن يوصي لهم.
ذكر من قال ذلك :
8716 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب قال ، ذهبت أنا والحكم بن عتيبة ، فأتينا مِقْسَمًا فسألناه يعني عن قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا " الآية فقال ، ما قال سعيد بن جبير ؟ فقلنا : كذا وكذا. فقال ، ولكنه الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : " اتق الله وأمسك عليك مالك ، فليس أحد أحقَّ بمالك من ولدك " ، ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم ، لأحبوا أن يوصي لهم. (1)
8717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت قال ، قال مِقسم : هم الذين يقولون : " اتق الله وأمسك عليك مالك " ، فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم.
8718 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن
__________
(1) الأثر : 8716 - " مقسم " ، هو " مقسم بن بجرة " . مضت ترجمته رقم : 4806. وكان في هذا الموضع أيضًا من المطبوعة " الحكم بن عيينة " ، والصواب كما أثبت ، وانظر التعليق على الأثر : 8712.

(7/22)


أبيه قال ، زعم حضرمي وقرأ : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا " ، قال قالوا : حقيقٌ أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لأهلها ، كما أن لو كانت ذرية نفسه بتلك المنزلة ، لأحب أن يوصي لهم ، وإن كان هو الوارث ، فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحق عليه ، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحب أن يُحَثَّ عليه ، فليتق الله هو ، فليأمره بالوصية ، وإن كان هو الوارث ، أو نحوًا من ذلك. (1) .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، أمرٌ من الله ولاةَ اليتامى أن يلُوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، ولا يأكلوا أموالهم إسرافًا وبدارًا أن يكبروا ، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصِّغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم ، لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارًا.
__________
(1) في المخطوطة : " فليق الله هو قلت أمره بالوصية " ، وهو كلام غير مفهوم ، ولم أهتد لصحة وجهه ، فتركت ما في المطبوعة على حاله ، وإن كانت الجملة كلها عندي غير مرضية في المخطوطة والمطبوعة جميعًا ، وأخشى أن يكون سقط منها شيء.

(7/23)


ذكر من قال ذلك :
8719 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم " ، يعني بذلك الرجلَ يموت وله أولاد صغارٌ ضعاف ، يخاف عليهم العَيْلة والضيعة ، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم ، يقول : فإن ولي مثل ذريته ضعافًا يتامى ، فليحسن إليهم ، ولا يأكل أموالهم إسرافًا وبدارًا خشية أن يكبروا ، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا " ، يكفهم الله أمر ذريتهم بعدهم.
ذكر من قال ذلك :
8720 - حدثنا إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية قال ، حدثني عمي محمد بن رُدَيح ، عن أبيه ، عن السَّيْباني قال ، كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك ، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي ، وهانئ بن كلثوم قال ، فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان. قال ، فضقت ذرعًا بما سمعت. قال ، فقلت لابن الدَّيلمي : يا أبا بشر ، بودِّي أنه لا يولد لي ولدٌ أبدًا! قال ، فضرب بيده على مَنْكبي وقال ، يا ابن أخي ، لا تفعل ، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء ، وإن أبى. قال ، ألا أدلّك على أمرٍ إنْ أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم اللهُ فيك ؟ قال ، قلت : بلى! قال ، فتلا عند ذلك هذه الآية : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا " . (1) .
__________
(1) الأثر : 8720 - " إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية " لم أجد له ترجمة. و " محمد بن رديح " لم أجد له ترجمة ، ولكنه مذكور في ترجمة أبيه في التهذيب أنه روى عنه ابنه " محمد " . وأما " رديح بن عطية القرشي السامي " ، مؤذن بيت المقدس روى عن السيباني ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 306 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 518. وكان في المطبوعة " دريج " في الموضعين جميعًا وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة.
وأما " السيباني " فهو : " يحيى بن أبي عمرو السيباني " بالسين المهملة ، نسبة إلى " سيبان " وهو بطن من حمير. وهو ابن عم الأوزاعي. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " الشيباني " بالشين المعجمة ، والصواب ما في المخطوطة.
وأما " ابن محيريز " ، فهو : " عبد الله بن محيريز الجمحي " سكن بيت المقدس ، روى عن أبي سعيد الخدري ، ومعاوية وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة. وكان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ذكر فيهم ابن محيريز ، ورفع من ذكره وفضله. وهو تابعي ثقة من خيار المسلمين.
وأما " ابن الديلمي " ، فهو " عبد الله بن فيروز الديلمي " أبو بشر ، ويقال ، أبو بسر ، بالسين المهملة ، كان يسكن بيت المقدس ، روى عن جماعة من الصحابة ، روى عنه يحيى بن أبي عمر السيباني. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
وأما " هانئ بن كلثوم بن عبد الله بن شريك الكناني " فهو من فلسطين ، وكان عابدًا روى عن عمر بن الخطاب ، ومعاوية وغيرهما. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان عطاء الخراساني إذا ذكر ابن محيريز وهانئ بن كلثوم وغيرهم قال ، " قد كان في هؤلاء من هو أشد اجتهادًا من هانئ بن كلثوم ، لكنه كان يفضلهم بحسن الخلق " . وبعث إليه عمر بن عبد العزيز يستخلفه على فلسطين ، فأبى ، ومات في ولايته فقال ، " عند الله أحتسب صحبة هانئ الجيش " .
هذا وقد كان في المطبوعة : " يودني أنه لا يولد لي ولد أبدًا " ، والصواب من المخطوطة.

(7/24)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالآية ، قول من قال ، تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم العَيْلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم ، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليُتم والمسكنة ، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العَيْلة عليهم بعدهم ، مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب ، فليأمروا من حضروه وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا ، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية ، وما اختاره للموصين من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته. (1) .
* * *
وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : (2) من أن معنى قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم - بما قد دللنا عليه من الأدلة.
* * *
فإذا كان ذلك تأويل قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " الآية ، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " ، تأديبًا منه عبادَه في أمر الوصية بما أذِنهم فيه ، إذ كان ذلك عَقِيب الآية التي قبلها في حكم الوصية ، وكان أظهرَ معانيه ما قلنا ، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى ، مع اشتباه معانيهما ، من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وما اختاره المؤمنون... " وهو اجتهاد في تصحيح ما كان في المخطوطة ، وكان فيها : " وما اختاره المؤمنين... " ، والسياق يقتضي " للموصين " كما أثبتها ، وهي قريبة في التصحيف.
(2) انظر ما سلف : 12 وما بعدها.

(7/25)


إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله : " وليقولوا قولا سديدًا " ، قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الآية ، وبه كان ابن زيد يقول.
8721 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا " قال ، يقول قولا سديدًا ، يذكر هذا المسكين وينفعه ، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدِّي ولا يُضِرّ به ، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه ، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارًا.
* * *
و " السديد " من الكلام ، هو العدل والصواب.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (1) " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا " ، يقول : بغير حق ، " إنما يأكلون في بطونهم نارًا " يوم القيامة ، بأكلهم أموال اليتامى ظلمًا في الدنيا ، نارَ جهنم (2) " وسيصلون " بأكلهم " سعيرًا " ، كما : -
8722 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا " قال ، إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلمًا ، يُبعث يوم القيامة ولهبُ النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم. (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني بذلك... " والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) في المخطوطة : " وإن جهنم " ، وهو فاسد جدًا ، والذي في المطبوعة ، قريب من الصواب.
(3) في المطبوعة : " يأكل مال اليتيم " بالياء ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها بالباء.

(7/26)


8723 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، أخبرني أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال ، حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال ، نظرت فإذا أنا بقوم لهم مَشافر كمشافر الإبل ، وقد وُكِّل بهم من يأخذ بمشافرهم ، ثم يجعل في أفواههم صخرًا من نار يخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال ، هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا " . (1) .
8724 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرًا " قال ، قال أبي : إن هذه لأهل الشرك ، حين كانوا لا يورَّثونهم ، ويأكلون أموالهم.
* * *
وأما قوله : " وسيصلون سعيرًا " ، فإنه مأخوذ من " الصَّلا " و " الصلا " الاصطلاء بالنار ، وذلك التسخن بها ، كما قال الفرزدق : (2)
وَقَاتَلَ كَلْبُ الْحَيِّ عَنْ نَارِ أهْلِهِ... لِيَرْبِضَ فِيهَا وَالصَّلا مُتَكنَّفُ (3)
__________
(1) الأثر : 8723 - " أبو هارون العبدي " هو : " عمارة بن جوين " . روى عن أبي سعيد الخدري وابن عمر. وهو ضعيف ، وقالوا : كذاب. قال الدارقطني : " يتلون ، خارجي وشيعي " وقال ابن حبان : " كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه ، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب " . مترجم في التهذيب.
والأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 360 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 124 ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) في اللسان " صلا " 19 : 201 ، 202 ، منسوبًا لامرئ القيس ، وهو خطأ يصحح.
(3) ديوانه : 560 ، النقائض : 561 ، اللسان (صلا) ، ومضى بيت من هذه القصيدة فيما سلف 3 : 540. وهذا البيت من أبيات يصف فيها أيام البرد والجدب ، ويمدح قومه ، يقول في أولها : إذَا اغْبَرَّ آفَاقُ السَّمَاء وَكَشَّفَتْ ... كُسُورَ بُيُوتِ الْحَيِّ حَمْرَاءُ حَرْجَفُ
وَأَوْقَدَتِ الشِّعْرَى مَعَ اللَّيْلِ نَارَهَا ... وَأَمْسَتْ مُحُولا جِلْدُهَا يَتَوَسَّفُ
وَأَصْبَحَ مَوْضُوعُ الصَّقِيع كَأَنَّهُ ... عَلَى سَرَوَاتِ النِّيْبِ قُطْنٌ مٌنَدَّفُ
وَقَاتَلَ كَلْبُ الْحَيِّ ........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَجَدْتَ الثَّرى فِينَا ، إذَا يَبِسَ الثَّرَى ... وَمَنْ هُوَ يَرْجُو فَضْلَهُ الْمُتَضَيِّفُ
و " إذا اغبر آفاق السماء " ، جف الثرى ، وثار غبار الأرض من المحل وقلة المطر. والحرجف : الريح الشديدة الهبوب. و " الشعرى " تطلع في أول الشتاء ، و " أوقدت نارها " اشتد ضوءها ، وذلك إيذان بشدة البرد. ومحول جمع محل : وهو المجدب. و " يتوسف " يتقشر. و " جلدها " يعني جلد السماء ، وهو السحاب. يقول : لا سحاب فيها ، وذلك أشد للبرد في ليل الصحراء. و " الصقيع " الجليد ، و " النيب " مسان الإبل. و " سروات الإبل " أسنمتها. يقول : وقع الثلج على أسنمتها كأنه قطن مندوف. و " قاتل كلب الحي عن نار أهله " ، يقاتلهم على النار مزاحمًا لهم من شدة البرد ، يريد أن يجثم في مكان ، و " الصلا " النار ، و " متكنف " قد اجتمعوا عليه وقعدوا حوله. وقوله : " وجدت الثرى فينا " ، يقول : من نزل بنا وجد خصبًا وكرمًا في هذا الزمان الجدب ، إذ ذهبت ألبان الإبل واحترق الزرع. يقول : يجد الضيف عندنا ما يكفيه ، فنحن غياث له.

(7/27)


وكما قال العجاج :
وَصَالِيَاتٌ لِلصَّلا صُلِيُّ (1)
ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرًا من الأمور ، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك ، كما قال الشاعر : (2)
__________
(1) ديوانه : 67 ، من أرجوزته المشهورة ، يقول في أولها : بَكَيْتُ وَالْمُحْنَزِنُ البَكِيُّ ... وإنِّما يَأْتِي الصِّبا الصَّبِيُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مِنْ أنْ شَجَاكَ طَلَلٌ عَامِيُّ ... قِدْمًا يُرى مِنْ عَهْدِه الكِرْسِيُّ
مُحْرَنْجَمُ الجامِلِ والنُّؤِيُّ ... وصَالِيات . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة : " وصاليان " ، وهو خطأ. والصواب من المخطوطة والديوان. و " الصاليات " يعني : الأثافي التي توضع عليها القدور. و " الصلا " الوقود ، و " صلى " (بضم الصاد وكسر اللام وتشديد الياء) جمع صال ، من قولهم " صلى ، واصطلى " إذا لزم موضعه ، يقول : هي ثوابت خوالد قد لزمت موضعها.
(2) هو الحارث بن عباد البكري.

(7/28)


لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا ، عَلِمَ اللّهُ... وَإِنِّي بِحَرِّهَا اليَوْمَ صَالِي (1)
فجعل ما باشر من شدة الحرب وأذى القتال ، (2) بمنزلة مباشرة أذى النار وحرِّها.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق : ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) بفتح " الياء " على التأويل الذي قلناه. (3) .
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين : " وَسَيُصْلَوْنَ " بضم " الياء " بمعنى : يحرقون.
من قولهم : " شاة مَصْلية " ، يعني : مشوية.
* * *
قال أبو جعفر : والفتح بذلك أولى من الضم ، لإجماع جميع القرأة على فتح " الياء " في قوله : ( لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى ) [سورة الليل : 15] ، ولدلالة قوله : ( إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ) [سورة الصافات : 163] ، على أن الفتح بها أولى من الضم.
__________
(1) الفاخر للمفضل بن سلمة : 78 ، والخزانة 1 : 226 ، وسائر كتب التاريخ والأدب ، من أبياته المشهورة في حرب البسوس ، وكان اعتزلها ، ثم خاضها حين أرسل ولده بجيرًا إلى مهلهل فقتله مهلهل ، فقال ، قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عَنْ حِيَالِ
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُناتِهَا .... ... لا بُجَيْرٌ أَغْنَى فَتِيلا ، وَلا رَهْطُ
كُلَيْبٌ تَزَاجَرُوا عَنْ ضَلالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة : " لحرها " ، أساء قراءة ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وإجراء القتال " ، وهو قراءة رديئة لما في المخطوطة ، ولا معنى له. وفي المخطوطة : " وأحرى القتال " ، ورجحت صواب قراءتها كما أثبته.
(3) في المطبوعة : " قلنا " بحذف الهاء ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/29)


يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

وأما " السعير " : فإنه شدة حر جهنم ، ومنه قيل : " استعرت الحرب " إذا اشتدت ، وإنما هو " مَسعور " ، ثم صرف إلى " سعير " ، كما قيل : (1) " كفّ خَضِيب " ، و " لِحية دهين " ، وإنما هي " مخضوبة " ، صرفت إلى " فعيل " .
* * *
فتأويل الكلام إذًا : وسيصلون نارًا مسعَّرة ، أي : موقودة مشعلة شديدًا حرُّها.
وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك ، لأن الله جل ثناؤه قال ، ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) ، [سورة التكوير : 12] ، فوصفها بأنها مسعورة.
ثم أخبر جل ثناؤه أن أكلة أموال اليتامى يصلونها وهي كذلك. ف " السعير " إذًا في هذا الموضع ، صفة للجحيم على ما وصفنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يوصيكم الله " ، يعهد الله إليكم ، (2) " في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ، يقول : يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم وخلَّف أولادًا ذكورًا وإناثًا ، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم ، للذكر منهم مثل حظ الأنثيين ، إذا لم يكن له وارث غيرهم ، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم ، (3) في أن جميع ذلك بينهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) في المطبوعة : " قيل " ، بإسقاط " كما " ، والصواب من المخطوطة ، ولكن الكاتب أساء الكتابة. فحذفها الناشر الأول.
(2) انظر تفسير " أوصى " فيما سلف 3 : 94 ، 405.
(3) في المخطوطة : " وكباره " ، وما في المطبوعة أجود.

(7/30)


ورفع قوله : " مثل " بالصفة ، (1) وهي " اللام " التي في قوله : " للذكر " ، ولم ينصب بقوله : " يوصيكم الله " ، لأن " الوصية " في هذا الموضع عهد وإعلامٌ بمعنى القول ، و " القول " لا يقع على الأسماء المخبر عنها. (2) فكأنه قيل : يقول الله تعالى ذكره لكم : في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، تبيينًا من الله الواجبَ من الحكم في ميراث من مات وخلّف ورثة ، على ما بيَّن. لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ، ممن كان لا يلاقي العدوَّ ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ، ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية. فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سَمَّى وفرض له ميراثًا في هذه الآية ، وفي آخر هذه السورة ، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم : لهم ميراث أبيهم ، إذا لم يكن له وارث غيرهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ذكر من قال ذلك :
8725 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حظ الأنثيين " ، كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الجواريَ ولا الصغارَ من الغلمان ، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها أم كجَّة ، وترك خمس أخواتٍ ، فجاءت الورثة يأخذون ماله ، فشكت أم كجَّة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية :
__________
(1) " الصفة " ، هي حرف الجر ، وانظر ما سلف 1 : 299 ، تعليق : 1 ، وفهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(2) " الوقوع " ، هو التعدي إلى المفعول ، كما سلف 4 : 293 ، تعليق : 1 ، وفهارس المصطلحات.

(7/31)


" فإن كُنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثُلُثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف " ثم قال في أم كجة : " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن " . (1)
8726 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ، وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم ، وقالوا : " تعطى المرأة الربع والثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة!! اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغيِّره " . فقال بعضهم : يا رسول الله ، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ، ونعطي الصبيَّ الميراث وليس يغني شيئًا ؟! وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا من قاتل ، يعطونه الأكبر فالأكبر. (2)
* * *
وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل أنّ المال كان للولد قبل نزوله ، وللوالدين الوصية ، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الآية.
ذكر من قال ذلك :
8727 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو عطاء ، عن ابن عباس في قوله : " يوصيكم
__________
(1) الأثر : 8725 - " أم كجة " ، انظر ما سلف في التعليق على الأثر : 8656 ، وخبرها هناك. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " أم كحة " بالحاء. أما " عبد الرحمن أخو حسان الشاعر " ، فإنه يعني : حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري ، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة ، وساق أثر السدي ، ثم قال ، " قلت : ولم أره لغيره ، ولا ذكر أهل النسب لحسان أخًا اسمه عبد الرحمن " .
(2) في المطبوعة : " ويعطونه الأكبر " بزيادة واو لا محل لها ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/32)


الله في أولادكم " قال ، كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحبَّ ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وللزوج الشطر والربع ، وللزوجة الربع والثمن. (1)
8728 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " قال ، كان ابن عباس يقول : كان المال ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسح الله تبارك وتعالى من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم ذكر نحوه.
8729 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد عن ابن عباس مثله.
وروي عن جابر بن عبد الله ما : -
* * *
8730 - حدثنا به محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال ، سمعت جابر بن عبد الله قال ، دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ، فتوضأ ونضَح عليّ من وَضوئه ، فأفقتُ فقلت : يا رسول الله ، إنما يرثني كَلالةٌ ، فكيف بالميراث ؟ فنزلت آية الفرائض. (2)
__________
(1) الأثر : 8727 - رواه البخاري من طريق محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس. (الفتح 8 : 184 ، 12 : 19).
(2) الحديث : 8730 - رواه البخاري 1 : 261 (فتح) ، من طريق شعبة ، به. وسيأتي عقب هذا ما رواية ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر. وكذلك رواه البخاري 8 : 182 ، من طريق ابن جريج ، ورواه البخاري أيضًا 10 : 98 ، و 12 : 2 - من رواية سفيان ، عن محمد بن المنكدر.
وذكره ابن كثير 2 : 362 ، من رواية البخاري - من طريق ابن جريج - ثم قال ، " كذا رواه مسلم ، والنسائي ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، به. ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر " .
وذكره السيوطي 2 : 124 - 125 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه.

(7/33)


8731 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، حدثني محمد بن المنكدر ، عن جابر قال ، عادَني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في بني سَلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقِل ، فدعا بماءٍ فتوضأ ثم رشَّ عليّ ، فأفقتُ فقلت : يا رسول الله ، كيف أصنع في مالي ؟ فنزلت " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " . ... (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " فإن كن " ، فإن كان المتروكات " نساء فوق اثنتين " ، ويعني بقوله : " نساءً " ، بنات الميت ، " فوق اثنتين " ، يقول : أكثر في العدد من اثنتين " فلهن ثلثا ما ترك " ، يقول : فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه ، دون سائر ورثته ، إذا لم يكن الميت خلّف ولدًا ذكرًا معهن. واختلف أهل العربية في المعنى بقوله : " فإن كنّ نساء " .
* * *
فقال بعض نحوييّ البصرة بنحو الذي قلنا : فإن كان المتروكات نساء وهو أيضًا قول بعض نحوييّ الكوفة.
* * *
__________
(1) الحديث : 8731 - هو مكرر الحديث قبله ، كما أشرنا إليه.
وفي المطبوعة " فدعا بوضوء فتوضأ " . وفي المخطوطة " فدعا فتوضأ " . والذي في البخاري - من هذا الوجه - " فدعا بماء " . فالراجح أنها كانت كذلك عن الطبري ، وسقطت من الناسخ سهوًا كلمة " بماء " ، اشتبه عليه الحرفان الأخيران من " فدعا " ، بكلمة " بما " لأنهم في الأكثر لا يثبتون الهمزة فسقطت الكلمة منه.
وفي المطبوعة لم تكمل الآية بعد " في أولادكم " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/34)


وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك ، فإن كان الأولاد نساء ، وقال ، إنما ذكر الله الأولاد فقال ، " يوصيكم الله في أولادكم " ، ثم قسمَ الوصية فقال ، " فإن كنّ نساء " ، وإن كان الأولاد [نساءً ، وإن كان الأولاد واحدة] ، (1) ترجمة منه بذلك عن " الأولاد " .
* * *
قال أبو جعفر : والقول الأول الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين ، أولى بالصواب في ذلك عندي. لأن قوله : " وإن كُنّ " ، لو كان معنيًّا به " الأولاد " لقيل : " وإن كانوا " ، لأن " الأولاد " تجمع الذكور والإناث. وإذا كان كذلك ، فإنما يقال ، " كانوا " ، لا " كُنّ " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وإن كانت " ، [وإن كانت] المتروكة ابنة واحدة (2) " فلها النصف " ، يقول : فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه ، إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكرٌ ولا أنثى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وإن كان الأولاد واحدة ، ترجمة منه... " ، وفي المخطوطة : " وإن كان الأولاد واحده " ، ولم أجد لكليهما معنى ، فرجحت نصها كما أثبته بين القوسين ، استظهارًا من معنى هذه الآية كما ذكره آنفًا في صدر الكلام ، ورجحت أن قوله : " واحدة " مجلوبة من الآية التي تليها " وإن كانت واحدة " ، وفسرها كذلك ، وساقها قبل مجيئها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وإن كانت المتروكة ابنة واحدة " ، وهو لا يستقيم ، فرجحت زيادة ما زدته بين القوسين ، على سياقه في تفسير أخواتها.

(7/35)


فإن قال قائل : فهذا فرضُ الواحدة من النساء وما فوق الاثنتين ، فأين فريضة الاثنتين ؟
قيل : فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشك. (1)
* * *
وأما قوله : " ولأبويه " ، فإنه يعني : ولأبوي الميت " لكل واحد منهما السدس " ، من تَرِكته وما خلَّف من ماله ، سواءٌ فيه الوالدة والوالد ، لا يزداد واحد منهما على السدس " إن كان له ولد " ، ذكرًا كان الولد أو أنثى ، واحدًا كان أو جماعة.
* * *
فإن قال قائل : فإن كان كذلك التأويل ، (2) فقد يجب أن لا يزاد الوالدُ مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت. وذلك إن قلته ، قولٌ خلاف لما عليه الأمة مجمعة ، (3) من تصييرهم باقي تركة الميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع!
قيل : ليس الأمر في ذلك كالذي ظننتَ ، وإنما لكل واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده ، ذكرًا كان الولد أو أنثى ، واحدًا كان أو جماعة ، فريضة من الله له مسماة. فإمَّا زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة
__________
(1) كأنه يعني بذلك حديث جابر بن عبد الله ، في خبر موت سعد بن الربيع ، وإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتيه الثلثين (السنن الكبرى للبيهقي 6 : 229) ، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق وخبر زيد بن ثابت : " إذا ترك رجل وامرأة بنتًا ، فلها النصف ، وإن كانتا اثنتين أو أكثر ، فلهن الثلثان... " ، أخرجه البخاري (الفتح 12 : 8).
هذا ، وعجيب أن يترك أبو جعفر سياق الآثار لحجته في هذا الموضع ، فأخشى أن يكون قد سقط من النساخ الأوائل شيء من كتابه أو أن يكون هو قد أراد أن يسوق الآثار ، ثم غفل عنها ، وبقيت النسخ بعده ناقصة من دليل احتجاجه. وهذه أول مرة يخالف فيها أبو جعفر نهجه في تأليف هذا التفسير.
(2) في المطبوعة : " فإذ كان كذلك " ، والجيد ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " مجمعون " ، وكذلك كان في المخطوطة ، إلا أن الناسخ عاد فضرب على النون ، وجعل الواو " تاء " مربوطة منقوطة ، وتبع الناشر الأول خطأ الناسخ ، وأغفل تصحيحه!! فرددته إلى الصواب.

(7/36)


إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة ، (1) فإنما زيدها ثانيًا بقرب عصبة الميت إليه ، (2) إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض ، فلأولي عصبَة الميت وأقربهم إليه ، بحكم ذلك لها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (3) وكان الأب أقرب عصبَة ابنه وأولاها به ، إذا لم يكن لابنه الميت ابن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُث }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإن لم يكن له " ، فإن لم يكن للميت " ولد " ذكر ولا أنثى " وورثه أبواه " ، دون غيرهما من ولد وارث " فلأمه الثلث " ، يقول : فلأمه من تركته وما خلف بعده ، ثلث جميع ذلك.
* * *
فإن قال قائل : فمن الذي له الثلثان الآخران.
قيل له الأب.
فإن قال ، بماذا ؟ (4)
__________
(1) في المطبوعة : " فإن زيد على ذلك من بقية النصف " ، وأثبت ما كان في المخطوطة ، وهو صواب جيد.
(2) في المطبوعة : " لقرب عصبة الميت " وفي المخطوطة " قرب " ، وأجودهما ما أثبت.
(3) يعني بذلك ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، " أًلْحِقوا الفرائضً بِأَهْلِهَا ، فما بَقي فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذكر " (الفتح 2 : 8 ، 9 / السنن الكبرى 6 : 234) ، ويروى " لأدنى رجل " ، ومعناه : لأقرب رجل من العصبة. وهذا أيضًا غريب من أبي جعفر في ترك ذكر حجته من الحديث ، كشأنه في جميع ما سلف ، وانظر ص : 36 ، تعليق : 1 ، وكأنه كان يختصر في هذا الموضع ، وترك ذكر حجته ؛ لأنه لا بد أن يكون قد استوفاها في موضعها من كتبه الأخرى.
(4) في المطبوعة : " فإن قال قائل : بماذا " ، و " قائل " زيادة لا شك فيها ، والصواب ما في المخطوطة.

(7/37)


قلت : بأنه أقرب أهل الميت إليه ، (1) ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان ، إذ كان قد بيَّن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباده (2) أن كل ميِّت فأقربُ عصبته به ، أولى بميراثه ، بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه.
وهذه العلة ، هي العلة التي من أجلها سُميّ للأمّ ما سُمىَ لها ، إذا لم يكن الميت خلًف وارثًا غير أبويه ، لأن الأم ليست بعصبة في حالٍ للميت. فبيّن الله جل ثناؤه لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت ، وترك ذكرَ مَن له الثلثان الباقيان منه معه ، إذ كان قد عرّفهم في جملة بيانه لهم مَنْ له بقاياتركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم ، وكان بيانه ذلك ، مغنيًا لهم على تكرير حكمه مع كل من قَسَم له حقًّا من ميراث ميت ، وسمي له منه سهمًا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ }
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، (4) وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟
قلت (5) اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد ، فكان في إبانة
__________
(1) في المخطوطة : " بأنه أقرب ولد الميت إليه " ، وهو خطأ وسهو من الناسخ ، والصواب ، من المطبوعة.
(2) انظر التعليق السالف ص 37 ، تعليق : 3.
(3) في المطبوعة : " وكان بيانه ذلك معينًا لهم على تكرير حكمه " ، وهو خطأ محض وتصريف قبيح ، وفي المخطوطة : " معينا لهم عن تكرير حكمه " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(4) في المخطوطة : " حكم أبوين من الأخوة " ، والصواب ما في المطبوعة.
(5) قوله : " قلت " ليست في المخطوطة ، ولكن السياق يقتضيها ، فأحسن طابع التفسير في إثباتها.

(7/38)


الله جل ثناؤه لعباده حكمهما فيما يرثان من وَلدهما الميت مع إخوته ، غنًّى وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غيرَ متغيِّر عما كان لهما ، ولا أخ للميت ولا وارث غيرهما. إذ كان معلومًا عندهم أن كل مستحق حقًّا بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقُّه الذي قضى به له ربه جل ثناؤه عما قَضى به له إلى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه. فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض ، إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده ، ولا أخ (1) الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروضَ - وهو ثلث مال ولدها الميت (2) - حق لها واجب ، حتى يغيِّر ذلك الفرض من فَرَض لها. فلما غيَّر تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة ، وترك تغييره مع الأخ الواحد ، عُلم بذلك أن فرضها غير متغيِّر عما فرض لها إلا في الحال التي غيَّره فيها مَن لزم العبادَ طاعتُه ، دون غيرها من الأحوال.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله : " فإن كان له إخوة " .
فقال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ، ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان : عنى الله جل ثناؤه بقوله : " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كن إناثًا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورًا ، أو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى. واعتل كثيرٌ ممن قال ذلك ، بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل
__________
(1) في المطبوعة : " ... وغير والده لوائح الدلالة الواضحة... " وهو شيء لا يكتبه أبو جعفر!! وفي المخطوطة : " وغير والده ولاح الدلالة... " ، وصواب قراءتها " ولا أخ " معطوفًا على قوله " إذا لم يكن لولدها الميت وارث... " . وقوله : " الدلالة الواضحة " اسم " كان " في قوله : " وكان في فرضه تعالى ذكره... " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " هو ثلث مال ولدها الميت " ، بغير " واو " ، والصواب إثباتها. وإلا اختل الكلام.

(7/39)


ثناؤه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضًا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده. (1)
* * *
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله جل ثناؤه بقوله : " فإن كان له إخوة " ، جماعة أقلها ثلاثة. وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجَب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة. فكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث ، وما بقي فللأب ، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد.
ذكر الرواية عنه بذلك :
8732 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا ابن أبي فديك قال ، حدثني ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال ، لم صار الأخوان يردَّان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله : " فإن كان له إخوة " ، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رحمه الله (2) هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار ؟ (3)
* * *
__________
(1) وهذا أيضًا موضع في النفس منه شيء ، فإن أبا جعفر ترك سياق حجته من الآثار ، كما فعل في الموضعين السالفين انظر ص : 36 تعليق : 1 / وص : 37 ، تعليق : 3 ، / ثم انظر السنن الكبرى للبيهقي 6 : 227 ، 228.
(2) في المطبوعة : " رضي الله عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 8732 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 227 من طريق : إسحاق بن إبراهيم ، عن شبابة ، عن ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، ونقله عنه ابن كثير في تفسيره 2 : 367. وقد عقب ابن كثير عليه بقوله : " وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس. ولو كان هذا صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه. وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه أنه قال ، " الأخوان ، تسمى إخوة " ، وقد أفردت لهذه المسألة جزءًا على حدة " .
أما " شعيب مولى ابن عباس " ، فهو : شعيب بن دينار الهاشمي ، وهو غير الكوفي ، وقد قال فيه ابن حبان : " روى عن ابن عباس ما لا أصل له ، حتى كأنه ابن عباس آخر " ، وانظر اختلاف قولهم فيه في التهذيب ، وأكثرهم على ترك الاحتجاج به ، وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 244 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 367.

(7/40)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن المعنيَّ بقوله : " فإن كان له إخوة " ، اثنان من إخوة الميت فصاعدًا ، على ما قاله أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثةً صحةَ ما قالوه من ذلك عن الحجة ، وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك. (1)
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين " إخوة " ، وقد علمت أن ل " الأخوين " في منطق العرب مثالا لا يشبه مثالَ " الإخوة " ، في منطقها ؟ (2)
قيل : إنّ ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما ، (3) وإن اختلفا في بعض وجوههما. فلما كان ذلك كذلك ، وكان مستفيضًا في منطقها منتشرًا مستعملا في كلامها : " ضربت من عبد الله وعمرو رؤوسهما ، وأوجعتُ منهما ظهورهما " ، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال ، " أوجعت منهما ظهريهما " ، وإن كان مقولا " أوجعت ظهْريهما " ، (4) كما قال الفرزدق :
بِمَا فِي فُؤَادَيْنَا مِنَ الشَّوْقِ وَالْهَوَى... فَيَبْرَأُ مُنْهَاضُ الفُؤَادِ الْمُشَعَّفُ (5)
__________
(1) هذا أيضًا موضع كان يجب أن يسوق عنده أبو جعفر حجته ، أو يحيل على حجة سالفة ، ولكنه لم يفعل ، وانظر التعليق السالف ص : 40 تعليق : 1 : والإشارة إلى المواضع السالفة هناك.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وقد علمت أن الأخوين في منطق العرب مثالا... " ، وهو فاسد ، والصواب " أن للأخوين " ، كما أثبتها بزيادة " اللام " .
(3) في المطبوعة : " بتقارب معنييهما " ، غير ما في المخطوطة ، لأنه قرأ " يتقارب " فعلا ، " بتقارب " اسمًا مصدرًا.
(4) في المطبوعة : " ظهرهما " مكان " ظهريهما " ، وهو خطأ ، لأنه ليس شاهدًا في هذا الموضع ، بل الشاهد ما جاء في المخطوطة كما أثبته ، على التثنية.
(5) ديوانه : 554 ، والنقائض : 553 ، وسيبويه 2 : 202 ، وأمالي الشجرى 1 : 12 ، وغيرها. وهو من قصيدته التي مضى بيت منها قريبًا ص : 27 ، تعليق : 3 ، يقول قبله ما لهج به من لهوه وكذبه وعبثه ، ويذكرها صاحبته وأمره معها. دَعَوْتُ الَّذِي سَمَّى السَّمَوَاتِ أَيْدُهُ ... وَللهُ أَدْنَى مِنْ وَرِيِدي وأَلْطَفُ
لِيَشْغَلَ عَنِّي بَعْلَهَا بِزَمَانَهٍ ... تُدَلِّهُهُ عَنِّي وعَنْهَا فَنُسْعَفُ
بِمَا في فُؤَادَيْنَا ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَأَرْسَلَ فِي عَيْنَيْهِ ماءً عَلاهُمَا ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي أَطَبُّ وأَعْرَفُ
فَدَاوَيْتُهُ عَامَيْنِ وَهْيَ قَرِ يَبةٌ ... أَرَاهَا ، وتَدْنُو لِي مِرَارًا فَأرْشُفُ
يقول : دعا الله أن يبتلي زوجها بمرض مزمن ، يدلهه ويحيره ، فيبقى دهشا متغير العقل أو البصر ، فلا يتفقدها ، حتى يصل إلى ما يريد وتريد. فاستجاب دعاءه ، وأنزل على عينيه ماء ، فطلبوا له الأطباء والعرفاء ، وزعم الفرزدق أنهم عرفوا أنه أطب الناس بهذا الداء ، فأدخلوه إليه ، فظل يطببه عامين ، وهي قريبة منه.
وقوله : " منهاض الفؤاد " الذي هاضه الحزن والوجد ، من " هاض العظم " إذا كسره ، يريد شدة ما يجد من اللوعة ، حتى شفه وأمرض قلبه. و " المشعف " ، هو الذي شعفه الحب : إذا أحرق قلبه ، مع لذة يجدها المحب ، ولم يذكر أصحاب المعاجم " شعف " مشددة العين ، ولكنه قياس هذه العربية. وفي المخطوطة والمطبوعة : " المشغف " بالغين المعجمة ، وكأنه صواب أيضًا ، من " شغفه الحب " إذا بلغ شغاف قلبه.
وأما رواية الديوان ، والنقائض ، فهي " المسقف " ، وهي رواية رديئة ، قال أبو عبيدة في شرحها : " هو الذي عليه خشب الجبائر ، والجبائر : هي السقائف تشد على الكسر " . وهو لا شيء ، وإنما حمله على ذلك ذكر " منهاض " ، وأن " المشغف " من صفته ، و " المنهاض " هو العظم الذي كسر بعد الجبر. ولكن صواب المعنى والرواية ، هو ما ذكرت.

(7/41)


غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه : " بما في أفئدتنا " ، كما قال جل ثناؤه : ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) [سورة التحريم : 4].
فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدًا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، بلفظ الجميع ، أفصحَ في منطقها وأشهرَ في كلامها (1) وكان " الأخوان " شخصين كل واحد منهما غير صاحبه ، من نفسين مختلفين ، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من
__________
(1) في المطبوعة : " فلفظ الجمع أفصح في منطقها " ، والصواب ما أثبته من المخطوطة ، وقوله : " أفصح " منصوب خبر قوله : " فلما كان ما وصفت " .

(7/42)


أعضائه واحدًا لا ثاني له ، (1) فأخرج اثناهما بلفظ اثنى العضوين اللذين وصفت ، (2) فقيل " إخوة " في معنى " الأخوين " ، كما قيل " ظهور " في معنى " الظهرين " ، و " أفواه " في معنى " فموين " ، و " قلوب " في معنى " قلبين " .
* * *
وقد قال بعض النحويين : إنما قيل " إخوة " ، لأن أقل الجمع اثنان. وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعًا بعد أن كانا فردين ، (3) فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا وإن كان كذلك في المعنى ، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضًا على ألسن العرب لاثنيه بمثال وصورةٍ غير مثال ثلاثة فصاعدًا منه وصورتها. لأن من قال ، " أخواك قاما " ، فلا شك أنه قد علم أنّ كل واحد من " الأخوين " فردٌ ضم أحدهما إلى الآخر فصارا جميعًا بعد أن كانا شتى. غير أن الأمر وإن كان كذلك ، (4) فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال ، " أخواك قاموا " ، فيخرج قولهم " قاموا " ، وهو لفظ للخبر عن الجميع ، خبرًا عن " الأخوين " وهما بلفظ الاثنين. لأن كل ما جرى به الكلام على ألسنتهم معروفًا عندهم بمثال وصورة ، إذا غيَّر مغيِّر عما قد عرفوه فيهم ،
__________
(1) في المطبوعة : " أشبه معناهما " على الإفراد ، والصواب من المخطوطة مثنى. وقوله : " وكان الأخوان " ، معطوف على قوله : " فلما كان ما وصفت " ، يريد : " ولما كان الأخوان... " . وسياق الجملة : " وكان الأخوان شخصين... أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحدًا " .
(2) في المطبوعة : " فأخرج أنثييهما بلفظ أنثى العضوين " ، وهو كلام لا معنى له ، والصواب من المخطوطة ، فالكلام في " الاثنين " و " الجمع " ، لا في " الأنثى " و " الذكر " .
(3) في المطبوعة : " وذلك أنه إذا ضم شيء إلى شيء " ، غير ما كان في المخطوطة كما أثبته ، وهو صواب محض لا يغير.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " بعد أن كانا شتى عنوان الأمر وإن كان كذلك " ، وهو كلام مستهجن لا معنى له ، والناسخ عجل كما رأيت وعلمت ، فكتب " غير أن الأمر " ، " عنوان الأمر " ففسد الكلام ، وأفسد على الناشر الأول فهمه للمعاني.

(7/43)


نَكِروه. (1) فكذلك " الأخوان " وإن كان مجموعين ضُمَّ أحدهما إلى صاحبه ، فلهما مثالٌ في المنطق وصورة ، غير مثال الثلاثة منهم فصاعدًا وصورتهم. فغير جائز أن يغيَّر أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم. وإذا كان ذلك كذلك ، فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : ولم نُقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدًا ؟
قيل : اختلفت العلماء في ذلك.
فقال بعضهم : نُقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن على الأب مُؤَنهم دون أمهم.
ذكر من قال ذلك :
8733 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس " ، أضرُّوا بالأم ولا يرثون ، (2) ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من
__________
(1) في المطبوعة : " لأن لكل ما جرى به الكلام على ألسنتهم مثالا معروفًا عندهم وصورة ، إذا غير مغير ما قد عرفوه فيهم أنكره " ، بدل ما كان في المخطوطة تبديلا ، جعل " بمثال " " مثالا " وقدمها عن مكانها ، وغير سائر الجملة كما رأيت. والذي أوقعه في ذلك أن الناسخ كتب " لأن لكل ما جرى " وصوابه " لأن كل ما جرى " كما أثبته.
أما " نكروه " ، فقد جعلها " أنكروه " وهما صواب جميعًا ، إلا أن الواجب عليه كان يقتضي إثبات ما في المخطوطة. يقال ، " أنكر الشيء إنكارًا ونكره " (على وزن سمع) ، قال الله تعالى في سورة هود : 70 : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً {
(2) في المطبوعة : " أنزلوا الأم ولا يرثون " ، وفي المخطوطة : " أمروا بالأمر ولا يرثون " وهو تحريف ما أثبته عن الدر المنثور وابن كثير ، كما سترى في التخريج.

(7/44)


الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل نُقصت الأم السدس ، وقُصِر بها على سدس واحد ، معونةً لإخوة الميت بالسدس الذي حَجَبوا أمهم عنه.
ذكر من قال ذلك :
8734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، السدس الذي حجبتْه الإخوة الأمَّ لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول ، وذلك ما : -
8735 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال ، الكلالة من لا ولد له ولا والِد.
* * *
قال أبو جعفر ، وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك : إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس ، لما هو أعلم به من مصلحة خلقه وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك. وليس ذلك مما كلَّفنا علمه ، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا.
* * *
وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس ، فقول لما عليه الأمة مخالف. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أنْ لا ميراث لأخي ميت مع والده. فكفى إجماعهم على خلافه شاهدًا على فساده.
* * *
__________
(1) الأثر : 8733 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 367 ، 368 ، وقال ، " هذا كلام حسن " ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 126.

(7/45)


القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " من بعد وصية يوصي بها أو دين " ، أنّ الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفاته ، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الآية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته ، ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها بعد قضاء دينه كله. (1) فلم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت ، ولا لأحد ممن أوصى له بشيء ، إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته ، وإن أحاط بجميع ذلك. ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به ، ما لم يجاوز ذلك ثلثه. فإن جاوز ذلك ثلثه ، جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو ردِّه إلى ورثته : إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك ، وإن شاءوا ردوه. فأما ما كان من ذلك إلى الثلث ، فهو ماضٍ عليهم.
وعلى كل ما قلنا من ذلك ، الأمة مجمعة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبرٌ ، وهو ما : -
8736 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، عن عليّ رضي الله عنه قال ، إنكم تقرأون هذه الآية : " من بعد وصية يُوصي بها أو دين " ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. (2)
8737 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضوان الله عليه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة " في بابها " ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، وهي لفظة غريبة هاهنا ، لا أظنها مما كان يجري على ألسنة القوم يومئذ على هذا المعنى ، ولو خيرت لاخترت " في أهلها " ، ولكني تركتها على حالها مخافة أن يكون ظني رجما.
(2) في المطبوعة : " أن رسول الله " بإسقاط الواو ، وأثبت ما في المخطوطة.

(7/46)


8738 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1)
8739 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : " من بعد وصية يوصي بها أو دين " قال ، يبدأ بالدين قبل الوصية.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق : ( يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) .
* * *
وقرأه بعض أهل مكة والشأم والكوفة ، ( يُوصَى بِهَا ) ، على معنى ما لم يسمَّ فاعله.
* * *
__________
(1) الآثار : 8736 ، 8737 ، 8738 - حديث ضعيف ، لضعف " الحارث الأعور " ، وهو : الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، وهو ضعيف جدًا ، وقال الشعبي وغيره : " كان كذابًا " . وقد مضى الكلام عنه في رقم : 174 فيما كتبه أخي السيد أحمد ، وفي المسند رقم : 565.
وأسانيده الثلاثة تدور على " الحارث الأعور " ، وقد رواه أحمد في مسنده رقم : 595 ، 1091 ، 1221 مطولا ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 267 ، والحاكم في المستدرك 4 : 336 ، وابن كثير في تفسيره 2 : 368 ، وقال ، " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير " ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 126 ، ونسبه لأبي أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في سننه. ورواه الشافعي في الأم 4 : 29 ، مختصرًا كما رواه الطبري ، قال الشافعي : " وقد روى في تبدئة الدين قبل الوصية حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت أهل الحديث مثله " . وساق الحديث عن سفيان عن أبي إسحاق.
قال البيهقي : " امتناع أهل الحديث عن إثبات هذا ، لتفرد الحارث الأعور بروايته عن علي رضي الله عنه ، والحارث لا يحتج بخبره لطعن الحفاظ فيه " . أما الحاكم ، فقد ذكر مثل هذه العلة في الحارث الأعور ، وقال ، " لذلك لم يخرجه الشيخان ، وقد صحت هذه الفتوى عن زيد بن ثابت " ، ثم ساق فتوى زيد بن ثابت بإسناده.
وقال ابن كثير : " ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. قلت (القائل ابن كثير) : لكن كان حافظًا للفرائض معتنيًا بها وبالحساب " .

(7/47)


قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) على مذهب ما قد سُمِّي فاعله ، لأن الآية كلها خبر عمن قد سمي فاعله. ألا ترى أنه يقول : " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان لا ولد " ؟ فكذلك الذي هو أولى بقوله : " يوصي بها أو دين " ، أن يكون خبرًا عمن قد سمي فاعله ، لأن تأويل الكلام : ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد من بعد وصية يوصي بها أو دين يُقضى عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " آباؤكم وأبناؤكم " ، هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم - من قسمة ميراث ميِّتكم فيهم على ما سمي لكم وبيَّنه في هذه الآية - آباؤكم وأبناؤكم (1) " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا " ، يقول : أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتُكم أن تعطوهموها ، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشد نفعًا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " .
__________
(1) سياق هذه الجملة : " هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم... آباؤكم وأبناؤكم " ، يريد إعراب " آباؤكم وأبناؤكم " ، وأنه خبر لمبتدأ محذوف. ولم يشر أحد من المفسرين إلى هذا الإعراب. بل قال القرطبي في تفسيره : " رفع بالابتداء ، والخبر مضمر ، تقديره : هم المقسوم عليهم ، وهم المعطون " . وقال الألوسي في تفسيره : " الخطاب للورثة ، وآباؤكم مبتدأ ، وأبناؤكم معطوف عليه ، ولا تدرون مع ما في حيزه خبر له " . وكذلك قال العكبري في إعراب القرآن 1 : 94. وأجود القول ما قال أبو جعفر في سياق هذه الآية.

(7/48)


فقال بعضهم : يعني بذلك أيهم أقرب لكم نفعًا في الآخرة.
ذكر من قال ذلك :
8740 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله ، " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا " ، يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء ، أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله سبحانه يشفع المؤمنين بعضهم في بعض.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا في الدنيا.
ذكر من قال ذلك :
8741 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " أيهم أقرب لكم نفعًا " ، في الدنيا.
8742 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
8743 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا " ، قال بعضهم : في نفع الآخرة ، وقال بعضهم : في نفع الدنيا.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما قلنا.
ذكر من قال ذلك :
8744 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا " ، قال : أيهم خيرٌ لكم في الدين والدنيا ،

(7/49)


الوالد أو الولدُ الذين يرثونكم ، لم يدخلِ عليكم غيرهم ، فرَضَ لهم المواريث ، (1) لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فريضة من الله " ، " وإن كان له إخوة فلأمه السدس " ، فريضةً ، يقول : سهامًا معلومة موقتة بيَّنها الله لهم. (2)
* * *
ونصب قوله : " فريضة " على المصدر من قوله : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " " فريضة " ، فأخرج " فريضة " من معنى الكلام ، إذ كان معناه ما وصفت.
وقد يجوز أن يكون نصبه على الخروج من قوله : " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " " فريضة " ، فتكون " الفريضة " منصوبة على الخروج من قوله : (3) " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " ، كما تقول : " هو لك هبة ، وهو لك صدقة مني عليك " . (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فرضي لهم المواريث " ، وهو تحريف وسوء كتابة من الناسخ ، ولا معنى له ، والصواب ما أثبت.
(2) قوله : " موقتة " ، أي محددة مقدرة بحد ، وقد سلف شرح هذه الكلمة فيما مضى الجزء 7 : 597 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك ، وفي فهرس المصطلحات.
ثم انظر تفسير " الفرض " و " الفريضة " فيما سلف 4 : 121 / 5 : 120 / 7 : 597.
(3) " الخروج " ، انظر تفسيره فيما سلف 7 : 25 ، تعليق : 3 ، كأنه يعني به خروج الحال المؤكدة.
(4) انظر ما سلف 7 : 599.

(7/50)


وأما قوله : " إن الله كان عليمًا حكيمًا " ، فإنه يعني جل ثناؤه : إنّ الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه ، (1) أيها الناس ، فانتهوا إلى ما يأمركم ، يصلح لكم أموركم. " حكيما " ، يقول : لم يزل ذا حكمة في تدبيره ، وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض ، وفيما يقضي بينكم من الأحكام ، لا يدخل حكمه خَلَل ولا زلل ، لأنه قضاء من لا تخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " كان " نظيرة ما في هذه الآية ، فيما سلف : 7 : 523.

(7/51)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

القول في تأويل قوله : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه ، " ولكم " أيها الناس " نصف ما ترك أزواجكم " ، بعد وفاتهن من مال وميراث " إن لم يكن لهن ولد " ، يوم يحدث بهن الموت ، (1) لا ذكر ولا أنثى " فإن كان لهن ولد " ، أي : فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهن الموت ، (2) ولد ذكر أو أنثى " فلكم الربع مما تركن " ، من مال وميراث ، ميراثًا لكم عنهن " من بعد وصية يوصين بها أو دين " ، يقول : ذلكم لكم ميراثًا عنهن ، مما يبقى من تركاتهن وأموالهن ، من بعد قضاء ديونهن التي يمتن وهي عليهن ، ومن بعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يحدث لهن الموت " باللام ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " يحدث لهن الموت " باللام ، والصواب ما في المخطوطة .

(8/51)


القول في تأويل قوله : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد " ولأزواجكم ، أيها الناس ، ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث ، إن حدث بأحدكم حَدَثُ الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى " فإن كان لكم ولد " ، يقول : فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى ، واحدًا كان الولد أو جماعة " فلهن الثمن مما تركتم " ، يقول : فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم ، الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم ، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها.
* * *
وإنما قيل : " من بعد وصية توصون بها أو دين " ، فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين ، لأن معنى الكلام : إن الذي فرضتُ لمن فرضتُ له منكم في هذه الآيات ، إنما هو له من بعد إخراج أيِّ هذين كان في مال الميت منكم ، (1) من وصية أو دين. فلذلك كان سواءً تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين ، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية ، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين : " الدين والوصية " من ماله ، فيكون ذكر الدين أولى أن يُبدأ به من ذكر الوصية. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الميت منكن " ، والصواب " منكم " كما أثبتها.
(2) في المطبوعة : " إخراج أحد الشيئين " بزيادة " أحد " ، وهي لا معنى لها هنا ، بل هي إخلال بما أراد ، وبما ذكر قبل من قوله : " إنما هو له من بعد إخراج أي هذين كان في مال الميت منكم " .

(8/52)


القول في تأويل قوله : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن كان رجلٌ أو امرأة يورث كلالةً.
ثم اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
* * *
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل الإسلام : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) ، يعني : وإن كان رجل يورث متكلًّل النسب.
* * *
ف " الكلالة " على هذا القول ، مصدر من قولهم : " تكلَّله النسب تكلُّلا وكلالة " ، بمعنى : تعطف عليه النسب.
* * *
وقرأه بعضهم : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) ، بمعنى : وإن كان رجل يورِث من يتكلَّله ، بمعنى : من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت.
* * *
واختلف أهل التأويل في " الكلالة " .
فقال بعضهم : هي ما خلا الوالد والولد.
* ذكر من قال ذلك :
8745 - حدثنا الوليد بن شجاع السَّكوني قال ، حدثني علي بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي قال : قال أبو بكر رحمه الله عليه : إني قد رأيت في الكلالة رأيًا فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، (1) والله منه بريء : أن الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلما
__________
(1) في المطبوعة : " وإن يكن خطأ " ، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة : " أبو بكر رضي الله عنه " ، وكذلك لما ذكر " عمر " ، وأثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وفيما يليه ، ولم أنبه إليه فيما يلي. وفي المخطوطة والمطبوعة : " فمني والشيطان " بإسقاط " من " ، والصواب من تفسير ابن كثير والبغوي بهامشه 2 : 370 ، والدر المنثور 2 : 250.

(8/53)


استخلف عمر رحمة الله عليه قال : إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. (1)
8746 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عاصم الأحول قال ، حدثنا الشعبي : أن أبا بكر رحمه الله قال في الكلالة : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابًا فمن الله : هو ما دون الولد والوالد. قال : فلما كان عمر رحمه الله قال : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر.
8747 - حدثنا [يونس بن عبد الأعلى] قال ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي : أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا الكلالة من لا ولد له ولا والد. (2)
8748 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن عمران بن حدير ، عن السميط قال : كان عمر رجلا أيسر ، (3) فخرج يومًا وهو يقول بيده
__________
(1) الأثر : 8745 - أخرجه البيهقي في السنن 6 : 223 ، 224 ، وابن كثير والبغوي 2 : 370 ، والدر المنثور 2 : 250 ، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وفي الدر والبيهقي : " فلما طعن عمر " ، وفي ابن كثير : " فلما ولي عمر " ، وإحدى روايتي البيهقي ، ورواية البغوي كرواية الطبري : " فلما استخلف " .
(2) الأثر : 8747 - " يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري ، شيخ الطبري ، روى عنه أبو جعفر شيئًا كثيرًا في تفسيره وفي غيره من كتبه ، وقد مضى برقم : 1679. وكان في المطبوعة : " أبو بشر بن عبد الأعلى " ، وليس في الرواة من كان بهذا الاسم ، وخاصة في شيوخ أبي جعفر. وفي المخطوطة : " أبو بشر عبد الأعلى " ، وهذا أيضًا لا يعرف ، ورجح عندي أنه تصحيف وتحريف من الناسخ ، وأن صوابه " يونس بن عبد الأعلى " شيخ الطبري ، فأثبته كذلك بين قوسين.
(3) جاء في هذا الأثر في صفة عمر أنه " أيسر " ، والذي جاء في الآثار من صفته أنه " أعسر يسر (بفتحتين) يعمل بيديه جميعًا " ، وذلك هو الذي يسمونه " الأضبط " ، تكون قوة شماله ، كقوة يمينه في العمل. فإذا كان يعمل بيده الشمال خاصة فهو " أعسر " ، والرجل إذا كان " أعسر " وليس " يسرًا " ، كانت يمينه أضعف من شماله.
هذا ، وكأنه أراد هنا بقوله : " أيسر " أنه يعمل بشماله ، وهو غريب عند أهل اللغة ، وقد جاء أيضًا في صفة عمر " أعسر أيسر " ، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام : " هكذا روي في الحديث ، وأما كلام العرب ، فالصواب أنه " أعسر يسر " . وقال ابن السكيت : " لا تقل أعسر أيسر " . ولكن هكذا جاءت الرواية فيما بين أيدينا من تفسير أبي جعفر ، فلا أدري أأخطأ ناسخها ، أم هكذا كانت روايته. ولم أجد الخبر بتمامه في مكان آخر.

(8/54)


هكذا ، (1) يديرها ، إلا أنه قال ، أتى عليّ حين ولست أدري ما الكلالة ، ألا وإنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد. (2)
8749 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي بكر قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد.
8750 - حدثني يونس قال ، أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد.
8751 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن جريج يحدث ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد.
8752 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد (3) .
8753 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " يقول بيده هكذا " ، أي : يحركها ويشير بها أو يومئ. و " القول " في كلام العرب يوضع مواضع كثيرة ، منها معنى الإشارة والتحريك والإيماء.
(2) الأثر : 8748 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 224 من طريق محمد بن نصر ، عن عبد الأعلى ، عن حماد ، عن عمران بن حدير ، عن السميط بن عمير ، بغير هذا اللفظ مختصرًا ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 - 251 مختصرًا ، ولم ينسبه لغير ابن أبي شيبة.
و " عمران بن حدير السدوسي " مضت ترجمته فيما سلف برقم : 2634.
وأما " السميط " فهو : سميط بن عمير السدوسي ، ويقال : سميط بن سمير ، ويقال سميط بن عمرو. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري : 2 / 2 / 204 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 317.
(3) الآثار : 8750 ، 8751 ، 8752 - ثلاث طرق ، وأخرجه البيهقي في السنن 6 : 225 من طريقين ، من طريق أبي سعيد الأعرابي ، عن سعدان بن نصر ، عن سفيان ومن طريق محمد بن نصر ، عن محمد بن الصباح ، عن سفيان ، مطولا.

(8/55)


أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس بمثله. (1)
8754 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي ، عن ابن عباس قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد.
8755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة " ، قال : الكلالة من لم يترك ولدًا ولا والدًا.
8756 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن من مات ولم يدع ولدًا ولا والدًا ، أنه كلالة.
8757 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أنّ الكلالة الذي ليس له ولد ولا والد.
8758 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد.
8759 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن أبي
__________
(1) الأثر : 8753 ، ثم الآثار : 8754 ، 8756 ، 8757 ، 8758 ، 8759 - طرق مختلفة لخبر سليم بن عبد السلولي عن ابن عباس وسيرويه أيضًا برقم : 8768. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 224 من طريق أخرى ، من طريق يحيى بن يحيى ، عن هشيم ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق. وأشار إلى رقم : 8753 ، 8754 ، طريق إسرائيل عن أبي إسحاق.
و " سليم بن عبد السلولي " ، ويقال : " سليم بن عبد الله " ، كوفي. مترجم في الكبير للبخاري 2 / 2 / 127 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 212 ، وتعجيل المنفعة : 163 ، قال البخاري وأبو حاتم : " روى عن حذيفة ، روى عنه أبو إسحاق السبيعي " ، وزاد الحافظ في تعجيل المنفعة " فقط " . وقال : " وثقه ابن حبان وقال : شهد غزوة طبرستان ، وقال العجلي : كوفي ثقة ، هم ثلاثة إخوة : سليم بن عبد ، وعمارة بن عبد ، وزيد بن عبد. ثقات ، سلوليون ، كوفيون " .
هذا وقد أفادنا إسناد الطبري والبيهقي ، أنه روى أيضًا عن غير حذيفة من الصحابة ، روى عن ابن عباس أيضًا كما تسمع.

(8/56)


إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : أدركتهم وهم يقولون ، إذا لم يدع الرجل ولدًا ولا والدًا ، وُرِث كلالة.
8760 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن كان رجل يورَث كلالة أو امرأة " ، والكلالة الذي لا ولد له ولا والد ، لا أب ولا جد ، ولا ابن ولا ابنة ، فهؤلاء الأخوة من الأم.
8761 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم قال في الكلالة : ما دون الولد والوالد.
8762 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد ، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة ، من رجالهم ونسائهم.
8763 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق ، قال : الكلالة من ليس له ولد ولا والد.
8764 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن محمد ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق مثله.
* * *
وقال آخرون : " الكلالة ما دون الولد " ، وهذا قول عن ابن عباس ، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه : (1) أنه ورَّث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين.
* * *
وقال آخرون : الكلالة ما خلا الوالد.
* ذكر من قال ذلك :
8765 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، قال :
__________
(1) هو الأثر رقم : 8734 ، فيما سلف.

(8/57)


سألت الحكم عن الكلالة قال : فهو ما دون الأب.
* * *
واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة.
فقال بعض البصريين : إن شئت نصبت " كلالة " على خبر " كان " ، وجعلت " يورث " من صفة " الرجل " . وإن شئت جعلت " كان " تستغني عن الخبر نحو " وقع " ، وجعلت نصب " كلالة " على الحال ، أي : يورث كلالة ، (1) كما يقال : " يضرب قائمًا " .
* * *
وقال بعضهم قوله : " كلالة " ، خبر " كان " ، لا يكون الموروث كلالة ، وإنما الوارث الكلالةُ.
* * *
قال أبو جعفر والصواب من القول في ذلك عندي أن " الكلالة " منصوب على الخروج من قوله : " يورث " ، وخبر " كان " " يورث " . و " الكلالة " وإن كانت منصوبة بالخروج من " يورث " ، فليست منصوبة على الحال ، ولكن على المصدر من معنى الكلام. لأن معنى الكلام : وإن كان رجل يورَث متكلِّله النسب كلالةً ثم ترك ذكر " متكلِّله " اكتفاء بدلالة قوله : " يورث " عليه.
* * *
واختلف أهل العلم في المسمَّى " كلالة " .
فقال بعضهم : " الكلالة " الموروث ، وهو الميت نفسه ، يسمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده. (2)
* ذكر من قال ذلك :
8766 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " يورث كلالة " ، وفي المخطوطة يشبه أن تكون " مورث " ، وتلك أجود ، فأثبتها لأنها أحق بالمكان.
(2) في المطبوعة : " سمى بذلك " وفي المخطوطة : " سمى " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(8/58)


أسباط ، عن السدي قوله في الكلالة ، (1) قال : الذي لا يدع والدًا ولا ولدًا.
8767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدًا بعمر رحمه الله ، (2) فسمعته يقول : القولُ ما قلت. (3) قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة من لا ولد له. (4)
8768 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " قولهم في الكلالة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(2) في المطبوعة : " رضي الله عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " فسمعته يقول ما قلت " ، أسقط " القول " ، وفي المخطوطة : " فسمعته يقول يقول ما قلت " ، وهو عجلة من الناسخ وتحريف ، والصواب ما أثبت من السنن الكبرى للبيهقي.
(4) الأثر : 8767 - " سليمان الأحول " هو : سليمان بن أبي مسلم المكي الأحول ، خال ابن أبي نجيح. وهو ثقة ، روى عنه الستة.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 225 من طريق سعدان بن نصر ، عن سفيان (يعني ابن عيينة) ، عن سليمان الأحول. وقال البيهقي معقبًا على روايته : " كذا في هذه الرواية ، والذي روينا عن عمر وابن عباس في تفسير الكلالة ، أشبه بدلائل الكتاب والسنة من هذه الرواية ، وأولى أن يكون صحيحًا ، لانفراد هذه الرواية ، وتظاهر الروايات عنهما بخلافها " .
وأشار إليها ابن كثير في تفسيره 2 : 371 قال : " وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه من لا ولد له ، والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد " .
هذا ، ولم يغفل أبو جعفر عن ذلك ، فعقب عليه هو أيضًا برواية القول المشهور في الرواية عن ابن عباس ، فساق خبر سليم بن عبد السلولي عن ابن عباس ، الذي سلف من رقم : 8753 - 8759 ، من طريق أخرى ، واكتفى بذلك من التعليق على هذا القول الذي انفرد به طاوس عن ابن عباس.
(5) الأثر : 8768 - هما إسنادان أحدهما " ابن وكيع عن أبيه " ، وقد سلف 8754 ، والآخر : " ابن وكيع عن يحيى بن آدم " ، وهو إسناد لم يذكره مع أسانيد هذا الأثر فيما سلف من رقم : 8753 - 8759. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " سليمان بن عبد " ، وهو خطأ ، بل هو " سليم بن عبد السلولي " كما سلف في أسانيد الأثر.

(8/59)


وقال آخرون : " الكلالة " ، هي الورثة الذين يرثون الميت ، إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم ، إذا لم يكونوا ولدًا ولا والدًا ، على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك.
* * *
وقال آخرون : بل " الكلالة " الميت والحي جميعًا.
* ذكر من قال ذلك :
8769 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد أو الحي ، كلهم " كلالة " ، هذا يَرِث بالكلالة ، وهذا يورَث بالكلالة (1) .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء ، وهو أن " الكلالة " الذين يرثون الميت ، من عَدا ولده ووالده ، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال : قلت يا رسول الله ؟ إنما يرثني كلالة ، فكيف بالميراث (2) وبما : -
8770 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد قال ، كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق ، قال : فقام من عندنا ثم رجع ، فقال : هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدَّثوني هذا الحديث ، قالوا : مرض سعد بمكة مرضًا شديدًا ، قال : فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده. فقال : يا رسول الله ، لي مال كثير ، وليس لي وارثٌ إلا كلالة ، فأوصي بمالي كله ؟ فقال : لا. (3)
__________
(1) في المخطوطة : " هذا يرث بالكلالة ، وهذا يرث بالكلالة " ، وهو سهو من الناسخ ، صوابه ما في المطبوعة.
(2) هو الأثر السالف رقم : 8730.
(3) الأثر : 8770 - " عمرو بن سعيد القرشي " ، روى عن سعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والشعبي ، وحميد بن عبد الرحمن الحميري ، روى عنه أيوب ، ويونس ، وابن عون ، وغيرهم وهو و " حميد بن عبد الرحمن الحميري " ، روى له الستة ، روى عن أبي بكرة وابن عمر ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وثلاثة من ولد سعد بن أبي وقاص (هم المذكورون في هذا الأثر) وغيرهم. قال ابن سعد : " كان ثقة ، وله أحاديث " . وكلاهما مترجم في التهذيب.
وخبر سعد بن أبي وقاص في الوصية ، وقوله : " إني أورث كلالة " ، رواه ابن سعد في الطبقات 3 / 1 / 103 ، وأحمد في مسنده 4 : 60 ، كلاهما : عفان بن مسلم ، عن وهيب ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عمرو بن القاري ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن القاري.
وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب : 444 ، وابن الأثير في أسد الغابة 4 : 119 وقال : " أخرجه الثلاثة " يعني ابن منده ، وأبو نعيم ، وابن عبد البر.

(8/60)


8771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا إسحاق بن سويد ، عن العلاء بن زياد قال : جاء شيخٌ إلى عمر رضي الله عنه فقال : إنِّي شيخ ، وليس لي وارث إلا كلالةُ أعراب مُتراخٍ نسبُهم ، (1) أفأوصي بثلث مالي ؟ قال : لا.
* * *
فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى " الكلالة " ، وأنها ورثة الميت دون الميت ، ممن عدا والده وولده.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وله أخ أو أخت " ، وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت ، يعني : أخًا أو أختًا من أمه ، كما : -
8772 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، عن سعد أنه كان يقرأ : " وإن كان رجل
__________
(1) قوله " متراخ نسبهم " ، أي : بعيد نسبهم ، من قولهم : " تراخى فلان عني " ، أي : بعد عني ، ولم يذكر أصحاب اللغة شاهدًا له ، وهذا شاهده.

(8/61)


يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت " قال ، سعد : لأمه.
8773 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال : سمعت القاسم بن ربيعة يقول : قرأت على سعد : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت " قال ، سعد : لأمه.
8774 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة بن قانف (1) قال : قرأت على سعد ، فذكر نحوه.
8775 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ : " وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه " . (2)
8776 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وله أخ أو أخت " فهؤلاء الإخوة من الأم : إن كان واحدًا فله السدس ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. (3)
8778 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت " ،
__________
(1) في المطبوعة : " القاسم بن ربيعة عن فاتك " ، وهو خطأ محض ، وفي المخطوطة كما أثبتها إلا أن الناسخ أساء كتابتها ونقطها ، فغيرها الناشرون. وانظر التعليق التالي.
(2) الآثار : 8772 - 8775 - " القاسم بن ربيعة " ، هو : " القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي " منسوبًا إلى جده ، فهو : " القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي " . ثقة ، لم يرو عنه سوى " يعلى بن عطاء العامري " ، وقد سلفت ترجمته وإسناده فيما مضى رقم : 1755 - 1757 .
وهذا الخبر عن سعد بن أبي وقاص ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 223 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 126 ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
(3) سقط من الترقيم رقم : 8777.

(8/62)


فهؤلاء الإخوة من الأم ، فهم شركاء في الثلث ، سواءٌ الذكر والأنثى.
* * *
قال أبو جعفر : وقوله : " فلكل واحد منهما السدس " ، إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها ، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه ، فله السدس من ميراث أخيه لأمه. فإن اجتمع أخ وأخت ، أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما ، أو أختان كذلك ، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما فلكل واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس " فإن كانوا أكثر من ذلك " ، يعني : فإن كان الإخوة والأخوات لأم الميت الموروث كلالة أكثرَ من اثنين " فهم شركاء في الثلث " ، يقول : فالثُّلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثًا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة ، شركة بينهم ، إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رؤوسهم ، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك ، ولكنه بينهم بالسويَّة.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : " وله أخ أو أخت " ، ولم يُقَل : " لهما أخ أو أخت " ، وقد ذكر قبل ذلك " رجل أو امرأة " ، فقيل : (1) " وإن كان رجلٌ يورث كلالة أو امرأة " ؟ قيل : إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر ، فعطفت أحدهما على الآخر " ب " أو " ، ثم أتت بالخبر ، أضافت الخبر إليهما أحيانًا ، وأحيانًا إلى أحدهما ، وإذا أضافت إلى أحدهما ، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أيّ الاسمين اللذين ذكرتهما إضافَته ، فتقول : " من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه " ، يعني : فليحسن إلى الغلام - و " فليحسن إليها " ، يعني : فليحسن إلى الجارية - و " فليحسن إليهما " . (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وقد ذكر مثل ذلك " وهو خطأ بين ، وصواب السياق ما أثبت.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 257 ، 258.

(8/63)


وأما قوله : " فلكل واحد منهما السدس " ، وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الآخر ، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله : " وله أخ أو أخت " ، فإن ذلك إنما جاز ، لأن معنى الكلام ، فلكل واحد من المذكورين السدس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " من بعد وصيه يوصي بها " ، أي : هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته ، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حَدَثُ الموت من تركته ، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته ، كما : -
8779 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " من بعد وصية يوصَي بها أو دين " ، والدين أحق ما بدئ به من جميع المال ، فيؤدَّي عن أمانة الميت ، ثم الوصية ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم.
* * *
وأما قوله : " غير مضارّ " ، فإنه يعني تعالى ذكره : من بعد وصية يوصي بها ، غيرَ مضَارّ ورثته في ميراثهم عنه ، كما : -
8780 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ولكل واحد " بالواو ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(8/64)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " غير مضار " ، قال : في ميراث أهله.
8781 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " غير مضار " ، قال : في ميراث أهله.
8782 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " غير مضار وصية من الله " ، وإن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ، ونهى عنه ، وقدَّم فيه ، فلا تصلح مضارَّة في حياة ولا موت.
8783 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا عبيدة بن حميد وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية جميعًا ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " غير مضار وصية من الله واللهُ عليم حليم " ، قال : الضرار في الوصية من الكبائر. (1)
8784 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر.
8785 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله.
8786 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحيفُ في الوصية من الكبائر.
8787 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى قالا حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار والحيف في الوصية من الكبائر. (2)
__________
(1) الأثر : 8783 - " نصر بن عبد الرحمن الأزدي " ، مضت ترجمته برقم : 423 ، 875 ، 2859 ، وقد وقع هنا في المخطوطة والمطبوعة ، كما كان قد وقع هناك فيهما " الأودي " بالواو ، وهو خطأ.
و " عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي " ، مضى برقم : 2781.
ثم انظر التعليق في آخر هذه الآثار رقم : 8787 ، 8788.
(2) الأثر 8787 - وما قبله ، أثر ابن عباس ، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد موقوفا عليه ، وسيأتي في الذي يليه مرفوعًا ، وقد أخرجه البيهقي في السنن 6 : 271 من طريق سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن داود بن أبي هند ، وقال : " هذا هو الصحيح ، موقوف ، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفًا. وروي من وجه آخر مرفوعًا ، ورفعه ضعيف " ، وهو إشارة إلى الأثر التالي الذي رواه الطبري.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 372 ، 373 قال : " رواه النسائي في سننه ، عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفًا... وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفًا " ، ثم قال : " قال ابن جرير : والصحيح الموقوف " . وهذا الذي نسبه ابن كثير لابن جرير ، لم أجده في تفسيره في مظنته في هذا الموضع ، فلا أدري أسقط من الكتاب شيء ، أم وجده ابن كثير في مكان آخر من كتب أبي جعفر ، أم تعجل ابن كثير فأخطأ ؟
هذا ، وقد جاء في هذه الآثار في المخطوطة والمطبوعة : " الحيف في الوصية " ، وفي السنن الكبرى " الجنف " ، وهو مثله في المعنى ، وهو الموافق لما في آية الوصية من سورة البقرة : 182 " فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا " .

(8/65)


8788 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر قال ، حدثنا عمر بن المغيرة قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الضرار في الوصية من الكبائر " . (1)
__________
(1) الأثر : 8788 - " إسحاق بن إبراهيم بن يزيد " أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، مولى عمر بن عبد العزيز ، روى عنه البخاري ، وربما نسبه إلى جده يزيد. وهو ثقة ، مترجم في التهذيب.
وأما " عمر بن المغيرة " أبو حفص فهو بصري ، وقع إلى المصيصة ، روى عن داود بن أبي هند والجلد بن أيوب ، وروى عنه بقية بن الوليد ، وهشام بن عمار. قال ابن أبي حاتم : " سألت أبي عنه فقال : شيخ " وقال : " وروىعنه أبو النضر الدمشقي الفراديسي إسحاق بن إبراهيم " . وقال البخاري : " عمر بن المغيرة ، منكر الحديث مجهول " . وقال علي بن المديني : " هو مجهول ، لا أعرفه " . مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 136 ، ولسان الميزان 4 : 332.
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عمرو بن المغيرة " ، والصواب ما أثبته.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6 : 271 من طريق عبد الله بن يوسف التنسي ، عنه. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 372 ، ونسبه لأبي بن حاتم ، عن أبيه ، عن أبي النضر الدمشقي ، عن عمر بن المغيرة.
وقال الحافظ في ترجمة " إسحاق بن إبراهيم " في التهذيب 1 : 220 " روى له الأزدي في الضعفاء حديثًا عن عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رفعه : الضرار في الوصية من الكبائر. قال الأزدي : المحفوظ من قول ابن عباس ، لا يرفعه. قلت : (القائل هو الحافظ ابن حجر) : عمر ، ضعيف جدًا ، فالحمل فيه عليه ، وقد رواه الثوري وغيره عن داود موقوفًا " .

(8/66)


8789 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو عمرو التيمي ، عن أبي الضحى قال : دخلت مع مسروق على مريض ، فإذا هو يوصي قال : فقال له مسروق : أعدل لا تضلل. (1)
* * *
ونصبت " غيرَ مضارّ " على الخروج من قوله : " يوصَى بها " . (2)
* * *
وأما قوله : " وصية " فإن نصبه من قوله : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ، وسائر ما أوصى به في الاثنين ، ثم قال : " وصية من الله " ، مصدرًا من قوله : " يوصيكم " . (3)
* * *
وقد قال بعض أهل العربية : ذلك منصوب من قوله : " فلكل واحد منهما السدس " " وصية من الله " ، وقال : هو مثل قولك : " لك درهمان نفقةً إلى أهلك " . (4)
* * *
قال أبو جعفر : والذي قلناه بالصواب أولى ، لأن الله جل ثناؤه افتتح ذكر قسمةِ المواريث في هاتين الآيتين بقوله : " يوصيكم الله " ، ثم ختم ذلك بقوله : " وصية من الله " ، أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عباده ، فنصْبُ قوله : " وصية " على المصدر من قوله : " يوصيكم " ، أولى من نصبه على التفسير من قوله : (5) " فلكل واحد منهما السدس " ، لما ذكرنا.
* * *
__________
(1) الأثر : 8789 - " أبوعمرو التيمي " ، لم أعرف من هو ؟ وأخشى أن يكون " أبو المعتمر التيمي " وهو " سليمان بن طرخان التيمي " .
(2) " الخروج " انظر ما سلف ص : 50 ، تعليق : 3.
(3) " المصدر " يعني به المفعول المطلق.
(4) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 258.
(5) " التفسير " هو التمييز ، كما أسلفنا مرارًا آخرها في 6 : 586 ، تعليق : 1 .

(8/67)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

ويعني بقوله تعالى ذكره : " وصية من الله " ، عهدًا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم (1) " والله عليم " ، يقول : والله ذو علم بمصالح خلقه ومضارِّهم ، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه ، ومن يحرم ذلك منهم ، ومبلغ ما يستحق به كل من استحق منهم قسمًا ، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم " حليم " ، يقول : ذو حلم على خلقه ، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضًا ، (2) في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوة من ولد الميت ، وأهل الغناء والبأس منهم ، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " تلك حدود الله " . فقال بعضهم : يعني به : تلك شروط الله. (3)
*ذكر من قال ذلك :
8790 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الوصية " فيما سلف ص : 30 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " عليم " و " حليم " في مادتهما من فهارس اللغة فيما سلف.
(3) انظر تفسير " الحدود " فيما سلف 3 : 546 ، 547 / 4 : 564 ، 565 ، 583 - 585 ، 599 ، وفي هذا الموضع تفصيل لم يسبق مثله فيما سلف ، وهو تفصيل في غاية الجودة والدقة.

(8/68)


أسباط ، عن السدي : " تلك حدود الله " ، يقول : شروط الله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تلك طاعة الله.
* ذكر من قال ذلك :
8791 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " تلك حدود الله " ، يعني : طاعة الله ، يعني المواريث التي سمَّى الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : تلك سنة الله وأمره.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تلك فرائض الله.
* * *
وقال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبيِّنوه ، وهو أن " حدّ " كل شيء : ما فصَل بينه وبين غيره ، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين : " حدود " ، لفصلها بين ما حُدَّ بها وبين غيره. (1)
فكذلك قوله : " تلك حدود الله " ، معناه : هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم ، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الآية على ما فرض وبيَّن في هاتين الآيتين ، " حدود الله " ، يعني : فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم ، كما قال ابن عباس. (2) وإنما ترك " طاعة الله " ، (3) والمعنى
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لفصولها بين ما حد بها وبين غيره " كأن " الفصول " مصدر " فصل بين الشيئين يفصل " ، ولكن أهل اللغة لم يجعلوا ذلك مصدرًا لهذا المعنى ، بل قالوا مصدره " الفصل " . أما " الفصول " فهو مصدر " فصل فلان من عندي " إذا خرج. والذي قاله أصحاب اللغة هو الصواب المحض.
وأنا أرجح أن الناسخ أسقط من الكلام شيئًا ، وأن أصل عبارة الطبري : " ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين حدود - وهي فصولها ، لفصلها... " ، و " الفصول " هنا ، وكما ستأتي في عبارته بعد ، جمع " فصل " (بفتح فسكون) ، وهو مثل " الحد " ، وهو الحاجز بين الشيئين.
(2) يعني في الأثر رقم : 8791.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " طاعة الله " ، وإنما المتروك " طاعة " وحدها : فكنت أوثر أن يكون الكلامْ : " وإنما ترك - طاعة - والمعنى بذلك... " .

(8/69)


بذلك : حدود طاعة الله ، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله : " ومن يطع الله ورسوله " ، والآية التي بعدها : " ومن يعص الله ورسوله " . (1)
* * *
فتأويل الآية إذًا : هذه القسمة التي قسم بينكم ، أيها الناس ، عليها ربكم مواريثَ موتاكم ، فصولٌ فصَل بها لكم بين طاعته ومعصيته ، وحدود لكم تنتهون إليها فلا تتعدَّوها ، ليعلم منكم أهلَ طاعته من أهل معصيته ، (2) فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم ، وفيما نهاكم عنه منها.
ثم أخبر جل ثناؤه عما أعدَّ لكل فريق منهم فقال لفريق أهل طاعته في ذلك : " ومن يطع الله ورسوله " في العمل بما أمره به ، والانتهاء إلى ما حدَّه له في قسمة المواريث وغيرها ، ويجتنبْ ما نهاه عنه في ذلك وغيره " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " .
* * *
فقوله : " يدخله جنات " ، يعني : بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الأنهار " خالدين فيها " ، يقول : باقين فيها أبدًا لا يموتون فيها ولا يفنون ، ولا يُخْرجون منها (3) " وذلك الفوز العظيم " .
يقول : وإدخال الله إياهم الجنانَ التي وصفها على ما وصف من ذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " الآية التي بعدها " بإسقاط واو العطف ، وهو فساد ، والصواب إثباتها. وهذه حجة ظاهرة مبينة في تفسير معنى " حدود الله " ، ورحم الله أبا جعفر وجزاه خيرًا عن كتابه.
(2) في المطبوعة : " وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته " ، لم يحسن قراءة ما كان في المخطوطة فبدله ، وكان فيها : " لسلم منكم أهل طاعته " كأنها رؤوس " سين " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الجنات " ، و " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة.

(8/70)


وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

" الفوز العظيم " ، يعني : الفَلَح العظيم. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8792 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله " الآية ، قال : في شأن المواريث التي ذكر قبل.
8793 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " تلك حدود الله " ، التي حدَّ لخلقه ، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة ، فانتهوا إليها ولا تعدَّوها إلى غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ومن يعص الله ورسوله " في العمل بما أمراه به من قسمة المواريث على ما أمراه بقسمة ذلك بينهم وغير ذلك من فرائض الله ، مخالفًا أمرهما إلى ما نهياه عنه " ويتعدَّ حدوده " ، يقول : ويتجاوز فصُول طاعته التي جعلها تعالى فاصلة بينها وبين معصيته ، (2) إلى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بين ورثتهم وغير ذلك من حدوده (3) " يدخله نارًا خالدًا فيها " ،
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف : 7 : 452 : 472. وقوله " الفلح " (بفتح الفاء واللام معًا). و " الفلح " : و " الفلاح " : الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير.
(2) انظر تفسير " الحدود " فيما سلف قريبًا ص : 68 ، والتعليق : 3.
(3) في المطبوعة : " بين ورثته " بالإفراد ، والصواب من المخطوطة.

(8/71)


يقول : باقيًا فيها أبدًا لا يموت ولا يخرج منها أبدًا " وله عذاب مهين " ، يعني : وله عذاب مذِلٌّ من عُذِّب به مُخزٍ له. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
8794 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ومن يعص الله ورسولا ويتعد حدوده " ، الآية ، في شأن المواريث التي ذكر قبل قال ابن جريج : " ومن يعص الله ورسوله " ، قال : من أصابَ من الذنوب ما يعذب الله عليه.
* * *
فإن قال قائل : أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث ؟ (2) قيل : نعم ، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين ، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) إلى تمام الآيتين : أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة ، نصفَ المال أو جميع المال ؟ (3) استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده (4) ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه ، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله ، استنكارًا منه حكمهما ، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله
__________
(1) انظر تفسير " مهين " فيما سلف 2 : 347 ، 348 / 7 : 423. تعليق : 1.
(2) في المطبوعة : " أو يخلد " فعلا ، وأثبت الصواب من المخطوطة.
(3) يعني خبر ابن عباس الذي سلف برقم : 8726 ، وساق معناه لا لفظه.
(4) قوله " ممن خالف قسمة الله " صلة قوله آنفًا : " فحاد الله ورسوله في أمرهما... " والذي بينهما فصل وضعته بين الخطين.

(8/72)


صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية (1) فهو من أهل الخلود في النار ، لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك ، يصير بالله كافرًا ، ومن ملة الإسلام خارجًا.
* * *
__________
(1) سياق هذه الفقر كلها : " نعم ، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين ، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما... ممن خالف قسمة الله ما قسم من ميراث أهل الميراث ... فهو من أهل الخلود في النار " .

(8/73)


وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

القول في تأويل قوله : { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واللاتي يأتين الفاحشة " والنساء اللاتي يأتين (1) بالزنا ، أي يزنين (2) " من نسائكم " ، وهن محصنات ذوات أزواج أو غير ذوات أزواج " فاستشهدوا عليهن أربعة منكم " ، يقول : فاستشهدوا عليهن بما أتين به من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم ، يعني : من المسلمين " فإن شهدوا " عليهن " فامسكوهن في البيوت " ، يقول : فاحبسوهن في البيوت (3) " حتى يتوفاهن الموت " ، يقول : حتى يمتن (4) " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، يعني : أو يجعل الله لهن مخرجًا وطريقًا إلى النجاة مما أتين به من الفاحشة. (5)
* * *
__________
(1) قوله في تفسيره : " يأتين بالزنا " بإدخال الباء على خلاف ما في الآية سيظهر لك معناه في ص : 81 وتعليق : 1 وأن قراءة عبد الله : " واللاتي يأتين بالفاحشة " ، بالباء.
(2) انظر تفسير " الفاحشة " فيما سلف 3 : 303 / 5 : 571 / 7 : 218
(3) انظر تفسير " الإمساك " فيما سلف 4 : 546 .
(4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 6 : 455 ، 456 ، وما بعدها.
(5) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف : 7 : 490 بولاق تعليق : 2 ، والمراجع هناك.

(8/73)


وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
8795 - حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت " ، أمر بحبسهن في البيوت حتى يمتن " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، قال : الحد. (1)
8796 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " ، قال : الزنا ، كان أمر بحبسهن حين يشهد عليهن أربعة حتى يمتن " أو يجعل الله لهنّ سبيلا " ، والسبيل الحد.
8797 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " إلى " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) [سورة النور : 2] ، فإن كانا محصنين رجُما. فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما.
8798 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، فقد جعل الله لهنّ ، وهو الجلد والرجم.
__________
(1) الأثر : 8795 - " أبو هشام الرفاعي ، محمد بن يزيد " مضت ترجمته برقم : 2739 ، وغيره من المواضع ، وكان في المطبوعة : " أبو هشام الرفاعي عن محمد بن يزيد " ، بزيادة " عن " وهو خطأ واضح ، وصوابه في المخطوطة.

(8/74)


8799 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة " ، حتى بلغ : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، كان هذا من قبل الحدود ، فكانا يؤذّيان بالقول جميعًا ، وبحبْس المرأة. ثم جعل الله لهن سبيلا فكان سبيل من أحصن جلدُ مئة ثم رميٌ بالحجارة ، وسبيل من لم يحصن جلد مئة ونفي سنة.
8800 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير : " الفاحشة " ، " الزنا " ، " والسبيل " الحدّ ، الرجم والجلد. (1)
8801 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم " إلى : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، هؤلاء اللاتي قد نكحن وأحصنّ. إذا زنت المرأة فإنها كانت تحبس في البيت ، ويأخذ زوجها مهرَها فهو له ، فذلك قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الزنا (2) ( وَعَاشِرُوهُنَّ
__________
(1) في المطبوعة : " والسبيل الرجم والجلد " ، حذف " الحد " ، وأثبتها من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فذلك قوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ، وأحسبه سهوًا من الناسخ لا من أبي جعفر ، فإن صدر هذا الذي ساقه من آية أخرى في سورة البقرة : 229 : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }
والعجب للسيوطي ، فإنه خرجه في الدر المنثور 2 : 129 ، ونسبه لابن جرير وحده ، وساقه كما هو في المخطوطة والمطبوعة ، ولم يتوقف عند هذه الآية المدمجة من آية أخرى!! فأثبت نص الآية التي هي موضوع استشهاده. هذا ، وقد حذف الناشر بعد قوله : " بفاحشة مبينة " كلمة " الزنا " فأثبتها من المخطوطة ، والدر المنثور.

(8/75)


بِالْمَعْرُوفِ ) [سورة النساء : 19] ، حتى جاءت الحدود فنسختها ، فجُلدت ورُجِمت ، وكان مهرها ميراثًا ، فكان " السبيل " هو الجلد.
8802 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سلمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، قال : الحدّ ، نسخ الحدُّ هذه الآية.
8803 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا يحيى ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، قال : جلد مئة ، الفاعل والفاعلة.
8804 - حدثنا الرفاعي قال ، حدثنا يحيى ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الجلد.
8805 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي نكَّس رأسه ، ونكَّس أصحابه رؤوسهم ، فلما سُرِّي عنه رفع رأسه فقال : قد جعل الله لهنّ سبيلا الثيِّبُ بالثيب ، والبكر بالبكر. أما الثيب فتُجلد ثم ترجم ، وأما البكر فتجلد ثم تُنفى " . (1)
__________
(1) الحديث : 8805 - هذا الحديث رواه الطبري هنا بخمسة أسانيد : 8805 - 8807 / 8810 ، 8811. كلها صحيح متصل إلا الأخير منها ، كما سيأتي ، إن شاء الله.
وقد رواه مسلم 2 : 33 ، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ورواه هو وغيره بأسانيد أخر ، سنشير إليها.
وحطان بن عبد الله الرقاشي البصري : تابعي ثقة ثبت ، وكان مقرئًا. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 1 / 109 ، وابن سعد 7 / 1 / 93 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 303 - 304 ، وطبقات القراء 1 : 253.

(8/76)


8806 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله ، عن عبادة بن الصامت قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " خُذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب تجلد مئة وترجم بالحجارة ، والبكر جلد مئة ونفي سنة " . (1)
8807 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله أخي بني رَقاش ، عن عبادة بن الصامت : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كُرِب لذلك وتربَّد له وجهه ، (2) فأنزل الله عليه ذات يوم ، فلقي ذلك. فلما سُرِّي عنه قال : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب ، جلد مئة ثم رجم بالحجارة ، والبكر بالبكر ، جلد مئة ثم نفي سنة " . (3)
8808 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
__________
(1) الحديث : 8806 - سعيد : هو ابن أبي عروبة.
وقد سقط من الإسناد هنا ، في المخطوطة والمطبوعة ، [عن الحسن] ، بين قتادة وحطان. وهو خطأ من الناسخين. فإن الحديث رواه مسلم 2 : 33 ، عن ابن بشار - شيخ الطبري هنا - وعن ابن المثنى - كلاهما عن عبد الأعلى ، بهذا الإسناد ، على الصواب. فلذلك أثبتنا ما أسقطه الناسخون.
ثم كل الروايات التي رأينا " عن قتادة " فيها هذه الزيادة ، ومنها الإسناد الذي بعد هذا ، والإسناد : 8810.
وكذلك رواه أحمد في المسند 5 : 318 (حلبي) عن محمد بن جعفر ، عن سعيد ، عن قتادة.
وكذلك رواه أبو داود : 4415 ، من طريق يحيى ، عن سعيد.
وكذلك رواه البيهقي 8 : 210 ، من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد.
وكذلك رواه أحمد 5 : 317 ، عن طريق حماد ، عن قتادة وحميد - كلاهما عن الحسن.
(2) كان في المخطوطة " كرب لتلك " ، والصواب من روايات الحديث ، وصححته المطبوعة السالفة. وقوله : " كرب " بالبناء للمجهول من " كربه الأمر يكربه " ، غمه واشتد عليه. وقوله : " تربد وجهه " ؛ تغير لونه إلى الغبرة. وقوله بعد : " سرى عنه " بالبناء للمجهول ، تجلى عنه ، كربه ، من قولهم : " سرا الثوب " ، إذا نزعه ، والتشديد للمبالغة.
(3) الأثر : 8807 - انظر التعليق على الحديث 8805.

(8/77)


فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " ، قال يقول : لا تنكحوهن حتى يتوفّاهن الموت ، ولم يخرجهن من الإسلام. ثم نسخ هذا ، وجُعِل السبيل أن يجعل لهن سبيلا (1) قال : فجعل لها السبيل إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للبكر جلد مائة.
8809 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " قال ، الجلد والرجم. (2)
8810 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشيّ ، عن عبادة بن الصامت قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيل ، الثيب بالثيب والبكر بالبكر ، الثيب تجلد وترجم ، والبكر تجلد وتنفى " . (3)
__________
(1) كان في المطبوعة : " ثم نسخ هذا وجعل السبيل التي ذكر أن يجعل... " زاد " التي ذكر " ولا خير في زيادتها ، والذي في المخطوطة كما أثبته ، مستقيم بعض الاستقامة ، إذا قرئت " جعل " بالبناء للمجهول ، فتركتها كذلك مخافة أن تكون صوابًا محضًا ، وإن كنت الآن في ريب منه.
(2) في المطبوعة : " حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا جويبر " ، أسقط من الإسناد " يزيد " ، وهو من المخطوطة ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(3) الحديث : 8810 - [ابن] المثنى : هو " محمد بن المثنى " شيخ الطبري. وكلمة [ابن] سقطت من المطبوعة خطأ. وهي ثابتة في المخطوطة.
" محمد بن جعفر " : هو غندر ، صاحب شعبة. ووقع في المطبوعة " محمد بن أبي جعفر " ! وهو خطأ ظاهر. وثبت على الصواب في المخطوطة.
والحديث - من هذا الوجه - رواه أحمد في المسند 5 : 320 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة.
وكذلك رواه مسلم 2 : 33 ، عن محمد بن المثنى - شيخ الطبري هنا - وعن ابن بشار كلاهما عن شعبة.
ورواه أحمد أيضًا 5 : 320 ، عن يحيى ، عن حجاج ، عن شعبة. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2 : 79 ، من طريق أسد بن موسى ، عن شعبة. وكذلك رواه حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة - عند الدارمي في سننه 2 : 181.
وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن الحسن البصري ، ذكروا أنه " عن الحسن ، عن حطان الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت " . وقليل منهم لم يذكروا في الإسناد " عن حطان " - كما سنذكر في الإسناد التالي لهذا.
فالظاهر أن الحسن سمعه من حطان عن عبادة ، وكذلك كان يرويه. وأنه في بعض أحيانه كان يرسله عن عبادة ، فلا يذكر " عن حطان " .
فمن رواه عنه موصولا ، بإثبات " حطان " في الإسناد : المبارك بن فضالة ، عند الطيالسي في مسنده : 584.
ومنصور بن زاذان ، عند أحمد في المسند 5 : 313 ، وسنن الدارمي 2 : 181 ، وصحيح مسلم 2 : 33 ، وسنن أبي داود : 4416 ، والترمذي 2 : 242 ، والمنتقى لابن الجارود ، ص : 371 - 372 ، والطحاوي 2 : 79 ، وابن النحاس في الناسخ والمنسوخ ، ص : 97 ، والبيهقي في السنن الكبرى 8 : 221 - 222.
ولم ينفرد الحسن بروايته عن حطان ، بل رواه أيضًا يونس بن جبير.
فرواه ابن ماجه : 2550 ، من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطان بن عبد الله ، عن عبادة بن الصامت. فكان لقتادة فيه شيخان الحسن ويونس.

(8/78)


8811 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن مسلم البصري ، عن الحسن ، عن عبادة بن الصامت قال ، كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذِ احمرَّ وجهه ، وكان يفعل ذلك إذا نزل عليه الوحي ، فأخذه كهيئة الغَشْي لما يجد من ثِقَل ذلك ، فلما أفاق قال : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكران يجلدان وينفيان سنة ، والثيبان يجلدان ويرجمان " . (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 8811 - هذا هو الإسناد الخامس المنقطع ، كما أشرنا في الإسناد الأول : 8805.
يحيى بن إبراهيم المسعودي - شيخ الطبري : مضت ترجمته في رقم : 84 في الجزء الأول.
إسماعيل بن مسام البصري : مضت ترجمته في : 5417.
وهو قد روى هذا الحديث " عن الحسن ، عن عبادة " - منقطعًا. لأن الحسن البصري لم يسمع من عبادة. ولم ينفرد إسمعيل بروايته عن الحسن منقطعًا ، بل تابعه غيره على ذلك. مما يدل على أن الحسن كان يصل الحديث مرة عن حطان ، ويرسله مرة عن عبادة.
فرواه الشافعي في الرسالة : 378 ، 636 - بشرحنا - وفي اختلاف الحديث (هامش الأم 7 : 252) ، عن عبد الوهاب ، وهو ابن عبد المجيد الثقفي ، " عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن عبادة بن الصامت " . ثم قال في الرسالة : 379 " أخبرنا الثقة من أهل العلم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن حطان الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت " . وقال في اختلاف الحديث - بعد روايته عن عبد الوهاب - : " وقد حدثني الثقة : أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة : حطان الرقاشي. ولا أدري : أدخله عبد الوهاب بينهما فزال من كتابي حين حولته من الأصل ، أم لا ؟ والأصل - يوم كتبت هذا الكتاب - غائب عني " .
وقد ذكره في الأم 6 : 119 ، معلقًا ، جازمًا بالزيادة ، فقال : " ثم روى الحسن ، عن حطان الرقاشي ، عن عبادة " . فلا أدري : أجزم بأن عبد الوهاب " أدخله بينهما " - بعد ، أم أراد رواية ما حدثه به " الثقة " ؟ ولم أجد رواية " يونس بن عبيد " في موضع آخر ، حتى أستطيع اليقين بأي ذلك كان.
ورواه أيضًا - منقطعًا - : " جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن عبادة " - عند الطيالسي : 584 ، وأحمد في المسند 5 : 327 (حلبي) ، والبيهقي في السنن 8 : 210.
وكذلك رواه - منقطعًا - : " حميد ، عن الحسن ، عن عبادة " - عند أحمد في المسند 5 : 317 (حلبي). والحديث صحيح على كل حال. وقد ظهر وصل الروايات المنقطعة بالروايات الموصولة.
وقد ذكره ابن كثير 2 : 375 ، عن بعض روايات أحمد ، والطيالسي ، ومسلم ، وأصحاب السنن.
وذكره السيوطي 2 : 129 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان.

(8/79)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، قول من قال : السبيلُ التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصَنَيْن ، الرجم بالحجارة ، وللبكرين جلد مئة ونفي سنة لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رَجم ولم يجلد وإجماعِ الحجة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعةً عليه ، الخطأ والسهو والكذب وصحةِ الخبر عنه أنه قضى في البكرين بجلد مئة ونفي سنة. فكان في الذي صح عنه من تركه جلدَ من رُجم من الزناة في عصره ، دليلٌ واضح على وهَاء الخبر الذي روي عن الحسن ، (1) عن حطان ، عن عبادة ،
__________
(1) في المطبوعة : " على وهي الخبر " ، وأثبت ما في المخطوطة لما سترى بعد. وذلك أني صححتها في الجزء 4 : 18 ، فجعلت العبارة " لوهي أسانيدها ، وأنها مع وهي أسانيدها " مصدر " وهى الشيء يهي وهيًا " ثم فعلت ذلك في الجزء نفسه ص : 155 ، وقلت في التعليق : 1 ، إني أخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير ، لا من أبي جعفر ، ونقلت قول المطرزي في المغرب أن قول الفقهاء " وهاء " أنه خطأ ، ولا يعتد به ، ثم فعلت ذلك في الجزء الرابع نفسه ص : 361 ، تعليق : 3. وكذلك فعلت في الجزء 6 : 85 ، تعليق : 2. بيد أني رأيت الآن أن أثبت ما في المخطوطة ، لأنه تكرر مرارًا كثيرة يمتنع معها ادعاء خطأ الناسخ في نسخه ، هذه واحدة. وأخرى أنه قد وقعت لي أجزاء من كتاب أبي جعفر الطبري " تهذيب الآثار " وهما قطعتان بخطين مختلفين عتيقين ، فوجدت فيهما أنه يكتب " وهاء " ، لا " وهى " ، فرجحت أن أبا جعفر كذلك كان يكتبها ، وإن كان المطرزي يقول إنه خطأ ولا يعتد به.

(8/80)


وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : السبيل للثيب المحصن الجلدَ والرجم.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية في قراءة عبد الله : ( واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم ) . والعرب تقول : " أتيت أمرًا عظيمًا ، وبأمر عظيم " و " تكلمت بكلام قبيح ، وكلامًا قبيحًا " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، والرجل والمرأة اللذان يأتيانها ، يقول : يأتيان الفاحشة. و " الهاء " و " الألف " في قوله : " يأتيانها " عائدة على " الفاحشة " التي في قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " . والمعنى : واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " .
فقال بعضهم : هما البكران اللذان لم يُحْصنا ، وهما غير اللاتي عُنين بالآية قبلها. وقالوا : قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " ، معنيٌّ به الثيِّبات المحصنات بالأزواج - وقوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، يعني به البكران غير المحصنين.
*ذكر من قال ذلك :
8812 - حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال حدثنا
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 258.

(8/81)


أسباط ، عن السدي : ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكِحوا فقال : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " .
8813 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واللذان يأتيانها منكم " البكرين فآذوهما. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عُني بقوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، الرجلان الزانيان.
ذكر من قال ذلك :
8814 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، قال : الرجلان الفاعلان ، لا يَكْنى.
8815 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، الزانيان.
* * *
وقال آخرون : بل عني بذلك الرجلُ والمرأة ، إلا أنه لم يُقصَد به بكر دون ثيِّب.
ذكر من قال ذلك :
8816 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، قال : الرجل والمرأة.
8817 - حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " إلى قوله : " أو يجعل الله لهن سبيلا " ، فذكر الرجل بعد
__________
(1) في المطبوعة : " البكران " بالرفع كأنه استنكر ما كان في المخطوطة كما أثبته ، وهو الصواب.

(8/82)


المرأة ، ثم جمعهما جميعًا فقال : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابًا رحيما " .
8818 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريح قال ، قال عطاء وعبد الله بن كثير ، قوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، قال : هذه للرجل والمرأة جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، قول من قال : " عُني به البكران غير المحصنين إذا زنيا ، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة " ، لأنه لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال ، كما كان مقصودًا بقوله : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " قصد البيان عن حكم الزواني ، لقيل : " والذين يأتونها منكم فآذوهم " ، أو قيل : " والذي يأتيها منكم " ، كما قيل في التي قبلها : " واللاتي يأتين الفاحشة " ، فأخرج ذكرهن على الجميع ، ولم يقل : " واللتان يأتيان الفاحشة " .
وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه ، أخرجت أسماءَ أهله بذكر الجميع أو الواحد وذلك أن الواحد يدل على جنسه ولا تخرجها بذكر اثنين. فتقول : " الذين يفعلون كذا فلهم كذا " ، " والذي يفعل كذا فله كذا " ، ولا تقول : " اللذان يفعلان كذا فلهما كذا " ، إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين ، كالزنا لا يكون إلا من زانٍ وزانية. فإذا كان ذلك كذلك قيل بذكر الاثنين ، يراد بذلك الفاعل والمفعول به. فأما أن يذكر بذكر الاثنين ، والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به ، أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين ، فذلك ما لا يُعْرف في كلامها.
وإذا كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ فسادُ قول من قال : " عني بقوله : " واللذان يأتيانها منكم الرجلان " وصحةُ قول من قال : عني به الرجل والمرأة. (1)
__________
(1) قوله : " وصحة قول من قال " معطوف على قوله " فساد قول من قال " مرفوعًا.

(8/83)


وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهن في قوله : " واللاتي يأتين الفاحشة " ، لأن هذين اثنان ، وأولئك جماعة.
وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الحبس كان للثيّبات عقوبة حتى يتوفَّين من قبل أن يجعل لهن سبيلا لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سب وتعيير ، كما كان السبيل التي جعلت لهن من الرجم ، أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المئة ونفي السنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الأذى " الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة ، من قبل أن يجعل لهما سبيلا منه.
فقال بعضهم : ذلك الأذى ، أذًى بالقول واللسان ، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة.
ذكر من قال ذلك :
8819 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فآذوهما " ، قال : كانا يؤذَيَان بالقول جميعًا.
8820 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " ، فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنَّفان ويعيَّران حتى يتركا ذلك.
* * *
وقال آخرون : كان ذلك الأذى ، أذًى اللسان ، غير أنه كان سبًّا.

(8/84)


ذكر من قال ذلك :
8821 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فآذوهما " ، يعني : سبًّا.
* * *
وقال آخرون : بل كان ذلك الأذى باللسان واليد.
ذكر من قال ذلك :
8822 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير وضرب بالنعال.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنّ الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين ، إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام. و " الأذى " قد يقع لكل مكروه نال الإنسان ، (1) من قول سيئ باللسان أو فعل. (2) وليس في الآية بيان أيّ ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ ، (3) ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئهما قطعَ العذر.
وأهل التأويل في ذلك مختلفون ، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان أو اليد ، وجائز أن يكون كان أذى بهما. (4) وليس في العلم بأيِّ ذلك كان من أيٍّ نفعٌ
__________
(1) في المطبوعة " قد يقع بكل مكروه " ، والصواب ما في المخطوطة ، ومعنى " يقع " هنا : يجيء ، أو يوضع ، أو ينزل في الاستعمال.
(2) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف 4 : 374 / 7 : 455.
(3) في المطبوعة : " بيان أن ذلك كان " وهو خطأ ، والصواب ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد ، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما " ، وكان في المخطوطة : " أذى بهما " ، فرجحت أن هذا هو الصواب ، وجعلت الأولى " أذى باللسان أو اليد " بدلا من العطف بالواو.

(8/85)


في دين ولا دنيا ، ولا في الجهل به مضرة ، (1) إذْ كان الله جل ثناؤه قد نسخ ذلك من مُحكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما. فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما ، فما أوجب في " سورة النور : 2 " بقوله : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) . وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما ، فالرجم الذي قضى به رسول الله فيهما. وأجمع أهل التأويل جميعًا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلا بالحدود التي حكم بها فيهم.
* * *
وقال جماعة من أهل التأويل : إن الله سبحانه نسخ بقوله : " ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) [سورة النور : 2] ، قوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " .
ذكر من قال ذلك :
8823 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، قال : كل ذلك نسخته الآية التي في " النور " بالحدّ المفروض.
8824 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " الآية ، قال : هذا نسخته الآية في " سورة النور " بالحدّ المفروض.
8825 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي. عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد فقال : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وليس في العلم بأن ذلك كان من أي نفع " ، وهو خطأ محض ، والصواب ما أثبت ، وهذا تعبير قد سلف مرارًا وعلقت عليه آنفًا 1 : 520 ، س : 16 / 2 : 517 ، س : 15 / 3 : 64 ، تعليق : 1 / 6 : 291 ، تعليق : 1.

(8/86)


فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) .
8826 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، فأنزل الله بعد هذا : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ، فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8827 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " الآية ، جاءت الحدود فنسختها.
8828 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : نسخ الحدّ هذه الآية. (1)
8829 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : " فأمسكوهن في البيوت " الآية ، قال : نسختها الحدود ، وقوله : " واللذان يأتيانها منكم " ، نسختها الحدود. (2)
8830 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ، الآية ، ثم نسخ هذا ، وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة ، رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للذكر جلد مئة.
8831 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت " ، قال : نسختها الحدود.
* * *
__________
(1) الأثر : 8828 - في المطبوعة : " عبيد بن سليمان " ، والصواب من المخطوطة ، وفي المخطوطة خطأ آخر كتب " عتبة بن سليمان " ، وهو خطأ ، وهذا إسناد دائر في التفسير.
(2) الأثر : 8829 - " أبو سفيان المعمري " هو : محمد بن حميد اليشكري ، سلف برقم : 1787 ، وهذا الإسناد مضى كثيرًا منه : 526 ، 1200 ، 1253 ، 1516 ، 1699.

(8/87)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

وأما قوله : فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما ، فإنه يعني به جل ثناؤه : فإن تابا من الفاحشة التي أتيا فراجعا طاعة الله بينهما " وأصلحا " ، يقول : وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما ، والعمل بما يرضي الله " فأعرضوا عنهما " ، يقول : فاصفحوا عنهما ، (1) وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة ، ولا تؤذوهما بعد توبتهما.
* * *
وأما قوله : " إن الله كان توابًا رحيما " ، فإنه يعني : إن الله لم يزل راجعًا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته (2) " رحيما " بهم ، يعني : ذا رحمة ورأفة.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة " ثم يتوبون من قريب " ، يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم.
__________
(1) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 2 : 298 ، 299.
(2) انظر تفسير " كان " بهذا المعنى فيما سلف : 8 : 51 / تعليق : 1 / وتفسير " التوبة " فيما سلف من مراجع اللغة.

(8/88)


وذلك هو " القريب " الذي ذكره الله تعالى ذكره فقال : " ثم يتوبون من قريب " . (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : " بجهالة " .
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أنّ عمله السوء ، هو " الجهالة " التي عناها.
ذكر من قال ذلك :
8832 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدِّث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة.
8833 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : اجتمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصيِ به فهو " جهالة " ، عمدًا كان أو غيره.
8834 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
8835 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : كل من عمل بمعصية الله ، فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه.
8836 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " القريب " فيما يلي ص : 93.

(8/89)


أسباط ، عن السدي : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، ما دام يعصي الله فهو جاهل.
8837 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء.
8838 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه.
8839 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " ، قال : " الجهالة " ، كل امرئ عمل شيئًا من معاصي الله فهو جاهل أبدًا حتى ينزع عنها ، وقرأ : ( هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) [سورة يوسف : 89] ، وقرأ : وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة يوسف : 33]. قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " للذين يعملون السوء بجهالة " ، يعملون ذلك على عمد منهم له.
ذكر من قال ذلك :
8840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : " يعملون السوء بجهالة " ، قال : الجهالة : العمد.

(8/90)


8841 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله.
8842 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : الجهالة : العمد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا.
ذكر من قال ذلك :
8843 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قوله : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ، قال : الدنيا كلها جهالة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قولُ من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها ، عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها. (1)
وذلك أنه غير موجود في كلام العرب تسمية العامد للشيء : " الجاهل به " ، إلا أن يكون معنيًّا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته ، فيقال : " هو به جاهل " ، على معنى جهله بمعنى نفعه وضُرّه. (2) فأما إذا كان عالمًا بقدر مبلغ نفعه وضرّه ، قاصدًا إليه ، فغيرُ جائز من أجل قصده إليه أن يقال (3) " هو به جاهل " ،
__________
(1) انظر فيما سلف 2 : 183 ، تفسيره " الجاهلون " أنهم : السفهاء.
(2) لعل الصواب " بمبلغ نفعه وضره " ، وحرفه الناسخ.
(3) كان في المطبوعة والمخطوطة : " فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال : هو به جاهل " وهو بلا شك كلام لا يستقيم مع الذي قبله ولا الذي بعده ، وسهو الناسخ هنا شيء لا ريب فيه أيضًا ، فظني أنه سبق قلمه بأن كتب " من غير " مكان " من أجل " كما أثبتها ، أو تكون كانت " من جراء قصده إليه " فلم يحسن قراءة " من جرا " فكتب " من غير " ، وهو تصحيف قريب جدًا ، مر عليك أشد منه.

(8/91)


لأن " الجاهل بالشيء " ، هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه أو [الذي] يعلمه ، فيشبَّه فاعله ، (1) إذ كان خطًأ ما فعله ، بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل ، فيخطئ موضع الإصابة منه ، فيقال : " إنه لجاهل به " ، وإن كان به عالمًا ، لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به.
وكذلك معنى قوله : " يعملون السوء بجهالة " ، قيل فيهم : " يعملون السوء بجهالة " وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جَهِل عظيمَ عقاب الله عليه أهلَه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : " أتاه بجهالة " ، بمعنى أنه فعل فعل الجهَّال به ، لا أنه كان جاهلا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كُنْه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبًا ، فلذلك قيل : " يعملون السوء بجهالة " . (2)
قال أبو جعفر : ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول ، لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كُنْه ما فيه. وذلك أنه جل ثناؤه قال : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " دون غيرهم. فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءًا على علم منه بكنه ما فيه ، ثم تاب من قريب (3) توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه وقوله : " باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس
__________
(1) في المخطوطة " أو الذي يعمله فيشبه فاعله " وهو خطأ ، صححه ناشر المطبوعة الأولى " يعلمه " ، وزدت " الذي بين القوسين لكي يستوي جانبا الكلام " .
(2) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1 : 259.
(3) قوله : " توبة " اسم " يكون " في قوله : " أن لا يكون للعالم... " .

(8/92)


من مغربها " (1) وخلاف قول الله عز وجل : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) [سورة الفرقان : 70].
* * *
القول في تأويل قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى : " القريب " في هذا الموضع.
فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم.
ذكر من قال ذلك :
8844 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ثم يتوبون من قريب " ، والقريب قبلَ الموت ما دام في صحته.
8845 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : " ثم يتوبون من قريب " ، قال : في الحياة والصحة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة مَلَك الموت.
__________
(1) هذان الخبران رواهما أبو جعفر بغير إسناد ، وكأنه ذكر معناهما دون لفظهما ، وكأن الأول : " كُلّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أن يَغْفره ، إلا من مات مشركًا أوْ قتلَ مؤمنًا مُتَعمّدًا " خرجه السيوطي في الجامع الصغير ، لأبي داود ، من حديث أبي الدرداء ، وإلى أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك ، من حديث معاوية.
أما الثاني ، فكأنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ عزّ وجَلَّ يبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ ليتوبَ مُسِيءُ النهار ، ويَبْسُط يده بالنهار ليتُوبَ مسيءُ الليل ، حتى تطلُعَ الشَّمْسُ من مغربها " ، أخرجه مسلم 17 : 76 من حديث أبي موسى.

(8/93)


ذكر من قال ذلك.
8846 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ثم يتوبون من قريب " ، والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت.
8847 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران بن حدير قال ، قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يُعاين الملائكة.
8848 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : القريب ، ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى ، وينزلْ به الموت. (1)
4849 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " ، وله التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملَك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت ، فليس له ذاك.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت.
ذكر من قال ذلك :
8850 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك ، " ثم يتوبون من قريب " ، قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب.
8851 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : " ثم يتوبون من قريب " ، قال : الدنيا كلها قريب.
__________
(1) الأثر : 8848 - " محمد بن قيس المدني " ، قاضي عمر بن عبد العزيز ، قال ابن سعد : " كان كثير الحديث عالمًا " ، ذكره ابن حبان في الثقات. له حديث واحد في مسلم ، عن أبي صرمة ، عن أبي هريرة. وهو الذي يروي عنه أبو معشر. مترجم في التهذيب.

(8/94)


8852 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ثم يتوبون من قريب " ، قبل الموت.
8853 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة قال : ذُكر لنا أن إبليس لما لُعن وأُنظر ، قال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح. فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التَّوبة ما دام فيه الروح.
8854 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثَمَّ أبو قلابة ، فحدث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النَّظِرة ، فقال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.
8855 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النَّظِرة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح! قال : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح.
8856 - حدثني ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبليس لما رأى آدم أجْوفَ قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أحُول بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح. (1)
__________
(1) الأحاديث : 8853 - 8856 - هذه أحاديث مرسلة ، أشار إليها ابن كثير في تفسيره 2 : 380 ، ثم قال : " وقد ورد في هذا حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عمرو بن أبي عمرو ، وأبي الهيثم العتواري ، كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : يا ربّ ، وعزّتك وجَلالكَ لا أَزال أُغويهم مَا دامت أَرواحُهُم في أَجسادِهم!
فقال الله عز وجلّ : وعزّتي وجَلالي لا أزَال أغفِر لهم ما استغفروا لي "

(8/95)


8857 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغر " . (1)
8858 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله. (2) .
8859 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ. (3)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم ، في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيَه ، وقبل أن يُغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحَشْرجة وغمّ الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندمٍ
__________
(1) الأثر : 8857 - " بشير بن كعب بن أبي الحميري ، أبو أيوب العدوي " . ثقة معروف ، روى عن أبي الدرداء ، وأبي ذر ، وأبي هريرة. و " بشير " مصغر.
وهذا حديث آخر مرسل ، رواه الإمام أحمد في مسنده 6610 ، 6408 مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب. من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، عن ابن عمر ، وهو حديث صحيح. ورواه الترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : " حسن غريب " . وانظر تخريجه من شرح المسند لأخي السيد أحمد.
و " الغرغرة " : أن يجعل الشراب في فمه ويردده إلى أقصى الحلق ، ثم لا يبلعه. شبهوا تردد الروح قبل خروجها بمنزلة ما يتغرغر به المريض. وهذه صفة عجيبة بلفظ واحد ، لحالة من شهدها شهد للعرب أنهم أهل بيان ، وأن لغتهم أدنى اللغات في تصويرها للدقيق المشكل بكلمة واحدة.
(2) الأثر : 8858 - هذا حديث منقطع ، فإن عبادة بن الصامت مات سنة 34. وولد قتادة سنة 61 ، وانظر التعليق على الأثر السالف.
(3) الأثر : 8859 - انظر التعليق على الأثر : 8857.

(8/96)


على ما سلف منه ، وعزمٍ منه على ترك المعاودة ، (1) وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة : فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا وبغمّ الحشرجة مغمورًا ، فلا إخالُه إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبًا. ولذلك قال من قال : " إن التوية مقبولة ، ما لم يغرغر العبد بنفسه " ، (2) فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقلَ الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعةً من شروده عن رَبه إلى طاعته ، كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (3) " فأولئك " ، فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " يتوب الله عليهم " ، دون من لم يتب حتى غُلب على عقله ، وغمرته حشرجة ميتته ، فقال وهو لا يفقه ما يقول : " إني تبت الآن " ، خداعًا لربه ، ونفاقًا في دينه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إلا ممن ندم على ما سلف منه ، وعزم فيه على ترك المعاودة " ، تصرف فيما كان في المخطوطة ، لما رأى من تحريفها ، وكان فيها : " إلا من ندم على ما سلف منه ، وعرف فيه على ترك المعاودة " ، والجملة الأولى مستقيمة ، وقد أثبتها ، والثانية تصحيف صواب قراءته ما أثبت.
(2) قوله : " ولذلك قال من قال " ، دال على أن أبا جعفر. حين روى الأحاديث الثلاثة المرسلة : 8857 - 8859 ، لم يكن عنده ما صح من رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(8/97)


وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

ومعنى قوله : " يتوب الله عليهم " ، يرزقهم إنابة إلى طاعته ، ويتقبل منهم أوبتهم إليه وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم. (1)
* * *
وأما قوله : " وكان الله عليما حكيما " ، فإنه يعني : ولم يزل الله جل ثناؤه (2) " عليما " بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة ، بعد إدبارهم عنه ، المقبلين إليه بعد التولية ، وبغير ذلك من أمور خلقه " حكيمًا " ، (3) في توبته على من تاب منهم من معصيته ، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره ، ولا يدخل أفعاله خلل ، ولا يُخالطه خطأ ولا زلل. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله " حتى إذا حضر أحدهم الموت " ، يقول : إذا حشرج أحدهم بنفسه ، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه ، قال وقد غُلب على نفسه ، وحيل بينه وبين فهمه ، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " و " تاب " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر معنى " كان " فيما سلف قريبًا : 88 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) كان في المخطوطة والمطبوعة : " حكيم " ، ورددتها إلى نص الآية والسياق.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " لا يخلطه " ، وإنما يقال : " خلط الشيء بالشيء " ، وليس هذا مكانها ، بل الصواب ما أثبت.
وانظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.

(8/98)


" إني تبت الآن " ، يقول : فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة ، لأنه قال ما قال في غير حال توبة ، كما : -
8860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن يَعْلَى بن نعمان قال ، أخبرني من سمع ابن عمر يقول : التوبة مبسوطة ما لم يَسُقْ ، ثم قرأ ابن عمر : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموتُ قال إنّي تبت الآن " ، ثم قال : وهل الحضور إلا السَّوق. (1)
8861 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " قال : إذا تبيَّن الموتُ فيه لم يقبل الله له توبة.
8863 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن " ، فليس لهذا عند الله توبة.
8863 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت إبراهيم بن ميمون يحدِّث ، عن رجل من بني الحارث قال ، حدثنا رجل منا ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : من تاب قبل موته بعام تِيبَ عليه ، حتى ذكر شهرًا ، حتى ذكر ساعة ، حتى ذكر فُواقًا. قال : فقال رجل : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى
__________
(1) الأثر : 8860 - " يعلى بن نعمان " كوفي ثقة. مترجم في الكبير 4 / 2 / 418 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 304 ، وتعجيل المنفعة : 457 ، روى عن عكرمة ، وبلال بن أبي الدرداء. روى عنه العلاء بن المسيب ، والثوري ، والزهري.
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 131 ونسبه أيضًا لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي.
و " ساق الميت يسوق " و " ساق بنفسه " ، و " ساق نفسه " ، " سوقًا وسياقًا وسووقًا " ، و " حضرت فلانًا في السوق ، وفي السياق الموت " : وذلك النزع عند إقبال الموت.

(8/99)


إذا حضر أحدهم الموت قال إنَّي تبت الآن " ؟ فقال عبد الله : أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
8864 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم قال : كان يقال : التوبة ، مبسوطة ما لم يُؤخذ بكَظَمِه. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن "
فقال بعضهم : عُني به أهل النفاق.
ذكر من قال ذلك :
8865 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " ، قال : نزلت الأولى في المؤمنين ، ونزلت الوسطى في المنافقين يعني : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات " ، والأخرى في الكفار يعني : " ولا الذين يموتون وهم كفار " .
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك أهل الإسلام.
__________
(1) الأثر : 8863 - أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم : 6920 ، وأبو داود الطيالسي : 301 ، قال أخي السيد أحمد في شرح المسند : " إسناده ضعيف ، لإبهام الرجل من بني الحارث ، راويه عن التابعي " ، وقد استوفى الكلام في تخريجه هناك.
وقوله : " حتى ذكر فواقًا " ، أي : فواق ناقة. وهذا مما يريدون به الزمن القليل القصير ، وأصل " الفواق " (بضم الفاء وفتح الواو) هو الوقت بين الحلبتين ، إذا فتحت يدك وقبضتها ثم أرسلتها عند الحلب.
(2) " الكظم " (بفتحتين) وجمعه " كظام " (بكسر الكاف) و " أكظام " ، وهو مخرج النفس عند الحلق. يريد : عند خروج نفسه ، وانقطاع نفسه. ومنه قليل : " كظم غيظه " ، أي رده وحبسه ، و " رجل كظوم " ، شديد الكتمان لما يعتلج في نفسه.
وكان في المخطوطة : " ما أخذ بكظمه " وهو خطأ من الناسخ ، وقد رواه ابن الأثير ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 131 ، ونسبه لابن جرير وابن المنذر ، باللفظ الذي أثبته ناشر المطبوعة الأولى ، وهو الصواب المحض إن شاء الله.

(8/100)


ذكر من قال ذلك :
8866 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا في هذه الآية : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " قال : هم المسلمون ، ألا ترى أنه قال : " ولا الذين يموتون وهم كفار " ؟
* * *
وقال آخرون : بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان ، غير أنها نسخت.
ذكر من قال ذلك :
8867 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار " فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [سورة النساء : 48 ، 116] ، فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام. (2) وذلك أن المنافقين كفار ، فلو كان معنيًّا به أهل النفاق لم يكن لقوله : " ولا الذين يموتون وهم كفار " معنًى مفهوم ، إذْ كانوا والذين قبلهم في معنى واحد : من أن جميعهم كفار. ولا وجه لتفريق أحكامهم ، والمعنى
__________
(1) الأثر : 8867 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 131 ، ونسبه أيضًا لأبي داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
(2) يعني الأثر رقم : 8866 ، فيما سلف.

(8/101)


الذي من أجله بطل أن تكون [لهم] توبة ، (1) واحدٌ. وفي تفرقة الله جل ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم ، بأن سمَّى أحد الصنفين كافرًا ، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات ، ولم يسمهم كفارًا ما دل على افتراق معانيهم. وفي صحة كون ذلك كذلك ، صحةُ ما قلنا وفسادُ ما خالفه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار فموضع " الذين " خفض ، لأنه معطوف على قوله : " للذين يعملون السيئات " . (2)
وقوله : " أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليما " ، يقول : هؤلاء الذين يموتون وهم كفار " أعتدنا لهم عذابًا أليما " ، لأنهم من التوبة أبعد ، لموتهم على الكفر. (3) كما : -
__________
(1) في المخطوطة بعد قوله : " معنى مفهوم " ما نصه : " لأنهم إن كانوا الذين قبلهم في معنى واحد ، من أن جميعهم كفار. ولا وجه لتفريق أحكامهم والمعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد " ، وهي عبارة مضطربة أشد الاضطراب ، إلا أن الناسخ ضرب بقلم خفيف على لام " لأنهم " ، فتبين لي أن الذي بعدها " إذ كانوا الذين قبلهم " ، وسقطت الواو من الناسخ الساهي عن كتابته. وسها أيضًا فأسقط " لهم " التي وضعتها بين القوسين. فاستقام الكلام كالذي كتبت.
أما ناشر المطبوعة الأولى فقد أساء غاية الإساءة ، فجعل الجملة هكذا : " لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد : من أن جميعهم كفار. فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة " فلم ينتبه لما ضرب عليه الناسخ في " لأنهم " وزاد في " كانوا الذين قبلهم " فجعلها " كانوا هم والذين قبلهم " . ثم جعل " ولا جه " ، " فلا وجه " وجعل " أحكامهم " ، " أحد منهم " ثم جعل " والمعنى " " في المعنى " وزاد " مقبولة " من عنده في آخر الكلام ، فأفسد الكلام إفسادًا آخر. ورحم الله أبا جعفر ، وغفر لناسخ كتابه ، والحمد لله الذي هدى إلى الصواب.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 259.
(3) وهذا أيضًا عبث آخر من ناشر المطبوعة الأولى ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة فقلب هذه الجملة قلبًا أهدر معناها ، واستأصل المعنى الذي أراده أبو جعفر ، فكتب : " لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر " ظن " لمونهم " كما كتبها الناسخ ، " كونهم " ، فعبث بالكلام عبثًا لا يرتضيه أحد من أهل العلم. وانظر نص الكلام في الأثر الذي يليه.

(8/102)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

8868 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : " ولا الذين يموتون وهم كفار " ، أولئك أبعدُ من التوبة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى : " أعتدنا لهم " .
فقال بعض البصريين : معنى " أعتدنا " ، " أفعلنا " من " العَتَاد " . قال : ومعناها : أعددنا. (1)
* * *
وقال بعض الكوفيين : " أعددنا " و " أعتدنا " ، معناهما واحد.
* * *
فمعنى قوله : " أعتدنا لهم " ، أعددنا لهم " عذابًا أليما " ، يقول : مؤلمًا موجعًا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني تبارك وتعالى [بقوله] : (3) " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرهًا " ، يقول : لا يحل
__________
(1) هذا البصري ، هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 120.
(2) انظر تفسير " أليم " ، فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) ما بين القوسين زيادة تقتضيها سياقة كلامه.

(8/103)


لكم أن ترثوا نكاحَ نساء أقاربكم وآبائكم كَرْهًا. (1)
* * *
فإن قال قائل : كيف كانوا يرثونهن ؟ وما وجه تحريم وراثتهن ؟ فقد علمت أن النساء مورثات كما الرجال مورثون!
قيل : إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هن مِتن فتركن مالا وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها ، كان ابنه أو قريبُه أولى بها من غيره ، ومنها بنفسها ، إن شاء نكحها ، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوّجها حتى تموت. فحرّم الله تعالى ذلك على عباده ، وحظَر عليهم نكاحَ حلائل آبائهم ، ونهاهم عن عضلهن عن النكاح.
* * *
وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
8869 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أسباط بن محمد قال ، حدثنا أبو إسحاق يعني : الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، قال : كانوا إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحقَّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوّجوها ، وإن شاؤوا لم يزوّجوها ، وهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الكره " فيما سلف 4 : 297 ، 298 / 6 : 565.
(2) الأثر : 8869 " أبو إسحاق الشيباني " ، هو : سليمان بن أبي سليمان ، مضت ترجمته برقم : 1307 ، 3003 ، 3023.
وهذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8 : 184) ، والبيهقي في السنن الكبرى 7 : 138 ، وأبو داود في سننه 2 : 310 رقم : 2089 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 131 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، والنسائي وابن أبي حاتم. وقد استوفى الحافظ ابن حجر الكلام فيه في الفتح وانظر تفسير ابن كثير 2 : 381382.

(8/104)


8870 - وحدثني أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال ، حدثني محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان ذلك لهم في الجاهلية ، فأنزل الله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " . (1)
* * *
8871 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة " ، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضُلها حتى تموت أو تردَّ إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك يعني أن الله نهاكم عن ذلك. (2)
__________
(1) الأثر : 8870 " أحمد بن محمد الطوسي " ، شيخ الطبري ، روى عنه باسم " أحمد بن محمد بن حبيب " في التاريخ ، وتمام نسبه : " أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب " ، وقد مضت ترجمته برقم : 3833.
و " عبد الرحمن بن صالح الأزدي العتكي " ، كان رافضيًا ، وكان يغشى أحمد بن حنبل ، فيقربه ويدنيه. فقيل له فيه ، فقال : سبحان الله! رجل أحب قومًا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم! وهو ثقة. وقال يحيى بن معين : " يقدم عليكم رجل من أهل الكوفة ، يقال له عبد الرحمن بن صالح ، ثقة صدوق شيعي ، لأن يخر من السماء ، أحب إليه من أن يكذب في نصف حرف " . وقال ابن عدي : " معروف مشهور في الكوفيين ، لم يذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه ، إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع " . مترجم في التهذيب.
و " يحيى بن سعيد " هو الأنصاري ، مضت ترجمته في : 2154 ، 3395 ، 5074.
و " محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف " ، روى عن أبيه واسم أبيه : " أسعد " وعن أبان بن عثمان. روى عنه يحيى بن سعيد ، وابن إسحاق ، ومالك. ثقة ، وأشار الحافظ ابن حجر في ترجمته إلى هذا الأثر ، أنه رواه النسائي ، والظاهر أنه في السنن الكبرى.
و " أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري " واسمه " أسعد بن سهل... " ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعامين ، فيما روى. قال ابن سعد : " ثقة كثير الحديث " .
وهذا الأثر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 132 ، وزاد نسبته للنسائي ، وابن أبي حاتم. وخرجه ابن كثير منسوبًا إلى ابن مردويه بمثله 2 : 382.
(2) الأثر : 8871 رواه أبو داود في سننه 1 : 311 رقم : 2090 ، من طريق علي بن حسين بن واقد عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . والدر المنثور 2 : 131.
وقوله : " أحكم الله على ذلك " ، فسره بعد ، وأصله من " حكمت الفرس وأحكمته " إذا قدعته وكففته ، و " حكم الرجل وأحكمه " منعه مما يريد. وفي المخطوطة " فأحكم عن ذلك " ، وأثبتت المطبوعة الأولى نص أبي داود والدر المنثور.

(8/105)


8872 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، قال : كانت الأنصار تفعل ذلك. كان الرجل إذا مات حميمه ، ورث حميمه امرأته ، فيكون أولى بها من وليِّ نفسها. (1)
8873 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا " الآية ، قال : كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه ، فهو أحق بامرأته ، إن شاء أمسكها ، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها ، أو تموت فيذهب بمالها قال ابن جريج ، فأخبرني عطاء بن أبي رباح : أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فترك امرأة حبسها أهلهُ على الصبيِّ يكون فيهم ، فنزلت : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " الآية قال ابن جريج ، وقال مجاهد : كان الرجل إذا توفي أبوه ، كان أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها ، أو يُنكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه قال ابن جريج ، وقال عكرمة نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم ، من الأوس ، توفّي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تُركت فأنكح! فنزلت هذه الآية. (2)
__________
(1) " الحميم " القريب الذي توده ويودك ، وتهتم لأمره.
(2) الأثر : 8873 - خبر كبيشة بنت معن. خرجه ابن الأثير في أسد الغابة 5 : 538 ، ونسبه لأبي موسى - والسيوطي في الدر المنثور 2 : 132 ، وزاد نسبته لابن المنذر. وقوله : " جنح عليها " : بسط عليها جناحه - أو كنفه - ومال عليها ، يعني أنه مال عليها ليحول بين الناس وبينها ، وسيأتي في الأثر رقم : 8877 تفسير جيد لمعنى هذه الكلمة ، وهو قول السدي : " فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه ، فهو أحق بها أن ينكحها " ، فهذا الفعل - أي إلقاء الثوب على المرأة - هو الذي استعمل له عكرمة لفظ " جنح عليها " . ولم أجد في كتب اللغة من أثبت هذا المجاز الجيد ، وهو حقيق أن يثبت فيها مشروحًا. فأثبته هناك إن شئت. وانظر أيضًا إلقاء الثوب على المرأة في الآثار الآتية رقم : 8878 ، 8880 ، 8881 ، 8882.

(8/106)


8874 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، قال : كان إذا توفي الرجل ، كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته ، ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها ، أو يُنكحها من شاء ، أخاه أو ابنَ أخيه.
8875 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، مثل قول مجاهد.
8876 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال ، سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.
8877 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه ، فإذا مات وترك امرأته ، فإن سبق وارِث الميت فألقى عليها ثوبه ، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه ، أو ينكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها ، فهم أحق بنفسها.
8878 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي (1) قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ، ألقى الرجل عليها ثوبه ، فورث نكاحها ، وكان أحق بها. وكان ذلك عندهم نكاحًا. فإن
__________
(1) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، وقد سلف مرارًا في هذا الإسناد الدائر في التفسير.

(8/107)


شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في الشِّرك.
8879 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، قال : كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا. فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه ، لا تستطيع أن تمتنع ، (1) فإن أحبّ أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها ، وإن كره فارقها ، وإن كان صغيرًا حبست عليه حتى يكبر ، فإن شاء أصابها ، وإن شاء فارقها. فذلك قول الله تبارك وتعالى : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " .
8880 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، وذلك أن رجالا من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها ، فلم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " .
8881 - حدثني ابن وكيع قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها فجاء رجلٌ فألقى عليها ثوبه ، كان أحق الناس بها. قال : فنزلت هذه الآية : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على هذا التأويل : يا أيها الذين آمنوا ، لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها فترك ذكر " الآباء " و " الأقارب " و " النكاح " ، ووجّه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء ، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " لا يستطيع أن يمنع " ، وهو خطأ من الناسخ لا يستقيم به الكلام ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(8/108)


الكلام ، إذ كان مفهومًا معناه عندهم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحل لكم ، أيها الناس ، أن ترثوا النساء تَرِكاتهن كرهًا. قال : وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنهم كانوا يعضلون أيَاماهُنَّ ، وهن كارهات للعضل ، حتى يمتن ، فيرثوهن أموالهنّ.
ذكر من قال ذلك :
8882 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. (1)
8883 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، قال : نزلت في ناس من الأنصار ، كانوا إذا مات الرجل منهم ، فأمْلَكُ الناس بامرأته وليُّه ، فيمسكها حتى تموت فيرثها ، فنزلت فيهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، القولُ الذي ذكرناه عمن قال : معناه : " لا يحل لكم أن ترثوا نساء أقاربكم " ، (2) لأن الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل المواريث ، فذلك لأهله ، كره وراثتهم إيَّاه الموروثَ ذلك عنه من الرجال أو النساء ، أو رضي. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فإن كانت قبيحة حبسها... " ، وفي المخطوطة : " ذميمة " ، والصواب ما أثبت. والدميمة : القبيحة.
(2) في المطبوعة : " أن ترثوا النساء كرهًا أقاربكم " ، وهو كلام فاسد كل الفساد ، وأساء التصرف في الخطأ الذي كان في المخطوطة ، وكان فيها : " أن ترثوا النساء أقاربكم " ، وهو سبق قلم من الناسخ ، صوابه ما أثبت.
(3) كان في المخطوطة : " فذلك لأهله نحوه وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء أو رضي " ، فاستعجم على الناشر الأول للتفسير قوله : " نحوه " ولم يجد لها معنى ، فكتب الجملة : " فذلك لأهله نحو وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء. فقد علم بذلك... " جعل " نحوه " " نحو " بغير هاء ، وحذف " أو رضي " ليستقيم الكلام فيما يتوهم ، ولكنه أصبح لغوًا لا معنى له!! والصواب أن يقرأ " نحوه " - " كره " ، فيستقيم الكلام كما في المخطوطة بغير حذف. وقد أساء ناشر المطبوعة الأولى إلى هذا الكتاب الجليل إساءة بليغة ، بما تصرف فيه ، كما رأيت في آلاف من تعليقاتي ، وكما سترى. وغفر الله لنا وله.

(8/109)


فقد علم بذلك أنه جل ثناؤه لم يحظر على عباده أن يرثوا النساء فيما جعله لهم ميراثًا عنهن ، (1) وأنه إنما حظَر أن يُكْرَهن موروثات ، بمعنى حظر وراثة نكاحهن ، إذا كان ميِّتهم الذي ورثوه قد كان مالكًا عليهن أمرَهن في النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر مالَه منافع. (2)
فأبان الله جل ثناؤه لعباده : أن الذي يملكه الرجل منهم من بُضْع زوْجه ، (3) معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها. فإن المالك بُضع زوجته إذا هو مات ، لم يكن ما كان له ملكًا من زوجته بالنكاح لورثته بعده ، كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته ، بميراثهم ذلك عنه. (4)
* * *
وأما قوله تعالى : " ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : تأويله : " ولا تعضلوهن " : أي ولا تحبسوا ، يا معشر ورثة من مات من الرجال ، أزواجَهم عن نكاح من أردنَ نكاحه من الرجال ، كيما يمتن " فتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، أي : فتأخذوا من أموالهن إذا مِتن ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثًا " ، وصواب السياق يقتضي " فيما " كما أثبتها.
(2) في المخطوطة : " وسائر ماله نافع " ، والصواب ما في المطبوعة ، وقوله : " ما له منافع " أي : وسائر الأشياء التي لها منافع ينتفع بها مالكها.
(3) في المطبوعة : " زوجته " وأثبت ما في المخطوطة. و " البضع " (بضم الباء وسكون الضاد) : فرج المرأة ، وقيل : هو الجماع ، وقيل : هو عقد النكاح. وكلها متقاربة ، والأول أولاها ، والباقي متفرع عليه.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " بميراثه ذلك عنه " بالإفراد ، والصواب الجمع كما أثبته.

(8/110)


ما كان موتاكم الذين ورثتموهم ساقوا إليهن من صدقاتهن.
وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم ، منهم ابن عباس والحسن البصري وعكرمة. (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا تعضُلوا ، أيها الناس ، نساءكم فتحبسوهن ضرارًا ، ولا حاجة لكم إليهن ، فتُضِرُّوا بهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن من صَدُقاتهن.
ذكر من قال ذلك :
8884 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تعضلوهن " ، يقول : لا تقهروهن " لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، يعني ، الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر ، فَيُضِرُّ بها لتفتدي.
8885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا تعضلوهن " ، يقول : لا يحل لك أن تحبس امرأتك ضرارًا حتى تفتدي منك قال وأخبرنا معمر قال ، وأخبرني سماك بن الفضل ، عن ابن البيلماني قال : نزلت هاتان الآيتان ،
__________
(1) انظر الآثار رقم : 8871 ، 8873 ، 8877 ، وما بعدها.

(8/111)


إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام. (1)
8886 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر قال ، أخبرنا سماك بن الفضل ، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن " ، قال : نزلت هاتان الآيتان : إحداهما في الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام ، قال عبد الله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء في الجاهلية ، ولا تعضلوهن في الإسلام. (2)
8887 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " ولا تعضلوهن " ، قال : لا تحبسوهن.
8888 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، أما " تعضلوهن " ، فيقول : تضاروهن ليفتدِين منكم.
8889 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ولا تعضلوهن " ، قال : " العضل " ، أن يكره الرجل امرأته فيضرُّ بها حتى تفتدي منه ، قال الله تبارك وتعالى : ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ) [سورة النساء : 21]. (3)
* * *
وقال آخرون : المعنيُّ بالنهي عن عضل النساء في هذه الآية : أولياؤهن.
ذكر من قال ذلك :
8890 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أن ينكحن أزواجهن " ، كالعَضْل في " سورة البقرة " . (4)
__________
(1) الأثر : 8885 - " سماك بن الفضل الصنعاني " ، ثقة. قال الثوري : لا يكاد يسقط له حديث لصحته. و " معمر " ، هو معمر بن راشد ، يروى عنه.
و " ابن البيلماني " ، هو : عبد الرحمن بن البيلماني ، مولى عمر. ثقة. مضت ترجمته برقم : 4946 ، 4947.
(2) الأثر : 8886 - " عبد الله " يعني عبد الله بن المبارك.
وكان في المطبوعة : " والأخرى في الإسلام " بإسقاط " أمر " . وكذلك كتب ناسخ المخطوطة ، ولكنه زاد " أمر " في الهامش ، فأثبتها.
(3) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ يكثر من ناشر المطبوعة السالفة ، والصواب من المخطوطة ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(4) انظر تفسير الآية رقم : 232 ، في 5 : 17 - 27. وكان في المخطوطة : " كالعضل في سورة " وأسقط " البقرة " .

(8/112)


8891 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون : بل المنهيُّ عن ذلك : زوجُ المرأة بعد فراقه إياها. وقالوا : ذلك كان من فعل الجاهلية ، فنهوا عنه في الإسلام.
ذكر من قال ذلك :
8892 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان العضلُ في قريش بمكة ، ينكح الرجل المرأةَ الشريفة فلعلها أن لا توافقه ، (1) فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب ، فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها ، قال : فهذا قول الله : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " الآية.
* * *
قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى معنى " العضل " وما أصله ، بشواهد ذلك من الأدلة. (2)
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، قول من قال : نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محبّ ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة ، إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره ، مضارّة منه لها بذلك ، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك أو لوليها الذي إليه إنكاحها.
__________
(1) في المطبوعة : " فلعلها لا توافقه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 5 : 24 ، 25 ، وما قبل ذلك من الآثار.

(8/113)


وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحدٍ غيرهما ، وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممن أتاها شيئًا فيقال إنْ عضلها عن النكاح : " عَضَلها ليذهب ببعض ما آتاها " ، كان معلومًا أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها ، هو زوجها الذي له السبيلُ إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه.
وإذا صح ذلك ، وكان معلومًا أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد السبيلَ على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه ، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عَضْله إياها ، أتت بفاحشة أم لم تأت بها ، (1) وكان الله جل ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهن إذا آتين بفاحشة مبيِّنة حتى يفتدين منه (2) كان بيِّنًا بذلك خطأ التأويل الذي تأوّله ابن زيد ، وتأويلِ من قال : " عنى بالنهي عن العضل في هذه الآية أولياء الأيامى " ، وصحةُ ما قلنا فيه. (3)
* * *
[قوله] : " ولا " تعضلوهن " ، (4) في موضع نصب ، عطفًا على قوله : " أن ترثوا النساء كرهًا " . ومعناه : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ، ولا أن تعضلوهن. (5)
وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود.
ولو قيل : هو في موضع جزم على وجه النهي ، لم يكن خطأ. (6)
* * *
__________
(1) قوله : " وكان الله جل ثناؤه " ، معطوف على قوله : " وكان معلومًا " .
(2) قوله : " كان بينًا بذلك... " جواب " إذا " في قوله : " وإذا صح ذلك " .
(3) قوله : " وصحة ما قلنا فيه " مرفوع معطوف على " خطأ " في قوله : " كان بينًا بذلك خطأ التأويل " .
(4) زدت ما بين القوسين ، اتباعًا لنهج أبي جعفر في تفسير الآي السالفة كلها.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " ولا تعضلوهن " بإسقاط " أن " ، وهو خطأ ، يدل عليه قوله بعد : " وكذلك هي في حرف ابن مسعود " - وقراءة ابن مسعود : { ولا أن تعضلوهن } وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 259.
(6) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 259.

(8/114)


القول في تأويل قوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لا يحل لكم ، أيها المؤمنون ، أن تعضُلوا نساءكم ضرارًا منكم لهن ، وأنتم لصحبتهن كارهون ، وهن لكم طائعات ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، فيحل لكم حينئذ الضرارُ بهن ليفتدين منكم. (1)
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الفاحشة " التي ذكرها الله جل ثناؤه في هذا الموضع. (2)
فقال بعضهم : معناها الزنا ، وقال : إذا زنت امرأة الرجل حلَّ له عَضْلها والضرارُ بها ، لتفتدي منه بما آتاها من صداقها.
ذكر من قال ذلك :
8893 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا أشعث ، عن الحسن - في البكر تَفْجُر قال : تضرب مئة ، وتنفى سنة ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه. وتأوَّل هذه الآية : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " .
8894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني - في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة ، أخذ ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك الحدود.
__________
(1) في المخطوطة بعد : " ليفتدين منكم " ما نصه : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " ، وهو تكرار أحسن الناشر الأول إذ حذفه.
(2) انظر تفسير " الفاحشة " و " الفحشاء " فيما سلف : 73 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.

(8/115)


8895 - حدثنا أحمد بن منيع قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة ، (1) فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه.
8896 - حدثنا ابن حميد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة - في الرجل يطّلع من امرأته على فاحشة ، فذكر نحوه.
8897 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، وهو الزنا ، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
8898 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الكريم : أنه سمع الحسن البصري : " إلا أن يأتين بفاحشة " ، قال : الزنا. قال : وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان : فإن فعلت ، حلَّ لزوجها أن يكون هو يسألها الخُلْع ، تفتدي نفسها. (2)
* * *
وقال آخرون : " الفاحشة المبينة " ، في هذا الموضع ، النشوزُ.
ذكر من قال ذلك :
8899 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، وهو البغض والنُّشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
8900 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم في قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن ) في قراءة ابن مسعود. قال : إذا عصتك وآذتك ، فقد حل لك
__________
(1) في المخطوطة : " إذا رأى الرجل امرأته فاحشة " والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة : " تفتدي سلها " غير بينة ، وصواب قراءتها فيما أرجح " نفسها " . أما المطبوعة ، فقد حذف الكلمة كلها ، وجعل الفعل " لتفتدي " .

(8/116)


أخذ ما أخذتْ منك. (1)
8901 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مطرف بن طريف ، عن خالد ، عن الضحاك بن مزاحم : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، قال : الفاحشة ههنا النشوز. فإذا نشزَت ، حل له أن يأخذ خُلْعها منها. (2)
8902 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، قال : هو النشوز.
8903 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء بن أبي رباح : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، فإن فعلن : إن شئتم أمسكتموهن ، وإن شئتم أرسلتموهن.
8904 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، (3) سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، قال : عَدَل ربنا تبارك وتعالى في القضاء ، فرجع إلى النساء فقال : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، و " الفاحشة " : العصيان والنشوز. فإذا كان ذلك من قِبَلها ، فإن الله أمره أن يضربها ، وأمره بالهَجر. فإن لم تدع العصيان والنشوز ، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية.
* * *
__________
(1) الأثر : 8900 - مضى برقم : 4828 ، وانظر التعليق عليه هناك. في المخطوطة : " فقد حل لك ما أخذت منك " وفوق " منك " " ط " علامة الخطأ ، وقد صححه ناشر المطبوعة الأول من الدر المنثور 2 : 132 ، وقد مضى في الإسناد السالف على الصواب. وكان هنا " إذا عضلت وآذتك " ، وصوابه من الإسناد السالف ، كما بينته هناك.
(2) الأثر : 8901 - " مطرف بن طريف الحارثي " ، روى عن الشعبي وأبي إسحاق السبيعي ، وغيرهما ثقة. مترجم في التهذيب.
" وخالد " هو : " خالد بن أبي نوف السجستاني " ، يروي عن ابن عباس مرسلا ، وروى عن عطاء بن أبي رباح ، والضحاك بن مزاحم. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ كثر جدًا في المطبوعة ، صوابه من المخطوطة ، وهو إسناد دائر في التفسير ، فلن أشير إلى تصحيحه بعد هذه المرة.

(8/117)


قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل قوله : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، أنه معنىٌّ به كل " فاحشة " : من بَذاءٍ باللسان على زوجها ، (1) وأذى له ، وزنًا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، كلَّ فاحشة متبيّنةٍ ظاهرة. (2) فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنًا أو نشوز ، (3) فله عضْلُها على ما بين الله في كتابه ، والتضييقُ عليها حتى تفتدي منه ، بأيِّ معاني الفواحش أتت ، (4) بعد أن تكون ظاهرة مبيِّنة (5) بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى ، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كالذي :
8905 - حدثني يونس بن سليمان البصري قال ، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال ، حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يُوطِئن فُرُشكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. (6)
__________
(1) في المطبوعة : " بذاءة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، و " البذاء " و " البذاءة " واحد.
(2) في المطبوعة : " مبينة ظاهرة " ، وهو لفظ الآية ، وفي المخطوطة سيئة الكتابة ، فرأيت الأجود أن تكون " متبينة " ، فأثبتها كذلك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فلكل زوج امرأة " ، والسياق يقتضي " فلكل " ، لقوله بعد " فله عضلها " .
(4) في المخطوطة : " بأن معاني فواحش أتت " ، وهو تصحيف ، وفي المطبوعة : " بأي معاني فواحش أتت " ، فأصاب ، ولكنه أغفل أن يجعل " فواحش " " الفواحش " لتستقيم عربية الكلام.
(5) قوله : " بظاهر كتاب الله " متعلق بقوله آنفًا " : " فكل زوج امرأة... فله عضلها... بظاهر كتاب الله " وهكذا السياق.
(6) الحديث : 8905 - " يونس بن سليمان البصري " - شيخ الطبري : هكذا ثبت اسمه في هذا الموضع. ولم أجد في شيوخ الطبري من يسمى بهذا ، بل لم أجد ذلك في سائر الرواة فيما عندي من المراجع.
والراجح - فيما أرى - بل أكاد أوقن أنه محرف عن " يوسف بن سلمان " . وقد روى عنه الطبري قطعتين من هذا الحديث ، بهذا الإسناد : 2003 ، 2365. وهو حديث جابر - الطويل في الحج.
وهذا الحديث قطعة من حديث جابر بن عبد الله ، في صفة حجة الوداع. وقد بينا تخريجه في : 2003. وهذه القطعة ذكرها السيوطي 2 : 132 ، منسوبة للطبري وحده! ففاته - رحمه الله - أنها قطعة من الحديث الطويل.

(8/118)


8906 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ، إن النساء عندكم عَوَانٍ ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يُوطئن فُرُشكم أحدًا ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. (1)
* * *
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدًا ، وأن لا تعصيه في معروف ، وأنّ الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه ، وإنما هو واحب عليه إذا أدَّت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من حقكم عليهن أن لا يوطئن
__________
(1) الحديث : 8906 - موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 174.
وهذا الإسناد ضعيف جدًا ، من أجل " موسى بن عبيدة الربذي " ، كما بينا في : 1875 ، 1876.
والحديث ذكره السيوطي 2 : 132 ، ولم ينسبه لغير الطبري. ولم أجده في مكان آخر.
ومعناه ثابت صحيح ، بصحة حديث جابر الذي قبله هنا.
وهو ثابت أيضًا من حديث عمرو بن الأحوص الجشمي ، مرفوعًا. رواه الترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : " حديث حسن صحيح " . كما في الترغيب والترهيب 3 : 73.
وهو ثابت أيضًا من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه ، مرفوعًا. رواه أحمد في المسند 5 : 72 - 73 (حلبي).
عوان جمع عانية : وهي الأسيرة ، يقول : هي عندكم بمنزلة الأسرى ، وصدق نبي الله ، هدى إلى الحق وبينه ، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيما. و " العانية " من : " عنا الرجل يعنو عنوًا وعناء " إذا ذل لك واستأسر ، فهو " عان " .

(8/119)


فرشكم أحدًا " إنما هو أن لا يمكِّنّ من أنفسهن أحدًا سواكم. (1)
وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبيِّنٌ أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيرَه وأمكنت من جماعها سواه ، أنَّ له من منعها الكسوةَ والرزقَ بالمعروف ، مثلَ الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذ كان ذلك له ، فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ماله منعها - حقًّا لها واجبًا عليه. وإذ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها ، فأخذ منها زوجها ما أعطته ، أنه لم يأخذ ذلك عن عَضْل منهيّ عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عَضْل له مباح. وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينًا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : " ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " . وإذْ صح ذلك ، فبيِّنٌ فساد قول من قال : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " ، منسوخ بالحدود ، (2) لأن الحدّ حق الله جل ثناؤه على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العَضْل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه ، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : ولا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا ، أن تعضلوا نساءكم فتضيِّقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صَدُقاتكم ، إلا أن يأتين بفاحشةٍ من زنا أو بَذاءٍ عليكم ، وخلافٍ لكم فيما يجب عليهن لكم - مبيِّنة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عَضْلهن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أن لا يمكن أنفسهن من أحد سواكم " ، وفي المخطوطة كتب " لا " على سين " أنفسهن " ، كأنه كان يوشك أن يصحح الكلمة ، ثم غفل عنها ، وصواب السياق يقتضي أن تكون الجملة كما أثبتها ، وإنما سها الناسخ.
(2) انظر ما سلف رقم : 8894.

(8/120)


والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هنّ افتدين منكم به.
* * *
واختلف القرَأة في قراءة قوله : " مبينة " .
فقرأه بعضهم : " مُبَيَّنَةٍ " بفتح " الياء " ، بمعنى أنها قد بُيِّنت لكم وأُعلنت وأُظهرت.
وقرأه بعضهم : " مُبَيِّنَةٍ " بكسر " الياء " ، بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة.
* * *
وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بيِّنة. وإذا ظهرت ، فبإظهار صاحبها إياها ظهرت. فلا تكون ظاهرة بيِّنة إلا وهي مبيَّنة ، ولا مبيَّنة إلا وهي مبيِّنة. فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وعاشروهن بالمعروف " ، وخالقوا ، أيها الرجال ، نساءكم وصاحبوهن " بالمعروف " ، يعني بما أمرتكم به من المصاحبة ، (1) وذلك : إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهنّ عليكم إليهن ، أو تسريح منكم لهنّ بإحسان ، كما : -
8907 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف : 8 : 13 ، والمراجع هناك ، وأتم تعريف له فيما سلف : 7 : 105.

(8/121)


أسباط ، عن السدي : " وعاشروهن بالمعروف " ، يقول : وخالطوهن.
* * *
كذا قال محمد بن الحسين ، وإنما هو " خالقوهن " ، من " العشرة " وهي المصاحبة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز كان منهن ، ولكن عاشروهن بالمعروف وإن كرهتموهن ، فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن ، فيجعل الله لكم في إمساككم إياهن على كُره منكم لهن خيرًا كثيرًا ، من ولد يرزقكم منهن ، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن ، كما : -
8908 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ، يقول ، فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيرًا كثيرًا.
8909 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله :
8910 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ، قال : الولد.
* * *
__________
(1) هذا التفريق الذي بين " خالقوهن " و " خالطوهن " ، وتصحيح أبي جعفر ، من حسن البصر بافتراق المعاني ، وحقها في أداء معاني اللغة ، ولا سيما في تفسير ألفاظها.

(8/122)


8911 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ، والخير الكثير : أن يعطف عليها ، فيرزق الرجل ولدها ، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا.
و " الهاء " في قوله : " ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ، على قول مجاهد الذي ذكرناه ، كناية عن مصدر " تكرهوا " ، كأنّ معنى الكلام عنده : فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في كُرْهه خيرًا كثيرًا. (1)
ولو كان تأويل الكلام : فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرًا كثيرًا ، كان جائزًا صحيحًا.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : كتب هذه الجملة كنص الآية : " ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ، وليس ذلك بشيء ، بل السياق يقتضي أن يجعل " فيه " ، " في كرهه " ، لأنه تأويل معنى قوله إن " الهاء " في " فيه " كناية من مصدر " تكرهوا " .

(8/123)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

القول في تأويل قوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ، وإن أردتم ، أيها المؤمنون ، نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها (1) " وآتيتم إحداهن " ، يقول : وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر (2) " قنطارًا " .
* * *
و " القنطار " المال الكثير. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه ، والصوابَ من القول في ذلك عندنا. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاستبدال " فيما سلف 2 : 130 ، 494 / 7 : 527.
(2) انظر تفسير " الإيتاء " في فهارس اللغة ، فيما سلف.
(3) انظر تفسير " القنطار " فيما سلف 6 : 244 - 250.

(8/123)


" فلا تأخذوا منه شيئًا " ، يقول : فلا تضرُّوا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن ، كما : -
8912 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ، طلاق امرأة مكان أخرى ، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر.
8913 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " أتأخذونه " ، أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن " بهتانا " ، يقول : ظلمًا بغير حق " وإثما مبينًا " ، يعني : وإثمًا قد أبان أمرُ آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذَه منه ظالم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف 3 : 300 / 4 : 258 / 7 : 370.

(8/124)


وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

القول في تأويل قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وكيف تأخذونه " ، وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن ، إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجًا " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " ، فتباشرتم وتلامستم.
* * *
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام ، فإنه في معنى النكير والتغليظ ، كما يقول الرجل لآخر : " كيف تفعل كذا وكذا ، وأنا غير راضٍ به ؟ " ، على معنى التهديد والوعيد. (1)
* * *
وأما " الإفضاء " إلى الشيء ، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له ، كما قال الشاعر : (2)
[بَلِينَ] بِلًى أَفْضَى إلَى [كُلِّ] كُتْبَةٍ... بَدَا سَيْرُهَا مِنْ بَاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ (3)
يعني بذلك أن الفساد والبلى وصل إلى الخُرَز. والذي عُني به " الإفضاء " في هذا الموضع ، الجماعُ في الفرج.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " التهديد " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) لم أعرف قائله.
(3) كان في المخطوطة والمطبوعة : بِلًى أَفْضَى إِلَى كتْبَةٍ ... بَدَا سَيرُها مِنْ بَاطِنٍ بَعد ظاهِر
بياض في الأصل بين الكلمات ، وقد زدت ما بين الأقواس اجتهادًا واستظهارًا ، حتى يستقيم الشعر. و " الكتبة " (بضم فسكون) ، هي الخرزة المضمومة التي ضم السير كلا وجهيها ، من المزادة والسقاء والقربة. يقال : " كتب القربة " : خرزها بسيرين. وهذا بيت يصف مزادًا أو قربًا ، قد بليت خرزها بلى شديدًا فقطر الماء منها ، فلم تعد صالحة لحمل الماء.

(8/125)


فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه : وكيف تأخذون ما آتيتموهن ، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
8914 - حدثني عبد الحميد بن بيان القَنّاد قال ، حدثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الإفضاء المباشرة ، ولكنّ الله كريم يَكْني عما يشاء.
8915 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس قال : الإفضاء الجماع ، ولكن الله يَكني.
8916 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس قال : الإفضاء هو الجماع.
8917 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " ، قال : مجامعة النساء.
8918 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
8919 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " ، يعني المجامعة.
* * *

(8/126)


القول في تأويل قوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) }
قال أبو جعفر : أيْ : ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم ، (1) من عهد وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم ، من إمساكهن بمعروف ، أو تسريحهنّ بإحسان.
* * *
وكان في عقد المسلمين النكاحَ قديمًا فيما بلغنا - أن يقال لناكح : " آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرِّحن بإحسان " !
8920 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " . والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم : " آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف أو لتسرحن بإحسان " . (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في " الميثاق " الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " .
فقال بعضهم : هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
*ذكر من قال ذلك :
8921 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
8922 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك مثله.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ما وثقت به لهن على أنفسكم " ، واختلاف الضمائر هنا خطأ ، وصوابه ما أثبت : " وثقتم " . وانظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 1 : 414 / 2 : 156 ، 228 ، 356 / 6 : 550.
(2) في المطبوعة : " وقد كان في عهد المسلمين " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(8/127)


8923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عَقد النكاح.
8924 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، فهو أن ينكح المرأة فيقول وليها : أنكحناكَها بأمانة الله ، على أن تمسكها بالمعروف أو تسرِّحها بإحسان.
8925 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : " الميثاق الغليظ " الذي أخذه الله للنساء : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وكان في عُقْدة المسلمين عند نكاحهن : " أيْمُ الله عليك ، لتمسكن بمعروف ولتسرحَنّ بإحسان " .
8926 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
* * *
وقال آخرون : هو كلمة النكاح التي استحلَّ بها الفرجَ.
*ذكر من قال ذلك :
8927 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : كلمة النكاح التي استحلَّ بها فروجهن.
8928 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد مثله.
8929 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا

(8/128)


سفيان ، عن أبي هاشم المكي ، عن مجاهد في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : قوله : " نكحتُ " . (1)
8930 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن محمد بن كعب القرظي : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : هو قولهم : " قد ملكتَ النكاح " .
8931 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : كلمة النكاح.
8932 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : الميثاق النكاح.
8933 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني سالم الأفطس ، عن مجاهد : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : كلمة النكاح ، قوله : " نكحتُ " .
* * *
وقال آخرون : بل عنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " . (2)
*ذكر من قال ذلك :
8934 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر وعكرمة : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قالا أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
8935 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ،
__________
(1) الأثر : 8929 - " أبو هاشم المكي " ، هو : إسماعيل بن كثير ، صاحب مجاهد. قال ابن سعد : " ثقة كثير الحديث " . روى عنه سفيان الثوري ، وابن جريج ، ومسعر بن كدام ، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(2) انظر الأثرين السالفين رقم : 8905 ، 8906.

(8/129)


عن أبيه ، عن الربيع : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، والميثاق الغليظ : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك ، قولُ من قال : الميثاق الذي عُني به في هذه الآية : هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عُقْدة النكاح من عهدٍ على إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان ، فأقرَّ به الرجل. لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجالَ في نسائهم.
* * *
وقد بينا معنى " الميثاق " فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
واختلف في حكم هذه الآية ، أمحكمٌ أم منسوخ ؟
فقال بعضهم : محكم ، وغير جائز للرجل أخذُ شيء مما آتاها ، إذا أراد طلاقها ، إلا أن تكون هي المريدةَ الطلاقَ.
* * *
وقال آخرون : هي محكمة ، غير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال ، كانت هي المريدةَ للطلاق أو هو. وممن حُكي عنه هذا القول ، بكر بن عبد الله بن المزني.
8936 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال : سألت بكرًا عن المختلعة ، أيأخذ منها شيئًا ؟ قال : لا " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " . (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 414 / 2 : 156 ، 157 ، 288 / 6 : 550.
(2) الأثر : 8936 - مضى هذا الأثر برقم : 4877 ، وكان فيه هنا ، كما كان هناك " عقبة بن أبي المهنا " ، فانظر التعليق عليه هناك ، والمراجع مذكورة فيه ، وقد زاد أبو جعفر هناك ، إسنادًا آخر ، عن عقبة بن أبي الصهباء ، عن بكر بن عبد الله المزني ، لهذا الأثر ، وهذا أحد الدلائل على اختصار أبي جعفر لتفسيره هذا.

(8/130)


قال آخرون : بل هي منسوخة ، نسخها قوله : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) [سورة البقرة : 229].
*ذكر من قال ذلك :
8937 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " إلى قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " ، قال : ثم رخص بعدُ فقال : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) [سورة البقرة : 229]. قال : فنسخت هذه تلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ، قولُ من قال : " إنها محكمة غير منسوخة " ، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها ، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها ، ولا ريبة أتت بها.
وذلك أن الناسخ من الأحكام ، ما نَفَى خلافه من الأحكام ، على ما قد بيَّنا في سائر كتبنا. (1) وليس في قوله : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ، نَفْي حكمِ قوله : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) [سورة البقرة : 229]. لأن الذي حرَّم الله على الرجل بقوله : " وإن أَردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا " ، أخذُ ما آتاها منها إذا كان هو المريدَ طلاقَها. وأما الذي أباح له أخذَه منها بقوله : ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ، فهو إذا كانت هي المريدةَ طلاقَه وهو له كاره ، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع. (2)
__________
(1) انظر ما سلف ، ما قاله في كتابه هذا في " النسخ " فيما سلف 3 : 385 ، 635 / 4 : 582 / 6 : 54 ، 118.
(2) انظر ما سلف 4 : 549 - 585 ، وانظر كلامه في الناسخ والمنسوخ من الآيتين في ص : 579 - 583 ، من الجزء نفسه.

(8/131)


وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك ، لم يجز أن يُحكم لإحداهما بأنها ناسخة ، وللأخرى بأنها منسوخة ، إلا بحجة يجبُ التسليم لها.
وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني (1) : من أنه ليس لزوج المختلعة أخذُ ما أعطته على فراقه إياها ، إذا كانت هي الطالبةَ الفرقةَ ، وهو الكاره فليس بصواب ، لصحة الخبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمرَ ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقِها إذ طلبت فراقه ، (2) وكان النشوز من قِبَلها. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22) }
قال أبو جعفر : قد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يَخْلُفُون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المُقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشِرْكهم من فعل ذلك ، لم يؤاخذهم به ، إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه.
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
8938 - حدثني محمد بن عبد الله المخرميّ قال ، حدثنا قراد قال ، حدثنا
__________
(1) انظر رد أبي جعفر مقاله بكر بن عبد الله المزني فيما سلف 4 : 581 ، 582 ، وقال هناك : إنه " قول لا معنى له ، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إن طلبت فراقه " ، والصواب " إذ " كما أثبته.
(3) انظر الأحاديث والآثار فيما سلف رقم : 4807 - 4811 ، والتعليق عليها ، وهو خبر ثابت بن قيس بن شماس.

(8/132)


ابن عيينة وعمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين. قال : فأنزل الله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ ) (1)
8939 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرَّم الله ، إلا أنّ الرجل كان يخلُف على حَلِيلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثَمَّ قال الله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " .
8940 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ، قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت ، خلفَ على أمِّ عبيد بنت صخر ، (2) كانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف ، وكان خَلَف على بنت أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار ، (3) وكانت عند أبيه خلف وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد ، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية وفي منظور بن زبّان ، (4) وكان خلف على مُليكةِ ابنة خارجة ، وكانت عند أبيه زَبَّان بن سيّار. (5)
__________
(1) الأثر : 8938 - " محمد بن عبد الله المخرمي " ، سلفت ترجمته برقم : 3730 ، 4929 ، 5447.
و " قراد " ، لقب ، وهو : " عبد الرحمن بن غزوان " ، سلفت ترجمته برقم : 555.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " بنت ضمرة " ، والصواب من المراجع فيها تخريج الأثر. وانظر التعليق على الأثر في آخره ، ففيه ذكر الاختلاف في اسمها.
(3) اسمها " حمينة بنت أبي طلحة " تصغير " حمنة " ، كما جاء في ترجمتها في المراجع.
(4) في المطبوعة : " رباب " في الموضعين ، وهي المخطوطة غير منقوطة ، وصوابه من المراجع بعد ، بالزاي المفتوحة ، وباء مشددة.
(5) الأثر : 8940 - روى ابن الأثير هذا الخبر ، في ترجمة أم عبيد بنت صخر ، ثم أشار إليها في تراجم أصحابها ، ونسب رواية الخبر إلى أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصفهاني ، في مستدركة على ابن منده. وأشار إليها أيضًا الحافظ ابن حجر في الإصابة ، في تراجم المذكورين في هذا الخبر.
هذا ، ومضى الخبر رقم : 8873 ، وفيه أن أبا قيس بن الأسلت جنح على كبيشة بنت معن بن عاصم امرأة أبيه ، فأخشى أن يكون الخبر السالف وهذا الخبر ، مجتمعين على أنه جنح على امرأتين من نساء أبيه ، كبيشة بنت معن ، وعلى أم عبيد بنت صخر. ولكن الواحدي في أسباب النزول : 109 قال إنها نزلت في حصن بن أبي قيس ، تزوج امرأة أبيه كبيشة بن معن ، وهو ما ذكره الثعلبي في تفسيره. ورواه الحافظ في الإصابة في ترجمة " قيس بن صيفي بن الأسلت " (5 : 257) عن الفريابي وابن أبي حاتم من طريق عدي بن ثابت. ثم قال : " وفي سنده قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، وهما ضعيفان. والخبر مع ذلك منقطع " وقال : " وقد تقدم في ترجمة حصن بن أبي قيس بن الأسلت أن القصة وقعت مع امرأة أبيه كبيشة بنت معن. هكذا سماها ابن الكلبي ، وخالفه مقاتل ، فجعل القصة لقيس. وعند أبي الفرج الأصفهاني (15 : 154) ما يوهم أن قيسًا قتل في الجاهلية ، فإنه ذكر أن يزيد بن مرداس السلمي قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم " .
وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق طويل كما ترى ، اكتفيت بهذه الإشارة إليه ، وقد مضى في التعليق على اسم " أم عبيد بنت صخر " ، أنه كان في المطبوعة والمخطوطة " أم عبيد بنت ضمرة " ، وقد تابعت ما جاء في ترجمتها في كتب التراجم ، واستأنست بتسمية أخيه : " جرول بن مالك بن عمرو بن عزيز " (جمهرة الأنساب : 315) وأم عبيد هي : (أم عبيد بنت صخر بن مالك بن عمرو بن عزيز " ، و " الجرول " : الحجر يكون ملء كف الرجل ، فكأن أباه سماه جرولا ، وسمى أخاه صخرًا ، على عادة العرب في ذلك. والأنصار أيضًا ، يكثر في أنسابهم " صخر " ، ولم أجد منهم من تسمى " ضمرة " ، فلذلك رجحت ما أثبت. ولكن ابن كثير نقل هذا الأثر في تفسيره 2 : 388 ، وفيه " أم عبيد الله بنت ضمرة " ، ولكن الثقة بنقل ابن كثير في مثل هذا غير صحيحة. أما الحافظ ابن حجر فقد ذكرها في ترجمة " قيس بن صيفي بن الأسلت " ، فنقل عن سيف من تفسيره ، وسماها " ضمرة أم عبيد الله " ، ثم ترجم " ضمرة زوج أبي قيس بن الأسلت " (الإصابة 8 : 134) ، وقال : " ذكرها الطبري فيمن نزلت فيه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " ، وهذا خلط وعجب من العجب ، ولم أجد من ذكر " ضمرة " هذه ، ولا ذكرها الطبري كما سها الحافظ في ذكرها وإفراد ترجمتها ، وأخطأ. وهو من الأدلة على عجلة الحافظ في تأليفه كتاب الإصابة ، وصحة ما قيل من أنه لم يكن إلا مسودة لم يبيضها ، فيمحصها.
وهذا الاختلاف محتاج إلى إطالة ، اقتصرت منه على هذا القدر.
وأما " الأسود بن خلف " ، فهو " الأسود بن خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة الخزاعي " ، وهو غير " الأسود بن خلف بن عبد يغوث " ، كما ذكره الحافظ في الإصابة ، وابن سعد 5 : 339 فإن يكن ذلك ، فهو أخو " عبد الله بن خلف بن أسعد " والد " طلحة الطلحات " . ولم أجد ابن حجر قد أشار في الإصابة إلى خبر خلفه على امرأة أبيه ، مع أنه ذكره في تراجم النساء المذكورات في الخبر ، وفي ترجمة امرأة أبيه " حمينة بنت أبي طلحة " ، وكذلك لم يذكره بتة ، ابن الأثير ، مع أنه ذكره في ترجمته " حمينة " . وفي الإصابة وابن الأثير : " خلف بن أسد بن عاصم بن بياضة " ، وهو تصحيف ، بل هو " أسعد بن عامر " .
وهذا أيضًا يحتاج إلى تحقيق أوفى ، ليس هذا مكانه. وأما خبر " منظور بن زبان بن سيار المازني " ، وفي شأن قصته اختلاف ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته وترجمة " مليكة " ، ورجح أن هذه القصة كانت على عهد عمر بن الخطاب ، وأن عمر فرق بينهما ، فاشتد ذلك عليه ، وكان يحبها ، فقال فيها شعرًا منه : لَعَمْرُ أبِي دِينٍ يُفَرِّقُ بَيْننَا ... وَبيْنَكِ قَسْرًا ، إِنّهُ لَعَظِيمُ
وقصته في الأغاني 12 : 194 (دار الكتب)

(8/133)


8941 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة ، ثم لا يراها

(8/134)


حتى يُطلقها ، أتحل لابنه ؟ قال : هي مُرْسَلة ، (1) قال الله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " . قال : قلت لعطاء : ما قوله : " إلا ما قد سلف " ؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية. (2)
8942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة هنا ، وفي رقم : 8957 فيما يلي والدر المنثور ، 2 : 134 ، " مرسلة " ، والذي جاء في كتب اللغة " امرأة مراسل " ، قالوا : هي التي فارقها زوجها بأي وجه كان ، مات أو طلقها. وقيل : هي التي يموت زوجها ، أو أحست منه أنه يريد تطليقها ، فهي تزين لآخر. وقيل : هي التي طلقت مرات. وقيل : هي التي تراسل الخطاب. وذلك كله قريب بعضه من بعض ، فإن المرأة إذا مات زوجها أو طلقها ، كانت خليقة أن تراسل الخطاب وتلتمس الطريق إلى زواج. وفي الحديث : " أن رجلا من الأنصار تزوج امرأة مراسلا يعني : ثيبًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك!! " ، فقال أصحاب اللغة : " المراسل : التي قد أسنت وفيها بقية شباب " . وكأن شرح هذا اللفظ يقتضي الجمع بين هذه الأقوال جميعًا فيقال : إنها التي قد فارقت الشباب فمات عنها زوجها أو طلقها ، فهي أحوج من ذات الشباب إلى طلب الزينة ومراسلة الخطاب ، لقلة رغبتهم فيها ، كرغبتهم في الأبكار الجميلات الشواب.
و أما في هذا الخبر ، فإن صح أن اللفظ " مرسلة " على الصواب ، كان تفسيره : أنها التي أرسلها زوجها ، أي أطلقها ، وإنما عنى به : البكر المطلقة التي تنزل في الحكم منزلة الثيب. وإن كان الصواب " هي مراسل " ، فينبغي أن يزاد في معنى " مراسل " أنها البكر التي طلقت ، فهي بمنزلة الثيب. وانظر الأثر التالي.
(2) سيأتي هذا الأثر برقم : 8957 ، مع اختلاف في لفظه ، انظر التعليق عليه هناك.

(8/135)


بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية ، يقول : كل امرأة تزوجها أبوك وابنك ، دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام.
* * *
واختلف في معنى قوله : " إلا ما قد سلف " .
فقال بعضهم : معناه : لكن ما قد سلف فدعوه. وقالوا : هو من الاستثناء المنقطع.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم بمعنى : ولا تنكحوا كنكاحهم ، كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام " إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا " ، يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم ، كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح ، لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوٌّ لكم عنه.
وقالوا : قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " ، كقول القائل للرجل : " لا تفعل ما فعلتُ " ، و " لا تأكل كما أكلت " ، بمعنى : ولا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلتُ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم ، فإنّ نكاحهن لكم حلال ، لأنهن لم يكن لهم حلائل ، وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك ، (1) فاحشة ومقتًا وساء سبيلا.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " من آبائكم منهن " بإسقاط الواو ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(8/136)


8943 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " الآية ، قال : الزنا " إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا " فزاد ههنا " المقت " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه : ولا تنكحوا من النساء نكاحَ آبائكم ، إلا ما قد سلف منكم فَمَضى في الجاهلية ، فإنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا فيكون قوله : " من النساء " من صلة قوله : " ولا تنكحوا " ، ويكون قوله : " ما نكح آباؤكم " بمعنى المصدر ، ويكون قوله : " إلا ما قد سلف " بمعنى الاستثناء المنقطع ، لأنه يحسن في موضعه : " لكن ما قد سلف فمضى " " إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا " .
* * *
فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقًا قولَ من ذكرت قولَه من أهل التأويل ، وقد علمتَ أن الذين ذكرتَ قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الآية في النَّهي عن نكاح حلائل الآباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحَهم ؟
قيل له : إنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، (2) إذ كانت " ما " في كلام العرب لغير بني آدم ، وأنه لو كان المقصودَ بذلك النهيُ عن حلائل الآباء ، دون سائر ما كان من مَناكح آبائِهم حرامًا ابتداءُ مثله في الإسلام بِنَهْي الله
__________
(1) يعني بقوله : " زاد هاهنا " ، زاد على ما جاء في " سورة الإسراء : 32 " : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وإن قلنا إن ذلك هو التأويل " ، وهو كلام لا يستقيم مع الذي بعده ، والصواب الموافق للسياق هو ما أثبت.

(8/137)


جل ثناؤه عنه ، (1) لقيل : " ولا تنكحوا مَنْ نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان " مَنْ " لبني آدم ، و " ما " لغيرهم ولم يُقَلْ : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " . (2) [وأما قوله تعالى ذكره : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " ] ، فإنه يدخل في " ما " ، (3) ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرَّم عليهم في الإسلام بهذه الآية ، نكاحَ حلائل الآباء وكلَّ نكاح سواه نهى الله تعالى ذكره [عن] ابتداء مثله في الإسلام ، (4) مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شِرْكهم.
* * *
ومعنى قوله : " إلا ما قد سلف " ، إلا ما قد مضى (5) " إنه كان فاحشة " ، يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم كنكاح آبائكم المحرَّم عليكم ابتداءُ مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم " فاحشة " ، يقول : معصية (6) " ومقتًا وساء سبيلا " ، (7) أي : بئس طريقًا ومنهجًا ، (8) ما كنتم تفعلون في
__________
(1) في المطبوعة : " ... حرامًا ابتدئ مثله في الإسلام " ، ولم يحسن قراءة المخطوطة " ابتدا " فبدلها إلى ما أفسد الكلام إفسادًا.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إذ كان من لبني آدم ، وما لغيرهم ولا تقل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " ، وهو كلام لا يستقيم البتة ، وصواب قوله " ولا تقل " " ولم يقل " (بالبناء للمجهول) ، وهو معطوف على قوله آنفًا : " لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم " . واختلط على الناسخ تكرار الآية مرتين فسبق بصره ، فأسقط من الكلام ما أثبته بعد بين القوسين ، مما لا يتم الكلام ولا يستقيم إلا بإثباته ، واجتهدت فيه استظهارًا من كلامه وحجته ، كما ترى.
(3) في المخطوطة : " فإنه يدخل فيما كان من مناكح آبائهم " ، وهو سهو وخطأ من الناسخ لما اختلط عليه الكلام ، والصواب هو الذي استظهره ناشر المطبوعة الأولى ، كما أثبتها.
(4) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.
(5) انظر تفسير " سلف " فيما سلف 6 : 14.
(6) انظر تفسير " فاحشة " فيما سلف : 115 تعليق : 2 والمراجع هناك.
(7) لم يفسر أبو جعفر هنا " المقت " في هذا الموضع ، ولا في سائر المواضع التي جاء فيها ذكر " المقت " ، إلا تضمينًا. و " المقت " : أشد البغض ، ثم سمى هذا النكاح الذي كانوا يتناكحونه في الجاهلية " نكاح المقت " ، وسمي المولود عليه " المقتى " على النسبة.
(8) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف : 37 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك. وأما " ساء " ، فإن أبا جعفر لم يبين معناها ، ولم يذكر أن أصحاب العربية يعدونها فعلا جامدًا يجري مجرى " نعم " و " بئس " ، وإن كان تفسيره قد تضمن ذلك. وهذا من الأدلة على أنه اختصر هذا التفسير في مواضع كثيرة.

(8/138)


جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها. (1)
* * *
__________
(1) حجة أبي جعفر في هذا الموضع ، حجة رجل بصير عارف بالكلام ومنازله ، متمكن من أصول الاستنباط ، قادر على ضبط ما ينتشر من المعاني ، متابع لسياق الأحكام والأخبار في كتاب ربه ، خبير بما كان عليه العرب في جاهليتهم.
وقد رد العلماء على أبي جعفر قوله ، وقال بعضهم : هو قول غير وجيه. وذكروا أن " ما " تقع على أنواع من يعقل ، وإن كانت لا تقع على آحاد من يعقل ، عند من يذهب إلى المذهب. فجعلوا قول الطبري أن " ما " مصدرية باقية على معنى المصدر ، قولا ضعيفًا. بيد أن مذهب أبي جعفر صحيح مستقيم لا ينال منه احتجاجهم عليه. وإنما ساقهم إلى ذلك ، ترك أبي جعفر البيان عن حجته ، وأنا قائل في ذلك ما يشفي إن شاء الله.
وذلك أن الذين ردوا مقالة أبي جعفر ، أرادوا أن هذه الآية نص في تحريم نكاح حلائل الآباء وحده ، وكأنهم حسبوا أن لو جعلوا " ما " مصدرية ، لم يكن في الآيات نص صريح في تحريم حلائل الآباء غيرها. والصواب غير ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء الذي كان أهل الجاهلية يرتكبونه بقوله في الآية التاسعة عشرة من سورة النساء فيما مضى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } وقال أبو جعفر في تفسيرها : " لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرهًا " ، وساق هناك الآثار المبينة عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب جميعًا. وهذا الذي ساق هناك فيه البيان عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة ، كما كان أهل الجاهلية يعرفونه. فكانت هذه الآية نصًا قاطعًا بينًا في تحريم نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة ، كما عرفه أهل الجاهلية ، لأنهم لم يعرفوا نكاح حلائل الآباء إلا على هذه الصورة التي بينها الله في كتابه ، والتي أجمعت الأخبار على صفتها ، أن يخلف الرجل على امرأة أبيه.
وأنا أرجح أن الله تبارك وتعالى إنما قال : " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا " ، فذكر وراثتهن كرهًا ، ثم أتبع ذلك بالنهي عن عضل النساء عامة ، وبالبيان عن مقصدهم من عضل النساء ، وهو الذهاب ببعض ما أوتين من صدقاتهن لأن أهل الجاهلية ، إنما تورطوا في نكاح حلائل الآباء ، لشيء واحد : هو أخذ ما آتاهن الآباء من المال ، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم ، فلذلك أتبعه بالنهي عن العضل عامة ، لأن فعلهم بحلائل آبائهم عضل أيضًا ، ومقصدهم منه هو مقصدهم من عضل نسائهم.
وأيضًا ، فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات والأخوات ، كما سترى بعد ، بل استنكروه ، فاستنكارهم نكاح حلائل الآباء - وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن - كان خليقًا أن يكون من فعلهم وعادتهم ، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك.
ثم أتبع الله ذلك - كما قال أبو جعفر - " بالنهي عن مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحوها في الجاهلية ، فحرم عليهم بهذه الآية نكاح حلائل الآباء وكل نكاح سواه ، نهى الله عن ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه " . وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري (الفتح 9 : 158) أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء ، منها : " نكاح الناس اليوم " ، ثم عددت ضروب النكاح ووصفتها ، فأقر الإسلام منها نكاحًا واحدًا : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته ، فيصدقها ، ثم ينكحها.
فهذه الآية مبطلة ضروب نكاح الجاهلية جميعًا ، ما كان منها نكاحًا فاسدًا ، كالاستبضاع ، ونكاح البغايا ، ونكاح البدل ، والشغار ، فكل ذلك كان : فاحشة ومقتًا وساء سبيلا ، كما تعرفه من صفته في حديث عائشة ، ويدخل فيه ، كما قال أبو جعفر ، نكاح حلائل الآباء.
ثم أتبع الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرمت جميع نكاح الجاهلية ، آية أخرى حرمت كل نكاح كان معروفًا في الأمم الأخرى ، غير العرب ، أو في الملل الأخرى غير ملة الإسلام فقال : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم " إلى آخر الآية. والعرب لم تعرف قط نكاح الأمهات ، أو البنات أو الأخوات أو العمات أو الخالات ، بل كان ذلك في غيرهم كالمصريين واليهود وأشباههم ، ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته. ومن الدليل على أن العرب لم تعرف نكاح الأخوات ، ولا نكاح العمات أو الخالات ، أنهم كانوا في جاهليتهم ، يقسمون على طلاق نسائهم أو تحريمهن على أنفسهم ، أو هجرانهن ، بقولهم للزوجة : " أنت علي كظهر أختي ، أو كظهر عمتي ، أو كظهر خالتي " ، فكان ذلك عندهم تحريمًا على أنفسهم غشيان الزوجة. وهذا باب لم أجد أحدًا وفاه حقه ، فعسى أن أوفق في موضع آخر إلى استيعابه إن شاء الله. وهو باب مهم في تفسير هذه الآيات ، والله المستعان.
وإذن فهذه الآية الأخيرة ، غير خاصة في نكاح أهل الجاهلية ، بل هي تحريم لكل نكاح كرهه الله للمؤمنين ، مما كان عند الأمم قبلهم جائزًا أو مرتكبًا ، أو كان بعضه عندهم قليلا غير مشهور شهرة أنكحة الجاهلية التي ذكرها الله في وراثة حلائل الآباء والأقارب ، والتي ذكرتها عائشة في حديثها ، والتي جاء تحريمها عامًا في قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " بمعنى " ما " المصدرية ، كما ذهب إليه أبو جعفر. وكتبه : محمود محمد شاكر.

(8/139)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

القول في تأويل قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : حُرّم عليكم نكاح أمهاتكم فترك ذكر " النكاح " ، اكتفاءً بدلالة الكلام عليه.
وكان ابن عباس يقول في ذلك ما : -
8944 - حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : حُرّم من النسب سبعٌ ، ومن الصِّهر سبعٌ. ثم قرأ : " حُرّمت عليكم أمهاتكم " حتى بلغ : " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " ، قال : والسابعة : " ولا تنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء " .
8945 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع. ثم قرأ : " حُرّمت عليكم أمهاتكم " إلى قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " .
8946 - حدثنا ابن بشار مرة أخرى قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ،

(8/140)


حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس مثله. (1)
8947 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري بنحوه.
8948 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : حرم عليكم سبع نَسَبًا ، وسبعٌ صهرًا. " حُرّمت عليكم أمهاتكم " الآية. (2)
8949 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن علي بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " قال : حَرّم الله من النسب سبعًا ومن الصهر سبعًا. ثم قرأ : " وأمهات نسائكم وربائبكم " ، الآية.
8950 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مطرِّف ، عن عمرو بن سالم مولى الأنصار قال ، حُرّم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع : " حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت " ومن الصهر : " أمهاتكم اللاتي أرضَعْنكم ، وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم
__________
(1) الآثار : 8944 - 8946 - " إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي " ، روى له مسلم والأربعة. ثقة ، كان يجمع صبيان المكاتب ويحدثهم لكي لا ينسى حديثه!
و " عمير مولى ابن عباس " هو : عمير بن عبد الله الهلالي ، مولى أم الفضل. ثقة.
وروى خبر ابن عباس ، الحاكم في المستدرك 2 : 304 من طريق : محمد بن كثير ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي. وأشار إليه الحافظ في الفتح 5 : 133 ، ونسبه للطبراني. وابن كثير في التفسير 2 : 390.
(2) الأثر : 8948 - رواه بهذا الإسناد البخاري في صحيحه (الفتح 5 : 132) بغير هذا اللفظ ، ورواه بلفظه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 158 ، ولفظ البخاري : " حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع " كالخبر السالف ، وانظر تفسير ابن كثير 2 : 390.

(8/142)


وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جُناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " ثم قال : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " " ولا تنكِحوا ما نَكح آباؤكم من النساء " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : فكل هؤلاء اللواتي سَمَّاهن الله تعالى وبيَّن تحريمَهن في هذه الآية ، مُحَرَّمات ، غيرُ جائز نكاحُهن لمن حَرَّم الله ذلك عليه من الرجال ، بإجماع جميع الأمة ، لا اختلاف بينهم في ذلك : إلا في أمهات نسائِنا اللواتي لم يدخُلْ بهن أزواجُهن ، فإن في نكاحهن اختلافًا بين بعض المتقدِّمين من الصحابة : إذا بانت الابنة قبلَ الدخول بها من زوجها ، هل هُنّ من المُبْهمات ، أم هنّ من المشروط فيهن الدخول ببناتهنّ ؟
فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم : من المُبهمات ، (2) وحرام على من
__________
(1) الأثر : 8950 - " عمرو بن سالم " ، هو : " أبو عثمان الأنصاري " قاضي مرو ، مختلف فيه وفي اسم أبيه اختلاف كثير. وقيل : " اسمه كنيته " ، وهو مشهور بكنيته ، ولكن الطبري جاء به غير مكنى باسمه واسم أبيه.
(2) " المبهمات " هن من المحرمات : ما لا يحل بوجه ولا سبب كتحريم الأم والأخت وما أشبهه. وقال القرطبي في تفسيره (5 : 107) : " وتحريم الأمهات عام في كل حال ، لا يتخصص بوجه من الوجوه ، ولهذا يسميه أهل العلم : (المبهم) ، أي لا باب فيه ولا طريق إليه ، لانسداد التحريم وقوته " . وسأسوق لك ما قاله الأزهري في تفسيرها قال : " رأيت كثيرًا من أهل العلم يذهبون بهذا إلى إبهام الأمر واستبهامه ، وهو إشكاله وهو غلط. قال : وكثير من ذوي المعرفة لا يميزون بين المبهم وغير المبهم من ألوان الخيل الذي لا شية فيه تخالف معظم لونه.
قال : ولما سئل ابن عباس عن قوله : " وأمهات نسائكم " ولم يبين الله الدخول بهن ، أجاب فقال : هذا من مبهم التحريم ، الذي لا وجه فيه غير التحريم ، سواء دخلتم بالنساء أو لم تدخلوا بهن. فأمهات نسائكم حرمن عليكم من جميع الجهات.
وأما قوله : " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ، فالربائب ههنا لسن من المبهمات ، لأن لهن وجهين مبينين : أحللن في أحدهما ، وحرمن في الآخر. فإذا دخل بأمهات الربائب حرمت الربائب ، وإن لم يدخل بأمهات الربائب لم يحرمن "
فهذا تفسير " المبهم " الذي أراده ابن عباس فافهمه " .
وعقب على هذا ابن الأثير فقال : " هذا التفسير من الأزهري ، إنما هو للربائب والأمهات ، لا الحلائل ، وهو في أول الحديث إنما جعل سؤال ابن عباس عن الحلائل لا عن الربائب " ، وهو تعقيب غير جيد.
ثم انظر " الإنصاف " للبطليوسي : 28 ، 29.

(8/143)


تزوَّج امرأةً أمُّها ، (1) دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها. وقالوا : شرطُ الدخول في الرَّبيبة دون الأم ، فأما أمُّ المرأة فمُطْلقة بالتحريم. قالوا : ولو جاز أن يكون شرطُ الدخول في قوله : " وربائبكم اللاتي في حُجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ، يرجع موصولا به قوله : " وأمهات نسائكم " ، (2) جاز أن يكون الاستثناء في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " من جميع المحرّمات بقوله : " حرّمت عليكم " ، الآية. قالوا : وفي إجماع الجميع على أنّ الاستثناء في ذلك إنما هو مما وَلِيَه من قوله : " والمحصنات " ، أبينُ الدِّلالة على أن الشرط في قوله : " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ، مما وَليه من قوله : " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نِسَائكم اللاتي دخلتم بهن " ، دون أمَّهات نسائنا.
* * *
وروي عن بعض المتقدِّمين أنه كان يقول : حلالٌ نكاح أمَّهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهن ، وأنّ حكمهن في ذلك حكم الربائب.
*ذكر من قال ذلك :
8951 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي رضي الله عنه : في رجل
__________
(1) يعني : والذي تزوج امرأة فحرام عليه أمها.
(2) في المخطوطة : " موضع موصولا به " ، ولا معنى لها ، وفي المطبوعة : " فوضع موصولا به " ولا معنى لها أيضًا ، واستظهرت صحتها " يرجع موصولا به " ، أي أن الشرط راجع إلى أمهات النساء والربائب جميعًا.

(8/144)


تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوَّج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة.
8952 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة ، عن خلاس ، عن علي رضي الله عنه قال : هي بمنزلة الربيبة. (1)
8953 - حدثنا حميد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت : أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذَ ميراثها ، كُرِه أن يخلُف على أمِّها. وإذا طلَّقها قبل أن يدخُل بها ، فإن شاءَ فعل.
8954 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخُل بها ، فلا بأس أن يتزوج أمَّها.
8955 - حدثنا القاسم قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني عكرمة بن خالد : أن مجاهدًا قال له : " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم " ، أريد بهما الدُّخُول جميعًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والقول الأول أولى بالصواب ، أعني قولَ من قال : " الأمّ من المبهمات " . لأن الله لم يشرط معهن الدخول ببناتهن ، كما شرط ذلك مع
__________
(1) الأثران : 8951 ، 8952 - " خلاس بن عمرو الهجري " ثقة ، تكلموا في سماعه من علي ، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده ، ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208. فمن أجل ذلك قال القرطبي في هذا الأثر : " وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة ، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة " .
(2) الأثر : 8955 - " عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي " ، روى عن أبيه وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وهو ثقة. وقال بعضهم : " منكر الحديث " وإنما خلط بينه وبين " عكرمة بن خالد بن سلمة بن العاص بن هشام المخزومي " ، وهما مختلفان.
وانظر ما قاله ابن كثير في هذا الباب من تفسيره 2 : 392 - 394 ، وذكر هذه الآثار.

(8/145)


أمهات الرَّبائب ، مع أن ذلك أيضًا إجماعٌ من الحجة التي لا يجوز خِلافُها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ ، غيرَ أنَّ في إسناده نظرًا ، وهو ما : -
8956 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجلُ المرأة ، فلا يحل له أن يتزوج أمَّها ، دخل بالابنة أم لم يدخل. وإذا تزوج الأمَّ فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوَّج الابنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا خبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فان في إجماع الحجة على صحة القول به ، مستغنىً عن الاستشهاد على صِحَّته بغيره.
8957 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال لعطاء : الرجل ينكح المرأة لم يَرَها ولم يجامعها حتى يطلقها ، (2)
__________
(1) الحديث : 8956 - المثنى بن الصباح الأبناوي المكي : مضت له ترجمة في : 4611. ونزيد هنا أنا نرى أن حديثه حسن ، لأنه اختلط أخيرًا ، كما فصلنا في شرح المسند ، في الحديث : 6893.
ومن أجل الكلام فيه ذهب الطبري إلى أن في إسناد هذا الحديث نظرًا.
وقد رواه البيهقي أيضًا في السنن الكبرى 7 : 160 ، من طريق ابن المبارك ، عن المثنى بن الصباح. ثم قال البيهقي : " مثنى بن الصباح : غير قوي " .
ولكن المثنى لم ينفرد بروايته. فقد رواه البيهقي أيضًا - عقب رواية المثنى - من طريق ابن لهيعة ، عن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه ، فهذه متابعة قوية للمثنى ، ترفع ما قد يظن من خطئه في روايته. والحديث نقله ابن كثير عن رواية الطبري هذه 2 : 394 ، ضمن ما نقله من كلام الطبري في هذا الموضع.
وذكره السيوطي 2 : 135 وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد. ونص على أن البيهقي رواه من طريقين وهما اللتان ذكرناهما.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها " ، وأثبت ما في الدر المنثور 2 : 135 ، فهو أجود ، وقد مضى في الأثر رقم : 8941 ، " ثم لا يراها حتى يطلقها " ، وانظر تخريج الأثر.

(8/146)


أيحل له أمها ؟ قال : لا هي مُرسلة. قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ : " وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ؟ قال : " لا " ، تترى (1) قال حجاج ، قلت لابن جريج : ما " تترى " (2) ؟ قال : كأنه قال : لا! لا! (3)
* * *
وأما " الربائب " فإنه جمع " ربيبة " ، وهي ابنة امرأة الرجل. قيل لها " ربيبة " لتربيته إياها ، وإنما هي " مربوبة " صرفت إلى " ربيبة " ، كما يقال : " هي قتيلة " من " مقتولة " . (4) وقد يقال لزوج المرأة : " هو ربيب ابن امرأته " ، يعني به : " هو رَابُّه " ، كما يقال : " هو خابر ، وخبير " و " شاهد ، وشهيد " . (5)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " .
فقال بعضهم : معنى " الدخول " في هذا الموضع ، الجماعُ.
*ذكر من قال ذلك :
8958 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية
__________
(1) في المطبوعة : " لا تبرأ " ، ثم في الذي يليه " ما تبرأ " ، وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وفيها : " تترى " غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله : " تترى " ، أي : متتابعة ، واحدة بعد واحدة ، وقد جاء السؤال عن " تترى " أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2 / 2 / 131 ، عن قباث بن أشيم الليثي ، وجاء تفسيرها فيه " متفرقين " .
(2) في المطبوعة : " لا تبرأ " ، ثم في الذي يليه " ما تبرأ " ، وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وفيها : " تترى " غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله : " تترى " ، أي : متتابعة ، واحدة بعد واحدة ، وقد جاء السؤال عن " تترى " أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2 / 2 / 131 ، عن قباث بن أشيم الليثي ، وجاء تفسيرها فيه " متفرقين " .
(3) الأثر : 8597 - مضى هذا الأثر مختصرًا بإسناده ، وبغير هذا اللفظ فيما سلف قريبًا رقم : 8941 ، وانظر التعليق عليه هناك.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " قبيلة من مقبولة " بالباء الموحدة ، وليس صوابا ، بل الصواب ما أثبت ، ولعل الناسخ كتب ما كتب ، لأنهم قالوا : " رجل قتيل ، وامرأة قتيل " ، فهذا هو المشهور ، ولكنه أغفل أنهم إذا تركوا ذكر المرأة قالوا : " هذه قتيلة بني فلان " وقالوا : " مررت بقتيلة " ، ولم يقولوا في هذا " مررت بقتيل " .
(5) في المطبوعة : " جابر وجبير " بالجيم ، وفي المخطوطة ، أهمل نقط الأولى ، ونقط الثانية جيما ، وهو خطأ ، ليس في العربية شيء من ذلك ، بل الصواب ما أثبت و " الخابر والخبير " : العالم بالخبر.

(8/147)


بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ، والدخول النكاح.
* * *
وقال آخرون : " الدخول " في هذا الموضع : هو التَّجريد.
*ذكر من قال ذلك :
8959 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قلت لعطاء : قوله : " اللاتي دخلتم بهن " ، ما " الدّخول بهن " ؟ قال : أن تُهْدَى إليه فيكشف ويَعْتسَّ ، ويجلس بين رجليها. (1) قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيتِ أهلها ؟ قال : هو سواءٌ ، وَحسْبُه! قد حرَّم ذلك عليه ابنتَها. قلت : تحرم الربيبة مِمَّن يصنع هذا بأمها ؟ ألا يحرُم عليَّ من أمَتي إن صنعته بأمها ؟ (2) قال : نعم ، سواء. قال عطاء : إذا كشف الرجل أَمته وجلس بين رجليها ، أنهاه عن أمِّها وابنتها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس ، من أنّ معنى : " الدخول " الجماع والنكاح. لأن ذلك لا يخلو معناه من أحد أمرين : إما أن يكون على الظاهر المتعارَف من معاني " الدخول " في الناس ، وهو الوصول إليها بالخلوة بها أو يكون بمعنى الجماع. وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرِّم عليه ابنتها إذا طلِّقها قبل مَسِيسها ومُباشرتها ، أو قبل النَّظر إلى فرجها بالشهوة ، ما يدلُّ على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
__________
(1) في المطبوعة : " يعس " ، وفي المخطوطة " يعيس " ، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال : " اعتس الشيء " ، لمسه ورازه ليعرف خبره. وهو من الألفاظ التي لم تبين معناها كتب اللغة ، ولكن معناها مفرق في أثناء كلامها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ألا ما يحرم علي من أمتي " ، وهو غير مستقيم ، وكأن الصواب المحض ما أثبته.

(8/148)


وإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه.
* * *
وأما قوله : " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " ، فإنه يقول : فإن لم تكونوا ، أيها الناس ، دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم فجامعتموهن حتى طلقتموهن " فلا جناح عليكم " ، يقول : فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك. (1)
* * *
وأما قوله : " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ، فإنه يعني : وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم.
* * *
وهي جمع " حليلة " وهي امرأته. وقيل : سميت امرأة الرجل " حليلته " ، لأنها تحلُّ معه في فراش واحد.
* * *
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل ، حرامٌ عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح ، دخل بها أو لم يدخل بها.
* * *
فإن قال قائل : فما أنت قائلٌ في حلائل الأبناء من الرضاع ، فإن الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائِنا من أصلابنا ؟
قيل : إن حلائل الأبناء من الرضاع ، وحلائل الأبناء من الأصلاب ، سواء في التحريم. وإنما قال : " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ، لأن معناه : وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم ، دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم ، كما : -
8960 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ،
__________
(1) انظر تفسير " الجناح " فيما سلف 3 : 230 ، 231 / 4 : 162 ، 566 / 5 : 70 ، 117 ، 138.

(8/149)


قال : كنا نُحدَّث ، (1) والله أعلم ، أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم. حين نكح امرأة زَيْد بن حارثة ، قال المشركون في ذلك ، فنزلت : " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ، ونزلت : ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ) [سورة الأحزاب : 4] ، ونزلت : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) [سورة الأحزاب : 40]
* * *
وأما قوله : " وأن تجمعوا بين الأختين " فإن معناه : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح ف " أن " في موضع رفع ، كأنه قيل : والجمع بين الأختين. (2)
* * *
" إلا ما قد سلف " لكن ما قد مضى منكم (3) " إن الله كان غفورًا " (4) لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها " رحيما " بهم فيما كلَّفهم من الفرائض ، وخفَّف عنهم فلم يحمِّلهم فوق طاقتهم.
يخبر بذلك جل ثناؤه : أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته ، وقبلَ تحريمه ذلك ، إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعدَ تحريمه ذلك عليه ، فأطاعه باجتنابه رحيمٌ به وبغيره من أهل طاعته من خَلْقِه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " كنا نتحدث " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت ، لأن عطاء يروي ما سمعه من أهل العلم من شيوخه. وانظر ابن كثير 2 : 396.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 260.
(3) انظر تفسير " إلا " ، وتفسير " سلف " فيما سلف قريبًا : 137 ، 138 ، تعليق : 50.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فإن الله " ، فأثبتها على منهجه في التفسير ، بذكر نص الآية.

(8/150)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

القول في تأويل قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : حرمت عليكم المحصناتُ من النساءِ ، إلا ما ملكت أيمانكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في " المحصنات " التي عناهن الله في هذه الآية.
فقال بعضهم : هن ذواتُ الأزواج غير المسبيَّات منهن ، و " ملكُ اليمين " : السَّبايا اللواتي فرَّق بينهن وبين أزواجهن السِّبَاء ، فحللن لمن صِرْن له بملك اليمين ، من غير طلاق كان من زوجها الحرْبيّ لها.
*ذكر من قال ذلك :
8961 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كل ذات زوج ، إتيانها زنًا ، إلا ما سَبَيْتَ.
8962 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطيّة قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله. (1)
__________
(1) الأثران : 8961 - 8962 - في الإسناد الأول : " عبد الرحمن " ، هو : عبد الرحمن بن مهدي ، سلف مرارًا. و " إسرائيل " هو : " إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، ثقة ، سلف برقم : 1291 ، 1239 وغيرها. و " أبو حصين " هو : عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي ، ثقة. سلف برقم : 642 ، 643. وفي الإسناد الثاني : " ابن عطية " هو : الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي ، سلف برقم : 1939 ، 4962.
وهذا الأثر ، أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 304 ، من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن شعبة ، عن أبي حصين ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي وأخرجه من طريقه أيضًا البيهقي في السنن الكبرى 7 : 167.

(8/151)


8963 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، يقول : كل امرأة لها زوجٌ فهي عليك حرام ، إلا أمةٌ ملكتها ولها زوجٌ بأرض الحربِ ، فهي لك حلال إذا استبرأتَها. (1)
8964 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن خالد ، عن أبي قلابة في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : ما سبَيْتُم من النساء. إذا سبيتَ المرأة ولها زوج في قومها ، فلا بأس أن تطأها.
8965 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : كل امرأة محصنة لها زوج فهي مُحرَّمة ، إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج ، فلا تحرُم عليك به. قال : كان أبي يقول ذلك.
8966 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال ، حدثنا سعيد ، عن مكحول في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال : السبايا. (2)
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة ، بالأخبار التي رويت أن هذه الآية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس.
ذكر الرواية بذلك :
8967 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " إذا استبريتها " ، كأنه لين الهمزة.
(2) الأثر : 8966 - " عتبة بن سعيد بن حبان بن الرحض السلمي الحمصي " ، يقال له : " وجين " . ذكره ابن حبان في الثقات.
و " سعيد " الراوي عن مكحول ، كأنه " سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي " ، صاحب مكحول. وقد سلفت روايته عنه برقم : 3997.

(8/152)


قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدري : أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعثَ جيشًا إلى أوطاس ، فلقوا عدوًّا ، فأصابوا سبايَا لهن أزواجٌ من المشركين ، فكان المسلمون يتأثَّمون من غشيانهن ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، أي : هُنّ حلال لكم إذا ما انقضت عِدَدهن. (1)
8968 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل : أن أبا علقمة الهاشمي حدَّث ، أنّ أبا سعيد الخدري حدث : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حُنين سريَّة ، فأصابوا حيًّا من أحياء العرب يومَ أوطاس ، فهزموهم وأصابوا لهم سبايَا ، فكان ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثَّمون من غشيانهن من أجل أزواجهن ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " منهن ، فحلالٌ لكم ذلك.
8969 - حدثني علي بن سعيد الكناني قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن أشعث بن سوار ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما سبىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ أوطاس ، قلنا : يا رسول الله ، كيف نقَعُ على نساء قد عرفنا أنسابَهنَّ وأزواجَهن ؟ قال : فنزلت هذه الآية : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " .
8970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عثمان البتي ، [عن أبي الخليل] ، عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساءً من سَبْي أوطاس لهنّ أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهنَّ أزواج ، فسألنا النبي صلى الله
__________
(1) الأحاديث : 8967 - 8971 - هذه أسانيد خمسة لحديث واحد. وأبو الخليل : هو صالح بن أبي مريم. مضى توثيقه وترجمته في : 1899. وقد اختلف عليه فيه : بين روايته عن أبي سعيد الخدري مباشرة ، وبين روايته عنه بواسطة أبي علقمة الهاشمي بينهما. بل إن الخلاف في ذلك على قتادة ، لا على أبي الخليل ، كما سيأتي ، إن شاء الله.
وأبو علقمة الهاشمي : هو المصري مولى بني هاشم. وهو تابعي ثقة.
وسعيد - في الإسنادين الأولين : هو ابن أبي عروبة.
وعثمان البتي - في إسنادين منهما - : هو عثمان بن مسلم البصري. وهو ثقة ، وثقه أحمد وابن معين ، وابن سعد ، وغيرهم. و " البتي " - بفتح الباء الموحدة وتشديد التاء المثناة : نسبة إلى " البت " ، اسم موضع.
وقد جزم المزي في تهذيب الكمال ، وتبعه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ، بأن رواية أبي الخليل عن أبي سعيد مرسلة! هكذا دون دليل! مع أن مسلمًا روى الحديث بالوجهين. أمارة صحتهما عنده. ولذلك قال النووي في شرحه 10 : 34 - 35 في الخلاف في إثبات " أبي علقمة " وحذفه : " ويحتمل أن يكون إثباته وحذفه كلاهما صواب ، ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين ، فرواه تارة كذا ، وتارة كذا " . وعندي أن هذا هو الحق ، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. والحديث رواه أحمد : 11714 (ج3 ص72 حلبي) ، عن عبد الرزاق ، عن سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد. كالرواية التي هنا : 8970.
وكذلك رواه الترمذي 4 : 86 ، من طريق هشيم ، عن عثمان البتي. وقال : " هذا حديث حسن. وهكذا روى الثوري ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وليس في الحديث " عن أبي علقمة " .
ورواه مسلم 1 : 417 ، من طريق شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد مباشرة.
فهذه الروايات توافق الروايات التي هنا : 8969 - 8971 ، التي لم يذكر فيها أبو علقمة.
ورواه الطيالسي : 2239 ، عن هشام ، عن قتادة ، عن صالح - وهو أبو خليل - عن أبي علقمة. وكذلك رواه أحمد في المسند : 11820 ، من طريق ابن أبي عروبة. و11821 ، من طريق همام - كلاهما عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة (ج3 ص84 حلبي).
وكذلك رواه مسلم 1 : 416 - 417 ، بإسنادين ، من طريق ابن أبي عروبة ، عن قتادة. ثم من طريق شعبة ، عن قتادة - بزيادة " أبي علقمة " . ومنه يظهر أن شعبة رواه عن قتادة بالوجهين : بإثبات أبي علقمة وحذفه.
وكذلك رواه أبو داود : 2155 ، من طريق ابن أبي عروبة ، عن قتادة.
وكذلك رواه النسائي 2 : 85 ، من طريق ابن أبي عروبة.
وكذلك رواه البيهقي 7 : 167 ، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه الترمذي أيضًا 4 : 86 ، من طريق همام ، عن قتادة. ثم قال : " ولا أعلم أن أحدًا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث ، إلا ما ذكر همام عن قتادة " . هكذا قال الترمذي. وما لم يعلمه هو علمه غيره ، فقد تابع همامًا على ذلك - سعيد بن أبي عروبة ، وشعبة ، كما تبين من الروايات الماضية. وقد تعقب ابن كثير الترمذي بذلك ، حين خرج الحديث في تفسيره 2 : 399. وأيا ما كان ، فالحديث صحيح ، من الوجهين - كما قلنا - وكما خرجه مسلم في صحيحه منهما.
وقد ذكره السيوطي 2 : 137 - 138 ، دون بيان الخلاف في الإسناد ، وزاد نسبته للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبي يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطحاوي ، وابن حبان.
تنبيه : زدنا في الإسناد : 8970 [عن أبي الخليل] ، لأنه هو الصواب ، وهو الموافق لرواية أحمد : 11714 ، من طريق الثوري. فحذفه من الإسناد هنا خطأ من الناسخين.

(8/153)


عليه وسلم ، فنزلت : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، فاستحللنا فروجَهنّ.
* * *

(8/154)


8971 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد قال : نزلت في يوم أوطاس. أصابَ المسلمون سبايَا لهنَّ أزواج في الشرك ، فقال : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، يقول : إلا ما أفاء الله عليكم. قال : فاستحللنا بها فروجَهن.
وقال آخرون ممن قال : " المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع " : بل هُنَّ كل ذات زوج من النساء ، حرامٌ على غير أزواجهن ، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشترٍ من مولاها ، فتحلُّ لمشتريها ، ويُبْطِل بيعُ سيِّدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها.
*ذكر من قال ذلك :
8972 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : كل ذات زوج عليك حرام ، إلا أن تشتريها ، أو ما ملكت يمينك.
8973 - حدثني المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه سئل عن الأمة تُباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعُها طلاقُها ، ويتلو هذه الآية : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " . (1)
__________
(1) الأثر : 8973 - في المطبوعة : وحدثنا أحمد بن جعفر ، عن شعبة " ، وهو خطأ محض ، والصواب من المخطوطة ، و " محمد بن جعفر " المعروف بغندر ، كان ربيب شعبة ، وجالسه نحوًا من عشرين سنة ، وروى عنه فأكثر ، وقد سلف في الأسانيد مئات من المرات.

(8/155)


8974 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : كل ذات زوج عليك حرام إلا ما اشتريت بمالك وكان يقول : بيعُ الأمة طلاقُها.
8975 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : " والمحصنات من النساء " ، قال : هنّ ذوات الأزواج ، حرَّم الله نكاحهن ، إلا ما ملكت يمينك ، فبيعُها طلاقٌها قال معمر : وقال الحسن مثل ذلك.
8976 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : عن الحسن في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : إذا كان لها زوج ، فبيعُها طلاقُها.
8977 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن أبيّ بن كعب ، وجابرَ بن عبد الله ، وأنسَ بن مالك قالوا : بيعُها طلاقُها.
8978 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن أبي بن كعب وجابرًا وابن عباس قالوا : بيعُها طلاقُها.
8979 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله : بيعُ الأمة طلاقُها. (1)
8980 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ومغيرة والأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال ، بيعُ الأمة طلاقها.
8981 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سعيد ، عن
__________
(1) الأثر : 8979 - " عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي " ثقة. مترجم في التهذيب.

(8/156)


حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله.
8982 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله.
8983 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : طلاق الأمة ستٌّ : بيعها طلاقُها ، وعتْقُها طلاقها ، وهبتُها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طَلاقُها. (1)
8984 - حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي قال ، حدثنا عثمان بن سعيد ، عن عيسى ابن أبي إسحاق ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب أنه قال : بيع الأمة طلاقها. (2)
8985 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن قال : بيع الأمة طلاقُها ، وبيعُه طلاقُها.
8986 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا خالد ، عن أبى قلابة قال : قال عبد الله : مشتريها أحقُّ بِبُضْعها يعني الأمة تباع ولها زوج.
__________
(1) الأثر : 8983 - ابن كثير 2 : 400 ، والدر المنثور 2 : 138. وفي ابن كثير : " خليد ، عن عكرمة " ، والصواب ما في التفسير ، وهو خالد الحذاء : " خالد بن مهران " ، وقد سلف رقم : 1683 ، 3912م ، 5427.
وفي هذه الأصول جميعًا : " طلاق الأمة ست " ، ولم يذكر غير خمس منها ، وفيها جميعًا علامة استشكال وتنبيه على هذا الخرم. وقد استظهرت أن يكون سادسها " وَإرْثُهَا طَلاقُهَا " ، وكأنه الصواب إن شاء الله ، فإن وراثة الأمة مطلقة لها.
(2) الأثر : 8984 - " أحمد بن المغيرة " ، وهو : " أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار " " أبو حميد الحمصي " مضت ترجمته برقم : 5753 ، 5754.
و " عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي الحمصي " ، ثقة ، كان يقال : " هو من الأبدال " ، مات سنة 209. مترجم في التهذيب.
وأما " عيسى بن أبي إسحاق " فكأنه " عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي " وقد رأى جده أبا إسحاق السبيعي المتوفى فيما اختلف فيه من سنة 126 - 129 ، ولم أجده روى عن " الأشعث بن سوار الكندي " ، المتوفى سنة 136 ، ولكنه إذ كان رأى جده ، فقد كان إذن خليقًا أن يروى عن الأشعث.

(8/157)


8987 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن قال : طلاق الأمة بيعُها.
8988 - حدثنا حميد قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أُبَيًّا قال : بيعُها طلاقُها.
8989 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج ، فسيِّدها أحق ببُضْعِها.
8990 - حدثنا حميد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم قال : بيعُها طلاقُها. قال : فقيل لإبراهيم : فبَيْعُه ؟ قال : ذلك ما لا نقول فيه شيئًا.
* * *
وقال آخرون : بل معنى " المحصنات " في هذا الموضع : العفائف. قالوا : وتأويل الآية : والعفائف من النساء حرام أيضًا عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم منهن بنكاح وصداق وسُنّة وشُهودٍ ، من واحدةٍ إلى أربع. (1)
__________
(1) قوله : " وسنة " هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة ، وكذلك يأتي في الأثر التالي : 8991 ، وخرجه السيوطي في الدر ، مثله ، وفيه " وسنة " أيضًا. وأنا في شك من هذا اللفظ ، ومن اللفظ الذي سيأتي في الأثرين : 9002 ، 9008 ، وهو " وبينة " ومجيئها في هذين الأثرين لا يحتمل قط أن تكون " بالسنة " أو " بسنة " ، حتى أقول إن صوابه فيهما " سنة " . أما " سنة " في هذا الموضع ، فيحتمل السياق أن تكون : " وصداق وبينة وشهود " . وأيضًا ، لم أعرف ما " البينة " في النكاح ، كما سترى في التعليق على الأثرين : 9002 ، 9008.
أما " سنة " في هذا الموضع ، وفي الأثر : 8991 ، فإني نظرت فلم أجد أركان النكاح ، سوى الصداق والولي والشهود. وقد اختلف العلماء في " الولي " أشرط هو من شروط صحة النكاح ، أم ليس بشرط واختلفوا في أنه سنة أو فرض واختلفوا في أنه من شروط تمام العقد ، أم من شروط صحته. ورأيت سبب اختلافهم أنه لم تأت في " الولي " واشتراطه آية هي نص ظاهر. بل جاء في السنة ، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نكاح إلا بولي " ، وإن اختلفوا في محامل هذا الحديث ، وهو اختلاف مفصل في كتب الفقه. فبدا لي أن ما جاء في لفظ أبي جعفر ، من خبر أبي العالية رقم : 8991 ، إنما سماه أبو العالية " سنة " ، وهو يريد " الولي " ، لأنه مجيئة في السنة ، لا في ظاهر القرآن.
هذا ما استظهرته ، فمن أصاب ، وجهًا غير هذا الوجه فعلمنيه ، فجزاه الله خيرًا ، وشكر له ما أفاد. وانظر التعليق على الأثرين : 9002 ، 9008.

(8/158)


*ذكر من قال ذلك :
8991 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن أبي العالية قال ، يقول : " انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، ثم حرّم ما حرم من النسب والصهر ، ثم قال : " والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : فرجع إلى أول السورة ، إلى أربع ، فقال : هن حرامٌ أيضًا إلا بصداق وسُنَّةٍ وشهود. (1)
8992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : أحلّ الله لك أربعًا في أول السورة ، وحرّم نكاح كلِّ محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك قال معمر ، وأخبرني ابن طاوس ، عن أبيه : " إلا ما ملكت يمينك " ، قال : فزوجُك مما ملكت يمينُك ، يقول : حرم الله الزنا ، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينُك.
8993 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين قال ، سألت عبيدة عن قول الله تعالى : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم " ، قال : أربع.
8994 - حدثني علي بن سعيد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن عمر بن الخطاب مثله.
8995 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : الأربع ، فما بعدهنّ حرام.
__________
(1) الأثر : 8991 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 138 ، ونسبه لابن جرير ، وعبد بن حميد ، ولفظه : " إلا لمن نكح بصداق... " وانظر التعليق السالف.

(8/159)


8996 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عنها فقال : حرم الله ذوات القرابة. ثم قال : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، يقول : حرم ما فوق الأربع منهن.
8997 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والمحصنات من النساء " ، قال : الخامسةُ حرام كَحُرمة الأمهات والأخوات.
* * *
ذكر من قال : " عنى بالمحصنات في هذا الموضع ، العفائفَ من المسلمين وأهل الكتاب.
8998 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " والمحصنات " قال : العفيفة العاقلة ، من مسلمةٍ أو من أهل الكتاب.
8999 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن دريس ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : العفائف.
* * *
وقال آخرون : " المحصنات " في هذا الموضع ، ذوات الأزواج ، غير أن الذي حرَّم الله منهن في هذه الآية ، الزنا بهنّ ، وأباحهن بقوله : " إلا ما ملكت أيمانكم " بالنكاح أو الملك.
*ذكر من قال ذلك :
9000 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " والمحصنات " ، قال : نهى عن الزنا.

(8/160)


9001 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والمحصنات من النساء " قال : نهى عن الزنا ، أن تنكِحَ المرأة زوجين.
9002 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : كل ذات زوج عليكم حرام ، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبيِّنَةِ والمهر. (1)
9003 - حدثنا أحمد بن عثمان قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا أبي قال ، سمعت النعمان بن راشد يحدِّث ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أنه سئل عن المحصنات من النساء ، قال : هن ذوات الأزواج. (2)
9004 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
__________
(1) الأثر : 9002 - لم أعرف ما أراد بقوله : " ينكحن بالبينة " ، وسيأتي مثله في الأثر رقم : 9008 ، وقد وجدت في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده 4 : 58 ، والحاكم في المستدرك 2 : 172 - 174 ، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى حي من الأنصار ، ليتزوج امرأة منهم قال : " فأكرموني وزوجوني وألطفوني ولم يسألوني البينة. فرجعت حزينًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بالك ؟ فقلت : يا رسول الله ، أتيت قومًا كرامًا فزوجوني وأكرموني ولم يسألوني البينة! فمن أين لي الصداق ؟ " الحديث. فلا أدري أهذا هذا ؟!
وقد أشكل على ما أراد ابن عباس في هذا الحديث ، وفي الذي يليه : 9008 ، بقوله : " بالبينة والمهر " أو " ببينة ومهر " ، كما أشكل على لفظ " سنة " في ص : 158 تعليق : 1 ، والأثر : 8991 ، فانظره هناك. ورحم الله عبدًا علم جاهلا.
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 138 ، ونسبه لابن أبي حاتم ، والطبراني.
(2) الأثر : 9003 - " أحمد بن عثمان بن أبي عثمان النوفلي " المعروف بابن أبي الجوزاء ، روى عنه أبو جعفر في التاريخ 2 : 205 بهذا الإسناد نفسه ، وهو غير " أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي " الذي يروي عنه أبو جعفر أيضًا في غير هذا الموضع ، وقد صرح أبو جعفر في إسناده في التاريخ بأنه " المعروف بابن أبي الجوزاء " . مترجم في التهذيب.

(8/161)


أيمانكم " ، قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي : ذوات الأزواج من المشركين.
9005 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : " والمحصنات من النساء " ، قال : كل ذات زوج عليكم حرام.
9006 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مكحول نحوه.
9007 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن الصلت بن بهرام ، عن إبراهيم نحوه. (1)
9008 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " إلى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، يعني ذوات الأزواج من النساء ، لا يحل نكاحهنّ. يقول : لا تُخَبِّبْ ولا تَعِدْ ، فتنشُز على زوجها. (2) وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومَهْرٍ فهي من المحصنات التي حَرّم الله " إلا ما ملكت أيمانكم " ، يعني التي أحلَّ الله من النساء ، وهو ما أحلَّ من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 9007 - " الصلت بن بهرام التميمي " مضى برقم : 4223.
(2) في المطبوعة : " لا تخلب " ، وهو كأنه من " الخب " ، وهو من قولهم : " خلب المرأة عقلها " ، سلبها إياه بحلو حديثه وخداعه. وفي المخطوطة : " تحلب " غير منقوطة ، وكذلك في الدر المنثور 2 : 138 ، ولكني آثرت قراءتها " تخبب " ، لأنه هو اللفظ المستعمل في إفساد النساء على أزواجهن. يقال : " خبب عليه امرأته أو عبده أو صديقه " : أفسده عليه بمكره وغشه وخداعه ، قال الفرزدق ، في قوم اتهمهم بإفساد زوجته النوار عليه : وَإِنَّ امْرَأَ أَمْسَى يُخَبِّبُ زَوْجَتِي ... كَمَاشٍ إلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَمِنْ دُونِ أَبْوَالِ الأُسُودِ بَسَالَةٌ ... وَبَسْطَةُ أَيْدٍ يَمْنَعُ الضَّيْمَ طُولُها
(3) الأثر : 9008 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 138 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم. وانظر التعليق على الأثر : 9002 ، في إشكال معنى " بينة " هنا. وانظر أيضًا ص : 158 تعليق : 1 ، والتعليق على الأثر : 8991.

(8/162)


وقال آخرون : بل هن نساءُ أهل الكتاب.
*ذكر من قال ذلك :
9009 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عيسى بن عبيد ، عن أيوب بن أبي العَوْجاء ، عن أبي مجلز في قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، قال : نساء أهل الكتاب. (1) .
* * *
وقال آخرون : بل هن الحرائر.
*ذكر من قال ذلك :
9010 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني حماد بن مسعدة قال ، حدثنا سليمان ، عن عزرة في قوله : " والمحصنات من النساء " ، قال : الحرائر. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 9009 - " يحيى بن واضح الأنصاري ، أبو تميلة " ، سلفت ترجمته مرارًا منها : 392 ، 461. و " عيسى بن عبيد بن مالك المروزي - الكندي " ، يروي عن أبي مجلز ، ولكنه روى عنه هنا بواسطة أيوب بن أبي العوجاء. روى عنه أبي تميلة يحيى بن واضح. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و " أيوب بن العوجاء القرشي " ، روى عن عكرمة ، وعلباء بن أحمر. روى عنه الحسين بن واقد ، والمبارك بن مجاهد ، وعيسى بن عبيد المروزي ، وأيوب. يعد في الخراسانيين ، وهو مروزي. مترجم في الكبير 1 / 1 / 421 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 254. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " أيوب عن أبي العوجاء " ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت. و " أبو مجلز " هو " لاحق بن حميد " سلفت ترجمته في رقم : 2634.
(2) الأثر : 9010 - " حماد بن مسعدة البصري " ، ثقة ، من شيوخ أحمد. مضى برقم : 3056.
و " سليمان " : هو : سليمان التيمي.
و " عزرة " هو : عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي ، مضى برقم : 2752 ، 2753 ، وفي هذه الأخيرة خطأ (عروة) والصواب " عزرة " فليصحح.
وكان في المطبوعة : " سليمان بن عرعرة " ، ولا أدري من أين جاء بها الطابع ، وإن كان " سليمان بن عرعرة بن البرند " مترجمًا في ابن أبي حاتم 2 / 1 / 134 ، وكان في المخطوطة " سليمان بن عزرة " ، وليس في الرواة " سليمان بن عزرة " ، فظاهر أنه " سليمان بن عزرة " وعزرة ، يروي عن سليمان التيمي وقتادة.

(8/163)


وقال آخرون : " المحصنات " هن العفائف وذوات الأزواج ، وحرام كُلُّ من الصنفين إلا بنكاحٍ أو ملك يمين.
*ذكر من قال ذلك :
9011 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، وسئل عن قول الله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " الآية ، قال : نرى أنه حرَّم في هذه الآية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحن مع أزواجهن والمحصنات ، العفائف ولا يحللن إلا بنكاحٍ أو ملك يمين. والإحصان إحصانَان : إحصان تزويج ، وإحصانُ عَفافٍ ، في الحرائر والمملوكات. كل ذلك حرّم الله ، إلا بنكاح أو ملك يمين.
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في نساء كنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج ، فيتزوّجُهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجُهن مهاجرين ، فنهى المسلمون عن نكاحهن.
*ذكر من قال ذلك :
9012 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان النساء يأتيننا ثم يهاجر أزواجهن ، فمنعناهن يعني قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " . (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 9012 - " حبيب بن أبي ثابت " هو : " حبيب بن قيس بن دينار " ، ويقال : " حبيب بن قيس بن هند " ، ويقال " حبيب بن هند " . روى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس. وذكره أبو جعفر الطبري في طبقات الفقهاء. لم يذكر له رواية عن أبي سعيد الخدري. وهو ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 311 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 107. والأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 138 ، ولم ينسبه إلا لابن جرير.

(8/164)


وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسًا عليهم تأويل ذلك.
9013 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال ، قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سُئِل عن هذه الآية : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، فلم يقل فيها شيئًا ؟ قال فقال : كان لا يعلمها.
9014 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن مجاهد قال : لو أعلم من يفسّر لي هذه الآية ، لضربت إليه أكباد الإبل ، قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " إلى قوله : " فما استمتعتم به منهن " ، إلى آخر الآية. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فأما " المحصنات " ، فإنَّهن جمع " مُحْصَنة " ، وهي التي قد مُنع فرجها بزوج. يقال منه : " أحْصَن الرجلُ امرأته فهو يُحْصنها إحصانًا " ، " وحَصُنت هي فهي تَحْصُن حَصَانة " ، إذا عفَّت " وهي حاصِنٌ من النساء " ، عفيفة ، كما قال العجاج :
وَحَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسٍ... عَنِ الأذَى وَعَنْ قِرَافِ الْوَقْسِ (2)
__________
(1) الأثر : 9014 - " عبد الرحمن بن يحيى " ، لم أعرف من يكون ؟
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 139 ، لم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) ديوانه : 79 ، واللسان (حصن) (قنس) و (وقس). وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 3 : 403 ، يذكر فيها أبا العباس السفاح وخلافته ، وهذا الشعر في ديوانه ملفق غير متصل ، فلذلك لم أستطع أن أميز الآن ، من على بقوله : " وحاصن " ، وكأنه عنى أم أبي العباس.
وقوله : " ملس " جمع " ملساء " وأراد بها البراءة من كل عيب يذم ، كالشيء الأملس وهو البريء من الخشونة والعيوب والابن ، ويقول المتلمس ، وصدق العربي الحر : فَلا تَقْبَلَنْ ضَيْمًا مَخَافَةَ مِيتَةٍ ، ... وَمُوتَنْ بِهَا حُرًّا وَجِلْدُكَ أَمْلَسُ
ويعني بقوله : " الأذى " العيب. ويروى " من الأذى " ، وهو جيد أيضًا. و " القراف " المخالطة ، مصدر " قارف الشيء مقارفة وقرافًا " داناه وخالطه. فقالوا منه : " قارف الجرب البعير " ، داناه شيء منه ، وهو المراد هنا ، أي ملابسة الداء و " الوقس " ، الجرب. وضرب الجرب مثلا للفاحشة والعيب.

(8/165)


ويقال أيضًا ، إذا هي عَفَّت وحفِظت فرجها من الفجور : " قد أحصَنَتْ فرجها فهي مُحْصِنة " ، كما قال جل ثناؤه : ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) [سورة التحريم : 12] ، بمعنى : حفظته من الريبة ، ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى : " حُصُون " ، لمنعها من أرادَها وأهلَها ، وحفظِها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها. ولذلك قيل للدرع : " درع حَصِينة " .
* * *
فإذا كان أصل " الإحصان " ما ذكرنا من المنع والحفظ ، فبيِّنٌ أنّ معنى قوله : " والمحصنات من النساء " ، والممنوعات من النساء حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وإذ كان ذلك معناه ، وكان الإحصان قد يكون بالحرّية ، كما قال جل ثناؤه : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) [سورة المائدة : 5] ويكون بالإسلام ، كما قال تعالى ذكره : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) [سورة النساء : 25] ويكون بالعفة ، كما قال جل ثناؤه : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) [سورة النور : 4] ويكون بالزوج (1) ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصَنة دون محصنة في قوله : " والمحصنات من النساء " (2) فواجبٌ أن تكون كلُّ مُحْصنة بأيّ معاني الإحصان كان إحصانها ، حرامًا علينا سفاحًا أو نكاحًا إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء ، كما أباحه لنا كتابُ الله جل ثناؤه ، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله.
__________
(1) هذه عطوف متتابعة ، والسياق : وإذ كان ذلك معناه ، وكان الإحصان قد يكون بالحرية... ويكون بالإسلام... ويكون بالعفة... ويكون بالزوج...
ثم عطف مرة أخرى على أول الكلام فكان سياقه : وإذ كان ذلك معناه... ولم يكن تبارك وتعالى خص محصنة دون محصنة.
(2) هذا جواب " إذ " ، والسياق : وإذ كان ذلك معناه... فواجب أن تكون كل محصنة.

(8/166)


فالذي أباحه الله تبارك وتعالى لنا نكاحًا من الحرائر : الأربعُ ، سوى اللَّواتي حُرِّمن علينا بالنسب والصهر ومن الإماء : ما سبينا من العدوِّ ، سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حُرِّم علينا من الحرائر بالنسب والصهر ، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرُم بذلك المعنى ، متفقاتُ المعاني وسوى اللّواتي سبيناهنّ من أهل الكتابين ولهن أزواج ، فإن السبِّاء يحلُّهن لمن سبَاهن بعد الاستبراء ، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخُمس منهنّ. فأما السِّفاح ، فإن الله تبارك وتعالى حرّمه من جميعهن ، فلم يحلّه من حُرّة ولا أمة ، ولا مسلمة ، ولا كافرةٍ مشركة.
وأما الأمة التي لها زوج ، فإنها لا تحلّ لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها ، أو وفاته وانقضاء عدتها منه. فأمَّا بيع سيدها إياها ، فغيرُ موجب بينها وبين زوجها فراقًا ولا تحليلا لمشتريها ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (1) أنه خَيَّرَ بَرِيرة إذ أعتقتها عائشة ، بين المُقام مع زوجها الذي كان سادَتُها زوَّجوها منه في حال رِقِّها ، وبين فراقه ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عِتْق عائشة إيّاها لها طلاقًا. ولو كان عتقُها وزوالُ مِلك عائشة إياها لها طلاقًا ، لم يكن لتخيير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق ، معنًى ولوجب بالعتق الفراق ، (2) وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق. فلما خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق ، كان معلومًا أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقدُه ثابت كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها. فكان نظيرًا للعتق الذي هو زوال مِلك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيعُ ، الذي هو زوال ملك مالكها عنها ، إذ كان أحدهما زوالا ببيع ، والآخر بعتق في أن الفُرْقة لا تجب بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما ، [ولا يجب بهما ولا بواحدٍ منهما
__________
(1) خبر بريرة ، في مسلم 10 : 139 - 148 ، وأخرجه البخاري أيضًا في مواضع من صحيحه.
(2) في المخطوطة : " وقد وجب بالعتق الفراق " ، وهو خطأ بين ، والصواب ما في المطبوعة.

(8/167)


طلاقٌ] ، (1) وإن اختلفا في معانٍ أُخر : من أن لها في العتق الخيارُ في المقام مع زوجها والفراق ، لعلة مفارقةٍ معنى البيع ، وليس ذلك لها في البَيْع.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف يكون معنيًّا بالاستثناء من قوله : " والمحصنات من النساء " ، ما وراء الأربع ، من الخمس إلى ما فوقهن بالنكاح ، والمنكوحات به غير مملوكات ؟.
قيل له : إن الله تعالى لم يخصّ بقوله : " إلا ما ملكت أيمانكم " ، المملوكات الرقابَ ، دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرُها ، بل عمَّ بقوله : " إلا ما ملكت أيمانكم " ، كلا المعنيين أعني ملك الرقبة ، وملك الاستمتاع بالنكاح لأن جميع ذلك ملكته أيماننا. أما هذه فملك استمتاع ، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادَّعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله : " والمحصنات من النساء " محصنة وغير محصنة سوى من ذكرنا أولا بالاستثناء بقوله : " إلا ما ملكت أيمانكم " ، (2) بعضَ أملاك أيماننا دون بعض غيرَ الذي دللنا على أنه غير معنيٍّ به سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير. (3) فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في أن الفرقة لا يجب بها بينهما وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق " وهو كلام فاسد مختل ، غير ما في المخطوطة إذ كان ما فيها خطأ ، وزاد " بها " في قوله " لا يجب بها " ، ولا أدري ما أراد بذلك!!
وفي المخطوطة : " في أن الفرقة لا تجب بينها وبين زوجها بهما ، ولا بواحد منها وطلاق " . والجملة الأولى مستقيمة ، وأما " وطلاق " فإن الناسخ فيما أرجح قد اختلط عليه إعادة الجملة كما أثبتها ، فكتب ما كتب. والصواب إن شاء الله هو ما أثبته بين القوسين ، وهو استظهار من سياق الحجة السالفة كما ترى.
هذا ، وجملة أبي جعفر من أول الفقرة ، شديدة التركيب ، ولذلك وضعت لها الخطوط الفواصل ، لتفصل التفسير عن سياق الكلام ، وسياقه كما يلي : " فكان نظيرًا للعتق... البيع... في أن الفرقة... " ، يعني أن البيع نظير العتق ، ثم فسر في خلال ذلك معنى " العتق " ومعنى " البيع " .
(2) قوله : " بعض " منصوب مفعول به لقوله " عنى بقوله " .
(3) السياق : " ومن ادعى... سئل البرهان " .

(8/168)


فإن اعتلّ معتلُّ منهم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس
قيل له : إن سبايا أوْطاس لم يُوطأن بالملك والسبِّاء دون الإسلام. وذلك أنهن كن مشركاتٍ من عَبَدة الأوثان ، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام ، وأنهن إذا أسلمن فرَّق الإسلام بينهن وبين الأزواج ، سبايا كنَّ أو مهاجرات. غير أنّهن إذا كُن سبايا ، حللنَ إذا هُنَّ أسلمنَ بالاستبراء. فلا حجة لمحتجّ في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله : " والمحصنات من النساء " ، ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن ، بخبر أبي سعيد الخدري أنّ ذلك نزل في سبايا أوطاس. لأنه وإن كان فيهن نزل ، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسبِّاء خاصة ، دون غيره من المعاني التي ذكرنا. مع أنّ الآية تنزل في معنًى ، فتعمُّ ما نزلت به فيه وغيرَه ، فيلزم حكمها جميع ما عمَّته ، لما قد بيَّنا من القول في العموم والخصوص في كتابنا " كتاب البيان عن أصول الأحكام " .
* * *
القول في تأويل قوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : كتابًا من الله عليكم ، فأخرج " الكتاب " مُصَدَّرًا من غير لفظه. (1) وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى : " حرِّمت عليكم أمهاتكم " ، إلى قوله : " كتابَ الله عليكم " ، بمعنى : كَتب الله تحريم ما حرَّم من ذلك وتحليلَ ما حلل من ذلك عليكم ، كتابًا. (2)
* * *
__________
(1) " المصدر " (بضم الميم وفتح الصاد ودال مشدودة مفتوحة) ، أي مفعولا مطلقًا ، من " التصدير " - وهو الإخراج على معنى المفعول المطلق. وانظر ما سلف 1 : 117 ، تعليق : 1 ثم ص 138 ، تعليق : 2 / 2 : 292 تعليق : 1 ، ص : 500.
(2) انظر ما سلف 7 : 261.

(8/169)


وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9015 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : " كتاب الله عليكم " ، قال : ما حرَّم عليكم.
9016 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عنها فقال : " كتابَ الله عليكم " ، قال : هو الذي كتب عليكم الأربعَ ، أن لا تزيدوا.
9017 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين قال : قلت لعبيدة : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم " ، وأشار ابن عون بأصابعه الأربع.
9018 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قوله : " كتاب الله عليكم " ، قال : أربع.
9019 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كتاب الله عليكم " ، الأربع.
9020 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " كتاب الله عليكم " ، قال : هذا أمرُ الله عليكم. قال : يريد ما حرَّم عليهم من هؤلاء وما أحلَّ لهم. وقرأ : " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم " ، إلى أخر الآية. قال : " كتاب الله عليكم " ، الذي كتَبه ، وأمره الذي أمركم به. " كتاب الله عليكم " ، أمرَ الله. (1)
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أنّ قوله : " كتاب الله عليكم " ، منصوب على وجه الإغراء ، بمعنى : عليكم كتابَ الله ، الزموا كتابَ الله.
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف 3 : 364 ، 365 ، 409 ، 508 / 4 : 297 / 5 : 300. ومعنى " الكتاب " الفرض والحكم والقضاء.

(8/170)


والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب. وذلك أنها لا [تكاد] تَنصب بالحرف الذي تغرِي به ، [إذا أخَّرت الإغراء ، وقدمت المغرَى به]. (1) لا تكاد تقول : " أخاك عليك ، وأباك دونك " ، وإن كان جائزًا. (2)
والذي هو أولى بكتاب الله : أن يكون محمولا على المعروف من لسان من نزل بلسانه. هذا ، مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا ، وخلافِ ما وجَّهه إليه من زعم أنه نُصب على وجه الإغراء.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.
*ذكر من قال ذلك :
9021 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، ما دون الأربع " أن تبتغوا أموالكم " .
9022 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ،
__________
(1) هذه الجملة التي بين القوسين ، لا بد منها لصحة هذا القول ، وقوله : " تكاد " قبلها بين القوسين ، ضرورة زيادتها أيضًا ، وإلا لم يكن لقوله بعد : " وإن كان ذلك جائزًا " معنى ، فإنه يكون قد نفى بمرة واحدة ، أن تنصب العرب بالحرف الذي تغرى به ، إذا أخرته. وهو تناقض. واستظهرت الجملة الثانية مما سلف من كلامه في 1 : 120 ، في الإغراء أيضًا.
(2) وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 260.

(8/171)


عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، يعني : ما دون الأربع.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأحل لكم ما وراء ذلكم : مَن سَمَّى لكم تحريمه من أقاربكم.
*ذكر من قال ذلك :
9023 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عنها فقال : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، قال : ما وراء ذات القرابة " أن تبتغوا بأموالكم " ، الآية.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " وأحل لكم ما وراء ذلكم : عددَ ما أحل لكم من المحصنات من النّساء الحرائر ومن الإماء.
*ذكر من قال ذلك :
9024 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، قال : ما ملكت أيمانكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما نحن مبيِّنوه. وهو أن الله جل ثناؤه بيَّن لعباده المحرَّمات بالنسب والصهر ، ثم المحرمات من المحصنات من النساء ، ثم أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرَّمات المبيَّنات في هاتين الآيتين ، أن نَبْتغيه بأموالنا نكاحًا وملك يمين ، لا سفاحًا.
* * *
فإن قال قائل : عرفنا المحلَّلات اللواتي هن وراء المحرَّمات بالأنساب والأصهار ، فما المحلَّلات من المحصَنات والمحرمات منهن ؟
قيل : هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع - على ما ذكرنا عن عبيدة

(8/172)


والسدي - من الحرائر. فأما ما عدا ذوات الأزواج ، فغير عدد محصور بملك اليمين. وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك ، لأن قوله : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ، عامّ في كل محلَّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا. فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهن بأولى من بعض ، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجَّة يجب التسليم لها. ولا حُجة بأن ذلك كذلك.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " .
فقرأ ذلك بعضهم : " وَأَحَلَّ لَكُمْ " بفتح " الألف " من " أحل " بمعنى : كتب الله عليكم ، وأحل لكم ما وراء ذلكم.
وقرأه آخرون : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) ، اعتبارًا بقوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) ، " وأحل لكم ما وراء ذلكم " .
* * *
قال أبو جعفر : والذي نقول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الإسلام ، غير مختلفتي المعنى ، فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الحقَّ.
* * *
وأما معنى قوله : " ما وراء ذلكم " ، فإنه يعني : ما عدا هؤلاء اللواتي حرَّمتهن عليكم " أن تبتغوا بأموالكم " يقول : أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم ، (1) إما شراءً بها ، وإما نكاحًا بصداق معلوم ، كما قال جل ثناؤه : ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) [سورة البقرة : 91] ، يعني : بما عداه وبما سواه. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " ابتغى " فيما سلف 3 : 508 / 4 : 163 / 6 : 196 ، 564 ، 570 / 7 : 53.
(2) انظر تفسير : " وراء " فيما سلف 2 : 348 ، 349 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 60 ، 261.

(8/173)


وأما موضع : " أن " من قوله : " أن تبتغوا بأموالكم " فرفعٌ ، ترجمةً عن " ما " التي في قوله : (1) " وأحل لكم ما وراء ذلكم " في قراءة من قرأ " وأحِلَّ " بضم " الألف " ونصبٌ على ذلك في قراءة من قرأ ذلك : " وأحَل " بفتح " الألف " .
وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين ، على معنى : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا. فلما حذفت " اللام " الخافضة ، اتصلت بالفعل قبلها فنصبت. (2) وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض ، بهذا المعنى ، (3) إذ كانت " اللام " في هذا الموضع معلومًا أن بالكلام إليها الحاجة.
* * *
القول في تأويل قوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " محصِنين " ، أعفَّاء بابتغائكم ما وراء ما حرَّم عليكم من النساء بأموالكم (4) " غير مسافحين " ، يقول : غير مُزَانين ، كما : -
9025 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " محصنين " ، قال : متناكحين " غير مسافحين " ، قال : زانين بكل زانية.
9026 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " محصنين " متناكحين " غير مسافحين " ، السفاحُ الزِّنا.
__________
(1) " الترجمة " هنا هي " التفسير " ، كما ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 261.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 261.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فهذا المعنى " ، وهو خطأ شديد الفساد.
(4) انظر تفسير " الإحصان " فيما سلف قريبًا : 165 ، 166.

(8/174)


9027 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " محصنين غير مسافحين " ، يقول : محصنين غير زُنَاة.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فما استمتعتم به منهن " . فقال بعضهم : معناه : فما نكحتم منهن فجامعتموهن - يعني : من النساء " فآتوهن أجورهن فريضة " يعني : صدقاتهن ، فريضة معلومة. (1)
*ذكر من قال ذلك :
9028 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورَهن فريضة " ، يقول : إذا تزوج الرجل منكم المرأة ، ثم نكحها مرة واحدة ، فقد وجب صَداقها كلُّه و " الاستمتاع " هو النكاح ، وهو قوله : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) [سورة النساء : 4].
9029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " فما استمتعتم به منهن " ، قال : هو النكاح.
9030 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فما استمتعتم به منهن " ، النكاح.
__________
(1) انظر تفسير " الاستمتاع " في " متع " ، و " الإيتاء " في " أتى " و " الفريضة " في " فرض " من فهارس اللغة ، في الأجزاء السالفة.

(8/175)


9031 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " فما استمتعتم به منهن " ، قال : النكاحَ أراد.
9032 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة " الآية ، قال : هذا النكاح ، وما في القرآن إلا نكاحٌ. إذا أخذتَها واستمتعت بها ، فأعطها أجرَها الصداقَ. فإن وضعت لك منه شيئًا ، فهو لك سائغ. فرض الله عليها العدة ، وفرض لها الميراث. قال : والاستمتاع هو النكاح ههنا ، إذا دخل بها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما تمتَّعتم به منهن بأجرٍ تمتُّعَ اللذة ، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولِيٍّ وشهود ومهر.
*ذكر من قال ذلك :
9033 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورَهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " ، (1) فهذه المتعة : الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى ، ويشهد شاهدين ، وينكح بإذن وليها ، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريَّة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، ليس يرث واحد منهما صاحبه.
9034 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فما استمتعتم به منهن " ، قال : يعني نكاحَ المتعة.
9035 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن عيسى قال ، حدثنا نصير بن أبي الأشعث قال ، حدثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه قال :
__________
(1) قوله في الآية " إلى أجل مسمى " ، هو في هذا الأثر من سياق الآية عن السدي ، وانظر الآثار التالية : 9035 - 9043 ، وانظر رد الطبري هذه القراءة في آخر تفسير الآية.

(8/176)


أعطاني ابن عباس مصحفًا فقال : هذا على قراءة أبيّ قال أبو كريب (1) قال يحيى : فرأيت المصحف عند نصير ، فيه : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) . (2)
9036 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن أبي نضرة قال ، سألت ابن عباس عن متعة النساء. قال : أما تقرأ " سورة النساء " ؟ قال قلت : بلى! قال : فما تقرأ فيها : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) ؟ قلت : لا! لو قرأتُها هكذا ما سألتك! قال : فإنها كذا.
9037 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثني داود ، عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فذكر نحوه.
9038 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي سلمة ، عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية على ابن عباس : " فما استمتعتم به منهن " . قال ابن عباس : " إلى أجل مسمى " . قال قلت : ما أقرؤها كذلك! قال : والله لأنزلها الله كذلك! ثلاث مرات.
9039 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمير : أن ابن عباس قرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أبو بكر " ، مكان " أبو كريب " ، وهو سهو من الناسخ كما ترى.
(2) الأثر : 9035 - " يحيى بن عيسى الرملي " ، شيخ أبي كريب ، مضت ترجمته رقم : 6317 ، ثم 7418. " نصير بن أبي الأشعث " - ويقال : ابن الأشعث - العرادي الأسدي ، روى عن أبي إسحاق السبيعي وغيره. مترجم في التهذيب.
و " ابن حبيب بن أبي ثابت " ، لم أستطع أن أثبت أيهم هو ، وهم " عبد الله بن حبيب " و " عبيد الله بن حبيب " ، و " عبد السلام بن حبيب " ، ذكرهم الداراقطني وقال : " بنو حبيب بن أبي ثابت وكلهم ثقات " . وكان في المطبوعة : " حبيب بن أبي ثابت " أسقط " ابن " ، وهي ثابتة في المخطوطة.
وأبوه : " حبيب بن أبي ثابت " ، روى عن ابن عباس ، سلفت ترجمته قريبا ، رقم : 9012.

(8/177)


9040 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة وحدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر قال ، أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق ، عن ابن عباس بنحوه.
9041 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : في قراءة أبيّ بن كعب : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) .
9042 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " إلى هذا الموضع : " فما استمْتَعتم به منهن " ، أمنسوخة هي ؟ قال : لا قال الحكم : وقال علي رضي الله عنه : لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شَقِيٌّ.
9043 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عيسى بن عمر القارئ الأسدي ، عن عمرو بن مرة : أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، تأويل من تأوَّله : فما نكحتموه منهن فجامعتموه ، فآتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
9044 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال ، حدثني الرَّبيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استمتعوا من هذه النساء والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 9044 - اختصر الطبري رحمه الله ، أو شيخه سفيان بن وكيع - لفظ الحديث! فأوهم شيئًا آخر غير ما يدل عليه سياقه كاملا. وابن وكيع - شيخ الطبري - : هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف ، كما بينا فيما مضى : 142. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند ، كاملا : 15415 (ج3 ص405 - 406 حلبي) وشتان بين أحمد وابن وكيع. فرواه عن وكيع ، بهذا الإسناد ، وفيه : " قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : استمتعوا من هذه النساء. قال : والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج ، قال : فعرضنا ذلك على النساء ، فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا. قال : فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : افعلوا " - ثم ذكر القصة في تمتعه بامرأة لعشرة أيام ، وأنه بات عندها ليلة : " ثم أصبحت غاديًا إلى المسجد. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الباب والحجر ، يخطب الناس يقول : ألا أيها الناس ، قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ، ألا وإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " - إلى آخر الحديث.
ورواه البيهقي 7 : 203 ، بنحوه من طريق أبي نعيم ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، به.
وروى أحمد في المسند حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة ، مطولا ومختصرًا ، من أوجه كثيرة (3 : 404 - 405).
وكذلك رواه مسلم 1 : 395 - 396 ، مطولا ومختصرًا.
وقصة سبرة بن معبد هذه كانت في حجة الوداع ، أو في غزوة الفتح - على اختلاف الرواية عنه في ذلك. وقال الحافظ في الفتح 9 : 147 " والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر " . وعلى كل حال فالنهي فيها هو الناسخ الأخير ، وقد أفاض الحافظ في بيان النسخ مفصلا 9 : 143 - 151.
وانظر المحلى 9 : 519 - 520 ، والسنن الكبرى للبيهقي 7 : 200 - 207.

(8/178)


وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام ، في غير هذا الموضع من كتبنا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما ما روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) ، فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين. وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئًا لم يأت به الخبرُ القاطعُ العذرَ عمن لا يجوز خلافه.
* * *

(8/179)


القول في تأويل قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفرَيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك لا حرَج عليكم ، (1) أيها الأزواج ، إن أدركتكم عُسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورَهن فريضة ، فيما تراضيتم به من حطٍّ وبراءة ، بعد الفرض الذي سَلَف منكم لهن ما كنتم فرضتم.
*ذكر من قال ذلك :
9045 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرميٌّ : أن رجالا كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن تُدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم ، أيها الناس ، فيما تراضيتم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى ، إذا انقضى الأجل الذي أجَّلتموه بينكم وبينهن في الفراق ، أن يزدنكم في الأجل ، وتزيدوا من الأجر والفريضة ، (2) قبل أن يستبرئن أرحامهن.
*ذكر من قال ذلك :
9046 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " ، إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجرة التي أعطاها على تمتعه بها - قبل
__________
(1) انظر تفسير " الجناح " فيما سلف : 149 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة : " أن يزيدوكم في الأجل ، وتزيدون من الأجر " ، والذي في المطبوعة أجود الكلامين.

(8/180)


انقضاء الأجل بينهما ، فقال : " أتمتع منك أيضًا بكذا وكذا " ، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها ، ثم تنقضي المدة. وهو قوله : " فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " ،
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم ، أيها الناس ، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهن على استمتاعكم بهنّ من مُقام وفراق.
*ذكر من قال ذلك :
9047 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " ، والتراضي : أن يوفِّيها صداقها ثم يخيِّرها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك ولا جناح عليكم فيما وضَعتْ عنكم نساؤكم من صَدُقاتهن من بعد الفريضة.
*ذكر من قال ذلك :
9048 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " ، قال : إن وضعتْ لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قولُ من قال : معنى ذلك : ولا حرج عليكم ، أيها الناس ، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن ، من حطِّ ما وجب لهنَّ عليكم ، أو إبراء ، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) [سورة النساء : 4].
فأما الذي قاله السدي : فقولٌ لا معنى له ، لفساد القول بإحلال جماع

(8/181)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.
* * *
وأما قوله : " إن الله كان عليمًا حكيمًا " ، فإنه يعني : إن الله كان ذا علم بما يُصلحكم ، أيها الناس ، في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه ، " حكيما " فيما يدبر لكم ولهم من التدبير ، وفيما يأمركم وينهاكم ، لا يدخل حكمته خلل ولا زلل. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى : " الطول " الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية.
فقال بعضهم : هو الفضل والمال والسَّعة.
*ذكر من قال ذلك :
9049 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، قال : الغنى.
9050 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9051 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، يقول : من لم يكن له سَعَة.
9052 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، يقول : من لم يستطع منكم سعة.
9053 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ،
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " في فهارس اللغة فيما سلف.

(8/182)


حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، قال : الطول الغنى.
9054 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، قال : الطول السعة. (1)
9055 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، أما قوله : " طولا " ، فسعة من المال.
9056 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومن لم يستطع منكم طولا " ، الآية ، قال : " طولا " ، لا يجد ما ينكح به حرَّة.
* * *
وقال آخرون : معنى " الطول " ، في هذا الموضع : الهَوَى.
*ذكر من قال ذلك :
9057 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عبد الجبار بن عمر ، عن ربيعة : أنه قال في قوله الله : " ومن لم يستطع منكم طولا " قال : الطول الهوى. قال : ينكح الأمة إذا كان هواهُ فيها. (2)
9058 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان ربيعة يليِّن فيه بعض التليين ، كان يقول : إذا خشي على نفسه إذا أحبَّها - أي الأمة - وإن كان يقدر على نكاح غيرها ، فإني أرى أن ينكحها.
__________
(1) الأثر : 9054 - في المطبوعة : " حدثنا ابن المثنى " بزيادة " ابن " ، وليست في المخطوطة ، وهو الصواب ، وقد مضت رواية " المثنى " عن " حبان بن موسى " ، في مئات من المواضع مثل : 4498 ، 4528 ، 4548 ، وما سيأتي قريبًا رقم : 9059 ، 9061.
(2) الأثر : 9057 - " عبد الجبار بن عمر الأيلي " مضت ترجمته برقم : 4068. وكان في المطبوعة : " عبد الجبار بن عمرو " وهو خطأ.

(8/183)


9059 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أنه سئل عن الحرِّ يتزوج الأمة ، فقال : إن كان ذا طول فلا. قيل : إن وقع حبّ الأمة في نفسه ؟ قال : إن خشي العَنَت فليتزوجها.
9060 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبيدة ، عن الشعبي قال : لا يتزوج الحر الأمة ، إلا أن لا يجد وكان إبراهيم يقول : لا بأس به.
9061 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا ابن جريج قال : سمعت عطاء يقول : لا نكره أن ينكح ذُو اليسار اليوم الأمة ، إذا خشي أن يشقى بها. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : معنى " الطَّوْل " في هذا الموضع ، السعة والغنى من المال ، لإجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرِّم شيئًا من الأشياء سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرة فأحلَّ ما حرم من ذلك عند غلبة المحرَّم عليه له ، لقضاء لذة. (2) فإذْ كان ذلك إجماعًا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول ، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول : لا يُحَلُّ له من أجل غلبة هوًى عنده فيها ، (3) لأن ذلك مع وجوده
__________
(1) في المطبوعة : " أن يسعى بها " ، هكذا قرأ ما في المخطوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت. وعنى بذلك ما مضى في الآثار السالفة من قوله : " إن خشي العنت " .
(2) استشكل معنى هذه الجملة والتي بعدها على الناشر الأول. والمعنى ، أن الله تعالى لم يحرم شيئًا ، ثم أحله من أجل غلبة الهوى أو قضاء اللذة. بل أحل المحرم ، للضرورة التي يخاف معها المضطر هلاك نفسه. فإذ كان ذلك إجماعًا من الجميع في كل شيء حرمه ، فنكاح الإماء مثله ، لا يمكن إحلاله من أجل غلبة الهوى.
(3) في المطبوعة : " من أجل غلبة هوى سره فيها " ، وفي المخطوطة : " من أجل غلبة الهوى غيره فيها " ، وكأن صواب قراءتها ما أثبت. ولولا أن معنى " عنده " جائز صحيح ، لآثرت أن تكون " عليه " .

(8/184)


الطولَ إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة ، وليس بموضع ضرورة ترفع برخصة ، (1) كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه ، فيترخص في أكلها ليحيي بها نفسَه ، وما أشبه ذلك من المحرمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاكَ منه ، ما حرم عليهم منها في غيرها من الأحوال. (2) ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبدٍ في حرام لقضاء لذة. وفي إجماع الجميع على أن رجلا لو غلبَه هوى امرأة حرّة أو أمة ، أنها لا تحل له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به ، ما يوضّح فساد قول من قال : " معنى الطول ، في هذا الموضع : الهوى " ، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاحَ الإماء.
* * *
فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا : ومن لم يجد منكم سعة من مالٍ لنكاح الحرائر ، فلينكح مما ملكت أيمانكم.
* * *
وأصل " الطول " الإفضال : يقال منه : " طال عليه يطول طَوْلا " ، في الإفضال و " طال يطول طُولا " في الطَول الذي هو خلاف القِصَر.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : ومن لم يستطع منكم ، أيها الناس ، طولا يعني من الأحرار " أن ينكح المحصنات " ، وهن الحرائر (3) " المؤمنات " اللواتي قد
__________
(1) في المطبوعة : " وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه " ، وليس صوابًا في العبارة ، وفي المخطوطة : " ترفع برخصة " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) جملة قوله : " ما حرم عليهم منها " مفعول لقوله : " رخص الله لعباده " .
(3) انظر تفسير " المحصنات " فيما سلف قريبًا : 151 - 169.

(8/185)


صدَّقن بتوحيد الله وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق.
* * *
وبنحو ما قلنا في " المحصنات " قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9062 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن ينكح المحصنات " ، يقول : أن ينكح الحرائر ، فلينكح من إماء المؤمنين.
9063 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم " قال : " المحصنات " الحرائر ، فلينكح الأمة المؤمنة.
9064 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9065 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " فتياتكم " ، فإماؤكم.
9066 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : " أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ، قال : أما من لم يجد ما ينكح الحرة ، تزوج الأمة. (1)
9067 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ، قال : لا يجد ما ينكح به حرة ، (2) فينكح هذه الأمة ، فيتعفف بها ، ويكفيه أهلها
__________
(1) في المطبوعة : " فيتزوج الأمة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " من لم يجد ما ينكح... " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب محض.

(8/186)


مؤونتها. ولم يحلّ الله ذلك لأحد ، إلا أن لا يجد ما ينكح به حرة فينفق عليها ، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت. (1)
9068 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا سفيان ، عن هشام الدستوائي ، عن عامر الأحول ، عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة ، وتُنكح الحرة على الأمة ، ومن وجد طَوْلا لحرة فلا ينكحْ أمةً.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قرأة الكوفيين والمكيين : ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ) بكسر " الصاد " مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، سوى قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " [سورة النساء : 24] ، فإنهم فتحوا " الصاد " منها ، ووجهوا تأويله إلى أنهن محصنات بأزواجهن ، وأن أزواجهن هم أحصنوهنّ. وأما سائر ما في القرآن ، فإنهم تأوّلوا في كسرهم " الصاد " منه ، إلى أن النساء هنَّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة.
* * *
وقرأت عامة قرأة المدينة والعراق ذلك كلَّه بالفتح ، بمعنى أن بعضهن أحصنهن أزواجُهن ، وبعضهن أحصنهنّ حريتهن أو إسلامهن.
* * *
وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر ، بمعنى أنهن عففن وأحصنَّ أنفسهن. وذكرت هذه القراءة - أعني بكسر الجميع - عن علقمة ، على الاختلاف في الرواية عنه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ... إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرة ، وينفق عليها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو الصواب الجيد.
(2) لم يشر أبو جعفر في تفسير آية النساء : 24 فيما سلف ، إلى هذه القراءة ، ولم يذكر هذا الاختلاف في قراءة " المحصنات " ، وذلك من الأدلة على اختصاره التفسير ، كما أسلفت مرارًا.

(8/187)


قال أبو جعفر : والصواب عندنا من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، مع اتفاق ذلك في المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ ، إلا في الحرف الأول[من سورة النساء : 24] وهو قوله : " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ، فإني لا أستجيز الكسر في صاده ، لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها. (1) ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضَتها بفتحها ، كان صوابًا القراءةُ بها كذلك ، لما ذكرنا من تصرف " الإحصان " في المعاني التي بيّناها ، فيكون معنى ذلك لو كسر : والعفائف من النساء حرامٌ عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم ، بمعنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بالعفة. (2)
* * *
وأما " الفتيات " ، فإنهن جمع " فتاة " ، وهن الشوابّ من النساء. ثم يقال لكل مملوكة ذاتٍ سنّ أو شابة : " فتاة " ، والعبد : " فتى " .
* * *
ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات ، وهل عنى الله بقوله : " من فتياتكم المؤمنات " ، تحريم ما عدا المؤمنات منهن ، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين ؟
فقال بعضهم : ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين.
*ذكر من قال ذلك :
9069 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " من فتياتكم المؤمنات " ، قال : لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانيّةً.
9070 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " من فتياتكم المؤمنات " ، قال : لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.
__________
(1) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى ، وبيان معنى " الإحصان " قد سلف قريبًا : 165 ، 166.
(2) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى ، وبيان معنى " الإحصان " قد سلف قريبًا : 165 ، 166.

(8/188)


9071 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، سمعت أبا عمرو ، وسعيد بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس ، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، يقولون : لا يحل لحرّ مسلم ولا لعبد مسلم ، الأمةُ النصرانية ، لأن الله يقول : " من فتياتكم المؤمنات " ، يعني بالنكاح. (1)
* * *
وقال آخرون : ذلك من الله على الإرشاد والندب ، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق.
*ذكر من قال ذلك :
9072 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة قال ، قال أبو ميسرة : أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر.
* * *
ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ، (2) واعتلوا لقولهم بقول الله : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
__________
(1) الأثر : 9071 - " الوليد بن مسلم الدمشقي " ، سلفت ترجمته برقم : 2184 ، 6611 و " أبو عمرو " ، هو الأوزاعي ، وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو عمرو سعيد " كأنه واحد ، أو " أبو عمر " و " سعيد " ، والصواب ما أثبت.
و " سعيد بن عبد العزيز التنوخي " أبو محمد ، مضت ترجمته برقم : 8966.
وأما " أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني " ، كان من العباد المجتهدين ، وكان كثير الحديث ضعيفًا. قال أبو حاتم : " ضعيف الحديث ، طرقه لصوص فأخذوا متاعه ، فاختلط " ، مات سنة 156 ، وفي تهذيب التهذيب خطأ في سنة وفاته ، كتب : " سنة ست وخمسين ومئتين " ، والصواب ، ومئة. وقد ترجمه ابن سعد في طبقاته 7 / 2 / 170 في الطبعة الخامسة من أهل الشام ، التي منها " سعيد بن عبد العزيز التنوخي " .
هذا ، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة : " ومالك بن عبد الله بن أبي مريم " ، وليس في الرواة من يسمى بهذا الاسم ، وصوابه ما أثبت ، وأبو بكر بن أبي مريم ، قد روى عنه الوليد بن مسلم ، كما روى عن سائر من ذكر قبله.
(2) قوله : " ومنهم أبو حنيفة وأصحابه " معطوف على قوله قبل الأثر : " وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق... " .

(8/189)


قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) [سورة المائدة : 5]. قالوا : فقد أحل الله محصنات أهل الكتاب عامًّا ، فليس لأحد أن يخُص منهن أمة ولا حرة. قالوا : ومعنى قوله : " فتياتكم المؤمنات " ، غير المشركات من عبدة الأوثان.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب ، فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين. وذلك أن الله جل ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط ، فما لم تجتمع الشروط التي سماهن فيهن ، (1) فغير جائز لمسلم نكاحهن.
* * *
فإن قال قائل : فإنّ الآية التي في " المائدة " تدل على إباحتهن بالنكاح ؟
قيل : إن التي في " المائدة " ، قد أبان أن حكمها في خاص من محصناتهم ، وأنها معنيٌّ بها حرائرهم دون إمائهم ، قولُه : " من فتياتكم المؤمنات " . وليست إحدى الآيتين دافعًا حكمها حكمَ الأخرى ، (2) بل إحداهما مبينة حكم الأخرى ، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى ، لو لم يكن جائزًا اجتماع حكميهما على صحة. (3) فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى ، إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس. ولا خبر بذلك ولا قياس. والآية محتملة ما قلنا : والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " التي سماها فيهن " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب جيد.
(2) في المطبوعة : " دافعة حكمها... " والصواب ما أثبت في المخطوطة ، وإن كان كاتبها قد أساء الكتابة ، فقرأها الناشر على غير وجهها الصحيح.
(3) في المطبوعة والمخطوطة هنا : " حكمهما " على الإفراد ، والصواب ما أثبت ، على التثنية.

(8/190)


القول في تأويل قوله تعالى { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
وتأويل ذلك : " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ، فلينكح بعضكم من بعض بمعنى : فلينكح هذا فتاة هذا.
* * *
ف " البعض " مرفوع بتأويل الكلام ، ومعناه ، إذ كان قوله : " فمما ملكت أيمانكم " ، في تأويل : فلينكح مما ملكت أيمانكم ، ثم رد " بعضكم " على ذلك المعنى ، فرفع.
* * *
ثم قال جل ثناؤه : " والله أعلم بإيمانكم " ، (1) أي : والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله وما جاء به من عند الله ، فصدق بذلك كله منكم. (2)
* * *
يقول : فلينكح من لم يستطع منكم طولا لحرة من فتياتكم المؤمنات. لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولا لحرة ، من هذا الموسر ، فتاتَه المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته ، وكلوا سرائرهن إلى الله ، فإن علم ذلك إلى الله دونكم ، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن.
* * *
__________
(1) في المخطوطة أتم الآية هنا : " بعضكم من بعض " ، وقد أحسن الناشر الأول إذ حذف هذه الزيادة هنا ، لأن سياق التفسير على أن قوله : " والله أعلم بإيمانكم " من المقدم على قوله : " بعضكم من بعض " .
(2) السياق : " والله أعلم...منكم " .

(8/191)


القول في تأويل قوله : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فانكحوهن " ، فتزوجوهن (1) وبقوله : " بإذن أهلهن " ، بإذن أربابهن وأمرهم إيّاكم بنكاحهن ورضاهم (2) ويعني بقوله : " وآتوهن أجورهن " ، وأعطوهن مهورهن ، (3) كما : -
9073 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وآتوهن أجورهن " قال : الصداق.
* * *
ويعني بقوله : " بالمعروف " على ما تراضيتم به ، مما أحلَّ الله لكم ، وأباحه لكم أن تجعلوه مهورًا لهن. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النكاح " فيما سلف 7 : 574.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 2 : 449 ، 450 / 4 : 286 ، 371 / 5 : 352 ، 355 ، 395 / 7 : 288 ، 377.
(3) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف في فهارس اللغة ، وتفسير " الأجور " فيما سلف قريبًا : 175.
(4) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف : 121 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.

(8/192)


القول في تأويل قوله : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخَذِاتِ أَخْدَانٍ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " محصنات " ، (1) عفيفات " غير مسافحات " ، غير مزانيات (2) " ولا متخذات أخدان " ، يقول : ولا متخذات أصدقاء على السفاح.
* * *
وذكر أن ذلك قيل كذلك ، (3) لأن " الزواني " كنّ في الجاهلية ، في العرب : المعلنات بالزنا ، و " المتخذات الأخدان " : اللواتي قد حبسن أنفسَهن على الخليل والصديق ، للفجور بها سرًّا دون الإعلان بذلك.
*ذكر من قال ذلك :
9074 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " ، يعني : تنكحوهن عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية " ولا متخذات أخدان " ، يعني : أخلاء.
9075 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " غير مسافحات " ، المسافحات المعالنات بالزنا " ولا متخذات أخدان " ، ذات الخليل الواحد قال : كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما ظهر من الزنا ، ويستحلون ما خفي ، يقولون : " أما ما ظهر منه فهو لؤم ، وأما ما خفي فلا بأس بذلك " ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) [سورة الأنعام : 51].
__________
(1) انظر تفسير " محصنات " فيما سلف قريبًا : 151 ، 168 ، 185.
(2) انظر تفسير : " السفاح " فيما سلف قريبًا : 174.
(3) في المطبوعة : " وقد ذكر... " بزيادة " قد " ، وأثبت ما في المخطوطة.

(8/193)


9076 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر قال ، سمعت داود يحدّث ، عن عامر قال : الزنا زناءان : تزني بالخدن ولا تزني بغيره ، وتكون المرأة سَوْمًا ، (1) ثم قرأ : " محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " .
9077 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " المحصنات " فالعفائف ، فلتنكح الأمة بإذن أهلها محصنة و " المحصنات " العفائف غير مسافحة ، و " المسافحة " ، المعالنة بالزنا ولا متخذة صديقًا.
9078 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا متخذات أخدان " ، قال : الخليلة يتخذها الرجل ، والمرأة تتخذ الخليل.
9079 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9080 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " ، " المسافحة " : البغيّ التي تؤاجر نفسها من عَرَض لها. و " ذات الخدن " : ذات الخليل الواحد. فنهاهم الله عن نكاحهما جميعًا.
9081 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " محصنات
__________
(1) في المطبوعة : " وتكون المرأة شؤمًا " ، وهو كلام لا معنى له هنا ، وهي في المخطوطة : " سوما " غير منقوطة ، وهي الصواب. و " السوم " العرض ، يقال : " عرض علي سوم عالة " ، أي عرض ذلك علي عرضًا غير مبالغ فيه ، كما يعرض الماء على الإبل شربت مرة بعد مرة. ويضرب مثلا لمن يعرض عليك ما أنت عنه غني ، كالرجل يعلم أنك نزلت دار رجل ضيفًا ، فيعرض عليك القرى. ومنه " السوم " وهو عرض السلعة على البيع. وذلك بمعنى ما سيأتي في الأثر رقم : 9080 : " البغي التي تؤاجر نفسها من عرض لها " . هذا ، ولم يذكر هذا اللفظ مشروحًا في كتب اللغة ، فقيده هناك.

(8/194)


غير مسافحات ولا متخذات أخدان " ، أما " المحصنات " ، فهن الحرائر ، يقول : تزوج حرة. وأما " المسافحات " ، فهن المعالنات بغير مهر. (1) وأما " متخذات أخدان " ، فذات الخليل الواحد المستسرَّة به. (2) نهى الله عن ذلك.
9082 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي قال : الزنا وجهان قبيحان ، أحدهما أخبث من الآخر. فأما الذي هو أخبثهما : فالمسافحة ، التي تفجر بمن أتاها. وأما الآخر : فذات الخِدن.
9083 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " ، قال : " المسافح " الذي يَلقى المرأة فيفجر بها ثم يذهب وتذهب. و " المخادن " ، الذي يقيم معها على معصية الله وتقيم معه ، فذاك " الأخدان " .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) بفتح " الألف " ، بمعنى : إذا أسلمن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام.
* * *
وقرأه آخرون : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) بمعنى : فإذا تزوّجن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.
__________
(1) في المطبوعة : " فهن المعلنات " ، وفي المخطوطة : " فهي المعالنة " ، ورجحت أن يكون الصواب ما أثبت.
(2) المستسرة : المستخفية ، من " السر " .

(8/195)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ في قراءته الصوابَ.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أنّ ما قلنا في ذلك غيرُ جائز ، إذ كانتا مختلفتي المعنى ، وإنما تجوز القراءةُ بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل (1)
وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا ، فغير دافع أحدُهما صاحبه. لأن الله قد أوجب على الأمَة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، الحدَّ.
9084 - فقال صلى الله عليه وسلم : " إذا زَنت أمَةُ أحدكم فَليجلدها ، كتابَ الله ، ولا يُثَرِّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها ، كتابَ الله ، ولا يُثرّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها ، كتابَ الله ، ولا يُثرّب عليها. ثم إن زَنت الرابعة فليضربها ، كتابَ الله ، وليبعها ولو بحبل من شَعَرٍ " . (2)
__________
(1) قوله : " فقد أغفل " ، جواب الشرط في قوله : " فإن ظن ظان... " . وقوله : " أغفل " فعل لازم غير متعد ، أي : دخل في الغفلة ، وانظر تفسير مثله فيما سلف 1 : 151 ، تعليق : 1 / 5 : 52 ، تعليق : 4 ثم : 160 ، تعليق : 1.
(2) الأثر : 9084 - حديث صحيح ، رواه من غير إسناد ، وكأنه من مسند أبي هريرة ، رواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 4 : 350 / 12 : 143 - 147) ومسلم 12 : 211 / وأحمد في مسنده رقم : 7389 ، والبيهقي في السنن الكبرى 8 : 242 - 244 ، من طرق.
وقوله : " كتاب الله " على النصب ، وفي رواية للنسائي " بكتاب الله " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " ولا يثرب عليها " ، أي : لا يعيرها بالزنا ، ولا يبكتها بما أتت ، ولا يعنف عليها باللوم. وهذا أدب نبي الله صلى الله عليه وسلم لأمته : أن لا تعير مرتكبًا بما ارتكب ، وأن ترفق به ، وتعرض عن تذكيره بالفاحشة ، لئلا تمتلئ نفسه كمدًا وغيظًا وحقدًا على الناس. ولكنك ترى أهل زماننا ، يستطيلون على كل من أتى جرمًا ، فتمتلئ الصحافة بالسب والتعريض ، وقبيح الصفات لكل من أتى جرمًا ، كأن أحدهم قد أخذ عهدًا على أيامه البواقي أن لا يتورط في إثم أو جريمة. ومن يدري ، فلعل أطولهم لسانًا في ذلك ، أكثرهم استخفاء بما هو أشد من ذلك الجرم الذي ارتكبه المرتكب.

(8/196)


9085 - وقال صلى الله عليه وسلم : " أقيموا الحدودَ على ما ملكت أيمانكم " . (1)
* * *
فلم يخصص بذلك ذات زوج منهن ولا غير ذات زوج. فالحدود واجبةٌ على مَوالي الإماء إقامتها عليهن ، إذا فجرن ، بكتاب الله وأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما حدثكم به : -
9086 - ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة تَزني ولم تُحصَن. قال : اجلدها ، فإن زنت فاجلدها ، فإن زنت فاجلدها ، فإن زنت فقال في الثالثة أو الرابعة فبعْها ولو بضفير و " الضفيرُ " : الشَّعر.
9087 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل فذكر نحوه. (2)
فقد بينّ أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإماء ، هو ما كان قبل إحصانهن. فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب ، فبعدَ إحصانهن ؟
قيل له : قد بيَّنا أن أحد معاني " الإحصان " الإسلام ، وأن الآخر منه :
__________
(1) الأثر : 9085 - رواه أحمد في مسنده رقم : 736 ، 1137 ، 1142 ، 1230 / والسنن الكبرى للبيهقي 8 : 243. وانظر تخريجه في تفسير ابن كثير 2 : 406.
(2) الأثران : 9086 ، 9087 - الإسناد الأول ، رواه مالك في الموطأ ص : 826 ، 827 ، مع خلاف في اللفظ يسير ، وقال في آخره : " والضفير ، الحبل " ، وهما سواء في المعنى. وأخرجه البخاري (الفتح 4 : 350 / 12 : 143 - 145) ، ومسلم 12 : 212 ، 213 ، من طرق.

(8/197)


التزويج ، وأن " الإحصان " كلمة تشتمل على معان شتى. (1) وليس في رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل " عن الأمة تزني قبل أن تُحصن " ، بيانُ أن التي سئِل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزني قبل التزويج ، فيكون ذلك حجة لمحتج في أن " الإحصان " الذي سنّ صلى الله عليه وسلم حدَّ الإماء في الزنا ، هو الإسلام دون التزويج ، ولا أنه هو التزويجُ دون الإسلام.
وإذ كان لا بيان في ذلك ، فالصواب من القول : أنّ كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامةُ الحدّ عليها ، متزوجةً كانت أو غير متزوجة ، لظاهر كتاب الله ، والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا مَن أخرجه من وُجوب الحد عليه منهنّ بما يجب التسليم له.
وإذْ كان ذلك كذلك ، تبين به صحةُ ما اخترنا من القراءة في قوله : " فإذا أُحصِن " .
* * *
قال أبو جعفر : فإن ظن ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره : " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ، دلالةً على أن قوله : " فإذا أحصن " ، معناه : تزوّجن ، إذْ كان ذكر ذلك بعد وصفهن بالإيمان بقوله : " من فتياتكم المؤمنات " (2) وحسبَ أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج ، مع ما تقدم ذلك من وصفهن بالإيمان فقد ظنّ خطأ. (3)
وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك : " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ،
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا ص : 151 - 196.
(2) قوله : " وحسب " معطوف على قوله : " فإن ظن ظان " .
(3) قوله : " فقد ظن خطأ " جواب الشرط في قوله : " فإن ظن ظان " .

(8/198)


فإذا هنَّ آمنَّ " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب " ، فيكون الخبرُ مبتدأ عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهن ، (1) بعد البيان عما لا يجوز لناكحهن من المؤمنين من نكاحهن ، وعمن يجوز نكاحه له منهن.
فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام ، فغيرُ جائز لأحد صَرْف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام ، من أجل ما تقدّم من وصف الله إيَّاهن بالإيمان.
* * *
غير أن الذي نختار لمن قرأ : ( مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ) بفتح " الصاد " في هذا الموضع ، أن يُقرأ : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ) بضم " الألف " .
ولمن قرأ : " مُحْصِناتٍ " بكسر " الصاد " فيه ، أن يقرأ : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) بفتح " الألف " ، لتأتلف قراءة القارئ على معنًى واحد وسياق واحد ، لقرب قوله : " محصنات " من قوله : " فإذا أحصَن " . ولو خالف من ذلك ، لم يكن لحنًا ، غيرَ أنّ وجه القراءةِ ما وصفت.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نظيرَ اختلاف القرأة في قراءته. فقال بعضهم : معنى قوله : " فإذا أحصن " ، فإذا أسلمن.
*ذكر من قال ذلك :
9088 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم : أن ابن مسعود قال : إسلامها إحصانها. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " فيكون الخبر بيانًا عما يجب عليهن من الحد " ، غير ما في المخطوطة بسوء تصرف ، والصواب ما أثبته من المخطوطة. هذا ، ولم يرد بذكر " الخبر " و " مبتدأ " المعنى المصطلح عليه في النحو ، بل أراد إخبار الله تعالى ، وأنه ابتداء غير متصل بما قبله.
(2) الأثر : 9088 - " سعيد " هو : سعيد بن أبي عروبة و " أبو معشر " ، هو زياد بن كليب ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " سعيد بن أبي معشر " ، وهو خطأ محض.

(8/199)


9089 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني جرير بن حازم : أن سليمان بن مهران حدّثه ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن همام بن الحارث : أن النعمان بن عبد الله بن مقرّن ، سأل عبد الله بن مسعود فقال : أَمَتي زنت ؟ فقال : اجلدها خمسين جلدة. قال : إنها لم تُحصِن! فقال ابنُ مسعود : إحصانُها إسلامها.
9090 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن النعمان بن مقرّن سأل ابن مسعود عن أَمةٍ زنتْ وليس لها زوج ، فقال : إسلامها إحصانها. (1)
9091 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن النعمان قال : قلت لابن مسعود : أَمتي زنت ؟ قال : اجلدها. قلت : فإنها لم تُحصن! قال : إحصانها إسلامها.
9092 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال ، كان عبد الله يقول : إحصانها إسلامها.
9093 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية : " فإذا أحصن " قال ، يقول : إذا أسلمن.
9094 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن
__________
(1) الأثران 9089 - 9090 - في الإسناد الأول : " إبراهيم بن يزيد " هو : إبراهيم النخعي. و " همام بن الحارث النخعي " ، ثقة ، كان من العباد ، وكان لا ينام إلا قاعدًا. روى عن ابن مسعود.
وذكر في الإسناد الأول : " النعمان بن عبد الله بن مقرن " ، هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، ولم أجد لهذا الاسم ذكرًا في الكتب ، وسيأتي في الأثر الذي يليه : " النعمان بن مقرن " ، وقد اختلف في " النعمان بن مقرن " فقيل : " النعمان بن عمرو بن مقرن " ، وقيل هما رجلان ، وذلك مفصل في كتب الرجال ، ولم يذكر أحد منهم " النعمان بن عبد الله بن مقرن " .
هذا ، وقد روى هذا الأثر ، البيهقي في السنن الكبرى 8 : 243 ، وزاد الأمر إشكالا ، فرواه من حديث إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث ، عن عمرو بن شرحييل : أن معقل بن مقرن أتى عبد الله بن مسعود ولم أستطع أن أقطع بشيء في هذا الاضطراب.

(8/200)


أشعث ، عن الشعبي قال ، قال عبد الله : الأمة إحصانها إسلامها.
9095 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، مغيرة ، أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول : " فإذا أحصن " ، يقول : إذا أسلمن.
9096 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن الشعبي قال ، الإحصان الإسلام.
9097 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن برد بن سنان ، عن الزهري قال : جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارًا من ولائد الإمارة في الزنا. (1)
9098 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإذا أحصنّ " ، يقول : إذا أسلمن.
9099 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن سالم والقاسم قالا إحصانها إسلامها وعفافها في قوله : " فإذا أحصن " .
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " فإذا أحصن " ، فإذا تزوّجن.
*ذكر من قال ذلك :
9100 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فإذا أحصن " ، يعني : إذا تزوّجن حرًّا.
9101 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ،
__________
(1) الأثر : 9097 - " برد بن سنان الشامي ، مولى قريش " صاحب مكحول. روى عن عطاء بن أبي رباح ، والزهري ، ونافع مولى ابن عمر ، وغيرهم. كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب.
وقوله : " من ولائد الإمارة " ، في المخطوطة كتب " الإمارة " في الهامش ، وكان قد ضرب على الكلمة في صلب الكلام. ولعله يعني : ولائد من السبي.

(8/201)


أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) . يقول : إذا تزوجن.
9102 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة : أن ابن عباس كان يقرأ : " فإذا أحصن " ، يقول : تزوجن.
9103 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثا ، عن مجاهد قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة.
9104 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة : أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تُضرب الأمةُ إذا زنتْ ، ما لم تتزوّج.
9105 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : عن الحسن في قوله : " فإذا أحصن " . قال : أحصنتهن البُعُولة.
9106 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإذا أحصن " ، قال : أحصنتهن البعولة.
9107 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عياض بن عبد الله ، عن أبي الزناد : أن الشعبي أخبره ، أن ابن عباس أخبره : أنه أصاب جاريةً له قد كانت زَنتْ ، وقال : أحصنتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر وهذا التأويل على قراءة من قرأ : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) بضم " الألف " ، وعلى تأويل من قرأ : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) بفتحها. وقد بينا الصّواب من القول والقراءة في ذلك عندنا. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " قال : حصنتها " .
(2) انظر ما سلف : 195 ، 196 / ثم : 199.

(8/202)


القول في تأويل قوله : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإن أتين بفاحشة " ، فإن أتت فتياتكم - وهنّ إماؤكم - بعد ما أحصَنّ بإسلام ، أو أحْصِنّ بنكاح (1) " بفاحشة " ، وهي الزنا (2) " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " ، يقول : فعليهن نصف ما على الحرائر من الحدّ ، إذا هنّ زَنين قبل الإحصان بالأزواج.
* * *
و " العذاب " الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع ، هو الحدّ ، وذلك النصف الذي جعله الله عذابًا لمن أتى بالفاحشة من الإماء إذا هن أحصن : خمسون جلدة ، ونَفي ستة أشهر ، وذلك نصف عام. لأنّ الواجب على الحرة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج ، جلد مئة ونفي حَوْلٍ. فالنصف من ذلك خمسون جلدة ، ونفي نصف سنة. وذلك الذي جعله الله عذابًا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة ، كما : -
9108 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " ........... (3)
__________
(1) انظر تفسير " أتى بالفاحشة " فيما سلف : 73 ، 81.
(2) انظر تفسير " الفاحشة " فيما سلف : 3 : 303 / 5 : 571 / 7 : 218 / 8 : 73 ، 115 ، 116.
(3) الأثر : 9108 - هذا الأثر مبتور في المخطوطة والمطبوعة ، وإن كان قد ساقه كأنه غير مبتور ، فلذلك وضعت هذه النقط للدلالة على الخرم. ولم أجده في مكان آخر.

(8/203)


9109 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب " ، خمسون جلدةً ، ولا نَفي ولا رَجمَ.
* * *
فإن قال قائل : وكيف [قيل] (1) " فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب " ؟. وهل يكون الجلدُ على أحد ؟
قيل : إن معنى ذلك : فلازمُ أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يَلزم أبدان المحصنات ، كما يقال : " عليّ صلاةُ يوم " ، بمعنى : لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم (2) و " عليّ الحج والصيام " ، مثل ذلك. وكذلك : " عليه الحدّ " ، بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ذلك " ، هذا الذي أبَحْتُ أيها الناس ، (3) من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طَوْلا لنكاح المحصنات المؤمنات أبحته لمن خشي العنت منكم ، دون غيره ممن لا يخشى العنت.
* * *
واختلف أهل التأويل في هذا الموضع.
فقال بعضهم : هو الزنا.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
(2) في المخطوطة : " لازم إلى أن أصلي " ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر تفسير " ذلك " بمعنى " هذا " فيما سلف 1 : 225 - 227 / 3 : 335 / 6 : 466.

(8/204)


9110 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن مجاهد قوله : " لمن خشي العنت منكم " ، قال : الزنا.
9111 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن العوام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال : ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا. (1)
9112 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : العنتُ الزنا.
9113 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبيد بن يحيى قال ، حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : العنت الزنا.
9114 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير قال : ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا " ذلك لمن خشي العنتَ منكم " .
9115 - حدثنا أبو سلمة قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير نحوه. (2)
9116 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " ذلك لمن خشي العنت منكم " ، قال : الزنا.
9117 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي حماد قال ، حدثنا فضيل ، عن عطية العوفي مثله.
__________
(1) الأثر : 9111 - ذكر هذا الأثر صاحب اللسان في (زحلف) و (زلحف) ، وقال في : " ازحلف " إنه على القلب من " ازلحف " على وزن " اقشعر " وقراءتهما بسكون الزاي ، وفتح اللام والحاء ، والفاء المشددة. وقوله : " ازلحف " أي : تنحى وتباعد ، شيئًا قليلا. وتمام الأثر في اللسان : " لأن الله عز وجل يقول : وأن تصبروا خير لكم " . وانظر الأثر التالي رقم : 9114.
(2) الأثر : 9115 - " أبو سلمة " ، لم أعرف من يكون في شيوخ أبي جعفر.

(8/205)


9118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لمن خشي العنت منكم " ، قال : الزنا.
119 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبيدة ، عن الشعبي وجويبر ، عن الضحاك قالا العنت الزنا.
9120 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : " ذلك لمن خشي العنت منكم " ، قال : العنت الزنا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : العقوبة التي تُعْنِته ، وهي الحدّ.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " ذلك لمن خشي العنت منكم " ، ذلك لمن خاف منكم ضررًا في دينه وَبَدنِه.
* * *
قال أبو جعفر : وذلك أن " العنت " هو ما ضرّ الرجل. يقال منه : " قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتًا " ، إذا أتى ما يَضرّه في دين أو دنيا ، ومنه قول الله تبارك وتعالى : ( وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ) [سورة آل عمران : 118]. ويقال : " قد أعنتني فلان فهو يُعنِتني " ، إذا نالني بمضرة. وقد قيل : " العنت " ، الهلاك. (1)
* * *
فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا ، قالوا : الزنا ضَرَرٌ في الدين ، وهو من العنت.
والذين وجّهوه إلي الإثم ، قالوا : الآثام كلها ضرر في الدين ، وهي من العنت.
والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ ، فإنهم قالوا : الحد مضرة على بدن المحدود في دنياه ، وهو من العنت.
__________
(1) انظر تفسير العنت فيما سلف 4 : 360 / 7 : 140.

(8/206)


وقد عمّ الله بقوله : " لمن خشي العنت منكم " ، جميعَ معاني العنت. ويجمع جميعَ ذلك الزّنا ، لأنه يوجب العقوبةَ على صاحبه في الدنيا بما يُعنت بدنه ، ويكتسب به إثمًا ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهلُ التأويل الذي هم أهله ، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذةً وقضاءَ شهوة ، فإنه بأدائه إلى العنت ، منسوبٌ إليه موصوف به ، إن كان للعنت سببًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : " وأنْ تصبروا " ، أيها الناس ، عن نكاح الإماء " خير لكم " " والله غفور " لكم نكاحَ الإماء أنْ تنكحوهن على ما أحلّ لكم وأذن لكم به ، وما سلف منكم في ذلك ، إن أصلحتم أمورَ أنفسكم فيما بينكم وبين الله " رحيم " بكم ، إذ أذن لكم في نكاحهن عند الافتقار وعدم الطول للحرّة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9121 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : " وأن تصبروا خير لكم " ، قال : عن نكاح الأمة.
9122 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ،
__________
(1) في المطبوعة : " أن كان للعنت " ، وهو صواب ، ولكن أثبت ما في المخطوطة.

(8/207)


عن مجاهد : " وأن تصبروا خير لكم " ، قال : عن نكاح الإماء.
9123 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأن تصبروا خير لكم " ، يقول : وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين ، فهو خيرٌ لك.
9124 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأن تصبروا خير لكم " ، يقول : وأن تصبروا عن نكاح الإماء ، خيرٌ لكم ، وهو حلّ.
9125 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده : " وأن تصبروا خير لكم " ، يقول : وأن تصبروا عن نكاحهن يعني نكاح الإماء خير لكم.
9126 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " وأن تصبروا خير لكم " ، قال : أن تصبروا عن نكاح الإماء ، خير لكم.
9127 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه : " وأن تصبروا خير لكم " ، قال : أن تصبروا عن نكاح الأمة خيرٌ لكم.
9128 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وأن تصبروا خير لكم " ، قال : وأن تصبروا عن الأمة ، خير لكم.
* * *
و " أن " في قوله : " وأن تصبروا " في موضع رفع ب " خيرٌ " ، بمعنى : والصبرُ عن نكاح الإماء خيرٌ لكم.
* * *

(8/208)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

القول في تأويل قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يريد الله ليبين لكم " ، حلاله وحرامَه " وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم " ، يقول : وليسددكم (1) " سُنن الذين من قبلكم " ، يعني : سُبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه ، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (2) " ويتوب عليكم " ، يقول : يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك ، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام ، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك " عليكم " ، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم " والله عليم " ، يقول : والله ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم ، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم ، حافظ ذلك كله عليهم " حكيم " بتدبيره فيهم ، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله : " يريد الله ليبين لكم " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. وقال : ذلك كما قال : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) [سورة الشورى : 15] بكسر " اللام " ، لأن معناه : أمرت بهذا من أجل ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " السنة " فيما سلف 7 : 230 ، 231 ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 124.
(3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف ، في فهارس اللغة.

(8/209)


وقال آخرون : معنى ذلك : يريد الله أنْ يُبين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا : من شأن العرب التعقيبُ بين " كي " و " لام كي " و " أن " ، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع كلِّ واحدة من أختها معَ " أردت " و " أمرت " . فيقولون : " أمرتكَ أن تذهب ، ولتذهب " ، و " أردت أن تذهب ولتذهب " ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [سورة الأنعام : 71] ، وقال في موضع آخر : ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) [سورة الأنعام : 14] ، (1) وكما قال : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ ) [سورة الصف : 8] ، ثم قال في موضع آخر ، ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا ) [سورة التوبة : 32]. واعتلوا في توجيههم " أن " مع " أمرت " و " أردت " إلى معنى " كي " ، وتوجيه " كي " مع ذلك إلى معنى " أن " ، لطلب " أردت " و " أمرت " الاستقبال ، وأنها لا يصلح معها الماضي ، (2) لا يقال : " أمرتك أن قمت " ، ولا " أردت أن قمت " . قالوا : فلما كانت " أن " قد تكون مع الماضي في غير " أردت " و " أمرت " ، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال ، (3) من " كي " و " اللام " التي في معنى " كي " . قالوا : وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في الحرف الواحد ، فقال قائلهم في الجمع : (4)
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي... فَتَتْرُكَهَا شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلَقْعِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وأمرت أن أكون " ، وهو سهو من الناسخ ، وأثبت نص التلاوة.
(2) في المطبوعة : " وأيهما " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وكأنها خطأ مطبعي.
(3) في المطبوعة : " ذكروا لها معنى الاستقبال... " ، وهو كلام لا معنى له ، صوابه ما أثبته من المخطوطة ، والظاهر أن الناشر استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن : " استوثقوا لمعنى الاستقبال " .
(4) لا يعرف قائله.
(5) معاني القرآن للفراء 1 : 262 ، الإنصاف : 242 ، الخزانة 3 : 585 ، والعيني (هامش الخزانة) 4 : 405 ، وغيرها ، كما قال صاحب الخزانة : " وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي " .
" الشن " : الخلق البالي : و " البيداء " : المفازة المهلكة ، و " البلقع " : الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول : إنما أردت بذلك هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة.

(8/210)


فجمع بينهن ، لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن ، كما قال الآخر : (1)
قَدْ يَكْسِبُ المَالَ الهِدَانُ الجَافِي... بِغَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ (2)
فجمع بين " غير " و " لا " ، توكيدًا للنفي. قالوا : إنما يجوز أن يجعل " أن " مكان " كي " ، و " كي " مكان " أن " ، في الأماكن التي لا يَصْحب جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل ، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال : " طننت ليقوم " ، ولا " أظن ليقوم " ، بمعنى : أظن أن يقوم لأنّ [ " أنْ " ] ، (3) التي تدخل مع الظن
__________
(1) ينسب إلى العجاج ، وإلى رؤبة ، وليس في ديوانه ، وانظر التعليق التالي.
(2) ديوان العجاج : 40 ، 82 ، معاني القرآن للفراء 1 : 262 ، الإنصاف : 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي ، هو الوارد في شعر العجاج : قَالَ الَّذِي جَمَّعْتَ لِي صَوَافِي ... مِنْ غَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ
وهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة ، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة في ديوانه : 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر ، والصواب أنه للعجاج ، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش ، وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه ، وختم قصيدته بقوله : لَيْسَ كَذَاكُمْ وَلَدُ الأَشْرَافِ ... أَعْجَلَنِي المَوْتَ وَلَمْ يُكًافِ
سَوْفَ يُجَازيك مَلِيكٌ وَافِ ... بِالأَخْذِ إنْ جَازَاكَ ، أَوْ يُعافِي
و " الهدان " : الجبان ، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في حاجة. و " عصف يعصف " و " اعتصف " : طلب وكسب واحتال. و " العصف " : الكسب والاحتيال. و " صرفت الرجل في أمري ، فتصرف واصطرف " : أي احتال في طلب الكسب.
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من السياق ، ومن معاني القرآن للفراء.

(8/211)


تكون مع الماضي من الفعل ، يقال : " أظن أن قد قام زيد " ، ومع المستقبل ، ومع الأسماء. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ، قولُ من قال : إن " اللام " في قوله : " يريد الله ليبين لكم " ، بمعنى : يريد الله أنْ يبين لكم ، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك.
* * *
__________
(1) ومثالهما عند الفراء 1 : 263 ما نصه " ومع المستقبل ، فتقول : أظن أن سيقوم زيد ومع الأسماء فتقول : أظن أنك قائم "
وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 261 - 263.

(8/212)


وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

القول في تأويل قوله عز وجل : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : والله يريد أن يراجع بكم طاعته والإنابة إليه ، ليعفوَ لكم عما سلف من آثامكم ، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم ، من استحلالكم ما هو حرَامٌ عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم وغير ذلك مما كنتم تستحلونه وتأتونه ، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، يقول : ويريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها " أن تميلوا " عن أمر الله تبارك وتعالى ، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه " ميلا عظيمًا " ، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
* * *

(8/212)


واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنهم " يتبعون الشهوات " .
فقال بعضهم : هم الزناة.
*ذكر من قال ذلك :
9129 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، قال : الزّنا " أن تميلوا ميلا عظيمًا " ، قال : يريدون أن تزنوا.
9130 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا " ، أن تكونوا مثلهم ، تزنون كما يزنون.
9131 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، قال : الزنا " أن تميلوا ميلا عظيمًا " ، قال : يزني أهلُ الإسلام كما يزنون. قال : هي كهيئة : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) [سورة القلم : 9].
9132 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، قال : الزنا " أن تميلوا " ، قال : أن تزنوا.
* * *
وقال آخرون ، بل هم اليهودُ والنصارَى.
*ذكر من قال ذلك :
9133 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، قال : هم اليهود والنصارى " أن تميلوا ميلا عظيمًا " .
* * *

(8/213)


وقال آخرون : بل هم اليهودُ خاصة ، وكانت إرادتهم من المسلمين اتّباعَ شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب. وذلك أنهم يحلون نكاحَهنّ ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين : ويريدُ الذين يحلِّلون نكاح الأخوات من الأب ، أن تميلوا عن الحق فتستحلّوهن كما استحلوا.
* * *
وقال آخرون. معنى ذلك : كل متبع شهوةً في دينه لغير الذي أبيح له.
*ذكر من قال ذلك :
9134 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " الآية ، قال : يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم ، أن تميلوا في دينكم ميلا عظيمًا ، تتبعون أمرَ دينهم ، وتتركون أمرَ الله وأمرَ دينكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : معنى ذلك : ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء ، وغير ذلك مما حرمه الله " أن تميلوا " عن الحق ، (1) وعما أذن الله لكم فيه ، فتجورُوا عن طاعته إلى معصيته ، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله ، وترك طاعته " ميلا عظيمًا " .
وإنما قلنا ، ذلك أولى بالصواب ، لأن الله عز وجل عمّ بقوله : " ويريد الذين يتبعون الشهوات " ، فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة ، وعمهم بوصفهم بذلك ، من غير وصفهم باتّباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها ، دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة : " أن تميلوا ميلا عظيما عن الحق... " ، ولكني استظهرت من ذكره في آخر الفقرة : " ميلا عظيما " ، أن قوله هنا " ميلا عظيما " سبق قلم من الناسخ ، جرت تتمة الآية على لسانه فأثبتها ، ولو صح ذلك ، لكانت هذه الأخيرة في آخر الفقرة لا مكان لها.

(8/214)


يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلا في " الذين يتبعون الشهوات " اليهود ، والنصارى ، والزناة ، وكل متبع باطلا. لأن كل متَّبع ما نهاه الله عنه ، فمتبع شهوة نفسه. فإذ كان ذلك بتأويل الآية أولى ، وجبتُ صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يريد الله أن يخفف عنكم " ، يريد الله أن يُيسر عليكم ، (1) بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولا لحرة " وخلق الإنسان ضعيفًا " ، يقول : يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطوْل للحرائر ، لأنكم خُلِقتم ضعفاء عجزةً عن ترك جماع النساء ، قليلي الصبر عنه ، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على أنفسكم ، ولم تجدُوا طولا لحرة ، لئلا تزنوا ، لقلّة صبركم على ترك جماع النساء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9135 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يريد الله أن يخفف عنكم " في نكاح الأمة ، وفي كل شيء فيه يُسر.
9136 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " التخفيف " فيما سلف 6 : 577.

(8/215)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " وخلق الإنسان ضعيفًا " ، قال : في أمر الجماع.
9137 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " وخلق الإنسان ضعيفًا " ، قال : في أمر النساء.
9138 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " وخلق الإنسان ضعيفًا " ، قال : في أمور النساء. ليس يكون الإنسان في شيء أضعفَ منه في النساء.
9139 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يريد الله أن يخفف عنكم " ، قال : رخّص لكم في نكاح هؤلاء الإماء ، حين اضطُرّوا إليهن " وخلق الإنسان ضعيفًا " ، قال : لو لم يرخِّص له فيها ، لم يكن إلا الأمرُ الأول ، إذا لم يجد حرّة.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (1) " يا أيها الذين آمنوا " ، صدّقوا الله ورسوله " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " ، يقول : لا يأكل بعضكم أموالَ بعض بما حرّمَ عليه ، من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها (2) " إلا أن تكون تجارةً " . كما : -
9140 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير " أكل الأموال بالباطل " فيما سلف 3 : 548 ، 549 / 7 : 528 ، 578

(8/216)


أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " ، أما " أكلهم أموالهم بينهم بالباطل " ، فبالرّبا والقمار والبخس والظلم (1) " إلا أن تكون تجارة " ، ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع.
9141 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال ، حدثنا خالد الطحان ، قال ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " ، قال : الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها درهمًا. (2)
9142 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ فيقول : " إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهمًا " ، قال : هو الذي قال الله : " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " .
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعامَ بعض إلا بشراء. فأما قِرًى ، فإنه كان محظورًا بهذه الآية ، حتى نسخ ذلك بقوله في " سورة النور " : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) الآية [سورة النور : 61].
__________
(1) في المطبوعة : " نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا... " ، ولا أدري لم غير ما في المخطوطة!! وهو مطابق لما في الدر المنثور 2 : 143.
(2) الأثر : 9141 - " محمد بن الفضل أبو النعمان " ، هو " عارم " ، سلفت ترجمته برقم : 3387.
وكان في المخطوطة : " محمد بن المفضل " . وأما المطبوعة ، فقد أساء الناشر غاية الإساءة ، وخالف الأمانة ، فكتب " أحمد بن المفضل " ، وحذف " أبو النعمان " ، وهذا أسوأ ما يكون من ترك الأمانة. وأما " خالد الطحان " ، فهو : " خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي " سلفت ترجمته برقم : 4433 ، 5434.

(8/217)


*ذكر من قال ذلك :
9143 - حدثني محمد بن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله : " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم " الآية ، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك بالآية التي في " سورة النور " ، فقال : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ) إلى قوله : ( جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) (1) فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجلَ من أهله إلى الطعام ، فيقول : " إني لأتَجَنَّح " ! و " التجنح " التحرّج (2) ويقول : " المساكين أحق به مني " ! (3) فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحلّ طعامَ أهل الكتاب. (4)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك ، قولُ السدي. وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل ، ولا خلاف بين المسلمين أنّ أكل ذلك حرامٌ علينا ، فإنّ الله لم يحلَّ قط أكلَ الأموال بالباطل.
وإذْ كان ذلك كذلك ، فلا معنى لقول من قال : " كان ذلك نهيًا عن
__________
(1) من أعجب العجب ، أن تكون آية سورة النور قد ذكرت قبل أسطر على الصحة ، ثم تتفق المخطوطة والمطبوعة على أن تسوق الآية على الخطأ ، فيكتب : " ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم... " وهذا من السهو الشديد ، أعاذنا الله وإياك من مثله ، والله وحده المستعان.
(2) " التجنح " : التحرج ، هذا معنى جيد عريق في العربية ، لم تثبته كتب اللغة ، فأثبته هناك.
(3) في المطبوعة : " أحق مني به " ، على التأخير ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) كأن هذا الأثر فيه بعض النقص ، وقد اختصره السيوطي في الدر المنثور 2 : 143 ، 144 ، اختصارًا شديدًا.

(8/218)


أكل الرجل طعامَ أخيه قرًى [على وجه ما أذن له] ، ثم نُسخ ذلك ، (1) لنقل علماء الأمّة جميعًا وجُهًّالها : أن قرَى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام التي حَمِدَ الله أهلها عليها وَندبهم إليها ، وأن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور ، بل نَدَب الله عباده وحثهم عليه.
وإذ كان ذلك كذلك ، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج ، ومن أن يكون ناسخًا أو منسوخًا بمعزل. لأن النسخَ إنما يكون لمنسوخ ، ولم يثبت النهي عنه ، فيجوز أن يكون منسوخًا بالإباحة.
وإذ كان ذلك كذلك ، صحّ القول الذي قلناه : من أنّ الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به ، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله أوْ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - وشذّ ما خالفه. (2)
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " .
فقرأها بعضهم : ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ) رفعًا ، بمعنى : إلا أن توجد تجارة ، أو : تقع تجارة ، عن تراض منكم ، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه : " ألا أن تكون " تامةً ههنا ، (3) لا حاجة بها إلى خَبر ، على ما وصفت. وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة.
* * *
وقرأ ذلك آخرون ، وهم عامة قرأة الكوفيين : ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ) ، نصبًا ، بمعنى : إلا أن تكونَ الأموال التي تأكلونها بينكم ، تجارةً عن تراض
__________
(1) هذه العبارة التي بين القوسين ، محرفة لا شك في تحريفها ، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه ، فوضعتها بين القوسين ، ولو أسقطها مسقط من الكلام لاستقام على صحة.
(2) قوله : " وشذ ما خالفه " معطوف على قوله : " صح القول الذي قلناه " .
(3) في المطبوعة : " ... على هذا الوجه أن تكون تامة... " ، ورددتها إلى ما كان في المخطوطة ، فهي صحيحة في سياقه.

(8/219)


منكم ، فيحل لكم هنالك أكلها. فتكون " الأموال " مضمرة في قوله : " إلا أن تكون " ، و " التجارة " منصوبة على الخبر. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وكلتا القراءتين عندنا صوابٌ جائزةٌ القراءةُ بهما ، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار ، مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن قراءة ذلك بالنصب ، أعجبُ إليّ من قراءته بالرفع ، لقوة النصب من وجهين :
أحدهما : أن في " تكون " ذكر من الأموال. والآخر : أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ، ثم أفردت بـ " التجارة " ، وهي نكرة ، كان فصيحًا في كلام العرب النصبُ ، إذ كانت مبنيةً على اسم وخبر. فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة ، نصبوا ورفعوا ، كما قال الشاعر :
إِذَا كَانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا (2)
قال أبو جعفر : ففي هذه الآية إبانةٌ من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوِّفة المنكرين طلبَ الأقوات بالتجارات والصناعات ، والله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " ، اكتسابًا منا ذلك بها ، (3) كما : -
9144 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن
__________
(1) انظر تفصيل القول في هاتين القراءتين ، في نظيرة هذه الآية من سورة البقرة : 282 في 6 : 80 - 82 ، وإن اختلف وجه التأويل في الآيتين ، كما يظهر من مراجعة ذلك في آية سورة البقرة.
(2) سلف البيت بتمامه في 6 : 80 ، ولم أشر إلى مكانه هنا في الموضع السالف ، لأني لم أقف عليه أثناء تخريج شعر التفسير ، لإدماجه في صلب الكلام.
(3) في المطبوعة : " اكتسابًا أحل ذلك لها " ، غير ما في المخطوطة ، إذ لم يحسن قراءته. وهو كما أثبته ، إلا أن الناسخ أخطأ فكتب " لها " ، والصواب : " بها " ، أي : بالتجارات والصناعات.

(8/220)


قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " ، قال : التجارةُ رزقٌ من رزق الله ، وحلالٌ من حلال الله ، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث : أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة. (1) .
* * *
وأما قوله : " عن تراض " ، فإنّ معناه كما : -
9145 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : " عن تراض منكم " ، في تجارة أو بيع ، أو عطاءٍ يعطيه أحدٌ أحدًا.
9146 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " عن تراض منكم " في تجارة ، أو بيع ، أو عطاء يعطيه أحدٌ أحدًا.
9147 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعُ عن تراضٍ ، والخيارُ بعد الصفقة ، ولا يحلّ لمسلم أن يغشّ مسلمًا. (2)
__________
(1) يعني الحديث الصحيح : " سَبْعَةٌ يِظلُّهُم الله في ظِلّه يومَ لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ : إمَام عادلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عبادة الله ، ورجُلٌ قلبه مُعَلَّقٌ بالمسجِد إذَا خَرَجَ مِنْه حَتَّى يَعُودَ إليه ، ورجلان تَحابَّا في الله فاجتمعَا على ذلك وافترقَا ، ورجُلٌ ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناهُ ، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذات مَنْصِبٍ وجَمالٍ فقال : إنّي أخاف الله رَبَّ العالَمين ، ورجُلٌ تصدَّق بصدقةٍ ، فأخفَاها حتى لا تَعْلَم شِماله ما تنفِقُ يمينُه " . رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه : 345.
(2) الأثر : 9147 - هذا حديث مرسل ، خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 413 والسيوطي في الدر المنثور 2 : 144 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(8/221)


9148 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج. قال : قلت لعطاء : المماسحة ، بيعٌ هي ؟ (1) قال : لا حتى يخيِّره ، التخييرُ بعد ما يجبُ البيعُ ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى " التراضي " في التجارة. فقال بعضهم : هو أن يُخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيعَ بينهما فيما تبايعا فيه ، من إمضاء البيع أو نقضه ، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيعَ بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ.
*ذكر من قال ذلك :
9149 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح قال : اختصم رجلان باع أحدهما من الآخر بُرْنُسًا ، فقال : إني بعتُ من هذا برنسًا ، فاسترضيته فلم يُرضني!! فقال : أرضه كما أرضاك. قال : إني قد أعطيته دراهم ولم يرضَ! قال : أرضه كما أرضاك. قال : قد أرضيته فلم يرض! فقال : البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. (2)
9150 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن شريح قال : البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا. (3)
9151 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن شريح مثله.
__________
(1) " تماسح الرجلان " : إذا تبايعا فتصافقا ، ومسح أحدهما على يد صاحبه ، وذلك من صور بيعهم في الجاهلية.
(2) " البيع " (بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة) ، البائع أو المشتري ، والبيعان : المتبايعان.
(3) الأثر : 9150 - " عبد الله بن أبي السفر الهمداني الثوري " ، واسم " أبي السفر " : سعيد بن يحمد. وروى عبد الله عن أبيه ، وعن الشعبي وغيرهما. ثقة ، ليس بكثير الحديث. مترجم في التهذيب.

(8/222)


9152 - حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد قال ، حدثنا شعبة ، عن جابر قال ، حدثني أبو الضحى ، عن شريح أنه قال : البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا قال قال أبو الضحى : كان شريح يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
9153 - وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام ، عن رجل ، عن أبي حوشب ، عن ميمون قال : اشتريت من ابن سيرين سابريًّا ، فسَام عليَّ سَوْمَه ، فقلت : أحسن! فقال : إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه ، فلما وزنتُ الثمن وَضَع الدراهم فقال : اختر ، إما الدراهم ، وإما المتاع. فاخترت المتاع فأخذته. (2)
9154 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يقولُ في البيعين : إنهما بالخيار ما لم يتفرقا ، فإذا تصادرًا فقد وجب البيع. (3)
9155 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، حدثنا محمد بن عبيد قال ، حدثنا سفيان بن دينار ، عن ظبية قال : كنت في السوق وعلي رضي الله عنه في السوق ، فجاءت جارية إلى بَيِّع فاكهة بدرهم ، فقالت : أعطني هذا. فأعطاها إياه ، فقالت : لا أريده ، أعطني درهمي! فأبى ، فأخذه منه علي فأعطاها إياه. (4)
__________
(1) حديث : " البيعان بالخيار... " ، حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5 : 268 - 272.
(2) الأثر : 9153 - " الحسين بن يزيد الطحان " ، وقد مضى قبل بنسبته " السبيعي " ، انظر ما سلف رقم : 2892 ، 7863. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " الحسن بن يزيد " وهو خطأ.
وأما " أبو حوشب " ، فلم أجد من الرواة من هذا كنيته ، وفي الإسناد تصحيف لا شك فيه.
(3) " تصادرا " انصرف هذا ، وانصرف الآخر ، يقال : " صدر الرجل فهو صادر " ، رجع أو انصرف.
(4) الأثر : 9155 - " محمد بن إسماعيل الأحمسي " مضت ترجمته برقم : 405 ، 718. " محمد بن عبيد الطنافسي " مضت ترجمته برقم : 405.
و " ظبية " ، هكذا اجتهدت قراءتها من المخطوطة ، ولم أعرف من تكون ؟ وكان في المطبوعة : " طيسلة " أخطأ قراءة المخطوطة خطأ عظيما. ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر.

(8/223)


9156 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : أنه أُتِىَ في رجل اشترى من رجل برذَوْنًا ووَجبَ له ، ثم إنّ المبتاع رَدّه قبل أن يتفرّقا ، فقضى أنه قد وَجبَ عليه ، فشهدَ عنده أبو الضحى : أنّ شريحًا قضى في مثله أن يردَّه على صاحبه. فرجع الشعبي إلى قضاء شُريح.
9157 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أنه كان يقول في البيعين : إذا ادّعى المشتري ، أنه قد أوجبَ له البيعَ ، وقال البائع : لم أُوجب له قال : شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير ، وإلا فيمين البائع : أنكما [ما] افترقتما عن بيع ولا تخاير. (1)
9158 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد. قال : كان شريح يقول : شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير ، وإلا فيمينه بالله : ما تفرَّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.
9159 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح أنه كان يقول : شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ، ما : -
9160 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل بَيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرّقا ، إلا أن يكونَ خيارًا. (2)
__________
(1) الزيادة ما بين القوسين لا بد منهما للسياق ، وانظر الأثر الذي يليه.
(2) الحديث : 9160 - يحيى بن سعيد : هو القطان. عبيد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم العمري. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) " عبد الله " بالتكبير. وهو أخو " عبيد الله " . وهو محتمل أن يكون كذلك. ولكني أرى الصواب " عبيد الله " بالتصغير ، أولا : لأن الحديث معروف من روايته. وثانيًا : لأن الحافظ المزي لم يذكر في تهذيب الكمال رواية ليحيى القطان عن " عبد الله " ، لا في ترجمة يحيى ، ولا في ترجمة " عبد الله " . وهو من عادته أن يتتبع ذلك ويستقصيه استقصاء تامًا.
والحديث رواه أحمد في المسند : 5158 ، عن يحيى - وهو القطان ، عن عبيد الله ، به ، نحوه.
ورواه أحمد أيضًا : 6193 ، عن الفضل بن دكين ، عن الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر. ورواه البخاري 4 : 280 (فتح) ، من رواية عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر. وكذلك رواه مسلم 1 : 447 ، من هذا الوجه.
ورواه أحمد أيضًا : 4566 ، بنحوه ، عن ابن عيينة ، عن عبد الله بن دينار.
وسيأتي أيضًا : 9164 ، من رواية أيوب ، عن نافع ، بمعناه.
وقد خرجناه في مواضع كثيرة في المسند. وهو حديث معروف مشهور.

(8/224)


9161 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مروان بن معاوية قال ، حدثني يحيى بن أيوب قال ، كان أبو زرعة إذا بايع رجلا يقول له : خيِّرني! ثم يقول : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفترق إلا عن رضى " . (1)
9162 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل البقيع! فسمعوا صوتَه ، ثم قال : يا أهل البقيع! فاشْرأبًّوا ينظرون ، حتى عرفوا أنه صوته ، ثم قال : يا أهل البقيع! لا يتفرقنّ بيِّعان إلا عن رضى. (2)
__________
(1) الحديث : 9161 - يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي : ثقة. قال ابن معين : " ليس به بأس " . ونقل بعضهم عن ابن معين تضعيفه ، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 260 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 137.
وهو يروي هنا عن جده " أبي زرعة بن عمرو بن جرير " - وهو تابعي ثقة.
والحديث رواه أبو داود : 3485 ، عن محمد بن حاتم الجرجرائي ، عن مروان ، وهو ابن معاوية الفزاري - بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 271 ، من طريق أبي داود. وذكره السيوطي 1 : 144 ولم ينسبه لغير الطبري.
(2) الحديث : 9162 - هذا إسناد مرسل ، لأن أبا قلابة تابعي. فلا أدري أهو هكذا في الطبري ، أم كان موصولا فسقط اسم الصحابي من الناسخين ؟
فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 271 ، من طريق الحسن بن مكرم ، عن علي بن عاصم ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، بنحوه. وهذا إسناد جيد.
ولكن السيوطي ذكر رواية الطبري هذه 1 : 144 ، عن أبي قلابة ، مرسلا.

(8/225)


9163 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا أبو داود الطيالسي قال ، حدثنا سليمان بن معاذ قال ، حدثنا سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له : اختر. فقال : قد اخترت. فقال : هكذا البيع. (1)
* * *
قالوا : فالتجارة عن تراض ، هو ما كان على ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد مُواجبة البيع فيه عن مجلسهما. فما كان بخلاف ذلك ، فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.
* * *
وقال آخرون : بل التراضي في التجارة ، تُواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما : ما مُلِّك عليه صاحبه وَملِّك صاحبه عليه ، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا ، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة : أنّ البيع إنما هو بالقول ، كما أن النكاح بالقول ، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه ، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه. قالوا : فكذلك حكم البيع. وتأولوا قولّ النبي صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا " ، على أنه ما لم
__________
(1) الحديث : 9163 - سليمان بن معاذ : هو سليمان بن قرم - بفتح القاف وسكون الراء - بن معاذ ، وهو ثقة ، فيما رجحنا في شرح المسند : 5753.
والحديث هو من رواية الطيالسي. وهو في مسنده : 2675.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 270 ، من طريق الطيالسي.
وفي المستدرك للحاكم 2 : 14 ، حديث لابن عمر وابن عباس - معًا - مرفوعًا ، في معنى الخيار بين البيعين. وهو شاهد قوي لمعنى هذا الحديث.

(8/226)


يتفرّقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا ، قولُ من قال : إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين ، ما تفرّق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبَا فيه بينهما عُقدة البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما ، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما : -
9164 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعَ خيار " وربما قال : " أو يقول أحدهما للآخر اختر " . (1)
* * *
فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا ، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه : " اختر " ، من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده.
__________
(1) الحديث : 9164 - هذا إسناد من أصح الأسانيد : " أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر " .
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين إلى أيوب : من طريق ابن علية ، ومن طريق عبد الوهاب ، وهو ابن عبد المجيد الثقفي.
وقد رواه مالك في الموطأ ، ص : 671 ، بنحوه - عن نافع عن ابن عمر : سلسلة الذهب.
ورواه أحمد في المسند : 4484 ، عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب ، به.
ورواه البخاري 4 : 274 (فتح) ، من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب.
ورواه مسلم 1 : 447 ، من رواية مالك ، ومن رواية عبيد الله ، ومن رواية أيوب - وغيرهم - عن نافع. ورواه البيهقي 5 : 268 - 269 ، بأسانيد فيها كثيرة.

(8/227)


فإن يكن قبله ، فذلك الخَلْف من الكلام الذي لا معنى له ، (1) لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحدُ المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكًا ، فيكون لتخييره صاحبه فيما مَلك عليه وجه مفهوم (2) ولا فيهما من يجهلُ أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو لهُ غير مالك بعوَض يعتاضُه منه ، فيقال له : " أنت بالخيار فيما تريدُ أن تحدثه من بيع أو شراء " .
أو يكون - إذْ بطل هذا المعنى (3) - تخيير كلّ واحد منهما صاحبه مع عقد البيع. ومعنى التخيير في تلك الحال ، نظيرُ معنى التخيير قبلها. لأنها حالة لم يَزُل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه ، فيكون للتخيير وجه مفهوم.
أو يكون ذلك بعد عقد البيع ، إذْ فَسد هذان المعنيان. (4)
وإذْ كان ذلك كذلك ، صحّ أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعني قوله : " ما لم يتفرقا " - إنما هو التفرّق بعد عقد البيع ، كما كان التخيير بعده. وإذْ صحّ ذلك ، فسد قولُ من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع. وإذ فسد ذلك ، صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده ، وصحّ تأويل من قال : معنى قوله : " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " : إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض ، عن مِلْك منكم عمن مَلكتموها عليه ، بتجارة تبايعتموها بينكم ، وافترقتم عنها عن تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم ، أو تخيير بعضكم بعضًا. (5)
* * *
__________
(1) " الخلف " (بفتح الخاء وسكون اللام) : هو الكلام الرديء الخطأ ، يقال : " هذا خلف من القول " ، وفي المثل : " سكت ألفًا ، ونطق خلفًا " ، للذي يطيل الصمت ، فإذا تكلم تكلم بالخطأ.
(2) في المطبوعة : " فيما يملك عليه " ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " إن بطل... " والأجود ما أثبت.
(4) في المطبوعة : " إذا فسد... " ، والصواب " إذ " كما في المخطوطة.
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " أو يخير بعضكم... " ، ورجحت ما أثبت.

(8/228)


القول في تأويل قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولا تقتلوا أنفسكم " ، ولا يقتل بعضكم بعضًا ، وأنتم أهل ملة واحدة ، ودعوة واحدة ، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلا في قتله إياه منهم بمنزلة قَتله نفسه ، إذ كان القاتلُ والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف مِلَّتَهُما. (1)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9165 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تقتلوا أنفسكم " ، يقول : أهل ملتكم.
9166 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : " ولا تقتلوا أنفسكم " ، قال : قتل بعضكم بعضًا.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه : " إن الله كان بكم رحيمًا " ، فإنه يعني : إن الله تبارك وتعالى لم يزل " رحيمًا " بخلقه ، (2) ومن رحمته بكم كفُّ بعضكم عن قتل بعض ، أيها المؤمنون ، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها ، وحظْرِ أكل مال بعضكم على بعض بالباطل ، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه ، لولا ذلك هلكتمْ وأهلك بعضكم بعضًا قتلا وسلبًا وغصبًا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أنفسكم " في مثل هذا المعنى 2 : 301 / 6 : 501 / 7 : 454 ، 455.
(2) انظر تفسير : " كان " في مثل هذا فيما سلف 7 : 523 / 8 : 51 ، 88 ، 98

(8/229)


وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ومن يفعل ذلك عدوانًا " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن يقتل نفسه ، بمعنى : ومن يقتل أخاه المؤمن " عدوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا " .
*ذكر من قال ذلك :
9167 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أرأيتَ قوله : " ومن يفعل ذلكُ عدْوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا " ، في كل ذلك ، أو في قوله : " ولا تقتلوا أنفسكم " ؟ قال : بل في قوله : " ولا تقتلوا أنفسكم " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن يفعل ما حرَّمته عليه من أول هذه السورة إلى قوله : " ومن يفعل ذلك " من نكاح من حَرّمت نكاحه ، وتعدِّي حدوده ، وأكل أموال الأيتام ظلمًا ، وقتل النفس المحرّم قتلها ظلمًا بغير حق.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن يأكل مالَ أخيه المسلم ظلمًا بغير طيب نفس منه ، وَقَتل أخاه المؤمن ظلمًا ، فسوف نصليه نارًا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : ومن يفعل ما حرّم الله عليه ، من قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) إلى قوله : " ومن يفعل ذلك " ، من نكاح المحرمات ، وعضل المحرَّم

(8/230)


عضلُها من النساء ، وأكل المال بالباطل ، وقتل المحرّم قتله من المؤمنين لأنّ كلّ ذلك مما وعد الله عليه أهلَه العقوبة.
* * *
فإن قال قائل : فما منعك أن تجعل قوله : " ذلك " ، معنيّا به جميع ما أوعدَ الله عليه العقوبة من أول السورة ؟
قيل : منعني ذلك (1) أن كلّ فصْل من ذلك قد قُرِن بالوعيد ، إلى قوله : ( أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ، (2) ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم الله في الآي التي بعده إلى قوله : " فسوف نصليه نارًا " . فكان قوله : " ومن يفعل ذلك " ، معنيًّا به ما قلنا ، مما لم يُقرَن بالوعيد ، مع إجماع الجميع على أنّ الله تعالى قد توعد على كل ذلك (3) أولى من أن يكون معنيًّا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونًا قبل ذلك. (4)
* * *
وأما قوله : " عدْوانًا " ، فإنه يعني به تجاوزًا لما أباح الله له ، إلى ما حرمه عليه " وُظلمًا " ، يعني : فعلا منه ذلك بغير ما أذن الله به ، وركوبًا منه ما قد نهاه الله عنه (5) . وقوله : " فسوف نُصليه نارًا " ، يقول : فسوف نُورده نارًا يصلَى بها فيحترق فيها (6) " وكان ذلك على الله يسيرًا " ، يعني : وكان إصلاءُ فاعل ذلك النارَ وإحراقه بها ، على الله سَهْلا يسيرًا ، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاءُ بالوعيد لمن توعده ، على من كان
__________
(1) في المطبوعة : " منع ذلك " ، والصواب من المخطوطة.
(2) آخر الآية الثامنة عشرة من سورة النساء.
(3) قوله : " أولى " خبر " كان " في قوله : " فكان قوله... "
(4) هذه حجة واضحة ، وبرهان على حسن فهم أبي جعفر لمعاني القرآن ومقاصده. ونهج صحيح في ربط آيات الكتاب المبين ، قل أن تظفر بمثله في غير هذا التفسير.
(5) انظر تفسير " العدوان " و " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة " عدا " و " ظلم " .
(6) انظر تفسير " الإصلاء " فيما سلف : 27 - 29.

(8/231)


إذا حاول الوفاءَ به قَدَر المتوعَّد من الامتناع منه. فأما من كان في قبضة مُوعِده ، فيسيرٌ عليه إمضاءُ حكمه فيه ، والوفاءُ له بوعيده ، غيرُ عسير عليه أمرٌ أراده به. (1)
* * *
__________
(1) عند هذا الموضع ، انتهى الجزء السادس من مخطوطتنا ، وفي آخرها ما نصه : " نجز الجزء السادسُ من الكتاب ، بحمد الله تعالى وعونِه وحُسْنِ توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يتلوه في الجزء السابع إن شاء الله تعالى :
القول في تأويل قوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا }
" وكان الفراغُ منه في بعض شهور سنة خمس عشرة وسبعمئة ، أحسَنَ اللهُ تَقَضِّيها وخاتمتها ، في خير وعافية بمنّه وكرمِهِ. غفر الله لِصاحبه ولكاتبه ولمؤلّفه ولجميع المسلمين. الحمد لله ربّ العالمين " . ثم كتب كاتب تحته بخط مغربي ، ما نصه :
" طالعه الفقير إليه سبحانه ، محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي ، عفى عنهم بمنّه ، وأتمه بتاريخ ثاني شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين واثني عشر مئة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله " وهذا الشيخ الجزائري الذي كتب هذه الخاتمة ، هو الذي مضت له تعليقة على مكان من التفسير ، أثبتها في مكانها في الجزء الخامس : 514 ، تعليق : 2.
ثم بدأ الجزء السابع من مخطوطتنا ، وأوله : بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن

(8/232)


إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

القول في تأويل قوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا (31) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الكبائر " التي وعد الله جل ثناؤه عبادَه باجتنابها تكفيرَ سائر سيئاتهم عنهم.
فقال بعضهم : الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " ، هي ما تقدَّم الله إلى عباده بالنهي عنه من أول " سورة النساء " إلى رأس الثلاثين منها.
*ذكر من قال ذلك :
9168 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : الكبائر ، من أول " سورة النساء " إلى ثلاثين منها.
9169 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بمثله.
9170 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج ، قال ، حدثنا حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود مثله.
9171 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال ، حدثني علقمة ، عن عبد الله قال : الكبائر ، من أول " سورة النساء "

(8/233)


إلى قوله : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " .
9172 - حدثنا الرفاعي قال ، حدثنا أبو معاوية وأبو خالد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : الكبائر ، من أول " سورة النساء " إلى قوله : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " .
9173 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : سئل عبد الله عن الكبائر ، قال : ما بين فاتحة " سورة النساء " إلى رأس الثلاثين.
9174 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : الكبائر ، ما بين فاتحة " سورة النساء " إلى ثلاثين آية منها : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " .
9175 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله أنه قال : الكبائر ، من أول " سورة النساء " إلى الثلاثين منها : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " .
9176 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة " سورة النساء " ، إلى هذا الموضع : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " .
9177 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، عن ابن مسعود قال : الكبائر ، من أول " سورة النساء " إلى ثلاثين آية منها. ثم تلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدْخلا كريمًا " .
9178 - حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مسعر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش قال ، قال عبد الله : الكبائر ما بين أول " سورة النساء " إلى رأس الثلاثين. (1)
* * *
__________
(1) الآثار : 9168 - 9178 - هذه الآثار أثر واحد بأسانيد كثيرة ، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 4 ، وقال : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح " .

(8/234)


وقال آخرون : " الكبائر سبع " .
*ذكر من قال ذلك :
9179 - حدثني تميم بن المنتصر قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد ، مسجد الكوفة ، وعليٌّ يخطب الناسَ على المنبر ، (1) فقال : " يا أيها الناس ، إن الكبائر سبعٌ " ، فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرّات ثم قال : ألا تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما هي ؟ قال : " الإشراك بالله ، وقتلُ النفس التي حرّم الله ، وقذفُ المحصَنة ، وأكلُ مال اليتيم ، وأكلُ الرّبا ، والفرارُ يوم الزحف ، والتعرُّب بعد الهجرة " . فقلت لأبي : يا أبهْ ، ما التعرّب بعد الهجرة ؟ (2) كيف لحق ههنا ؟ (3) فقال : يا بنيّ ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سَهمه في الفيء ووَجب عليه الجهاد ، خلع ذلك من عنقه ، فرجع أعرابيًّا كما كان!!. (4)
9180 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير قال : الكبائر سبع ، ليس منهن
__________
(1) في المطبوعة وابن كثير : " علي رضي الله عنه " وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة وابن كثير : " يا أبت " ، وهما سواء. و " التعرب " : الرجوع إلى سكنى البادية كالأعراب ، يقال : " تعرب بعد هجرته " ، أي : صار أعرابيًا.
(3) في المخطوطة : " كيف نحن ههنا " ، وهي مضطربة الكتابة ، فتركت ما في المطبوعة على حاله لموافقته ما في تفسير ابن كثير.
(4) الأثر : 9179 - " محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري " ، روى عن أبيه وعمه. مترجم في الكبير 1 / 1 / 107 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 277 ، وتعجيل المنفعة : 365. لم يذكر فيه البخاري جرحًا ، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الأثر أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمته ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 422 ، فذكر ما رواه ابن مردويه من رواية ابن لهيعة ، عن زياد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ، وساق الخبر مرفوعًا. ثم قال : " وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش ، والصواب ما رواه ابن جرير " ، وساق الخبر.

(8/235)


كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله : الإشراك بالله منهن : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ) [سورة الحج : 31] و( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) [سورة النساء : 10] ، و( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) [سورة البقرة : 275] ، و( الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) [ سورة النور : 23] ، والفرار من الزحف : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ) [سورة الأنفال : 15] ، والتعرب بعد الهجرة : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) [سورة محمد : 25] ، وقتل النفس.
9181 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير الليثي قال : الكبائر سبع : الإشراك بالله : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ، وقتل النفس : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) الآية ، [سورة النساء : 93] ، وأكل الربا : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) الآية ، وأكل أموال اليتامى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ) الآية ، وقذف المحصنة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) الآية ، والفرار من الزحف : ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ) الآية ، [سورة الأنفال : 16] والمرتدُّ أعرابيًا بعد هجرته : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) الآية. (1)
__________
(1) الأثر : 9180 ، 9181 - في الأثر الأول ، " محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي " ، أبو جعفر النحاس الكوفي ، شيخ الطبري ، روى عنه أبو داود والنسائي والترمذي وأبو حاتم وغيرهم. قال النسائي : " لا بأس به " ، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد مضت روايته عنه في مواضع كثيرة : 1952 ، 3167 ، 3366 ، 4292 ، 8756.
و " أبو الأحوص ، سلام بن سليم " ، مضت ترجمته برقم : 2058 ، 3167 ، 6170 ، 7216.
و " ابن إسحاق " هو " محمد بن إسحاق " ، مضت ترجمته مرارًا.
و " عبيد بن عمير بن قتادة بن سعيد الليثي " ، روى عن أبيه ، وله صحبة ، وعمر ، وعلي ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى ، وأبي هريرة. تابعي ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة هنا : " عبيدة بن عمير " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المخطوطة.
وانظر الأثر الآتي رقم : 9189 ، والتعليق عليه.

(8/236)


9182 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد قال : سألت عبيدة عن الكبائر فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرارٌ يومَ الزحف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان. قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرًّا كثيرًا.
9183 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا منصور وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة أنه قال : الكبائر : الإشراك ، وقتل النفس الحرام ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرارُ من الزحف ، والمرتدّ أعرابيًّا بعد هجرته.
9184 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة بنحوه.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ما : -
9185 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، أخبرني الليث قال ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المُجْمِر قال : أخبرني صهيب مولى العُتْواريّ : أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان : خطبنا رسول

(8/237)


الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبَّ ، فأكبَّ كل رجل ، منا يبكي ، (1) لا يدري على ماذا حلف ، ثم رفع رأسه وفي وجهه البِشر ، فكان أحبَّ إلينا من حُمْر النَّعم ، (2) فقال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رَمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبعَ ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، ثم قيل : ادخل بسلام " . (3)
9186 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : الكبائر سبع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار يوم الزحف.
* * *
__________
(1) أكب الرجل إكبابًا : نكس رأسه ونظر إلى الأرض.
(2) " النعم " : الإبل والشاء وأشاههما ، وأراد به الإبل هاهنا. و " حمر النعم " : خير الإبل وأصبرها على الهواجر ، والعرب تقول : " خير الإبل حمرها وصهبها " ، وهي التي لم يخالط حمرتها شيء.
(3) الحديث : 9185 - هذا إسناد صحيح.
خالد : هو ابن يزيد المصري. مضى توثيقه : 5465. نعيم بن عبد الله المجمر - بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة - المدني ، مولى آل عمر بن الخطاب : تابعي ثقة معروف. أخرج له الجماعة. صهيب مولى العتواري : تابعي مدني ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 317. وابن أبي حاتم 2 / 1 / 444.
و " العتواري " : بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة. نسبته إلى " عتوارة " ، بطن من كنانة ، كما قال ابن الأثير. ووقع في مطبوعة ابن كثير في هذا الحديث " الصواري " ! وهو تصحيف مطبعي سخيف. والحديث رواه البخاري في الكبير - في ترجمة صهيب - موجزًا كعادته ، من طريق الليث ، وهو ابن سعد ، بهذا الإسناد.
ورواه النسائي 1 : 332 ، من طريق شعيب ، عن الليث ، به.
وذكره ابن كثير 2 : 415 ، عن هذا الموضع. وقال : " وهكذا رواه النسائي ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الليث بن سعد ، به. ورواه الحاكم أيضًا ، وابن حبان في صحيحه - من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به. ثم قال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " .
وذكره السيوطي 2 : 145 ، وزاد نسبته لابن ماجه ، وابن خزيمة ، والبيهقي في سننه.

(8/238)


وقال آخرون هي تسع.
*ذكر من قال ذلك :
9187 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا زياد بن مخراق ، عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النَّجَدات ، فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! فلقيت ابن عمر فقلت : أصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! (1) قال : وما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا. (2) قال : ليس من الكبائر قال : لشيء لم يسمِّه طيسلة (3) قال : هي تسع ، وسأعدُّهن عليك : الإشراك بالله ، وقتل النَّسَمة بغير حِلِّها ، والفرار من الزحف ، وقذفُ المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلمًا ، وإلحادٌ في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، (4) وبكاء الوالدين
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إني أصيب ذنوبا " ، " أصيب " في المواضع الثلاثة في المخطوطة وفي الأول من المخطوطة : " أصبت " ، وأنا أرجح أن هذه هي الصواب ، فأجريت عليها المواضع الثلاثة ، فجعلتها " أصبت " ، فإنها أوفق لمعنى الخبر ، وهي موافقة لما في ابن كثير.
(2) أسقط في المطبوعة من هذا الموضع قوله : " أصبت " ، فأثبتها في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " أشيء لم يسمعه طيسلة " ، والصواب المحض في المخطوطة. يعني أن هذا الذنب ، أو هذه الذنوب ، لم يسمها ، ولم يذكرها طيسلة ، وهي ليست من الكبائر.
(4) في المطبوعة والأدب المفرد للبخاري وابن كثير : " والذي يستسخر " بالخاء ، وإنما معنى " يستسخر " ، أن يسخر ويستهزئ ، وليس ذلك من الكبائر ، ولم أجده مذكورًا في خبر من الأخبار.
وفي المخطوطة والدر المنثور 2 : 146 " يستسحر " ، وهي غير منقوطة الحاء ، وقراءتها بالحاء المهملة هو الصواب المحض فيما أرجح ، وإن كان " استسحر ، يستسحر " غير مذكور في شيء من كتب اللغة التي تحت أيدينا اليوم. وأنا أرجح أنه صواب ، لأن المذكور في الآثار والأحاديث أنه من الكبائر هو " السحر " ، وبناء " استسحر " من " السحر " صحيح في الاشتقاق ، صحيح في معناه ، وأرجح أن معناه : طلبك من الساحر أن يعمل لك بالسحر ، أو أن تطلب منه علم السحر. وهذا موافق لما جاء في حديث طيسلة الذي يلي هذا الأثر وفيه : " والسحر " . وهذا وقد جاء في بعض الآثار : " وتعلم السحر " (ابن كثير 2 : 418) ، وجاء في خبر ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيمن يغفر له : " ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة " (مجمع الزوائد 1 : 104) ، وغيرها.
وصحته من جهة الاشتقاق ، أنهم قالوا في " الطرق " ، وهو الضرب بالحصا ، وهو نوع من الكهانة : " استطرق " : طلب من الكاهن أن يطرق له الحصى ، وأن ينظر له فيه. وأشباه ذلك كثير لا معنى لاستقصائه ههنا.

(8/239)


من العقوق قال زياد : وقال طيسلة : لما رأى ابن عمر فَرَقِي قال (1) أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم! قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم! قال : أحيٌّ والداك ؟ قلت : عندي أمي. قال : فوالله لئن أنت ألَنْت لها الكلام ، وأطعمتها الطعامَ ، لتدخلنّ الجنة ما اجتَنَبْتَ الموجِبات. (2)
9188 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطي قال ، أخبرنا سلم بن سلام قال ، أخبرنا أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظلّ أراكٍ يوم عرفة ، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه ، قال قلت : أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع. قلت : ما هن ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة قال قلت : قبل القتل ؟ قال : نعم ، ورَغْمًا وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق
__________
(1) الفرق : شدة الفزع والخوف.
(2) الحديث : 9187 - هذا إسناد صحيح.
زياد بن مخراق المزني البصري : ثقة ، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب. وترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 339 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 545.
طيسلة بن مياس ، وسيأتي في الإسناد التالي " طيسلة بن علي النهدي " - وهما واحد. أبوه اسمه " علي " ، ولقبه " مياس " . وقد جزم البخاري في الكبير 2 / 2 / 368 بأنهما واحد ، وذكر أن صواب نسبته " البهدلي " ، وقال : " وبهدلة من بني سعد - و " النهدي ، لا يصح " . وكذلك جزم ابن أبي حاتم 2 / 1 / 501 بأنهما واحد ، وبأنه " البهدلي " ويقال : السلمي. وروى عن يحيى بن معين ، قال : " طيسلة بن علي البهدلي اليمامي : ثقة " .
والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد ، ص : 4 ، عن مسدد ، عن إسماعيل بن إبراهيم - وهو ابن علية - بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 2 : 417 ، عن هذا الموضع.
وذكره السيوطي 2 : 146 مختصرًا ، وفي متنه تحريف. وزاد نسبته لابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والقاضي إسماعيل في أحكام القرآن.
وقوله : " مع النجدات " : هم قوم من الخوارج ، من الحرورية ، ينسبون إلى " نجدة بن عامر الحروي الحنفي " ، رجل منهم ، يقال : " هؤلاء النجدات " قاله في اللسان. وكان في المطبوعة " الحدثان " ! وهو تصحيف صرف. ورسمت في المخطوطة دون نقط بما يقارب لفظ " النجدات " . وثبت على الصواب في الأدب المفرد والمخطوطة الأزهرية من تفسير ابن كثير.

(8/240)


الوالدين المسلمين ، وإلحادٌ بالبيت الحرام ، (1) قبلتِكم أحياء وأمواتًا. (2)
9189 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز قال ، أخبرنا سلم بن سلام قال ، أخبرنا أيوب بن عتبة ، عن يحيى ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا أنه قال : بدأ بالقتل قبل القذف. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " والإلحاد " بالتعريف ، وفي المخطوطة : " والحلا " . وظاهر أن الناسخ شبك الدال في الألف من عند مثنى الدال بقلم واحد في الخط. وانظر مثله في الأثر السالف.
(2) الحديث : 9188 - وهذا إسناد آخر للحديث السابق ، بنحوه.
سليمان بن ثابت الخراز الواسطي - شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة. وثبت في ابن كثير " الجحدري " بدل " الخراز " !
سلم بن سلام : هو أبو المسيب الواسطي. مترجم في التهذيب 4 : 131 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 268 ، ولم يذكر فيه جرحًا.
أيوب بن عتبة ، أبو يحيى قاضي اليمامة : ضعيف ، ضعفه أحمد ، والبخاري ، وغيرهما.
وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2 : 417 ، عن هذا الموضع. ثم ذكر أنه رواه علي بن الجعد ، عن أيوب بن عتبة - وساقه مطولا - وقال : " وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب ، عن أيوب بن عتبة اليمامي ، وفيه ضعف " .
وأشار الحافظ في التهذيب 5 : 36 - 37 ، في ترجمة طيسلة ، إلى أنه " أخرجه البغوي في الجعديات ، عن علي بن الجعد ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي. وأخرجه الخطيب في الكفاية ، والخرائطي في مساوئ الأخلاق ، والبرديجي في الأسماء المفردة - : من طريق أخرى ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن مياس " .
ولكن أيوب بن عتبة لم ينفرد به عن طيسلة. فقد رواه عنه أيضًا عكرمة بن عمار العجلي ، وهو ثقة :
فأشار إليه البخاري - كعادته - إشارة موجزة ، في ترجمة طيسلة 2 / 2 / 368 ، قال : " وقال النضر بن محمد : حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني طيسلة بن علي البهدلي ، سمع ابن عمر. وقال وكيع ، عن عكرمة : طيسلة بن علي النهدي ، أن ابن عمر كان ينزل الأراك يوم عرفة " . وهذه قطعة من هذا الحديث.
وهذه القطعة رواها أبو داود في (مسائل الإمام أحمد) ، ص : 118 ، " حدثنا أحمد ، قال حدثنا وكيع ، عن عكرمة بن عمار ، عن طيسلة بن علي : أن ابن عمر نزل الأراك يوم عرفة " .
وقد قصر السيوطي جدًا ، حيث ذكر هذا الحديث 2 : 146 ، ولم ينسبه لغير " علي بن الجعد في الجعديات " .
(3) الحديث : 9189 - يحيى : هو ابن أبي كثير. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة " يحيى بن عبيد بن عمير " ! بتحريف " عن " إلى " بن " . وهو تصحيف من الناسخين. ثم قد سقط من الإسناد هنا " عبد الحميد بن سنان " بين " يحيى بن أبي كثير " و " عبيد بن عمير " . وليس هذا من الناسخين ، بل هو خطأ من أيوب بن عتبة.
عبيد بن عمير الليثي : تابعي معروف من كبار التابعين. مضى مرارًا.
أبوه " عمير بن قتادة الليثي " : صحابي ، شهد الفتح وحجة الوداع.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1 : 59 ، مطولا ، من طريق حرب بن شداد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الحميد بن سنان ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه. وقال الحاكم : " قد احتجا [يعني الشيخين] برواة هذا الحديث ، غير عبد الحميد بن سنان. فأما عمير بن قتادة فإنه صحابي. وابنه عبيد متفق على إخراجه والاحتجاج به " . وتعقبه الذهبي في مختصره بأنهما لم يحتجا بعبد الحميد " لجهالته ، ووثقه ابن حبان " .
ثم رواه الحاكم مرة أخرى 4 : 259 - 260 ، من طريق حرب بن شداد أيضًا - مطولا. ثم قال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . وهنا وافقه الذهبي على تصحيحه ، ولم يتعقبه بشيء.
وقد رواه الحافظ المزي في تهذيب الكمال ، ص : 769 (مخطوط مصور) مطولا ، بإسنادين ، من طريق حرب بن شداد ، عن يحيى.
ورواه أبو داود : 2875 ، من طريق حرب بن شداد ، ولم يذكر لفظه كله.
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ، في ترجمة عمير بن قتادة ، ص : 439 بإسناده من طريق أبي داود. وساق لفظه ، ولكنه موجز من روايتي الحاكم. ورواه النسائي 2 : 165 ، مختصرًا ، من طريق حرب بن شداد. ولكن فيه " هن سبع " بدل " تسع " . وذكره ابن كثير 2 : 416 ، عن رواية الحاكم الأولى. ثم قال : " وقد أخرجه أبو داود ، والنسائي ، مختصرًا... وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديثه مبسوطًا. ثم قال الحاكم : رجاله كلهم محتج بهم في الصحيحين ، إلا عبد الحميد بن سنان. قلت : وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري : في حديثه نظر " .
ثم أشار ابن كثير إلى رواية الطبري هذه. ثم قال : " ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان " . وهذا يدل على أن حذف " عبد الحميد بن سنان " من الإسناد - ليس خطأ من الناسخين ، إنما هو من تخليط أيوب بن عتبة.
وعبد الحميد بن سنان : ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 13 ، ولم يذكر فيه جرحًا. فهذا توثيق منه له. والحديث ذكره السيوطي 2 : 146 ، وزاد نسبته للطبراني ، وابن مردويه.

(8/241)


وقال آخرون : هي أربع.
*ذكر من قال ذلك :
9190 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن مطرف ، عن وبرة ، عن ابن مسعود قال : الكبائر : الإشراك بالله ، والقنوط

(8/242)


من رحمة الله ، والإياس من رَوْح الله ، والأمن من مكر الله.
9191 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مطرف ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل ، قال ، قال عبد الله بن مسعود : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والإياسُ من رَوْح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله.
9192 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن وبرة بن عبد الرحمن قال ، قال عبد الله : إن الكبائر : الشرك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والإياس من رَوْح الله.
9193 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت مطرفًا ، عن وبرة ، عن أبي الطفيل قال ، قال عبد الله : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من رَوْح الله ، والأمن من مكر الله.
9194 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبد الله قال ، أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن وبرة ، عن أبي الطفيل قال : سمعت ابن مسعود يقول : أكبر الكبائر : الإشراك بالله.
9195 - حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا عبد الله قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن وبرة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله بنحوه :
9196 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والإياس من رَوْح الله ، والقنوط من رحمة الله. (1)
__________
(1) الأثر : 9196 - " عبد الملك " هو عبد الملك بن سعيد بن حبان بن أبجر ، ويعرف بابن أبجر. كان ثقة ثبتًا في الحديث صاحب سنة. يروي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عبد الملك بن أبي الطفيل " وهو خطأ ظاهر.

(8/243)


9197 - وبه قال ، حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله بمثله.
9198 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله بن مسعود بنحوه.
9199 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود قال : الكبائرُ أربع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، والأمن لمكر الله ، والإياسُ من رَوْح الله.
9200 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن فُرات القزاز ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله قال : الكبائر : القنوط من رحمة الله ، والإياس من رَوح الله ، والأمن لمكر الله ، والشرك بالله. (1)
* * *
وقال آخرون : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
*ذكر من قال ذلك :
9201 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : ذكرت عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
9202 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن محمد قال : أنبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه
__________
(1) الآثار : 9190 - 9200 - " فرات القزاز " في الأثر الأخير ، هو : " فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي " . روى عن أبي الطفيل وغيره ، وروى عنه ابنه الحسن بن الفرات ، وشعبة والمسعودي وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر عن ابن مسعود ، قد ساقه الطبري من طرق كثيرة ، ذكر واحدًا منها ابن كثير في تفسيره 2 : 422 ، وقال : " ثم رواه من عدة طرق ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، وهو صحيح إليه بلا شك " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 147 ، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن أبي الدنيا في التوبة.
وخرجه ابن كثير أيضًا في تفسيره 2 : 421 ، 422 ، من حديث ابن عباس مرفوعًا وقال : " في إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفًا " .

(8/244)


كبيرة وقد ذُكرت الطَّرْفة ، قال : هي النظرة.
9203 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن طاوس قال ، قال رجل لعبد الله بن عباس : أخبرني بالكبائر السبع. قال ، فقال ابن عباس : هي أكثر من سبع وسبع (1) فما أدري كم قالها من مرة.
9204 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، (2) عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع. قال : هي أكثر من سبع وَسبع! قال سليمان : فلا أدري كم قالها من مرّة.
9205 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي ، عن عوف قال : قام أبو العالية الرّياحي على حَلْقةٍ أنا فيها فقال : إن ناسًا يقولون : " الكبائر سبع " ، وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين أو يزدن على ذلك.
9206 - حدثنا علي قال ، حدثنا الوليد قال ، سمعت أبا عمرو يخبر ، عن الزهري ، عن ابن عباس : أنه سئل عن الكبائر : أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب.
9207 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير ، أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر ؟ أسبع هي ؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار.
9208 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائرَ السبع التي ذكرهن الله ؟ ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منها إلى سبع.
__________
(1) في المخطوطة وابن كثير 2 : 425 : " من سبع وسبع " ، وفي المطبوعة : " من سبع وتسع " ، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر الأثر رقم : 9204.
(2) في المطبوعة : " سليمان التميمي " ، خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(8/245)


9209 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب.
9210 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، أخبرنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبد الله بن سعدان ، عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر ، قال : كل شيء عُصيِ الله فيه فهو كبيرة. (1)
* * *
وقال آخرون : هي ثلاث.
*ذكر من قال ذلك :
9211 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود قال : الكبائر ثلاث : اليأسُ من رَوْح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله. (2)
* * *
وقال آخرون : كل موجِبة ، وكل ما أوعد الله أهلَه عليه النار ، فكبيرة.
*ذكر من قال ذلك :
9212 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " ، قال : " الكبائر " ، كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعْنة ، أو عذاب.
9213 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا
__________
(1) الأثر : 9210 - " عبد الله بن سعدان " لم أعرفه ولم أجده و " أبو الوليد " ، كذلك لم أجده. وأخشى أن يكون فيهما تحريف أو سقط. وأما في ابن كثير 2 : 425 ، فقد كتب " عبد الله بن معدان " ، ولم أجده أيضًا.
(2) الأثر : 9211 - انظر الآثار السالفة عن ابن مسعود من 9190 - 9200.

(8/246)


هشام بن حسان ، عن محمد بن واسع قال ، قال سعيد بن جبير : كل موجبة في القرآن كبيرة.
9214 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن محمد بن مِهْزَم الشعاب ، عن محمد بن واسع الأزدي ، عن سعيد بن جبير قال : كل ذنب نسبه الله إلى النار ، فهو من الكبائر. (1)
9215 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سالم : أنه سمع الحسن يقول : كل موجبة في القرآن كبيرة.
9216 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " ، قال : الموجبات.
9217 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9218 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك قال : الكبائر : كل موجبة أوجبَ الله لأهلها النار. وكل عمل يقام به الحدُّ ، فهو من الكبائر.
* * *
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك ، ما ثبتَ به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك ما : -
9219 - حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ،
__________
(1) الأثر : 9214 - " محمد بن مهزم الشعاب " ، ويقال " الرمام " لأنه كان يرم القصاع ويشعبها. وثقه ابن معين وابن حبان ، وقال أبو حاتم : " ليس به بأس " . مترجم في الكبير 1 / 1 / 230 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 102 ، وتعجيل المنفعة : 379. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " مهرم "
وأما " مهزم " (بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الزاي) فقال المعلق على التاريخ الكبير : " هكذا شكله في (قط) ، وهكذا ضبط عبد الغني في المؤتلف : 421 ، وغيره. وشكله في (كو) كمعلم " .
وهذا الأثر أخرجه البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير.

(8/247)


حدثنا شعبة قال ، حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو : سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوقُ الوالدين. فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال : قول الزور أو قال : شهادة الزور قال شعبة : وأكبر ظني أنه قال : شهادة الزور. (1)
9220 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال : " الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتلُ النفس ، وقول الزور.
9221 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن كثير قال ، حدثنا شعبة ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس قال : ذكروا الكبائرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس. ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قولُ الزور.
9222 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الحديث : 9219 - عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك : تابعي ثقة. يروي عن جده ، ويروي أيضًا عن أبيه عن جده. و " عبيد الله " - بالتصغير. ووقع في ابن كثير في نقل هذا الحديث " عبد الله " ؛ وهو خطأ صرف.
والحديث رواه أحمد في المسند : 12363 (3 : 131 حلبي) عن محمد بن جعفر ، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري 10 : 345 - 346 (فتح). ومسلم 1 : 37 - كلاهما من طريق محمد بن جعفر ، به.
ورواه البخاري أيضًا 5 : 192 (فتح) ، من طريق وهب بن جرير ، وعبد الملك بن إبراهيم ، كلاهما عن شعبة ، به.
وذكره ابن كثير 2 : 418 ، عن رواية المسند. ثم نسبه للصحيحين.
وذكره السيوطي 2 : 146 - 147 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم.
وسيأتي عقبة ، بإسنادين - بنحوه - من طريق شعبة.

(8/248)


عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين أو : قتلُ النفس ، شعبة الشاكّ واليمينُ الغَمُوس.
9223 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا شيبان ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ما الكبائر ؟ قال : الشرك بالله. قال : ثم مَهْ ؟ قال : وعقوق الوالدين. قال : ثم مَهْ ؟ قال : واليمين الغَموس قلت للشعبي : ما اليمين الغَمُوس ؟ قال : الذي يقتطع مالَ امرئ مسلم بيمينه وهو فيها كاذب. (1)
9224 - حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن أبي السري محمد بن المتوكل العسقلاني قال ، حدثنا يحيى بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن أبي رُهْم ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أقام الصلاة ،
__________
(1) الحديثان : 9222 ، 9223 - هما إسنادان لحديث واحد ، بمعناه.
و " فراس " - بكسر الفاء وتخفيف الراء : هو ابن يحيى الهمداني الخارفي. وهو ثقة ، أخرج له الجماعة.
عبيد الله بن موسى ، في الإسناد الثاني : هو العبسي الحافظ. مضت ترجمته : 2092. ووقع في المطبوعة " عبد الله " بالتكبير ، وهو خطأ.
وشيخه " شيبان " : هو النحوي أبو معاوية ، وهو ابن عبد الرحمن. مضت ترجمته : 2340.
والحديث رواه أحمد في المسند : 6884 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة - كالإسناد الأول هنا.
ورواه البخاري 12 : 170 (فتح) ، عن محمد بن بشار ، عن محمد بن جعفر ، به.
ورواه أيضًا 11 : 482 - 483 ، من طريق النضر بن شميل ، عن شعبة.
والرواية الثانية هنا - رواية عبيد الله بن موسى - أشار إليها الحافظ في الفتح 11 : 483 من رواية ابن حبان في صحيحه.
والحديث رواه أيضًا الترمذي 4 : 87 - 88 ، والنسائي 2 : 165 ، 254 ، وأبو نعيم في الحلية 7 : 202. وذكره ابن كثير 2 : 419 ، من رواية المسند. ونسبه للبخاري ، والترمذي ، والنسائي.
وذكره السيوطي 1 : 147 ، ونسبه لهؤلاء ، ولأحمد ، والطبري.

(8/249)


وأتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة. قيل : وما الكبائر ؟ قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار يوم الزحف. (1)
9225 - حدثني عباس بن أبي طالب قال ، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر ، عن ابن أبي جعفر ، عن ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن سلمان الأغر ، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغر قال ، قال أبو أيوب
__________
(1) الحديث : 9224 - ابن أبي السرى ، محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن ، الحافظ العسقلاني : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. مات سنة 238. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 105 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 53 - 54.
يحيى بن سعيد : هو العطار الأنصاري الحمصي ، مضت ترجمته في : 5753. وكان في المطبوعة بدله " محمد بن سعد " ، وهو تحريف على اليقين. وما أثبتنا هو الذي في المخطوطة ، على أن كلمة " يحيى " فيها غير واضحة تمامًا. وكان من المحتمل هنا أن يكون الاسم " بحير بن سعد " ، لأنه روى هذا الحديث - كما سيأتي. ولكني لم أجد ذكرًا لبحير بن سعد في شيوخ ابن أبي السرى ، الذين حصرهم الحفاظ المزي في تهذيب الكمال ، كعادته. ولكنه ذكر في شيوخه " يحيى بن سعيد العطار " .
خالد بن معدان الكلاعي : مضى في : 2070.
أبو رهم - بضم الراء وسكون الهاء - أحزاب بن أسيد السمعي : تابعي قديم ثقة. وذكره بعضهم في الصحابة. والراجح الأول.
والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 413 (حلبي) ، عن المقرئ ، عن حيوة بن شريح : " حدثنا بقية ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان... " - فذكره.
ثم رواه 5 : 413 - 414 ، عن زكريا بن عدي ، أخبرنا بقية ، عن بحير ، عن خالد بن معدان... " .
وبقية : هو ابن الوليد. وهو ثقة ، وتكلم فيه من تكلم بأنه يدلس ، ولكنه صرح بالتحديث في الإسناد الأول عند أحمد. فزالت شبهة التدليس.
و " بحير بن سعد الحمصي " : ثقة. وثقه أحمد ، وابن سعد ، وغيرهما. و " بحير " : بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة وآخره راء. وأبوه " سعد " : بفتح السين وسكون العين. وقد ثبت على الصواب في تهذيب الكمال للمزي (مخطوط مصور) ، والكبير للبخاري 1 / 2 / 137 - 138 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 412 ، والمشتبه للذهبي ، والمسند ، وغير ذلك. ورسم في تهذيب التهذيب والتقريب والخلاصة " سعيد " . وهو خطأ لا شك فيه.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 417 - 418 ، عن الرواية الثانية للمسند. ووقع فيه " يحيى بن سعيد " بدل " بحير بن سعد " ! وهو خطأ ناسخ أو طابع ، ثم نسبه أيضًا للنسائي.
وذكره السيوطي 2 : 146 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم " وصححه " .
وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر ، من وجه آخر.

(8/250)


خالد بن أيوب الأنصاري عقبيٌّ بدريٌّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئًا ، ويقيم الصلاةَ ، ويؤتي الزكاة ، ويصوم رمضان ، ويجتنب الكبائر ، إلا دخل الجنة. فسألوه : ما الكبائر ؟ قال : الإشراك بالله ، والفرار من الزحف ، وقتل النفس. (1)
9226 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرارٌ من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغُلول ، والسحر ، وأكل الربا : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين تجعلون : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) ؟ إلى آخر الآية ، [سورة آل عمران : 77]. (2)
__________
(1) الحديث : 9225 - وهذا إسناد آخر من وجه آخر للحديث السابق.
عباس بن أبي طالب : مضت ترجمته في : 880. سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري : مضت ترجمته في : 3959. وقد رجحنا توثيقه هناك. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) " سعد بن عبد الحميد عن جعفر " ! وهو خطأ. وضعت كلمة " عن " بدل " بن " .
وقوله " عن ابن أبي جعفر " : هكذا ثبت هنا ، فإن يكن صوابًا يكن " عبد الله بن أبي جعفر الرازي " ، الماضية ترجمته في : 7030. ولكني أرجح أنه مزيد في الإسناد تخليطًا من الناسخين. فإن " سعد بن عبد الحميد " معروف بالرواية عن ابن أبي الزناد.
وابن أبي الزناد : هو " عبد الرحمن بن أبي الزناد " . مضت ترجمته في : 1694.
" عبد الله بن سلمان الأغر " : هكذا ثبت هنا " عبد الله " بالتكبير. وهو ثقة يروي عن أبيه. ولكني أرجح أن يكون صوابه " عبيد الله " بالتصغير. فإنهم لم يذكروا رواية لموسى بن عقبة عن " عبد الله " . وإنما عرف بالرواية عن أخيه " عبيد الله " .
و " عبيد الله بن سلمان الأغر " : ثقة معروف ، يروي عنه مالك ، وموسى بن عقبة ، وغيرهما.
أبوه " سلمان الأغر ، أبو عبد الله المدني " : تابعي ثقة معروف ، أخرج له الجماعة.
والحديث سبق تخريجه. أما من هذا الوجه - من رواية سلمان الأغر عن أبي أيوب - : فلم أجده في غير هذا الموضع.
(2) الحديث : 9226 - هذا إسناد ضعيف منهار.
جعفر بن الزبير الدمشقي : ضعيف جدًا. روى عن القاسم عن أبي أمامة نسخة موضوعة ، كما بينا فيما مضى : 1939.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 423 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 2 : 147 ، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر أنه " بسند حسن " ! وهو في هذا مخطئ. فما هو إلا إسناد ضعيف لا تقوم له قائمة.

(8/251)


9227 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن عبد الله قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : أن تدعو لله نِدًّا وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن مأكلٍ معك ، أو تزني بحليلة جارك. وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) [سورة الفرقان : 68]. (1)
9228 - حدثني هذا الحديث عبد الله بن محمد الزهري فقال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبو معاوية النخعي وكان على السجن سمعه من أبي عمرو ، عن عبد الله بن مسعود : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أيّ العمل شر ؟ قال : أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك من أن يأكل معك ، أو تزني بجارتك. وقرأ علي : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل " الكبائر " بالصحة ، ما صحَّ به الخبر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون ما قاله غيره ، وإن كان كل
__________
(1) الحديث : 9227 - عبيد الله بن محمد الفريابي - شيخ الطبري - مضت ترجمته في رقم : 17 ، وسيأتي ، ص : 254 ، س : 3 ، أن الطبري يرى أنه غلط في هذا الحديث. يريد غلطًا في المعنى! ولكنا لا نوافقه على ذلك. فمعنى هذا الحديث والذي بعده واحد. وإنما هو اختلاف في اللفظ.
" سفيان " : هو ابن عيينة.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(2) الحديث : 9228 - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري - شيخ الطبري : ثقة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 163.
أبو معاوية النخعي - في هذا الإسناد والذي قبله : هو عمرو بن عبد الله بن وهب. وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب ، وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 243 - 244.
أبو عمر الشيباني : هو سعد بن إياس ، التابعي الكبير. مضت ترجمته في : 5524.
والحديث سيأتي في الطبري ، عند تفسير الآية : 71 من سورة الفرقان (19 : 26 بولاق) ، عن عبد الله بن محمد الفريابي ، عن سفيان ، بهذا الإسناد ، ثم رواه هناك بأسانيد أخر.
ورواه أحمد في المسند ، من رواية أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - مرارًا بأسانيد : 3612 ، 4102 ، 4131 - 4134 ، 4411 ، 4423.
وكذلك رواه البخاري مرارًا ، منها 8 : 124 ، 12 : 101 - 103 ، و 13 : 413 (فتح).
وكذلك رواه مسلم 1 : 36 - 37.
وفي بعض الروايات عندهم زيادة " عمرو بن شرحبيل " في الإسناد ، بين أبي وائل وابن مسعود والظاهر عندي أن أبا وائل سمعه من ابن مسعود ، ومن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود ، فحدث به على الوجهين. ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. وفصل الحافظ القول في ذلك في 12 : 101 - 103.
وذكره ابن كثير 6 : 194 - 195 ، من إحدى روايات المسند ، وإحدى روايات الطبري الآتية.
وذكره السيوطي 5 : 77 ، وزاد نسبته للفريابي ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان.

(8/252)


قائل فيها قولا من الذين ذكرنا أقوالهم ، قد اجتهد وبالغ في نفسه ، ولقوله في الصحة مذهبٌ. فالكبائر إذن : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس المحرّم قتلها ، وقول الزور وقد يدخل في " قول الزور " ، شهادة الزور وقذف المحصنة ، واليمين الغموسُ ، والسحر ويدخل في قتل النفس المحرَّم قتلها ، قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه والفرارُ من الزحف ، والزنا بحليلة الجار.
وإذْ كان ذلك كذلك ، صحَّ كل خبر رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر ، وكان بعضه مصدِّقًا بعضًا. وذلك أن الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هي سبع " يكون معنى قوله حينئذ : " هي سبع " على التفصيل ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال : " هي الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور " على الإجمال ،

(8/253)


إذ كان قوله : " وقول الزور " يحتمل معاني شتى ، وأن يجمعَ جميعَ ذلك " قول الزور " .
وأما خبر ابن مسعود الذي حدثني به الفريابي على ما ذكرت ، فإنه عندي غلط من عبيد الله بن محمد ، لأن الأخبار المتظاهرة من الأوجه الصحاح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، (1) بنحو الرواية التي رواها الزهري عن ابن عيينة. ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود ، " أن النبي صلى الله عليه وسلم : سئل عن الكبائر " ، فنقلهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أولى بالصحة من نقل الفريابي.
* * *
قال أبو جعفر : فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبَها تكفيرَ ما عداها من سيئاته ، وإدخاله مُدخلا كريمًا ، وأدَّى فرائضه التي فرضها الله عليه ، وجد الله لما وعده من وعدٍ منجزًا ، وعلى الوفاء له ثابتًا. (2)
* * *
وأما قوله : " نكفر عنكم سيئاتكم " ، فإنه يعني به : نكفر عنكم ، أيها المؤمنون ، باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم ، صغائر سيئاتكم (3) يعني : صغائر ذنوبكم ، كما : -
9229 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " نكفر عنكم سيئاتكم " ، الصغائر. (4)
9230 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن : أن ناسًا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب
__________
(1) في المطبوعة : " من الأوجه الصحيحة " ، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!!
(2) في المطبوعة : " وعلى الوفاء به دائبا " حرف ما في المخطوطة وكان فيها " وعلى الوفاء له دائبا " غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(3) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف : 7 : 482 ، 490 وتفسير " السيئات " فيما سلف 2 : 281 - 283 / 7 : 482 ، 490.
(4) الأثر : 9229 - في المطبوعة والمخطوطة " محمد بن الحسن " ، والصواب ما أثبت ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه : 9133.

(8/254)


الله ، أمرَ أن يُعمل بها ، لا يُعمل بها ، (1) فأردنا أن نلقَى أمير المؤمنين في ذلك ؟ فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : متى قدمت ؟ قال : منذ كذا وكذا. قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف ردّ عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ ناسًا لقوني بمصر فقالوا : " إنا نرى أشياءَ من كتاب الله تبارك وتعالى ، أمر أن يعمل بها ولا يعمل بها " ، فأحبُّوا أن يلقوك في ذلك. فقال : اجمعهم لي. قال : فجمعتهم له قال ابن عون : أظنه قال : في بَهْوٍ (2) فأخذ أدناهم رجلا فقال : أنشدكم بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم. قال ، فهل أحصيته في نفسك ؟ (3) قال ، اللهم لا! قال : ولو قال : " نعم " لخصَمَه (4) قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ هل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك ؟ (5) قال : ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، فقال : ثكلتْ عمر أمُّه! أتكلِّفونه أن يقيمَ الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال : وتلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا " . هل علم أهل المدينة أو قال هل علم أحدٌ بما قَدِمتم ؟ قالوا ، لا! قال : لو علموا لوعَظْت بكم. (6)
9231 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا زياد بن مخراق ، عن معاوية بن قرة قال : أتينا أنس بن مالك ، فكان فيما حدثنا قال : لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال! (7) ثم سكت هنيهة ، ثم قال : والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك! لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر! فما لنا ولها ؟ ثم تلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية. (8)
9232 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية ، إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنبَ الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا الكبائر ، وسدّدوا ، وأبشروا " .
9233 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال : في خمس آيات من " سورة النساء " : لَهُنَّ أحب إليَّ من الدنيا جميعًا : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) [سورة النساء : 40] ، وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
__________
(1) في المخطوطة : " أمر أن يعمل بها لا نعمل بها " بالنون في الثانية ، وما في المطبوعة وابن كثير هو الصواب ، لأنه جاءوا في شكاة عاملهم في مصر ، كما هو ظاهر من آخر الأثر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " في نهر " ، والصواب من تفسير ابن كثير. و " البهو " : البيت المقدم أمام البيوت. وكل هواء أو فجوة ، فهو عند العرب " بهو " .
(3) " أحصى الشيء " : أحاط به وحفظه ، يعني : هل استوفيتم القيام بكل أمر به في ذلك وحفظتموه وضبطتم العمل به ، ومنه قوله تعالى : " عَلَم أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ "
أي : أن تطيقوا القيام به.
(4) " خاصمت الرجل فخصمته " : أي غلبته بالحجة.
(5) " الأثر " : ما تتركه في الأرض من ثقل خطاك عليها ، وأراد به هنا : السعي في الأرض. كالذي في قوله تعالى : " ونكتب ما قدموا وآثارهم " ، أي خطاهم حيث سعوا في الأرض.
(6) الأثر : 9230 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 423 ، 424 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 145 ، وقال ابن كثير : " إسناد صحيح ومتن حسن ، وإن كانت رواية الحسن عن عمر ، وفيها انقطاع ، إلا أن مثل هذا اشتهر ، فتكفي شهرته " . وقال السيوطي : " أخرج ابن جرير بسند حسن " .
وقوله : " لوعظت بكم " ، أي : لأنزلت بكم من العقوبة ، ما يكون عظة لغيركم من الناس. وذلك أنهم جاءوا في شكاة عاملهم على مصر ، وتشددوا ولم ييسروا ، وأرادوا أن يسير في الناس بما لا يطيقون هم في أنفسهم من الإحاطة بكل أعمال الإسلام ، وما أمرهم الله به. وذلك من الفتن الكبيرة. ولم يريدوا ظاهر الإسلام وأحكامه ، وإنما أرادوا بعض ما أدب الله به خلقه. وعمر أجل من أن يتهاون في أحكام الإسلام. وإنما قلت هذا وشرحته ، مخافة أن يحتج به محتج من ذوي السلطان والجبروت ، في إباحة ترك أحكام الله غير معمول بها ، كما هو أمر الطغاة والجبابرة من الحاكمين في زماننا هذا.
(7) ليس في المخطوطة " ثم " ، وتركتها لأنها في الدر المنثور ، وتفسير ابن كثير.
(8) الأثر : 9231 - ابن كثير 2 : 425 ، والدر المنثور ، 2 : 145 ، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد.

(8/255)


لِمَنْ يَشَاءُ ) [سورة النساء : 48 ، 116] ، وقوله : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) [سورة النساء : 110] ، وقوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) [سورة النساء : 152]. (1)
9234 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو النضر ، عن صالح المرّي ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثمانِ آيات نزلت في " سورة النساء " ، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [سورة النساء : 26] ، والثانية : ( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ) [سورة النساء : 27] ، والثالثة : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا ) [سورة النساء : 28] ، ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء ، وزاد فيه : ثم أقبل يفسرها في آخر الآية : وكان الله للذين عملوا الذنوب غفورًا رحيمًا. (2)
وأما قوله : " وندخلكم مدخلا كريمًا " ، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض الكوفيين : ( وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا )
__________
(1) الأثر : 9233 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 145 ، ونسبه أيضًا لأبي عبيد القاسم بن سلام ، وسعيد بن منصور في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب.
(2) الأثر : 9234 - " أبو النضر " ، كأنه : " إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الدمشقي الفراديسي " ، من شيوخ البخاري وأبي زرعة ، أدركه ولم يكتب عنه ، ولد سنة 141 ، وتوفي سنة 227 ، ثقة. مترجم في التهذيب ، وقد مضى في رقم : 8788.
" وصالح المري " ، هو : صالح بن بشير بن وداع المري " ، القاص. روى عن الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وغيرهم. كان رجلا صالحًا ، ولكنه يروي أحاديث مناكير تنكرها الأئمة عليه. وهو متروك الحديث. مات سنة 172 ، أو سنة 176 ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 274.

(8/257)


بفتح " الميم " ، وكذلك الذي في " الحج " : ( لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ) [سورة الحج : 59] ، فمعنى : " وندخلكم مَدخلا " ، فيدخلون دُخُولا كريمًا. وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة ، أن يكون المعنى في " المدخل " : المكان والموضع. لأن العرب رُبما فتحت " الميم " من ذلك بهذا المعنى ، كما قال الراجز : (1)
بِمَصْبَح الْحَمْدِ وَحَيْثُ نُمْسٍي (2)
وقد أنشدني بعضهم سماعًا من العرب : (3)
الْحَمْدُ لِلِه مَمْسَانَا ومَصْبَحَنَا... بِالْخَيْرِ صَبَّحَنَا رَبِّي وَمَسَّانَا (4)
وأنشدني آخر غيره :
الْحَمْدُ لِلِه مُمْسَانا وَمُصْبَحَنَا
لأنه من " أصبح " " وأمسى " . وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة ، تضم ميمه في مثل هذا فتقول : " دحرجته أدحرجه مُدحرجًا ، فهو مُدحرَج " . (5) ثم تحمل ما جاء على " أفعل يُفعل " على ذلك. (6) لأن " يُفعِل " ، من " يُدْخِل " ، وإن كان على أربعة ، فإن أصله أن يكون على " يؤفعل " ، " يؤدخل " و " يؤخرج " ، فهو نظير " يدحرج " . (7)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1 : 264 ، اللسان (صبح).
(3) هو أمية بن أبي الصلت.
(4) ديوانه : 62 ، معاني القرآن للفراء 1 : 264 ، الخزانة 1 : 120 ، اللسان (مسى) ، وهو فاتحة هذه القصيدة.
(5) في المخطوطة : " دحرجته فهو مدحرج " ، وبينهما بياض بقدر كلمات ، فزاد في المطبوعة : " مدحرجًا " ، وزدت " أدحرجه " ، لأن السياق فيما يلي يقتضي ذكرها.
(6) في المطبوعة : " فعل يفعل " ، والصواب من المخطوطة.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 293 ، 294.

(8/258)


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين : " مُدْخَلا " بضم " الميم " ، يعني : وندخلكم إدخالا كريمًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ ذلك : ( وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) بضم " الميم " ، لما وصفنا ، من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في " فَعَل " ، (1) فالمصدر منه " مُفْعَل " . وأن " أدخل " و " دحرج " " فَعَل " منه على أربعة. (2) ف " المُدخل " مصدره أولى من " مَفعل " ، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على " أفعل " ، كما يقال : " أقام بمكان فطاب له المُقام " ، إذ أريد به الإقامة و " قام في موضعه فهو في مَقام واسع " ، كما قال جل ثناؤه : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) [سورة الدخان : 51] ، من " قام يقوم " . ولو أريد به " الإقامة " لقرئ : " إن المتقين في مُقام أمين " كما قرئ : ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) [سورة الإسراء : 80] ، بمعنى " الإدخال " و " الإخراج " . ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ : " مَدخل صدق " ، ولا " مَخْرج صدق " بفتح " الميم " .
* * *
وأما " المدخل الكريم " ، فهو : الطيب الحسن ، المكرَّم بنفي الآفات والعاهات عنه ، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دَخله ، فلذلك سماه الله كريمًا ، كما : -
9235 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ،
__________
(1) يعني بقوله : " فعل " هنا في الموضعين ، الفعل الماضي ، ولا يعني الوزن الصرفي.
(2) يعني بقوله : " فعل " هنا ، الفعل الماضي ، ولا يعني الوزن الصرفي.

(8/259)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

حدثنا أسباط ، عن السدي : " وندخلكم مدخلا كريمًا " ، قال : " الكريم " ، هو الحسن في الجنة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. (2)
* * *
وذكر أن ذلك نزل في نساءٍ تمنين منازلَ الرجال ، وأن يكون لهم ما لهم ، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة ، وأمرهم أن يسألوه من فضله ، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد والبغي بغير الحق. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 9235 - في المطبوعة : " محمد بن الحسن " ، وهو خطأ ، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم : 9229.
(2) انظر تفسير " التمني " فيما سلف 2 : 366.
(3) ولكن هذا باب من القول والتشهي ، قد لج فيه أهل هذا الزمان ، وخلطوا في فهمه خلطًا لا خلاص منه إلا بصدق النية ، وبالفهم الصحيح لطبيعة هذا البشر ، وبالفصل بين ما هو أمان باطلة لا أصل لها من ضرورة ، وبالخروج من ربقة التقليد للأمم الغالبة ، وبالتحرر من أسر الاجتماع الفاسد الذي يضطرب بالأمم اليوم اضطرابًا شديدًا. ولكن أهل ملتنا ، هداهم الله وأصلح شئونهم ، قد انساقوا في طريق الضلالة ، وخلطوا بين ما هو إصلاح لما فسد من أمورهم بالهمة والعقل والحكمة ، وبين ما هو إفساد في صورة إصلاح. وقد غلا القوم وكثرت داعيتهم من ذوي الأحقاد ، الذين قاموا على صحافة زمانهم ، حتى تبلبلت الألسنة ، ومرجت العقول ، وانزلق كثير من الناس مع هؤلاء الدعاة ، حتى صرنا نجد من أهل العلم ، ممن ينتسب إلى الدين ، من يقول في ذلك مقالة يبرأ منها كل ذي دين. وفرق بين أن تحيي أمة رجالا ونساء حياة صحيحة سليمة من الآفات والعاهات والجهالات ، وبين أن تسقط الأمة كل حاجز بين الرجال والنساء ، ويصبح الأمر كله أمر أمان باطلة ، تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق ، كما قال أبو جعفر لله دره ، ولله بلاؤه. فاللهم اهدنا سواء السبيل ، في زمان خانت الألسنة فيه عقولها! وليحذر الذين يخالفون عن أمر الله ، وعن قضائه فيهم ، أن تصيبهم قارعة تذهب بما بقي من آثارهم في هذه الأرض ، كما ذهبت بالذين من قبلهم.

(8/260)


ذكر الأخبار بما ذكرنا :
9236 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل ، قال حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نعطَي الميراث ، ولا نغزو في سبيل الله فنُقتل ؟ فنزلت : " ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض " . (1)
9237 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله : تغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت : " ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتَسَبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن " ، ونزلت : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) [سورة الأحزاب : 35].
9238 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تتمنَّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، يقول : لا يتمنى الرجل يقول : " ليت أنّ لي مالَ فلان وأهلَه " ! فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله.
9239 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، قال : قول النساء : " ليتنا رجالا فنغزو ونبلُغ ما يبلغ الرجال " ! (2)
__________
(1) الحديث : 9236 - سفيان في هذا الإسناد : يجوز أن يكون الثوري ، وأن يكون ابن عيينة. فمؤمل يروي عنهما ، وكلاهما روى هذا الحديث : الثوري في الرواية عقب هذه : 9237 ، وابن عيينة في الرواية : 9241.
وسيأتي تخريج الحديث في : 9241.
(2) في المطبوعة : " ليتنا رجال " بالرفع ، وهو الوجه السائر ، أما المخطوطة ، فقد كتب " رجالا " ، وضبطها بالقلم ضبطًا ، ولذلك أثبتها كما هي في المخطوطة ، و " ليت " تنصب الاسم وترفع الخبر ، وبعض النحويين ينصب الاسمين جميعًا ، وأنشدوا : يا لَيْتَ أَيَامَ الصَّبَا رَوَاجِعَا
وحكى بعض النحويين : أن بعض العرب يستعمل " ليت " ، بمنزلة " وجدت " ، فيعديها إلى مفعولين ، ويجريها مجرى الأفعال ، فيقول : " ليت زيدًا شاخصًا " . فرواية الخبر بالنصب ، صواب كما ترى ، لا معنى لتغييره. ولا يحمل هذا على الخطأ من الناسخ ، فالظاهر أن أبا جعفر أتى بالخبر التالي وفيه : " ليتنا رجال " ، لينبه على هذه الرواية بالنصب. وانظر ص 264 ، تعليق : 1.

(8/261)


9240 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، قولُ النساء يتمنين : " ليتنا رجال فنغزو " ! ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو.
9241 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : أيْ رسول الله ، أتغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصفُ الميراث ؟ فنزلت : " ولا تتمنوا ما فضل الله " . (1)
__________
(1) الحديث : 9241 - هو في تفسير عبد الرزاق ، ص : 41 (مخطوط مصور) ، بهذا الإسناد. وقد سبق بإسنادين آخرين : 9236 ، 9237.
ورواه أحمد في المسند 6 : 322 (حلبي) ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي 4 : 88 ، عن ابن أبي عمر ، عن سفيان. وفيه : " عن مجاهد ، عن أم سلمة : أنها قالت : يغزو الرجال... " ، إلخ.
ورواه الحاكم 2 : 305 - 306 ، من طريق قبيصة بن عقبة ، عن سفيان - وهو الثوري - عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " عن أم سلمة : أنها قالت... " . ورواه الواحدي في أسباب النزول ، ص 110 ، من طريق قتيبة ، عن ابن عيينة - كرواية عبد الرازق هنا ، وأحمد في المسند.
فاختلفت صيغة الرواية عن مجاهد. ففي بعضها : " عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة " . وفي بعضها : " عن مجاهد عن أم سلمة : أنها قالت " .
فالصيغة الأولى ظاهرها الإرسال ، لأن معناها أن مجاهدًا يحكي من قبل نفسه ما قالته أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون مرسلا ، لأنه لم يدرك ذلك.
والصيغة الثانية ظاهرها الاتصال ، لأن معناها أن مجاهدًا يذكر هذا رواية عن أم سلمة. ثم يختلفون أيضًا في وصله دون حجة.
فقد قال الترمذي - بعد روايته " عن مجاهد عن أم سلمة " - : " هذا حديث مرسل. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مرسلا : أن أم سلمة قالت كذا وكذا " .
وقال الحالكم - بعد روايته " عن مجاهد عن أم سلمة " - : " هذا حديث على شرط الشيخين ، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة " . ووافقه الذهبي على تصحيحه ، وأعرض عن تعليله فلم يشر إليه.
وعندي - بما أرى من السياق والقرائن - أن الروايتين بمعنى واحد ، وإنما هو اختلا ، في اللفظ من تصرف الرواة. وكلها بمعنى " مجاهد عن أم سلمة " . فقد ثبت اللفظان من رواية ابن عيينة. وكذا قد ثبتا في رواية الثوري ، هنا في : 9237 ، وفي رواية الحاكم. وقد نقل ابن كثير 2 : 428 ، عن ابن أبي حاتم أنه قال : " وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة ، قالت : قلت : يا رسول الله " .
وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة - بأنه حديث مرسل ، فإنه جزم بلا دليل.
ومجاهد أدرك أم سلمة يقينًا وعاصرها ، فإنه ولد سنة 21 ، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين.
والمعاصرة - من الراوي الثقة - تحمل على الاتصال ، إلا أن يكون الراوي مدلسًا. ولم يزعم أحد أن مجاهدًا مدلس ، إلا كلمة قالها القطب الحلبي في شرح البخاري ، حكاها عنه الحافظ في التهذيب 10 : 44 ، ثم عقب عليها بقوله : " ولم أر من نسبه إلى التدليس " . وقال الحافظ أيضًا في الفتح 6 : 194 ، ردًا على من زعم أن مجاهدًا لم يسمع من عبد الله بن عمرو - : " لكن سماع مجاهد بن عبد الله من عمرو ثابت ، وليس بمدلس " .
فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته. والحمد لله. والحديث ذكره ابن كثير 2 : 428 ، من رواية المسند ، ثم أشار إلى روايات الترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن جرير ، والحاكم.
وذكره السيوطي 2 : 149 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر.

(8/262)


9242 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن شيخ من أهل مكة قوله : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، قال : كان النساء يقلن : " ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال ، ونغزو في سبيل الله " ! فقال الله : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " .
9243 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال : تتمنى مالَ فلان ومال فلان! وما يدريك ؟ لعل هلاكَه في ذلك المال!
9244 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد : أنهما قالا نزلت في أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة. (1)
__________
(1) الأثر : 9244 - ابن كثير 2 : 429 ، والدر المنثور 2 : 149 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(8/263)


9245 - وبه قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : هو الإنسان ، يقول : " وددت أن لي مال فلان " ! قال : " واسألوا الله من فضله " ، وقول النساء : " ليت أنا رجالا فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال " ! (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يتمنَّ بعضكم ما خصّ الله بعضًا من منازل الفضل.
*ذكر من قال ذلك :
9246 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، فإن الرجال قالوا : " نريد أن يكون لنا من الأجر الضعفُ على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران " . وقالت النساء : " نريد أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الرجال ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا " ! فأنزل الله تعالى الآية ، وقال لهم : سلوا الله من فضله ، يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم.
9247 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : نُهيتم عن الأمانيّ ، ودُللتم على ما هو خير منه : " واسألوا الله من فضله " .
9248 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد ،
__________
(1) في المطبوعة : " ليتنا رجال فنغزو " ، على الوجه السائر ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، ولم أغيره ، وهو صواب عند النحاة ، فإنهم يقولون : إن من بعض لغات العرب أن تنصب " أن " الاسم والخبر جميعًا ، قال بذلك أبو عبيد القاسم بن سلام والفراء وابن السيد وابن الطراوة. واستشهدوا بقول الشاعر إذَا الْتَفَّ جِنْحُ اللَّيْلِ ، فَلْتَأْتِ ، وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وانظر التعليق السالف ص : 261 ، تعليق : 2.

(8/264)


عن أيوب قال : كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا قال : قد نهاكم الله عن هذا : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ، ودلكم على خير منه : " واسألوا الله من فضله " .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على هذا التأويل : ولا تتمنوا ، أيها الرجال والنساء ، الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير ، وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب ، ولكن سَلُوا الله من فضله.
* * *
القول في تأويل قوله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا ، من الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية " وللنساء نصيب " من ذلك مثل ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
9249 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن " ، كان أهل الجاهلية لا يورَّثون المرأة شيئًا ولا الصبيَّ شيئًا ، وإنما يجعلون الميراث لمن يَحْترف وينفع ويدفع. (1) فلما نَجَزَ للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه ، (2) وجَعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، قال النساء : " لو
__________
(1) احترف لعياله ، وحرف لعياله : سعى لهم في الكسب وطلب الرزق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2 : 149 " لحق " ، واللام في المخطوطة مائلة. فرأيت أن " لحق " هنا لا معنى لها ، ولم أجدها من قبل في كلام معناه كمعنى هذا الكلام ، واجتهدت قراءتها ، ورجحت أنها " نجز " . يقال : " نجز حاجته " : إذا قضاها وعجلها ، كأنه قال : فلما عجل للمرأة نصيبها وقضاه.

(8/265)


كان جعل أنصباءَنا في الميراث كأنصباء الرجال " ! وقال الرجال : " إنا لنرجو أن نفضَّل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضلنا عليهن في الميراث " ! فأنزل الله : " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " ، يقول : المرأة تُجزى بحسنتها عشر أمثالها ، كما يُجْزى الرجل ، قال الله تعالى : " واسألوا الله من فضله " .
9250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثني أبو ليلى قال ، سمعت أبا حريز يقول : لما نزل : " للذكر مثل حظ الأنثيين " ، قالت النساء : كذلك عليهم نصيبان من الذنوب ، كما لهم نصيبان من الميراث! فأنزل الله : " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " ، يعني الذنوب " واسألوا الله " ، يا معشر النساء " من فضله " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم ، وللنساء نصيب منهم.
*ذكر من قال ذلك :
9251 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " للرجال نصيب مما
__________
(1) الأثر : 9250 - " عبد الرحمن بن أبي حماد " انظر ما سلف عنه برقم : 3109 ، 4077 ، 6691 ، 8431 ، ورواية المثنى عنه.
و " أبو ليلى " هو : " عبد الله بن ميسرة الكوفي " ، ويكنى " أبا إسحاق " ، وقد سلفت ترجمته برقم : 6920.
و " أبو حريز " هو : " عبد الله بن الحسين الأزدي " قاضي سجستان. قال ابن حبان في الثقات : " صدوق " ، وقال ابن أبي عدي : " عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد " . وقال سعيد بن أبي مريم : " كان صاحب قياس ، وليس في الحديث شيء " . مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة : " أبو جرير " ، وهو خطأ ، والمخطوطة غير منقوطة.

(8/266)


اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " ، يعني : ما ترك الوالدان والأقربون : يقول : للذكر مثل حظّ الأنثيين.
9252 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة أو غيره في قوله : " للرجال نصيب مما أكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " ، قال : في الميراث ، كانوا لا يورِّثون النساء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : معناه : للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا فعملوه من خير أو شر ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال.
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال : " تأويله : للرجال نصيب من الميراث ، وللنساء نصيب منه " ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبًا مما اكتسب. وليس الميراث مما اكتسبه الوارث ، وإنما هو مال أورثه الله عن ميّته بغير اكتساب ، وإنما " الكسب " العمل ، و " المكتسب " : المحترف. (1) فغير جائز أن يكون معنى الآية وقد قال الله : " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " : للرجال نصيبٌ مما ورِثوا ، وللنساء نصيب مما ورثن. لأن ذلك لو كان كذلك لقيل : " للرجال نصيب مما لم يكتسبوا ، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن " !!
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكسب " و " الاكتساب " فيما سلف 2 : 273 ، 274 / 3 : 100 ، 101 ، 128 ، 129 / 4 : 449 / 6 : 131 ، 295 / 7 : 327 ، 364.

(8/267)


القول في تأويل قوله : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته. ففضله في هذا الموضع : توفيقه ومعونته كما : - (1)
9253 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال ، حدثنا أبو جعفر النفيلي قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن اشعث ، عن سعيد : " واسألوا الله من فضله " ، قال : العبادة ، ليست من أمر الدنيا.
9254 - حدثنا محمد بن مسلم قال ، حدثني أبو جعفر قال ، حدثنا موسى ، عن ليث قال : " فضله " ، العبادة ، ليسَ من أمر الدنيا. (2)
9255 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هشام ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " واسألوا الله من فضله " ، قال : ليس بعرض الدنيا.
9256 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأسألوا الله من فضله " ، يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم.
9257 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال ، حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل لم يسمه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله من فضله ، فإنه يحب أن يسأل ، وإنّ من أفضل العبادة انتظار الفَرَج. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " الفضل " فيما سلف 2 : 344 / 5 : 164 ، 571 / 6 : 516 / 7 : 299 ، 414.
(2) الأثران : 9253 ، 9254 - " محمد بن مسلم الرازي " ، هو المعروف بابن واره ، واسمه " محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله " ، الحافظ ، كان أحد المتقنين الأمناء ، قالوا : كان ابن مسلم شيئًا عجبًا. وكان أبو زرعة الرازي لا يقوم لأحد ، ولا يجلس أحدًا في مكانه إلا ابن واره. وكان ابن واره فيه بأو شديد وعجب. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 79 ، وتاريخ بغداد 3 : 256.
و " أبو جعفر النفيلي " ، هو : " عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل القضاعي " ، روى له الأئمة. كان حافظًا ، وكان الإمام أحمد إذا رآه يعظمه. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر : 9257 - " حكيم بن جبير الأسدي " ، تكلموا فيه ، قال أحمد : " ضعيف الحديث مضطرب " ، وقال أبو حاتم : " ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، له رأي غير محمود ، نسأل الله السلامة ، غال في التشيع " .
وهذا الأثر رواه الترمذي في كتاب الدعوات : 514 من طريق : بشر بن معاذ العقدي ، عن حماد بن واقد ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، ثم قال الترمذي : " هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث ، وحماد بن واقد ليس بالحافظ. وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح " . وقال ابن كثير في تفسيره 2 : 430 ، ونقل ما قاله الترمذي : " وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب الفرج " .

(8/268)


القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الله كان بما يصلح عباده - فيما قسم لهم من خير ، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا ، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم " عليما " ، يقول : ذا علم. فلا تتمنوا (1) غير الذي قضى لكم ، ولكن عليكم بطاعته ، والتسليم لأمره ، والرضى بقضائه ، ومسألته من فضله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : " ولكلّ جعلنا موالي " ، ولكلكم ، أيها الناس " جعلنا موالي " ، يقول : ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم.
* * *
والعرب تسمي ابن العم " المولى " ، ومنه قول الشاعر : (2)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ولا تتمنوا " ، والجيد ما أثبت.
(2) لم أعرف قائله.

(8/269)


وَمَوْلًى رَمَيْنَا حَوْلَهُ وَهُوَ مُدْغِلٌ... بِأَعْرَاضِنَا وَالْمُنْدِيَاتِ سَرُوعُ (1)
يعني بذلك : وابن عم رمينا حوله ، ومنه قول الفضل بن العباس :
مَهْلا بَنِي عَمِّنَا مَهْلا مَوَالِينَا... لا تُظْهِرُنَّ لَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا (2)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9258 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثنا إدريس قال ، حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ولكل جعلنا موالي " ، قال : ورثة.
9259 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان " ، قال : الموالي ، العصبة ، يعني الورثة.
9260 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " ولكل جعلنا موالي " ، قال : الموالي ، العصبة.
__________
(1) لم أجد البيت في مكان ، وهو في المخطوطة. بأعواضنا والممديات سروع
و " رجل مدغل " : ذو خب مفسد بين الناس. و " المنديات " ، المخزيات ، وأنا بعد ذلك في شك شديد من " بأعراضنا " و " سروع " ، فتركت البيت على حاله حتى أجده ، أو ألتمس له وجهًا صحيحًا. وقوله : " رمينا حوله " ، أي ناضلنا عنه ، ودافعنا ورامينا من حوله من يراميه.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 125 ، والكامل 2 : 279 والمؤتلف والمختلف ، ومعجم الشعراء : 35 ، 310 ، والحماسة 1 : 121 ، والصداقة والصديق : 139 ، واللسان (ولى) وغيرها. وراويتهم. لا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا
وهي أجود الروايتين وأحقهما بمعنى الشعر ، وفي اللسان رواية أخرى لا تقوم.

(8/270)


9261 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد قوله : " ولكل جعلنا موالي " ، قال : هم الأولياء.
9262 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولكل جعلنا موالي " ، يقول : عصبة.
9263 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولكل جعلنا موالي " ، قال : الموالي : أولياء الأب ، أو الأخ ، (1) أو ابن الأخ ، أو غيرهما من العصبة.
9264 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولكل جعلنا موالي " ، أما " موالي " ، فهم أهل الميراث.
9265 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولكل جعلنا موالي " ، قال : الموالي : العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي ، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا ، فقال الله تبارك وتعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ) [سورة الأحزاب : 5] ، فسموا : " الموالي " ، قال : و " المولى " اليوم موليان : مَوْلى يرث ويورث ، فهؤلاء ذوو الأرحام - وموَّلى يورَث ولا يرِث ، فهؤلاء العَتَاقة. (2) وقال : ألا ترون قول زكريا : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) [سورة مريم : 5] ؟ فالموالي ههنا الورثة.
* * *
ويعني بقوله : " مما ترك الوالدان والأقربون " ، مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الأب الأخ " بإسقاط " أو " ، والصواب من المخطوطة.
(2) يقال : " هو مولى عتاقة " ، هو الذي أعتق من الرق ، و " العتاقة " (بفتح العين) مصدر مثل " العتق " (بكسر فسكون) و " عتاق " (بفتح العين). وقوله : " فهؤلاء العتاقة " ، يعني : فهؤلاء موالي العتاقة ، فإن لا يكن قد سقط من الناسخ " موالي " ، فهو مصدر وصف به ، بمعنى فهؤلاء المعتقون.

(8/271)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : ولكلكم ، أيها الناس ، جعلنا عَصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
(1)
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ، بمعنى : والذين عقدت أيمانكم الحلفَ بينكم وبينهم. وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( والذين عاقدت أيمانكم ) ، بمعنى : والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلفَ بينكم وبينهم.
* * *
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة أمصار المسلمين بمعنى واحد.
* * *
وفي دلالة قوله : " أيمانكم " على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف ، مستغنىَّ عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله : " عقدت " ، " عاقدت " . وذلك أن الذين قرأوا ذلك : " عاقدت " ، قالوا : لا يكون عَقْد الحلف إلا من فريقين ، ولا بد لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك. وأغفلوا موضعَ دلالة قوله : " أيمانكم " ، على أن معنى ذلك أيمانكم وأيمانُ المعقود عليهم ، وأن العقد إنما هو صفة للأيمان دون
__________
(1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة : " فآتوهم نصيبهم " في هذا الموضع ، ولا فيما بعده ، فأثبتها في مكانها ، لأنه فسرها بعد في هذا الموضع.

(8/272)


العاقدين الحلف ، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرئ : " عقدت أيمانكم " ، فالكلام محتاج إلى ضمير صفة تقَى الكلام ، (1) حتى يكون الكلام معناه : والذين عقدت لهم أيمانكم ذهابًا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك ، من أن الأيمان معنيٌّ بها أيمان الفريقين.
* * *
وأما " عاقدت أيمانكم " ، فإنه في تأويل : عاقدت أيمانُ هؤلاء أيمانَ هؤلاء ، الحلفَ.
فهما متقاربان في المعنى ، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك : " عقدت أيمانكم " بغير " ألف " ، أصح معنى من قراءة من قرأه : " عاقدت " ، للذي ذكرنا من الدلالة المُغنية في صفة الأيمان بالعقد ، (2) على أنها أيمان الفريقين من الدلالة على ذلك بغيره. (3)
* * *
وأما معنى قوله : " عقدت أيمانكم " ، فإنه : وَصَلت وشَدّت وَوكَّدت
__________
(1) في المطبوعة : " إلى ضمير صلة في الكلام " ، وهو خلط لا معنى له. وأثبت ما في المخطوطة ، وقوله : " ضمير " ، أي : إضمار ، وقد سلف مثل ذلك 1 : 427 ، تعليق : 1 / 2 : 107 ، تعليق : 1. وأما قوله : " صفة " فقد سلف مرارًا أن " الصفة " هي حرف الجر ، و " حروف الصفات " ، هي حروف الجر (انظر 6 : 329 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك) ، والمعنى : إضمار حرف جر.
وأما قوله : " تقى الكلام " فهذا لفظ غم على معناه ، وهو في المخطوطة كما أثبته ، ولعله أراد أن حرف الجر المتعلق بقوله : " عقدت " يقي الجملة من فساد المعنى. ولعل ذلك من قديم عبارتهم ، وإن كنت لا أحققه ، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) في المطبوعة : " من الدلالة على المعنى - في صفة الأيمان بالعقد " وهو باطل المعنى ، وفي المخطوطة : " من الدلالة على المعنية في صفة الأيمان بالعقد " ، والذي لا شك فيه زيادة " على " في هذه العبارة ، وأن قراءتها " المغنية " . وانظر التعليق التالي.
(3) تداخلت مراجع حروف الجر في هذه الجملة ، وأحببت أن ألين سياقها ، فهو يقول : " للذي ذكرنا من الدلالة المغنية في صفة الأيمان بالعقد... من الدلالة على ذلك بغيره " ، فقوله : " من الدلالة " متعلق بقوله : " المغنية " ، يعني أن صفة الأيمان بالعقد ، دلالة على أنها أيمان الفريقين ، وأن هذه الدلالة مغنية من الدلالة على ذلك المعنى بدلالة غيرها.

(8/273)


" أيمانكم " ، يعني : مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضًا (1) " فآتوهم نصيبهم " .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " النصيب " الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضًا في الإسلام. (2)
فقال بعضهم : هو نصيبه من الميراث ، لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون ، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف ، وبمثله في الإسلام ، من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية. ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات.
*ذكر من قال ذلك :
9266 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري في قوله : " والذين عاقدتْ أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا " ، (3) قال : كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ ، فيرث أحدهما الآخر ، فنسخ الله ذلك في " الأنفال " فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة الأنفال : 75]. (4)
9267 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قول الله : " والذين عاقدت أيمانكم " ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " واثق بعضهم بعضًا " ، والسياق يقتضي أن تكون : " بعضكم " ، كما أثبتها.
(2) انظر تفسير " النصيب " فيما سلف 4 : 206 / 6 : 288.
(3) ستأتي القراءة مرة " عاقدت " ومرة " عقدت " في الآثار التالية ، فتركتها كما هي في المخطوطة والمطبوعة ، فإن اختلفتا ، أثبت ما في المخطوطة ، دون إشارة إلى ذلك من فعلي.
(4) أثبت تمام الآية في المخطوطة.

(8/274)


قال : كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه ، وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولىً فورثه.
9268 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، فكان الرجل يعاقد الرجل : أيُّهما مات ورثه الآخر. فأنزل الله : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ) [سورة الأحزاب : 6] ، يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصيةً ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت. وذلك هو المعروف.
9269 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا " ، كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : " دمي دمُك ، وهَدَمي هَدَمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك " . (1) فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في " سورة الأنفال " فقال الله : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) [سورة الأنفال : 6].
9270 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) قولهم : " دمي دمك " ، أي : إن قتلني إنسان طلبت بدمي كما تطلب دم وليك وأخيك. و " الهدم " (بسكون الدال وتحريكها) ، فإذا سكنت الدال ، فمعناه : من هدم لي عزًا وشرفًا فقد هدمه منك ، أو : من أهدر دمي فقد أهدر دمك أو : ما عفوت أنا عنه من الدم ، فعليك أن تعفو عنه. وأما " الهدم " (بفتح الدال) : فأصله : الشيء الذي انهدم ، وهو قريب المعنى من الأول ، ويقال : هو القبر ، أي : أقبر حيث تقبر. يريدون : لا تفارقني ولا أفارقك في الحياة والممات.
وقولهم : " تطلب بي وأطلب بك " ، أي : تطلب الثأر بي ، إذا أصابني مكروه ، وأفعل ذلك بك. و " الباء " هنا بمعنى : السبب ، أي بسببي ومن جراء ما أصابني. وهذه الكلمات كلها توثيق في العهد ، وعقد لازم يوجب على الرجلين أن يتعاونا في الخير والشر ، لا يفارق أحدهما صاحبه في المحنة والبلاء.

(8/275)


معمر ، عن قتادة : " والذين عاقدت أيمانكم " ، قال : كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : " دمي دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك " . (1) فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس ، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث ، وهو السدس ، ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ) .
9271 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، سمعت قتادة يقول ، في قوله : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجلَ في الجاهلية فيقول : " هدمي هدمك ودمي دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك " ، (2) فجعل له السدس من جميع المال ، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في " الأنفال " فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ، فصارت المواريث لذوي الأرحام.
9272 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة قال : هذا حِلْفٌ كان في الجاهلية ، كان الرجل يقول للرجل : " ترثني وأرثك ، وتنصرني وأنصرك ، وتَعْقِل عني وأعقل عنك " . (3)
9273 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، (4) سمعت الضحاك يقول في قوله : " والذين عاقدت أيمانكم " ، كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده : " إن مِتُّ ، فلك مثل ما يرث بعض ولدي " ! وهذا منسوخ.
__________
(1) انظر التعليق السالف.
(2) انظر التعليق السالف.
(3) " العقل " (بفتح فسكون) : الدية. " عقل القتيل عقلا " : أدى ديته. و " عقل عنه " : أدى جنايته ، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه.
(4) في المطبوعة : " عبيد بن سلمان " ، وهو خطأ كثر في هذه المطبوعة ، نبهت عليه مرارًا ، والصواب من المخطوطة ، وهو إسناد دائر في التفسير ، وسأصححه منذ اليوم ثم لا أشير إليه ثانية.

(8/276)


9274 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل فيكون تابعه ، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث ، وبقي تابعه ليس له شيء ، فأنزل الله : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، فكان يعطى من ميراثه ، فأنزل الله بعد ذلك : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) .
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فكان بعضهم يرث بعضًا بتلك المؤاخاة ، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض ، وبقوله : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون " .
*ذكر من قال ذلك :
9275 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثنا إدريس بن يزيد قال ، حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، قال : كان المهاجرون حين قَدِموا المدينة ، يرث المهاجريٌّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. فلما نزلت هذه الآية : " ولكل جعلنا موالي " ، نسخت. (1)
__________
(1) الأثر : 9275 - أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8 : 186) مطولا ، وفرقه الطبري ، فروى بعضه هنا ، وروى سائره برقم : 9277 ، قال الحافظ ابن حجر : " إدريس ، هو ابن يزيد الأودي (بفتح الألف وسكون الواو) والد عبد الله بن إدريس الفقيه الكوفي ، ثقة عندهم ، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ووقع في رواية الطبري عن أبي كريب ، عن أبي أسامة : حدثنا إدريس بن يزيد " ، وقد وقع في رواية البخاري نقص ، سقط منه " فآتوهم نصيبهم " مع أن قوله : " من النصر " متعلق بقوله : " فآتوهم نصيبهم " لا بقوله : " عاقدت " ، وهو وجه الكلام ، واستدركه الحافظ في الفتح من رواية الطبري هذه.

(8/277)


9276 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " والذين عاقدت أيمانكم " ، الذين عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فآتوهم نصيبهم " ، إذا لم يأت رحمٌ تحول بينهم. قال : وهو لا يكون اليوم ، إنما كان في نفر آخىَ بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانقطع ذلك. ولا يكون هذا لأحدٍ إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، كان آخى بين المهاجرين والأنصار ، واليوم لا يؤاخَى بين أحد.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في أهل العقد بالحلف ، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضًا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك ، دون الميراث.
*ذكر من قال ذلك :
9277 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثنا إدريس الأودي قال ، حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والنصيحة والرِّفادة ، ويوصي لهم ، وقد ذهبَ الميراث. (1)
9278 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " والذين عقدت أيمانكم " . قال : كان حلفٌ في الجاهلية ، (2) فأمرُوا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والمشورة
__________
(1) الأثر : 9277 - هو تمام الأثر السالف رقم : 9275 ، وقد سلف التعليق عليه. وقد كان في المخطوطة : " وقد الميراث " بينهما بياض ، أتمته المطبوعة على الصواب من رواية البخاري. وفي البخاري زيادة : " وقد ذهب الميراث ، ويوصى له " .
و " الرفادة " (بكسر الراء) : الإعانة بالعطية والصلة ، ومنه " الرفادة " التي كانت قريش تترافد بها في الجاهلية ، يخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته ، فيجمعون من ذلك مالا عظيما أيام الموسم ، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام الحج. وكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم.
(2) " كان " هنا تامة ، لا اسم لها ولا خبر.

(8/278)


والنصرة ، (1) ولا ميراث.
9279 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من العوْن والنصر والحِلف.
9280 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله الله : " والذين عاقدت أيمانكم " ، قال : كان هذا حلفًا في الجاهلية ، فلما كان الإسلام ، أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة ، ولا ميراث.
9281 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج ، قال ابن جريج : " والذين عاقدت أيمانكم " ، أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدا يقول : هو الحلف : " عقدت أيمانكم " . قال : " فآتوهم نصيبهم " ، قال : النصر.
9282 - حدثني زكريا بن يحيى قال ، حدثنا حجاج ، قال ، ابن جريج ، أخبرني عطاء قال : هو الحلف. قال : " فآتوهم نصيبهم " ، قال : العقل والنصر.
9283 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " والذين عاقدت أيمانكم " ، قال : لهم نصيبهم من النصر والرِّفادة والعقل. (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " من العقل والنصرة والمشورة " ، ولكن المخطوطة وضعت حرف " م " على كل من " النصرة والمشورة " بمعنى تقديم الثاني على الأول. ففعلت ذلك.
و " العقل " : الدية ، كما سلف شرحها قريبًا ص : 276 ، تعليق : 2.
(2) الأثر : 9283 - في المطبوعة : " محمد بن محمد بن عمرو " ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة ، ومع ذلك فهو إسناد كثير الدوران في التفسير ، أقربه : 9239.
وانظر تفسير " العقل " ، و " الرفادة " فيما سلف قريبًا من التعليقات.

(8/279)


9284 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
9285 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " والذين عاقدت أيمانكم " ، قال : هم الحلفاء.
9286 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن خصيف ، عن عكرمة مثله.
9287 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، أما " عقدت أيمانكم " ، فالحلفُ ، كالرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم ، يواسونه بأنفسهم ، (1) فإذا كان لهم حق أو قتال كان مثلهم ، وإذا كان له حق أو نصرة خذلوه. فلما جاء الإسلام سألوا عنه ، وأبى اللهُ إلا أن يشدّده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يزد الإسلام الحُلفاء إلا شدة " .
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون أبناءَ غيرهم في الجاهلية ، فأمروا في الإسلام أنْ يوصوا لهم عند الموت وصيةً. (2)
*ذكر من قال ذلك :
9288 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن المسيَّب : أن الله قال : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ، قال سعيد بن المسيب : إنما نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنَّون
__________
(1) " آساه بنفسه وواساه بنفسه " ، جعله " أسوة له " . أي : مثلا له. ومنها " المواساة " ، وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.
(2) في المطبوعة : " فأمروا بالإسلام " وهي سقيمة ، صوابها من المخطوطة.

(8/280)


رجالا غير أبنائهم ويورِّثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبًا في الوصية ، وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة ، (1) وأبى الله للمدَّعَيْن ميراثًا ممن ادّعاهم وتبنّاهم ، ولكنّ الله جعل لهم نصيبًا في الوصية.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " والذين عقدت أيمانكم " ، قولُ من قال : " والذين عقدت أيمانكم على المحالفة ، وهم الحلفاء " . وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها ، أنّ عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق ، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك.
فإذ كان الله جل ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم ، دون من لم تعقد عقدًا بينهم أيمانهم (2) وكانت مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار ، لم تكن بينهم بأيمانهم ، وكذلك التبني (3) كان معلومًا أن الصواب من القول في ذلك قولُ من قال : " هو الحلف " ، دون غيره ، لما وصفناه من العلة.
* * *
وأما قوله : " فآتوهم نصيبهم " ، فإن أولى التأويلين به ، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت ، وذلك إيتاءُ أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام ، بعضِهم بعضًا أنصباءَهم من النصرة والنصيحة والرأي ، دون الميراث. وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية ، فلم يزدْهُ الإسلام إلا شدة " .
9289 - حدثنا بذلك أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " في ذوي الرحم " ، وهي صواب ، والذي أثبته من المخطوطة صواب أيضًا.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم " ، وصواب قراءتها ما أثبت. ثم قوله بعد : " وكانت مؤاخاة النبي... " معطوف على قوله : " فإذ كان الله... " .
(3) قوله : " كان معلومًا " ، جواب قوله : " فإذ كان الله... " وما عطف عليه.

(8/281)


سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
9290 - وحدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل بن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة. وما يسرني أنّ لي حُمَر النعم ، وأنى نقضتُ الحلف الذي كان في دار الندوة. (2)
9291 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم الضبيّ : أن قيس بن عاصم سألَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال : لا حلف في الإسلام ، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية.
__________
(1) الحديث : 9289 - إسناده صحيح.
ورواه أحمد في المسند : 2911 ، 3046 ، من طريق شريك ، بهذا الإسناد مختصرًا ، ليس فيه قوله " لا حلف في الإسلام " . وهذه الزيادة ثابتة فيه في رواية أبي يعلى. فقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 173. كاملا وقال : " رواه أبو يعلى ، وأحمد باختصار. ورجالهما رجال الصحيح " .
وذكره ابن كثير 2 : 431 - 432 ، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره السيوطي 2 : 151 ، مختصرًا كرواية المسند. وقصر في تخريجه جدًا ، إذ لم ينسبه لغير عبد بن حميد.
(2) الحديث : 9290 - وهذا إسناد آخر ، من وجه آخر - لحديث ابن عباس ، بلفظ أطول من الذي قبله.
وهو إسناد صحيح.
محمد بن عبد الرحمن بن عبيد ، مولى آل طلحة : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 146 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 318.
والزيادة التي هنا - " وما يسرني أن لي حمر النعم " - ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ، حديثًا مستقلا ، 8 : 172 ، وقال : " رواه الطبراني. وفيه مرزوق بن المرزبان ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح " .
وليس إسناد الطبراني أمامي ، حتى أستطيع أن أقول فيه. ولكن إسناد الطبري هنا خلا من ذاك الرجل ، فصح الحديث من هذا الوجه.
وذكره ابن كثير 2 : 432 ، عن هذا الموضع ، ولم يزد.
" حمر النعم " انظر تفسيرها فيما سلف رقم : 9185.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...