اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 3. ومجلد 4. من كتاب:الحيوان :أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

 مجلد 3. ومجلد  4. من كتاب:الحيوان  :أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

مجلد 3.  من كتاب:الحيوان  :أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ :أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

هذا حديثُ أبي الحسن وأمّا بنو مَخْزومِ فيزعُمونَ أنّ ابن أبي رَبيعة لم يَحُلَّ إزارهَ على حَرام قَطُّ وإنما كان يذهب في نسيبه إلى أخلاقِ ابن أبي عَتيق فإنَّ ابن أبي عتيقٍ كان مِن أهل الطَّهارة والعفاف وكان مَن سمعَ كلامَه توهَّم أنَّه من أجرأ الناس على فاحشة وما يُشبِه الذي يقولُ بنو مَخزومٍ مَا ذكروا عن قريش والمهاجرين فإنّهم يقولون : إنّ عمر بن عبد )
اللَّه بن أبي ربيعة إنَّما سُمِّي بعمر بن الخطاب وإنّه ولد ليلةَ ماتَ عمر فلما كان بعد ذلك ذكروا ومثلُ هذا الكلامِ لا يقالُ لمن يُوصف بالعفَّة الثابتة وصية شريح لمعلم ولده ولبُغض المُزاح في لعب الصبيان بالكِلاب واستهتارِهم بها كَتَبَ شريح إلى معلِّمِ ولَدٍ له كان يَدَع الكتَّابَ وَيَلعب بالكلاب : ( تَرَكَ الصَّلاة لأكلبٍ يَلهو بها ** طَلبَ الهِراشِ مع الغُوَاة الرُّجَّسِ )

( وليأتينَّك غادياً بصحيفةٍ ** يَغْدُو بها كصحيفة المتلمِّسِ ) ( فإذا خَلوتَ فعَضَّه بَملاَمَةٍ ** أو عِظّْهً موعِظةَ الأديب الأكيس ) ( وإذا هممت بضرْبهِ فبِدِرَّةٍ ** وإذا ضرَبت بها ثلاثاً فاحْبِس ) ( واعلمْ بأنّك ما فعلت فإنَّه ** مَعَ مَا يُجَرِّعُني أعزُّ الأنفُس ) وهذا الشعر عندنا لأعشى بني سُليم في ابنٍ له وقد رأيتُ ابنه هذا شيخاً كبيراً وهو يقوُل الشعر وله أحَاديثُ كثيرةٌ ُ ظريفة

من دلائل كرم الكلب

وقال صاحب الكلب : ومما يدلُّ على قَدْرِ الكلب كثرةُ ما يجري على ألسنةِ النَّاس من مَدْحِه بالخير والشرّ وبالحمد وبالذمّ حتَّى ذكر في القرآن مَرَّة بالحمد ومرّةً بالذمّ وبمثل ذلك ذكر في الحديث وكذلك في الأشعار والأمثال حتى استعمل في الاشتقاقات وجرى في طريق الفأل والطِّيَرة وفي ذكر الرؤيا والأحلام ومع الجِن والحِنِّ والسِّباع والبهائم فإن كنتم قضيتُمْ عليهِ بالشر وبالنقص وباللؤم وبالسقوطِ لأنَّ ذلك كلَّه قد قيلَ فيه فالذي قِيلَ فيه من الخير أكثرُ ومن الخصال المحمودة أشهر ولَيْسَ شيءٌ أجمعَ لخصال النقص من الخُمول لأنَّ تلك الخصالَ المخاِلفة لذلك تُعطي من النَّباهةِ وتُقيم من الذكر على قَدْرِ المذْكورِ من ذلك وكما لا تكون الخِصال التي تُورث الخمول مورثة للنباهة فكَذلك خِصَال النّباهة في مجانبة الخُمول لأنَّ الملومَ أفضلُ من الخامل

الترجمان بن هريم والحارث بن شريح وسمع الترجمانَ بن هُرَيْم عند يزيد بن عمر بن هبيرة رجلاً يقول : ما جاء الحارث ابن شريح بيوم خَيْر قَطّ قال التَّرجمان : إلا يكنْ جاء بيوم خَير فقد جاء بيوم شَرّ )
سياسة الحزم وبعدُ فأيُّ رئيسٍ كان خيرُهُ محضاً عدِمَ الهْيَبةَ ومَن لم يَعْمَل بإقامة جزاءِ السيئة والحسنة وقتل في موضع القتل وأحْيَا في موضع الإحياء وعَفَا في موضع العفو وعاقبَ في موضع العقوبة ومَنَع ساعةَ المنع وأعطى ساعة الإعطاء خالَفَ الرَّبَّ في تدبيره وظنَّ أن رحمته فوق رحمةِ ربه

وقد قالوا : بعضُ القتل إحياءٌ للجميع وبعضُ العفو إغراء كما أنَّ بعضَ المنع إعطاء ولا خَيْر فيمن كان خيرُهُ محْضاً وشَرٌّ منه مَن كان شرُّه صرفاً ولكن اخلِط الوعدَ بالوعيد والبِشرَ بالعبوس والإعطاء بالمنع والحِلمَ بالإيقاع فإنَّ الناسَ لا يَهابون ولا يصلُحون إلاَّ على الثّواب والعقاب والإطماعِ والإخافة ومن أخافَ ولم يُوقِعْ وعُرِفَ بذلك كانَ كَمَنْ أطمَعَ ولم يُنْجزِ وعُرِف بذلك ومَنْ عُرِف بذلك دخلَ عليه بحسَب ما عُرف منه فخير الخيرِ ما كان ممزُوجاً وشرُّ الشرِّ مَا كانَ صرفاً ولو كانَ النّاس يصلُحون على الخيرِ وحدَه لكَان اللَّه عزَّ وجلَّ أولى بذلك الحكم وفي إطباق جميع الملوك وجميع الأئمةِ في جميع الأقطار وفي جميع الأعصار على استعمال المكروه والمحبوب دليل على أنَّ الصواب فيه دونَ غيره وإذا كان الناس إنما يصلحون على الشِّدَّةِ واللين وعلى العفو والانتقام وعلى البذْل والمنع وعلى الخير والشرِّ عاد بذلك الشرُّ خيراً وذلك المنع إعطاء وذلك المكروه محبوباً وإنَّما الشأنُ في العَوَاقب وفيما يدوم ولا ينقطع وفيما هو أدْوَم ومن الانقطاع أبعَدُ

وقال الشاعر وَهويمدحَ قَوماً : ( وإن توَدَّدتَهمْ لانوا وإن شُهِموا ** كَشَفْتَ أذَمارَ حَرْبٍ غيرَ أغمارِ ) وقال العتبي : ( ولكن بنو خيرٍ وشر كلَيهما ** جمِيعاً ومَعروفٍ ألمَّ وَمْنكرِ )

وقال بَعْضُ من ارتجز يوم جَبَلة : ( أنا الْغُلاَمُ الأعسَرْ ** الخيرُ فيَّ والشرّ ) والشرُّ فيّ أكثرْ وقال عبدُ الملك بن مروان لزُفَر بن الحارث وقد دخل عليه في رجالاتُِ قيس : ألستَ امرأً مِن كندة قال : وما خيرُ مَن لا يُتَّقى حَسَداً ويُدعَى رغبة وقال ثُمامة : الشُّهرة بالشرِّ خيرٌ من أن )
لا أُعرفَ بخير ولا شّر أمارات النباهة وكان يقال : يُستَدَلُّ على نباهة الرَّجل من الماضين بتَبايُنِ الناس فيه وقال : ألا ترى أن عليّاً رضيَ اللَّه تعالى عنه قال : يَهلك فيَّ فئتان : محبٌّ مُفرط ومبغض مُفرط وهذه صفة أنبَهِ الناس وأبعدهِم غايةً في مراتب الدِّين وشرَف الدنيا ألا ترى أن الشاعر يقول :

( أرَى العِلباء كالعِلبا ** ءِ لا حُلوٌ ولا مرُّ ) وقال الآخر : ( عَيَّرتني يا ثكلتْني أمِّي ** أسْود مثل الجُعَل الأحمِّ ) ( ينطَحُ عُرْضَ الجبَلِ الأصمِّ ** ليس بذي القَرْنِ ولا الأجمِّ ) وإذا كان الرجلُ أبرعَ الناس بَراعةً وأظهَرهم فضلاً وأجمعهم لخصال الشرف ثمَّ كانت كلُّ خَصلةٍ مساويةً لأختها في التَّماِم ولم تغِلب عليه خصلة واحدة فإنَّ هذا الرَّجل لا يكادُ يوصف إلاَّ بالسيادة والرياسة خاصّة إذا لم يكن له مسندٌ عما يكون هو الغالب عليه وقالوا فيما يشبِه ما ذكرنا وإن لم يكن هو بعينه قال الشاعر :

( هَيْنون لَيْنُونَ أيسارٌ ذوُو يُسُرٍ ** سُوَّاس مَكرُمَةٍ أبناءُ أيسارِ ) ( مَنْ تَلْقَ مِنهمْ تَقُل لاقَيْتُ سَيِّدهم ** مثلُ النُّجوم التي يسرِي بها الساري ) وقد قال مثل الذي وصَفنا جعفر الضبّيُّ في الفضل بن سهل : أيُّها الأمير أسْكَتني عن وصفك تَساوي أفعالك في السُّؤدد وحيَّرني فيها كثرَةُ عددها فليس إلى ذكر جميعها سبيلِ وإن أردتُ وَصف واحدةٍ اعترضتْ أختها إذْ لم تكن الأُولى أحقَّ بالذكر ولست أصفُها إلاّ بإظهار العَجز عن وَصفها ولذلك قالوا : أحلم من الأحنف وما هو إلاَّ في حلم معاوية وأحلم مِن قَيس بن عاصم ولم يقولوا : أحلمَ من عبد المطَّلب ولاَ هو أحلم من هاشم لأنَّ الحلم خَصلة من خصاله كتمام حلمه فلمَّا كانت خصالهُ متساويةً وخلالُه مشرفة متوازيةِ وكلُّها كان غالباً ظاهراً وقاهراً غامراً سمِّي بأجمعِ الأشياء ولم يُسمّ بالخصلة الْوَاحدة فيستدلَّ بذلك على أنَّها كانت أغلب خصال الخيرِ علَيه .


هجاء السفهاء للأشراف وإذا بلغ السَّيدُ في السُّؤدَدِ الكمالَ حسده من الأشراف من يُظنُّ أنَّه الأحقُّ به وفخرت به )
عشيرته فلا يزال سفيهٌ من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعُه على مرتبةِ سيَّد عشيرتَه فهجاه ومن طلب عيباً وجَدَه فإن لم يجدْ عيباً وجدَ بعضَ ما إذا ذكره وجَد مَن يغلط فيه ويحمله عنه ولذلك هُجِيَ حِصنُ بن حذيفةَ وهُجِيَ زُرارة ابن عُدس وهُجِيَ عبدُ اللَّه بن جُدعان وهجيَ حاجب بن زرارة وإنَّما ذَكَرتُ لك هؤلاء لأنهم من سؤدَدِهم وطاعةِ القبيلة لهم لم يذهبوا فيَمنْ تحت أيديهم من قومِهِمّْ ومن حلفائهم وجيرانهم مَذْهَبَ كُليبِ بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهبَ عيينة بنِ حصن ولا مذهبَ لقيط بن زُرارة ولأنَّ لقيطاً لم يأمر بسحب ضَمْرة بن ضمرة إلاَّ وهو لو بَقي لَجاوز ظلم كليب وتهكم عيينة فإنَّ هؤلاَء وإن كانوا سادةً فقد كانوا يَظلمون وكانوا بين أن يظلموا وبين أن يحتملوا ظلماً ممن ظلمهم ولا بدَّ من الاحتمال كما لا بُدَّ من الانتصار وقد قال عزَّ وجلَّ : وَلَكُمْ في القِصاصِ حَياةٌ وإلى هذا المعنى رجَع قولُ الحكيم الأوَّل : بعضُ القَتلِ إحياءٌ للجميع

حزم السادة وعامَّة هؤلاء السَّادة لم يكنْ شأنهم أن يردُّوا الناسَ إلى أهوائهم وإلى الانسياق لهم بعُنْف السَّوق وبالحَرَبِ في القَوْدِ بل كانوا لا يؤثرون التَّرهيبَ على الترغيب والخشونة على التليين وهم مع ذلك قد هُجُوا بأقبح الهجاءِ ومتى أحبَّ السَّيِّدَ الجامعَ والرئيسَ الكاملَ قومُه أشدَّ الحبِّ وحاطَهمْ عَلى حسب حبه لهم كان بُغْضُ أعدائهم له على حسب حبِّ قومه له هذا إذا لم يَتوثَّب إليه ولم يعترض عليه من بني عمّه وإخوته مَن قد أطمعتْه الحال باللَّحاق به وحَسَدُ الأقاربِ أشدُّ وعداوتُهم على حسب حسدهم وقد قال الأوَّلون : رِضا الناس شيءٌ لا ينال وقد قيل لبعض العرب : مَن السَّيِّدُ فيكم قال الذي إذا أقبل هِبناه وإذا أدْبَرَ اغتبناه وقد قال الأَوَّل : بَغْضَاء السُّوَق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك صعوبة سياسة العوام وليس في الأرض عملٌ أكدّ لأهله من سِياسة العوامّ وقَدْ قال الهذْليُّ يصف صُعوبة السياسة :

( وإن سياسة الأقوامِ فاعلمْ ** لها صَعْدَاءُ مَطلبُها طويل ) ( ودونَ النَّدى في كلِّ قلبٍ ثَنيَّةٌُ ** لها مَصْعَدٌ حَزْنٌ وُمْنحَدرٌ ُ سَهْلُ ) ( ووَدَّ الفتى في كلِّ نيلٍ يُنِيلُه ** إذا ما انقضى لَوْ أنَّ نائله جَزْلُ )
وقال عامر بن الطُّفيل : ( وإنِّي وإنْ كُنتُ ابن سيِّدِ عامرٍ ** وفَارسها المشهور في كلِّ مَوكبِ ) ( فما سوَّدَتني عامر من وراثة ** أبى اللَّه أنْ أسمو بأمٍّ ولا أبِ ) ( ولكنَّني أحمي حِماها وأتَّقي ** أذاها وأرْمي مَن رماها بِمَنْكبِ ) وقال زياد بن ظَبيان لابنه عُبيد اللَّه بن زياد وزياد ٌ يُغرغِر بنفسه :

ألا أُوصي بك الأمير قال : لا قال : ولم قال : إذا لم يكنْ للحي إلاَّ وَصِيَّةُ الميِّت فالحيُّ هو الميِّت وقال آخر في هذا المعنى : والعزُّ لا يأتي بغير تطلُّب وقال بَشامة بن الغَدير في خلاف ذلك وأن يثبت أن يكون منه كان : ( وجَدْت أبي فيهم وَجَدِّي كليهما ** يُطاعُ ويؤتَى أمره وهو مُحْتَبي ) ( فلم أتَعَمَّل للسِّيادة فِيهِمُ ** ولكِنْ أتَتني طائعاً غيرَ مُتْعب ) بحث في السعادة

وقال مَن يخالفه : لا يخلو صاحب البدَن الصَّحيحِ والمال الكثير مِنْ أن يكون بالأُمور عالماً أو يكونَ بها جاهلاً فإن كانَ بها عالماً فعلمُه بها لا يتركه حتَّى يكون له من القول والعَمل على حسب علمه لأنَّ المعرفة لا تكون كعدمها لأنَّها لو كانت موجودة غيرَ عاملة لكانت المعرفة كعدمها وفي القول والعملِ ما أوجبَ النَّباهة وأدنى حالاته أنْ تُخرِجه من حدِّ الخمول ومتى أخرجته من حدِّ الخمول فقد صار معرَّضاً لمن يقدر على سلبه وكما أنَّ المعرفة لا بدَّ لها من عملٍ ولا بدَّ للعمل من أن يكون قولاً أو فعلاً والقول لا يكونُ قولاً إلاَّ وهناك مَقُول له والفعلَ لا يكون فعلاً إلاَّ وهناك مفعول له وفي ذلك ما أخْرَج من الخمول وعُرِف به الفاعل وإذا كانت المعرفةُ هذا عملُها في التنبيه على نفسها فالمالُ الكثيرُ أحقُّ بأنَّ عملَه الدّلالةُ على مكانه والسِّعايةُ على أهله والمالُ أحقُّ بالنميمة وأولى بالشكر وأخدع لصاحبه بل يكون له أشدَّ قهراً ولحيِّه أشدَّ فساداً وإن كانتْ معرفتُه ناقصةً فبقدْر نقصانها يجهل مواضع اللذة وإن كانت تامَّةً فبقدْر تمامها يُنْفَى الخمول ويُجلبُ الذِّكر وبعدُ فليس يَفْهم فضيلة السلامة وحقائق رُشْدِ العافية الذين ليس لهمْ )
من المعرفة إلاَّ الشَّدْو وإلاَّ خلاَق أوساطِ الناس ومتى كان ذلك

كذلك لم يُعرَف المدْخَل الذي من أجله يَكره ذو المال الشُّهرة ومن عَرَفَ ذلك على حقِّهِ وصدقِهِ لم يدَعّه فهمُهُ لذلك حتّى يدلَّ على فهمه وعلى أنَّه لا يفهم هذا الموضعَ حتَّى يفهم كلَّ ما كان في طبقته من العلم وفي أقلَّ مِن ذلك ما يَبين به حاله مِن حال الخامل وشروط الأمانيّ غيرُ شروط جوازِ الأفعال وإمكانِ الأمورِ وليس شيء ألذُّ ولا أسرُّ مِن عِزِّ الأمر والنهي ومن الظَّفرِ بالأعداء ومن عَقْد المنَن في أعناق الرجال والسُّرورِ بالرِّياسة وبثمرة السيادة لأنَّ هذه الأمورَ هي نصيبُ الرُّوح وحَظُّ الذهن وقِسْمُ النَّفس فأَمَّا المطعم والمشرب والمنكح والمشمَّة وكلُّ ما كان من نصيب الحواسّ فقد علمْنا أنَّ كُلَّ ما كانَ أشدَّ نَهَماً وأرغبَ كانَ أتمَّ لوجدانه الطعم وذلك قياسٌ على مواقع الطُّعْم من الجائع والشرابِ من العطشان ولكنَّا إذا ميَّلْنا بين الفضيلة التي مع السُّرور وبين لذّة الطعام وما يُحدِث الشَّره له من ألمِ السهر والالتهاب والقلق وشدَّةِ الكلب رأينا أنََّّ صاحِبَهُ مفضولٌ غيرُ فاضل هذا مَعَ ما يُسَبُّ به ومع حمله له على القبيح وعلى أنّ نعمتَهُ متى زالتْ لم يكن أحدُ أشقى منْهُ هذا مع سرور العالم بما وهَبَ اللَّه لَهُ من السلامة من آفة الشَّرَه ومِن فسادِ الأخلاط .
وبعدُ فلا يخلو صاحبُ الثَّروة والصامتِ الكثيرِ الخاملُ الذكر مِن أن يكونَ ممّن يرَغب في المركب الفارِه والثوب اللينِ والجاريةِ

الحسنةِ والدار الجيّدة والمطْعَم الطيِّب أو يكون ممن لا يرغب في شيءٍ من ذلك فإن كان لا يرغب في هذا النوع كلِّه ولا يعمل في ماله للدَّار الآخرةِ ولا يُعجَب بالأُحدوثة الحسنة ويكونُ ممن لا تعْدو لذّتُهُ أن يكون كثير الصامت فإنّ هذا حمارٌ أو أفسَدُ طبْعاً من الحمار وأجْهَل من الحمار وقدْ رضي أن يكونَ في مَاله أسوأ حالاً من الوكيل وبعدُ فلا بُدَّ للمال الكثير من الحِراسةِ الشَّديدة ومن الخوف عليه فإن أعَملَ الحِراسة له وتَعب في حفظه وَحَسَبَ الخوف خرجَ عليه فضْلٌ فإنْ هو لم يَخَفْ عليهِ ولاَ يكون ذلك في سبيل التوكُّل فهو في طباع الحمار وفي جهْله والذي أوجب لَهُ الخمول ليؤدِّيه إلى سلامة المال لَهُ قَدْ أعْطاهُ من الجهلِ مَا لا يكون مَعَهُ إلاّ مثْلُ مقْدَار لذة البهيمةِ في أكل الخَبَط وإنْ هو ابتاع فُرَّهَ الدواب وفُرَّهَ الخَدم والجَواري واتخذَ الدارَ الجيِّدة والطعَام الطيِّب والثّوب الليّنَ وأشباهَ ذلك فقد دلَّ على مَالِهِ ومَن كانَ كَذلِكَ ثُمَّ ظَهرتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فاشية أو تجارةَ ) مُرْبحة يحتمل مثلَ ذلكَ الذي يظهَر من نفقته وإلا فإنَّه سيُوجَد في اللُّصُوصِ عْند أوَّل مَن يقطع عليْهِ أو مكابرة تكُون أو تَعب يؤخذ لأهله المال العظيم

ولو عنى بقوله الخمول وصحةَ البدنِ والمال فذَهب إلى مقدارٍ من المال مقبولاً ولكن ما لمن كان مالُه لا يجاوز هذا المقدارَ يَتهيَّأ الخمول ولعمري إنّ الخمولَ لَيكونُ في طبقاتٍ كثيرة قال أبو نخيلة : ( شكرتُك إنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ من التّقى ** ومَا كلُّ مَن أقْرَضْتَه نِعْمَةً يَقضِي ) ( فأحييتَ من ذكري وما كان خامِلاً ** ولكنَّ بعض الذكرِ أنبَه من بَعْضِ ) قالوا : ولسقوط الخَامل من عُيون الناس قالت الأعرابَّية لابنها : إذا جلستَ معَ الناسِ فإنْ أحسَنْتَ أنْ تقولَ كما يقولون فَقُلْ وإلاَّ فخالِفْ تُذْكَر

وأمَّا الأصمعيُّ فزعَمَ أنَّها قالت : فخالفْ ولو بأنْ تعلِّقَ في عنُقك أيرَ حمار وليس يقول هذا القولَ إلاَّ مَنْ ليسَ يعرِف شَكَر الغِنى وتقلُّبَ الأموال إلى مَا خُلِقتْ لَهُ وقَطْعَها عُقُلَها وخَلْعَها عُذُرَها وتِيهَ أصحابِها وكثرةَ خُطاهم في حفظِها وستْرها وعجزْهم عن إماتةِ حركتها ومنعها من جميع مَا تُنازع إليه وتحمل عليه ملحة من الملح وقد روينا في المُلحَ أنَّ رجلاً قال لصاحبٍ لهَ : أبُوكَ الذي جهل قدْرَهُ وتعدَّى طَورَه فشقَّ العَصَا وفارَقَ الجماعة لا جَرَمَ لقد هُزِم ثم أُسر ثمَّ قتلَ ثمَّ صُلب قال لَهُ صاحبهُ : دَعْني مِن ذكر هزيمِة أبي ومن أسْرهِ وقتِله وصلبِهِ أبُوكَ هلْ حدَّثَ نفسَه بشيء من هذا قطُّ وليس إلى النَّاس بُعّدُ الهمم وقصَرُها وإنما تجري الهمَمُ بأهلها إلى الغايات على قدر مَا يعرِض لهم من الأسباب ألا تَرى أنّ أبعدَ النَّاس هِمَّة في نفسِه وأشدَّهم تلفتاً إلى المراتب لا تنازعه نفسه إلى طلب الخلافة لأن ذلك يحتاجُ إلى نسب أو إلى أمر قد وُطِّئ لَهُ

بسبب كسبَب طلبِ أوائل الخَوارج الخلافة بالدِّين وحدَه دونَ النَّسب فإن صارَ من الخوارج فقد حدثَ له سببُ إمكانِ الطَّلب أكْدى أم نجح وقد زعمَ ناسٌ من العلماء أنَّ رجالاً خُطِبت للسِّيادة والنَّباهة والطَّاعة في العشيرة .

سلطان الحظ في نباهة القبيلة

وكذلك القبيلة ربَّما سَعِدت بالحظّ وربَّما حظيت بالجَدِّ وإنَّما ذلك على قدر الاتفاق وإنما هو كالمعافَى والمبتلى وإنما ذلك كما قال زهير : ( وَجَدْتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنّْ تُصِبْ ** تُمِتْهُ ومَنْ تُخْطئ يعمَّرْ فيَهْرَمِ )

سلطان الحظ على الآثار الأدبية

وكما تَحْظَى بعض الأشعار وبعض الأمثال وبعضُ الألفاظ دون غيرها ودونَ ما يجرى مجراها أو يكونُ أرفَعَ منها قالوا : وذلك موجودٌ في المرزوق والمحروم وفي المُحارَف

والذي تجوز عليه الصَّدَقَةُ وكم مِن حاذقٍ بصناعته وكثير الجَوَلانَ في تجارته وقد بلغ فَرغانَة مرَّة والأندلس مرة ونقَّب في البلاد وربَع في الآفاق ومن حاذقٍ يُشَاوَر ولا يُستَعْمَل ثمَّ لا تجدهما يَستَبِينان من سُوءِ الحال وكثرة الدَّين ومن صاحب حربٍ منكوب وهو اللَّيثُ على براثنه معَ تمَامِ العزيمةِ وشدَّة الشَّكيمة ونَفَاذ البصيرة ومع المعرفة بالمكيدة والصَّبْر الدَّائمِ على الشدَّة وبَعْدُ فكَمْ مِن بيت شعر قد سار وأجودُ منه مقيمٌ في بطون الدَّفاتر لا تزيده الأيَّامُ إلاَّ خمولاً كما لا تزيد الذي دونَه إلاَّ شُهرةً ورِفعةً وكم من مَثلٍ قد طار به الحظُّ حتَّى عرَفَته الإماءُ ورَوَاه الصِّبيان والنِّساء

أثر الحظ في نباهة الفرسان

وكذلك حظوظ الفُرسان وقد عُرِفتْ شُهرةُ عنترة في العامَّة ونباهة عمرو بن مَعْدِ يكَرب وضَرَبَ الناسُ المثلَ بعبيد اللَّه بن الحُرّ وهم

لا يعرفون بل لم يسمعُوا قطُّ بعتُيَبة بن الحارث بن شهاب ولا بِبسطامِ بن قيس وكان عامرُ بن الطفيل أذكَرَ منهما نسباً ويذكرون عُبيدَ اللَّه بنَ الحُرِّ ولا يعرفونَ شُعبة بن ظُهير ولا زُهيرَ بن ذُؤيب ولا عَبَّادَ بنَ الحصين ويذكرون اللسن والبيان والخطيب ابن القِرِّيَّة ولا يعرفون سَحبانَ وائل والعامَّة لم يصل ذكر هؤلاء إليهم إلاَّ من قِبَل الخاصَّة والخاصَّة لم تَذْكُر هؤلاء دون أولئك فتركَتْ تحصيلَ الأمورِ والموازنَةَ بين الرجال وحكَمتْ بالسَّابق إلى القلب على قدر طباع القلب وهيئته ثمَّ استوت عِلل العامَّة في ذلك وتشابهت والعامَّة والباعَة والأغنياء والسِّفّلةُ كأنَّهم أعذارُ عامٍ واحد وهم

في باطنهم أشدُّ تشابهاً من التوأمين في ظاهرهما وكذلك هم في مقادير العقول وفي الاعتراض والتسرُّع وإن اختلفت الصُّور والنَّغَم والأسْنان والبلدان تشابه طبائع العامّة في كلّ بلدة وفي كل عصر وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ ردَّ قريشٍ ومُشرِكي العَرَبِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولَهُ فذكر ألفاظَهم وجَهْد معانيهم ومقادير هممهم التي كانت في وزن ما يكون من جميع الأمم إلى أنبيائهم فقال : تَشَابَهتْ قُلُوبُهمْ وقال : أَتَواصَوْا بِهِ ثم قال : وَخُضتمْ كالَّذِي خَاضُوا ومثلُ هذا كثير أَلا ترَى أنَّكَ لا تَجدُِ بُدًّا في كلِّ بلدةٍ وفي كلِّ عصر للحاكة من أن يكونوا على مقدارٍ واحد وجهة واحدةٍ من السَّخَط والحمق والغباوة والظلم وكذلك النخَّاسون على طبقاتهم من أصناف ما يبيعون وكذلك السماكون والقَلاّسون وكذلك أصحابُ الخُلقان كلُّهم في كلِّ دهرٍ وفي كلِّ بلدٍ على مثال واحد وعلى جهةٍ واحدَة .
وكلُّ حجَّامٍ في الأرض فهو شديد الاستهتار بالنبيذ وإن اختلفوا في البُلدان والأجناس والأسنان

ولا ترى مسجوناً ولا مَضْروباً عندَ السُّلطان إلاَّ وهُو يقول : إنّي مظلوم ولذلك قال الشاعر : لم يَخلقِ اللَّهُ مَسْجُوناً تسائلُهُ ما بالُ سِجْنك إلاّ قالَ مَظلومُ وليس في الأرض خَصمانِ يتنازعان إلى حاكم إلاّ كلُّ واحدٍ منهمُا يدَّعِي عدمَ الإنصاف )
والظُّلم على صاحبه .

مبالغة الإنسان في تقدير ما ينسب إليه

وليس في الأرض إنسانٌ إلاَّ وهُوَ يطرَب من صوتِ نفسه ويعتريه الغَلطَ في شعرِه وفي ولده إلاّ أنَّ الناس َ في ذلك على طبقاتٍ من الغَلط : فمنهم الغرق المغمور ومنهم من قد نال من الصواب ونال من الخطأ ومنهم من يكون خطؤه مستوراً لكثرة صوابه فما أحسَنَ حالَهُ ما لم يُمتَحَنْ بالكشف ولذلك احتاج العاقل في العُجْبِ بولده وفي استحسان كتبه وشعره من التحفظ والتوقِّى ومن إعادة النظَر والتُّهمة إلى أضعاف ما يحتاج إليه في سائر ذلك

جود حاتم وكعب بن مامة

والعامّة تحكم أنَّ حاتماً أجودُ العرب ولو قَدَّمَتْه على هَرمٍ الجَوادِ لما اعترَضْتَه عليهم ولكنَّ الذي يُحَدَّثُ به عن حاتم لا يبلغ مقدارَ ما رَوَوْهُ عن كعبِ بن مامة لأنَّ كعباً بذَلَ نفسَه في أعطية الكرم وبَذْل المجهود فساوى حاتماً من هذه الوجه وبايَنَه ببذْل المُهجة ونحن نقول : إنَّ الأشعارَ الصحيحة بها المقدارُ الذي يوجبُ اليقين بأنَّ كعباً كان كما وصفوا فلو لم يكن الأمرُ في هذا إلى الجُدود والحظوظ والاتِّفاقات وإلى عللٍ باطنةٍ تجري الأمورُ عليها وفي الغَوصِ عليها وفي مَعرِفتِها بأعيِانها عُسر لَمَا جرت الأمورُ على هذه

المجاري ولو كان الأمرُ فيها مفوَّضاً إلى تقدير الرأي لكان ينبغي لغالب بن صعصعةَ أن يكونَ من المشهورين بالجود دون هرِمٍ وحاتم

كلف العامة بمآثر الجاهلية

فإنْ زعمتَ أنَّ غالباً كان إسلاميًّا وكان حاتمٌ في الجاهلية والناسُ بمآثر العرب في الجاهليَّة أشدُّ كلفاً فقد صدقْت وهذا أيضاً يُنبئك أنَّ الأمور في هذا على خلاف تقدير الرأي وإنَّما تجري في الباطن على نسقٍ قائم وعلى نظر صحيح وعلى تقدير محكم فقد تقدَّم في تَعْبيتهما وتسويتهما مَنْ لا تخفى عليه خافية ولا يفُوتُه شيءٌ ولا يُعجزه وإلاّ فما بالُ أيَّامِ الإسلام ورجالها لم تكنْ أكبرَ في النفوس وأحلَّ في الصدور مِن رجال الجاهليَّة مع قُرب العهد وعِظَم خَطرِ ما ملكوا وكثرة ما جادت به أنفسُهم ومع الإسلام الذي شملهم وجعله اللَّه تعالى أولى بهم من أرحامهم .
ولو أنَّ جميعَ مآثر الجاهليَّة وُزنت به وبما كان في الجماعات اليسيرة من رجالات قريش في الإسلام لأربت هذه عليها أو لكانت مثلها .

دلالة الخلق على الخالق

فليس لقَدْر الكلب والدِّيك في أنفسهما وأثمانهما ومناظرهما ومحلِّهما من صُدور العامَّة أسلفنا هذا الكلام وابتدأنا بهذا القول ولسنا نقِف على أثمانهما من الفضَّة والذَّهب ولا إلى أقدارهما عند الناس وإنما نَتَنَظَّرُ فيما وضع اللَّه عزَّ وجلَّ فيهما من الدَّلالة عليه وعلى إتقان صُنْعه وعلى عجيب تدبيره وعلى لطيفِ حكمته وفيما استخْزنهما من عجائب المعارف وأودعهما من غوامض الأحساس وسخّر لهما من عظام المنافع والمرافق ودلَّ بهما على أنَّ الذي ألبَسهُما ذلك التَّدبيرَ وأودَعَهُمَا تِلك الحكم يجبّ أن يفكَّر فيهما ويعتَبَر بهما ويسبَّح الله عزَّ وجلّ عندهما فغَشَّى ظاهرهما بالبرهان وعمَّ باطنَهما بالحِكم وهيَّج عَلَى النظر فيهما والاعتبار بهما ليعلم كلُّ ذي عقل أنّه لم يَخْلق الخلق سُدًى ولم يترك الصُّور هَمَلاً وليعلموا أنَّ الله عزّ وجلّ لم يَدَع شيئاً غُفْلاً غير موسوم ونثراً غير منظوم وسُدًى غير محفوظ وأنّه لايخطئه من عجيب تقديره ولا يعطله من حلْي تدبيره ولا من زينة الحكم وجلال قدرة البرهان

ثمَّ عمّ ذلك بين الصُّؤابِة والفرَاشة إلى الأفلاك السبعة وما دونَها من الأقاليم السبعة . 4 ( تأويل الآية الكريمة : ويخلق ما لا تعلمون . ) وقد قال تعالى : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد يتَّجه هذا الكلامُ في وجوه : أحدها أنْ تكون ها هنا ضروبٌ من الخلق لا يعلم بمكانهم كثيرٌ من الناس ولابدَّ أن يعرف ذلك الخَلْقُ معنَى نفسه أو )
يعلمه صفْوة جنُودِ الله وملائكته أو تعرِفَه الأنبياء أو يعرِفَه بعضُ الناس لايجوز إلاّ ذلك أو يكون الله عَّز وجلَّ إنما عنى أنّه خلق أسباباً ووهب عِلَلاً وجعل ذلك رِفداً لما يظهرُ لنا ونظاماً وكان بعض المفسِّرين يقول : من أراد أن يعرف معنى قوله : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون فَلْيُوقِدْ ناراً في وسط غَيضه أو في صحراء بريّة ثمّ ينظر إلى ما يغشى النارَ من أصناف الخلق من الحشرات والهمج فإنّه سيرى صُوراً ويَتَعرَّف خلقاً لم يكن يظنُّ أنَّ الله تعالى خلق شيئاً من ذلك العالم وعَلَى أنَّ الخلق الذي يغْشى نارَهُ يختلف عَلَى قدر اختلافِ مواضعِ الغياض والبحار والجبال ويعلم أنَّ مَا لم يبلغه أكثرُ

وأعجب ومَا أردُّ هذا التأويل وإنّه ليدخل عندي في جملةِ مَا تدلُّ عليه الآية ومَنْ لَمْ يَقل ذلك لم يفهَمْ عن ربِّه ولم يفقَهْ في دينه . 4

ديدان الخل والملح

كأنّك لا ترى أنَّ في دِيدانِ الخلِّ والملحِ والدِّيدَانِ التي تتولد في السُّموم إذا عَتقت وعرض لها العفن وهي بَعْدُ قواتل عبرةً وأُعجوبة وأنَّ التفكّر فيها مَشحذةٌ للأذهان ومَنْبَهةٌ لذَوي الغفْلة وتحليلٌ لعقدة البُلْدة وسببٌ لاعتياد الرويّة وانفساح الصدور وعزٌّ في النفوس وحلاوةٌ ُ تقتاتَها الرُّوح وثمرةٌ تغَذِّي العقل وتَرَقٍّ في الغايات الشريفة وتَشَرُّفٌ إلى معرفَة الغايات البعيدة 4

فأرة البيش والسمندل

وكأنّك لا ترى أنَّ في فأرة البيش وفي السمنْدَل آيَةً غربية وصفةً عجيبة وداعيةً إلى التفكُّر وسبباً إلى التعجُّب والتَّعجيب .

4 ( الجُعَل والورد ) وكأنَّك لا ترى أنّ في الجُعَل الذي متى دفنتَه في الورد سكنَتّْ حركته وبطلتْ في رأي العين رُوحُه ومتى أعدْتَه إلى الرَّوث انحلّت عُقدته وعادت حركتُه ورجَع حسُّه أعجَبَ العجَبِ 4

حصول الخلد على رزقه

وأيُّ شيء أعجبُ من الخُلْد وكيف يأتيه رزقه وكيف يهيِّئ الله له ما يقوته وهو أعمى لا يبصر وأصمُّ لا يسمَع وبليدٌ لا يتصرُّف وأبلهُ لا يعرِف ومع ذلك أنّه لا يجوز بابَ جُحره ولا يتكلّف سوى ما يجلبُ إليه رازقُه ورازق غيره وأيُّ شيءٍ أعجبُ من طائرٍ ليس له رزقٌ ُ إلاَّ أن يخلِّل أسنانَ التِّمساح ويكون ذلك له .

4

الطائران العجيبان

وأيُّ شيءٍ أعجبُ من طائرين يراهما الناسُ من أدنى جُدود البحر من شِقِّ البصرة إلى غاية البحر من شِقّ السِّند أحدهما كبيرُ الجُثّة يرتفع في الهواء صُعُداً والآخَر صغير الجثَّةِ يتقلَّب عليه ويعبَث به فلا يزال مرَّةً يرفرِفُ حَولَه ويرتقي على رأسه ومرَّةً يطيرُ عند ذُنابَاهُ ويدخلُ تحتَ جَناحه ويخرُج من بينِ رجليه فلا يزال يغُمُّه ويَكرُبه حتَّى يتّقيه بذرقِهِ فإذا ذَرَق شحا له فاه فلا يخطئ أقصى حلقِه حتَّى كأنّه دحا به في بئر وحتّى كأنَّ ذَرْقَه مِدحاةٌ بيد أُسوار فلا الطائر الصغير يخطئ في التلَقِّي وفي معرفته أنّه لا رزق له إلاّ الذي في ذلك المكان ولا الكبير يخطئ التَّسديد ويعلمُ أنّه لا ينجيه منه إلا أنْ يتّقِيَه بذرّْقِه فإذا أوعى ذلك الذَّرْق واستَوْفى ذلك الرِّزق رجع

شبعانَ ريَّانَ بقُوتِ يومه ومضى الطائرُ الكبير لِطِيَّتِه وأمرهما مشهورٌ وشأنهما ظَاهر لا يمكن دفُعه ولا تُهَمَةُ المخبِرين عنه .

اختلاف بين الحيوان في الطباع

فجعل تعالى وعزَّ بعضَ الوحوش كَسُوباً محتالاً وبعضَ الوحوش متوكِّلاً غيرَ محتال وبعضَ الحشرات يدَّخِر لنفسه رِزْقَ سنَتِه وبَعضاً يتَّكل على الثِّقةِ بأنَّ له كلَّ يوم قَدْرَ كِفايتِهِ رزقاً معَدًّا وأمراً مقطوعاً وَجَعَلَ بعضَ الهمَج يدَّخر وبعضَه يتكَسَّب وبعضَ الذكورة يعُولُ وَلده وبعض الذكورة لا يعرف وَلده وبعضَ الإناث تُخَرِّج ولدها وبَعض الإناث تضيِّع ولدها وتكفلُ وَلدَ غيْرِها وبَعْضَ الأجناس معطوفَةً على كل وَلَد من جنسها وبعض الإناث لا تعرف وَلدَها بعد استغْنَائهِ عنها وبعض الإناث لا تزال تعرِفُه وتعطفُ عليْهِ وبعضَ الإناث تأكلُ وَلدهَا وكذلك بعض الذكُورة وبعضَ الأجناس يُعادي كُلَّ ما يكسر بيضَها أو يأكل أولادَهَا وجعل يُتْمَ بعضِ الحيوان من قِبَل أمَّهاتها وجعل يُتْمَ بعضها من قِبَل آبائها وجعل بعضَها لا يلتمس الولد وإن أتاه الولد وجعل بعضَها مستفرِغَ الهَمِّ في حُبِّ الذَّرءِ والتماس الولدِ وجعل بعضها يُزَاوِج وبعضها لا يزاوِج

ليكون للمتوكل من الناس جهةٌ في توكُّله وللمتكسِّب جهةً في تكسُّبِه وليُحضِرَ افتراق المعاني واختلاف العلل ولمكانِ افتراق المعاني واختلافِ العلل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم : اعقِلْهَا وتَوَكَّلْ وقال لبلال : أَنفِقْ بلاَل ولاتخشَ مِنْ ذي العَرْش إقْلاَلاً .
فافهموا هذا التدبيرَ وتعلَّموا هذه الحكم واعرفوا مداخلَها ومخارجَها ومفرَّقَها ومجموعَها فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يُرَدِّد في كتابه ذِكرَ الاعتبارِ والحثَّ عَلَى التفكير والترغيبَ في النظر وفي التثبُّت والتعرُّف والتوقُّف إلاّ وهو يريد أن تكونوا علماءَ من تلك الجهة حكماءَ من هذه التعبئة .
المعرفة والاستدلال ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى كما أنّه لولا الاستدلال بالأدلة لما كان لوضع الدلالة معنى لولا تمييزُ المضارِّ من المنافع والرديِّ من الجيِّد بالعيون المجعولة لذلك لما جعَل الله عزَّ وجلّ العيونَ المدرِكَةَ والإنسان الحسَّاس إذا كانت الأمور المميَّزة عنده أخذ ما يحتاج إليه وترك ما يستغني عنه وما يَضُرّ أخذه فيأخذ ما يحبُّ ويدَعُ ما يكره ويشكر

على المحبوب ويصبر على المكروه حتى يذكر بالمكروه كيفيَّة العِقاب ويَذكُر بالمحبوب كيفيّة الثواب ويعرفَ بذلك كيفيَّة التضاعيف ويكون ما يغمُّه رادِعاً له وممتَحَناً بالصَّبْر عليه وما يسرُّه باسطاً له ومُمْتَحَناً بالشكر عليه وللعقل في خِلال ذلك مجال وللرأي تقلب وتَنشَقُّ للخواطر أسبابٌ ويتهيّأ لصواب )
الرأي أبواب ولتكون المعارف الحسِّية والوِجدانات الغريزيّة وتمييز الأمور بها إلى ما يتميز عند العقول وتحصره المقاييس وليكون عملُ الدُّنيا سُلَّماً إلى عمل الآخرة وليترَقَّى من مَعْرِفة الحواس إلَى مَعْرِفَةِ العُقول ومن معْرِفَة الروِيّة من غايةٍ إلَى غايةٍ حتَّى لاَ يرضى من العِلم والعَمَل إلاّ بما أدّاه إلَى الثَّواب الدائم ونجَّاه من العِقاب الأليم

ما يحسن الكلب مما لا يحسنه الإنسان

سنذكُرُ طَرَفاً ممَّا أودَعَ الله عزَّ وجلَّ الكلبَ ممَّا لاتحسنُه أنت أيُّها الإنسان مع احتقارِك له وظلمِك إيَّاه وكيف لا تكون تلك الحكمُ لطيفةً وتلك المعاني غَرِيبةً وتلك الأحساسُ دقيقة ونحنُ نَعلم أنَّ أدقَّ الناس حِسّاً وأرقّهُم ذِهناً وأحضَرَهم فَهْماً وأصَحَّهم خاطِراً وأكملَهُمْ تَجْرِبَة وعلماً لَوْ رَامَ الشيء الذي يحسنُه الكلب في كثيرٍ من حالات الكلب لَظَهَر له من عجزِه وخُرْقه وكلال

حدِّه وفَساد حسِّهِ ما لا يعرف بدونه إنَّ الأمور لَم تُقسَم على مقدار رأيه ولا عَلَى مبلغِ عقلِه وتقديره ولا على محبَّتِه وشهوته وأنّ الذي قسم ذلك لا يحتاج إلى المشاورَة والمعاونَة وإلى مكانَفةٍ ومُرافدة ولا إلى تجرِبة ورويّة ونحن ذاكرون من ذلك جملاً إن شاء الله تعالى .

خبرة الكلب في الصيد

اعلم أنَّ الكلب إذا عاين الظِّباءَ قريبةً كانت أو بعيدةً عرف المعْتَلَّ وغير المعْتل وعرَف العَنز من التَّيس وهو إذا أبصرَ القطيعَ لم يقصِد إلاّ قصدَ التَّيس وإنْ علم أنّه أشدُّ حُضراً وأطولُ وثْبةً وأبعدُ شوطاً ويَدَعُ العنز وهو يرى ما فيها من نقصان حُضْرها وقصر قابِ خَطوها ولكنَّه يعلم أنّ التَّيس إذا عدا شوطاً أو شوطين حَقِبَ ببوله .
ما يعرض للحيوان عند الفزع وكلُّ حيوانٍ إذا اشتدَّ فزعه فإنّه يَعرِض له إمَّا سَلَس البول والتقطير وإمَّا الأُسْرُ والحَقَب وكذلك المضروب بالسياط على الأكتاف وبالعصيِّ على الأستاه وما أكثر ما يعتريهم البول والغائط

وكذلك صار بعضُ الفرُسان الأَبطال إذا عايَنَ العدُوّ قطَّرَ إلى أن يذهب عنه لهَولِ الجَنان وإذا حَقِبَ التَّيس لم يستطع البَول مع شدَّة الحُضر ومع النَّفْزِ والزَّمَع ووضع القوائم معاً ورَفعِها مَعاً في أسرَعَ من الطَّرْف فيثقُل عَدْوُهُ ويقصرُ مَدَى خُطاه ويعتريه البُهْر حتَّى يلحقه الكلبُ فيأخذه والعنز من الظِّباء إذا اعتراها البولُ من شدَّه الفزَع لم تجمعه وحذفت به كإيزاغ المَخَاض الضّوارِبِ لسَعَةِ السَّبِيل وسهولةِ المخرج فتصير لذلك أدومَ شَدّاً وأصبرَ على )
المطاولة .
فهذا شيءٌ في طبعِ الكلب معرفتُه دونَ سائر الحيوان . والكلب المجرِّب لا يحتاجُ في ذلك إلى مُعاناةٍ ولا إلى تعلُّم ولا إلى رويّة ولا إلى تكلف قد كفاه ذلك الذي خَلَق العَقل والعاقل والمعقُول والداءَ والدواءَ والمداواةَ والمداوِي وقسَم الأُمور على الحكمة وعلى تمام مصلحة الخليقة .

ذكاء الكلب ومهارته في الاحتيال للصيد

ومن معرفة الكلب أنَّ المُكلِّب يُخرجه إلى الصيد في يومِ الأَرضُ فيه ملبَسة من الجليد ومغشَّاةٌ بالثّلجِ قد تراكم عليها طبقاً عَلَى طبَق

حتَّى طبَّقها واستفاض فيها حتَّى ربَّمَا ضربتْه الريح ببَرْدها فيعود كلُّ طبقٍ منها وكأنّه صفاةٌ ملساء أو صخرةٌ خلْقاء حتى لا يثبت عليها قَدَمٌ ولا خُفٌّ ولا حافر ولا ظِلف إلاَّ بالتثبيت الشديد أو بالجَهْدِ والتَّفريق فيمضي الكلاّبُ بالكلب وهو إنسانٌ عَاقل وصيَّادٌ مجرِّب وهو مع ذلك لا يدري أينَ جُحر الأَرنب من جميعِ بَسائِطِ الأرض ولا موضعَ كُناس ظبيٍ ولا مَكْوِ ثعلب ولا غيرَ ذلك من موَالج وحوشِ الأرضِ فيتخَّرق الكلب بينَ يديه وخَلفَهُ وعن يمينه وشماله ويتشمّمُ ويتبصّر فلا يزال كذلك حتَّى يقِف على أفواه تلك الجِحَرة وحتى يُثير الذي فيها بتنفيس الذي فيها وذلك أن أنفاسها وبُخارَ أجوافهَا وأبدانِها وما يخرج من الحرارة المستكنّةِ في عمق الأرض ممّا يُذيب ما لاقاهَا من فَمِ الجُحْر من الثَّلجِ الجامد حتى يرقَّ ويكاد أن يثقبه وذلك خفيٌّ غامض لا يقع عليه قانص ولا راعٍ ولا قائف ولا فلاّح وليس يقع عليه إلاّ الكلب الصائد الماهر

وعلى أنّ لِلكلب في تَتَبُّع الدُّرَّاج والإصعادِ خَلْفَ الأرانب في الجبل الشاهق من الرِّفق وحسن الاهتداء والتأتِّي ما يخفى مكانه على البيازرة والكلاّبين .

الانتباه الغريزي في الكلب

وقد خبّرني صديقٌ لي أنّه حبس كلباً له في بيتٍ وأغلَقَ دونه الباب في الوقت الذي كان طبَّاخه يرجع فيه من السوق ومعَه اللحم ثمَّ أحدَّ سِكِّيناً بسكين فنبَح الكلب وقَلق ورام فتحَ الباب لتوهمّه أنَّ الطَّبَّاخ قد رجَع من السوق بالوظيفة وهو يحد السِّكِّين ليقطع اللَّحم قال : فلما كان العشيُّ صنَعْنَا به مثلَ ذلك لنتعرَّف حالَه في معرفة الوقت فلم يتحرّك قال : وصنعتُ ذلك بكلبٍ لي آخر فلم يَقْلَقْ إلاّ قلقاً يسيراً فلم يلبث أنْ رجَعَ الطّباخ فصنَع بالسّكِّين مثل صنيعي فقلِق حتَّى رام فتحَ الباب قال فقلت : والله لَئنْ كان عرفَ الوقتَ بالرَّصْد فتحرَّك له فلما لم يشَمَّ ريحَ اللحم عرَف أنَّه ليس بشيء ثمَّ لما سمع صوتَ السِّكِّين

والوقتُ بَعْدُ لم يَذْهب وقد جيء باللحم فشمَّ رِيحَ اللَّحم من المطبخ وهو في البيت أو عرف فَصْل ما بين إحدادِي السِّكِّين وإحدادِ الطباخ إنّ هذا أيضاً لَعَجَب وإنّ اللحمَ ليكون بيني وبينَه الذراعان والثلاث الأذرع فما أجدُ ريحَه إلاّ بَعْدَ أنْ أُدْنِيَه من أنفي وكلُّ ذلك عجب .
ولم أجِدْ أهل سكّة أَصطَفانُوس ودار جاريَةَ وباعَةَ مُرَبَّعَةِ بني مِنْقَرٍ يشُكُّون أنَّ كلباً كان يكونُ في أعلى السكة وكان لايجوز مَحْرَس الحارس أيامَ الأسبوع كلِّه حتَّى إذَا كان يومُ الجمعة أقبلَ قَبْلَ صلاة الغداة من موضعه ذلك إلى باب جاريَة فلا يزال هناكَ مادام على مِعْلاقِ الجزَّار شيءٌ من لحم وباب جاريَة تُنحر عندَه الجُزُر في جميع أيَّام الجمع خاصَّة فكان ذلك لهذا الكلب عادةً ولم يره أحدٌ منهم في ذلك الموضع في سائر الأيَّام حتَّى إذا كان غداةَ الجمعة أَقبَل .
فليس يكونُ مِثلُ هذا إلاّ عن مقداريّةٍ بمقدار ما بين الوقتين ولعلَّ كثيراً من الناس ينتابون بعّض هذه المواضع في يومِ الجمعةِ

إمّا لصلاةٍ وإمّا لغير ذلك فلا يَعْدِمُهُم النِّسيان من أنفسهم والاستذكار بغيرهم وهذا الكلبُ لم ينسَ من نفسه ولا يستذكر بغيره وزعم هؤلاء بأجمعهم أنَّهم تفقَّدوا شأنَ هذا الكلب منذ انتبهوا لصَنيِعه هذا فلم يجِدُوه غادرَ ذلك يوماً واحداً فهذَا هذا . ( قصّة في وفاء الكلب ) ( يُعَرِّدُ عنهُ جارُهُ وشقيقُه ** وينبِش عنه كلْبُهُ وَهْو ضارِبُهْ ) قال أبو عبيدة : قيل ذلك لأنَّ رجلاً خرج إلى الجَبّان ينتظر رِكابَه فأتبعه كلبٌ كان له فضرب الكلبَ وطردَه وكره أن يتبعه ورماه بحجر فأبى الكلبُ إلاّ أن يذهب معه فلما صار إلى الموضع الذي يريد فيه الانتظار ربضَ الكلبُ قريباً منه فبينا هو كذلك إذ أتاهُ أعداءٌ لَهُ يطلبونه

بطائلةٍ لهم عنده وكان معه جار لَهُ وأخوه دِنْياً فأسلماه وهربا عنه فجرح جِراحاتٍ ورُمي بهِ في بئرٍ غيرِ بعيدة القعر ثم حَثَوْا عليه من التراب حتَّى غَطَّى رأسه ثم كُمِّمَ فوقَ رأسِه منه والكلبُ في ذلك يَزجُم ويَهِرُّ فلمَّا انصرفوا أتى رأسَ البئْر فما زال يَعوي وينبث عنه ويحثو التُّرَابَ بيده ويكشف عن رأسه حتى أظهر رأسه فتنفّسَ ورُدَّتْ إليه الرُّوح وقد كاد يموتُ ولم يبق منه إلاّ حُشاشة فبينا هو كذلك إذ مَرّ ناس فأنكروا مكان الكلب ورأوه كأنّه يحفِر عن قبر فنظروا فإذا هم بالرَّجُلِ في تلك الحال فاستشالوه فأخرجوه حيَّاً وحَملوه حتَّى أدَّوه إلى أهله فزعم أنّ ذلك الموضعَ يُدْعَى ببئْر الكلب وهو مُتيامِن عن النَّجف وهذا العملُ يدل عَلَى وَفَاء طبيعي وإلفٍ غريزي ومحاماةٍ شديدة وعلى معرفةٍ وصبرٍ وعلى كرم وشكر وعلى غناءٍ عجيب ومنفعةٍ تفوق المنافع لأَنّ ذلك كلَّه كان من غير تكلف ولا تصنُّعٍ .


وقال مؤمَّل بن خاقان لأعرابيٍّ من بني أسد وقد أكَلَ جَرْوَ كلب : أتأكل لحم الكلب وقد قال الشاعر : ( إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلَدةٍ ** وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه ) أكُلَّ هذا قَرَماً إلى اللحم قال : فأنشأ الأسديُّ يقول : ( وصَبّاً بحظِّ اللَّيثِ طُعْماً وشَهْوَةً ** فسائِل أخا الحَلْفَاءِ إن كنتَ لا تدري )

طلب الأسد للكلب

قال : وذلك لأنَّ الأسَدَ لا يحرِص على شيءٍ من اللُّحمانِ حِرصَه على لحم الكلب وأَمّا العَامَّة فتَزعُم أَنَّ لحُوم الشاءِ أحبُّ اللُّحمانِ إليه قَالُوا : ولذلك يُطيف الأسدُ بجَنَبَاتِ القُرى طلباً لاغترار الكلب لأنَّ وثبة الأسد تُعجِل الكلب عن القيام وهو رابض حتَّى رُبَّما دعاهم ذلك إلى إخراج الكلب من قُراهم إلاّ أنْ يكون بقرب ضِياعهم خنازيرُ فليس حينئذٍ شيءٌ أحبَّ إليهم من أن تكثر الأُسد عندهم وإنَّما يُخرجون عنهم في تلك الحالات الكلاب لأنَّهم يخافونها على ما هو عندهم أنفَسُ

من الكلب وهذه مصلحةٌ في الكلب ولا يكون ذلك إلاّ في القُرى التي بقُربِ الغَيْضَةِ أو المأسَدة .
فزعم لي بعض الدَّهاقِينِ قولاً لا أدري كيف هو ذكر أنَّهم لا يشكُّونَ أنَّه إنَّما يطلبُ الكلبَ لحَنَقه عليه لا من طريقِ أنّ لحمَه أحبُّ اللُّحمان إليه وإنَّ الأسدَ ليَأتي مَناقِع المياه وشطوطَ الأنهار فيأكل السَّراطين والضفادع والرَّق والسلاحف وإنَّه أشرَهُ مِنْ أَنْ يختارَ لحماً على لحم قال : وإنَّما يكون ذلك منه إذا أرادَ المتطرِّفَ من حمير القرية وشائها وسائِر دوابِّها فإذا لَجَّ الكلبُ في النُّباح انتبهوا ونذِروا بالأسَد فكانوا بَيْنَ أن يحصِّنوا أموالَهم وَبينَ أن يهجهجوا به فيرجعَ خائباً فإذا أراد ذلك بدأ بالكلب لأنْ يأمَنْ بذلك الإنذار ثمَّ يستولي على القرية بما فيها فإنَّما يطالب الأسدُ الكلابَ لهذه العلَّة .


من حيل الأسد في الصيد وسمعتُ حديثاً من شُيُوخ مَلاَّحي الموصل وأنا هائب له ورأيتُ الحديثَ يدُور بينهم ويتقبّله جميعُهم وزعموا أنّ الأسدَ رُبَّما جاء إلى قَلس السفينة فيتشبَّث به ليلاً والملاَّحون يمدُّون السفينةَ فلا يشكُّون أنَّ القَلْس قد التفَّ عَلى صخرة أو تعلَّق بِجذْم شجرة ومن عاداتهم أنْ يبعثوا الأوَّل من المدَّادين ليحلّه فإذا رجع إليه الملاّح ليمدّه تمدّد الأسدُ بالأرض ولزِق بها وغمّض عينيه كي لا يُبصَر وبيصُهُما بالليل فإذا قرُب منه وثب عليه فخطفَه فلا يكون للملاّحين همٌّ إلاّ إلقاء أنفُسهم في الماء وعبورَهم إليه وربما أكله إلاّ ما بقيَ منه ورُبما جرَّ ( سلاح الكلب وسلاح الدِّيك ) قالوا : فليس الدِّيك من بابَةِ الكلب لأَنّهُ إنْ ساوَرَهُ قَهَرَهُ قَهْرَاً ذريعاً وسلاحُ الكلب الذي هو في فيه أقوى من صِيصة

الديك التي في رجله وصوته أندَى وأبعَد مَدَى وعينه أيقظ .

دفاع عن الكلب

والكلب يكفي نفسه ويحمي غيره ويعُول أهلَه فيكون لصاحبه غُنمه وليس عليه غُرمه ولَمَا يَرمَحُ الدوابُّ من الناس ولَمَا يَحرن ويجمَع وتنطَح وتقتُل أهلها في يومٍ واحد أكثَرُ ممَّا يكونُ من جميع الكلاب في عام والكبش يَنْطَحُ فيعقِر ويقتل من غير أنْ يُهاج ويُعبَث به والبرذَون يَعضُّ ويرمَح من غير أن يُهاج به ويُعبَث وأنت لا تكادُ ترى كلباً يَعضُّ أحداً إلاّ من تهييج شديد وأكثر ذلك أيضاً إنَّما هو النُّباح والوعيد .

معرفة الكلب صاحبه وفرحه به

والكلب يعرِف وجهَ ربِّه من وجه عبده وأمَتِه ووجهَ الزائر حتَّى ربَّما غاب صاحب الدار حولاً مجرَّماً فإذا أبصرَه قادِماً اعتراه من الفرَح والبصبصة والعُواء الذي يدلُّ على السرور وعلى شدِّة الحنين ما لا يكون فيه شيءٌ فوقه .
وخبَّرني صديقٌ لي قال : كان عندنا جروُ كلب وكان لي خادمٌ لهِجٌ بتقريبه مولعٌ بالإحسان إليه كثيرُ المعاينة له فغاب عن البَصرة أشهراً فقلت لبعضِ مَنْ عِنْدي : أتظنون أنّ فلاناً يعني الكلب يُثبت اليومَ صورةَ فلان يعني خادمَه الغائب وقد فارقَه وهو جرو وقد صار كلباً يشغَر ببوله قالوا : ما نشكُّ أنّه قد نسيَ صورتَه وجميعَ برِّه كان به قال : فبينا أنا جالسٌ في الدار إذ سمعت من قِبَلِ باب الدار نُباحَه فلم أَرَ شِكْلَ نباحه من التأنُّب والتعثيث والتوعّد ورأيت فيه بَصبصةَ

السُّرور وحنين الإلْف ثمَّ لم ألبَث أن رأيتُ الخادمَ طالعاً علينا وإنَّ الكلبَ ليلتَفُّ على ساقيه ويرتفِع إلى فخذيه وينظر في وجهه ويصيح صياحاً يستَبِين فيه الفرحُ ولقد بلَغ من إفراط سُرورهِ أنِّي ظَننتُ أنّه عُرِض ثمَّ كان بعد ذلك يغيب الشَّهرين والثلاثة أوْ يمضي إلى بغدادَ ثم يرجع إلى العسكر بعد أيَّام فأعرف بذلك الضّرْب من البصبصة وبذلك النوع من النُّباح أنَّ الخادمَ قدِم حتَّى قلتُ لبعض من عندي : ينبغي أن يكون فلان قد قدم وهو داخل عليكم مع الكلب وزعم لي أنّه ربَّما أُلْقِيَ لهذا الجرو إلى أن صار كلباً تَامّاً بعضَ الطعام فيأكل منه ما أكل ثم ) يَمضي بالباقي فيخبؤُه وربَّما أُلْقِيَ إليه الشيءُ وهو شَبْعان فيحتمله حتَّى يأتِيَ به بعضَ المخابِئ فيضعه هناك حتّى إذا جاع رجَع إليه فأكله .
وزعم لي غِلماني وغيرُهم من أهل الدَّرب أنَّه كان ينبح على كلِّ راكبٍ يدخل الدرب إلى عراقيب برذونه سائساً كان أو صاحبَ دابّةٍ إلاّ أنّه كان إذا رأى محمدَ بن عبدِ الملكِ داخلاً إلى باب الدربِ أو خارجاً منه لم ينبَحْ البتَّة لا عليه ولا على دابَّته بل كان لا يقف له على الباب ولا على الطريق ولكنَّه يدخل الدِّهليز سريعاً فسألتُ عن ذلك فبلغني

أنه كان إذا أقبل صاحَ به الخادم وأهوَى له بالضَّرب فيدخل الدِّهليز وأنه ما فعل ذلك به إلاّ ثلاثَ مرارٍ حتَّى صار إذا رأى محمَّدَ بنَ عبدِ الملكِ دخل الدِّهليز من تلقاء نفسه فإذا جاوزَ وثب عَلَى عراقيب دوابِّ الشاكريَّة ورأيت هذا الخبرَ عندَهم مشهوراً قال : وكُنَّا إذا تَغَدَّيْنَا دنا من الخِوان فزجرناه مرَّةً أو مرَّتين فكان لا يقرَبُنا لمكان الزَّجر ولا يَبعُدُ عن الخوان لعلَّةِ الطمع فإن ألقينا إليه شيئاً أكلَه ثَمَّ ودنا من أجل ذلك بعضَ الدُّنوِّ فكُنَّا نستظهِرُ عليه فنرمي باللُّقمة فوقَ مَربِضِه بأذرُع فإذا أكلها ازداد في الطّمَع فقرَّبه ذلك من الخِوان ثمَّ يجوز موضعَه الذي كان فيه ولولا ما كنا نقصِد إليه من امتحان ما عندَه ليصيرَ ما يظهرُ لنا حديثاً لكان إطعام الكلب والسِّنّور من الخِوان خطأ من وجوه : أوَّلُهَا أن يكون يصير له به درْبة حتَّى إنَّ منها ما يمدُّ يَده إلى ما على المائدة حتَّى

ربما تناول بفيه ما عليها وربَّما قاء الذي يأكل وهم يَرَونه وربَّما لم يرضَ بذلك حتَّى يعُودَ في قيئه وهذا كله ممَّا لا ينبغي أن يحضُرَهُ الأكل بين أيدي السباع فأمَّا علماءُ الفرسِ والهِند وأطبَّاء اليونانيِّينَ ودُهاةُ العرب وأهلُ التَّجربة من نازِلة الأمصار وحُذّاق المتكلّمين فإنهم يكرهون الأكلَ بين أيْدِي السِّباع يخافون نفوسَها وأعينها لِلَّذي فيها من الشَّرَه والحِرص والطَّلَب والكَلَب ولِمَا يتحلَّلُ عند ذلك من أجوافها من البخار الردِيء وينفصل مِن عيونها من الأُمور المفسِدة التي إذا خالطتْ طباعَ الإنسان نقضَتْه وقد رُوي مثلُ ذلك عن الثَّوري عن سِماك بن حَرْب عن ابن عبّاس أنّه قال على مِنبر البَصرة : إنّ الكلاب من الحِنّ وإنّ الحِنَّ من ضَعَفَةِ الجِنّ فإذا غشِيكم منها شيءٌ فألقوا إليه شيئاً واطردوها فإنّ لها أنفسَ سوء ولذلك كانوا يكرَهون قِيَامَ الخدمِ بالمذَابِّ والأشربةِ على رُؤُوسهمْ وهم يأكلون مخافة النفس والعَين وكانوا يأمرون بإشباعهم قبلَ أنْ

يأكُلوا وكانوا يقولون )
في السِّنَّور والكلب : إمَّا أنْ تطردَه قبل أن تأكلَ وإمَّا أن تشغَلَهُ بشيء يأكله ولو بعظم ورأيتُ بعضَ الحكماء وقد سقطت من يده لقمةٌ فَرَفَعَ رأسه فإذا عينُ غلامٍ له تحدّق نحوَ لقمته وإذا الغلامُ يزدَرِدُ ريقه لتحلُّب فمِه من الشَّهوة وكان ذلك الحكيمُ جيِّدَ اللَّقْم طيِّب الطعام ويضيِّق على غلمانه فيزعمون أنّ نُفوسَ السِّباع وأعينَها في هذا الباب أردأ وأخبَث وبينَ هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العينِ الشيء العجيبَ المستحسَنَ شِرْكَةٌ وقَرَابَة وذلك أنَّهم قالوا : قد رأينا رجالاً ينسب ذلك إليهم ورأيناهم وفيهم من إصابة العَين مقدارٌ من العدد لا نستطيع أن نجعل ذلك النّسَق من باب الاتِّفاق وليس إلى ردِّ الخبر سبيل لتواتره وترادُفِه ولأنّ العِيانَ قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه

العين التي أصابت سهل بن حنيف

وفي الحديث المأثور في العين التي أصابت سَهْل بن حُنيف فأمرَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بالذي أمَرَ وذلك مشهور .

كلام في العين والحسد

قالوا : ولولا فاصل ينفصل من عين المستحسِن إلى بدن المستحسَن حتَّى يكون ذلك الداخلُ عليه هو الناقضَ لقُواهُ لَمَا جاز أن يلقى مكروهاً البتَّة وكيف يلقى المكروه من انساقَ في حَيزه وموضِعه والذي أصابته العين في حيّزه أيضاً وموضعه من غير تماسٍّ ولا تصادُم ولا فاصل ولا عامل لاقى معمولاً فيه ولا يجوز أنْ يكون المعتل بعد صحّته يعتلُّ

من غير معنى بدنُه ولا تنتقض الأخلاط ولا تتزايل إلاّ لأمرٍ يعرِض لأنه حينئذٍ يكونُ ليس بأولى بالانتقاض من جسمٍ آخر وإن جاز للصحيح أنْ يعتلّ من غير حادث جاز للمعتلّ أنْ يبرأ من غير حادث وكذلك القولُ في الحركة والسكون وإذا جاز ذلك كان الغائبُ قياساً على الحاضر الذي لم يدخل عليه شيء من مستحسِن له فإذا كان لابدَّ من معنى قد عَمِل فيه فليس لذلك المعنى وجه إلاّ أن يكونَ انفصل إليه شيء عَمِل فيه وإلاّ فكيف يجوزُ أن يعتلّ من ذاتِ نفسه وهو على سلامتِه وتمام قوّتِه ولم يتغيَّرْ ولم يحدُث عليه مايغيِّره فهو وجسم غائب في السَّلامة من الأعراض سواءٌ وهذا جواب المتكلِّمين الذين يصدِّقون بالعين ويُثبتون الرُّؤيا .
صفة المتكلمين وليس يكونُ المتكلمُ جامعاً لأقطار الكلام متمكِّناً في الصناعة يصلح للرئاسة حتَّى يكون )
الذي يُحسِن من كلام الدِّين في وزن الذي يُحسِن من كلام الفلسفة والعالِمُ عندنا هو الذي يجْمَعهما والصيب هو الذي يجمَع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال ومن زعم أنّ التوحيدَ لا يصلح إلا بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل

عجْزَه على الكلام في التوحيد وكذلك إذا زعمَ أنّ الطبائعَ لا تصحُّ إذا قرنتَها بالتوحيد ومن قال فقد حمل عجزَه على الكلام في الطبائع .
وإنَّما يَيْأس منك الملحد إذا لم يَدْعُكَ التوفُّر على التوحيد إلى بَخس حقوقِ الطبائع لأنّ في رفع أعمالها رفعَ أعيانها وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعْتَ الدّليلَ فقد أبطلتَ المدلول عليه ولعمري إنّ في الجمع بينهما لَبعضَ الشِّدّة . وأنا أعوذُ بالله تعالى أنْ أكون كلّما غَمزَ قناتي باب من الكلام صَعْبُ المدخل نقضْتُ ركناً من أركان مقالتي ومن كان كذلك لم يُنتفَعْ به .

القول في إصابة العين ونحوها

فإن قال قائل : وما بلغ من أمر هذا الفاصِل الذي لا يشعر بِهِ القوم الحضورَ ولا الذي انفصل منه ولا المارّ بينهما ولا المتلقِّي له ببدنِه وليس دونهُ شيء وكيف لم يعْمَلْ في الأقربِ دونَ الأبعد والأقربُ إنسان مثله ولعلَّه أن يكون طبعهُ أشدَّ اجتذاباً للآفات وبعد فكيف يكون شيءٌ يصرَع الصحيحَ ويُضجِع القائم وينقُض القوى ويُمرِض الأصحَّاء ويصدَع الصَّخر ويهشِم العظْم

ويقْتُل الثَّور ويَهدُّ الحمار ويجري في الجَماد مَجراه في النبات ويجري في النَّبات مجراه في الحيوان ويجري في الصّلابة والملاسة جريهُ في الأشياء السخيفة الرِّخوة وهو ممَّا ليس له صدم كصدم الحجر أو غَرْب كغرْب السَّيف أو حدٌّ كحدِّ السِّنان وليس من جنس السمّ فيحمل على نفوذ السُّمّ وليس من جنس الغذاءِ فيُحمل على نفوذ الغِذاء وليس من جنس السِّحر فيقال إنَّ العُمَّار عملوا ذلك من طريق طاعتهم للعزائم فلعلَّ ذلك إنَّما كان شيئاً وافق شيئاً قيل لهم : قد تعلمون كيف مقدارُ سَمِّ الجرَّارة أو سمّ الأفْعى وكيف لو وزنتم الجَرَّارة قبل لسعِها وبعده لوجدتموها على حالٍ واحدة وأنت ترى كيف تفسَخ عْقدَ بدن الفيل وكيف تنقض قوى البعير من غير صدم كصدم الحجر وغربٍ كغرب السَّيف وحدٍّ كَحَدِّ السنان فإنْ قلت : فهل نابُ الأفْعَى وإبرةُ العقرب إلاّ في سبيلِ حدِّ السنان قلنا : إنَّ البعيرَ لو كان إنما يَتَفَسَّخ لطعْن العَقرب بإبرتها لمَا كان ذلك يبلغ منها مقدار النَّخس فقَط ولكنَّه لاَبُدَّ أن يكون )
ذلك

لأحد أمرَين : إمَّا أن تكون العقربُ تمجّ فيه شيئاً من إبرتها فيكون طبع ذلك وإن قلَّ يفسخ الفيلَ والزَّندبيل وإمَّا أن يكون طبعُ ذلك الدَّم إذا لاقاهُ طبعُ ذلك الناب وتلك الإبرة أن يُجمد فيقتل بالإجماد أو يذيب فيقتل بالإذابة فأيَّهما كان فإنَّ الأمرَ فيه على خلاف ما صدَّرتم به المسألة .
ولا تنازعَ بين الأعراب والأعرابُ ناس إنّما وضعوا بيوتَهم وأبنيتهم وسطَ السِّباع والأحناش والهمَج فهم ليس يعبُرون إلاّ بها وليس يعرفون سواها وقد أجمعوا على أنّ الأفْعَى إذا هرِمت فلم تَطعَمْ ولم يبقَ في فمها دم أنَّها تنكز بأنفها وتطعن به ولا تعضُّ بفيها فيبلغ النَّكزُ لها ما كان يبلغ لها قبلَ ذلك اللَّدغُ وهل عندنا في ذلك إلا تكذيبُهم أو الرجوعُ إلى الفاصل الذي أنكرتموه لأنَّ أحداً لا يموت من تلك النّخسة إن كان ليس هناك أكثر من تلك الغمْزة ( كنتم كَمنْ أدخَلَ في جُحْرٍ يداً ** فأخطأ الأفْعَى وَلاَقى الأسودا ) ثم قال : بالشمِّ لا بالسَّمِّ منه أقصدا وقال الآخر :

( أصمَّ ما شمّ من خَضْرَاءَ أيبسها ** أو مسَّ من حجرٍ أوْهَاهُ فانصدعا ) وقد حدَّثَني الأصمعِيُّ بِفَرْق ما بينَ النَّكْز وغيره عند الأعراب وههنا أمثال نضْرُِها وأمور قد عاينْتموها يذلَّلُ بها هذا المعنى عندَكم ويسهُل بها المدخَل قولوا لنا : ما بالُ العجينِ يكون في أقصى الدار ويفلق إنسان بِطِّيخةِ في أدنى الدار فلا يفلح ذلك العجين أبداً ولا يختمر فما ذلك الفاصلُ وكيف تقولون بصدمٍ كان ذلك كصدم الحجر أو بغرب كغرب السيف وكيف لم يعرِض ذلك الفساد في كلِّ معجون هو أقربُ إليه من ذلك العجين وعلى أنَّ نكْز الحيَّةِ التي يصفُه الشُّعَراء بأنَّ المنكوزَ ميِّت لا محالة في سبيل ما حدَّثني به حاذقٌ من حذَّاق الأطباء أنّ رجلاً يضرب الحيَّة مِن دواهي الحيّات بعصاهُ فيموت الضّاربُ لأنهم يرون أنّ شيئاً فَصلَ من الحيَّةِ فجرى فيها حتَّى داخل الضارب فقتله والأطباء أيضاً والنَّصارى

أجْرأ على دفع الرُّؤْيا والعين وهذه الغَرائبِ التي فأمَّا الدُّهريّة فمنكِرةٌ للشياطين والجنِّ والملائكة والرُّؤيا والرُّقى وهم يرون أنَّ أمرَهم لا يتمُّ لهم إلاّ بمشاركةِ أصحاب الجَهالات . )
وقد نجدُ الرجُل ينقف شحم الحنظل وبينه وبين صاحبه مسافة صالحة فيجد في حلقه مَرارة الحنظل وكذلك السُّوس إذا عولجِ بهِ وبينه وبين الإنسانِ مسافة متوسّطة البعد يجِدُ في حلقهِ حلاوة السوس وناقف الحنظل لا تزال عينه تهمُل مادام ينقفه ولذلك قال ابن حُذام قال أبو عبيدة : وهو الذي يقول : ( كأنِّي غداةَ البينِ يومَ تحمَّلوا ** لَدَى سَمُرَاتِ الحيِّ ناقفُ حنْظل ) يخبر عن بكائه ويصِف دُرُورَ دَمعتِه في إثْر الحمول فشبَّه نفسه بناقف الحنظل وقد ذكره امرؤ القيس قي قوله :

( عوجَا على الطّلَلِ القديم لعَلّنا ** نَبْكِي الدِّيارَ كما بكى ابن حمامِ ) ويزُعمون أنّه أوّل مَن بكى في الدِّيار وقد نجِدُ الرَّجُلَ يقطَع البصل أو يُوخِفُ الخَرْدل فتدمع عيناه وينظر الإنسان فيديمُ النّظرَ في العين المحمرة فتعتري عينَه حُمرة والعرب تقول : لَهُو أعدَى من الثُّؤَباء كما تقول : لَهُو أعدى من الجَرَب وذلك أنّ مَن تثاءَب مِراراً وهو تُجاه عينِ إنسان اعترى ذلك الإنسان التثاؤب ورأيت ناساً من الأطباء وهم فلاسفة المتكلِّمين منهم مَعْمر ومحمد بن الجَهْم وإبراهيم بن السِّنْديّ يكرهون ذُنُوَّ الطامثِ من إناءٍ اللبن لتَسُوطه أو تعالجَ منه شيئاً فكأنّهم يرونَ أنَّ لبدَنِها ما دام ذلك العرَضُ يعرِض لها رائحةً لها حِدَّةٌ وبخار غليظ يكون لذلك المَسُوط مُفسِداً .

من أثر العين الحاسدة

ولا تُبْعِدَنَّ هذا من قلبك تباعداً يدعُوك إلى إنكاره وإلى تكذيب أهله فإنْ أبيتَ إلاّ إنكارَ ذلك فما تقول في فَرسٍ تحَصَّن تحتَ صاحبه وهو في وسط موكِبه وغبارُ الموكِب قد حالَ بين استبانةِ بعضهم لبعض وليس في الموكب حِجْر ولا رمَكة فيلتفتُ صاحبُ الحِصان فيرى حجراً أو رمكة على قاب غَرَضٍ أو غَرَضين أو غَلوة أو غلوتين حدِّثني كيف شمَّ هذا الفرس ريحَ تلك الفرسِ الأنثى وما باله يدخل داراً من الدُّورِ وفي الدَّار الأخرى حِجْرٌ فيتحَصَّن مع دخوله من غير معاينة وسَمَاعِ صهيل وهذا الباب سيقع في موضعه إن شاء اللّه تعالى وقال أبو سعيد عبد الملك بن قريب : كان عندنا رجُلان يَعينان الناس فمرَّ أحدهما بحوضٍ من حجارة فقال : تاللّهِ ما رأيتَ كاليوم قطَّ فتطاير الحوض فِلقَين فأخذه أهلُه فضبَّبوه بالحديد فمرَّ عليه ثانيةً فقال : وأبيك لقلَّما أضرَرْتُ

قال : وأمَّا الآخر فإنَّه سمعَ صوتَ بَولٍ من وراء حائط فقال : إنَّك لشَرُّ الشَّخب فقالوا له : إنه فلانٌ ابنك قال : وانقطاع ظهراه قالوا : إنه لا بأسَ عليه قال : لا يبولُ واللَّه بَعْدَها أبداً قال : فما بال حتَّى مات قال الأصمعيّ : ورأيت أنا رجلاً عَيُوناً فدُعيَ عليه فعَوِرَ قال : إذا رأيتُ الشيءَ يُعجبني وجدتُ حرارةً تخرجُ من عَيني قال : وسمع رجلٌ بقرةً تُحلَب فأعجبه صوتُ شَخْبها فقال : أيتَّهن هذه فخافوا عينَه فقالوا : الفلانيّة لأخرى وَرَّوا بها عنها فهلكتا جميعاً : المُوَرَّى بها والمورَّى عنها وقد حَمَل النَّاسُ كما ترى على العين ما لا يجوز وما لا يسوغ في شيء من المجازات وقولُ الذي اعورَّ : إذا رأيتُ الشيءَ يعجبني وجدتُ حرارةً تخرج من عيني مِنْ أعظم الحجج في الفاصل من صاحب العين إلى المعين استطراد لغوي قال : ويقال إنَّ فلاناً لَعَيون : إذا كان يتشوَّف للناس ليصيَبهم بعين ويقال عِنْتُ فْلاَنا أعِينه عيْناً : إذا أصبتَه بعين ورجل مَعين ومعيون : إذا أصيب بالعين وقال عبَّاس بن مِرداس : ( قد كان قومُك يحسِبونكَ سيِّداً ** وإخال أنك سيِّدٌ معَيونُ )

ويقال للعَيون : إنَّه لَنَفُوسٌ وما أنفسَه أي ما أشدَّ عينه وقد أصابته نَفس أو عين .
وأمَّا قول القائل : إنَّ من لؤمِ الكلب وغدرِه أنَّ اللصَّ إذا أراد دارَ أهله أطعَمَ الكلبَ الذي )
يحرسهم قَبْلَ ذلك مِراراً ليلاً ونهاراً ودنا منه ومسح ظهَرهُ حتى يُثبت صورتَه فإذا أتاه ليلاً أسْلمَ إليه الدارَ بما فيها فإن هذا التأويل لا يكونُ إلاّ من نتيجةِ سوءِ الرأي فإنَّ سوءَ الرأي يصوِّر لأهله الباطلَ في صورة الحقِّ وفيه بعضُ الظُّلم للكلب وبعض المعاندة للمحتجّ عن الكلب وقد ثَبتَ للكلب استحقاقُ المدح من

حيثُ أرَادَ أن يهجوَه منه فإن كان الكلبُ بِفرط إلفِه وشكرِه كفَّ عن اللصِّ عندَ ذِكر إحسانه وإثبات صورتِهِ فما أكثرَ منْ يُفْرِط عليه الحياءُ حتَّى ينسب إلى الضَّعف والكرم وحتَّى ينسَب إلى الغفلة ورُبَّما شاب الرَّجُلُ بعضَ الفطنة ببعض التَّغافل ليكون أتَمَّ لكَرمه فإنَّ الفطنة إذا تمَّت منعت من أمورِ كثيرة ما لم يكن الخِيمُ كريماً والعِرْق سليماً . وإنك أيُّها المتأوِّل حينَ تكلِّف الكلبَ مع ما قد عَجَّلَ إليه اللصّ من اللَّطَف والإحسان أنْ يتذكّرَ نعمةً سالفة وأنْ يحترس من خديعة المحسِن إليه مخافة أنْ يكونَ يُريغُ بإكرامه سوءاً لَحسَنُ الرأيِ فيه بعيدُ الغايةِ في تفضيله ولو كان للكلبِ آلة يعرِف بها عواقبَ الأمورِ وحوادثِ الدهور وكان يوازن بينَ عواجلها وأواجلها وكان يعرف مصادرها ومواردَها ويختار أنقص الشرّين وأتمَّ الخيرين ويتَثبَّتُ في الأمور ويخاف العَيب ويأخذ بحجَّةٍ ويُعطي بحجَّة ويعرف الحُجَّة من الشُّبهة والثِّقَةِ من الرّيبة ويتثبَّت في العلَّة ويخاف زَيغ الهوى وسرَف الطبيعة لكانَ من كبارِ المكلَّفين ومن رُؤُوس الممتَحنين .

أختيار الأشياء والموازنة بينها لدى العاقلين

والعادةُ القائمة والنَّسَقُ الذي لا يُتَخَطَّى ولا يغادَرُ والنظامُ الذي لا ينقطع ولا يختلط في ذوي التمكين والاستطاعة وفي ذوي العقول والمعرفة أنَّ أبدانَهم متَّى أحسَّت بأصناف المكروه والمحبوب وازَنوا وقابَلوا وعَايَرُوا وميَّزوا بين أتمِّ الخيرين وأنقص الشرّين ووصلوا كلَّ مضرٍ ة ومنفعة في العاجل بكلِّ مضرَّةٍ ومنفعة في الآجل وتتبعوا مواقعها وتدبَّروا مساقطَها كما يتعرَّفونَ مقاديرَها وأوزانها واختاروا بعدَ ذلك أتمَّ الخيرين وأنْقَصَ الشّرين فأما الشر صرفاً والخير محضاً فإنّهُم لا يتوقّفون عندهما ولا يتكلّفون الموازَنةَ بينهما وإنَّما ينظرون في الممزوج وفي بعض ما يخشى في معارضته ولا يوثقُ بَمَعرّاهُ ومُكَشَّفِه فيحملونه على خلاص الذِّهن كما يحمَل الذّهب على الكير

وأمّا ذوات الطَّبائع المسخَّرة والغريزة المحبولة فإنما تَعمَل من جهة التسخير والتنبيه كالسمّ الذي يقتل بالكَمِّيَّة ولا يغذو وكالغذاء الذي يغذو ويقتل بالمجاوَزة لمقدار الاحتمال وإن )
هيَّأ اللَّه عزَّ وجلّ أصنافَ الحيوان المسخَّرة لدرْك ما لا تبلغه العقولُ اللطيفة بلغَتْه بغير معاناةٍ ولا ومتى تقدَّمتْ إلى الأمور التي يعالجها أهلُ العقول المبسوطة المتمكِّنة بطبائعها المقصورةِ غير المبسوطة لم يمكنْها أن تعرفَ من تلك الطبيعة ما كان موازيّاً لتلك الأمور ببديهةٍ ولا فكرة وإذا كانت كذلك فليس بواجب أن تكون كلَّما أحسنَتْ أمراً أمكنَها أن تُحْسنَ ما كان في وزنه في الغُموض والإلطاف وفي الصَّنعةِ التي لا تمكِنُ إلاّ بحُسن التأتِّي وبِبُعد الرويّة وبمقابلِة الأمورِ بَعضهَا ببعض وهذا الفنُّ لا يُصابُ إلاّ عند من جِهتُه العقل ويمكنُه الاستدلالُ والكفُّ عنه والقطعُ له إذا شاء وإتمامُه إذا شاء وبلوغَ غايته والانصرافُ عنه إلى عَقيبِه من الأفعال ومَنْ جهتُهُ تعرّفُ العِلل ويُمكنُهُ إكراه نفسِهِ على المقاييس والتكلُّف والتأتِّي

ومتى كانت الآلة موجودةً فإنّها تُنبيك على مكانها وإلا كان وجُودها كعدمها وبالحسِّ الغريزيّ تُشعرِ صاحبَها بمكانها لا يحتاج في ذلك إلى تلقِينٍ وإشارة وإلى تعليم وتأديب وإن كان صاحبُ الآلة أحَمقَ من الحبارى وأجهَلَ من العقرب

الإلهام في الحيوان

والعاقل الممكَّن لا يفضلُ في هذا المكان على الأشياء المسخَّرة ولا ينفصل منها في هذا الباب .
وليس عند البهائم والسباع إلاَّ ما صُنعت له ونصبت عليه وأُلهمتّْ معرفَته وكيفيَّةَ تكلُّفِ أسبابِها والتعلُّم لها من تلقاء أنفسها فإذا أحسَنَ العنكبوتُ نسْجَ ثَوِيِّهِ وهو من أعجب العجب لم يحسن عملَ بيت الزنبورِ وإذا صنع النَّحلُ خلاياه مع عجيب الِقسْمة التي فيها لم يحسنْ أن يعملَ مثلَ بيتِ العنكبوت والسُّرْفة التي يقال : أصنَعُ من سُرفة لا تُحسن أن تُبني مثلَ بيتِ الأرَضَة على جفاءِ هذا العمل وغِلظِهِ ودقَّة ذلك العمل ولطافته وليسَ كذلك العاقلُ وصاحبُ التمييز وَمَن مَلك التصرّفَ وخُوِّل الاستطاعة لأنّه يكون ليسَ بنجَّارٍ فيتعلَّم النِّجارة ثمَّ

يبدو له بعدَ الحذقِ الانتقالُ إلى الفِلاحةِ ثمَّ ربّما ملها بعد أن حذَقها وصار إلى التجارة .

أسمح من لافظة

وقال صاحب الكلب : وزعمتَ أنَّ قولهم أسَمحُ مِنْ لافظة أن اللافظة الدِّيك لأنّه يَعَضُّ على الحبَّةِ بطرفَي منْقاره ثمّ يحذفُ بها قُدَّام الدَّجاجة وما رأينا أحداً من العلماء ومِن الذين روَوا هذا المثلَ يقول ذلك والناسُ في هذا المثل رجلان : زعم أحدُهما أنَّ اللافظة العنز لأن العنز ) تَرعى في رَوضةٍ وتأكل من مَعّْلَفها وهي جائعة فيدعوها الراعي وصاحبُها باسِمها إلى الحلْب فتترك ما هي فيه حتى تُنْهَك حلباً وقال الآخر : اللافظة الرَّحَى لأنّها لا تمسك في جَوْفها شيئاً مما صار في بطنها وكيف تكون اللافظة الديكَ وليس لنا أن نلْحِق في هذه الكلمة تاء التأنيث في الأسماء المذَكَّرِة واللافظة مع هاء التأنيث أشبه بالعنز والرّحَى وإنَّما سمَّينا الجملَ راويةً وحاملَ العلمِ راويَةً وعلاَّمة حين احتجَّ أهلُ اللغةِ على ذلك ولم يختلفوا فيه وكَيفَ ولا اختلافَ

بينهم أنّ الديك خارجٌ من هذا التأويل وإنّ اختلافهم بين العنْزِ والرَّحى وبعد فقد زعم ثُمامة بن أشرَس رحمه اللَّه تعالى : أنَّ دِيكَة مَرْو تطرُد الدَّجاج عن الحبِّ وتنزِع الحبَّ من أفواه الدَّجاج وقال صاحب الديك : قولهم : أسَمح من لافظة لا يليق بالرَّحى لأنَّ الرَّحَى صَخْرَةٌ ُ صمَّاء والذي يُخرج ما في بطنها المُدير لها والعربُ إنَّما تمدح بهذه الأسماء الإنسان وما جَرَى مجراه في الوجوه الكثيرة ليكون ذلك مَشحذَةً للأذهانِ وداعيةً إلى السِّباق وبلوغ الغايات وأمَّا ترْك الشَّاة للعلَف فليس بلفظٍ للعلَف إلاّ أنْ يحملوا ذلك على المجازات البعيدة وقد يكون ذلك عند بعض الضَّرورة والشّاة ترضع من خِلْفِها حتَّى تأتي على أقصى لبن في ضرعها وتنثُر العلَفَ وتقلبُ

المِحْلَب وتنطَح من قام عليها وأتاها بغذائها وهي من أمْوَق البهائم وزوجُها شَتيم المحيّا منتِنُ الريح يبولُ في جوف فيهِ وفي حاقّ خياشيمِه وتقول العرب : ماهُو إلاَّ تيسٌ في سفينةٍ إذا أرادوا به الغَبَاوة ومَا هُوَ إلاَّ تيس إذا أرادوا به نتْنَ وَأمرُ الدِّيكِ وشأنهُ وكيْفَ يلفِظُ ما قَد صَارَ في منقاره وكيف يُؤِثرُ به طَرُوقَته مِن ذَاتِ نفسِه شيءُ يراهُ الناسُ ويراه جَميِعُ العباد وهذه المكرمة وهذا الغَزَل وهذا الإيثار شيءٌ يراهُ الناس لم يكنْ في ذَكَرٍ قَطُّ ممَّن يزاوِج إلاَّ الديك والدِّيكُ أحقُّ بهذا المثل فإنْ كنتُم قد صَدَقتم على العرب في تأويل هذا المثل فهذَا غلطٌ ُ من العرب وعصبيَّة للَّبَنِ وعشق للدَّقيق والمثلُ إنَّما يلفِظ به رجلُ من الأعراب وليس الأعرابيُّ بقُدْوةِ

إلاَّ في الجرِّ والنصب والرفع وفي الأسماء وأمَّا غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب فالدِّيك أحقُّ بهذا المثل الذي ذكرنا وسائرِ خصاله الشريفة والذي يدلُّ على أنَّ هذا الفعلَ في الدِّيك إنَّما هو من جهة الغزَل لا غير أنه لا يفعلُ ذلك إذا هرِم وعجَزَ عن السِّفاد وانصرفت رغبتُه عنهنَّ وهو في أيَّام شَبابِه أنْهَمُ وأحَرص على المأكول وأضنُّ على الحَبِّ فما لَهُ لم يُؤْثِرهنّ به عنْدَ زهده ويُؤْثِرهُنَّ عند رغبته وما )
بالُهُ لم يفعل ذلك وهو فرُّوج صغير وصنَع ذلك حِين أطاقَ السفاد فترْكه لذلك في العجز عنهنَّ وبذلُه في أوقات القوة عليهنَّ دليل على الذي قلنا وهذا بَيِّن لا يرُدُّهُ إلاّ جَاهل أو معاند .

دفاع عن الكلب

وقال صاحب الكلب : لسنا نُنكِر خِصالَ الدِّيك ومناقبَه من الأخبارِ المحمودة ولولا ذلك ما ميَّلْنا بينَه وبين الكلب ومَنْ يميِّلُ بين العسَل والخلِّ في وجه الحلاوة والحموضة وكيف يفضل شيءٌ على شيء وليسَ في المفضولِ شيءٌ ُ من الفضل والذي قُلتم من قذْقِه الحبّ قُدَّامَ الدَّجاج صحيح وليس هذا الذي أنكرْنا وإنَّما أنكْرنا

موضعَ المثل الذي صرفتموه إلى حجّتكم وتركتم الذين ما زال الناس يقلِّدونهم في الشاهد والمثل وإن جاز لكم أن تردُّوا عليهم هذا المثلَ جاز لكلِّ مَن كرِهَ مثلاً أو شاهداً أنْ يردَّ عليهم كما رددتمْ وفي ذلك إفْسَادُ أمرِ العَرَبِ كله فإنْ زعمتَ أنّ الديك كانَ أحقَّ به فخصومُك كثير ولسنا نحيط بأوائل كلامهم على أيِّ مقاديرَ كانوا يضعونها ومن أيِّ شيء اشتقُّوها وكيف كان السبب ورُبَّ شيءٍ أنكرنَاهُ فإذا عرفنا سبَبه أقررنَا به وقال أبو الحسن : مر إياسُ بنُ معاوية بديكِ ينقر حبًّا ولا يفرقُهُ فقال : ينبغي أن يكون هذا هرِماً فإنَّ الهرِم إذا أُلقي له الحبُّ لم يفرقْهُ ليجتمع الدجاجُ حولَهُ والهرِم قد فنيتْ رغبتهُ فيهنَّ فليس همَّهُ إلاّ نفسَهُ .
ورووا عنهُ أنّهُ قال : اللافظة الديك الشابُّّ وإنَّهُ يأخذ الحبَّة يؤْثر بها الدَّجاجَ والهرِمُ لا يفعل ذلك وإنَّما هو لافظةٌ ُ مادام شابّاً

وقال صاحب الكلب : وذكر ابن سِيريِنَ عن أبي هُريرة : أن كلباً مرَّ بامرأةٍ وهو يلهَثُ عند بئر فنزعَتْ خُفَّها فسقَتْه فغَفَرَ اللَّه تعالى لها وعنه قال : غفَر اللَّه لبَغِيٍّّ أو لمؤمنة مرّ بها كلبٌ فنزَعت خُفَّها فسقته وقال صاحب الكلب : وقال ابن دَاحَة : ضرب ناسٌ من السُّلطاءِ جاراً لهم ولبَّبوه وسحبوه وجرُّوه وله كلبٌ قد ربَّاه فلم يزَلْ ينبَحُ عليهم ويشقِّق ثيابِهم ولولا أنَّ المضروبَ المسحوبَ كان يكفُّه ويزجُره لقد كان عقَر بعضَهم أو منَعه منهم .
قال إبراهيمُ النَّظَّام : قدَّمتم السِّنَّور على الكلب ورويتم أنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بقتل الكلابِ واستحياءِ السنانير وتقريبِها وتربيتها كقوله عند مسألته عنها : إنَّهُنَّ من الطَّوَّافَاتِ عليكُمْ وكلُّ منفعةٍ عنْدَ السِّنَّوْرِ إنّما هي أكلُ الفأر فقط وعلى أنَّكُم قلَّما تجدون سنّوراً يطلُب الفَأْر فإن كان مما يَطلُبُ ويأكلُ الَفَأرَ لم يعدمكم أن يأكلَ حمَامَكُمْ وفِراخَكُمْ والعَصافَيرَ )
التي يتلهَّى بهَا أولاَدُكُمْ والطائرَ يُتَّخَذُ لِحُسنهِ وحُسنِ صَوْته والذي لاَبُدّ منه الوثوبُ علِى صِغَار الفرارِيج فإنْ هو عفَّ عَن أموالكُمْ لم يَعفّ عَن أموال جيرانكُمْ ومنافع الكلب لاَ يحصيها الطَّوامير والسّنّور مع ذلك يأكل الأوزاغَ والعقارب والخنافيس وبناتِ وَرْدان والحيّات ودخَّالاتِ الآذان والفأرَ والجُرذان وكلَّ خبيثةٍ وكلّ ذاتِ سمّ وكلَّ شيءِ

تعافه النفس ثمَّ قلتم في سؤر السِّنَّور وسؤر الكلب ما قلتم ثمَّ لم ترضوا به حتَّى أضفتموه إلى نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم .
أطيب البهائم أفواها ولا يشُكُّ الناس أنْ ليس في السباع أطيبُ أفواهاً من الكلاب وكذلك كلُّ إنسانٍ سائِل الريق سائِل اللعاب والخُلوف لا يعرض للمجانين الذين تسيلُ أفواههم ومن كان لا يعتريه الخلوف فهو من البخَر أبعَدُ وكمَا أنَّ طولَ انطباق الفم يُورث الخلوف فكَثرةُ تحَلُّبِ الأفواه بالريق تنفي الخُلوف وحتَّى إنّ من سال فُوه من اللعاب فإنَّما قضوا له بالسلامةِ من فيهِ وإن استنكَهوه مع أشباهِهِ وجَدُوه طيِّباً وإن كان لا يقَربُ سِواكاً على الريق وكذلك يقال إن أطيبَ النَّاسِ أفواهاً الزِّنج وإنْ كانت لا تعرفُ سَنُوناً ولا سِواكاً .
على أنّ الكلبَ سبُع وسباعُ الطيرِ وذواتِ الأربع موصوفَةٌ بالبخَر والذي يضْرَب به في ذلك المثل الأسَدُ وقد ذكره الحكَمُ بن عبدل في هِجاَئِهِ محمَّدَ بنَ حسَّان فقال :

( فنكْهَتُه كَنكْهَةِ أخْدرِيٍّ ** شتيمٍ شابِكِ الأنْيَاب ورْدِ ) وقال بشَّار : ( وأَفَسَى من الظَّرْبان في ليلةِ الكَرى ** وأخْلَفُ مِنْ صقرٍ وإنْ كانَ قد طعِمْ ) يهجو بها حمادَ عجْرَد ويقال : ليس في البهائم أطيبُ أفَواهاً من الظباء . ( رضيعٌ ُ مُلَهم ) وزعم علماءُ البَصريِّين وذكر أبو عبيدة النحويُّ وأبو اليقظان سُحيم بن حفص وأبو الحسن المدائني وذكر ذلك عن محمَّدِ بن حفص عن مَسْلمَةَ بن محارب وهو حديثٌ مشهورٌ ُ في مشيخة أصحابنا من البصريِّين أنَّ طَاعوناً جارِفاً جاءَ عَلى أهلِ دار فلم يشكَّ أهلُ تِلك المحَلَّةِ أنَّه لم يَبْقَ فيها صَغيرٌ ولا كبير وقد كان فيها صَبِيٌّ يرتضع ويحبو ولا يقوم على رجليهِ فعمَد مَن بقي من المطعونين من أهل تلك المحَلَّةِ إلى باب تلك الدار فسدَّهُ فلمَّا كان بعد ذلك بأشهرُ )
تحوَّل فيها بعضُ وَرَثَةِ القوم ففتح البابَ فلمَّا أفضَى إلى عَرْصة الدّار إذا هو بصِبيٍّ يلعبُ مع

أجراء كلبةِ وقد كاَنت لأَهل الدار فراعَهُ ذلك فلم يلبَثْ أَنْ أقبلتْ كلبةٌ كانت لأهل الدار فلمَّا رآها الصبيُّ حبا إليها فأمكنتْه من أطبائها فمصَّها فَظَنُّوا أنّ الصّبيّ لما بقي في الدارِ وصارَ منسِيًّا واشتدَّ جوعُهُ ورأى أجراءَها تستقي من أطبائها حَبا إليها فعطفت عليه فلمَّا سقَتْهُ مرَّةً أدامتْ ذلك لَهُ وأَدَامَ هو الطلب .
والذي أَلَهَم هذا المَوْلودَ مَصَّ إبهامه سَاعَةَ يُولَدُ من بطن أُمّهِ ولم يعرف كيفيَّةَ الارتضاع هو الذي هداه إلى الارتضاع منْ أطباءِ الكلبةِ وَلَوْ لم تكُن الهدايَةُ شيئاً مجعولاً في طبيعته لما مَصَّ الإبهامَ وحلمَةََ الثّدْي فلمّا أفرط عليهِ الجوعُ واشتدَّت حالُهُ وطلبَتْ نفْسُهُ وتلك الطبيعةُ فيهِ دعَتْهُ تلك الطبيعة وتلكَ المَعْرِفَهُ إلى الطلب والدنوّ فسبحانَ مَنْ دبَّرَ هذا وألهمه وسَوّاهُ ودلَّ إلهام الحمام ومثلُ هذا الحديث ما خُبِّر به عن بابويه صاحب الحمام ولو سمعت قصَصه في كتاب اللُّصوص علمتَ أَنَّه بعيدٌُ من الكذب والتزيد وقد رأيته وجالسته ولم أسمعْ هذا الحديثَ منه ولكنْ حدَّثني به شيخٌ من مشايخ البصرة ومن النُّزول بحضرة مسجد محمد بن رَغبان وقال بابويه : كان عندي زوجُ حمامٍ مقصوص وزوجُ حمام طيّار

وفرخانِ من فراخ الزَّوج الطيار قال : وكان في الغُرفة ثَقْبٌ ُ في أعلاها وقد كنتُ جعلت قُدَّام الكَوَّة رفًّا ليكون مَسقطاً لما يدخلُ ويخرج من الحمام فتقدَّمتُ في ذلك مخافةَ أن يعرض لي عارضٌ فلا يكون للطَّيار منفذ للتكسُّب ولورود الماء فبينَا أنا كذلك إذْ جاءني رسولُ السلطان فوضَعَني في الحبس فنسِيت قدْر الزَّوج الطيَّار والفرخين وما لهما من الثمن وما فيهما من الكرم ومتُّ من رَحمةِ الزَّوْج المقصوص وشغلني الاهتمامُ بهما عن كثير مما أنا فيه فقلت : أمَّا الزَّوْجُ الطيَّارُ فإنَّهما يخرجان ويرجِعان ويزُقّان ولعلَّهما أن يَسْلَما ولعلَّهما أن يذهبا وقد كنتُ ربَّيتهما حتى تحصَّنا ووَرَّدَا فإذا شبَّ الفرخان ونهضا مع أبويهما وسقطا على المعلاة فإمّا أن يثبُتا وإمَّا أنْ يذهبا ولكنْ كيفَ يكونُ حَالُ المقصوصَيْنِ ومَنْ أسوأُ حالاً منهما فَخُلِّي سَبِيلي بَعْدَ شهر فلم يكن لي همٌّ إلاَّ النَّظَر إلى ما خلَّفت خلْفي من الحمام وإذا الفرخان قد ثَبتَا وإذا الزَّوْجَانِ قد ثبتا وإذا الزَّوجان الطيَّاران ثبتا على حالهما إلاّ أنِّي رأيتهما زاقَّين إذ علامةُ ذلك في موضع الغَبَبِ وفي القِرطِمتَين وفي أصولِ المناقير وفي عيونهما فقلت : فكيف يكونان زاقَّين مع استغناءِ فرخَيهما )
عنهما ولا أشكُّ في موت المقصوصين ثمَّ دخلتُ الغرفة فإذا هما على

أفضلِ حال فاشتدَّ تعجُّبي من ذلك فلم ألبَثْ أن دَنَوا إلى أفواه الزَّوج الكبار يصنعان كما يصنع الفرْخ في طلب الزَّقِّ ورأيتهما حين زقَّاهما فإذا هما لما اشتدّ جوعُهما وكانا يريانهما يزقّان الفَرخَين وَيَريانِ الفرخَين كيفَ يستطعمان ويستَزِقَّانِ حملَهُما الجوعُ وحبُّ العيش وَتَلَهُّبُ العطش وما في طبعِهما من الهدايَةِ على أَنْ طلبا مَا يطلَبُ الفرْخُ فَزَقّاهما ثم صار الزَّقُّ عادةً في الطيَّار والاستطعَامُ عادةً في المقصوص .
من عجائب الحمام ومِن الحمام حمامٌ يزُقُّ فراخه ولا يزقُّ شيئاً من فِراخ غيره وإن دنا منه مع فراخهِ فرخٌ مِنْ فراخ غيره وشاكَلَ فرخيه في السِّنِّ واللَّون طردهما ولم يزقَّهما ومن الحمام ما يزقُّ كلَّ فرخٍِ دنا منه كما أنَّ من الحمام حماماً لا يزُقُّ فراخَه البتّةَ حتَّى يموت وإنَّما تعظُم البليّة ُّ على الفَرخ إذا كان الأبُ هو الذي لا يزقّ لأنَّ الوِلادةَ وعامَّة الحضْن والكَفْل على الأمّ فإذا ظهر الولد فعامَّةُ الزَّقِّ على الأب كأنه صاحب العِيال والكاسِب عليهم وكالأمِّ التي تلد وتُرضِع .


وأعجبُ من هذا الطائرُ الذي يقال له كاسر العظام فإنّه يبْلغُ من بِرِّ الفراخِ كلِّها بعد القيَامِ بشأن فراخ نفسه أنّهُ يتعاهد فرخَ العُقَاب الثالث الذي تخرجه من عُشِّها لأنَّها أشرَهُ وأرغَبُ بَطناً وأقسى قلباً وأسوأُ خُلقاً مِنْ أنَ تحتَمِلَ إطْعامَ ثلاثَة وهي مَعَ ذلك سريعة الجَزع فتخرج ما فَضَلَ عن فرخين فإذا أخرجتْه قبله كاسرُ العِظام وأطْعَمهُ لأنْ العُقابَ من اللائي تبيض ثلاثَ بيضات في أكَثر حالاتها .
دفاع أسدي عن أكل قومه لحوم الكلاب قال : وعُيِّر رجلٌ من بني أسدِ بأكل لحوم الكلاب وذَهبَ إلى قوله : يا فَقْعَسِيُّ لمْ أكلته لِمهْ

لو خافكَ اللّهُ عليهِ حَرَّمهْ فَما أكَلتَ لحمَهُ ولا دَمَهْ قال : فقال الأَعرابي : أمَا علِمت أنْ الشِّدَة والشجاعة والبأْسَ والقوة من الحيوان في ثلاثَةِ أصنافٍ : العقاب في الهواء والتمساح في ساكن الماء والأَسَد في ساكن الغياض وليس في الأرض لحمٌ أشهى إلى التمساح ولا إلى الأَسد من لحم الكلب فإن شئتمْ فعُدُّوه عدُوًّا لهما )
فإنّهُما يأكلانِهِ من طريق الغَيظ وطلب الثأر وإن شئتم فقولوا غيرذلك .
وبنو أسَدٍ أُسْد الغياض وأشبهُ شيءِ بالأسد فلذلك تشتهي من اللُّحمان أشهاها إلى الأَسد والدَّليلُ على أنّهُمْ أُسْد وفي طباعِ الأُسْد أنّكَ لو أحصَيْتَ جميعَ القتلى من سادات العرب ومِنْ فُرسانهم لَوَجْدَت شَطْرَها أو قَريباً من شَطرها لبني أسد .

أنفة الكلب

قالوا : ثمَّ بعدَ ذلك كلِّه أنَّ الكلبَ لا يرضى بالنوم والرُّبوض على بياض الطريق وعلى عَفَرِ التراب وهو يرى ظَهْر البِساط ولا يرضَى بالبِساط وهو يجد الوِسادة ولا يرضى بالمطارح دون مرافق المطارح فمن نُبْله في نفسه أن يتخيَّر أبداً أنبلَ موضِع في المجلس وحيثُ يدَعُه ربُّ المجلس صيانةً له وإبقاء عليه إلاَّ أن يتصدَّر فيه منْ لا يجوز إلاَّ أنْ يكون صدراً فلا يقصِّر الكلب دونَ أن يرقَى عليه وقد كان في حُجج معاوية في اتخاذ المقصورة بعد ضرب البُرَك إيّاه بالسيف أنّه أبصرَ كلباً على منبره .
هذا على ما طُبع عليه من إكرام الرَّجُل الجميل اللباس حتَّى لا ينبحُ عليه إن دنا من باب أهله مع الوُثوب على كل أسوَد وعلى كلِّ رثِّ الهيئة وعلى كلِّ سفيهٍ تشبهُ حالُه حالَ أهل الرِّيبة

ومِن كِبْره وشدَّة تجبُّره وفَرْط حمِيَّته وأنفته واحتقاره أنْه متى نبح على رجُلٍ في الليل ولم يمْنعه حارسٌ ولم يمكنه الفوت فدواؤه عند الرجل أنّه لا ينجيه منه إلاَّ أن يقعُدَ بين يديه مستخزياً مستسلماً وأنّه إذا رآه في تلك الحال دنا منهُ فشَغرَ عليه ولم يَهجْه كأنَّه حينَ ظفر به ورآه تحت قدرته رأى أنْ يسِمَه بميسَمِ ذُلٍّ كما كانت العربُ تجزُّ نواصِيَ الأسرى من الفُرسان إذا رامت أنْ تخلِّيَ سبيلَها وتمنَّ عليها ولو كَفَّ العربيُّ عن جزِّ ناصيته لوسَمَه الأسْيَرُ من الشِّعر والقوافي الخالداتِ البواقي التي هي أبقى من المِيسَم بما هو أضرُّ عليه من جَزِّ ناصيتِه ولعلَّهُ لا يبلُغُ أهلَه حتَّى تستويَ مع سائر شعرِ رأسه ولكنَّ ذُلَّ الجزِّ لا يزال يلُوح في وجهه ولايزال له أثرٌ في قلبه .

تقدير مطرف للكلب

وذُكر أنَّ مُطرِّف بن عبد اللَّه كان يكره أنْ يقال للكلب اخسأ وما أشبه ذلك وفي دعائه على أصحاب الكلب الذي كان

أربابُه لا يمنعونه من دُخول مُصَلاَّه قال : اللهمَّ امنعهم بركة صيِده دليل على حسْنِ رأيه فيه .
من أقوال المسيح عليه السلام قالوا : ومرَّ المسيحُ بن مريم في الحَوارِيِّين بجِيفة كلب فقال بعضهم : ما أشدَّ نتنَ ريحه قال : فهلاَّ قلتَ : ما أشدَّ بياضَ أسنانه . قالوا : وقال رجلٌ لكلب : اخسأْ ويْلكَ فقال هَمَّام بن الحارث : الويلُ لأهلِ النَّار .

هراش الكلاب

والهِراش الذي يجري بينها وهو شَرٌّ يكون بينَ جميع الأجناس المتَّفِقة كالبرذون والبرذون والبعير والبعير والحمار والحمار وكذلك جميع الأجناس فأمَّا الذي يفرط ويتمُّّ ذلك فيه ويتمنّع ناس من النّاس

ويقع فيه القِمار ويتَّخذ لذلك وينفقَ عليه ويُغالَى به فالكلبُ والكلب والكبشُ والكبش والدِّيكُ والدّيك والسُّمانَى والسُّمانَى التحريش بين الجرذان فأَمَّا الجُرَذ فإنَّه لا يقاتل الجُرَذَ حتَّى يشدَّ رجل أحدهما في طرف خيط ويشدّ الجُرَذ الآخر بالطرف الآخر ويكون بينهما من المساواة والالتقاء والعضِّ والخمش وإراقة الدَّم وفَرْي الجلود ما لا يكون بين شيئين من الأنواع التي يُهارَش بها . والذي يُحدث للجُرْذان طبيعة القتالِ الرِّباطُ نفسُه فإن انقطع الخيطُ وانحلَّ العَقْد أخذَ هذا شرقاً وهذا غرباً ولم يلتقِيا أبداً وإذا تقابلت جِحَرةَ الفأر وخَلا لَها الموضعُ فبيْنَها شرٌّ طويل ولكنه لا يعدُو الوعيد

قصة ثمامة فيما شاهده من الفأر وحدَّثني ثمامة بن أشْرَس قال : كان بقيَ في الحبس جُحْر فأر وتِلْقاءَه جُحرٌ آخر فَيرَى لكلِّ واحدٍ منهما وعيداً وصياحاً ووثوباً حتَّى يُظَنَّ أنَّهُما سيلتقيان ثم لا يحتجزان حتّى يقُتلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه فبينا كلُّ واحدٍ منهما في غاية الوعيد إذ مرَّ هارباً حتَّى دخل جُحره فما زالا كذلك حتَّى أتى اللَّه تعالى بالفرَج وخُلِّي سبيلي .

جودة الشم عند الكلاب السلوقية

وزعم أنَّ السَّلوقيَّةَ الطويلةَ المناخر أجودُ شَمّاً والشمُّ العجيب والحسُّ اللطيف من ذلك إلاَّ أنَّ ذلك في طلب الذكور للإناث والإناثِ للذُّكور خاصة وأمَّا شمُّ المأكول واسترواحُ الطُّعم فللسِّباع في ذلك ما ليس لغيرها وإنَّ الفأرَ لَيَشمُّ وإنَّ الذَّر والنمل لَيَشمُّ وإنَّ السنانير لتشَمُّ وكذلك الكلب وله في ذلك فضيلة ولا يبلغُ مَا يبلغ الذئب وقال أعرابيّ : ( كان أبو الصّحيم من أربابها ** صَبَّ عليه الله من ذِئابها ) ( أطلسَ لا ينحاشُ مِن كلابها ** يلتهِمُ الطائرَ في ذَهابِها )

في الجَرْيَةِ الأولَى فلا مَشَى بها ألا تراه يجتهد في الدعاء عليها بذنب لا ينحاشمن الكلاب ما يُشَبَّه بالكَلْبِ وليس هو منْه وإذا جرى الفرس المحجِّل شبَّهوا قوائمَه بقوائم الكلب إذا ارتفعت في بطنه فيصير تحجيلُها كأنَّه أكلُبٌ صغارٌ تعدو كما قال العُمانيُّ : ( كأَن تحت البَطْن منه أكلُبَا ** بِيضاً صِغاراً ينتهشْنَ المَنْقَبا ) وقال البدريّ : ( كأنَّ أجراءَ كلابٍ بِيضِ ** دونَ صِفاقَيْه إلى التَّغْرِيضِ )

وقال الآخر : ( كأَنَّ قِطّاً أو كلاباً أربَعَا ** دون صِفاقيه إذا ما ضَبَعا ) ويصفون الطَّلْعَ أوَّل ما يبدو صغاراً بآذانِ الكلابِ البِيضِ وقال في ذلك الرَّاجزُ : ( أنعَتُ جُمَّاراً على سحيض ** يَخرِج بعد النَّجْم والتبعيض ) طَلْعاً كآذَانِ الكلابِ البيضِ ويُوصَف صوتُ الشَّخْب في الإناء بهرير هراش الكلاب قال أعرابيّ : ( كأنَّ خِلْفيها إذَا ما هرَّا ** جروَا كلابٍ هُورِشا فَهرّا ) وقال الآخر : هِراشُ أجراءٍ ولما تُثْغِرِ

وقال أبو دُوَاد : ( طَويل طامِح الطَّرْفِ ** إلى وَهَوْهةِ الكلب . )

جواب صبي

وزعم الهيثم بن عدي قال : كان رجل يُسمَّى كلباً وكان لهُ بُنَيٌّ يلعبُ في الطريق فقال له رجلٌ : ابن مَنْ فقال : ابن وَوْ وَوْ وَوْ ( ما يستحبّ في ذنب كلب الصيد ) ويحبّون أن يكون ذنَب الكلْبِ الصَّائِدِ يابساً ليس له من اللحم قليل ولا كثير ولذلك قال :

تلوِي بأذنابٍ قليلاتِ اللِّحَا وقال الشاعر : ( إنِّي وطَلْبَ ابنِ غلاّقِ ليَقرِيَنيِ ** كالغابط الكلبَ يبغي الطِّرْقَ في الذَّنب ) الطِّرق : الشحم اليسير يقال : ليس به طِرْق .

طيب لحم أجراء الكلاب

ويقال : ليس في الأرض فَرخٌ ولا جروٌ ولا شيءٌ من الحيوان أسمنَ ولا أرطبَ ولا أطيبَ من أجراء الكلب وهي أشبهُ شيءٍ بالحمام فإنَّ فِراخَ الحمام أسمنٍ شيءٍ مادامت صغاراً من غير أن تسمَّن فإذا بلَغتْ لم تقبل الشحم وكذلك أولادُ الكلاب .

وقال الآخر : ( وأغضَفِ الأذْن طاوي البَطْنِ مُضْطَمِرٍ ** لِوَهْوَهٍ رَذِم الخيشومِ هَرَّارِ ) الأصمعِيّ قال : قال أعرابيٌّ : أصابتنا سَنة شديدة ثم أعقبتْها سنةٌ تتابَعَ فيها الأمطارُ فسمِنت الماشية وكثُرت الألبان والأسمان فسَمِن وِلْدان الحيِّ حتَّى كأنَّ استَ أحدهم جرو يتمطَّى .
طلب أبي دلامة أبو الحسن قال : قال أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين لأبي دُلامة : سَلْ قال : كلباً قال : ويلَك ما تصنع بالكلب قال : قلت أصيدُ به قال : فلك كلب قال : ودابَّةً قال : ودابّة قال : وغلاماً يركَب الدابة ويَصيد قال : وغلاماً قال : وجاريَة قال : وجارية قال : يا أمير المؤمنين كلبٌ وغلامٌ وجاريَة ودابّة هؤلاء عِيال ولابدَّ مِن دار قال : ودار قال : ولابدَّ لهؤلاء من غَلَّةِ ضَيعة قال : أقطعناك مائَةَ جَرِيبٍ عامرةً ومائَةَ جريبٍ غامرة قال : وأيُّ شيء الغامرة قال : ليس فيها

نبات قال : أنَا أُقطِعك خمسَمائَةِ جريب من فيافي بني أسد غامرةً قال : قد جعلنا لك المائتين عامِرتين كُلَّها ثمَّ قال : أبقيَ لك شيء قال : نعم أقبِّل يدك قال : أمَّا هذه فدعْها قال : ما منعتَ علمه حيلة فوقع في أسرها )
أبو الحسن عن أبي مريم قال : كان عندنا بالمدينة رجلٌ قد كثُر عليه الدَّين حتَّى توارى من غرمائه ولزِم منزله فأتاه غريم له عليه شيءٌ يسير فتلطَّفَ حتَّى وصل إليه فقال له : ما تجعلُ لي إنْ أنا دللتك على حيلةٍ تصيرُ بها إلى الظهورِ والسَّلامةِ من غرمائك قال : أقضِيكَ حقَّك وأزيدُك ممَّا عندي ممَّا تقُّرُ به عينك فتوثَّق منه بالأيمان فقال له : إذا كان غداً قبْلَ الصَّلاةِ مرْ خادمَك يكنُسْ بابَك وفِناءَك ويرشَّ ويبسُطْ على دكّانك حُصراً ويضَعْ لك متَّكأ ثمّ أمهِل حتى تصبَح و يمرَّ الناس ثمّ تجلس وكلُّ مَن يمرُّ عليك ويسلّم انبح له في وجهه ولا تزيدَنَّ على النُّباح أحداً كائناً مَن كان ومَنْ كلّمك من أهلِك أو خدمك أو من غيرهم أو غريمٍ أو غيره حتَّى تصير إلى الوالي فإذا كلَّمك فانبَحْ له وإيَّاك أن تَزيدَه أو غيرَه على النُّباح فإنَّ الواليَ

إذا أيقَنَ أنَّ ذلك منك جِدٌّ لم يشُكَّ أنَّه قد عرَض لك عارض من مَسٍّ فيخلِّيَ عنك ولا يغري عليك قال : ففعَل فمرَّ به بعضُ جيرانه فسلّم عليه فنبَح في وجهه ثم مرَّ آخرُ ففعل مثلَ ذلك حتَّى تسامع غرماؤه فأتاه بعضُهم فسلّم عليه فلم يزِدْه على النُّباح ثمَّ آخرُ فتعلَّقوا به فرفعوه إلى الوالي فسأله الوالي فلم يزدْه على النُّباح فرفَعه معهم إلى القاضي فلم يزده على ذلك فأمَرَ بحبسه أيَّاماً وجعلَ عليه العيون وملَك نفْسَه وجعَلَ لا ينطِق بحرفٍ سوى النُّباح فلمَّا رأى القاضي ذلك أمرَ بإخراجه ووضعَ عليه العيونَ في منزله وجعل لا ينطِق بحرفٍ إلاَّ النباحَ فلما تقرَّرَ ذلك عند القاضي أمر غرماءَه بالكفِّ عنه وقال : هذا رجلٌ بِهِ لَمَم فمكث ما شاء اللهُ تعالى ثمَّ إنَّ غريمَه الذي كان علّمه الحيلة أتاه متقاضياً لِعِدتِه فلمَّا كلمه جعل لا يزيدهُ على النُّباح فقال لَهُ ويلَكَ يا فلان وعليَّ أيضاً وأنا علَّمتك هذه الحيلة فجعل لا يزيدُه على النُّباح فلمَّا يئس منه انصرف يائساً مما يطالبه بِهِ .
اتحاد المتعاديين في وجه عدوِّهما المشترك قال أبو الحسن عن سلمة بن خطّاب الأزديّ قال : لمَّا تشاغل عبدُ الملك بنُ مرْوانَ بمحاربةِ مُصعَبِ بنِ الزُّبير اجتمَعَ وجوهُ الرُّوم إلى ملكهم فقالوا له : قد أمكنَتْك الفُرْصةُ من العَرب بتَشاغُل بعضهم

مع بعض لوقوع بأسهم بينهم فالرأيُ لك أن تغزوَهم إلى بلادهم فإنَّك إن فعلتَ ذلك بهم نلتَ حاجتَك فلا تدَعْهم حتَّى تنقضيَ الحربُ التي بينهم فيجتمعوا عليك فنهاهم عن ذلك وخطَّأ رأيَهم فأبوا عليه إلاّ أن يغزُوا العربَ في بلادهم فلمَّا رأى ذلك منهم أمَرَ بكلبَينِ فحرَّش بينهما فاقتتلا قتالاً شديداً ثمَّ دعا بثعلبٍ فخلاَّه فلما رأى الكلبان الثعلبَ تركا ما )
كانا فيه وأقبلا عليه حتَّى قتلاه فقال ملك الروم : كيف ترون هكذا العربُ تقتتلُ بينها فإذا رأونا تركوا ذلك واجتمعوا علينا فعرَفوا صدقه ورجَعوا عن رأيهم .
قال : وقال المغيرةُ لرجلٍ خاصم إليه صديقاً له وكان الصديقُ توعَّدَه بصداقة المغيرة فأعلمه الرجلُ ذلك وقال : إنَّ هذا يتوعَّدَني بمعرفتك إيَّاه وزعم أنَّها تنفعه عندَك قال : أجَلْ إنَّها والله لتنفَع وإنَّها لتنفَعُ عند الكلب العقور .
فإذا كان الكلبُ العقورُ كذلك فما ظنُّك بغيره وأنت لا تصيب من الناس مَن تنفع عنده المعرفةُ من ألفٍ واحداً . وهذا الكرمُ في الكلاب عامٌّ والكلبُ يحرُس ربَّه ويحمي حريمه شاهداً وغائباً وذاكراً وغافلاً ونَائِماً ويقظان ولا يقصِّر عن ذلك وإن جفَوه ولا يخذُلهم وإن خذَلوه .

نوم الكلب

والكلبُ أيقَظُ الحيوان عيناً في وقتِ حاجتهم إلى النوم وإنَّما نومه نهاراً عند استغنائِهم عن حراسةٍ ثمَّ لا ينام إلاَّ غِراراً وإلاَّ غِشَاشاً وأغلبُ ما يكوم النّومُ عليه وأشدُّ مايكون إسكاراً له أنْ يكونَ كما قال رؤبة : لاقيت مَطْلاً كنُعاسِ الكَلْبِ يعني بذلك القَرْمَطَة في المواعيد وكذلك فإنَّه أنْوَمُ مايكونُ أنْ يفتحَ عينَه بقدْر ما يكفيه

قول رجل من العرب في الجمال وقيلَ لرجُل من العرب : ما الجمال فقال : غُؤور العينَين وإشراف الحاجبين ورُحْب الأشداق وبُعْدُ الصوت .

علاج الكلب واحتماله

هذا مع قلة السآمة والصَّبْرِ على الجفوة واحتمالِ الجراحات الشِّداد وجوائف الطعان ونوافِذِ السهام وإذا ناله ذلك لم يَزَلْ ينظِّفه بريقه لمعرفته بأنَّ ذلك هو دواؤه حتَّى يبرأ لا يحتاج إلى طبيب ولا إلى مِرْهم ولا إلى علاج .

طول ذماء الضب والكلب والأفعى

وتقول العرب : الضبُّ أطولُ شيءٍ ذَمَاء والكلبُ أعجبُ في ذلك منه وإنَّما عجبوا من الضَّبِّ لأنَّه يَغْبُر ليلته مذبوحاً مفرِيَّ الأوداج ساكنَ الحركة حتَّى إذا قرِّب من النار تحرّك كأنَّهم يظنُّون أنَّه قد كان حياً وإن كان في العين ميّتاً والأفعَى تبقى أيَّاماً تتحرَّك

ما يعتريه الاختلاج بعد الموت فأمَّا الذي يعتريه الاختلاج بعد جُموده ليلةً فلحْمُ البقر والجُزُر تختلج وهي على المعاليق

حياة الكلب مع الجراح الشديدة

قال : والكلب أشدّ الأشياءِ التي تعيش على الجراح التي لا يعيش عليها شيء إلا الكلبُ والخنزيرُ والخُنْفَساء . ( قوة فكّ الكلب وأنيابه ) والكلبُ أشدُّ الأشياء فَكّاً وأرْهفها ناباً وأطيَبُها فماً وأكثرها ريقاً يُرمَى بالعظم المدْمَج فيعلم بالغريزة أنَّه إن عضَّه رضّه وإن بلعَه استمرأه .

إلف الكلب وغيره من الحيوان للإنسان

وهو ألوفٌ للناس مشاركٌ من هذا الموضع العصافيرَ والخطاطيفَ والحمامَ والسنانير بل يزيد على ذلك في باب الخاصِّ وفي باب العامِّ فأمَّا باب الخاصِّ فإن من الحمام ما هو طُورانيٌّ وحشيٌّ ومنه ما هو آلفٌ أهلي والخُطَّاف من القواطع غير الأوابد إذا قطع إلى الإنس لم يَبْنِ بيتَه إلاَّ في أبعدِ المواضع من حيثُ لا تناله أيديهم فهو مقسومٌ على بلاده وبلادِ من اضطرَّته إليه الحاجة والعصافير تكون في القرب حيثُ تمتنع منهم في أنفسها والكلاب مخالطةٌ لها ملابِسة ليس منها وحشيّ وكلُّها أهلي وليس من القواطع ولا من الأوابد ما يكون آنس بالناس من كثير وعلى أنّ إلفَ الكلب فوقَ إلف الإنسان الألوف وهو في الكلب أغرَبُ منه في الحمام والعصفور لأنَّه سبع والحمام بهيمة والسبع بالسباع أشبه فتركَها ولم يناسبها ورغِب عنها وكيف وهو يصيد الوُحوشَ ويمنع جميعَ السِّباع من الإفساد فذلك أحمَدُ له

وأوجَبُ لشكره ثمَّ يصيرُ في كثيرٍ من حالاته آنَسَ بالنَّاس منه بالكلابِ دِنيَّةً وقُصْرةً ولا تراه يلاعبُ كلباً ما دام إنسانٌ يلاعبه ثمَّ لم يرْضَ بهذه القرابة وهذه المشاكلة وبمقدار ما عليه من طباع الخُطَّاف والحمام والعصفور وبمقدار ما فضَّلها الله تعالى بِهِ من الأُنس حتَّى صار إلى غايةِ المنافع سُلَّماً وإلى أكثر المرافق .

الحاجة إلى الكلاب

وليس لحارس الناس ولحارسِ أموالهم بُدٌّ من كلب وكلَّما كان أكبرَ كان أحبَّ إليه ولا بدَّ لأقاطيع المواشي من الكلاب وإلاَّ فإنّها نهب للذئاب ولغير الذئاب ثمّ كلابِ الصّيد حتَّى كان أكثرُ أهل البيت عِيالاً على كلِّ كلب مقلدات الأنسان من الحيوان وقد صار اليومَ عندَ الكلب من الحكايات وقَبول التلقين وحُسْن التصريف في أصناف اللَّعِب وفي فطن الحكايات ما ليس

في الجوارح المذللة لذلك المصرفة فيه و ما ليس عند الدب والقرد والفيل والغَنَم المكِّيَّة والبَبغَاء ( الكلب الزِّينيّ ) والكلب الزِّينيّ الصِّينيّ يُسرَج على رأسه ساعاتٍ كثيرةً من اللَّيْل فلا يتحرَّك وقد كان في بني ضَبَّةَ كلب زينيٌّ صينيّ يُسرَج على رأسه فلا ينبِض فيه نابِض ويدعونه باسمه ويُرمى إليه ببِضْعَةِ لحم والمِسْرَجةُ على رأسه فلا يميل ولا يتحرَّك حتَّى يكونَ القومُ هم الذين يأخذون المصباح من رأسه فإذا زايَل رأسَه وثَب على اللحم فأكله دُرِّب فدَرِب وثُقِّف فَثَقِف وأُدِّب فقَبِل وتعلَّق في رقبته الزنْبلة والدَّوْخَلّة وتوضع فيها رُقعة ثم يمضي إلى البقَّال ويجيء بالحوائج .

تعليم الكلب والقرد

ثمَّ صار القَرَّادُ وصاحبُ الرُّبَّاح مِنْ ثمَّ يستخرِجُ فيما بين الكلْب والقِرد ضُروباً من العمَل وأشكالاً من الفِطَن حتَّى صاروا يطحنون

عليه فإذا فرغ من طحنه مضَوا به إلى المُتمَعَّك فيُمعَّك كما يُمعَّك حمار المُكَارِي وبغلُ الطحَّان وقرابةٌ أخرى بينه وبين الإنسان : أنّه ليس شيءٌ من الحيوان لذكره حجْمٌ بادٍ إلا الكلبُ والإنسان .
ما يسبح من الحيوان وما لا يسبح والكلبُ بعد هذا أسبحُ من حيّة ولا يتعلَّق بِهِ في ذلك الثَّور وذلك فضيلةٌ له على القِرد معَ كثرةِ فِطَن القِرْد وتشبُّههِ بالإنسان لأنّ كلَّ حيوانٍ في الأرض فإنَّه إذا ألقي في الماء الغَمْر سبح إلاّ القردَ والفرسَ الأعسَر والكلب أسبحُها كلِّها حتّى إنّه ليُقَدَّم في ذلك على البقرة والحيَّة .

أعجوبة في الكلاب من الأعاجيب

وفي طباع أرحامِ الكلاب أُعجوبَة لأنَّها تَلقَح من أجناس غير الكلاب ويُلقحها كما يلقح منها وتلقح من كلابٍ مختلفة الألوان فَتؤدِّي شَبَه كلِّ كلب وتمتلئ أرحامُها أجراءً من سِفاد كلبٍ ومن مرةٍ واحدة كما تمتلئ من عدَّة كلابٍ ومن كلبٍ واحد وليست هذه الفضيلة إلاّ لأَرحام الكلاب .


فخر قبيلتين زنجيتين قالوا : والزِّنج صِنفان قبيلة زنجيَّة فوق قبيلة وهما صِنفان : النمل والكلاب فقبيلةٌ هم الكلاب وقبيلةٌ هم النمل فخر هؤلاء بالكثرة وفخر هؤلاء بالشدَّة وهذان الاسمان هُمَا ما اختارَاهما لأنفسِهما ولم يُكرَها عليهما .

حديث أكلك كلب الله

قال : ويقال إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُتْبة بن أبي لهَب : أكلك كلبُ الله فأكله الأسد فواحدةٌ : قد ثبت بذلك أنَّ الأسد كلبُ الله والثانية : أنّ الله تبارك وتعالى لا يُضاف إليه إلاَّ العظيمُ

من جميع الخير والشرِّ فأما الخير فقولك : بيت الله وأهل الله وزُوَّار الله وكِتاب الله وسماء الله وأرض الله وخليلُ الله وكَلِيم اللّه وروح الله وما أشبه ذلك وأما الشرُّ فكقولهم : دعْه في لعنَةِ الله وسخَط الله ودعْه في نار الله وسَعيره وما أشبه ذلك وقد يسمِّي المسلِمون والنَّاس كلباً .

تسمية بنات آوى والثعالب والضباع بالكلاب

وقد زعم آخرون : أنَّ بناتِ آوى والثعالبَ والضِّباعَ والكلابَ كلَّها كلاب ولذلك تَسافَدُ وتَلاَقح وقال آخرون : لعَمري إنَّها الكلاب إذا أردتم أن تشبِّهوها فأمَّا أن تكونَ كلاباً لِعلَّةٍ أو عِلَّتين والوجوهُ التي تخالف فيها الكلاب أكثر فإنَّ هذا ممّا لا يجوز وقول مَنْ زعم أنّ الجواميس بقرٌ وأنّ الخيلَ حُمُرٌ أقربُ إلى الحقِّ من قولِكم وقولِ من زعَم أنّ الجواميس ضأنُ البقر والبقَر ضأنٌ أيضاً ولذلك سمَّوا بقرَ الوحْشِ نِعاجاً كأنهم إنما ابتغوا اتِّفاق الأسماء ومابالُ من زعم أنَّ الأسَد والذئب والضبع والثعلبَ وابنَ آوى كلابٌ أحقُّ بالصواب ممَّن زعم أنَّ الجواميس ضأنٌ والبقر ضأنٌ

والماعزُ كلها شيء واحد وهذا أقربُ إلى الإمكان لتشابهها في الظِّلف والقُرون والكروش وأنَّها تجتَرُّ والسِّنَّور والفهد والنمر والبَبْر والأسد والذئب والضبع )
والثّعلبُ إلى أن تكونَ شيئاً واحداً أقرب وعلى أنَّنا لم نتبينْ إلى الساعة أنَّ الضِّباع والكلابَ وبناتِ آوى والذئابَ تتلاقح وما رأينا على هذا قط سِمْعاً ولا عِسْباراً ولا كلَّ ما يعُدُّّون وما ذِكْرهم لذلك إلاَّ من طريق الإخبار عن السُّرعة أو عن بعضِ ما يُشبه ذلك فأمّا التلاقُح والتركيب العجيب الغريب فالأعراب أفطنُ والكلام عندهم أرخص منْ أن يكونوا وصَفُوا كلَّ شيءٍ يكون في الوحش وكلَّ شيءٍ يكون في السّهل والجبل مما إذا جمع جميعُ أعاجيبه لم يكنْ أظرفَ ولا أكثرَ ممَّا يدَّعون من هذا التَّسافُد والتّلاقُح والتراكيب في الامتزاجات فكيفَ يَدَعُون ما هو أظرفُ والذي هُو أعجب وأرغب إلى ما يستوي في معرفته جميعُ الناس تتمَّة القول في حديث السابق وقال آخرون : ليس الكلبٌ من أسماء الأسد كما أنْ ليس الأسد من أسماء الكلب إلاّ على أنْ تمدحُوا كلبَكم فيقول قائلكم : ماهو إلاّ

الأسد وكذلك القول في الأسَد إذا سمَّيتموه كلباً وذلك عند إرادة التصغير والتحقير والتأنيب والتقريع كما يقال ذلك للإنسان على جهة التشبيه فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإنَّ ذلك على بعض ما وصفْنا لك ويقول أهل حمص : إنهم لا يُغلَبون لأن فيها نورَ الله في الأرض وما كلبُ الله إلا كنُور الله . والله تبارك وتعالى عُلُوّاً كبيراً لا تضاف إليه الكلابُ والسنانيرُ والضِّباعُ والثعالب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا قطُّ وإنْ كان قالَه فعلى صلةِ كلامٍ أو على حكايةِ كلام .
وقال صاحب الكلب : قد وضَح الأمر وتلقَّاه الناس بالقَبول في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكَلَك كلبُ الله وهو يعني الأسد ومن دفع هذا الحديثَ فقد أنكرَ علاماتِ الرسول صلى الله عليه وسلم .

التسمية بمشتقات الكلب

والنَّاسُ قد سمَّوا الناسَ بكلبٍ وكُليب وكِلاب وأكلبُ ومكاليب ومكالبة بنو ربيعة وكليب بن ربيعة بن عامر وفي العرب من

القبائل كلب وبنو الكلْبة وبنو كلاب وأكلبُ بن ربيعةَ بنِ نزار عِمارةٌ ضخمةٌ وكلْب بن وَبْرة جِذْمٌ من الأجذام وهم نفرُ جُمجُمة وكلّ سادات فهو يكنى أبا كليب ومن ذلك عمرو ذو الكلب وأبو عمرو الكلب الجرمي وأبو عامر الكلب النحوي وكيف لا يجوز مع ذلك أنْ يسمَّى الأسد بالكلب وكلُّ هؤلاء أرفَعُ من الأسد وقد قالوا : كلب الماء وكلبُ الرحى والضَّبَّة التي في الرحل يقال لها الكلب والكلب : الخشبة التي تمنع الحائط من السقوط

وتشخص في القناطر والمنسيات والكلب الذي في السماء ذو الصُّوَر ويقال : داء الكَلَب وقد اعتراه في الطعام كلب وقد كلب عليهم في الحرب ودِمَاءُ القوم للكَلْبى شفاء ومنه الكلْبة والكلْبتان والكُلاَّب والكلُّوب ثمَّ المكلِّب والمكلب وهذا مختلف مشتقٌّ من ذلك الأصل ومنه عَلُّويَهْ كلب المطبخ وحمويه كلب الجنّ .


بين أبي علقمة المزني وسوار بن عبد الله ولما شهدَ أبو علقمة المُزَنيُّ عند سوّار بنِ عبد الله أو غيره من القضاة و توقَّفَ في قَبول شهادته قال له أبو علقمة : لم توقَّفتَ في إجازة شهادتي قال : بلغني أنَّك تلعَب بالكِلاب والصُّقور قال : مَنْ خبَّرك أنِّي ألعب فقد أبْطَل وإذا بلغك أنِّي أصطادُ بها فقد صدَقَك مَنْ أبلغك وإنِّي أخبرك أنِّي جادٌّ في الاصطياد بها غيرُ لاعبٍ ولا هازئ فقد وقَفَ المبلِّغ على فرقِ ما بينَ الجدِّ واللَّعب قال : ما وقَفَ ولا وقَّفته عليه فأجازَ شهادتَه قوله تعالى : يَسْألونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ وقد قال الله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحلَّ لَهُمْ فقال لنبيِّه : قلْ أُحلَّ لكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِح مُكلِّبِين فاشتَقَّ لكلِّ صائدٍ وجارحٍ كاسب مِنْ بازِ وصقرٍ وعُقاب وفَهْد

وشاهين وزرَّقٍ ويؤيؤ وباشق وعَنَاق الأرض من اسم الكلب وهذا يدلُّ على أنّه أعمُّها نفعاً وأبعدها صِيتاً وأنبهها ذكراً ثمَّ قال : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمكُمُ الله فَكُلوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَيْهِ فذكر تعليمَهم لها إذ أضافَ ذلك إلى نفسه ثمَّ أخبَرَ عن أدَبها وأنَّها تُمسِك على أربابها لا على أنفسها وزعَم أصحاب الصَّيْد أنْ ليس في الجوارح شيءٌ أجدرُ أن يُمسِك على صاحبه ولا يُمسِكَ على نفسه من الكلب )
تأويل آية أصحاب الكهف قال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنَا عَجَباً إذ أوَى الْفِتْيَةُ إلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا : رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فخبَّر كما ترى عن دعائهم وإخلاصهم ثمَّ قال جلّ وعزَّ : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ثمَّ قال عزَّ وجلّ : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا برَبِّهمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبهمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا : رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مَنْ دَونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا

إذاً شططاً ثم قال : فَأوُوا إلَى الْكَهْفِ ينشر لَكُمْ رَبُّكمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقاً وَتَرَى الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُم ذَاتَ الشِّمال ثمّ قَالَ بعدَ هذه الصِّفة لحالهم والتمكين لهم من قلوب السَّامعين والأُعجوبةِ التي أتاهم بها : وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذرَاعَيْهِ بالْوَصِيدِ ثمَّ قال : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلئْتَ منْهُمْ رُعْباً فخبَّر أنَّهم لم يستصحبوا مِن جميع مَن يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه شيئاً غيرَ الكلب فإنَّ ممّا يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه شيئاً غيرَ الكلب فإنّ ممّا يألفُ النَّاس ويرتفقون به ويسكنون إليه : الفرسَ والبعيرَ والحمار والبغل والثَّور والشاة والحمامَ والدِّيَكة كلّ ذلك مما يرتفَق به ويُستصحب في الأسفار وينقَل من بلدٍ إلى بلد .
والناس يصطادون بغير الكلب ويستمتعون بأمور كثيرة فخبَّر عنهم بعد أن جعلهم خياراً أبراراً أنّهم لم يختاروا استصحابَ شيءٍ سوى الكلب وليس يكون ذلك من الموفّقين المعصومين المؤيَّدين إلاّ بخاصّةٍ في الكلب لاتكون في غيره ثمَّ أعاد ذكر الكلب ونبَّأ عن حاله بأنْ قال عزَّ وجلَّ : إذ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهمْ قَالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُم كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلاّ قَليلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهمْ

إلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهمْ مِنْهُمْ أَحَداً وفي قولهم في الآية ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُم كَلْبُهُمْ وَيَقولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُم كَلْبُُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُم كَلْبُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الكلبَ رفيعُ الحال نبيه الذِّكر إذ جُعِل رابعَهم وعُطف ذِكْرُه على ذكرهِمْ واشتقَّ ذكْره من أصل ذكرهمْ حتَّى كأنَّه واحدٌ منهم ومن أكفائهم )
أوْ أشباههِم أو ممَّا يقاربهم ولولا ذلك لقال : سيَقُولون ثلاثَةٌ معهم كلبٌ لهم وبينَ قول القائل معهم كلبٌ لهم وبين قوله ( رَابِعُهُم كَلْبُهُم ) فرقٌ بيِّن وطريق واضح فإنْ قلتم : هذا كلام لم يحكه الله تعالى عن نفسه وإنَّما حكاه عن غيره وحيث يقول : ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَقَدْ صَدَقتُم والصِّفة على ما ذكرتم لأنَّ الكلامَ لو كان منكراً لأنكره الله تعالى ولو كان معيباً لعابه الله فإذْ حكاه ولم يَعِبْهُ وجعله قرآناً وعظّمه بذلك المعنى ممّا لا ينكرَ في العقل ولا في اللغة كان الكلام إذا كان على هذه الصفة مثلَه إذ كان الله عزّ وجلّ المنْزل له الاستطاعة قبل الفعل ومثلَ ذلك مثَّلَ بعضُ المخالفين في القدَر فإنّه سأل بعضَ أصحابنا فقال : هل تعرفُ في كتاب الله تعالى أنَّه يُخبِرُ عن الاستطاعة أنّها قبلَ

الفعل قال : نعم أتى كثيرٌ مِنْ ذلك قولُه تعالى قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْه لَقَويٌّ أَمِينٌ قال المخالف : سألتك أنْ تخبرني عن الله فأخبرتني عن عفريتٍ لو كان بينَ يديَّ لبَزَقتُ في وجهه قال صاحبُنا : أمّا سليمانُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقد تركَ النَّكيرَ عليه ولو كان مثلُ هذا القول كفْراً وافتراءً على الله ومغالبةً وتفويضاً للمشيئة إلى النفس لكان سليمان ومَن حضره من المسلمين من الجِّن والإنس أحقَّ بالإنكار بل لم يكن العِفريتُ في هذا الموضع هو الذي يسرع فيه ويذكر الطاعة ولا يتقرَّب فيه بذكر سرعة النفوذ ويبشر فيه بأنّ معه من القوِّة المجعولة ما يَتَهَيأ لمثله قضاءُ حاجته فيكذب ثمَّ لا يرضى بالكذب حتَّى يقول قولاً مستنكراً ويدَّعي قوَّة لا تُجعَل له ثمّ يستَقبل بالافتراء على الله تعالى والاستبداد عليه والاستغناء عنه نبيّاً قدْ ملك الجنَّ والإنس والرِّياحَ والطير وتسْييرَ الجبال ونطقَ كلِّ شيء ثمَّ لا يزجره فضلاً عن أنْ يضربَه ويسجُنه فضلاً عن أن يقتله .
وبعدُ فإن الله تبارك وتعالى لم يجعل ذلك القول قرآناً ويترك التنبيه على ما فيه من العَيب إلاّ والقول كان صِدقاً مقبولاً

وبعد فإن هذا القولَ قد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاهُ على الناس وما زالوا يتلونه في مجالسهم ومحاريبهم أفَما كان في جميع هؤلاء واحدٌ يعرف معرفتك أو يغضَبُ لله تعالى غضبك .

دفاع عن الكلب

قال صاحب الكلب : لو اعترضْتَ جميعَ أهل البدو في جميع الآفاق من الأرض أنْ تُصِيبَ أهلَ خيمةٍ واحدة ليس عندهُمْ كلبٌ واحد فما فوقَ الواحد لمَا وجدته وكذلك كانوا في الجاهليَّة وعلى ذلك هم في الإسلام فمن رجعَ بالتخطئة على جميع طوائف الأمم والتأنيبِ والاعتراض على جميع اختيارات الناس فليتَّهم رأيَه فإنَّ رأيَ الفردِ ولاسيّما الحسودُ لا يَفي برأي واحد ولا يرى الاستشارة حظاً وكيف بأنْ يَفيَ بجميع أهل البدو من العرب والعجم والدليل على أنَّ البَدْوِ قد يكون في اللُّغة لهما جميعاً قولُ الله عزَّ وجلَّ : وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي ولو ابتُلي صاحبُ هذا القول بأن يَنزل البادية لتحوَّل رأيُه واستبدَلَ بهِ رأيَ

من قد جرّب تقريبَ الكلب وإبعادَه وقد قال أبو عَّبادٍ النميري : لا يكون البُنْيَان قريَةً حتى ينبحَ فيه كلبٌ ويزْقوَ فيه ديك ولمَّا قال أحمد بنُ الخَارَكي : لا تَصير القريةُ قريَةً حتَّى يصيرَ فيها حائكٌ ومعلِّم قال أبو عبَّاد : يا مجنونُ إذا صارتْ إلى هذا فقد صارت مدينة .
وللكلب إثباتُه وجهَ صاحبِه ونظرُه في عينيه وفي وجهه وحبُّه له ودُنُّوه منه حتَّى ربَّما لاعبه ولاعب صبيانَه بالعضِّ الذي لا يؤثِّر ولا يُوجِع وهي الأضراسُ التي لو نشَّبها في الصخر لنَشِبت والأنيابُ التي لو أنحى بها على الحصَى لرضَّها

وقد تراه وما يصنع بالعظْم المدمَج وبالفِقْرة من الصُّلب القاسي الذي ليس بالنَّخِر البالي ولا بالحديثِ العهِد بالودَك الذي يلين معه بالمضْغ ويَطيب فتراه كيف يرضُّه ويفتّته ثمَّ إن مانَعَه بعضَ الممانعةِ ووافقَ منه بعضَ الجوع كيف يبتلِعه وهو واثق بِاستمرائه وهضْمه أو بإذابته وحَلِّه . وله ضروبٌ من النَّغَم وأشكال من الأصوات وله نوح وتطريب ودُعاء وخُوار وهَرِير وعُواء وبَصبصة وشيءٌ يصنَعه عند الفرح وله صوتٌ شبيهٌ بالأنينِ إذا كان يَغْشَى الصيد وله إذا لاعَبَ أشكاله في غُدُوات الصَّيفِ شيءٌ بينَ العُواء والأنين وله وطءٌ للحصى مثله بأن لو وطئ الحصى على أرض السطوح لا يكون مثله وطء الكلب يربى على وزنه مراراً وإذا مرَّ على وادٍ جامدٍ ظاهرِ الماء تنكّبَ مواضعَ الخرير في أسفله .
قال الشاعر ورأى رجلاً اسمه وثَّاب واسم كلبِه عمرو فقال : ( ولو هَيَّا له اللّه ** مِن التَّوفيق أسبابا ) ( لسمَّى نفسِه عَمْراً ** وسمَّى الكلبَ وَثَّابا )

( أطْباء الكلبة والخنزيرة والفهدة ) قال : والكلبة كثيرةُ الأطباءِ وكذلك الخنزيرة وللفَهدة أربعة أطباء من لَدُنْ صدرِها وقرب إبطيها إلى رفغيها وللفيل حلمتان تصغران عن جثّته وهما مما يلي الصَّدر مثل الإنسان والذّكُر في ذلك يشبَّه بالرجل لأنْ للرجل ثديَيْن صغيرَين عن جثته .
ويقال : إنَّ على الكلابِ واقيةً من عبث السُّفهاء والصِّبيان بها قال دُريد بن الصِّمَّة حين ضرَبَ امرأتَه بالسيف ولم يقتلْها : ( أقَرّ الْعَينَ أَنْ عُصِبتْ يداها ** وما إن يُعصبَان على خِضَابِ )

( فأبقَاهُنَّ أنَّ لهنَّّ جَدّاً ** وواقية كواقية الكلاب ) وقال الآخر : ( إنْ يَقِنَا اللَّه مِن شَرِّها ** فإنَّ الكلابَ لها واقيَهْ ) ويروى : سينْجِيه مِنْ شرِّها شرُّه وقال غيره : ( ولقدْ قتلتُك بالهجاء فلم تمُتْ ** إن الكلاب طويلة الأعْمارِ ) وقال بِشر بن المعْتمر : ( الناسُ دَأباً في طلاب الثّرَا ** فكُلُّهم من شأنه الخَتْرُ ) ( كأذؤبٍ تنهَشها أذْؤبٌ ** لها عُواءٌ ولها زَفرُ )

استطراد لغوي قال : ويقال قزَح الكلب ببوله يقزح قزْحاً إذا بال قال : وقال أبو الصَّقر : يقزَح ببوله حين يبول وشغر الكلب يشغَر إذا رفَع رجْلُه بال أو لم يبل ويقال شغرتُ بالمرأة أشغُرها شغْراً إذا رفعتَ رِجلَها للنِّكاح قال : ويقال عاظَل الكلبُ مُعاظَلةً يعني السِّفاد قال أبو الزحف : ( كمِشْيَةِ الكلبِ مَشَى للكلبَةِ ** يَبغي العِظالَ مُصْحراً بالسَّوءَة ) قال : ويقال كلبٌ عاظِل وكلابٌ عُظّل وَعظَالى وقال حسان بن ثابت الأنصاري : ( ولَست بَخيرٍ من يَزِيدَ وخَالدٍ ** ولست بخيْر من معاظلة الكلبِ )

قال مالِكُ بن عبد اللَّه الجَعْديّ يوم فيفِ الرِّيح : حدَّثني أبي لقدْ نظرتُ يَوْمَئذٍ إلى بني عبد )
الحارث بن نمير فما شبَّهتُهم إلاَّ بالكلاب المتعاظلة حَوْلَ اللواء .
وقاَل أبو بَرَاء عامرُ بن مالكٍ ملاعبُ الأََسِنَّة لاعبه الحارث واليوم قال فقال منذ يومئذ قال : والسَّلوقيّة منسوبَةٌ إلى سَلوقَ من بلاد اليَمن لها سلاحٌ جيِّد وكلاب فُرَّه وقال القَطَاميُّ : ( معه ضَوَارٍ مِنْ سَلوقَ له ** طَوْراً تُعانِدُه وتنفعه ) تعفير البهائم والسباع أولادها قالُوا : وليس في الأَرض بهيمةٌ ولا سبع أنثى تريد فِطام َولدها وإخراجَه من اللَّبَن إلى اللحم أو من اللبَنِ إلى العُشْب إن كانت بهيمةً

إلاَّ وهي تعفر ولدَها والتعفير : أن ترضعه وتمنعه حتى يجوع ويطلب اللحمَ إن كان سبعاً والعُشْبَ إن كان بهيمة فلا تزالُ تنوِّله وتُماطله وكلما مرَّتْ عليه الأيَّام كان وقتُ منعِها له أطولَ حتَّى إذا قوي على أكْل اللَّحْمِ أو العُشْب فطمته قال لبيدٌ في مثل ذلك : ( أَفْتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ** خُذِلَتْ وَهَادِيةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا ) ( خَنْسَاءُ ضَيَّعَتِ الْفَرِيرَ فَلم يَرِمْ ** عُرْضَ الشَّقَائِقِ طَوْفُهَا وَبُغَامُهَا ) ( لمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ** غُبْسٌ كَوَاسِبُ لاَ يُمَنُّ طَعَامُهَا ) ( صَادَفنَ مِنْهَا غِرَّةً فَأَصَبْنَهَا ** إنَّ المنايا لا تَطِيشُ سِهامُها ) لأنَّ البقرة إذا كانت بحضْرة ولدها لم تضيِّعه ومَنعت السِّباعَ منه وقاتلَتْ دونَهُ بقُرونها أشدَّ القتال حتَّى تُنجيَه أو تعطَب .

بعض من كني بالكلاب

قال : وكان ابنُ لِسَانِ الحُمَّرَة يكنى أبا كلابٍ وكان زوجُ حُبَّى المدَنيَّة يقال له ابن أمِّ كِلاب وقَال الشَّاعر يذكُرها :

( ومَا وَجَدَتْ وَجْدي به أمُّ واحدٍ ** ولا وجْدُ حُبَّى بابنِ أمِّ كِلابِ )

صفة عيون الكلاب

وقال آخر يصِفُ عيونَ الكلاب إذا أبصرت الصَّيد : ( مجزَّعَةٌ غُضْفٌ كأنَّ عيونَها ** إذا آذَنَ القُنَّاصُ بالصَّيد عَضْرَسُ ) مجزّعة : في أعناقها جَزْع وهو الودَع يُجعَل في القلائد يقول : تبيضُّ عيونُها حينَ تختِلُ الصَّيد والعَضْرَس هاهنا : البَرَد وقال الآخر : ( خُوصٌ تَرَاح إلى الصُّراخِ إذا غَدَتْ ** فِعْلَ الضِّراء تَرَاحُ للكَلاَّبِ ) وقال آخر وذكر الضِّراء وهو يصف الشَّيخ وضعْفَه : ( ومنها أن يُقادَ به بَعير ** ذَلُولٌ حينَ تَهتَرِشُ الكِلابُ )

قال : وهُم عند الحاجة يُعِدُّون الكلبَ والمطيَّة وأَنشد : ( فأعقَبَ خيراً كلّ أهوج مِهْرَجٍ ** وكلُّ مُفدَّاةِ العُلالة صِلْدِمِ ) وقال الآخر : مُفدَّيات وملقَّبات وأنشد قول أبي ذُؤَيب في شبيهٍ بالمعنى الأوّل : يقول : هذه الثِّيران لما قد لُقِّينَ مع الصبح والإشراق من

الكلاب صار أحدها حين يَرَى ساطع الصبح يَفْزَعُ وذلك أنَّها تمطَرُ ليلتَها فتَشَرَّقُ في الشمس فعندها تُرسَل عليها الكلاب صولة الذئب على الغنم مع الصبح ويقال إنَّ أكثرَ ما يعرِض الذّئبُ للغنم مع الصُّبْح وإنَّما رقَب فتْرةَ الكلب وكلالَه لأنْه باتَ ليلتَه دائباً يحرس وقال أعرابيٌّ وكسَرَ ذئب شاةً له مع الصُّبح فقال : ( أودَى بوَردةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ ** مِن الذِّئاب إذا ما راحَ أو بَكَرَا ) ( لولا ابُنها وسَلِيلاَتٌ لها غُرَر ** ما انفكَّت العين تذْرِي دمعَها دِرَرَا ) ( كأنَّما الذِّئبُ إذ يعدو على غنَمي ** في الصُّبح طالبُ وِترٍ كان فاتَّأرا ) ( اعتامَها اعتامَه شَثنٌ براثِنُه ** من الضَّوارِي اللّواتي تقصِمُ القَصَرا )

مسألة زيد الخيل للرسول الكريم ولما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام لزيدِ الخيل مِن الخير ما قَال وسمَّاه زيدَ الخير ما سأله زيدٌ شيئاً ولا ذكر له حاجة إلاّ أنَّه قال : يا رسول اللَّه فينا رجُلان يقال لأحدهما ذَرِيح والآخر يكنى أبا دُجانة ولهما أكلب خمسة تَصِيد الظباء فما ترى في صيدهم فأنزلَ اللَّه عزَّ وجلّ : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لُهمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مَّما فأوَّلُ شيءٍ يعظِّم في عينِك شأنَ الكلب أنَّ هذا الوَافدَ الكريمَ الذي قِيل له ما قيل وسُمِّي بما لم يسمَّ به أحد لم يسأَلْ إلاّ عن شأن الكلب وثانية وهي أعظمها : أنَّ اللَّه تعالى أنزل فيه عند ذلك آياً مُحْكماً فقال : أُحِلّ لَكمُ الطَّيِّبَاتُ فسمَّى صيدَها طيّباً ثم قال : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ مخبراً عنْ قَبولها للتعليم

والتأديب ثم قال : مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه ولولا أنَّ ذلك البابَ من التعليمِ والعلمِ مَرْضيٌّ عند اللَّه عزَّ وجلّ لَمَا أضافه إلى نفسه ثم قال : فَكلُوا ممَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ وَاذْكُروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فأوَّلُ شيءٍ يعظُم به في عينك إمساكُه عليك وهكذا يقول أَصحابُ الصَّيد إنَّ كلِّ صائدٍ فإنَّما يُمسِك على نفسه إلاّ الكلبَ فإنّهُ يُمسك على صاحبه ولو كان الجوابُ لزيد الخيل سُنَّةً من سُننَ النبي صلى اللَّه عليه وسلم لَكانَ في ذلك الرِّفعةُ فكيفَ والكتابُ فوقَ السُّنّة وقد روى هشام أنّ ابنَ عبَّاس سمَّى كِلابَ ذَريحٍ هذه وكلابَ أبي دُجانة فقال : المختلِس وغلاَّب والقَنيص وسَلهب وسِرْحان والمتعاطِس .
دواء الذبحة والخانوق وزعم الأطبَّاء أنَّ من أجودِ أدويَةِ الذُّبحة والخانوق أنْ ينفح في حلق مَن كان ذلك به ما جَفّ من رَجيع الكلاب وأجودُ ذلك أنْ يكون يتغرغر به وربَّما طلوْه على جلد المحموم الحديدِ الحُمَّى .

رجيع الكلاب

وأجود رجيع الكلابِ أنْ يشتدّ بياضهُ وليس يعتريه البَياضُ إلاّ عن أكْل الطعام وذلك رديءٌ للقانص منها . والجعور قد تبيَضُّ إذا كان قوتُ صاحبها اللبن ولذلك قال أبو كلاب وهو ابن لسان الحمَّرة ومرَّ به رجلٌ من بني أسد فقال : قد علمت العربُ يا معشَرَ بني أسدٍ أنّكم أشدُّها بَياضَ جُعور فعكفَ عليه فضرَبه بالسيف حتى بَرَد وذلك أنّه عيّره بأنّهم لا يعرفون البَقْل ولا يعرفون إلاّ اللبن وقال الشاعرُ يهجو ناساً منهم : ( عَراجِلةٌ بيضُ الجُعُورِ كأنّهمْ ** بمنْعَرَج الغِيطَانِ شُهْبُ العَنَاكِبِ ) والعرب تقول : اللَّحم أقلُّ الطّعام ِبَخَراً

دفاع عن الكلب

وقال صاحب الكلب : وما للدِّيك وللكلاب والكلابُ ينزَّل فيها القرآنُ وُيحْدَث فيها السنن ويُشتقُّ من أسمائها للنَّاس وللأُسد ولها أسماءٌ معروفةٌ وأعراق منسوبة وبُلدان مشهورة وألقَابٌ وسِماَت ومناقِبُ ومقَامات وما للدِّيك إلاّ ما تقول العوام : إنّه إذا كان في الدارِ ديكٌ أبيض أفرَق لم يدخله شيطان وليس يقومُ خَيْر ذلك ولو كان ذلك حقًّا بشؤمه لأنَّ العوامَّ تقضي على مَن كان في داره ديكٌ أَبيض أفرق بالزندقة .
والذين يقولون إنّ الدار إذا كان فيها ديكٌ أفرقُ لم يدخُلْها شيطان هم الذين يقولون مَنْ أكلَ لحم سِنّورٍ أسودَ لم يَضِرْه سحر وإذا دُخِّنت الدار بالدُّخنة التي سمّوها بدُخنة مريم أو باللُّبان لم يكنْ عليها لعُمَّار الدَّار سبيل فإن مَرَّت ساحرة تطير سقَطت وهم الذين لا يشكُّون أنّ مَن نام بين البابَين تخبَّطَه العُمَّارُ وخَبَلته الجنّ

( ما يقال له : جرو ) قال : ويقال لولد الكلب والذِّئبِ والسِّنَّور أشباه ذلك : جرو ويقال للصغير من الحنْظل على مِثل ذلك : جرو وقَال النَّمِرُ بنُ تَوْلب : ( بجرْوٍ يُلقَّى في سِقاءٍ كأنّه ** مِنَ الَحنْظَل العامِيِّ جَرْوٌ مفلَّقُ . )

من قول الكلب

وممَّا زادَ في ذِكْر الكلب قولُ السَّيِّد بن محمد في شأن عائشة في الحديث الذي رَوَوه وكان

( تهْوِي من البَلَدِ الحرَامِ فنبَّهتْ ** بَعْدَ الهُدُوِّ كِلابَ أَهْلِ الحوْءَبِ )
قال : ويقال صرَفت الكلبة صِرَافاً وصُروفاً وظَلَعت تظلَع ظُلوعاً ( قولهم : لا أفعل حتى ينام ظالع الكلاب ) قال : ومن الأمثال في ذلك : لا أفعَلُ حتَّى يَنامَ ظالِعُ الكلاب قال الأصمعيُّ : هذا باطل إنّما ذلك إذا أصابَ الكلبَ ما يظلَع منه لم يُطِق سِفاد الكلبة حتَّى تهدأ الرِّجْل وحتَّى تملَّ الكلابُ النُّباح وتَفترِقَ وتحتاج إلى النَّوم لطول التعب وإذا كان في ذلك الوقت يلتمس الظالع ورامَ سِفاد الكلبة لم يعرف ظَلعه إلاّ الكلبة وأنشد فقال : ( تسدَّيتُها مِنْ بَعْدِ ما نام ظالِعُ الْ ** كِلابِ وأخْبَى نارَه كلُّ مُوقِد ) وأنشد غيرهَ لجِرَان العَوْدِ : ( وكانَ فُؤادي قدْ صَحَا ثمَّ هاجه ** حَمائمُ وُرْقٌ ُ بالَمدَائنِ هُتَّفُ ) ( كأنَّ الهديلَ الظّالِعَ الرِّجْل وَسْطَهَا ** مِنَ البغْي شِرِّيبٌ يُغَرِّدُ مُتْرَفُ )

ما قيل من الشعر في إشلاء الكلب على الضيوف وقالوا أبياتاً في غير هذا الباب قال الأعرابيّ : ( فَقُلّتُ لأصحابي أُسرُّ إليهمُ ** أذَا اليَومُ أو يومُ الِقيامة أطولُ ) وقال آخر : ( أعدَدْتُ للضِّيفانِ كلباً ضارياً ** عِندي وفضلَ هِراوَة مِنْ أَرْزَنِ ) وقال في خلاف ذلك مالكُ بن حَريم الهمْدانيُّ : ( وواحدةٌ إلاّ أبيتَ بغرَّةٍ ** إذا ما سَوَامُ الحيِّ بات مصرَّعا )

( وثانيةُ ألاَّ تفزَّّع جَارتي ** إذا كان جَارُ القوم فيهم مفزَّعا ) ( وثالثة أَلاَّ أُصمِّتَ كلبَنَا ** إذا نزَل الأضيافُ حِرصاً لتُوزَعا ) استطراد لغوي قال : ويقال لَحِزَ الكلبُ الإناءَ فهو يلحَزه لَحزاً ولحسَه فهو يلحَسه لحساً قال أبو يزيد : وذلك إذا لحِس الإناءَ من باطنه والقَرْو : مِيلَغة الكلب فإذا كان للكلب فإنَّما هو من أسفَل كُوزِ أو ما أشبه ذلك وإلاَّ فالقَرْوُ أسفلُ نخلةٍ يُنْجَر ويقَوَّب ويُنْتَبَذُ فيه .
وقال الأعشى : ( أرمِي بها البِيدَ إذا أعرَضَتْ ** وأنتَ بينَ القَرْوِ والعاصِر ) ( في مِجْدَلٍ شُيِّد بُنْيَانُهُ ** يزِلّ عنْه ظُفرُ الطَّائر ) وممَّا يُحاجي به النَّاسُ بعضُهم بعضاً أن يقولوا : أتعرفون شيئاً إذا قام كان أقصرَ منه إذا قعد يريدون الكلب لأنَّ الكلب قعودُه

إقعاؤه وهو إذا أقعَى كان أرفَع لسَمْكه وأرفعَ في الهواء طولاً منه إذا قام وقال عمر بن لجأ : ( عليه حِنْوا قَتَبٍ مستقدمِ ** مُقْعٍ كإقعاء الكليبِ المعصِمِ ) ويقال أقعى الكلبُ إقعاء ولا يقال قعد ولا جلس وفي الحديث : أَنَّه نَهَى أَنْ يُقْعِيَ أحدُهم في الصلاة إقعاءَ الكلب .
معرفة سنّ الكَلْبِ قال صاحب الكلب : يُعرَف فَتاء الكلب وهَرمُهُ بالأسنان فإذا كانت سوداء كانت دليلاً على كبره وإذا كانت بِيضاً حادّة دلَّت على الفتاء والحداثة وقال : أسنان الذَّكر أكثر .
أصناف الحيوان المشقوقة الأفواه وأصناف الحيوانِ المشقوقةُ الأفواه كالكلب والأسد والفهْدِ موصُوفاتٌ بشدَّة المماضيغ والفكّ والخراطيم كالكلب والخنزير والذئب فأشَبهَ الكلبُ الأسدَ في شَحْو الفم واتِّساعه وعلى أنَّ شَحْو فمه على مقدار

جسمه وأشبَه الذِّئبَ والخنزيرَ في طول الخَطم وامتداد الخُرطوم ولذلك كان شديدَ القلب جيِّدَ الاسترواح فجمع الكلب دون هذه الأصناف ما يصلُح للرضِّ والحطم بعض ما قيل في الأسد والأسد حريصُ واسع الشَّحْو فهو يبتلع البَضْعَةَ التي لو رآها الإنسان لم يظنَّ أنَّ حلقَه يتَّسع لمرورِ ذلك ويقال إنّ عنقَه عظمٌ واحد واللُّقَم لا تجول فيه وهو في ذلك قليلُ الرِّيق فلا يسلُس في حلْقه ما يمرّ فيه بل يبتلع لفرْط نَهمه وشحْوِ لَحييه ضِعفَي ذلك المقدار وقد زعم ناسٌ أنّ الذي يدلُّ على أنَّ عنقَ السبُع عظمٌ واحدٍ ضعفُه عن تصريفه عنقَه فلا يلتفت إلاَّ معاً فيسمَّى الأصيد وقال جِران العَوْدِ في الذئب : ( شدَّّ المماضغَ منه كلَّ مُلْتَفَتٍ ** وفي الذِّراعين والخُرطومِ تسهيلُ )

وقالوا في أسنان الذئب وفي أسنان بعض الحيَّاتِ بأنَّها مَمطُولة في الفكّين يُذْهَبُ إلى أنّه عظمٌ مخلوق في الفك وأنّه لا يُثْغِر وأنشدوا : ( مُطِلْنَ في اللَّحْيينِ مَطلاً إلى ** رأسٍ وأشداقٍ رحيباتِ )
والحيَّاتُ توصَف بسعة الأَشداق والأفاعي خاصَّة هي المنعوتة بذلك وقال الشاعر وهو جَاهلي : ( خُلِقَتْ لَهَازِمُهُ عِزِينَ وَرأسُهُ ** كالقُرص فُلطحَ من طحِينِ شَعِيرِ )

( ويَديرُ عَيناً للوِقاع كأنها ** سمراءُ طاحت من نَفِيضِ بَرير ) ( مما أشبه فيه الكلبُ الإنسان والأسد ) وممَّا أشبَه فيه الكلبُ الإنسان والأسد أنّ كلّ واحدِ من هذه الأجناسِ إنَّما له بطنُ واحد وبعدَ البطن المِعَى إلا أنَّ بعضَ بطنها أعظمُ من بعض ويناسبها في الذي ذكرنا الذئبُ والدُّبّ فما أكثَرَ ما يناسبان الكلب فلذلك صارا يتناكحان ويتلاقحان وهذا قول صاحب المنطق قال : وأمعاء الكلب أشبهُ شيءٍ بأمعاء الحيَّة وهذا أيضاً مما يزيدُ في قدره لأنّه إمّا أن يشبه الإنسان وإمَّا أنْ يشبِه رؤساء السباع ودواهي الحشرات وكلَّما كانت هذه المعاني فيه أكثر كان قدره أكبر

ما يحتلم من الحيوان وما يحتلم قال : والكلب يحلمُ ويحتلم وكذلك الفرس والحمار والصبيُّ يحلم ولا يحتلم والثَّور في هذا كله كالصبيّ ويعرف ذلك في الكلب إذا تفزَّعَ وأنعَظ وزعم أنَّ الاحتلامَ قد عُوين من الفَرس والبِرذون والحمار بعض الأمور التناسلية لدى الحيوان . قالوا : وليس العِظال والتحام الفرجين إلاّ في الكلب والذئاب ومَن أراد أن يُفَرِّق بينَ الكلاب إذا قالوا : والحيوان الذي يطاوِل عند السِّفاد معروف مثل الكلب والذئب والعنكبوت والجمل وإن لم يكن هناك التحام وإذا أراد العنكبوت السفادَ جلَبت الأنثى بعض خيوطِ نسْجها من الوسط فإذَا فعلت ذلك فعَل الذكَر مثلَ ذلك فَلاَ يزالانِ يتدانيان حتى يتشابكا فيصير بطنُ الذَّكر قُبالَةَ بطنِ الأنثى وذلكَ شَبيهٌ بعادات الضفادع .


وقال أبو الحسن عنْ بعض الأَعراب قال : إذا هَجَم الرَّجلُ على الذّئب والذِّئبةِ وهما يتسافدان وقد التحَمَ الفَرْجان قتلَهما ذلك الهاجم عليهما كيف شاءَ لأنَّهما قليلاً ما يُوجدَان كذلك لأَنَّ الذئب وحشيٌّ جدًّا وشَهيٌّ جدّاً صاحبُ قفرة وخلوة وانفرادٍ وتباعد وإذا أراد الذِّئبة توخَّى موضعاً من القِفار لا يطؤه الأَنيِس خوفاً على نفسه وضنًّا بالذي يَجد في المطاولة منِ اللّذة . )
حديث أحمد بن المثنى وحدَّثني أحمد بن المثَنَّى قال : خرجتُ إلى صحراء خوخ لجنايَةٍ جنيتها وخِفْتُ الطّلب وأنا شابٌّ إذْ عرض لي ذئب فكنْتُ كلّما دُرْت من شِقّ استدارَ بي فإذا دُرْت له دَارَ من خلْفي وأنا وسْطَ بَرِّيّةِ لا أجد مُعيناً إلاّ بشيء أسند إليه ظهْري وأصابَني الدُّوار وأيقنْتُ بالهلَكة فبينا أنَا كذلك وقد أصابني ما أصابني وذلك هو الذي أراده الذِّئبُ وقدَّره إذا ذئبةٌ قد عرَضت وكان من الصُّنع وتأخِير الأَجَل أنَّ ذلك كان في زمن اهتياجِها وتسافُدها فلما عايَنها تركَني وقصَدَ نحوها فما

تَلَعْثَمَ أنْ ركِبها وقد كنتُ قرأتُ في بعض الكتب أنَّها تلتحم فَفَوَّقت سهْمِي وهما ينظران إليّ فلمَّا لم أرَ عندهما نكيراً حقَّقَ ذلك عندي ما كان في الكتاب من تلاحُمِهما فَمشَيْت إليهما بسَيفي حتَّى قتلتهما .

لقاح الكلاب والخنازير

قال : ومما يُعَدُّ للكلاب أنَّها كثيراً ما تُلقحُ وتَلقَح لحال الدِّفء أو الخِصب والكلبُ والخنزير في ذلك سواء ولا يكاد غيرُهما من الأصناف يتلاقح في ذلك الزمان فالكلبُ كما ترى ينازع أيضاً مواضع الإساءة والمحاسن في جميع الحيوان .
أسوأ ما يكون الحيوان خلقاً قال : وإناثُ الكلاب تصعُب أخلاقُها إذا كانَ لها جِراء وكلُّ شيء له بَيضٌ أو جِراء أو فِراخٌ فأسوأُ ما يكون خُلقاً وأنزقُ وأكثرُ ما يكون أذًى وأعْرَمُ إذا كان كذلك إلاَّ إناث البقَر . والكلب كلما كان أسنَّ كانَ صوتُه أجهرَ وأغلظ .

تناسل الكلاب

قال : والكلب ينزو إذا تمَّت له ستَّةُ أشهر وربَّما كان ذلك منه وهو ابن ثمانية أشهر والكلبةُ الأنثى تحمِل واحداً وستين يوماً أطولَ ما يكون ولا تضعُ قبل أن يتمّ لحملها ستُّون يوماً ولا يبقى الجرْو ولا يثربّى إذا قصَّر عن ذلك والأنثى تصلح أن يُنزَى عليها بعد سِتَّة أشهر .
ولد البكر من الحيوان والإنسان والكلبة والحِجْر والمرأةُ وغير ذلك يكون أوَّلُ نِتاجها أصغرَ جُثّة وكذلك البَيْضُ إذا كان بكراً وكذلك ما يخرج منه من فرُّوج أو فرخ بقية القول في تناسل الكلاب وذُكور الكلاب تَهيج قبل الإناث في السّنّ والإناث تهيج قبلها في وقت حركتها وكلما تأخَّر وقت الحدث إلى تمام الشَّباب كان أقوى لولده

والكلابُ لا تريد السِّفاد عُمرها كله بل إلى وقت معلوم وهي تلقح إلى أن تبلغ ثمانيَ عشرة سنة وربما انْتَدَرت الكلبة فبلغت العشرين والكلابُ أجناسٌ كثيرة : الكلب السلوقيُّ يَسفَد إذا كان ابن ثمانية أشهر والأنثى تطلب ذلك قبل الثمانية وذلك عند شغُور الذكر ببوله والكلبة تحمِل من نزْوٍ واحد وقد عرف ذلك الذين عرفوا الكلاب وحضروا ليعرفوا ذلك قال : والكلبة السَّلوقيَّة تحمِل سُدْس السنة سِتِّين يوماً ورُبَّما زادت على ذلك يوماً أو يومين والجرو إذا وُضع يكون أعمى اثنَيْ عَشر يوماً ثمَّ يبصر والكلبة تسفَد بعد وضعِها في الشهر الثاني ولا تسفد قبل ذلك .
ومن إناث الكلاب ما تحمل خُمس السنة يعنى اثنين وسبعين يوماً وإذا وضعت الجراء تكون عمياءَ اثنين وعشرين يوماً . ومن أصناف الكلاب ما يحمل رُبع السنة أعني ثلاثة أشهر وتضع جراء وتبقى كذلك سبعة عشر يوماً ثمَّ تُرضع جِراءَها على عدد أيَّامِها التي لا تبصر فيها .
وزعم أنَّ إناث الكلاب تحيضُ في كلِّ سبعة أيام وعلامة ذلك وَرَم أثفارِها ولا تقبَل السفاد في ذلك الوقت بل في السبعة التي بعدها ليكون ذلك تمامَ أربعَة عشرَ يوماً أكثرَ ما يكون وربما كان كذلك لتمام ستَّةَ عشرَ يوماً .


قالوا : وإنَاث الكلاب تُلقي بَعْدَ وضْع الجِراءِ رُطوبَةً غليظةً بلغميَّة وإذا وضَعتْها بعدَ الجِراء اعتراها هُزال وكذلك عامَّة الإناث ولبنها يظهَر في أطبائها قبل أن تضَعَ بخمسة أيام أكثر ذلك وربما كثُر اللبنُ في أطبائها قبل ذلك بسبعة أيام ورّبما كان ذلك في مقدارِ أربعة أيام ولبنها يظهَر )
ويجود إذا وَضَعَتْ من ساعتها قال : فأمَّا السلوقيّة فيظهر لبنها بعد حملها بثلاثين يوماً ويكون لبنُها أوَّلَ ما تضعُ غليظاً فإذا أزمن رقَّ ودقَّ ولبنُ الكلابِ يخالف لبن سائرِ الحيوان بالغلظ بعد لبن الخنازير والأرانب .
وقد تكون علامة مبلغُِ سِفادها مثلَ مَا يعرِض للنِّساءِ من ارتفاع الثَّديين ومعرفة ذلك عسيرة وهذه علامَات تظهر لإنَاث الكلاب وذكورةُ الكلاب ترفع أرجلَها وتبول لتمام ستَّةِ أشهر ومنها مَا لا يفعل ذلك إلى أن يبلغ ثمانية أشهر ومنها مَا يعجِّل قبل ذلك قال : ونقول بقولٍ عامٍّ إنَّ الذكورَ تفعلُ ذلك إذا قوِيت فأمّا الإنَاث فهي تبول مُقْعِية ومنها مَا تشغَر وأكثرُ ما تضعُ الكلبةُ اثنا عَشَر جرواً وذلك في الفَرْط

وأكثر ذلك الخمسة والسّتة ورّبما وضعت وَاحداً فأمَّا إناث السلوقَّية فهي تضعُ ثمانيةَ أجراء وإنَاثُها وَذكورُها تسفَد ما بَقِيَتْ وَيعرِض للكلاب السلوقيَّة عَرَض خاصٌّ : وَهي أنَّها كلَّما بقيت كانت أقوى على السِّفاد

أعمار الكلاب

وذكورة السلوقَّية تعيش عشرَ سنين والإناث تعيش اثنتي عشرة سنة وَأكثر أجناس الكلاب تعيش أربعَ عشرة سنة وَبعض الأجناس تبقى عشرين سنة . قال : وإناث الكلاب أطولُ أعماراً من الذكور وكذلك هي في الجملة وليس يُلقي الكلب من أسنانه سنًّا ما خلا النَّابين وإنَّما يلقيهما إذا كان ابنَ أربعة أشهر . قال : ومن أجْل أنَّ الكلابَ لا تُلِقي غيرَ هذين النَّابين يشكُّ بعض الناس أنها لا تلقى سِنًّا البتّة

أمراض الكلاب

قال : وللكلاب ثلاثة أصنافٍ من المرض وأسماؤها : الكلب بفتح اللام والذبحَة والنقرس والكلَب جُنون فإنْ عرَض لشيء من الحيوان كَلبٌ أيضاً أماته ماخلا الإنسان وهو داءٌ يقتل الكلاب وتقتُل به الكلابُ كلَّ شيء عضّته إلاّ الإنسان فإنّه يعالج فيسْلَم أدواء بعض الحيوان قال : وداء الكلَب يعرِض للحمار فأمَّا الجنون وذَهابُ العقل فإنّه يصيبُ كلَّ شيء فمن ذلك ما يصيب الدوابَّ فإنَّ منها مَا يُصرعَ كما يُصرع المجنون والسائس من الدواب : الذاهب العقل .
صرع أعين الطبيب وقد كان شأن أَعين الطبيب عَجَباً وذلك أنّه كان يُصرع واتَّفق أَنّه كان له بغلٌ يصرع فكان ربَّما اتّفق أن يُصرَعا جميعاً وقد رأى ذلك كثير من أصحابنا البصريِّين

الصَّرْعُ عند الحيوان والصَّرْع عامٌّ في الحيوان ليس يسلم منه صِنف منها حتَّى لا يعرض له منه شىء والإنسان فوق جميع الحيوان تعذيباً وكذلك هو في العقل والمعرفة والاحتيال له مع دفع المضرّة واجتلاب المنفعة ومَا أكثر مَا يعتريهم ذلك ومن ذلك مَا يذهب ومن ذلك ما لا يذهب بعض من عرض لهم الصرع من الفضلاء وقد كان بَخْتِيَشوعُ المتطبِّب عرَض له ذلك وقد كان عرض لعبد الملك بن قُريب فذهب عنه ورَّبما عرض للرّجل الذي لا يُظَنُّ به ذلك في بيان ولا تبيين ولا في أدبٍ ولا في اعتدالٍ من الأخلاط والصحَّةِ من المزَاج ثُمَّ لا يعرض من ذلك إلاَّ ما لا حيلةَ له فيه كما كان يعرض لبِشر بن أبي عمرو بن العلاء النحويِّ

المازنيّ وكما عرض لعبد الرحمن ومنصور الأسدَّيين فما زالا كذلك حتَّى ماتَا ولم يبلغنا أنهما صُرِعا .
الموتَة والمُوتَة جنسٌ من الصَّرْع إلاَّ أَنَّ صاحبَه إذا أفاقَ عاد إلى كمال عقله كالنائم والسكران والمغشيِّ عليه وإن عاش صاحبُ المُوتة في ذلك مائة عام . وليس يلقى شيءٌ من الحيوان في هذا الباب كما يلقَى الوَرَشان )
أختلاف درجات السُّكْر لدى الحيوان كتبيانها لدى الإنسان وأَمَّا السُّكْر فليس شيءٌ من الحيوان إلاَّ وهو يسكر واختلاف سكره كاختلاف سكر الإنسان فإنَّ من الناس مَن تراه يتحدَّث وهو يشرَب فلا تنكر منه شيئاً حتَّى يغلب عليه نوم السُّكر ضربةً واحدة

ومنهم من تراه والنبيذ يأخذُ منه الأوَّلَ فالأوَّل وتراه كيف تَثقُل حركتهُ ويغلُظُ حسُّه ويتمحَّق حتى يَطيش عليه السُّكرُ بالعبث ويطبقَ عليه النوم ومنهم مَن يأخذُه بالعَبث لا يعدُوه ومنهم من لا يرضى بدون السَّيف وإلا بأن يضرب أمَّه ويطلِّق امرأته ومنهم مَن يعتريه البكاء ومنهم مَن يعتريه الضَّحِك ومنهم مَن يعتريه الملَق والتَّفدِيةُ والتَّسليمُ على المجالس والتَّقبيلُ لرؤوس الناس ومِنهم من يرقصُ ويِثِب ويكون ذلك على ضربين : أحدهما من العَرْض وفضل الأشَر والآخر تحريك المرارة وهي علَّةُ الفساد وهيَجان الآفة .
وكلُّ هذه الحالات والصّور والنعوت والأجناس والتوليد الذي يختلف في طبائع الناس وطبائع الأشربة وطبائع البُلدان والأزمان والأَسنان وعلى قدر الأَعراق والأَخلاق وعلى قدر القلَّة والكثرة وعلى قدر التصريف والتوفيق قد وجدوه في جميع أصناف الناس والحيوان إلاَّ أَنَّ في الناس واحدةً لم تُوجَد في سائر الحيوان قطُّْ فإنَّ في الناس من لا يسْكَر البتّة كان محمد بن الجهم وأبو عبد اللَّه العَمِّيُّ

وكان بين عقل زبيد بن حُميد إذا شرب عشْرة أرطال وبين عقله إذا ابتدأ الشرب مقدارٌ صالح .
سكْرُ العمّيّ وإمَّا العَمّيّ فإنَّ بني عبد الملك الزياديِّين دعَوني مرَّةً ليعَجِّبوني منه ولم ينبِّهوني على هذه الخاصَّة التي فيه لأكون أنا الذي أنتبه عليه فدخلت على رجلٍ ضخمٍ فَدْم غليظ اللسان غليظِ المعاني عليه من الكلام أشل المؤنة وفي معانيه اختلافٌ ليس منها شيٌ يواتي صاحبَه ولا يعاونُه ولا يشاركُه ولا يناسبه وحتَّى ترى أنَّ أذنه في شِقٍّ ولسانَه في شقٍّ وحتَّى تظنَّ أنّ كلامه كلامُ محمومٍ أو مجنون وأنَّ كلَّ واحد منهما يقطع نظام المعاني ويخلط بين الأسافل والأعالي فشرب القوم شُربَ الهيم وكانت لهم أجسادٌ مدْبرة وأجوافٌ منكَرة وكنتُ كأنِّي رجلٌ من النَّظَّارة فما زال العمِّي يشرَب رِطلاً ويرقُّ لسانُه وينحلُّ عَقْده ويصفو ذهنُهُ ويذهب كدره ولو قُلْتُ إنِّي لم أرَ مثلَه حُسْنَ نفسٍ كنتُ صادقاً فالتفت إليَّ القومُ أجمعُهم )
فقالوا : لولا هذا العَجَب مَا عَجَّبْنَاك اليوم َمعَ حداثةِ عهدنا بك .


وزعم العمِّيُّ وكان كثيرَ المنازَعة عند القضاة أنَّه كان إذا قارب العشرةَ الأرطالِ ثمّ نَازَعَ الخصومَ كان ذلك اليومُ الذي يفوت فيه ذَرْعَ الخصوم لِلَحَنٍ بحجَّته ويستميل فيه رأيَ القاضي المنعقد في مجلسه الطويل القطوبِ في وجْهِ مَن نازع إليه وقال الشاعر : ( وجدتُ أقلَّ النَّاس عقلاً إذا انتشى ** أقلَّهُمُ عقلاً إذا كانَ صاحِيا ) ( تزيدُ حُسَى الكاس السَّفِيهَ سَفاهةً ** وتَتْرُكُ أخْلاَقَ الرِّجالِ كما هِيا ) قال : وهذا شعر بعضِ المولَّدين والأعاريبُ لا تُخطئ هذا الخطأ قد رأينا أسْفَهَ الناس صاحياً أحلم الناس سكران وهو مِرداسٌ ُ صاحب زهير ورأينا أحسنَ النَّاس خُلقاً وأوزنَهم حلماً حتَّى إذا صار في رأسه رِطلٌ ُ كان أخفَّ من فَرَاشة وأكثرَ نزواً من جَرادةٍ رَمِضة فإنَّ المثَلَ بها يُضرَب .
سبب مَا له عرَفَ المعتزلة سكرَ البهائم وكان سببُ ما لَهُ عرَف أصحابُنا سكْر البهائم أنَّ محمَّدَ بنَ عليِّ بنِ سليمانَ الهاشميَّ لمَّا شرب على علُّويه كلب المطبخ وعلى الدُّهمان وعلى شُرَّاب

البصريِّين وعلى كُلِّ من نزَع إليه من الأقطار وتحدَّاه من الشرَّاب الجَوَادِّ من الشُّرَّاب أحَبَّ أن يشْرَب على الإبل من البَخاتيِّ والعِراب ثُمَّ عَلَى الظِّلف من الجواميس والبقر ثم على الخيل العِتاق والبَرَاذين فلمّا فرَغ من كلِّ عظيمِ الجثة واسع الجُفْرَة صار إلى الشاء والظِّباء ثمّ صار إلى النُّسور والكلب وإلى ابن عِرس وحتَّى أتَاهم حاوٍ فأرغبوه فكان يحتال لأفواه الحيَّات حتَّى يصبَّ في حاقِّ أجوافِها بالأقماع المدنيّة وبالمَسَاعط ويتَّخذ لكلِّ شيء شكله وكان ملكاً تواتيه الأمور وتُطيعه الرجال فأَبصَرُوا تلك الاختلافاتِ في هذه الأجناس المختلفة .
نعت النّظام فخبّرني أبو إسحاقَ إبراهيمُ النَّظام وقد كان جالسَهُ حيناً وكان إبراهيمُ مأمونَ اللِّسان قَلِيلَ الزَّلَل والزَّيغ في باب الصدق والكذب ولم أزعم أنَّه قَلِيلُ الزَّيغ والزَّلَل على أَنَّ ذلك قد كان يكونُ منه وإن كان قليلاً بلْ إنَّما قُلتُ عَلَى مثل قولك : فلاَنٌ قَلِيل الحياء وأنتَ لستَ تريد هناك حياءً البتة وذلك أنَّهم ربَّما وَضعوا القليلَ في موضعِ ليس وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ )
ظنِّهِ وجَودةَ قياسِهِ عَلَى العارض

والخاطر والسابق الذي لا يُوثَق بمثله فلو كان بدَلَ تصحيحِه القياسَ التمَسَ تصحيحَ الأصل الذي كان قاس عليه أمرَه على الخلاص ولكنَّه كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنّاً فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ وحكاهُ عن صاحبه حكايَةَ المستبصر في صحَّة معناه ولكنّه كان لا يقول سمعت ولا رأيت وكان كلامُه إذا خرج مخرج الشَّهادةِ القاطعة لم يشُكَّ السامعُ أنَّه إنَّما حكى ذلك عن سماعٍ قد امتحنه أو عن معاينةٍ قد بهرته .
حديث البهائم في تجربة إسكار البهائم والسباع فحدَّثني إبراهيمُ قال : شهدتُ أكثرَ هذه التَّجربةِ التي كانت منهم في إسكار البهائمِ وَأصنافِ السباع ولَقَد احتالَ لأسد مقلَّم الأَظفار يُنادى عليه : العجَب العجَب حتَّى سقَاه وعرَف مقدارَه في الاحتمال فزعمَ أنّه لم يجِدْ في جميعِ الحيوان أملحَ سُكْراً من الظَّبي ولولا أنَّه من الترفُّه لَكنتُ لا يزال عندي الظَّبيُ حتَّى أسكِره وَأرى طرائفَ ما يكون منه .


قال : وإناث الكلاب السوقية أسرع تعلماً من الذكورة قال : وجميع أصناف السباع ذُكُورتُها أجرأُ وَأمضى وأقوى إلاَّ الفَهْدة والذِّيبَةَ والعامَّة تزعم أنَّ اللَّبُؤة أجرَأُ من الأسد وليس ذلك بشيء وهو أنزَقُ وأَحَدُّ وأفرَقُ من الهَجْهجَة وأبعَدُ من التصميم وشدَّة الصَّولة . ( بين عروة بن مرثد وكلب حسبه لصّاً ) قال بِشر بن سعيد : كان بالبَصرة شيخٌ من بني نَهشَلٍ يقال له عُروة بن مَرْثد نزل ببني أختٍ له في سكَّة بني مازن وبنو أخته من قُريش فخرج رجالُهم إلى ضياعهم وذلك في شهرِ رمضان وبقِيت النِّساءُ يصلِّين في مسجدهم فلم يبق في الدار إلاّ كلب يعُسُّ فرأى بيتاً فدخل وانصفق الباب فسمِع الحركةَ بعضُ الإماءِ فظَّنوا أنَّ لصّاً دخل الدار فذهبتْ إحداهنَّ إلى أبي الأعزّ وليس في الحيِّ رجلٌ غيره فأخبرتْهُ

فقال أبو الأعزِّ : ما يبتغي اللصُّ مِنَّا ثمَّ أخذَ عصاهُ وجاء حتَّى وقفَ على بابِ البيت فقال : إيه يا مَلأَمَان أَما واللهِ إنَّك بي لعَارف وإنِّي بك أيضاً لعارف فهل أنتَ إلا من لُصوصِ بني مازن شرِبتَ حامضاً خبيثاً حتَّى إذا دارت الأقداحُ في رأسك منَّتْك نفسُك الأمانيَّ وقلتَ دُورَ بني عمرو والرِّجالُ خُلوف والنِّساء يصلِّين في مسجدهنَّ فأسرقهنَّ سَوءَةٌ واللهِ ما يفعل هذا الأحرارُ لبئْسَ واللهِ ما منَّتك نفسُكَ فاخرجْ وإلاَّ دخلتُ عليك فَصَرَمَتْك منِّي العُقوبة لايمُ اللهِ لتَخرُجَنَّ أو لأهتفَنّ هتْفةً مشؤومةً عليك يلتقي )
فيها الحيَّانِ : عمرو وحنظلة ويصيرُ أمرُك إلى تال ويجيء سعْدٌ بعَدَدِ الحصى ويَسيل عليك الرِّجالُ من هاهنا وهاهنا ولئن فعلتَ لتكونَنَّ أشأمَ مولودٍ في بني تميم فلما رأى أنَّه لا يجيبُه أخَذَهُ باللِّين وقال : اخرجْ يا بُنَيَّ وأنتَ مستور إنِّي والله ما أُرَاك تعرفُني ولو عرفتَني لقد قنِعتَ بقولي واطمأننت إليَّ أنا عُروة بن مَرثد أبو الأَعزِّ المَرثَدِيُّ وأنا خالُ القومِ وجِلدةُ ما بين أعينهم لا يعصُونَني في أمر وأنا لك بالذِّمة كفيلٌ خفير أصيِّرك

بين شحمةِ أذني وعاتقي لا تُضارّ فاخرج فأنتَ في ذِمَّتي وإلا فإنَّ عندي قَوْصرَّتَين إحداهما إلى ابن أختي البارّ الوَصُول فخذْ إحداهما فانتَبِذْها حلالاً من الله تعالى ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم وكان الكلبُ إذا سمعَ الكلامَ أطرقَ وإذا سكت وثَب يُريغُ المخرج فتهافت الأعرابيُّ أيْ تساقط ثمَّ قال : يا ألأمَ الناسِ وأوضَعَهم أَلا يأْنيِ لك أنَّا منذُ الليلة في وادٍ وأنتَ في آخر إذا قلتُ لك السَّوداءَ والبيضاء تسكتُ وتطرِق فإذا سكتُّ عنكَ تَريغُ المخرج والله لتخرُجَنَّ بالعَفو عنك أو لألجَنَّ عليك البيت بالعُقوبة فلما طال وقوفُه جَاءَتْ جَاريةٌ من إماء الحيِّ فقالت : أعرابيٌّ مجنون والله ما أرى في البيتِ شيئاً ودفعت البابَ فخرج الكلبُ شدّاً وحادَ عنه أبو الأعزّ مستلقياً وقال : الحمدُ لله الذي مَسَخك كلباً وكفاني منك حرباً ثم قال : تالله ما رأيتُ كاللَّيلةِ ما أُراه إلاّ كلباً أمَا

بعض خصال الديك

قال صاحب الديك : في الدِّيك الشّجاعَةُ وفي الديك الصّبرُ عند اللِّقاء وهم لا يجدون الصَّبرَ تحت السِّياط والعصا إلاّ أنْ يكون ذلك موصولاً بالصَّبر في الحرب على وقع السِّلاح

وفي الدِّيَك الجَوَلان وهو ضرب من الرَّوَغان وجنسٌ من تدبير الحرب وفيه الثَّقافةُ والتسديد وذلك أنَّه يقدِّر إيقاع صِيصِيَتِه بعين الديك الآخر ويتقرَّب إلى المذبح فلا يخطئ وهم يتعجَّبون من الجَزَّار ويضرِبون به المثل إذْ كان لايخطئْ اللَّبَّة ومن اللحَّام إذا كان لا يخطئ المَفْصِل ولذلك قالوا في المثل : يطبِّق المحَزَّ ولايخْطئ المَفْصِل وهذا القولُ يذمُّون به ويَمْدحون والديك في ذلك أعجبُ وله مع الطَّعنة سرعة الوَثْبة والارتفاع في الهواء وسلاحه طَرِير وفي موضع عجيب وليس ذلك إلاّ له وبه سمَّى قَرْن الثور صِيصِيَة ثم سمَّوا الآطام التي كانت بالمدينة للامتناع بها من الأعداء صياصِيَ قال اللّه عزَّ وجلَّ : وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهمْ والعَرَبُ تسمِّي الدَّارع وذا الجُنَّة صاحبَ سلاح فلما كان اسم سلاح الديك وما يمتنع به صِيصِيَة سمَّوا قرنَ الثور الذي يجْرَح صيصِيَة وَعلى أنّه يشبَّه في صورته بصيصِية الديك

وإن كان أعظم ثمَّ لمَّا وجدوا تلك الآطامَ معاقِلهم وحصونَهم وجُنّتَهم وكانت في مجرى التُّرس والدرع والبَيضة أجروها مُجْرَى السلاح ثم سمَّوها صياصي ثمَّ أسمَوْا شوكةَ الحائك التي بها تهيَّأُ السَّدَاة واللُّحمة صِيصِيةً إذْ كانت مشبَّهة بها في الصورة وإنْ كانت أطولَ شيئاً ولأنَّها مانعةٌ من فساد الحَوْك والغَزْل ولأنَّها في يده كالسلاح متى شاءَ أن يجأ بها إنساناً وجأه به وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( نَظَرْتُ إلَيْهِ والرِّمَاحُ تَنُوشُهُ ** كَوَقْع الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَدَّدِ )

استطراد لغوي

وقد تسمِّي العربُ إبرة العقرب شوكة كما تسمِّي صيصِيَة الديك شوكة وهي من هذا الوجه شبيهةٌ بشَوك النَّخل

ويقال لمن ضربته الحُمْرة قدْ ضربته الشَّوكة لأنَّ الشَّوكةَ إذا ضربت إنساناً فما أكثرَ ما تعتريه من ذلك الحمرةُ وقد قال القَطاميُّ في تسمية إبرة العقرب شَوكة : ( سرى في جَليدِ الأرْضِ حتَّى كأنّما ** تخزم بالأطراف شوك العَقاربِ ) وتُوصف الحِجْر وتشبَّه بالشَّوكة لأَنَّ الشَّوكة غليظةُ المآخِر لطيفة المَقادم والشَّوكُ والسُّلاّءُ سواءٌ وقال في ذلك عَلْقمة بن عَبدة يصف الحِجْر : ) ( سُلاّءَة كعَصَا النَّهْدِيِّ غُلَّ لها ** ذُو فَيئةٍ مِنْ نَوَى قُرّان مَعْجومُ ) ومن سمَّى إبرة العقرب حُمَة فقد أخطأ وإنَّما الحُمة سمومُ ذواتِ الشعر كالدَّبْر والزَّنَابير وذوَات الأنياب والأَسنان كالأفاعي وسائر

الحيات وسموم ذوَاتِ الإبر من العقارب فأمّا البيِشُ وما أشبهه من السُّموم فليس يقال له حُمَة وها هنا أمور لها سمومٌ في خراطيمها كالذِّبَّان والبَعوض وأشياءُ من الحشرات تَعضُّ وربَّما قتلت كالشّبَث وسامِّ أبرَصَ والطّبُّوعُ شديد الأذى والرُّتَيْلاء ربما قتلت والضَّمج دون ذلك وعقارب طيَّارةٌ : ولم نرهم يسمُّون جميع السُّموم بالحُمة فقلْنا مثل ما قالوا وانتهينا إلى حيثُ انتهوا .

بعض من تقتل عضته

وقد يُعرفُ بعضُ النّاس بأنّه متى عضّ قَتَل كان منهم صفوان أبو جشَم الثّقَفيّ وداودُ القَرَّاد وسيقَع هذا البابُ في موضعه على ما يمكننا إن شاء الله تعالى .

استطراد لغوي

والناس يسمُّون الرَّجلَ إذا بلغ مِنْ حرصه ألاّ يدعِ ذكراً غلامَاً كان أو رجلاً وخَصيّاً كان أو فحلاً إلاّ نكحه مِن فَرْط غُلْمته ومن قوّة فِحلَتِه : صِيصِيَة ويقولون : ما فلانٌ إلا صِيصيَة وهو

بعض مزايا الديك

وللديك انتصابُهُ إذا قام ومباينتُه صورَةً في العين لصُورة الدجاجة وليس هذا الفرقُ الواضحُ من جميعِ الإناث والذكور موجوداً إلاّ فيه وليس ذلك للحمام والحمامة ولا للحمار والحمارة ولا للبِرذَون والرَّمَكة ولا للفرس والحِجْر ولا للجمَل والنَّاقة وليس ذلك إلاّ لهذه الفحولة لأنّها كالرَّجل والمرأة والتَّيس والظبية والدِّيك والدَّجَاجة وكَالفُحَّال والنخلة المطعمة ألا ترى أنّك لو رأيتَ ناقةً مقبلة لم تدر

أنَاقة هي أم جمل حتى تنظر إلى موضع الثِّيل والضّرْع وإلى موضع الحيا وكذلك العنز وكذلك جميع ما وصفت إلاّ أن يدّعوا أن للعامة أو لبعض الخاصة في ذلك خصوصيَّة ولذلك ضربوا المثل بالتّيس والنخلة والفُحّال فاشتقوا من هذا الفحل وهذا أيضاً من خصال الدِّيك ثُمَّ للديك لحية ظاهرة وليست تكون اللِّحى إلاّ للجمل فإنّه يوصف بالعثنون وإلاّ للتَّيس وإلاّ للرَّجل وقال الرَّاجز في الجمل : ( مختلط العُثنونِ كالتّيسِ الأَحَمّ ** سامٍ كأنّ رأسَه فيه وَذم ) إذْ ضمَّ من قطرَيه هياج قَطِم ثمَّ الديك بعدُ صاحب اللِّحية والفَرَق وقالت امرأة في ولدها وزوجها : أمّا قولها أشهب فإنّها تريد أنّ شعرَ جسده قد ابيضَّ من الكِبَر وإنَّما جعلتْ شعرَ رأسهِ كرأس الديك لأنّه كان مخضوبَ الرأس واللِّحية بالحُمْرة ثُمَّ لم ترضَ له بشبه الرجَال من هذا الوجه حتَّى جعلتْ رأْسه

أفرقَ وذلك شيءٌ من الجمال والوقار والفضل لايتَهيَّأ للناس مع كمالهم وتمامهم إلاّ بالتكلف والاحتيال فيه ثُمَّ يبلغ من شدّة تعجله ومن قوَّته على السِّفاد وعلى الباب الذي يفخر به الإنسان إذا كان ذا حظٌ منه وهو ممّا يُذْكي النَّفس كنحو ما ذكر عن التّيس المراطيّ وكنحو مَا تراهم يُبركون للبُخْتيّ الفالج عدّة قلاص فإذا ضَرَب الأُولى فخافوا عليها أن يحطِمها وهو في ذلك قد رمى بِمائهِ مِراراً أفْلَته الرِّجَالُ على التي تليه في القرب حتى يأتي على الثَّلاث والأربعِ على ذلك المثال وما دعاهم إلى تحويله عن الثالثة إلى الرابعة إلاّ تخوفهم من العجز منه وزعم أبو عبد الله الأبرص العَمِّيُّ وكان من المعتزلين أنّ التَّيس المراطي قرَع في أول يومٍ من أوَّل هَيْجِة نَيِّقاً وثمانين قَرعة والنّاسُ يحكون ما يكون من العُصفور في الساعة الواحدةِ من العَدَد الكثير والنّاس يُدخلون هذا الشكل في باب الفضْل وفي باب شدَّة العجلة وتظاهرِ القوَّة والديك يكون له وحدَه )
الدّجاج الكثيرُ فيُوسِعها قمطاً وسفاداً

وقد قلنا في حالة البيض الكثير التُّرابي وقلبِه إيَّاه بسفادٍ إلى الحيوانيّة وعلى أنّ الذي يَخصيه وأنا رأيتُ ديكاً هِنديّاً تسنَّم دَجَاجَة هِنديّة فلم يتمكَّنْ منها فرأيت نطفته حينَ مجَّها وقد زَلِق عن ظهرها على مَدَرة وكانت الدار مُثارَة لتُجعَل بُستاناً فإذا تلك المجَّة كالبَزْقة البيصاء فأخذها بعضُ مَن كان معنا فشمَّها حين رأى بياضها وخَثورتها وكدرتها ليعلم هل تناسب ريحُها ريحَ نُطفة الإنسان ورِيحَ طَلع الفُحَّال فلم يجدْ ذلك .
ثمَّ معرفةُ الدِّيك باللَّيل وساعاته وارتفاقُ بني آدم بمعرِفته وصوته : يعرفُ آناء الليل وعددَ الليل وعددَ السَّاعات ومقاديرَ الأوقات ثمَّ يقسِّط أصواتَه على ذلك تقسيطاً موزُوناً لا يُغادر منه شيئاً ثمَّ قد علمنا أنّ اللَّيل إذا كان خمسَ عشْرَةَ ساعَة أنّه يقسِّط أصواتَه المعروفةَ بالعَدد عليها كما يقسطها والليل تسعُ ساعات ثمَّ يصنع فيما بين ذلك من القسمة وإعطاء

الحصص على حساب ذلك فليعلم الحكماءُ أنّه فوقَ الأَسطرْلاب وفوق مقدار الجزْر والمدِّ على منازل القمر وحتَّى كأنّ طبْعَه فَلكٌ على حِدَة فجمَعَ المعرفةَ العجيبةَ والرِّعاية العجيبة .
وربَّ معرفةٍ تكون نبيلةً وأخرى لا تكون في طريق النَّبالة وإنْ كانت المعارفُ كلّها مفصّلة مقدّرة إلاّ أنّها في منازِلَ ومراتب وليس في الأرض معرفةٌ بدقيقٍ ولا جليل وهي في نفسها شريفة كريمةٌ والمعرفةُ كلُّها بَصر والجهْل كله عمًى والعمى كلُّه شَيْنٌ ونقص والاستبانة كلُّها خيرٌ وفضْل ثم ّ له بعد ذلك ارتفاق الناس بهذا المعنى منه ومن ذلك بُعدْ صوته وأنّه يدلُّ على أنّ موضعَه مأهُولٌ مأنوس ولذلك قالوا : لا يكون البُنْيان قريةً حتَّى يصقَع فيها ديك . وليس في الأَرض طائر أَملح مِلحاً من فرُّوج وليس ذلك الاسم إلاّ لولد الديك وإلاّ فكلُّ شيءٍ يخرج من البيض فإنَّما هو فرخ

والفَرُّوج حين تنصدِع عنه البَيضة يخرج كاسباً عارفاً بموضع لقْط الحب وسدِّ الخَلَّة وهو أصيَدُ للذُّباب من السُّودانيّ ويدرُج مع الولادة بلا فَصْل وهذا مع ما أعطى من محبَّة النساء ورحمة الرجَال وحُسْن الرَّأي من جميع الدار ثم اتِّباعه لمن دَعَاه وإلفُه لمن قرَّبه ثمّ ملاحةُ صوته وحُسن قَدِّه ثمَّ الذي فيه ممَّا يصحُّ له الفروج ويتفرَّج فيه .

تفضيل الديك على الثعلب

قول جعفر بن سعيد في تفضيل الديك على الطاوس

وكان جعفر بن سعيد يزعم أنَّ الدّيك أحمدُ من الطاوس وأنَّه مع جماله وانتصابه واعتداله وتَقلُّعه إذا مشى سَليمٌ من مقابح الطاوس ومن مُوقه وقبح صورته ومن تشاؤم أهل الدار به ومن قُبح رجليه ونَذَالة مَرْآته وزعم أنَّه لو ملك طاوساً لألبَسَ رجليه خفَّاً

وكان يقول : وإنَّمَا يُفخَر له بالتَّلاوين وبتلك التعاريج التي لألوانِ ريشه وربَّما رأيتَ الدِّيك النَّبَطيَّ وفيه شبيهٌ بذلك إلاّ إنَّ الدِّيك أجملُ من التُّدْرُج لمكان الاعتدال والانتصاب والإشراف وأسلمُ من العيوب من الطاوس وكان يقول : ولو كان الطاوس أحسنَ من الدِّيك النَّبَطي في تلاوين ريشه فقط لكان فضلُ الديك عليه بفضل القدِّ والخَرْط وبفضل حُسْن الانتصاب وجودة الإشراف أكثرَ مِنْ مقدارِ فضْل حُسنِ ألوانِهِ على ألوان الديك ولكانَ السليمُ من العيوب في العين أجمل لاعتراض تلك الخصال القَبيحة على حسن الطاوس في عينِ الناظر إليه وأوَّل منازل الحمد السلامة من الذَّمِّ وكان يزعم أنَّ قول الناس فلانٌ أحسن مِن الطاوس وما فلان إلاّ طاوس وأنَّ قولَ الشاعر :

جلودُها مثلُ طواوِيسِ الذَّهب وأنّهم لمّا سمَّوا جيشَ ابن الأشعث الطواويس لكثرةِ مَن كان يجتمع فيه من الفتيان المنعوتين بالجمال إنما قالوا ذلك لأن العامَّة لا تبصر الجمال ولَفَرسٌ رائعٌ كريم أحسنُ من كلِّ طاوسٍ في الأرض وكذلك الرَّجُل والمرأة وإنّما ذهبوا من حسنه إلى حسن ريشه فقط ولم يذهبوا إلى حسن تركيبه وتنصُّبه كحسن البازي وانتصابه ولم يذهبوا إلى الأعضاء والجوارح وإلى الشِّيات والهيئة والرأس والوجه الذي فيه .
وكان جعفر يقول : لمّا لم يكن في الطاوس إلاّ حسنُه في ألوانه ولم يكن فيه من المحاسن ما يزاحمُ ذلك ويجاذبُهُ وينازعه ويَشغل عنه ذُكِرَ وتبيّن وظهر وخصال الديك كثيرة وهي متكافئة في الجمال ونقول : لم يكن لعبد المطّلب في قريش نظير وكما أنّه ليس للعرب في النَّاس نظير وذلك حين لم تكن فيه خصلةٌ أغلبَ من أختها وتكاملت فيه وتساوت وتوافت إليه

فكان الطَّبع في وزن المعرفة فقالوا عند ذلك : سيِّد الأبطح وسيِّد الوادي وسيِّد قريش وإذا قالوا سيِّد قريش فقد قالوا سيِّد العرب وإذا قالوا سيِّد العرب فقد قالوا سيِّد الناس )
ولو كان مثل الأحنف الذي برع في حلمه وبرَع في سائر خصاله لذكروه بالحلم ولذلك ذكر قَيس بن زُهير في الدَّهاء والحارث بن ظالم في الوفاء وعتيبة ابن الحارث في النَّجدة والثّقافة ولو أنّ الأحنَفَ بن قيس رأى حاجبَ بن زُرارة أو زُرارة بن عُدَس أو حِصْن بن حذيفة لقدَّمهم على نفسه وهؤلاء عيونُ أهلِ الوبر لا يُذكَرون بشيءٍ دونَ شيءٍ لاستواءِ خِصال الخير فيهم وفي منحول شعر النابغة : ( فألفيتُ الأَمانة لم تخُنْها ** كذلك كانَ نوحٌ لا يخُونُ ) وليس لهذا الكلام وجهٌ وإنَّما ذلك كقولهم كان داودُ لا يخون وكذلك كان موسى لا يخون عليهما السلام وهم وَإن لم يكونوا في حالٍ من الحالات أصحابَ خِيانةٍ وَلا تجوزُ عليهم فإنَّ النَّاس إنَّما يضربون المثلَ بالشيء النادر من فِعل الرجال ومن سائر أمورهم كما قالوا : عيسى ولو ذكر ذاكرٌ الصبرَ على البلاءِ فقَال : كذلك كان أيُّوب لا يجزع

كان قولاً صحيحاً ولو قال : كان كذلك نوح عليه السلام لا يجزع لم تكن الكلمة أعطِيت حقَّها ولو ذكر الاحتمال وتجرُّع الغيظ فقال : وكذلك كان معاوية لا يسفهُ وكان حاتم لا يفحُش لكان كلاماً مصروفاً عن جهته ولو قال : كذلك كان حاتم لا يبخَل لكان ذلك كلاماً معروفاً ولكان القول قد وقع موقعَه وإن كان حاتمٌ لا يُعرَف بقلّة الاحتمال وبالتَّسَرُّع إلى المكافأة ولو قال : سألتك فمنعتني وقد كان الشَّعبيُّ لا يمنع وكان النَّخعِيُّ لا يقول لا لكان غيرَ محمودٍ في جهة البيان وإن كان ممَّن يُعطِي ويختار نعم على لا ولكنْ لمَّا لم يكن ذلك هو المشهور من أمرهما لم تُصرَف الأمثال إليهما ولم تضرب بهما قال جعفر : وكذلك القول في الديك وجمالِه لكثرة خصاله وتوازُن خلاله ولأنَّ جمال الديك لا يلهَج بذكره إلاّ البُصراء بمقادير الجمال والتوسُّطِ في ذلك والاختلاط والقصد وما يكون ممزوجاً وما يكون خالصاً وحُسن الطاوس حسنٌ لا تعرف العوامُّ غيرَه فلذلك لهِجت بذكره

ومن الدَّجاج الخِلاسيُّ والهنديّ ومن الدَّجاج الزِّنجي ومنها الكَسْكَرِيّ ومن الدّيَكة ما يُخصى فلا يبلغه في الطِّيب والسِّمن شيء وإن اشتدَّ لحمه وإن كان غيرِ خَصيٍّ فقد يُمدح ذلك من وجهٍ هو أرَدُّ عليه في باب الفخر من رَخاوة اللَّحم واستطابة الأكل وعلى أنَّه لو كان أدناه من بعضِ سباع الطَّير أو عدا خَلْفَه إنسانٌ فكان يريد أخْذَه حتَّى إذا فسخه البهر ارتدّ في موضعه لا يبرحُه ثم ذبحه على المكان لجَمَع به الخصال كلَّها ولو علِّقَ في عنقه حَجَرٌ ليلتَه بعد أنْ ذبحه )
أو أولج بطنَه شيئاً من حِلْتيت لجَمَعَ بهِ الخصال فإنّه أعْمَلُ فيه من البُورَق وقشورِ البِطّيخ في اللحم المفصّل وهو بعدُ غيورٌ يحمي دَجاجَه وقال الرَّاجز : يغارُ والغَيرةُ خُلْقٌ في الذَّكَرْ

وقال الآخر : الفحل يَحْمِي شَوْلَهُ مَعْقولا

لحم الدجاج

ولحم الدَّجاج فوق جميع اللُّحمان في الطِّيب والبياض وفي الحسن والملوك تقدِّمه على جميع الفراخ والنواهض والبطِّ والدُّرَّاج وهم للدُّرّاج آكَلُ منهم للجِداء الرُّضَّع وللعُنُق الحُمر من أولاد الصَّفايا . والدَّجاجُ أكثر اللُّحوم تصرُّفاً لأنَّها تطيب شِواءً ثم حارَّاً وبارداً ثمَّ تطيب في البَزْمَاوَرْد ثم تطيب في الهرائِس

ويحدث لَها به نفحةٌ لا تُصاب مع غيرها وتَطيب طبيخاً وتَطيب فُصوصها وإنْ قطَّعتها مع اللحم دَسِمَ ذلك اللحم وتصلح للحَشاوى وللملاقسطي وتصلح في الاسفرجَات وسمينُها يقدَّم في السِّكباجة على البطّ إلاّ أنها تُطْعَمُ المَفْصُودَ وليس ذلك للبط .
لفظ : الدجاج قال : والدِّيَكة دَجَاج إذا ذكرت في جملة الجنس وهذا الباب مما تغلَّب فيه الإناث على الذُّكورة وقال آخرون : لا ولكنَّ الدِّيكَ نفسه دَجَاجة إلاَّ أنَّهم أرادوا إِبانَته بأنَّه ذكرٌ فقالوا : ديك كما يسمُّون الذَّكر والأنثى فرساً بلا هاء فإذا أرادوا أن يُثبتوا إناثها قالوا حِجْر وإن كانت حِجْراً فهي فرس وقال الأخطل : ( نازعْته في الدُّجَى الرَّاحَ الشَّمُولَ وقدْ ** صاحَ الدَّجَاجُ وحانتْ وَقْفةُ السَّارِي )

وقد بيَّن ذلك القرشيُّ حيث يقول : ( اطرُدوا الدِّيكَ عن ذؤابِةِ زيدٍ ** كانَ مَا كانَ لا تطَاهُ الدَّجَاجُُ ) وذلك أنّه كان رأى رأسَ زيدِ بن علي في دار يوسفَ بن عمر فجاء ديكٌ فوطئ شعْرَه ونقَره في لحمه ليأكله .

حوار في صياح الديكة

قالوا : قد أخطأ مَن زعم أنّ الدِّيكة إنَّما تتجاوب بل إنَّما ذلك منها شيءٌ يتوافق في وقت وليس ذلك بتجاوُبٍ كنباح الكلاب لأنّ الكلبَ لا وقتَ له وإنَّما هو صامتٌ ساكت ما لم يحسَّ بشيء يفزَع منه فإذا أحسَّ به نَبح وإذا سمع نُباح كلبٍ آخر أجَابَ ثم

أجابَ ذلكَ آخرُ ثمَّ أجابهما الكلبُ الأوَّلُ وتبيَّن أنّه المجاوِب جميع الكلاب والدِّيك ليس إذاً من أجْل أنّه أنكر شيئاً استجاب أو سمع صوتاً صقع وإنَّما يصقع لشيءِ في طبعه إذا قابل ذلك الوقتَ من اللَّيل هيّجَه فَعدَدُ أصواتِهِ في الوقتِ الذي يُظَنُّ أنّه تتجاوبُ فيه الدِّيكة كعدَدِ أصواتِهِ في القريةِ وليس في القريَةِ ديكٌ غيره وذلك هو في المواقيت والعلَّةُ التي لها يصقَع في وقتِ بعينه شائعةٌ فيها في ذلك الوقت وليس كذلك الكلاب قد تنبح الكلاب في الخُرَيْبة وكلابٌ في بني سعد غير نابحة وليس يجوز أن تكون دِيَكة المهالبة تصقع وديكة المسامِعة ساكتة فإنْ أراد مريدٌ بقوله إنّ الدِّيكة تتجاوب وعلى مثل قول العرب : هذه الجبال تتناظَر إذا كان بعضُها قُبالة بعضٍ وإذا كان الجبلُ من صاحبه بالمكان الذي لو كان إنسانٌ رآه جَاز ذلك وعلى هذا المثال قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في نارِ المشركين ما قال حيث قال : لا تَتَرَاءَى نارَاهما ومع قول الشاعر :

لا تتراءَى قبورهما ( سَلِ الدَّار من جنْبَي حِبرٍّ فَواهبٍ ** وحيثُ يَرَى هَضبَ القَليبِ المضَيّحُ ) وتقول العرب : إذا كانتَ بمكان كذا وكذا حيثُ ينظُر إليك الجبُل فخُذْ عن يسارِك أو عن يمينك وقال الرَّاجز : وكما يرى شَيْخ الجبالِ ثَبِيرا وشيخ الجبال عنده أبو قبيس وقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأخيار : أنا بريءٌ من كلِّ مسلمٍ مع كلِّ مشرك قيل : ولِمَ يا رسولَ اللّه قال : لا تتراءَى ناراهُما

وقال الكسائِيّ : تقول العرب : داري تنظُر إلى دار فلان ودورنا تتناظر وقال اللّه تبارك وتعالى : وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهَمْ لا يُبصِرُونَ وإنَّما قال القوم في تجاوُب الدِّيكة ببيتِ شعرٍ سمعوه للطِّرِمَّاح جهلوا معناه وهو : ( فيا صبح كمش غبر الليل مصعدا ** ببم ونبه العفاء الموشح ) ( إذا صاح لم يخذل وجاوب صوته ** حماش الشوى يصدحن من كل صداح ) وكذلك غلطوا في قول عبدة بن الطبيب : ( إذا صفق الديك يدعو بعض أسرته ** إلى الصباح وهم قوم معازيل ) وإنّما أرادَ تَوافيَ ذلك منها معاً فجعلها دعاء وتجاوبا على ما فسرناه .


قال صاحب الكلب : لولا أنّا وجدنا الحمار المضروبَ به المثلُ في الجهل يقومُ في الصَّباح وفي ساعات اللّيل مقامَ الدّيكة لقد كان ذلك قولاً ومذْهباً غيرَ مَرْدُود ولو أنَّ متفقِّداً يتفقَّد ذلك من الحمار لوجدَه منظوماً يتبع بعضُه بعضاً على عدد معلوم ولوجَدَ ذلك مقسوماً على ساعات الليل ولكان لقائلٍ أن يقول في نهيق الحمار في ذلك الوقت : ليس على تجاوبٍ إنَّما ذلك شيء يتوافى معاً لاستواء العلة ولم تكن للدِّيك الموصوفِ بأنّه فوق الأَسْطرلاب فضيلةٌ ليست للحمار وعلى أنّ الحمار أبعدُ صوتاً وقد بلغ من شدَّة صوتِه ما إن حلَفَ أحمدُ بن عبد العزيز : إنّ الحمار ما ينام قيل له : وما ذاك قال : لأَنِّي أجدُ صياحَه ليس بصياح شيءٍ انتبه تلك الساعة ولا هو صياحُ من يريد أن ينام بعد انقضاء صياحه هذا والحمارُ هو الذي ضَرب به القرآنُ المثلَ في بُعد الصوت وضَرب به المثلَ في الجهْل فقال : كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً فلو كان شيءٌ من الحيوان أجهلَ بما في بطون الأسفار مِن الحمار لضَرب اللّه المثلَ به دونَه عشرة أمثال في شأن الحمار وعلى أنّ فيه من الخصال ما ليس في الديك وذلك أنّ العربَ وضعته من الأمثال التي هي له في عشرة أماكن فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :

كلُّ الصَّيْدِ في جوْفِ الفَرَا وكفاك بِهِ مثلاً وقال العرب : أنْكَحُ من الفَرَأ والفَرَأُ مهموز مفتوحة الفاء مجموعُهُ فِرَاءٌ قال الشاعر : ( بِضَرْبٍ كآذانِ الفِرَاءِ فُضُولُه ** وطَعْنٍ كإيزاغ المخَاضِ تَبُورُها ) وتقول العرب : العَيْرُ أوْقى لِدَمِه وقولهم : مَنْ يَنِك العَيْر يَنِك نيَّاكاً وقالوا : الجحْشَ إذا فاتَتْكَ الأعيار وقالوا :

أصبَرُ من عَير أبي سيَّارة لأنَّه كان دفعَ بأهْلِ الموسم على ذلك الحمار أربعينَ عاماً وقالوا : إن ذَهَب عيرٌ فَعيْرٌ في الرِّباط وقالوا في المديح لصاحب الرأي : جُحَيش وَحْدِه و عُيَير وحده و العَيْرُ يَضْرِط والمِكواةُ في النَّار وقالوا : حمَارٌ يحمل أسفاراً و أضلُّ من حمارِ أهله و )
أخزى اللّه الحِمارَ مالاً لا يُزَكَّى ولا يذَكّى و قد حِيلَ بين العَيْر والنَّزَوان

فالذي مُدح به أكثر فقد وجدنا الحمار أبعدَ صوتاً ووجدناه يعرف من أوقات الليل ويميِّز عدداً معلوماً إلى الصبح إلاّ أنّ له في الأسحار فضيلة والحمارٌ أجهلُ الخلق فليس ينبغي للدِّيك أن يُقضَى له بالمعرفة والحمار قد ساواه في يَسِير علمه ثم بايَنَه أنّ الحمار أحسنُ هداية والدِّيك إن سقط على حائط جَارِه لم يُحسن أن يهتدي إلى داره وإن خرج مِن باب الدار ضلَّ وضلالُه من أسفل كضلالِه من فَوق .

ما روى صاحب الديك من أحاديث في الديك

قال صاحب الديك : حدَّثونا عن صالح بن كيسان عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ابن عتبة قال : صرخَ ديكٌ عندَ النبي صلى الله عليه وسلم فسبَّه بعضُ أصحابه فقال : لا تَسبَّهُ فإنَّه يدعُو إلى الصلاة وعن ابن الماجِشُونِ عن صالح بن كيسان عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة ابن مسعود عن يزيد بن خالد الجُهني : أنّ رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن سبِّ الديك وقال : إنّه يؤذِّن للصَّلاَة .


الحسن بن عمارة عن عمرو بن مرَّة وعن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ مما خلق اللّه تعالى لَدِيكاً عُرْفُه تحتَ العرش وبَرَاثِنُهُ في الأرض السُّفلى وجَناحاه في الهواءِ فإذا ذهب ثُلثا الليل وبقي ثُلثُه ضربَ بجناحه ثم قال : سبِّحوا الملِكَ القُدُّوس سُبُّوح قَدُّوس أيْ أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فعند ذلك تضرِب الطَّيرُ بأجنحتها وتصيحُ الدِّيَكة وأبو العلاء عن كَعب : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دِيكاً عُنقُهُ تحْتَ العرش وبراثنهُ في أسفل الأرَضين فإذا صاحت الديكةُ يقول : سبحانَ الملِكِ القُدُّوس الملِك الرَّحمن لا إله غيره قال : والدِّيَكة أكيسُ شيءٍ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنَّ الدِّيكَ الأبيضَ صديقي وعدوُّ عدوِّ اللّه يحرس دارَ صاحِبِهِ وسبعَ دُور وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبيِّته معه في البيت . ورُوي أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون بالدِّيكة .

ذبح الديك الأفرق

وزعم أصحابُ التَّجرِبةِ أنَّه كثيراً ما يَرون الرَّجل إذا ذبح الدِّيك الأبيضَ الأفرق أنّه لا يزال يُنْكَب في أهله وماله .

كيف تعرف الديك من الدجاجة

إذا كان صغيرا

ً ) وممَّا في المحاجاة أن يقال : كيف تعرف الدِّيك من الدجاجة إذا كان صغيراً حين يخرجُ من البيضة فقالوا : يعلّق بمنقاره فإنْ تحرَّكَ فهو ديك وإن لم يتحرَّك فهو دجَاجة .

شعر في حسن الدجاجة ونبل الديك

قال الشاعر في حُسن الدَّجاجة ونَبل الديك : ( غَدَوْتُ بَشربةٍ من ذاتِ عِرْقٍ ** أبا الدَّهناء من حَلَبِ العصير ) ( وأُخرى بالعقَنْقَل ثم رُحنا ** نرى العُصفورَ أعظمَ من بَعيرِ ) ( كأنَّ دجَاجَهم في الدَّار رُقطاً ** بناتُ الرُّوم في قُمُصِ الحريرِ ) ( فبتُّ أُرَى الكواكبَ دانِياتٍ ** يَنَلنَ أنامِلَ الرَّجُلِ القَصِيرِ ) ( أُدافعُهنَّ بالكفَّينِ عنِّي ** وأمسح جَانبَ القمر المنير )

طعن صاحب الكلب في الديك

وقال صاحب الكلب : الأشياءُ التي تألفُ الناس لا تريد سواهم كالعصفور والخطَّاف والكلب والسّنورِ والدِّيكُ ممَّا يتَّخذه الناس وليس ممَّا يحنُّ إليهم فيقطَع البلادَ نِزاعاً فيكون كالقواطع من الطير التي تريدهم كالخطَّاف ولا هو من الأوابد كالعصفور الذي حيثُما دار رجع إليهم ولا هو كالكلب الذي لا يعرف سواهم ولا هو كالأهليِّ من السنانير التي متى ألفِتهم لم تفارقهم وتعُسُّ باللَّيل وتطوف في القبائل من دار إلى دار ثمَّ لا يكون مرجعُها إلاَّ إليهم والدِّيك في خلافِ ذلك كلِّه ثمّ لا يألف منزله ولا يعرف رَبْعه ثم لا يحنُّ إلى دجاجهِ ثمَّ لا تتوق نفسُه إلى طَروقته ولا يشتاق إلى ولده ولا يعرف الذين غَذوه وربَّوه بل لم يدر قطّ أنَّ له ولداً ولو كان درَى لكان على درايته دليل فإذْ قدْ وجدناهُ لفراريجه وبيضه المخلوقة منه ومِنْ نجْلِه كما نجده لما لم يلدْ ولما ليس مِن شكله أيضاً ولا يرجعُ إلى نسبه فكيف لا نقضي عليه بالنَّقص إذ كانت الأمور لا وهو لا يعرف أهلَ دارِه ولا يُثبت وجهَ صاحبه الذي لم يُخْلقْ إلاّ عندَه وفي ظلِّه وتحتَ جناحه ولم يزلْ في رزقه وعِياله والحمام ترجع إليه من مائتي فرسخ ويُصطاد فيتحوَّل عن وطنه عشْرَ حِجَج ثمَّ هو

على ثباتِ عهده وقوَّةِ عقْده وعلى حِفاظه وإلفه والنِّزاع إلى وطنه فإن وجد فُرجة ووافق جناحَه وافياً وافاه وصار إليه وإن كان جناحُه مقصوصاً جَدَف إلى أهله وتكلَّف المضيَّ إلى سكَنه فإمّا بَلَغ وإمَّا أَعْذَر .
والخُطّاف يقطع إليهم من حيث لا يبلغه خبر ولا يطؤه صاحب سفر على أنّا لا نراه يتَّخذ وكرَه إذا صار إليهم إِلاّ في أحصَنِ موضع ولا يحمله الأُنْس بهم على ترك التَّحرُّز منهم والحزمِ في مُلابَستهم ولا يحمله الخوف منهم على منْع نفسه لذّةَ السُّكونِ إليهم ولا يبخس الارتفاق بهم حظّه والعصافير لا تقيم في دار إلاّ وهي مسكونة فإن هجرها الناسُ لم تُقِمْ فيها العصافير .
قول صاحب الكلب في السنور والهرة والسِّنَّور يعرف ربَّةَ المنزل ويألف فرخَ الحمام ويُعابِث فراريج الدار إن سُرق ورُبط شهراً عاد عند انفلاته وانحلال رباطه والهرَّةُ تعرف ولدَها وإن صار مثلَها وإن أُطعِمت شيئاً حملته إليه وآثرته به وربّما أُلقي إليها الشيءُ فتدنو لتأكلَه ويُقبلُ ولدها فتُمسِك

عنه وترضُّه له وربّما طُرح لها الشيءُ وولدها غائبٌ عنها ولها ضروبٌ من النَّغَم وأشكالٌ من الصِّياح فتصيح ضرباً من الصِّياح يعرفُ أهلُ الدَّارِ أنّه صياحُ الدُّعاء لا غير ذلك ويقال : أبَرُّ مِنْ هِرَّة )
ومتى أرادتْ ما يريدُ صاحبُ الغائط أتت مواضعَ ترابٍ في زاويةٍ من زوايا الدَّار فتبحثه حتَّى إذا جعلتْ له مكاناً كهيئة الحفرة جعلَتْه فيها ثمَّ غطّتهُ من ذلك التُّراب ثمَّ تشمَّمتْ أعلى ذلك التراب وما ظهرَ منه فإنْ وجدَتْ شيئاً من الرائحة زادت عليها تراباً فلا تزال كذلك حتَّى تعلم أنَّها قد أخفت المرئيّ والمشموم جميعاً فإنْ هي لم تجدْ تراباً خَمشت وجهَ الأرض أو ظَهْرَ السَّطح حتَّى تبلغَ في الحفر المبلغَ ومن ستر ذلك المجهودَ .
وزعم ناسٌ من الأطبَّاءِ أن السِّنَّورَ يعرفُ وحدَه ريحَ رجْعهِ فإنما يستره لمكان شمّ الفأر لَهُ فإنها تفرُّ من تلك الرائِحة أو يُغطِّيه لما يكون فيه من خلُق من أخلاق الأسد و ما يشاكل فيهِ الأسدَ في الخُلُق على قدر ما يشاكله في الخَلق وتعداد ذلك كثيرٌ .

( سُلاح الديك ) والدِّيكُ لا تراه إلاَّ سالحاً ثمَّ لا يتوقَّى ثوبَ ربِّ الدار ولا فِراشه ولا بِساطه هذا وحياتُه التُّراب ولذا يدفن نفسَه فيهِ ويُدخله في أصولِ ريشهِ ثمَّ لا ترى سُلاحاً أنتن من سُلاحهِ ولا يشبه ذَرْق الحمام وصَوْم النَّعامِ وجَعْر الكلب ثم مع ذلك لا تراه إلاّ سائلاً رقيقاً ولو كان مُدَحرَجاً كأبعار الشاءِ والإبل والظباء أو متعلقاً يابساً كجَعْر الكلب والأسد ثمَّ لو كان على مقدار نتنه لكان أهونَ في الجملة وقال أبو نُواسٍ في ديكِ بعض أصحابه : ( آذيتَنا بدِيككَ السَّلاّحِ ** فنجِّنا مِنْ مُنْتِنِ الأرْوَاح . )

استخدام الخناقين للكلب

وقال صاحب الكلب : ومن مَرافق الكلب أنّ الخنَّاقين يظاهر بعضُهم بعضاً فلا يكونون في البلاد إلاّ معاً ولا يسافرون إلاّ معاً

فربَّما استولَوا على دربٍ بأسْره أو على طريقٍ بأسره ولا ينزلون إلاّ في طريق نافذ ويكون خلف دُورهم : إما صَحارى وإمَّا بساتين وإما مزابِلُ وأشباهُ ذلك وفي كلِّ دارٍ كلابٌ مربوطة ودُفوف وطُبول ولا يزالون يجعلون على أبوابهم معلَّمَ كتّابٍ منهم فإذا خنق أهلُ دارٍ منهم إنساناً ضربَ النِّساءُ بالدُّفوف وضربَ بعضهم الكلابَ فسمع المعلِّم فصاحَ بالصِّبيان : انبَحُوا وأجابهم أهْلُ كلِّ دَارٍ بالدفوف والصُّنوج كما يفعل نساءُ أهْلِ القرى وهَيَّجوا الكلاب فلو كان المخنوقُ حماراً لما شَعر بمكانه أحد كما كان ذلك بالرَّقَّة .
وانظرْ كيف أخذُوا أهْلَ دَرْبٍ بأسره وذلك أنّ بعضهم رغِب في ثُوَيب كان على حمّال وفيهِ دريهمات معَهُ فألقى الوَهَق في عنقهِ فغُشي عليهِ ولم يمتْ وتحرَّك بطنُه فأتى المتوضَّأ وتحرَّك )
الحمَّال والسَّاجور في عنقِه فرجَعت نفْس الحمال فلمّا لم يحسّ بأحَدٍ عندَه قَصَدَ نحوَ باب الدار وخرح وزِيارهُ في عنقهِ وتلقّتهُ جماعَتُه فأخبرهم الخبر وتصايح النَّاس فأُخِذوا عن آخرهم .

بعض الخبر والشعر في الخناقين

وقد كان بالكوفة شبيهٌ بذلك وفي غيرها من البلدان فقال حمادٌ الرَّاوية وذكر المرميِّين بالخنق من القبائل وأصحاب القبائل والنِّحَل وكيف يصنع الخُنَّاق وسمَّى بعضَهم فقال : ( إذا سرتَ في عِجْلٍ فسِرْ في صَحابةٍ ** وكِنْدَةُ فَاحْذَرْها حِذارَكَ للخَسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى زيار وغِيلَةٌ ** وقَشْبٌ وإعمالٌ لجنْدلة القَذْف ) ( وكلُّهم شَرٌّ عَلَى أنَّ رأسَهم ** حميدةُ والميلاءُ حاضِنَةُ الكِسْف ) ( متى كنتَ في حَيَّيْ بَجيلَةَ فَاستمعْ ** فإنَّ لهم قَصْفاً يدُلُّ على حَتْف ) ( إذا اعتزموا يوماً على خنْقِ زائِرٍ ** تداعَوْا عَلَيْهِ بالنُّباح وبالعزف )

وأمَّا ذِكره لبني عجل فلمكان ذي الضفرتين وغيره من بني عجل وأمَّا ذكره كندة فقد أنشدنا سُفيان بن عيينة وأبو عبيدة النحويُّ : ومن كِندة أبو قصبة أُخذ بالكوفة وقُتِل وصُلب وكان بالكوفة ممَّن يأكلُ لحومَ النَّاس عَدِيَّةُ المدَنية الصَّفراء وكان بالبَصرة رَادَوَيه صاحب قصاب رادويه وأمَّا الأعمى في بني ضبَّة الذي ذكره فهو المُغيرة بن سعيد صاحب المُغِيرِيَّة وهم صِنْفٌ ممَّن يعمل في الخنق بطريق المنصوريَّة والمغيرة هذا من موالي بَجِيلة وهو الخارج عَلى خالد بن عبد اللّه القَسْرِيّ وعِند ذلك قال خالد وهو عَلى المِنبر : أطعِمُوني ماءً وفي ذلك يقول يحيى بن نوفل :

( وقلتَ لِما أصابَك أطعِموني ** شراباً ثمَّ بُلْتَ عَلَى السَّرِير ) ( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشَيْخٍ ** كَبيرِ السِّنِّ ذي بَصرٍ ضرير ) وأما حميدة فقد كانت لها رياسة في الغالِية وهي ممَّن استجاب لليلى السبائية الناعِظية والميلاءُ حاضِنة أبي منصور صاحب المنصوريَّة وهو الكِسْف قالت الغالية : إيَّاه عَنَى اللّهُ تبارك وتعالى وَإنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ وقد ذَكَرَه أبو السرِيِّ مَعْدَانُ الأَعمى الشُّمَيطي في قصيدته التي صنّف فيها الرَّافضة ثم الغالية وقدَّم الشُّميطيَّة عَلَى )
جميع أصناف الشيعة فقال :

( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ آل كُمَيلٍ ** وكُمَيْلٌ رَذْلٌ من الأرْذالِ ) ( منهم جاعلُ العَسيبِ إماماً ** وفريقٌ يرض زَنْد الشَّمال ) ( وفريقٌ يقول إنَّا برَاءٌ ** من عَلِيٍّ وجُنْدُبٍ وبِلاَلِ ) ( وبرَاءٌ مِنَ الذي سَلّمَ الأَمْ ** ر عَلَى قدرةٍ بغير قتال ) ( وفريقٌ يدين بالنصِّ حَتْماً ** وفريقٌ يدِينُ بالإهمال ) لأنَّ الكميليَّة لا تجيز الوَكالة في الإمامة وتقول لاَبُدَّ من إمَامٍ صامتٍ أو ناطِقٍ ولابدَّ من عَلَم يمدُّ الناسُ إليهِ أعْناقَهم وأبو منْصُورٍ يقولُ بخلاف ذلك وأمَّا قوله : ( وفي شِيعة الأعمى زِيارٌ وغيلة ** وقشب وإعمالٌ لجنْدَلَةِ القَذْفِ )

فقد قال مَعْدان : ( حبشيٌّ وكافر سبياني ** حَربيٌّ وناسخ قَتَّال ) ( تلك تيميَّةٌ وهاتيك صمت ** ثمَّ دين المغيرة المغتالِ ) ( خنق مرَّةً وشَمُّ بخار ** ثمَّ رضْخٌ بالجندَلِ المتوالي ) لأنَّ من الخنّاقين من يكون جامعاً وبذلك يسمُّونه إذا جمعَ الخنْق والتشميم وحمل معه في سَفَرهِ حَجَرَين مستديرين مُدمْلَكين وململمين فإذا خلاَ برجلٍ من أهل الرُّفقة استدبره فَرَمى بأحدهما قَمَحْدُوَتَه وكذلك إن كان ساجِداً فإن دمغه الأَول سلبَهُ وَإنْ هُوَ رَفَع رأسَهُ طبَّق بالآخر وَجْهَهُ وَكذلك إنْ ألفاه نَائماً أو غافِلاً ولقد صَحِبَ منهم نَاسٌ رجلاً خرج من الرَّيِّ وفي حَقوه هِمْيَانٌ فكان لاَ يفارق مُعْظَمَ النَّاس فلمَّا رأوهُ قد قَرُب مِنْ مفرِق الطَّريقين ورأوا احتراسَهُ وهم نزولٌ إمَّا فِي صحراء وإمّا في بَعْضِ سُطوحِ الخانَات والنّاس مُتشاغلون بأمُورهِمْ فلم يشعُرْ صاحِبُ الهِمْيان نهاراً والنّاس حَوْلَهُ إلا والوَهَقُ في عنقِهِ وطرحَهُ الآخر حين ألقاه في عنقِه ووَثَبَ إليهِ وجلَسَ علَى صَدره ومَدَّ الآخَر برجْليهِ وألقى عليهِ ثَوْباً وأذّنَ فِي أذُنِهِ

فقام إليهم بعضُ أهل الرُّفقة كالمعين والمتفجِّع فقالوا له : مكانَك فإنّه إنْ رآك خجِل واستحَى فأمسك القومُ عنهم وارتحل القوم وأعجلوا بصاحبهم فلمَّا خَلَوا به أخذوا ما أحَبُّوا وتركوا ما أحَبُّوا ثمَّ حملوه عَلَى أيديهم حتى إذا برزوا رمَوه في )
بعض الأودية .
شعر أعشى همدان في السبئية وقد ذكر أعشَى هَمْدانَ السَّبئيَّةَ وشأنَهم في كرسيِّ المختار : ( شهدتُ عليكم أنّكم سبَئِيَّة ** وإنِّي بكم يا شُرْطَة الكُفْر عارفُ ) ( وأُقسِمُ ما كرسيُّكم بسَكِينةٍ ** وإنْ كانَ قد لُفَّتْ عليهِ اللفائف ) ( وإنِّي امرؤٌ أحببتُ آلَ محمَّدٍ ** وآثَرْتُ وَحْياً ضُمِّنَتْهُ المصاحِفُ )

( وإن شاكراً طافتْ به وتمسَّحَتْ ** بأعواد ذاوٍ دبرت لا تساعف ) ( ودَانَتْ بِهِ لابن الزُّبيرِ رقابُنا ** ولا غَبْنَ فيها أو تُحَزُّ السَّوالِفُ ) ( وأحسبُ عُقباها لآلِ محمَّدٍ ** فَيُنْصَرُ مَظلومٌ ويأمن خائفُ ) ( ويجمَعُ ربى أُمَّةً قَدْ تَشَتّتَتْ ** وهاجتّْ حُروبٌ بينَهُمْ وحَسَائِفُ ) أبو عبيدة : الحسيفة الضغينة وجمعها حسائف .
من قتل نفسه بيده وما أكثر من قتل نفسَهُ بيده إمَّا لخوف المُثْلة وإمَّا لخوف التعذيب والهوان وطولِ الأسر وقد كان الحكمُ بن الطُّفيل أخو عامر بن الطفيل وأصحابُه خنَقُوا أنفسَهم في بعض الأيام فعُيِّروا بذلك تعييراً شديداً فقال خُراشة بن عامر بن الطفيل : ( وقُدْتَهم للموت ثُمَّ خَذَلْتَهُمْ ** فَلا وألتْ نفسٌ عليك تحاذرُ ) ( فهلْ تبلِغنِّي عامراً إنْ لَقِيتَه ** أسلِّيتَ عن سلمان أم أنتَ ذاكرُ )

( فإنَّ وراءَ الحيِّ غِزْلانَ أيْكةٍ ** مُضَمَّخَةً آذانُها والغدائرُ ) ( وإنَّكم إذ تخنُقون نفوسَكم ** لكمْ تحتَ أظْلاَلِ العِضَاهِ جرائرُ ) ( ونحنُ صبَحْنا عامراً في دِيارِها ** عُلالَة أرماحٍ وعَضْبا مُذَكَّرا ) ( بكلِّ رقيقِ الشَّفْرتين مُهَنَّدٍ ** ولَدْنٍ من الخَطِّيِّ قد طرَّ أسمَرَا ) ( عجِبت لهم إذ يخنقُوُن نفوسَهم ** ومَقْتَلهمْ عند الوغَى كان أعذرا ) ( يَشُدُّ الحليمُ منهم عَقْدَ حبله ** ألاَ إنَّما يأتي الذي كان حُذِّرَا )

رثاء أبي زبيد الطائي كلباً له وقال أبو زُبَيْدِ في كلبٍ لَهُ كان يُساور الأسدَ ويمنعه من الفساد حين حطمه الأسد وكان )
اسمه أكدر فقال : ( أخَال أكْدَرُ مختالاً كعادتِه ** حتى إذا كان بينَ الحَوْض والعَطَنِ ) ( لاقى لدى ثلل الأضواء داهية ** أسرت وأكدرت تحت الليل في قرن )

( حطَّت بِهِ سُنَّةٌ ورْهاءُ تَطْرُدُه ** حتَّى تَنَاهى إلى الأهوال في سَنَنِ ) ( إلى مُقاربِ خَطْوِ الساعِدَينِ لَهُ ** فوق السَّراةِ كَذِفْرَى القارِح الغَضِنِ ) ( رِيبالُ ظلماءَ لا قَحْمٌ ولا ضَرَعٌ ** كالبغل خطّ به العجلان في سكن ) ( فأسرَيا وهما سنَّا همومهما ** إلى عرين كُعشِّ الأرمَل اليَفَنِ ) ( هذا بما علقت أظفاره بهم ** وظنُّ أكدَرَ غيرُ الأَفْنِ والحَتَن )

( سقط : بيت الشعر ) ( حتى إذا ورد الغزال وانتبهت ** لحسه أم أجر ستة شزن ) ( بادٍ جناجنها حصَّاء قد أفلت ** لهن يبهرن تعبيراً عَلَى سدن ) ( وظنَّ أكدرُ أن تموا ثمانية ** أن قد تجلَّل أهلُ البيت باليُمنِ ) ( فخافَ عزَّتهم لما دنا لهمُ ** فحاص أكدَرُ مشفيّاً من الوَسَنِ ) ( بأربَع كلُّها في الخلق داهية ** عُضفٍ عليهنَّ ضافِي اللحم واللبن ) ( ألفاه متَّخِذَ الأنيابِ جُنَّتَه ** وكانَ باللَّيل وَلاَّجاً إلى الجَنَنِ ) رثاء أعرابي شاة له أكَلها ذئب وقال صاحب الكلب : قال أعرابيٌّ وأكل ذيبٌ شاةً لَهُ تسمّى وردة وكُنْيَتها أم الوَرد :

( أودَى بِوَرْدَةَ أمِّ الوَردِ ذُو عَسَل ** من الذئاب إذا ما راحَ أو بَكَرَا ) ( لولا ابنُها وسَليلاتٌ لها غرُرٌ ** ما انفكَّت العَيْنُ تَذْرِي دَمْعها دِرَرَا ) ( كأنَّما الذِّئب إذ يَعْدُو عَلَى غَنَمي ** في الصُّبحِ طالبُ وِترٍ كانَ فَاتَّأرا ) ( اعتامَها اعتامَهُ شَثْنٌ براثِنهُ ** من الضّواري اللَّواتي تقصِم القَصَرَا ) قال : في هذا الشعر دَليلٌ أنَّ الذِّئب إنَّما يعدو عليها مع الصبح عند فتور الكلْب عن النُّباح لأنَّه باتَ ليلَتهُ كلّها دائباً يقظانَ يحرُس فلمَّا جَاءَ الصُّبحُ جاءَ وَقتُ نَوْم الكلاب وما يعتريها من النّعاس ثم لم يَدْعُ اللَّهَ عَلَى الذِّئبِ بأن يأكله الأَسد حتَّى يختاره ويعتامه إلاَّ والأسدُ يأكل قول صاحب الديك في إجازة الشعراء الدجاج وقال صاحب الدِّيك : لم نر شريفاً قَطُّ أجازَ شاعراً بكلْب ولا حَبا بِه زائراً وقد رأيتَهم يجيزون الشُّعَرَاء بالدَّجاج وأعْظَمُ من

ذلك أن لقيمَ الدَّجَاجِ لما قال في افتتاح خيبر وهو يعني )
النبي صلى الله عليه وسلم : ( رُمِيَتْ نَطاةُ من النبيِّ بفَيْلقٍ ** شهْباءَ ذاتِ مَناكِب وفَقَار ) وهَب لَهُ دَجاج خَيبَر عن آخرها رواه أبو عمرو والمدائني عن صالح بن كَيّْسان ولتلك الدَّجَاج قيل : لقيم الدَّجَاج .
إياس بن معاوية وأخوه وقال صاحب الكلب : قال أبو الحسن : كانَ إياسٌ بنُ معاويَة وهو صغيرٌ ضعيفاً دقيقاً دميماً وكانَ لَه أخٌ أشدُّ حركَةً منْهُ وَأقوى فكان معاويَةُ أبوه يقدِّمهُ علَى إياس فقال لَه إياسٌ يَوْماً يا أبتِ إنَّك تقَدِّمُ أخي عَلَيّ وسأضربُ لك مثلي ومثلَه : هو مثل الفَرُّوج

حين تنفلق عنه البَيضة يخرج كاسياً كافياً نَفْسَهُ يلتقط ويستخفُّه الناس وكلّما كبر انتُقص حتى إذا تَمَّ فصار دجاجة لم يصلحْ إلاّ للذبح وأنا مثلُ فَرخِ الحمام حين تنفلق عنه البَيضةُ عن ساقطٍ لا يقدر عَلَى حركة فأبَواه يغذُوانِهِ حتّى يقوى ويثبتَ ريشُهُ ثمَّ يحسُن بعد ذلك ويطير فَيجِدُ به الناس ويكرمونَهُ ويرسل من المواضع البعيدة فيجيء فيُصان لذلك ويُكْرَمُ ويُشْتَرى بِالأَثْمانِ الغالية فقال أبوه : لقد أحسنت المثل فقدَّمه عَلَى أخيهِ فوجَد عِنْدَهُ أكثرَ مما كانَ يظنُّ فيه .
قال صاحب الكلب : وقد أغفل إياسٌ في هذا القول بعضَ مصالح الدَّجاج وذلك أنّ الدَّجاج مِنْ لدُنْ يخرج من حَدِّ الصِّغَر والكَيْس إلى أن يدخل في حَدِّ الكبر واحتمالِ اللَّحم والشَّحم يكون أخبثَ حالاً لأنَّهُ لا يصلح فيه للذَّبح وقد خرج من حدِّ الكَيْس والاستملاح وإياسٌ هو الذي يقول : لستُ بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدعني ولا يخدَع ابن سيرين وهو يخدع أبي ويخدَع الحسَن .

باب ما يحتاج إلى معرفته

يقال فَرْج المرأة والجمع فُروج وهو القُبُل والفَرْجُ كِناية و الاسم الحِرُ وجمعه أحْراح وقال الفرزدق : ( إنِّي أقودُ جملاً ممْرَاحَا ** في قُبَّةٍ مُوقَرةٍ أحْرَاحَا ) قالوا : وإنِّما جمعوه عَلَى أحراح لأَنَّ الواحد حِرْح هكذا كان أصله وقد يستعار ذلك وهو قليل قال الشاعِرُ : فلم يرض الاستعارة حتَّى ألحق فيها الهاء وهو الكَعْثَب وقال الفرزدق : ( إذا بطِحت فوقَ الأَثَافي رَفعنها ** بثديين مَعْ نحر كريمٍ وكَعْثَبِ )

وقال الأغلب : حَيَّاكة عن كعْثبٍ لم يَمْصَحِ وهو الأجم وقال الرَّاجز : ( جارية أعظمها أجَمُّها ** قد سمَّنتْها بالسَّويق أمُّها ) بائنة الرِّجْلِ فما تَضمُّها وقال : وقد يسمّى الشَّكْر بفتح الشِّينِ وإسكان الكاف وأنشدوا : ( وكنتَ كليلة الشَّيْبَاء هَبَّتْ ** بمَنْع الشَّكْرِ أتأمَهَا القَبيلُ ) أتأمها : أفضاها وأمَّا قوله : ( قد أقبلَتْ عَمْرَةُ من عِرَاقِها ** مُلْصَقَة السَّرْجِ بخَاقِ باقها ) قال : وهو إن أرادَ الحِرَ فليس ذلك من أسمائه ولكنه سَّماه بذلك على المزاح

قالوا : والظَّبْيَةُ اسم الفَرْج من الحافر والجمع الظَّبَيات وقد استعاره أبو الأخزر فجعله للخُفِّ فقال : ( ساوَرَها عندَ القُرُوءِ الوحمْ ** في الأرض ذات الظّبيات الجحمْ ) ( فجاء بغُرمولٍ وفلك مُدَمْلَكٍ ** فَخَرَّقَ ظَبْيَيْها الحِصانُ المُشَبِّقُ ) وهو من الظِّلف والخُفِّ الحيا والجمع أَحيية وهو من السبع ثَفْر وقد استعاره الأَخطلُ للظِّلْف فقال : ( جَزَى اللَّه عنّا الأَعْوَرَيْنِ مَلاَمَةً ** وعبلة ثَفْر الثّوْرَةِ المتَضَاجِمِ ) فلم يرضَ أن استعاره من السَّبُع للبقرة حتَّى جعل البقرة ثورة وقد استعاره النَّابعةُ الجَعديُّ )
للحافر كما استعاره الأخطل للظِّلف فقال : ( بُرِيذنَةٌ بَلَّ البَرَاذين ثَفْرَها ** وقد شَرِبتْ مِنْ آخر الليل أُيَّلاَ )

وقد قالوا بِرذونة وقال الرَّاجز : ( تزَحْزَحي إليك يا بِرذَوْنهْ ** إنّ البراذِينَ إذَا جَرَيْنَهْ ) مَعَ الجيادِ ساعَةٌ أعيَيْنَهْ وقد استعاره آخرُ فَجَعَلهُ للنعجة فقال : ( وما عمرُو إلاَّ نَعْجَة سَاجِسِيَّةٌ ** تَحَرَّكُ تحْتَ الكَبْشِ والثَّفْرُ وَارِمُ ) والسَّاجِسِيّةُ : ضأنُ في تغلب وقد استعاره آخرُ فجعله للمرأة فقال : ( نحن بنو عَمْرَة في انتِسابِ ** بنت سُويد أكْرَم الضِّبابِ ) ويقال لجُردان الحمار غرمول وقد يقال ذلك للإنسان وقضيبِ البعير وهو لكلِّ شيء ومِقّلم الجمل فقط ومن السباع العقدة وأصله للكلب والذِّئب وقال جرير : ( إذا رَوِينَ عَلَى الخنزير من سَكَرٍ ** نادَينَ يا أعْظَمَ القَسِّينَ جُرْدَانا ) ويقال : صرفت الكلبة صرافاً وصِروفاً وظلعت تظلع ظلوعاً

وقالوا في الأمثال : لا أفْعَلُ حتَّى ينامَ ظاِلعُ الكلاب أي الصارف ولم يعرف الأَصمعِيُّ ظلعت الكلبة بمعنى صَرَفت واستحرمت وأجْعَلت واستجعلت واستطارت والذئبة في ذلك كالكلبة قال : ويقال في السِّباع : قد وَضَعت وولَدت ورمصَت مثلَ ما يقالُ للنَّاس والغنم .

بحث في المذكر من الحيوان ومؤنثه

قال : ويقال كلبة وكلب وذئبة وذئب وبِرذون وبرذَونة وأنشد :

( أريْتَ إذا ما جالت الخيْلُ جَوْلةً ** وأنتَ على بِرْذَوْنَةٍ غيرِ طائِل ) ويقال رجل ورجال وامرأة ونساء وليس لها جمعٌ من واحدها ويقال بعير وناقة وجمل ولا يقال جملة ولا بعيرة وقد قالوا رجل ورجلة وشيخ وشيخَة ويقال كبش ونعجة ولا يقال كبشة كما لا يقال أسدة ويقال أسد ولبوة ولبوات ويقال ذئبة وذئب وقال الشاعِرُ : ويقال إنسان وإنسانَةٌ وسبع وسبعة وحمام وحمامة وحمار وحمارة وسِرْحان وسرحانَة وَسِيدٌ وسِيدة وهِقل وهِقلة وإلق وإلّقَة وَقال رؤبة : جَدَّ وجدَّتْ إلقَةً من الإلقْ وزعم أنَّه يقال ضبع وضبعة وثعلب وثعلبة وأصحابُنا لا يقولون هذا ويضحكون ممن يقولون ضَبُعة عرجاء ويقال ثُرمُلة

ويقال من الفراخ فرخ وَفرخة ومن النمور نَمِر وَنَمِرة قال : ويقال ذِيخٌ وذِيخَةٌ وضِبْعان وَضِبْعانَةٌ وجيأل وجَيْألة ويقال عقرب وعقرَبَة والعُقرُبان الذَّكَر وحدَه وقال الشاعِرُ : ( كأنَّ مَرْعى أُمَّكُمْ إذْ غَدَتْ ** عَقْرَبَةٌ يكُومُها عُقْرُبانْ ) ومن الضفادع ضفدَع وَضفدَعَة ومن القنافذ قُنفُذ وقُنفذة وشَيْهَمٌ وشَيهمةٌ ومن القرود قرد وقردة ويقال إلْقة و قِشَّة ولا يقال إلْق وقِشّ ويقال لولد القرد رُبَّاح والأُنثى إلقة وقالَ الشَّاعِرُ : ( وإلْقَةُ تُرغِث رُبَّاحهَا ** والسَّهْلُ والنَّوفَلُ والنَّضْرُ )

ومِن النعام هِقل وَهِقلة وهَيق وهَيقَةٌ وصَعل وصَعلة وسفَنَّج وسفَنَّجة ونعامٌ وَنعامة والواحد من فراخها الرأل والجمع رئال ورِئلان وأرآل وأرؤل والأُنثى رألة وحفّانةٌ والجمع حَفّان وقد يكون الحَفّان أيضاً للواحد ويقال لها قِلاص والواحدة قلوص ولا يقال قلوصة ويقال ظليم ولا يقال ظَليِمة ويقال نِقْنِق ولا يقال نِقنِقة ويقال من الأَرانب أرنب ولا يقال أرنبة والذكر خُزَز ويقال للأُنثى عِكْرِشة ولولدها خِرْنِق ويقال هذه أرنب وهذه عقاب ولا يقال هذا الأَرنب ولا هذا العقاب وقال الشَّمَّاخ : ( فما تنفكُّ بين عُويرِضَاتٍ ** تجرّ برَأسِ عِكْرِشَةٍ زَمُوعِ )

قال ويقال لولد الكلب جروٌ والأُنثى جروة وهو دِرْص والجمع أدراص ويقال لمن عضَّه الكلْبُ )
الكَلِبُ : بالَ كأدراص الكلاب .

بدء الإبصار عند أولاد السباع

وجرو الكلب يكون أعمى عَشرةَ أيام وأكثَر وقد يعرِض شبيهٌ بذلك لكثيرٍ من السِّباع .
استطراد لغوي ويقال بصبص الجروُ وفقَّح وجصَّص إذا فتح عينيه شيئاً وصأصأ إذا لم يفتح عينيه ولذلك قال عبيد اللَّه بن جحش والسَّكران بن عمرو للمسلمين ببلاد الحبشة : إنَّا فَقَّحنا وصأصأتم قال بعض الرُّجاز في بعض الصِّبيان :

( أقِبحْ بهِ مِنْ وَلَد وأَشْقِحِ ** مثْلَ جُرَيِّ الكلْبِ لم يفقِّح ) ويقال لولد الأَسد جرو وأجراء وجِراء وهي لجميع السباع ويقال له خاصَّةً : شِبْل والجمع أشبال وشُبول وقَال زُهير : ( ولأَنتَ أَشجَعُ حِينَ تتَّجِهُ ال ** أبطالُ مِنْ لَيْثٍ أبي أَجْر . ِ )

خبث الثعلب

وحدَّثني صديقٌ لي قال : تعجَّبَ أخُ لنَا من خُبث الثَّعلب وكان صاحبَ قَنص وقَالَ لي ما أعجب أمر الثعلب يفصل بين الكلب والكلاَّب فيحتالُ للكَلاَّب بما يعلم أنَّه يَجوز عليه ولا يحتال مثل تلك الحيلة للكلب لأنّ الكلب لا يَخفى عليه الميِّت من المغشيِّ عليه ولا ينفع عنْدَه التَّماوت ولذلك لا يُحمل من مَات من المجوس إلى النَّار حتى يُدّْنَى منه كلبٌ ُ لأَنّه لا يَخفى عليه مغْمُور الحِسِّ أحَيٌّ هُوَ أو ميت وللكلب عند ذلك عمل يستَدِلُّ بِهِ المجوس

قال : وذلك أنِّي هَجَمْتُ على ثعلبٍ في مَضيق ومعي بُنَيٌّ لي فإذا هو ميِّتٌ منتفِخٌ فصدَدْت عنه فلم ألَبثْ أن لحِقتني الكلاب فلمَّا أحسَّ بها وثَب كالبرق بعد أن تحايَدَ عن السَّنن فسألت عن ذلك فإذا ذلك من فِعلِه معروفٌ وهو أنْ يستلقيَ وينفخَ خواصرَه ويرفعَ قوائمه فلا يشكُّ مَن رآه من الناس أنّه ميِّت منذُ دهر وقَدْ تَزكَّرَ بالانتفاخِ بدنُه فكنتُ أتعجَّب مِنْ ذلك إذْ مررْتُ في الزُّقاق الذي في أصل دار العبَّاسيّة ومنفَذه إلى مازن فإذا جرو كلبٍ مهزولٌ سيِّئ الغذاء قد ضربه الصِّبيان وعقَروه ففرَّ منهم ودخل الزُّقاق فرمى بنفسه في أصل أُسطُوانة وتبِعوه حتَّى هَجمُوا عليه فإذا هو قد تَمَاوَتَ فضربوه بأرجلهم فلم يتحرَّكْ فانصرفوا عنه فلمَّا جاوزُوا تأمَّلت عينَه فإذا هو يفتَحُها ويُغمِضها فلمّا بعدوا عنه وأمِنَهم عدا وأخذَ في غير )
طريقهم فأذهَبَ الذي كان في نفسي للثَّعلب إذا كان الثَّعلب ليس فيه إلاَّ الرَّوَغان والمكر وقد ساواه الكلبُ في أجودِ حِيلهِ .

مقايسة بين الثعلب والكلب

ومع الكلب بعدُ ما ليس مَعَهُ إلاَّ أنْ يُفخَر بفروته في موضع انتفاع النَّاس به فجعْر الكلب للذُّبحة أنفع منه إذ كان في الذُّبحة الموت وليس يقوم مقامه شيءٌ وجلد الثّعلب منه عِوَض .
قول صاحب الديك في الكلاب قال صاحب الديك : شِرار عِباد اللَّه مَن قتل أولادَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم نجدْ شعراءَ النَّاس شبَّهوا أولئك القاتلين بشيءٍ سوى الكلاب قال أبو نضلة الأبَّار في قتل سلم بن أحوز المازنيِّ صاحب شرطة نَصْرِ بن سيَّار اللَّيثي يحيى بنْ زَيدٍ وأصحابه فقال : ( كلابٌ تعاوَتْ لاهَدَى اللَّه سُبْلَها ** فجاءتْ بصَيدٍ لا يحلُّ لآكل ) ( بنفسي وأهلي فاطميٌّ تقنَّصوا ** زَمانَ عمًى مِنْ أمَّةٍ وتخاذل ) ( لقد كشفت للنّاس ليثٌ ُ عن استهِا ** وغابَ قَبيِلُ الحقِّ دُونَ القبائِل )

قال صاحب الديك : وروى هُشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : لم يكونُوا ينْهَوْنَنَا عن شيءٍ من اللعب ونحنُ غِلمانُ إلاَّ الكلاب .
التقامر بالبيض وذكر محمَّد بن عجلان المدينيّ عن زيد بن أسلم أنّه كان لا يرى بأساً بالبيض الذي يتقامر بِهِ الفتيان أن يُهدَى إليه منه شيء أو يشتريَه فيأكله .
وهشام بن حسَّان قال : سئل الحسن عن البيض يَلعَب بِهِ الصِّبيان يشتريه الرجل فيأكله فلم ير بِهِ بأساً وإن أطعموه أن يأكل منه والجوز الذي يلعب بِهِ الصِّبيان .
وحاتم بن إسماعيلَ الكوفيُّ قَال : حدّثنا عبد الرحمن بن حَرمَلة عن سعيد بن المسيّب أنّه لم يكن يرى بأساً بالبيض الذي يلعب به الصِّبيان .

قتل الحيات والكلاب

قال : وحدَّثني ابن جُريج قَال وأخبرني عبد الله بن عُبيد بن عمير قال : أخبرني أبو الطفيل أنّه سمع عليَّ بنَ أبي طالب يقول : اقتُلوا من الحيَّات ذا الطُّفيتين والكلبَ الأسودَ البهيم ذا الغُرَّتين .
قال : والغُرَّةُ : حُوَّة تكون بعينيهِ .

قول صاحب الكلب في صقاع الديك

قال صاحب الكلب : قد أخبرني أبو حرب عن منصور القصَّاب قال : سألت الحسن عن البيض الذي يتقامرون بِهِ فكرههُ .
وما رأينا قطُّ أحَداً يريد الادِّلاج ينتظر صُقَاع الدِّيك . وإنَّما يوالي الدِّيك بين صياحه قُبيل الفجر ثمَّ مع الفجر إلى أن ينبسط النهار وفيما بين الفَجر وامتدَادِ النهار لا يحتاج النَّاس إلى الاستدلال بأَن يصوِّت الديك . ولها في الأسحار أيضاً بالليل الصَّيحة والصَّيحتان وكذلك

الحمار . عَلَى أنّ الحمارَ أبعدُ صوتاً وأجدر أن ينبِّه كلَّ نائمٍ لحاجةٍ إن كانت له . وما رأينا صاحبَ سَحُورٍ يستعمله وكذلك صاحب الأذان وما رأيناه يتَّكل في وقتِ أذانِه عَلَى صياحِ الدِّيك لأَنّ صورَةَ صوتِه ومقدارَ مَخرجهِ في السَّحَر الأَكبر كصياحِه قبلَ الفجر . وصياحَهُ قبلَ الفجر كصياحِه وقد نوَّر الفجرُ وقد أضاء النهار . ولو كان بين الصيحتين فرقٌ وعلامةٌ كانَ لعمري ذلك دليلاً .
ولكِنَّهُ مَن سمع هُتافه وصُقاعَهُ فإِنَّما يفزع إلى مواضع الكواكب وإلى مطلع الفجر الكاذب والصادق .
والديك له عِدَّةُ أصواتٍ بالنَّهار لا يغادر منها شيئاً ولتلك أوقَاتٌ لا يحتاج فيها النَّاس إليهِ .
وملوكُنا وعلماؤنا يستعملون بالنَّهار الأَسطُرلابات وبالليل البَنكامات ولهم بالنّهار سوى الأسطرلاباتِ خطوطٌ وظلٌّ يعرفون بِهِ ما مَضى من النهار وما بقي . ورأيناهم يتَفَقَّدُون المطالع والمجارِيَ . ورأينا أصحابَ البَساتين وكلّ مَن كان بقُرب الرِّياض يعرفون ذلك بريح الأَزهار .
ورأينا الرُّومَ وَنَصَارى القُرى يَعرفُون ذلك بحركاتِ الخنازير وبِبُكُورها وغدوِّهَا وَأصواتها ولذلك قالوا في وَصف الرجل : له

وَثبة الأسد ورَوَغان الثعلب وانسلاب الذِّئب وجَمع الذرّة وبُكور الخِنزير . والرَّاعي يعرف ذلك في بكور الإبل وفي حنينها وغيرِ ذلك من أمرها .
وللحَمام أَوقاتُ صياحٍ ودُعاءٍ مع الصُّبح وقبيلَ ذلك على نسَق واحد ولكنَّ النَّاس إنَّما ذكروا ذلك في الدِّيك والحمار لامتداد أصواتهما . )

هديل الحمام

وهديلُ الحمامِ ودعاؤه لا يَجوزُ بعيداً إلاَّ ما كان من الوراشين والفَواخِت في رُءُوس النَّخل

ما يصيح من الطير مع الفجر

وللعصافير والخطاطيفِ وعامَّة الطَّير ممَّا يصفِر أو يُصرصِر وممّا يهدِل مع الفجر إلى بُعيدِ ذلك صِياحٌ كثير . ثمَّ الذي لا يدع الصِّياح

في الأسحار مع الصبُّح أبداً الضُّوَع والصَّدَى والهامَةَ والبُومة وهذا الشَّكلُ من الطَّير . وقد كتبنا في غير هذا الموضعِ الأشعارَ في ذلك .
قال : وقد يصيح مع الصُّبح البُوم والصدى والهام والضُّوَع والخطاطيف والعصافير والحُمَّرُ في ذلك الوقت أكثَرَ من الدِّيَكة . قال الوليدُ بن يزيد في ذلك : ( سُلَيمى تِيكَ في العير ** قفي إن شئتِ أو سِيرِي ) ( فلما أن دَنا الصُّبحُ ** بأصواتِ العَصَافيرِ ) وقال كلثوم بن عمرو العَتّابيّ : ( يا ليلةً بُحوَّارِينَ ساهرة ** حتَّى تكلمَ في الصُّبحِ العَصَافيرُ )

فالعَصافير والخطاطيف والحُمّر والحمام والضُّوعان وأصناف البوم كلُّها تقوم مَقام الديك . وقال ثَعلبة بن صُعَير المازنيّ : ( أعُميرَ ما يُدريكِ أن رُبَ فِتيةٍ ** بيضِ الوَجوهِ ذوي ندىً ومآثرِ ) ( باكرتُهُم بسِباء جَونٍ مُترَعٍ ** قَبلَ الصَّباحِ وقَبل لغوِ الطائرِ )

صوت الديك وما قيل فيه من الشعر

قال : ويقال لصوت الدِّيَكة الدُّعاء والزقاء والهُتاف والصُّراخ والصُّقاع . وهو يهتِف ويَصقَع ويزقُو ويصرُخ . وقال جِرانَ العَود :

( تميلُ بك الدنيا ويَغلُبك الهوى ** كما مَالَ خَوَّارُ النَّقَا المتقصف ) ( ونُلغَى كأنَّا مَغنَمٌ قد حوبته ** وترغَبُ عن جَزلِ العَطاءِ وتَصدفُ ) ( فموعِدُكَ الشَّطُّ الذي بينَ أهلِنا ** وأهلِك حتَّى تسمَعَ الديكَ يهتِفُ ) وقَال الممزَّق العَبديُّ : ( وقَد تَخِذَت رجلايَ في جَنبِ غَرزِها ** نَسِيفاً كأُفحوصِ القَطَاةِ المطرِّقِ ) ( أُنيخت بجوّ يصرُخ الديك عندَها ** وباتَت بِقاعٍ كادِئ النبت سَملَقِ ) وقال لَبيد : ( لَدُن أن دعا ديكُ الصَّباح بسُحرَةٍ ** إلى قدر وِردِ الخامِس المتأوِّبِ )

طيور الليل

ويقال للطائر الذي يخرجُ من وَكره باللَّيل البومة والصَّدَى والهامة والضُّوَع والوَطواط والخُفَّاش وغُراب اللَّيل ويصيدُ بعضها الفأرَ

وسامَّ أبرصَ والقَطا وصِغارَ الحشرات وبعضها يصيد البعوض والفراش وما أشبه ذلك . والبوم يدخل بالليل على كل طائرٍ في بيته ويُخرجه منه ويأكُلُ فِراخه وبَيضَه . وهذه الأسماء مشتركة .
ما قيل من الشعر في الهامة والصدى وقال خزيمة بن أسلم : ( فلا تَزقُوَن لي هامةٌ فوق مَرقَبٍ ** فإن زُقاءَ الهامِ أخبَثُ خابِثِ ) وقال عبد الله بن خازم أو غيره : ( فإن تكُ هامةً بهَرَاةَ تَزقُو ** فقد أزقَيتَ بالمَروَينِ هاما ) وقال توبة بن الحميِّر : ( ولو أن ليلى الأخيليَّة سَلّمت ** عَلَيَّ ودوني جَندَلٌ وصفائح ) ( لسلَّمتُ تسليمَ البشاشةِ أوزَقا ** إليها صدى من جانب القبر صائح )

وقال الرَّاجز : ) ( ومَنهَل طامِسَةٍ أعلامُه ** يَعوِي به الذِّئب ويَزقُو هامُه ) ( تجشَّمت من جَرَّاكِ والبوم واالصدى ** له صائح أن كنتِ أسريتِ من أجلي ) وقال سُويد بن أبي كاهل في الضُّوَع : ( لن يضِرني غير أن يحسُدَنِي ** فهو يَزقُو مثل ما يزقو الضُّوَع ) قال : في قراءة ابن مسعود : إن كانت إلا زَقيَةً واحدةً ونفخ في الزَّقية يريد الصُّور .
وصوت الدجاجة القوقأة تقول هي تقوقئ .

شعر في الدجاج

وقال أعرابيٌّ : ( أليس يرى عيني جُبيرة زوجها ** ومَحجِرَها قامت عليه النوائحُ ) ( تنجَّبها لا أكثر الله خيرهُ ** رُميصاء قد شابت عليها المسائحُ ) ( لها أنف خنزيرٍ وساقا دجاجةٍ ** ورُؤيتها تَرحٌ من العيشِ تارِحُ )

وقال العُجَير السَّلُوليّ : ( لا نوم إلا غِرارُ العَينِ ساهرةً ** حتى أُصيب بغيظ آلَ مطلوبِ ) ( إن تهجُروني فقد بدَّلتُ أيكتُكم ** ذَرقَ الدجاج بحفّاز اليَعَاقِيبِ ) ( ألم تعلما يا ابنَي دجاجة أنَّني ** أغُشُّ إذا ما النُّصحُ لم يُتَقَبَّلِ )

شعر في هجاء الدجاج وهجاتء من اتخذها

وقال صاحب الكلب : وسنروي في الدجاج ونذكرُ كلَّ من هجاها وهجا مَن اتَّخذها وأشبهها في وجهٍ من الوجوه قال الراجز : ( أقبلن من نِيرٍ ومن سُوَاجِ ** بالحيِّ قد ملّ من الإدلاجِ ) ( فَهُم رجاجٌ وعلى رَجَاجِ ** يمشون أفواجاً إلى أفواج )

مشيَ الفراريجِ إلى الدجاجِ وقال عبد الله بن الحجّاج : ( فإن يُعرِض أبو العبَّاسِ عنِّي ** ويركب بي عَرُوضاً عن عَرُوضِ ) ( ويجعل ودَّهُ يوماً لغيري ** ويُبغِضني فإني من بَغِيضِ ) ( فنصرُ اللهِ يأسُو كلَّ جُرحٍ ** ويَجبُر كسرَ ذي العظم المهيضِ ) ( فدىً لك من إذا ما جئتُ يوماً ** تلقاني بجامعةٍ رَبُوضِ ) ( لدى جنبِ الحوانِ وذاك فُحشٌ ** وبِئست خُبزة الشَّيخِ المريضِ )

( إوزَّة غَيضةٍ لَقِحت كشافاً ** لِفَقحَتِها إذا بَرَكَت نَقِيضُ ) وقالت امرأة في زوجها وهي ترقِّص ابناً لها منه : ( وُهبتُه من سَلفَعٍ أَفُوك ** ومن هِبَلٍّ قد عسا حَنِيكِ ) أشهبَ ذي رأسٍ كرأسِ الديكِ تريد بقولها أشهب أنه شيخ وشعر جسده أبيض وأن لحيته حمراء .
وقد قال الشاعر وهو الأعشى : ( وبني المنذر الأشاهب بالحي ** رة يمشون غُدوة كالسيوف ) وإنما أراد الأعشى أن يعظِّم ويفخِّم أمرهم وشأنهم بأن يجعلهم شيوخا . وأما قولها : ذي رأس كرأس الديك فإنما تعني أنه مخضوبُ الرَّأس واللِّحية .
وقال الآخر : ( حلَّت خويلة في حيٍّ مجاورةً ** أهل المدائن فيها الديك والفيلُ ) ( يقارعُون رءُوس العُجمِ ضاحيةً ** منهم فوارس لا عزلٌ ولا ميلُ )

قال ابن أحمر : ( في رأس خلقاءَ من عنقاءَ مُشرِفةٍ ** لا يبتغى دونها سهلٌ ولا جبلُ ) ( هيهات حيٌّ غدوا من ثَجرَ منزلهم ** حيٌّ بنجرانَ صاح الديك فاحتملوا ) وقال : ( أبعد حلولٍ بالرِّكاء وجاملٍ ** غداً سارحاً من حولنا وتَنَشَّرا ) ( تبدلت إصطبلا وتلاًّ وجَرَّةً ** وديكاً إذا ما آنس الفجر فرفرا ) ( وبستان ذي ثورين لا لينَ عنده ** إذا ما طَغَى ناطورهُ وتَغَشمرا ) وقال أوس بن حجر : ( كأن هراً جنيباً عند مَغرِضِها ** والتفّ ديكٌ برجليها وخنزيرُ )

وقال الحكم بن عبدل : ( مررت على بغلٍ تَزُفُّكَ تسعةٌ ** كأنك ديكٌ مائلُ الرأس أعورُ ) ( تخيَّرت أثواباً لزينة منظرٍ ** وأنت إلى وجه يزينكَ أفقرُ ) وقال النَّمِر بن تَولب : ( أَعِذني رَب من حَصَرٍ وعيٍ ** ومن نفسٍ أُعالِجُها عِلاجا ) ( ومن حاجات نفسي فاعصِمَنِّي ** فإن لمضمراتِ النفس حاجا ) ( وأنتَ وِليّها وبرئتُ منها ** إليك وما قضيت فلا خِلاجا ) ( وتأمرني ربيعةُ كلَّ يومٍ ** لأشريَها وأقتنيَ الدَّجاجا ) ( وما تُغنِي الدجاج الضَّيف عني ** وليس بنافعي إلا نِضاجا ) ( أأهلكها وقد لاقيتُ فيها ** مِرار الطعن والضرب الشِّجاجا )

( وتذهب باطلاً غدوات صُهبى ** على الأعداء تختلجُ اختلاجا ) ( جَموم الشدِّ شائلةُ الذُّنابى ** تخال بياض غُرتها سِراجا ) ( وشدِّي في الكريهة كل يومٍ ** إذا الأصوات خالطت العَجَاجا ) وقال عبد الرحمن بن الحكم : ( وللأنصار آكل في قُراها ** لخُبث الأطعماتِ من الدجاج ) وقال الآخر لصاحبه : ( آذيتنا بديكك السَّلاَّحِ ** فنجِّنا من مُنتنِ الأرواح ) وقالوا : هو أسلح من حُبارى ساعة الخوف ومن دجاجةٍ ساعة الأمن .
وقال عقيل بن علَّفة : ( وهل أشهدن خيلاً كأن غُبارها ** بأسفلِ عِلكد دواخنُ تنضُبِ ) ( تبيتُ على رَمضٍ كأن عُيُونهم ** فِقاحُ الدجاج في الوَدِيِّ المعصبِ )

وقال صاحب الديك : حدَّث الأصمعيُّ قال : أخبرني العلاء بن أسلم قال : أردت الخروج إلى مكة المعظَّمة شرَّفها الله تعالى فجاءني هشام ابن عقبة وهو أخو ذي الرُّمة فقال لي : يا ابن أخي إنك تريد سفراً يحضُر الشيطان فيه حضوراً لا يحضره في غيره فاتّقِ الله وصلِّ الصلوات لوقتها فإنك مصليها لا محالة فصلِّها وهي تنفعك واعلم أن كل رُفقةٍ كلباً ينبح عليهم فإن كان نهبٌ شَرِكوه فيه وإن كان عارٌ تقلّده دونهم فلا تكن كلب الرُّفقة وقد رووا شبيهاً بذلك عن تبيع بن كعب . )
أم كلبة وقال زيد الخيل : ( يا نصر نصر بني قعينٍ إنما ** أنتم إماءٌ يتَّبعن الأشترا )

( يتبعن فضلة أبر كلبٍ منغط ** عضَّ الكلاب بعجبه فاستَثفَرَا ) قال : فلما قدم زيد من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال أبرح فتى إن لم تدركه أم كلبة يعني الحمَّى .
الكلب بين الهجاء والفخر وقال جرير في البعيث : وقال صاحب الكلب : وقد قال عمرو بن معد يكرب : ( وقد كنتُ إذا ما الح ** يُّ يوماً كَرِهُوا صُلحي ) ( أَلُفُّ الخيلَ بالخيلِ ** وأكفِي النَّبحَ بالنّبحِ ) استعارات من اسم الكلب قال ومن الاستعارات من اسم الكلب قول الرجل منهم إن أوطن نفسه على شيء : قد ضَرَبت جَروَتي وضربت عليه . وقال أبو النّجم :

( حتى إذا ما ابيضَّ جرو التّنفُل ** وبُدِّلت والدهر ذو تبدُّلِ ) وقال : من الحنظل العاميِّ جروٌ مفلَّقُ وقال عُتبة الأعور : ( ذهب الذين أحبُّهم ** وبقيت فيمن لا أحبه ) ( إذ لا يزال كريم قو ** مي فيهم كلبٌ يسُبُّه )

احتقار العرب للصيد

فخرتم علينا بصيد الكلب وهجوتم الديك إذ كان مما لا يصيد ولا يصاد به وقد وجدنا العرب يستذلُّون الصيد ويحقرون الصياد فمن ذلك قول عمرو بن معد يكرب :

( ابني زيادٍ أنتم في قومكم ** ذَنَبٌ ونحن فروع أصل طَيِّبِ ) نصلُ الخميس إلى الخميس وأنتم بالقهر بين مربِّق ومكلِّبِ ( لا يحسَبَنَّ بنو طُليحةَ حربنا ** سوق الحمير بحانةٍ فالكوكبِ ) ( حيدٌ عن المعروفِ سعيُ أبيهمُ ** طلبُ الوُعول بوفضةٍ وبأكلُبِ ) ( حتى يكهَّنَ بعد شَيبٍ شامل ** ترحاً له من كاهن متكذِّبِ ) 4

الاشتفاء بدماء الملوك والأشراف

وأما قول زهير : ( وإن يُقتلو فيُشتَفَى بدمائهم ** وكانوا قديماً من مَنَاياهم القتلُ ) فهذا البيت نفسه ليس يدلُّ على قولهم أن كل من كان به جنونٌ أو كلَبٌ ثم حسَا من دم ملكٍ أو سيدٍ كريم أفاق وبرئ .

فرار الكلب الكلب من الماء

( سقط : السطر كامل )
وقد ضربوا لصاحب الكلب أمثالا كثيرة في شدة طلبه الماء ، وفي شدة فراره منه إذا عاينه

وقالوا وقلتم : فالماء المطلوب إذا عاينه من غير أن يمسَّه وهو الطالب له ولم يحرص عليه إلا من حاجة إليه . فكيف صار إذا رآه صاح قالوا : وقد يعتري الناظر إلى الماء والذي يديم التَّحديق إليه وهو يمشي على قنطرةٍ أو جُرُف أو جسر الدُّوارُ فإنه ربما رمى بنفسه من تلقاء نفسه إلى الماء وإن كان لا يحسن السباحة . وذلك إنما يكون على قدر ما يصادف ذلك من المرار ومن الطِّباع .
فمن فعل ذلك بنفسه أبو الجهجهاه محمد بن مسعود فكاد يموت حتى استُخرج . ومنهم منصور بن إسماعيل التمَّار وجماعة قد عرفت حالهم .
ما يعتري المختنق والممرور وهذا كما يعتري الذي يصيبه الأسنُ من البخار المختنق في البئر إذا صار فيها فإنه ربما استقي واستخرج وقد تغيَّر عقله . وأصحاب الرّكايا يرون أن دواءَه أن يلقوا عليه دِثاراً ثقيلاً وأن يزمّل تزميلاً وإن كان في تمّوز وآب ثم يحرس وإن كان قريباً من رأس البئر فإنّه

إن لم يُحل بينه وبينها طرح نفسه في تلك البئر أتاها سعياً في أوّل ما يفتح عينَه ويرجع إليه اليسيرُ من عقله ثم يُكفي نفسه فيها من ذات نفسِه في الموضع الذي لقي منه ما لقي وقد كان عنده معلوماً أنّ القوم لو تركوه طرفةَ عينٍ لهلك . هكذا كان عنده أيام صحةِ عقله فلمّا فسد أراه وكما يعترى المرورَ حتى يرجُم الناس فإن المِرَّة تصوِّر له أن الذي رَجَمه قد كان يريد رجمه فيرى أن الصواب يبدأه بالرّجم وعلى مثلِ ذلك تُريه المِرّة أن طرحه نفسه في النّار أجودُ وأحزم .
وليس في الأرض إنسانٌ يذبح نفسَه أو يختنق أو يتردَّى في بئر أو يرمي نفسه من حالقٍ إلا من خوف المثلة أو التعذيب أو العيير وتقريع الشامتين أو لأن به وجعاً شديداً فيحرِّكُ عليه المِرَّة فيحمى لذلك بدنُه ويسخنُ جوفه فيطير من ذلك شيءٌ إلى دماغه أو قلبهِ فيوهمه ذلك أن الصواب في قتلِ نفسه وأن ذلك هو الرّاحة وأن الحزم مع الراحة .
ولا يختار الخنقَ الوادعَ الرابح ابلرافه السليمُ العقلِ والطِّباع . وللغيظ ربما رَمى بنفسه في هذه المهالك وقَذف بها في هذه المهاوي .
وقد يعترى الذي يصعَد على مثل سنسيرة أو عقرَقوفَ أو خضراء

زوج فإنه يعتريه أن يرمي بنفسه من تلقاء نفسه فيرون عند ذلك أن يصعد إليه بعض المعاودين المجرّبين ولا يصنع شيئاً )
حتى يشدَّ عينيه ويحتال لإنزاله . فهذا المعنى عامٌّ فيمن كانت طبيعته تثور عند مثل هذه العلّة . وما اكثر كمن لا يعتريه ذلك .
وقد قال الناسُ في عذر هؤلاء ولأن فيهم ضروباً من الأقاويل .
وإنما تكلمنا على المغلوب . فأما من كانت هذه العوارضُ لا تُفسِد عقله ولا تنقُضُ استطاعته فليس بيننا اختلافٌ في أنه ملوم . على أن إلزامه اللائمةَ لا يكون إلاّ من بعد خصومةٍ طويلة لا يصلح ذكرها في هذا الباب .

الغراب

لؤم الغراب وضعفه

وقال صاحب الكلب : الغربا من لئام الطير وليس من كرامها ومن بغاثها وليس من أحرارها ومن ذوات البراثنِ الضعيفة والأظفار

الكليلة وليس من ذوات المخالب المعقَّفة والأظفار الجارحة ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر . وهو مع أنه قويُّ النَّظر . لا يتعاطى الصيد . وربما راوغ العصفور ولا يَصيد الجرادة إلا أن يلقاها في سدٍّ من الجراد . وهو فسلٌ إذا أصاب جِيفةً نال منها وإلا مات هٌ زالاً ويتقمم كما يتقمم بهائم الطير وضعافها وليس ببهيمةٍ لمكان أكلِه الجيف وليس بسَبع لعجزه عن الصيد .

ألوان الغربان

وهو مع ذلك يكون حالكَ السواد شديدَ الاحتراق ويكون مثله من الناس الزِّنج فإنهم شرارُ الناس وأردأُ الخلق تركيباً ومزاجاً كمن بردت بلادُه فلم تطبخه الأرحام أو سخنت فأحرقته الأرحام . وإنما صارت عقولُ أهل بابَل وإقليمِها فوقَ العقول وجمالهم فوق الجمال لعلة الاعتدال .


وللغراب إما أن يكون شديد الاحتراق فلا يكون له معرفةٌ ولا جمال وإما أن يكون أبقعَ فيكون اختلافُ تركيبه وتضادُّ أعضائِه دليلاً على فسادِ أمره . والبُقع ألأَمُ من السود وأضعف .

أنواع الغربان

ومن الغِربان غراب الليل وهو الذي ترك أخلاقَ الغربان وتشبَّه بأخلاق البوم .
ومنها غرابُ البَينِ . وغراب البين نوعان : أحدهما غربانٌ صغارٌ معروفةٌ بالضَّعف واللُّؤم والآخر كُلُ غرابٍ يُتَشاءَم به . وإنما لزمه هذا الإسم لأن الغراب إذا بان أهلُ الدار للنُّجعة وقع في مرابض بيوتهم يلتمس ويتقمَّم فيتشاءمون به ويتطيَّرون منه إذا كان لا يعترى منازلهم إلا إذا بانوا فسمَّوه غراب البين . ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم له مخلافة الزَّجر والطِّيرَةَ وعلموا انه نافذ البصر صافي العين حتى قالوا أصفى من عينِ الغراب كما قالوا : أصفى من عين الدِّيك

فسمّوه الأعور كنايةً كما كنَوا طيرة عن الأعمى فكنوه أبا بَصير . وبها اكتني الأعشى بعد أن عمي . ولذلك سمَّوا الملدوغ والمنهوش سليماً وقالوا للمهالك من الفيافي : المفاوز . وهذا كثير .

التشاؤم بالغراب

ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقُّوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب .
وليس فغي الأرض بارحٌ ولا نَطيح ولا قَعيد ولا أَعضب ولا شيءٌ مما يتشاءمون به إلا والغرابُ عندَهم أنكدُ منه يرون أن صِياحَه أكثر أخباراً وأن الزَّجر فيه أعمُّ . وقال عنترة : ( حَرِق الجناح كأن لحيَى رأسهِ ** جَلَمانِ بالأخبار هشٌّ مُولَع )

التعاير بأكل لحم الغراب

وهو عندهم عار وهم يتعايرون بأكل لحمه . ولو كان ذلك منهم لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع لكانت الضوارِي والجوارحُ أحقَّ بذلك عندهم . وقد قال وَعلَة الجَرمي : ( فما بالعار ما عَيَّر تُمونا ** شِواءَ الناهِضاتِ مع الخبيص ) ( فما لحمُ الغرابِ لنا بزادٍ ** ولا سَرَطانُ أنهارِ البريص )

فسق الغراب وتأويل رؤياه

قال : والغربانُ جنسٌ من الأجناس التي أمر بقتلها في الحِلِّ والحرم وسمِّيت بالفسق وهي فواسق اشتقَّ لها من اسم إبليس .
وقالوا : رأى فلان فيما يرى النائمُ أنه يُسقِطُ أعظمَ صومعةٍ بالمدينة غرابٌ . فقال سعيدُ بن المسيِّب : يتزوح أفسَق الفاسقين امرأةً من أهل المدينة . فلم يلبثوا إلا أيَّاماً حتى كان ذلك .

غراب نوح

وقالوا في المثل : لا يرجعُ فلانٌ حتى يرجع غرابُ نوح وأهل البصرة يقولون : حتّى يرجعَ نشيطٌ من مَرو وأهل الكوفة يقولون : حتّى يرجعَ مَصقَلة من سِجِستان . فهو مثلٌ في كل موضعٍ من المكروه .

قبح فرخ الغراب وفرخ العقاب

وزعم الأصمعيُّ عن خلفٍ الأحمر أنّه قال : رأيت فرخ غراب فلم أر صورة أقبحَ ولا أسمجَ ولا أبغضَ ولا أقذرَ ولا أنتنَ منه . وزعم أنّ فِراخَ الغربان أنتنُ من الهدهد على أنّ الهدهدَ مَثَلٌ في النّتن فذكر عِظَمَ رأسٍ وصِغَرَ بدن وطولَ منقار وقِصَرَ جناح وأنّه أمرطُ أسود وساقط النّفس ومُنتن الرّيح .


وصاحب المنطق يزعُم أنّ رؤيةَ فرخ العُقاب أمرٌ صعب وشيءٌ عسير . ولست أحسن أن أقضيَ بينهما .
والغرؤابن عندنا بالبَصرة أوابدُ غير قواطع وهي تفرخ عندنا في رءوس النّخل الشّامخة والأشجار العالية .

أسطورة خداع الغراب للديك

فالغرابُ عند العرب مع هذا كلِّه قد خدع الدّيك وتلعَّب به ورَهَنه عند الحمّار وتخلّص من الغُرم وأغلقه عند الحمّار فصار له الغنم وعلى الديك الغرم ثمّ تركه تركاً ضرب به المثل .
فإن كان معنى الخبر على ظاهر لفظه فالديك هو المغبون والمخدوع والمسخور به ثم كان المتلعّب به أنذلَ الطير وألأمَه .
وإن كان هذا القولُ منهم يجري مجرى الأمثال المضروبة فلولا أن عُليا الدّيك في قلوبهم دون محلِّ الغراب على لؤم الغراب ونذالته ومُوقه وقلّة معرفته لما وضعوه في هذا الموضع .

4 ( دهاء أمية بن أبي الصّلت ) فإن أردتم معرفة ذلك فانظروا في أشعارهم المعروفة وأَخبارهم الصحيحة ثم ابدءوا بقول أميّة بن أبي الصّلت فقد كان داهيةً من دوهي ثَقيف وثقيفٌ من دُهاةِ العرب وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنَّه كان قد همَّ بادِّعاء النُّبوة وهو يعلم كيف الخصالُ التي يكون بها الرجل نبيّاً أو متنبيّاً إذا اجتمعت له . نعم وحتّى ترشَّح لذلك بطلب الرِّوايات ودرس الكُتُب . وقد بان عندَ العرب علاّمةً ومعروفاً بالجَولان في البلاد راويةً .

حديث العرب في الغراب

والديك وطوق الحمام

وفي كثيرٍ من الروايات من أحاديث العرب أن الديك كان نديماً للغراب وأنهما شربا الخمر عند خمّارٍ ولم يعطياه شيئاً وذهب الغرابُ ليأتيه بالثَّمنِ حين شرب ورَهن الدّيك فخاس به فبقي محبوساً .


وأنّ نوحاً صلى الله عليه وسلم حين بقي في اللُّجّة أياماً بعث الغرب فوقع على جيفةٍ ولم يرجع ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعاً يكون للسفينة مَرفأً واستجعَلت على نوحٍ الطَّوق الذي في عنقها فرشاها بذلك أي فجعل ذلك جُعلاً لها .
وفي جميع ذلك يقول أمية بن أبي الصلت . ( بآيةِ قام ينطق كلُ شيءٍ ** وخانَ أمانةَ الديك الغرابُ ) يقول : حين تركه في أيديهم وذهب وتركه .
ثمّ قال : ( وأرسلتِ الحمامةُ بعد سبعٍ ** تدلُّ على المهالك لا تَهابُ ) ( تلمّس هل ترى في الأرضِ عيناً ** وغايته من الماء العُبابُ ) ( فجاءت بعدما ركضت بقِطفٍ ** عليه الثَّأط والطين الكُبابُ ) ( فلما فرَّسوا الآياتِ صاغوا ** لها طوقاً كما عُقِدَ السِّخابُ )

( إذا ماتت تورِّثُه بنيها ** وإن تُقتل فليس لها استلاب ) ( كذي الأفعى يربِّيها لديه ** وذي الجِنِّيِّ أرسله يتابُ ) ( فلا ربُّ المنية بأمَننها ** ولا الجنيُّ أصبح يُستتابُ ) الجنّيّ : إبليس لذنوبه . والأفعى هي الحيَّة التي كلم إبليس آدم من جوفها . ومن لا علم عنده يروي أيضاً أن إبليس قد دخل جوف الحمار مرَّة وذلك أن نوحاً لمَّا دخل السفينة تمنَّع الحمار بعسره ونّكّده وكان إبليسُ قد أخذ بذَنَبه . وقال آخرون : بل كان في جوفه فلما قال إبليس للحمار : ادخل يا ملعون ودخل الحمار دخل إبليس معه إذ كان في جوفه . قال : فلما رآه نوحٌ في السفينة قال : يا ملعون من أدخلك السفينة قال : أنت أمرتني . قال : ومتى أمرتك قال : حين قلت ادخل يا ملعون ولم يكن ثَمَّ ملعون غيري )
قال أميَّة بن أبي الصلت : ( هو أبدى من كلّ ما يأثُر النا ** س أماثيلَ باقياتٍ سُفورا ) ( خلق النَّخل مصعداتٍ تراها ** تقصف اليابساتِ والخضُّورا )

( والتّماسيح والتماثيل والأّ ** يِّل شتّى والرِّيمَ واليَعفورا ) ( وصواراً من النواشطِ عِيناً ** ونعاماً خواضباً وحميرا ) ( وأُسوداً عوادياً وفيولاً ** وذياباً والوحشَ والخنزيرا ) ( وديوكاً تدعو الغراب لصلحٍ ** وإوَزِّين أخرجت وصقورا ) قال : ثم ذكر الحمامة فقال : ( سمع الله لابنِ آدم نوحٍ ** ربُّنا ذو الجلال والإفضالِ ) ( حين أوفى بذي الحمامة والنا ** س جميعاً في فُلكِهِ كالعيال ) ( فأتتهُ بالصدقِ لمّا رشاها ** وبقِطفٍ لما غدا عِثكالِ ) ووصف في هذه القصيدة أمر لحمامة والغراب صفةً ثانية وغير ذلك وبدأ بذكر السفينة فقال : ( تَرفَّعُ في جَري كأن أَطِيطَه ** صريف مَحالٍ تستعيد الدّواليا )

( على ظهر جونٍ لم يُعَدّ لراكبٍ ** سراه وغَيمٍ ألبس الماء داجيا ) ( تشق بهم تهوي بأحسن إمرةٍ ** كأن عليها هادياً ونواتيا ) ( وكان لها الجودِيُّ نهياً وغايةً ** وأصبح عنه موجه متراخيا ) ثم قال : ( وما كان أصحاب الحمامة خيفة ** غداةً غدَت منهم تضم الخوافيا ) ( رسولاً لهم والله يُحكِمُ أمرَه ** يبين لهم هل يونسُ الثوب باديا ) ( فجاءت بقِطفٍ آيةً مستبينةً ** فأصبح منها موضع الطين جاديا ) ( على خطمِها واستوهبت ثّمَّ طوقها ** وقالت ألا لا تجعل الطوق حاليا ) ( ولا ذهباً إني أخافُ نبالهم ** يخالونه مالي وليس بماليا )

( وزدني على طرقي من الحَليِ زينةً ** تُصيب إذا أتبعت طوقي خضابيا ) ( وزدني لطرف العينِ منك بنعمةٍ ** وأرِّث إذا ما متُّ طوقس حماميا ) ( يكون لأولادي جملاً وزينةً ** ويهوين زيني زين أن يرانيا )
ثم عاد أيضاً في ذكر الديك فقال : ( ولا غرو إلا الذيك مدمن خمرةٍ ** نديم غرابٍ لا يمل الحوانيا ) ( ومَرهَنُه عن الغراب حبيبَه ** فأوفيت مرهوناً وخلفاً مسابيا ) ( أمنتك لا تلبَث من الدَّهر ساعةً ** ولا نصفها حتى تئوب مآبيا ) ( ولا تدركنك الشمسُ عند طلوعها ** فأعلقَ فيهم أو يطول ثوائيا ) ( فردّ الغراب والرداء يحوزه ** إلى الديك وعداً كاذباً وأمانيا ) ( بأية ذنبٍ أو بأية حُجةٍ ** أدعك فلاا تدعو علي ولا ليا ) ( فإني نذرت حَجَّةً لن أعوقها ** فلا تدعو بي مرة من ورائيا )

( تطيرت منها والدعاء يعوقني ** وأزمعت حَجاً أن أطير أماميا ) ( فلا تيأسن إني مع الصُّبح باكرٌ ** أوافي غداً نحو الحجيج الغواديا ) ( لحبِّ امرئٍ فاكهتُه قبل حَجَّتي ** وآثرت عمداً شأني قبل شانيا ) ( هنالك ظن الجديك إذ زال زولُهُ ** وطال عليه الليل ألا مفاديا ) ( فلما أضاء الصُّبح طرَّب صرخةً ** ألا يا غرابُ هل سمعت ندائيا ) ( على وده لو كان ثم مجيبه ** وكان له ندمان صدقٍ مواتيا ) ( وأمسى الغراب يضرب الأرض كلَّها ** عتيقاً وأضحى الديك في القِدِّ عانيا ) ( فذلك مما أسهب الخمر لبَّه ** ونادم ندماناً من الطير عاديا )

قال : ومن الطَّير ما يُلقم فِراخه مثل العصفور لأنَّ العصفور لا يزقّ . وكذلك أشباه العصفور .
ومن الطير ما يزق فراخه مثل الحمام ومتا أشبه ذلك كبهائم الطير الخالصة لأن الدّجاجة تأكل اللّحم وتلَغُ في الدم وولدها حين يخرج من البيض يخرج كاسباً مليحاً كيساً بصيراً بما يُعيشه ويقوته ولا يحتاج إلى تلقيم سباع الطيرِ والعصافير لأولادها لأن أولادها إذ لم ترضع ولم تلقط الحبَّ كالفراريج أوّل ما تخرج من البيض ولم تزقَّها الآباء ولا الأمهات كأجناس الحمام فلا بد لها من تلقيم .

ما له طبيعة مشتركة من الطير

والفرُّوج مشترك الطبيعة قد أخذ من طببائع الجوارح نصيباً وهو أكله للحم وحسوه للدّم وأكله للديدان وما هو أقذر من الذباب . والعصفور أيضاً مشارك الطِّباع لأنه يجمع بين أكل الحبوب واللُّحمان وبين لقط الحبوب وأجناسٍ كثيرة من الحيوان كالنمل إذا طار

وكالجراد وغير ذلك . وليس في الأرض رأسٌ أشبه برأس الحيَّة من العصفورة .

هداية العصفور

والعصفور يتعالى ويطير ويهتدي ويستجيب . ولقد بلغني أنه قد رجع من قريبٍ من فرسخ .
وهي تكون عندنا بالبصرة في الدُّور فإذا أمكنت الثمارُ لم تجد منها إلا اليسير فتصير من القواطع إلى قاصي النَّخل وذلك أنها إذا مرّت بعصافير القرى وقد سبقت إلى ما هو إليها أقرب جاوزَتها إلى ما هو أبعد ثم تقرب الأيام الكثيرة إلى ما هو أبعد ثم تقرب الأيّام الكثيرة المقدار في المسافة إلى أكثر مما ذكرت من الفرسخ أضعافاً .
تحنن العصافير وعطفها والعصافير لا تقيم في دور الأمصار إذا شخص أهلها عنها إلا ما كان مقيماً منها على بيض أو فراخ فإنه ليس بالأرض طائرٌ أحنى على ولده ولا أشدُّ تعطفاً من عصفور . والذي يدلُّ على أن في طبعها من ذلك ما ليس

في طبع سواها من الطير الذي تجد من إسعاد بعضهنَّ لبعض إذا دخلت الحيَّة إلى حُجر بعضهن لتأكل فرخاً أو تبتلع بيضاً فإن لأبوى الفرخ عند ذلك صياحاً وقلقاً وطيراناً وتدفيفاً َ وترنيقاً فوق الحُجر ودونه وحواليه فلا يبقى عصفورٌ من حيث يسمع صياحَهما أو يسمع أصواتَهما إلا جئن أرسالاً مسعداتٍ يصنعن معهما كما يصنعان .
حذر العصفور وليس في الأرض أصدقُ حذراً منه . ويقال إنه في ذلك لأكثر من العَقعَق والغراب .
وخبَّرني من يصيد العصافير قال : ربما كان العصفور ساقطاً على حائط سطح بحذائي فيغمُّني صياحُهُ وحدة صوته فأصيح وأومئ إليه بيدي وأشير كأني أرميه فما يطير . حتى ربما أهويت إلى الأرض كأني أتَناول شيئاً كل ذلك لا يتحرك له . فإن مسَّت يدي أدنى حصاة أو نواةٍ وأنا أريد رميها طار قبل أن تستمكن منها يدي .


سفاد العصفور وأثره في عمره وليس في الطَّير أكثر عددَ سِفادِ من العصافير ولذلك يقال إنّها أقصر الطَّير أعماراً . ة يقال إنّه ليس شيءٌ مما يألَف الناس ويعايشهم في دورهم أقصر عمراً منها . يعنون : من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والكلاب والسّنانير والخطاطيفِ والزرازير والحمام والدّجاج .
نقزان العصفور ولا يقدر العصفور على المشي وليس عنده إلا النَّقزان ولذلك يسمَّى النَّقَّاز وإنما يجمع رجليه ثم يثب وذلك في جميع حركاته وفي جميع ذهابه ومجيئه . فهي الصَّعو والعصافير والنقاقيز . وإن هو مشى هذه المشية التي هي نَقَزان على سطحٍ وإن ارتفع سمكه فكأنك تسمع لوطئه وقع حجرٍ لشدة وطئه ولصلابة مشيه . وهو ضدُّ الفيل لأن إنساناً لو كان جالساً ومن خلف ظهره فيلٌ لما شعر به لخفّة وقع قوائمه مه سرعة مشي وتمكينٍ في الخطا .


والرَّخم والنَّسر سباع وإنما قصَّر بها عدم السلاح . فأما البدن والقوّة ففوق جميع الجوارح ولكنها في معنى الدّجاج لمكان البراثن ولعدم المخالب .
وفاء العصافير ولقد رأيت سِنَّوراً وثب على فرخ عصفورٍ فأخطأه فتناول الفرخ بعض الغلمان فوضعه في البيت فكان أبوه يجيء حتى يطعمه فلما قوي وكاد يطير جعله في قفص فرأيت أباه يجيء يتخرق السّنانير وهي تهمّ به حتى يدخل إليه من أعلى فتح الباب وهي تهمُّ بالوثوب والاختطاف له حتى يسقُط على القفص فينازعه ساعة فإذا لم يجد إلى الوصول سبيلاً طار فسقط خارجاً من البيت ثم لا يصبر حتى لا يعود . فكان ذلك دأبه . فلما قوي فرخه أرسلوه معه فطارا جميعاً .
وعرفنا أنه الأبُ دون الأمِّ لسواد اللِّحية .

القول في سماجة صوت الديك

قال : والدليلُ على أن صوت الديك كريهٌ في السَّماع غيرَ مطربٍ قول الشاعر : ( ذكر الصَّبُوح بسُحرةٍ فارتاحا ** وأمَّلَه ديك الصَّباح صِياحا )

صغر قدر الدجاج

قال : ويدلُّ على صِغر قدر الدجاج عندهم قول بشّار بن بردٍ الأعمى : ( بجدِّك يا ابن أقرعَ نلت مالاً ** ألا إن اللئام لهم جدود ) ( فمن نذر الزيادة في الهدايا ** أقمت دجاجة فيمن يزيد )

أثر كثرة الدجاج في عدد بيضها وفراريجها

قال : وإذا كثر الدجاج في دارٍ أو إصطبل أو قرية لم يكن عدد بيضها و فراريجها على حسب ما كان يبيض القليل منهنَّ ويفرخه . يعرف ذلك تُجَّار الدّجاج ومن اتخذها للغلَّة .

رعي الدجاج في مصر

وهي بِمِصر تَرعى كما يَرعَى الغنم ولها راعِ وقيِّم .

فراخ الدجاج وفراخ الحمام

والموتُ إلى الدَّجاج سريعٌ جداً والعادة في صِغار فراريجها خلاف ما عليها نتوُّ فراخ الحمام لأنَّ الفرُّوج تتصدَّع عنه البيضة في كيِّسٌ ظريف مليح مقبول مُحَبٌّ غنيٌّ بنفسه مكتفٍ بمعرفته بصيرٌ بموضع معيشته من لَقط الحب ومن صَيد الذُّباب وصغار الطير من الهوامّ .
ويخرج كاسياً حتى كأَنَّه من أولاد ذواتِ الأربع . ويخرج سريعَ الحركة شديدَ الصوت حديده ) يُدعى بالنَّقر فيُجيب ولا يقال له : قر قر ثلاث مرّات حتى يَلقنَه . فإن استدبره مستدبرٌ ودعاه عطفَ عليه وتتبع الذي يطعمه ويلاعبه وإن تباعد من مكانه الأوَّل . فهو آلف شيء .
ثمَّ كلما مرت عليه الأيام ماق وحمق ونقص كيسه وأقبل قبحُه وأدبر مِلحُه . فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميعِ ما كان يُحَبُّ له إلى ضدِّ ذلك ويصير من حالة إلى حال لم يبلغ الانتفاع بذبحه وبيضِه وفراريجه وذهب عنهم الاستمتاع بكيسه . ولا يكاد يقبل الشَّحم

حتى يلحقَ بأبيه وكذلك إن كانت أنثى لا تقبل السِّمن ولا تحمل اللَّحمَ حتَّى تكادَ تلحقُ بأُمِّها في الجثّة .
والفرخ يخرج حارضاً ساقِطاً أنقصَ من أن يقالَ له مائق وأقبحَ شيء . وهو في ذلك عاري الجلد مختلف الأوصال متفاوت الأعضاء ضعيفُ الحوصَلة عظيم المنقار . فكلَّما مرَّت به الأيَّام زادت في لحمه وشحمه وفي معرفته وبصره حتى إذا بلغ خرجَ منه مِن الأُمور المحمودةِ ما عسى لو أنَّ واصفاً تتَّبع ذلك لمَلأَ منهُ الأجلاد الكثيرة . ثم إذا جَاز حدَّ الفِراخ إلى حَدِّ النواهض إلى حَدِّ العُتّق والمخالب قلَّ لحمُه وذهب شحمُه على حساب ذلك ينقص . فإذا تمّ وانتهى لم تكن في الأرض دابَّةٌ ولا طائرٌ أقلَّ شحماً ولا أخبثَ لحماً منه ولا أجدرَ ألاَّ يقبلَ شيئاً من السِّمَن ولو تخيّروا له فؤارَة المسمِنات وما يسمّن به ما سمِن .


وسأَلت عن السَّبب الذي صار له الدَّجَاجُ إذا كثُرن قلّ بيضهُنَّ وفراخهنَّ فزعموا أنَّها في طباع النَّخل فإن النَّخلَة إذا زَحَمت أختها بل إذا مسّ طرَفُ سَعفِها طرفَ سعفِ الأُخرى وجاورتها و ضيَّقت عليها في الهواء وكذلك أطراف العُروق في الأرض كان ذلك كرباً عليها وغمّاً .
قالوا : فَتدَانيها وتضاغُطُها وأنفاسها وأنفاسُ أبدانها يُحدث لها فساداً .
قال : وكما أنَّ الحمامَ إذا كثُرت في الكُنّة والشريحة احتاجت إلى شمس وإلى ماء تغتسِل فيهِ في بعض الأحايين وإلى أن تكون بيُوتُها مكنوسة في بعض الأوقات ومرشوشة وإلاَّ لم يكن لها كبيرُ بيض . على أنّه إذا كان لها في الصميمين الدِّفءُ في الشتاءِ والكِنُّ في الصّيف لم تُغادِر الدهر كلَّه أن تبيض .

فخر صاحب الديك بكثرة ما اشتق من البيض

قال صاحب الدِّيك : فخرتم للكلب بكثرة ما اشتقَّ للأَشياء من اسم الكلب وقد اشتقّ لأكثر من ذلك العدد من البيض فقالوا لقَلانس الحديد بَيضٌ وقالوا : فُلاَن يَدفع عن بَيضة الإسلام )
وقالوا : قال عليُّ ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه : أنَا بَيضَةُ البَلَدِ . وفي موضع الذمِّ من قولهم : ويسمّى رأس الصَّومَعة والقبّةِ بَيضة . ويقال للمجلِسِ إذا كان معمُورا غير مطوّل بَيضٌ جاثمة ويقال للوعاء الذي يكون فيه الحِبن والخَرَاج وهُوَ الذِي يجتمع فِيهِ القَيح بيضة . وقال الأشتر بن عُبادة : ( يكفُّ غُرُوبَها وَيَغضُّ منها ** وَراء القَوم خشية أن يلامُوا ) ( مُظاهِرُ بَيضَتَين على دِلاَصٍ ** بِهِ من وَقعةٍ أُخرى كِلاَمُ ) وقال النّابغة : ( فَصَبّحَهُم مُلَملَمَةً رَدَاحاً ** كَأَنَّ رُؤوسُهم بَيضُ النعام )

وقَال العُجيرُ السَّلولي : ( إذا البَيضَةُ الصَّمَّاء عضّت صفيحةٌ ** بِحربَائها صاحَت صِياحاً وصَلّت ) 4

شرط أبي عباد في الخمر

ولما أنشدوا أبا عبَّاد النَّمَرِيَّ قولَ ابنِ مَيَّادة وهو الرَّمَّاح : ( ولقد غدَوتُ على الفَتَى في رحله ** قبلَ الصَّباحِ بمُترَعٍ نَشَّاجِ ) ( جادَ القلالُ له بدَرِّ صبابة ** حمراءَ مثل سخينة الأوداجِ ) ( تَدَعُ الغويَّ كأنَّه في نفسه ** مَلِكٌ يعصَّبُ رأسُهُ بالتَّاجِ )

( ويظَلُّ يحسِب كلَّ شيءٍ حولَه ** نُجبَ العراق نزَلنَ بالأحداجِ ) فحين سمعه أبو عبّاد يقول : ( حُبست ثلاثَةَ أحرُسٍ في دَارةٍ ** قَوراءَ بَينَ جَوازل ودَجاجِ ) قال : لو وجدتُ خمراً زيتيّة ذهبية أصفى من عين الديك وعَين الغراب ولعابِ الجُندب وماء المفاصل وأحسنَ حمرةً من النّار ومن نَجِيع غزال ومن فُوَّةِ الصَّباغ لَما شربتها حتَّى أعلمَ أنَّها من عصير الأرجل وأنَّها من نبات القرى وما لم تكدر في الزِّقاق

وأنَّ العنكبوت قد نسَجَت عليها وأنَّها لم تصر كذلك إلاَّ وسطَ دَسكرةٍ وفي قرية سَوادِيَّة وحولَها دَجاجٌ وفراريج .
وإن لم تكن رقطاءَ أو فيها رُقط فإِنَّها لم تتمَّ كما أريد . وأعجَب من هذا أنِّي لا أنتفع بشُربها حتَّى يكون بائُعها على غير الإسلام ويكونَ شيخاً لا يُفصح بالعربيَّة ويكونَ قميصُهُ متقطِّعاً بالقار . وأعجب من هذا أنّ الذي لا بدَّ منه أن يكون اسمه إن كان مجُوسيّاً شهريار ومازيار )
ومَا أشبه ذلك مثل أدير واردان ويازان . فإن كان يهوديّاً فاسمه مانشا وأشلوما وأشباه ذلك . وإن كان نصرانيّاً فاسمه يُوشع وشمعون وأشباه ذلك .
استطراد لغوي ويقال حَمِسَ الشرُّ وأحمَسَ إذا اشتدّ . ويقال قد احتَمَسَ الدِّيكان احتماساً إذا اقتتلا اقتتالاً َشدِيداً . ويقال وقَعَ الطائر يقَع وُقوعاً . وكلُّ واقعٍ فمصدره الوقوع ومكانه موقعَةٌ والجمع مواقع . وقال الرَّاجز : ( كأنَّ متنيه من النَفيِّ ** مواقعُ الطير على الصُّفيِّ )

يقال صَفاً وصُفيِّ . والنّفِيُّ : ما نفى الرِّشاء من الماء وما تَنفيه مشافرُ الإبل من الماء المَدِير .
فشبَّه مكانَه على ظهر الساقي والمستَقي بِذَرق الطَّير علَى الصَّفا .
ويقال وقع الشيءُ من يدي وُقوعا وسقط من يدي سُقوطا . ويقال وقَع الربيع بالأرض ويقال سَقط . وقال الرّاعي : ( وقعَ الربيع وقَد تفاربَ خَطوُهُ ** ورأى بعَقوَتِهِ أزلَّ نَسُولا ) لؤم الفروج قال : وكان عِندَنا فرُّوجٌ وفي الدار سنانيرُ تُعابث الحمامَ وفراخه وكان الفرُّوج يهرُب منها إلى الحمام فجاءُونا بدُرَّاج فترك الحمامً وصار مع الدُّرَّاج ثم اشترينا فَروجاً كَسكَريّاً للذّبح فجعلناه في قفص فترك الدُّرَّاج ولزم قُرب القفَص فجئنا بِدَجَاجَةٍ فترك الدِّيك وصار مع الدَّجاجة فَذَكَرتُ قولَ الفِزر عبد بني فَزَارة وكانت بأُذنِهِ خُربة :

إنَّ

الوئام

يتَبرَّع في جميع الطَّمش لا يقرب العنزُ الضَّأن ما وجدت المعز وتنفر من المِخلَب ولا تتأَنّس بالحفّ . فجعلَها كما ترى تنفر ولا تَأنس منزله .
وكذلك حدّثنا الأصمعِيُّ قال : قلتُ للمنتَجِع بن نبهان وكانت بأُذنِهِ خربة أكان تميمٌ مسلماً قال : إن كان هو الذي سمَّى ابنَه زَيدَ مناةَ فما كان مُسلِماً وَإلاَّ يكن هو الذي سمَّاه فلا أدري . ولم يقل : وإلاّ يكن هو سمَّاه فقد كان مسلماً . 4 ( الوئام ) والوئام : المشاكلة . وقالوا : تقول العرب : لولا الوئام لهلك الأنام وقال بعضهم : تأويلُ ذلك : لولا أنَّ بعضَ الناس إِذا رأى صاحبه قد صنَع خيراً فتشبَّه بِهِ لهلك الناس . وَقال الآخرون : إِنَّما )
ذهب إلى أُنسِ بَعض الناس ببَعض كأَنَّه قال : إنَّما يتعايشون عَلى مقادِير الأُنس الذي بينهم ولو عمَّتهم الوَحشة عمّتهم الهَلَكة . وقال قَوم بن مَالك في الوئام : ( عَلاَمَ أُوَائم البخلاءَ فيها ** فأقعد لا أزُورُ ولاَ أُزارُ )

وقال الأخطل : ( نازعته في الدجَى الرَّاحَ الشَّمُولَ وقد ** صاحَ الدَّجَاجُ وحانت وقفة السَّارِي ) ( لمَّا مَررتُ على الدَّيرَينِ أرَّقَني ** صَوتُ الدَّجاجِ وقرعٌ بالنواقيسِ ) شعر في الديكة والدجاج قالوا : وقد وجدنَا الدِّيَكةَ والدَّجَاجَ وأفعالَها مذكوراتٍ في مواضعَ كثيرة قال ذو الرُّمة : ( كأنَّ أصواتَ من إيغالهنَّ بنا ** أواخِرِ المَيسِ أصواتُ الفرَاريجِ ) وقال الهذلي : ( ومن أينها بعد إِبدانها ** ومن شحم أَثباجها الهابط )

( تصيحُ جنادِبُهُ رُكَّداً ** صِياحَ المسامِيرِ في الواسط ) ( فهو على كلِّ مستوفز ** سقوط الدَّجَاجِ على الحائط ) وقال مَروان بن محمد : ( ضيَّع ما وُرّثَه راشدٌ ** مِن كيلَةِ الأكداس في صفِّهِ ) ( فربَّ كدسِ قد علا رمسَه ** كالدِّيك إذ يعلو عَلَى رَفِّه ) بيضة الديك وبيضة العقر ويقال في المثل للذي يعطى عطيّةً لا يعودُ في مثلها : كانَت بَيضَة الدِّيك . فإن كان معروف له قيل : بَيضة العُقر .
ويقال دجَاجة بَيوض في دَجاجٍ بيضٍ وبُيض بإسكان موضع العين من الفعل من لغة سفلى مضر وضمِّ موضع العين من نظيره من الفعل مع الفاء من لغة أهل الحجاز .


ويقال عمد الجرح يَعمَد عَمَداً إذا عُصر قبل أن ينضجَ فورِم ولم يُخرِج بَيضَته وذلك الوِعاء والغِلاف الذي يجمع المِدَّة يسمّى بيضة . وإذا خرجَ ذلك بالعصر من موضع العَين فقد أفاق صاحبُه .
ويقال حضَن الطائر فهو يحضن حِضَاناً . ) 4

السفاد والضراب ونحوهما

ويقال هو التَّسافد من الطير والتعاظل من السِّباع : ويقال قَمَط الحمام الحمامة وسفِدَها . ويقال قَعَا الفحلُ يقعو قَعوا وهو إرساله بنفسه عليها في ضرابه . والفحل من الحفِّ يَضرِب وهو القَعو والضِّراب . ومن الظِّلف والحافر ينزو نزوا وكذلك السنانير . والظليم يقعو وكلّ الطير يقعو قعوا . وأما الحفّ والظِّلف فإنّه يقعُو بعد التسنم . وهو ضرابٌ كلُّه ما خلا التسنُّم . وأما الظِّلف خاصَّة فهو قَافط يقال قفط يقفُط قفطا . أو القفط نزوة واحدة . وليس في الحافر إلاّ النَّزو .
حضن الدجاج بيض الطاوس قال : ويُوضع بيضُ الطاوس تحتَ الدّجاجة وأكثرُ ذلك لأنَّ الذَّكر يعَبث بالأنثى إذا حَضَنت .
قال : ولهذه العلَّة كثيرٌ من إناث

طير الوحش يهرِّبن بيضهُنَّ من ذكورتها ثمَّ لا تضعه بحيث يشعر به ذكورتهُن .
قال : ويُوضَع تحتَ الدجاجةِ بيضتان من بيض الطاوس لا تقوى على تسخينِ أكثرَ من ذلك . عَلَى أنَّهم يتعهّدون الدَّجاجة بجميع حوائِجها خوفاً من أن تقوم عنه فيفسده الهواء . 4

خصى ذكور الطير

قال : وخُصى ذكورِ أجناس الطَّير تكونُ في أوان أوّل السفاد أعظم . وكُلَّما كانَ الطيرُ أعظم سِفاداً كانت خصيته أعظمَ مثلُ الدِّيك والقَبَج والحَجَل .
وخُصية العصفور أعظم من خُصيةِ ما يساويه في الجثَّة مرَّتين .
بيض الدجاج قال : وكلُّ ما كان من الدَّجاج أصغرَ جثَّة يكون أكبر لبيضه . وبعض الدَّجّاج يكون يبيض بيضاً كثيراً وربما باض بَيضتين في يومٍ واحد وإذا عرض له ذلك كان من أسباب موته .

4

شعر في صفة الديك

وقال آخر في صفة الديك : ( ماذا يؤرِّقني والنومُ يُعجِبُني ** مِن صوتِ ذِي رَعَثاتٍ ساكِنِ الدَّارِ ) ( كَأنَّ حُمَّاضةً في رأسهِ نبتَت ** من آخر الليل قد همَّت بإِثمارِ ) وقال الطِّرمَّاح : ( فيا صبحُ كَمِّش غُبَّرَ اللَّيلِ مُصعِداً ** بِبَمّ ونَبِّه ذا العفاءِ الموشَّحِ ) ( إذا صاحَ لم يُخذَل وَجاوَبَ صَوتَهُ ** حَماشُ الشَّوَى يَصدَحنَ من كُلِّ مَصدَحِ )


حضن الحمام بيض الدجاج قال : والفرُّوج إذا خرج من بيضه عن حضن الحمام كان أكيسَ له . 4

بيض الطاوس

وبيضُ الطَّاوس إذا لم تحضنه الأنثى التي باضته خرج الفرخ أَقمأَ وأصغَر .
بيض الدجاج قال : وإذا أُهرِمَت الدَّجَاجة فليس لأواخر ما تَبيض صُفرة . وقد عايَنوا للبَيضَة الواحدة مُحَّتين خبّرني بذلك جماعة ممَّن يَتَعَرَّف الأُمور . وإذا لم يكن للبيضة مُحٌّ لم يُخلق من البيضة فرُّوج ولا فرخ لأَنّه ليس له طعام يغذوه ويُربِيه . والبيض إذا كان فيه محّتان وكان البياض وافراً ولا يكون ذلك للمسِنَّات فإِذا كان ذلك خلق الله تعالى من البَياض فَرُّوجين وتربَّى الفَرُّوجان وتمَّ الخلق لأَنَّ الفرخ إِنَّما يخلق من البَياض والصفرة غذاء الفروج .

4

استطراد لغوي

قال : ويقال قفَط الطائر يقفُط قفطا وسفِد يسفَد سفادً وهما واحد . ويكون السِّفاد للكلب والشاة . ويقال قَمط الحمام يقمُط قمطا .
ويقال ذَرق الطائر يذرُق ذرقا وخزَق يخزِق خَزقا ويقال ذلك للإنسان . فإذا اشتقّ له من الحذقة نفسه ومن اسمه الذي هو اسمه قيل خرئ وهو الخُرءُ والخِراء . ويقال للحافر راث يرُوث وللمعز والشاء : بعر يبعُر . ويقال للنَّعام : صام يَصُوم وللطير نجا ينجو واسم نجو النَّعام الصَّوم واسم نجو الطَّير العُرَّة . وقال الطِّرِمّاح : ( في شَنَاظِي أُقَنٍ بَينَهَا ** عُرَّة الطَّيرِ كَصَومِ النَّعامِ ) ويقال للصبي عَقَى مأخوذ من العِقى .
ويقال لحمت الطير . ويقال ألحم طائِرَك إلحاماً أي أطعمه لحما واتّخذ له . ويقال هي لُحمة النَّسب . ويقال ألحمت الثَّوب إلحاما وألحمت الطائِر إلحاماً وهي لحمة الثَّوب ولحمة بالفتح

صفاء عين الديك ومن خصال الدِّيك المحمودةِ قولهم في الشراب : أصفَى مِن عَينِ الدِّيك وإذا وصفوا عَين الحمام الفَقيع بالحمرة أو عينَ الجرادِ قالوا : كأنَّها عينُ الدِّيك . وإذا قالوا : أصفى من عين الغراب فإنّما يريدون حِدَّته ونفاذَ البصر . )
ما قيل في عين الديك وفي عين الديك يقول الأعشى : ( وكأسٍ كعَينِ الدِّيكِ باكَرت حَدَّها ** بغرتها إذ غابَ عنها بُغاتُها ) وقال آخر : ( وكأس كعين الديك باكرتُ حدها ** بفتيانِ صِدق والنّواقِيسَ تُضربُ )

وقال آخر : ( قَدَّمَتهُ على عُقارٍ كَعين الدِّي ** ك صفَّى زُلاَلَها الرَّاوُوقُ ) وقال الآخر : ( ثلاثَةَ أحوال وشَهراً مُجَرَّما ** تضئ كَعينِ العُترُفَان المجاوِبِ ) والعُترُفان من أسماء الدِّيك وسماه بالمجاوب كما سمّاه بالعُترُفان .
وإذا وصفوا المَاءَ والشَّرابَ بالصَّافي قالوا كأنّه الدَّمع وكأنَّه ماء قَطر وكأنّه ماء مَفصِل وكأَنّه لعاب الجندب . إلاّ أَنّ هذا الشاعر قال : ( مطبقة ملآنة بابليَّة ** كأنّ حُميَّاها عُيُون الجنَادِب )

وقال آخر : ( ومَا قرقَفٌ من أَذرِعاتٍ كأنَّها ** إذا سُكِبَت مِن دَنِّها ماءُ مَفصِلِ ) المفاصل وماء المفاصل والمفاصل : ماءٌ بين السَّهل والجَبَل . وقال أبو ذؤيب : ( مَطافيلَ أبكارٍ حَدِيثٍ نِتاجُها ** تشَابُ بماءٍ مِثلِ ماءِ المَفَاصِلِ ) وقال ابن نجيم : إِنَّما عنَوا مفاصل فَقَارِ الجَمَل لأنّ لكلِّ مَفصِل حُقّا فيستنقع فيه مَاءٌ لا تجد مَاءً أبداً أصفى ولا أحسن منه وإِن رقّ .


ثقوب بصر الكلب وسمعه وقال مَرَّة قطربٌ وهو محمد بن المستنير النحويُّ : والله لَفلان أبصرُ من كلب وأسمعُ من كلب وأشمُّ مِن كلب . فقيل له : أنشدنا في ذلك ما يُشبِه قولَك . فأَنشد قوله : ( يا رَبَّة البَيتِ قومي غيرَ صاغرة ** حُطِّي إليك رِحال القَوم فَالقُرُبا ) ( لا يَنبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** حتَّى يجرَّ على خَيشُومِه الذَّنَبا )


وأنشد هذا البيت في ثُقوب بصره والشِّعر لمرَّة بن مِحكَان السعديّ . ثمَّ أنشدَ في ثُقوب السّمع : ( خَفيّ السُّرَى لا يَسمَعُ الكَلبُ وَطأَهُ ** أتى دُونَ نَبحِ الكلبِ والكلبُ دابب ) خصال القائد التركي قال أبو الحسن : قال نصر بن سيَّارٍ اللَّيثي : كان عظماءُ التُّركِ يقولون للقائِد العظيم القِيادة : لآ بدَّ أن تكونَ فيه عشرُ خصالٍ من أخلاق

الحيوان : سخاء الديك وتحنُّن الدجاجة وقلب الأسد وحملة الخنزير وروَغان الثعلب وخَتل الذئب وصبر الكلب على الجراحة وحذَر الغراب وحِراسة الكُركيِّ وهداية الحمام .
وقد كتبنا هذا في بابِ ما للدَّجاج والدِّيك لأنَّ صاحبَ هذا الكلامِ قسّم هذه الخصال فأعطى كلَّ جنسٍ منها خَصلةً واحدة وأعطى جنس الدجَاج خَصلتين .
بعض ما ورد من الحديث والخبر في الديك وعبَّاد بن إبراهي عن عبد الرحمن بن زيد قال : كان مكحولٌ يسافر بالدِّيك .
وعنه في هذا الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدِّيكُ صدِيقي وصديق صديقي وعدُوُّ عدوِّ الله يحفَظ دارَه وأربَعَ دُور من حواليه .
والمسيب بن شريك عن الأعمش نحسبه عن إبراهيم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَذبَحُوا الدِّيك فإنَّ الشَّيطَان يُفرَحُ بِهِ .

4

ريش جناح الطائر

قال : وليس جناح إلاَّ وفيه عشرون ريشةً : فأربعُ قوادم وأربعُ مناكب وأربع أباهر وأربع كلىً وأربعٌ خَوَافِ ويقال : سبعٌ قوادم وسبعٌ ُ خَوافٍ وسائره لقب . 4

والكف والركبة لدى الإنسان وذوات الأربع

قال : وكلُّ شيء من ذوات الأربع فركبتاه في يديه وركبتا الإنسانِ في رجليه قال : والإنسان كفُّه في يده والطائر كفه في رجله . 4

أسنان الإنسان

قال : وفي الفم ثَنِيَّتان ورَبَاعِيتَان ونابان وضاحكان وأربعةُ أرحاءِ سوى ضِرْس الحُكْم والنَّواجذ والعوارض سواء ومثلها أسفل .


التفاؤل بالدجاجة )
قال صاحب الدِّيك : والدَّجَاجةُ يُتفاءَل بذِكرها ولذلك لَّما ولد لسعيد بن العاص عَنْبَسَةُ بن سعيد قال لابنه يحيى : أى ّ شيءٍ تَنْحَلُه قال : دَجَاجة بفراريجها يريد احتقاره بذلك إذ كان ابنَ أَمَةٍ ولم يكن ابنَ حرّة فقال سعيد أو قِيلَ له : إن صدَقَ الطََّيرُ لَيكونَنَّ أكثرَهُمْ ولداً فهم اليومَ أكثرُهُمْ وَلَداً وهم بالكوفة والمدينة .
شعر في الدجاج وقال الشاعر : ( غدَوتُ بشَرْبةٍ مِنْ ذات عِرْقٍ ** إبا الدَّهناء من حَلب العصيرِ ) ( وأُخرى بالعَقَنْقَل ثمَّ سِرْنا ** نرى العُصفورَ أعظمَ مِن بَعيرِ ) ( كأنَّ الدِّيكَ دِيك بني نُميرِ ** أميرُ المؤمنين على السَّرير ) ( كأنَّ دَجَاجَهُمْ في الدَّار رُقطاً ** بناتُ الرُّومِ في قُمصِ الحريرِ ) ( فبتُّ أرى الكَوَاكبَ دانيات ** يَنَلْنَ أنَامِل الرَّجُلِ القصيرِ ) ( أُدافعهنَّ بالكَفينِ عنيِّ ** وأمسَحُ جَانبَ القَمَرِ المُنيرِ )

نطق الدجاج قال : ويوصف بالدُّعاءِ وبالمنطق قال لَبيد بن ربيعة : ( وصدَّهُمْ مَنطِقُ الدَّجَاجِ عن القَص ** د وضَرْبُ النَّاقوس فاجْتُنِبا ) ( لَدُنْ أن دعا ديكُ الصباح بسُحْرةٍ ** إلى قَدر ورِد الخامِس المتأوّب ) دعابة أعرابي وقسمته للدجاج قال أبو الحسن : حدَّثني أعرابيٌّ ُ كان ينزل بالبَصْرة قال : قدِم أعرابيٌّ من البادية فأَنزلته وكان عندي دَجَاج كثير ولي امرأةٌ وابنان وابنتان منها فقلب لامرأتي : بَادِري واشوي لنا دَجَاجَة وقدِّميها إلينا نتغدَّاها فلمَّا حضر الغداء جلسنا جميعاً أنا وامراتي وابناي وابنتاي والأعرابيّ قال : فدفعنا إليه الدَّجاجة فقلنا له : اقسمِها بيننا نريد بذلك أنّ نضحك منه فقال : لا أحسنُ القِسمة فإن رضيتم بقسمَتي قسمْتُها بينكم قلنا : فإنَّا نرْضَى فأخذَ رأسَ الدَّجَاجة فقطعه فناوَلَنيِه وقال : الرَّأس للرّأس وقَطَعَ الجناحين وقال : الجناحان

للابنين ثمَّ قطع السَّاقين فقال : السَّاقان للابنتين ثمَّ قَطَعَ الزَمِكَّي وقال : العجُز للعُجُز وقال : الَّزور للزائر : قال فأخَذَ الدَّجَاجة بأسْرها وسَخِر بنا قال : فلما كان من الغد قلتُ لامرأتي : اشوي لنا خَمْسَ ) دَجاجَاتٍ فلما حضر الغداءُ قلت : اقسم بيننا قَال : إنِّي أظنُّ أنّكم وجَدْتم في أنفسكم قلنا : لا لم نجد في أنفسنا فأقسِم قَال : أقسِمُ شفعاً أو وِتراً قلنا : اقسِم وِتراً قالَ : أنت وامرأتك ودَجَاجة ثلاثة ثمَّ رمى إلينا بدجاجة ثُمَّ قَالَ : وابناك ودجاجة ثلاثة ثمّ رمى إليهما بدجاجة ثمَّ قال : وابنتاك ودجاجة ثلاثة ثمّ رمى إليهما بدجاجة ثمَّ قَالَ : أنَا ودجاجاتان ثلاَثَةً وأخذ دجاجتين وسخِر بنا قَالَ : فرآنا ونحن ننظر إلى دجاجتيه فقال : ما تنظرون لعلَّكم كرهتم قسَمِتي الوِتر لا يجيء إلاَّ هكذا فهل لكمْ في قِسمَة الشَّفع قلنا : نعم فضمَّهنَّ إليه ثم قال : أنتَ وابناك ودجاجة أربعة ورمى إلينا بدجَاجَة ثمَّ قال : والعجوز وابنتاها ودجَاجة أربعة ورمى إليهنَّ بدجَاجَةٍ ثمّ قالَ : أنَا

وثلاث دَجَاجَات أربعة وضمَّ إليه الثَّلاث ورفَعَ يديه إلى السماء وقال : اللّهم الحمد أنتَ فَهَّمتنيها .
قول صاحب الكلب على كيس الفروج قال صاحب الكلب : أمَّا قولهمْ : من أعظم مَفاخِر الدِّيك والدَّجَاج على سائر الحيوان إنَّ الفَرُّوج يخرج من البيضة كاسيا يكفِي نفسه ثمَّ يجمع كيْس الخِلقة وكيْس المعرِفة وذلك كلُّه مع خُروجه من البيضة فَقد زعم صاحبُ المنطق أنَّ ولد العنكبوت يأخذُ في النَّسج ساعةَ يُولد وعملُ العنكبوتِ عملٌ شاقٌ ولطيفٌ دقيق لايبلغه الفَرُّوجُ ولا أبو الفَرُّوج على أنّ ما مدَحوا الفرُّوج به من خُروجه من البيضة كاسياً قد شرِكه في حاله غيرُ جِنسه وكذلك ذَوات الأربَع كلها تُلد كواسِيَ كواسب كولد الشاء وفِراخ القَبجِ والدُّرَّاجِ وفراخ البطِّ الصِّينيِّ في ذلك كلِّه لاحقةُ بالفراريج وتزيدُ على ذلك أنَّها تزداد حُسناً كلَّما كِبرت فقد سقط هذا الفخر . =

مجلد 4. من كتاب:الحيوان  :أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ


شعر هزليّ في الديك ( هَتَفَتْ أمُّ حُصَينٍ ** ثمَّ قالت : مَن يَنِيك ) ( فَتحتْ فَرْجاً رَحِيباً ** مِثلَ صَحراء العَتيكْ ) ( فيه وَزٌّ فيه بَطٌّ ** فيه دُرّاجٌ ودِيكْ ) حديث صاحب الأهواز عن العرب قال : وممَّا فيه ذِكْرُ الدَجَاج وليس من شِكْل ما بنَينا كلامَنا عليه ولكنَّهُ يُكتَب لما فيه من العجب قال : قال الهامَرز قال صاحب الأهواز : ما رأينا قوماً أعجب من العَرَب أتيتُ الأحنفَ بنَ قيسٍ فكلََّمته في حاجةٍ لي إلى ابن زياد وكنتُ قد ظلمت في الخَراج فكلَّمَه )
فأحسَنَ إليّ وحطّ عنِّي فأهدَيْتُ إليه هدايا كثيرةً فغَضِب وقال : إنَّا لا نأخُذُ على مَعُونتِنا أجراً فلمَّا كنتُ في بعضِ الطريق سقطتْ من ردائي دَجاجةٌ فلحقني رجلٌ منهم فقال : هذهِ سقطتْ من ردائك فأمرتُ له

بدِرْهَمٍ ثمَّ لحِقني بالأُبُلَّة فقال : أنا صاحبُ الدَّجاَجة فأمرْتُ لَهُ بدراهم ثمَّ لحقني بالأهواز فقال : أنا صاحب الدَّجاجة فقلت له : إن رأيتَ زادي بعد هذا كلِّه قد سقط فلا تُعْلمِني وهُوَ لك .
جرو البطحاء قال صاحب الكلب : كان يقال لأبي العاصي بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس وهو زوج المورياني أسطورة البازي والديك قال صاحب الديك لصاحب الكلب : وسنضرب لك المثلَ الذي ضَرَبه المورِيانيُّ للدِّيك والبازي : وذلك أنَّ خلاَّد بن يزيدَ الأرقط

قال : بينما أبو أيُّوب المورِيانيُّ جالسٌ في أمْره ونهيه إذ أتاه رسولُ أبي جعفرٍ فانْتُقِع لونه وطارت عصافيرُ رأسِه وأَذِن بيومِ بأسه وذعِر ذعراً نقَضَ حُبْوته واستطار فؤاده ثمَّ عاد طلقَ الوجْه فتعجَّبنا من حالَيه وقلْنا لَهُ : إنَّك لطيفُ الخاصَّة قريبُ المنزلة فلمَ ذهب بك الذُّعُر واستفرَغك الوَجل فقال : سأَضرب لكم مثلاً مِنْ أمثال الناس . زعموا أنَّ البازيَ قالَ للديك : ما في الأرض شيءٌ أقلُّ وفاءً منك قالَ : وكيف قالَ : أخذَكَ أهلكَ بيضةً فحضَنُوك ثمَّ خرجتَ على أيديهم فأطعمُوكَ عَلَى أكفِّهم ونشأتَ بينهم حتَّى إذا كبرتَ صرتَ لا يدنو منك أحدٌ إلاَّ طرتَ هاهنا وهاهنا وضَجِجْتَ وَصِحت وأُخِذتُ أنا من الجبال مسنّا فعلَّموني وألَّفوني ثمَّ يخلَّى عَنِّي فآخذُ صيدي

في الهواء فأَجيءُ بِهِ إلى صاحبي فقال له الدِّيك : إنَّك لو رأيتَ من البُزاة في سَفافيدهم مثلَ ما رأيتُ من الدُّيُوك لكنتَ أنفَرَ منِّي ولكنَّكم أنتمْ لو علمتم ما أعلَم لم تتعجَّبوا من خوُفي مع ما ترونَ من تمكُّنِ حالي .
استجادة الخيل والكلاب قال صاحب الكلب : ذكر محمَّد بن سلاَّمٍ عن سعيد بن صَخْر قال : أرسل مسلمَ بن عمرو ابن عَمٍّ لَهُ إلى الشَّام ومِصر يشتري لَهُ خيلاً فقال له : لا علم لي بالخيل وكان صاحبَ قنْص قال : ألستَ صاحبَ كلاب قال : بلى قال فَانْظرْ كلَّ شيءٍ تستحسنه في الكلب فَاستعمله في الفَرَس فقدِم بخيلٍ لم يكنْ في العرَب مثلُها . )


حاجة اَلديك إلى الدجاجة قال محمَّد بن سلاّم : استأْذنَ رجلٌ عَلَى امرأةٍ فقالت له : مَاله من حاجةٍ قالت الجارية : يريدُ أن يذكر حاجة قالت : لعلها حاجة الدِّيك إلى الدَّجَاجَة .
هرب الكميت من السجن متنكراً بثياب زوجه محمَّد بن سلاّم عن سَلاّم أبي المنذر قَالَ : حبس خالدُ بن عبد اللّه الكميتَ بن زَيْد وكانت امرأتُه تختلف إليه في ثيابٍ وهَيئة حتَّى عرَفها البوَّابُونَ فلبسَ يَوْماً ثيابَها وخرج عليهم فسمَّى في شِعره البوَّابين النَّوابحَ وسمَّى خالداً المُشْليِ :

( خرجت خروجَ القِدْحِ قدحِ ابنِ مُقْبِلٍ ** على الرَّغْم من تِلْكَ النَّوابحِ والمشليِ ) ( عليَّ ثِيابُ الغانِياتِ وتحتَها ** صَرِيمةُ عَزْمٍ أشْبَهَتْ سَلَّة النَّصْل . ) فتيا الحسن في استبدال البيض قال : وأخبرنا خَشْرَم قال : سمعتُ فلاناً البقَّالَ يسأل الحسنَ قَالَ : إنّ الصبيان يأتُونَني ببيضَتين مكسورتين يأْخذون منِّي صحيحةً واحدة قال : ليس به بأْس أرحام الكلاب محمّد بن سلاّم عن بعض أشياخه قال : قال مُصعَب بن الزُّبير على منبر مسجد البصرة لبعض بني أبي بكْره : إنما كانت أمُّكم مثلَ الكلبة ينزُو عليها الأَعفر والأسودَ والأبقَع فتؤدي إلى كلِّ كلب شِبْهَه

هذا في هذا الموضع هِجاء وأصحابُ الكلاب يرون هذا من باب النَّجابة وأنَّ ذلك من صِحّة طِباع الأرحام حين لا تختلط النُّطَف فتجيء جوارح الأولاد مختلفة مختلطة .
من وصية عثمان الخياط للشطار وقال صاحب الكلب : في وصّية عثمانَ الخيَّاطِ للشُّطَّار اللُّصوص : إيَّاكم إيّاكم وحبَّ النِّساء وسماعَ ضربِ العود وشربَ الزَّبيب المطبوخ وعليكم باتِّخاذ الغِلْمان فإنَّ غلامَك هذا أنفعُ لك من أخيك وأعونُ لك مِنْ ابنِ عمّك وعليكم بنَبيذ التَّمر وضرب الطُّنْبور وما كان عليه السلف واجعلوا النّقل باقلاّء وإن قدَتم على الفُستقِ والرَّيحان شاهَسْفَرَم

وَان قدرتم على الياسمين ودَعوا لُبس العمائم وعليكم بالقِناع والقَلَنْسوة كُفْر والخف شِرك واجعل لهوَك الحَمَامَ وهارِش الكلابَ وإِيَّاك والكباشَ واللَّعِب بالصُّقورة والشَّواهين وإيَّاكم والفهودَ فلما انتهى إلى الديك قال : والدِّيكَ فإنَّ لَهُ صبراً ونجدة وَرَوَغانا وتدبيراً وإعمالاً للسِّلاح وهو )
يبهر بهر الشُّجاع .
ثم قال : وعليكم بالنَّرد ودعوا الشِّطْرَنج لأهلها ولا تلعبوا في النَّرْد إلا بالطويلتين والودَعُ رأس مالٍ كبير وأوَّل منافعه الحذق باللَّقْف . ثمَّ حدَّثَهم بحديث يزيد بن مسعود القَيسيّ .
كراهية الكلب الأسود البهيم وقال صاحب الديك : ذكر محمَّد بن سلاَّم عن يحيى بن النضر عن أبي أميّة عبد الكريم المعلِّم قال : كان الحسنُ بن إبراهيم يكرَهُ صيدََ الكلبِ الأسودِ البهيم .
قصيدة ابن أبي كريمة في الكلب والفهد وأنشد صاحبُ الكلب قولَ أحمد بن زياد بن أبي كريمة في صفة صَيْدِ الكلب قصيدة طويلة أوّلُهَا :

( وغِبَّ غمامٍ مَزَّقتْ عن سمائه ** شاميَّةُ حصَّاءُ جُون السَّحائبِ ) ( مُواجِهِ طَلق لم يردِّد جَهامَه ** تذاؤُب أرْواح الصَّبا والجنائب ) ( بعْثتُ وأثوابُ الدُّجى قد تقلَّصَتْ ** لغرَّة مشهور من الصبُّح ثاقب ) ( قد لاح ناعِي الليل حتَّى كأنَّه ** لسَاري الدُّجَى في الفجر قنديلَ راهب ) ( تَجْنِيبِ غضْفٍ كالقِداحِ لطيفةٍ ** مُشرَّطةٍ آذانها بالمخالبِ )

( تخالُ سِياطاً في صلاها مَنُوطَةً ** طوال الهوادي كالقداح الشوازب ) ( إذا افتَرَشَتْ خَبتاً أثارتْ بمتْنِه ** عجاجاً وبالكَذَّان نارُ الحَباحِب ) ( يفوتُ خُطاها الطّرْفَ سبقاً كأنّها ** سهامُ مُغال أو رُجومُ الكواكب ) ( طِرادُ الهَوادي لاحَها كلّ شَتْوَةٍ ** بطامسة الأرجاءِ مَرْتِ المسارب ) ( تكادُ من الأَحراج تنسَلُّ كُلَّما ** رأتْ شَبَحاً لولا اعتراضُ المناكب ) ( تسُو ف وتُوفى كلَّ نَشْزٍ وفَدفدٍ ** مرابِضَ أبناءِ النِّفاق الأرانبِ ) ( كأنّ بها ذعراً يُطِير قُلوبَها ** أنينُ المَكَاكي أو صريرُ الجنادبِ )

( تديرُ عيوناً رُكِّبت في بَراطِلٍ ** كجْمر الغَضى خُزْراً ذِرَابُ الأنائب ) ( إذا مَا استُحِثّتْ لم يُجِنّ طَريدَها ** لهنَّ ضَراءٌ أو مجارِي المَذَانبِ ) ( وإن باصها صَلْتاً مدَى الطّرفِ أمسكَتْ ** عليه بدُون الجُهد سُبلَ المذاهب ) ( تكادُ تَفَرَّى الأُهبُ عنها إذا انتحت ** لنبّأة شَخْتِ الجِرْم عاري الرَّواجبِ )

( كأنّ غصون الخيزرانِ مُتُونُها ** إذا هي جَالت في طِرادِ الثَّعالب ) ( كواشرُ عن أنيابهنَّ كوالحٌ ** مُذَلّقة الآذان شوس الحواجب ) ثم وصف الفهود : ( بذلك أبغي الصّيدَ طوراً وتارة ** بمُخْطَفَةِ الأكْفالِ رُحْبِ التَّرائب ) ( مرقّقَة الأَذنابِ نُمْرٍ ظهورُها ** مخطّطةِ الآمَاق غُلبِ الغَواربِ ) ( مُدَنّرةٍ وُرْقٍ كأنّ عيونها ** حَواجِلُ تستَذْمى متونَ الرّواكب )

( إذا قلَّبتها في الفِجاج حسبتها ** سَنا ضَرَمٍ في ظُلمةِ اللَّيل ثاقبِ ) ( مُوَلّعة فطح الجِباهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشداقِها خطَّ كاتبِ ) ( نَواصِب آذان لِطَافٍ كأنّها ** مَداهنَ للإجْراسِ من كلِّ جانبِ ) ( ذوات أشافٍ رُكِّبت في أكُفِّها ** نَوَافِذَ في صُمِّ الصُّخورِ نَواشِبِ ) ( ذِراب بلا ترهيفِ قَينٍ كأَنّها ** تعقربُ أصداغِ المِلاح الكواعِب ) ( فوارسُ مَالم تلق حَرْباً ورَجْلةٌ ** إذا آنسَتْ بالبِيد شُهبَ الكتائب )

( ترَوٍّ وَتَسْكِينٌ يَكُونُ دَريئةً ** لهنَّ بِذي الأَسْرابِ في كلِّ لاحِب ) ( تضاءَلُ حتّى لا تكادُ تُبِينُها ** عُيُونٌ لدى الصرَّات غير كواذبِ ) ( حراصٌ يَفوت البرقَ أمكثُ جَريِها ** ضِراءٌ مِبَلاّت بطول التَّجارب ) ( تُوَسِّد أجْيادَ الفَرَائِس أذرعاً ** مرَمّلةً تحكى عناق الحَبائب )

قال دِعْبلٌ الشاعر : أقمنا عند سهل بن هارونَ فلم نبرحْ حتّى كدنَا نموتُ من الجوع فلما اضطررناه قال : ياغلام ويْلَك غدِّنا قال : فأُتِينا بقَصعةٍ فيها مرقٌ فيهِ لحمُ ديك عاسٍ هرم ليس قبلَها ولا بعدَها غيرُها لا تحزُّ فيه السكين ولا تؤثِّر فيه الأضراس فاطّلع في القصعة وقلَّب بصرَه فيها ثمّ أخذ قِطْعةَ خبزٍ يابس فقلَّب جميع مَافي القَصعة حتَّى فقد الرأس من الدِّيك وحده فبقي مطرِقاً ساعَةً ثمَّ رفع رأسه إلى الغلام فقال : أين الرَّأس فقال : رميتُ به قال : ولم رميت به قال : لم أظنّك تأكله قال : ولأَيِّ شيءٍ ظَننتَ أنِّي لا آكلُه فواللّه إنِّي لأَمقتُ مَن يرمي برجليهِ فكيف من يرمي برأسه ثم قال لَهُ : لو لم

أكرهْ مَا صنَعتَ إلاّ للطِّيَرةِ والفأل لكَرهْتُه الرأس رئيسٌ وفيهِ الحواسُّ ومنه يصدَح الديك ولولا صوتُه ما أرِيدَ وفِيهِ فَرقُه الذي يُتبرّك به وعَينُهُ التي يضرب بها المثل يقال : شرابٌ كعين الديك ودِمَاغُه عجيب لوجَع الكلية ولم أرَ عَظماً قَطُّ )
أهشَّ تحت الأسنانِ من عَظْم رأسِهِ فهَلاّ إذْ ظننتَ أنِّي لا آكلُه ظننتَ أنّ العِيال يأْكُلُونه وإنْ كانَ بلَغَ من نُبْلِك أنّك لا تأْكلُه فإنّ عِنْدَنا من يأْكُلُه أوَ ما علمتَ أنّه خيرٌ من طَرَف الجَناحِ ومن السَّاق والعنق انظرْ أين هو قال : واللّه ما أدري أينَ رميتُ بِهِ قال : لكنِّي أدري أنّك رمَيت بِهِ في بطنك واللّهُ حَسيبك .

الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

فاتحة

استنشاط القارئ ببعض الهزل

وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة لتكثَّر الخواطر وتشحَذَ العقول فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات وبذكر العلل الظَّريفة والاحتجاجاتِ الغريبة فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السرور والضحك والاستطراف ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر وأجمَعِ المعاني .


وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً : أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب والأمرُ الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام وهما لا يحسنانِ منه شيئاً فإنَّهما يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد وكلَّ غضبانَ وإن أحرقَه لَهِيبُ الغضَب ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك والسُّرورِ والبَطالة والتشاغُل ما يجوز في كلِّ فن .
وسنذكر من هذا الشكل عِللاً ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً فإنْ كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ وتَعْجَل إليه السآمة كان هذا البابُ تنشيطاً لقلْبك وجَماماً لقوَّتك ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ وحدَثَ النشاط .
وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ وكنت ممرَّناً موقَّحاً وكنتَ إلفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ ودراسةِ كتُب وحِلفَ تبيُّن وكان ذلك عادة لك لم يضِرْكَ مكانه من الكِتاب وتخَطِّيه إلى ما هو أولى بك

ضرورة التنويع في التأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ واللّهُ الموفِّق أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر وضروبِ الأحاديث ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة إذا )
طال ذلك عليها وما ذلك إلاَّ في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة .
وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ كان هذا التَّدبيرُ لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً .
وقال أبو الدَّرداء : إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل كراهةَ أنْ أحمِل عليها من الحق ما يملُّها .
فمن الاحتجاجات الطيِّبة ومن العِلل الملهية ما حدَّثني به ابن المديني قال : تحوَّل أبو عبد اللّه الكرْخيُّ اللِّحيانيُّ إلى

الحَرْبيَّة فادَّعى أنَّه فقيه وظنَّ أنَّ ذلك يجوزُ له لمكانِ لحيته وسَمْته قال : فألقى على باب داره البواريّ وجلس وجلس إليه بعضُ الجيران فأتاه رجلٌ فقال : يا أبا عبدِ اللّهِ رجلٌ أدخل إصبَعَه في أنفه فخرَج عليها دمٌ أيَّ شيءٍ يصنع قال : يحتجم قال : قعدتَ طبيباً أو قعدتَ فقيهاً

جواب أبي عبد الله المروزي

ّ ) وحدَّثني شمعون الطبيب قال : كنت يوما عند ذي اليَمينين طاهرِ بن الحسين فدخل عليه أبو عبد اللّه المروَزِيّ فقال طاهر : يا أبا عبدِ اللّه

مذْ كمْ دخلتَ العراق قال : منذ عِشرين سنةً وأنا صائم منذ ثلاثين سنة قال : يا أبا عبدِ اللّه سألناك عن مسألةٍ فأجبتَنا عن مسألتين

جواب شيخ كندي

وحدَّثني أبو الجهجاه قال : ادَّعى شيخٌ عندنا أنَّه من كندة قبلَ أن ينظرَ في شيءٍ من نسبِ كِنْدة فقلت له يوماً وهو عندي : ممن أنت يا أبا فلان قال : من كندة قلت : من أيِّهم أنت قال : ليس هذا موضعَ هذا الكلام عافاك اللّه .
ودخلتُ على خَتَن أبي بكر بن بريرة وكان شيخاً ينتحل قول الإباضيَّة فسمعتُه يقول : العجبُ ممن يأخذه النَّومُ وهو لا يزعم أنَّ الاستطاعة مع الفعْل قلت : ما الدليل على ذلك قال : الأشعار الصحيحة قلت : مثل ماذا قال : مثل قوله :

مَا إنْ يقَعْنَ الأَرْضَ إلاّ وفقا ومثل قوله : يَهوِين شتَّى ويقعن وفقا ومثل قولهم في المثل : وقَعَا كعِكْمَيْ عَير .
وكقوله أيضاً : ( مِكرّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدْبرٍ معاً ** كَجُلمودِ صَخْر حَطَّه السَّيلُ من علِ ) وكقوله : ( أكفُّ يدي عن أنْ تمسَّ أكفهم ** إذا نحنُ أهوَينا وحاجتنا مَعَا ) ثم أقبل عليَّ فقال : أما في هذا مقنع قلت : بلى وفي دون هذا

جواب هشام بن الحكم

وذكر محمَّدُ بنُ سلاَّم عن أبانِ بنِ عثمانَ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لهشامِ ابن الحكم : أتُرَى اللّهَ عزَّ وجلّ في عدْله وفضلِه كلَّفنا ما لا نطيقُ ثمَّ يعذِّبُنا قال : قدْ واللّه فعل وكنَّا لا نستطيع أنْ نتكلَّم به .

سؤال ممرور لأبي يوسف القاضي

وحدَّثني محمّد بن الصباح قال : بينا أبو يوسفَ القاضي يسيرُ بظَهْر الكوفة وذلك بعدَ أن كتبَ كتابَ الحِيَل إذ عرضَ له ممرورٌ عندنا أطيب الخلْق فقال له : يا أبا يوسف قد أحسنتَ في كتاب الحيل وقد بقيتْ عليكَ مسائلُ في الفِطن فإنْ أذِنت لي سألتك عنها قال : قد أذنتُ لكَ فَسَلْ قال : أخبرْني عن الحِرِ كافرٌ هو أو مؤمن فقال أبو يوسف : دينُ الحرِ دينُ المرأة ودينُ صاحبةِ الحِر : إن كانت كافرةً فهو كافر وإن كانت مؤمنةً فهو مؤمن قال : ما صنعت

شيئاً قال : فقل أنت إذَنْ إذْ لم ترض بقولي فقال : الحِرُ كافر قال : وكيف علمت ذلك قال لأنَّ المرأةَ إذا ركعَتْ أو سجَدَتْ استدبر الحِرُ القِبلة واستقبلت هي القبلة ولو كان دينُه دينَ المرأة لصنع كما تصنع هذه واحدةٌ يا أبا يوسف قال : صدقت .
قال : فتأذن لي في أخرى قال : نعم قال : أخبرني عنك إذا أتيتَ صحراءَ فهجمْتَ على بَول وخِراء كيف تعرف أبولُ امرأةٍ هو أم بول رجل قال : واللّه ما أدري قال أجل واللّه ما تدري قال : أفتعرف أنت ذاك قال : نعم إذا رأيت البول قد سال على الخِراء وبين يديه فهو بولُ امرأة وخِراء امرأة وإذا رأيت البولَ بعيداً من الخِراء فهو بول رجل وخِراء رجل قال : صدقت .
قال : وحكى لي جوابَ مسائلَ فنسيت منها مسألة فعاودته فإذا هو لا يحفظها .

جواب الحجاج العبسي

وحدَّثني أيُّوب الأعورُ قال قائل للحجاج العبْسي : ما بال شعر الاسْتِ إذا نبتَ أسرع والتفّ قال : لقربه من السَّماد والماء هطِلٌ عليه .

جواب نوفل عريف الكناسين

وحدَّثني محمَّد بن حسَّان قال : وقفتُ على نوفلٍ عَريفِ الكنَّاسين وإذا مُوسْوَس قد وقف عليه وعندَه كلُّ كنَّاس بالكَرْخ فقال له الموسوَس : ما بال بنتِ وردان تدعُ قعرَ البئر وفيه كُرُّ خِراء وهو لها مُسْلمٌ وعليها موفر وتجيء تطلب اللُّطاخة التي في است أحدنا وهو قاعدٌ على المَقْعَدة فتلْزم نفسها الكُلفةَ الغليظة وتتعرَّض للقتل وإنَّما هذا الذي في أستاهنا قيراط من ذلك الدرهم وقد دفعنا إليها الدِّرهم وافياً وافراً قال : فضحك القوم فحرَّك نوفلٌ رأسَه ثم قال : أتضحكون قدْ واللّهِ سأل الرجل فأجيبوا وأمَّا أنا فقد واللّه فكَّرت فيها منذ ستِّينَ سَنَةً ولكنَّكم لا تنظرون في شيءٍ من أمر صناعتكم لا جَرَمَ أنَّكم لا ترتَفِعُون أبداً قال له الموسوَس : قلْ يرحمُك اللّه فأنتَ زعيمُ القوم فقال نوفل : قد علمنا أنَّ الرُّطَب

أطْيبُ من التَّمر والحديثَ أطرف من العتيق والشيءَ من مَعْدنِه أطيَب والفاكهةَ من أشجارِها أطرف قال : فغضب شريكَه مسبِّح الكنَّاس ثم قال : واللّه لقد وبَّختنا وهوَّلتَ علينا حتى ظنَنَّا أنَّك ستُجيب بجوابٍ لا يحسنُه أحد ما الأمرُ عندَنَا وعند أصحابنا هكذا قال : فقال لنا الموسوس : ما الجواب عافاكم اللّه فإنِّي ما نمتُ البارحةَ من الفِكرَة في هذه المسألة قال مسبِّح : لو أنَّ لرجلٍ ألفَ جاريةٍ حسناء ثم عتَقْنَ عندَه لبردَت شهوتُه عنهنَّ وفترت ثمَّ إن رأى واحدةً دون أخسِّهن في الحسْن صبا إليها وماتَ من شهوتها فبنت وردانَ تستظرف تلك اللطاخة وقد ملَّت الأولى وبعضُ الناسِ

الفطيرُ أحبُّ إليهم من الخمير وأيضاً إنّ الكثيرَ يمنَع الشَّهوة ويورث الصُّدود قال : فقال الموسوس واستحسَنَ جوابَ مسبِّح بعد أن كان لا يرى جواباً إلاّ جواب نوفل : لا تعرفُ مِقدارَ العالمِ حتَّى تجلسَ إلى غيره أنتم أعلم أهل هذه المدَرة ولقد سألتُ علماءَها عنهُ منذُ عشرينَ سنةً فما تخلّصَ أحدٌ منهم إلى مثلِ ما تخلّصْتم إليه وقدْ واللّه أنَمْتم عيني وطابَ بكم عيشي وقد علمنا أنّ كلّ شيءٍ يُسْتَلبُ استلاباً أنَّه ألذ وأطيب ولذلك صارَ الدَّبيبُ إلى الغِلمان ونيكهم على جهة القهر ألذ وأطيب وكلُّ شيءٍ يصيبهُ الرَّجل فهو أعزُّ عليه من المال الذي يرثه أو يوهب له . )
علة الحجاج بن يوسف قال : وحدَّثني أبانُ بن عثمانَ قال : قال الحجَّاجُ بنَ يوسفَ : واللّهِ لَطَاعتي أوجَبُ مِنْ طاعةِ اللّه لأنَّ اللّه تعالى يقول : فاتَّقُوا اللّه مَا استَطَعْتُم

فجَعَلَ فيِهَا مَثنَوِيَّةً وقال : وَاسْمعُوا وَأطِيعُوا ولم يَجْعَلْ فيها مثنَويَّة ولو قلتُ لرجل : ادخل مِن هذا الباب فلم يدخل لَحَلَّ لي دمُه .

احتجاج مدني وكوفي

قال : وأخبرني محمَّد بن سليمانَ بنِ عبد اللّه النوفليُّ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لرجل من أهل المدينة : نحن أشدُّ حبَّاً لِرَسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آلِه مِنْكُم يا أهلَ المدينة فقال المدنيّ : فما بَلَغَ مِنْ حُبِّكَ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله قال : ودِدت أنِّي وَقيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنَّه لم يكنْ وصَلَ إليه يومَ أُحُدٍ ولا في غيره من الأيَّام شيءٌ من المكروه يكرهه إلا كان بي دونَه فقال المدنيُّ : أفَعِنْدَكَ غيرُ هذا قال : وما يكون غيرُ هذا قال : ودِدْتُ أنَّ أبا طالبٍ كانَ آمَنَ فسُرَّ به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنِّي كافر

وحدَّثني أبانُ بنُ عثمان قال : قال ابنُ أبي ليلى : إنّي لأُسَايرُ رجلاً من وُجوهِ أهل الشّاً م إذْ مرَّ بحمَّالٍ معَه رُمَّان فتناولَ منه رُمَّانَة فجَعَلها في كُمِّه فَعَجِبْتُ من ذلك ثمَّ رجعت إلى نفسي وكذَّبت بصرى حتَّى مرَّ بسائِلٍ فقير فأخرجها فناوَله إيَّاها قال : فعلمتُ أنِّي رأيتُها فقلتُ له : رأيتُك قَد فعلتَ عجباً قال : وما هو قلت : رأيتُك أخذْتَ رُمَّانَةً مِنْ حَمَّال وأعطيتها سائلاً قال : وإنَّك ممَّن يقول هذا القولَ أما علِمتَ أنِّي أَخَذْتُها وكانت سيِّئَةً وأعطيتها فكانت عشْرَ حَسَنَاتٍ قال : فقال ابن أبي ليلى : أمَا علِمتَ أنَكَ أخذْتَها فكانتْ سيِّئةً وأعطيتَها فلم تُقْبَلَ منك

جهل الأعراب بالنحو

وقال الربيع : قلت لأعرابيٍّ : أتَهْمِزُ إسرائيل قال : إنِّي إذاً لَرَجُلُ سَوْء قلت : أتجُرُّ فِلَسطين قال : إنِّي إذاً لَقَوِيّ .

احتجاج رجل من أهل الجاهلية

قال : وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة قال : كان رجلٌ في الجاهليَّة معَه مِحْجَنٌ يتناوَلُ به مَتاعَ الحاجِّ سَرِقة فإذا قيل له : سرقت قال : لمْ أسرِق إنَّما سَرَق مِحْجني قال : فقال حماد : لو كانَ هذا

الأعمش وجليسه

قال : وحدّثني محمَّد بن القاسم قال : قال الأعمشُ لجليسٍ له : أما تَشتَهي بنانيَّ زُرْقَ العُيونِ نَقِيَّة البطونِ سُودَ الظُّهور وأرغفةً

حارَّةً ليِّنة وخَلاًّ حاذقاً قال : بلى قال : فانهض بنا قال الرَّجل : فنَهضْتُ مَعه ودخل منزِلَه قل : فأومَأَ إلَيّ : أنْ خُذْ تِلك السَّلَّة قال : فكشَفها فإذا برغيفين يابسين وسُكُرَّجة كامَخِ شِبِثٍ قال : فجعل يأكل قال : فقال لي تَعال كُلْ فقلت : وأينَ السمك قال : ما عندي سمك إنما قلت لك : تشتهي . ( رأيٌ حفص بن غياث في فقه أبي حنيفة ) قال : وسُئل حفْصُ بن غِياث عن فِقه أبي حنيفة قال : كانَ أجهَلَ النَّاسِ بما يكون وأعرفَهم بما لا يكون .

علة خشنام بن هند

وأما علة خُشْنَامَ بن هند فإنَّ خشنام بن هِندٍ كان شيخاً من الغاليةِ وكان ممَّن إذا أراد أنْ يسمِّيَ أبا بكر وعُمرَ قال : الجبْتُ والطَّاغوت ومُنْكر ونكير وأُفٌّ وتُفٌّ وكُسَير وعُوَير وكان لا يَزال يُدخِل دارَه حمارَ كسَّاح ويضربه مائَةَ عصاً على أنَّ أبا بكر وعمرَ في جوفه ولم أر قَطُّ أشدَّ احترافاً منه وكان مع ذلك نبيذِيّاً وصاحبَ حمَام ويُشبه في القَدِّ والخَرْط شُيوخَ الحربيَّة وكان من بني غُبَر من صميمهم وكان له بُنَيٌّ يتبعه فكان يزنِّي أمَّه عند كلِّ حقٍّ وباطل وعِنْدَ كلِّ جِدٍّ وهَزْل قلت له يوماً ونحن

عند بني رِبْعِيّ : ويْحَكَ بأيِّ شيءٍ تستحلُّ أنْ تقذِفَ أُمَّه بالزِّنَا فقال : لو كانَ عليَّ في ذلك حَرَجٌ لما قذَفْتَها : فِلمَ تزوَّجتَ امرأةً ليس في قذْفِها حرج قال : إنِّي قد احتَلتُ حِيلةً حتَّى حلَّ لي من أجلها ما كان يحرم قلت : وما تلك الحيلة قال : أنا رجلٌ حديدٌ وهذا غلامٌ عارم وقد كنت طلَّقت أمَّه فكنتُ إذا افتريتُ عليها أثمت فقلت في نفسي إن أرَغتها وخدَعتُها حتَّى أنيكَها مَرَّةً واحدةً حلّ لي بعدَ ذلك افترائي عليها بل لا يكونُ قولي حينئذٍ فِرْية وعلِمتُ أنَّ زَنْيَةً واحدةً لا تَعدِل عشرة آلافِ فِرْية فأنا اليَوْمَ أصدُقُ ولستُ أكْذِب والصَّادِقُ مأجور إني واللّهِ ما أشكُّ أَنَّ اللّهَ إذا علم أنِّي لم أزْنِ بها تلك المرَّة إلاَّ مِن خوف الإثم إذا قذفتها أنَّهُ سيجعَلُ تلك الزَّنيةَ له طاعة فقلت : أنتَ الآن على يقين أنّ زناكَ طاعةٌ للّه تعالى قال : نعم .

حجة الشيخ الإباضي في كراهية الشيعة

قال الشَّيخُ الإباضي وقد ذهب عني اسمُه وكنيتُه وهو خَتن أبي بكر بن بَرِيرة وجرى يوماً شيءٌ من ذِكرِ التشيُّع والشِّيعة فأنكر ذلك واشتدَّ غضبُه عليهم فتوهَّمْتُ أنَّ ذلك إنَّما اعتراه للإباضيّة التي فيه وقلت : وما عليَّ إن سأَلته فإنَّه يُقال : إنَّ السائل لا يعْدمُه أنْ يسمَعَ في الجواب حُجَّةً أو حِيلةً أو مُلحة فقلتُ : وما أنكَرت من التشيُّع ومن ذكر الشِّيعة قال : أنكرتُ منه مكان الشِّين التي في أوّل الكلمة لأني لم أجد الشِّين في أوَّل كلمةٍ قطُّ إلاَّ وهي مسخوطة مثل : شؤم وشرٍّ وشيطان وشغب وشحّ وشمال وشجَن وشيب وشين وشراسة وشَنَج وشَكّ وشوكة وَشَبث وشرك وشارب وشطير وشطور وشِعرة وشاني

وشتْم وشتيم وشِيطَرْج وشنعة وشَناعة وشأمة وشوصة وشتر وشجوب وشَجَّة وشطون وشاطن وشنّ وشلَل وشِيص وشاطر وشاطرة وشاحب .
قلت له : ما سمعتُ متكلِّماً قطُّ يقول هذا ولا يبلُغه ولا يقومُ لهؤلاء القَوم قائمةٌ بعد هذا .

حيلة أبي كعب القاص

قال : وتعشَّى أبو كعبٍ القاصُّ بطفشيل كثير اللّوبِيا وأكثَر مِنه وشِرب نبيذَ تمر وغَلَّس إلى بعض المساجد ليقصَّ على أهله إذ انفتل الإمامُ من الصلاة فصادف زحاماً كثيراً ومسْجِداً مَستوراً بالبَواريِّ من البَرْدِ والرِّيح والمَطر وإذا محرابٌ غائِرٌ في الحائط وإذا الإمامُ شيخٌ ضعيف فلمَّا صلّى استدْبرَ المحرابَ وجلسَ في زاويَة منه يسبِّح وقام أبو كعبٍ فَجَعل ظهْرَه إلى وجه الإمام وَوجهه إلى وُجوه القوم وطبَّق وجه المحراب بجِسمه وَفَروته وعمامته وكسائِه وَلم يكن بين فَقحته وَبين أنف الإمامِ كبيرُ شيء وَقصّ وتحرَّك بطنُه فأَرَاد أنْ يتفرَّج بفَسوةٍ وَخاف أنْ تصير ضراطاً فقال في قَصصه : قولوا جميعاً : لا إله إلاّ اللّه وارفَعوا بها أصواتكم وفَسا فَسوةً في المحراب فدارت فيه وَجَثَمت على أنف الشيخ وَاحتملها ثمَّ كدَّه بطنُه فاحتاج إلى أخرى فقال : قولوا : لا إله إلاَّ اللّه وَارفعوا بها أصواتكم فأَرسل فَسوةً أخرى فلم تُخْطِئْ أنْفَ الشيخ

واختَنقَتْ في المحراب فخمَّر الشَّيخُ أنفَه فصار لا يدري ما يصنع إنْ هو تنفَّس قتلَتْه الرائحة وإنْ هو لم يتنفَّس مات كَرْباً فما زَالَ يُدارِي ذلك وأبو كعب يقصُّ فلم يلبَثْ أبو كعبٍ أن احتاجَ إلى أخرى وكلما طالَ لُبْثُه تولَّد في بَطْنِهِ من النَّفخ على حَسَب ذلك فقال : قولوا جميعاً : لا إله إلا اللّه وارفَعوا بها أصواتكم فقال الشيخ مِنَ المحراب وأطْلَعَ رأسَه وقال : لا تقولوا لا )
تقولوا قد قَتلني إنَّما يريد أن يفسوَ ثم جذب إليه ثوبَ أبي كعبٍ وقال : جئت إلى ها هنا لتفسوَ أو تقصّ فقال : جئنا لنقص فإذا نزلت بليَّةٌ فلا بدَّ لنا ولكم من الصَّبر فضحك الناسُ واختَلَط المجلس .
جواب أبي كعب القاصّ وأبو كعبٍ هذا هو الذي كان يقصُّ في مسجد عتَّابٍ كلَّ أربعا فاحتَبسَ عليهم في بعض الأَيام وطال انتظارُهم له فبينما هُمْ كذلك إذ جاء رسوله فقال : يقول لكم أبو كعب : انصرفوا فإنِّي قد أصبحْت اليوم مخموراً

علة عبد العزيز وأمّا علة عبدِ العزيز بشكست فإنَّ عبدَ العزيز كان له مالٌ وكان إذا جاءَ وقتُ الزَّكاة وجاء القَوّادُ بغلامٍ مؤاجَر قال : يا غلام ألك أمٌّ ألك خالات فيقول الغلام : نعم فيقول : خُذْ هذه العشرة الدراهم أو خُذْ هذه الدَّنانير مِن زكاةِ مالي فادفَعْها إليهنَّ وإنْ شئتَ أن تُبْركني بعد ذلك على جهة المكارمة فافعل وإنْ شئتَ أنْ تنْصَرِف فانصرف فيقول ذلك وهو واثقٌ أنَّ الغُلامَ لا يمنَعُه بعد أخْذ الدراهم وهو يعلم أنه لن يبلغ مِن صلاحِ طباع المؤاجَرين أن يؤدُّوا الأمانات فَغَبر بذلك ثلاثين سنة وليس له زكاةٌ إلاّ عند أمَّهات المؤاجَرين وأخَوَاتهم وخالاتهم .

احتجاج كوفي للتسمية بمحمد

وحدثني محمَّد بن عبَّاد بن كاسب قال : قال لي الفضل بن مروان شيخ من طِيَاب الكوفيِّين وأغْبيائهم : إنْ وُلِدَ لك مائَةُ ذكرٍ فسمهم كلَّهم محمداً وكنِّهم بمحمد فإنّك سترى فيهم البركة أوَ تَدْري لأيِّ شيءٍ كثر مالي قلت : لا واللّه ما أدري قال : إنَّما كثر مالي لأنِّي سمَّيتُ نَفْسي فيما بيني وبَيْنَ اللّهِ محمداً وإذا كان اسمي عندَ اللّه محمداً فما أُبالي ما قال الناس

جواب أحمد بن رباح الجوهري

وشبه هذا الحديث قول المرْوَزي : قلت : لأحمد بن رياح الجوهري اشتريتَ كساءً أبيضَ طبَريّاً بِأَربعمِائَةِ درهم وهو عند الناس فيما ترى عيونهم قُومَسيّ يساوي مائَةَ درهَمٍ قال : علم اللّه أنَّه طبريٌّ فما عليَّ ممَّا قال الناس

احتجاج حارس يكنى أبا خزيمة

وكان عندنا حارسٌ يكنى أبا خُزيمة فقلت يوماً وقد خطَر على بالي : كيفَ اكتنَى هذا العِلْجُ الأَلْكَنُ بأبي خزيمة ثمّ رأيتُه فقلت له : خبِّرني عنك أكان أبوك يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فجدُّك أو عمك أو خالك قال : لا قلت : فلك ابنُ يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فكان لك مولّى يسمى خزيمة قال : لا قلت : فكان في قريتك رجلٌ صالح أو فقيهً يسمى خزيمة قال : لا قلت : فلم اكتنيت بأبي خزيمة وأنتَ عِلجٌ ألْكَن وأنتَ فقيرٌ وأنت حارس قال : هكذا اشتهيت قلت : فلأَيِ شيءٍ اشتَهيتَ هذه الكنيةَ من بينِ جميع الكنى قال : ما يُدريني

جواب الزيادي

ِّ ) وحدثني مَسْعَدةُ بن طارق قلت للزيادِيِّ ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ على باب داره في شروع نهر

الجُوبار بأردية وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه قال فقلت له بعتَ دارك وحظَّكَ مِن دارِ جدِّك زيادٍ بن أبي سفيان وتركتَ مجلِسَك في ساباط غَيث وإشرافَك على رَحبة بني هاشم ومجلسَك في الأبواب التي تلي رَحبة بني سليم وجلستَ على هذا النَّهر في مثل هذا اليوم ورضِيت بهِ جاراً قال نلتُ أطولَ آمالي في قرب هولاء البَزّازين قلت له لو كنت بقُرْبِ المقابر فقلت نزلت هذا الموضع للاتِّعاظ به والاعتبار كان ذلك وجهاً ولو كنتَ بقُرْب الحدَّادين فقلت لأتَذَكَّرَ بهذه النِّيران والكِيران نار جهنَّم كان ذلك قولاً ولو كنت اشتريت داراً بقرب العطَّارين فاعتَلَلت بطَلَبِ رائحةِ الطِّيب كان ذلك وجهاً

فأمّاً قُرْبُ البَزَّازِين فقط فهذا ما لا أعرفه أفَلَكَ فيهم دارُ غَلَّةٍ أو هلْ لك عليهم دُيُونٌ حالَّةٌ أو هلْ لك فيهم أو عِندَهم غِلمانٌ يؤدُّون الضَّريبة أو هلْ لك معَهم شِرْكة مُضارَبةٍ قال : لا قلت : فما ترجو إذاً من قربهم فلم يكن عنده إلاّ : نلت آمالي بقُرب البزَازين .
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامة بن أشْرس قال : كان رجلٌ ممرور يقوم كلَّ يوم فيأتي دالِيةً لقوم ولا يزالُ يَمْشي مع رجال الدالية على ذلك الجذع ذاهباً وجائياً في شدَّة الحرِّ والبرد حتَّى إذا أمسى نزل إليهم وتوضَّأَ وصلَّى وقال : اللّهُمَّ اجعلْ لنا مِنْ هذا فَرجاً ومَخْرجاً ثمَّ انصرف إلى بيته فكان كذلك حتّى مات .
بين أعمى وقائده وحدَّثني المكّيّ قال : كان رجلٌ يقود أعْمَى بِكراء وكان الأعمى ربَّما عَثَرَ العَثَرَةَ ونُكِب النّكبة فيقول : اللَّهمَّ أبْدِل

لي بِه قائداً خيراً منه قال : فقال القائد : اللَّهُمَّ أبْدِلْ لي بهِ أعَمى خيراً لي منه حماقة ممرور وحدثني يزيدُ مولى إسحاقَ بن عيسى قال كُنّا في منزل صاحب لنا إذْ خرج واحدٌ من جماعتنا ليَقِيلَ في البيت الآخر فلم يلبث إلاّ ساعةً حتى سمِعناه يصيح : أوْهِ أوه قال : فنهَضْنا بأجمعنا إليه فَزعين فقلنا له : ما لك وإذا هو نائم على شقِّهِ الأيسر وهو قَابضٌ على خصيته بيده فقلت له : لم صحت قال : إذا غمزت خُصْيتي اشتكيتها وإذا اشتكيتُها صحت قال : )
فقلنا له : لا تَغْمِزْها بعدُ حتى لا تشتكي قال : نعم إن شاء اللّه تعالى .
حماقة مولاة عيسى بن علي قال يزيد : وكانت لعيسى بن عليٍّ مَولاةٌ عجوزٌ خُرَاسانيةٌ تصرُخ بالليل من ضَرَبان ضرس لها فكانت قد أرَّقت الأميرَ إسحاق فقلت له : إنَّها مع ذلك لا تَدَع أكْلَ التمر قال : فبعث إليها بالغداة فقال لها : أتأكلين التَّمر بالنَّهار وتَصِيحينَ باللَّيلِ فقالت : إذا اشتهيتُ أكلت وإذا أوجَعني صِحت .


حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامةُ قال : مَررتُ في غبّ مطرٍ والأرضُ نَدِيَّة والسَّماءُ متغيِّمة والرِّيح شَمالٌ وإذا شَيخٌ أصْفَرُ كأَنَّه جَرَادَة قدْ جلسَ على قارعة الطَّريق وحَجّامٌ زِنجيٌّ يَحْجُمُهُ وقد وضع على كاهِله وأخْدَعَيْه مَحاجِم كل مِحْجَمةٍ كأنَّها قَعْب وقدْ مَصَّ دَمَهُ حتَّى كادَ أنْ يَستَفْرِغَه قال : فوقَفتُ عليه فقلت : يا شيخُ لِمَ تَحْتَجِم في هذا البرد قال لمكانِ هذا الصُّفار الذي بي .
صنيع ممرور وحدثني ثمامة قال : حدَّثَني سعيد بن مسلم قال : كُنا بخُراسانَ في منزل بعض الدَّهاقين ونحن شَبابٌ وفينا شيخ قال : فأتَانا رَبُّ المنزل بدُهن طيبٍ فدَهَنَ بعضُنا رأسَه وبعضنا لحيته وبعضُنا مَسَح

شارِبه وبعضُنا مَسَح يديه وأمَرَّهُما على وجهه وبعضُنا أخَذَ بطَرَف إصبعه فأدخَلَ في أنفه ومَسَح به شارِبَه فَعَمَد الشيخُ إلى بقيَّةِ الدُّهن فصبَّها في أذنه فقلنا له : ويحك خالفت أصحابكَ كُلَّهُم هل رأيْتَ أحداً إذا أَتَوْهُ بِدُهن طِيبٍ صبَّه في أذنه قال : فإنّه مع هذا يضرُّني أمْر عيصٍ سيّد بني تميم وحدَّثني مَسْعَدَةُ بنُ طارقٍ الذَّرَّاع قال : واللّهِ إنَّا لَوُقُوفٌ على حدودِ دار فلان للقِسمة ونحنُ في خصومةٍ إذْ أقْبَل عِيصٌ سيِّدُ بني تميمٍ وموسرهم والذي يصلِّي على جنائزهم فلمَّا رأيناهُ مقبِلاً إلينا أمسَكْنا عن الكلام فأقبل علينا فقال : حدِّثوني عن هذه الدَّار هَلْ ضمَّ منها بعضها إلى بعض أحد قال مسعدة : فأنا مُنْذُ ستين سنة

أفكِّرُ في كلامه ما أدري ما عَنَى به قال : وقال لي مرّة : ما من شر من ذين قلت : ولم ذاك قال : من جرا يتعلقون .
وحدّثني الخليلُ بنُ يحيى السَّلُوليُّ قال : نازَع التميميُّ بعضَ بني عمِّه في حائطٍ فبَعَث إلينا لنَشهد )
على شَهادتِه فأتاه جماعةٌ منهم الحميريُّ والزهريُّ والزِّياديُّ والبكراوي فلمّا صِرْنا إليه وقف بنا على الحائط وقال : أُشْهِدُكم جميعاً أنَّ نِصفَ هذا الحائط لي .
جواب ممرور قال : وقدِم ابنُ عمٍّ له إلى عمر بن حبيب وادَّعَى عليه ألفَ دِرهم فقال ابنُ عمِّه : ما أعرِفُ ممَّا قالَ قليلاً ولا كثيراً ولا له عليّ شيء قال : أصلحك اللّه تعالى فاكتُبْ بإنكاره قال : فقال عمر : ( أمنية أبي عتاب الجرَّار ) قال : وقلت لأبي عتّاب الجرَّار : ألا تَرَى عبدَ العزيزِ الغَزَّال وما يتكلم به في قَصَصه قال : وأيُّ شيء قاله قلت : قال : ليت اللّه تعالى

لم يَكُن خلقَني وأنا السَّاعة أعور قالَ أبو عتّاب : وقد قصَّرَ في القول وأساءَ في التمني ولكنِّي أقول : ليتَ اللّه تعالى لم يكُنْ خلقني وأنا الساعة أعمى مقطُوعُ اليدين والرجلين . ( تعزية طريفة لأبي عتَّاب الجرار ) ودخل أبو عتّاب على عمرو بن هدَّاب وقد كُفَّ بَصُره والناس يُعزُّونُه فمثَلَ بينَ يديه وكان كالجمل المحجُوم وله صوتٌ جهير فقال : يا أبا أسيد لا يسوءنَّك ذَهابُهما فلو رأيت ثوابَهما في مِيزانِك تمنّيتَ أنّ اللّه تعالى قد قَطَع يديك ورجليك ودَقَّ ظَهْرَك وأدْمى ضِلْعَكَ .

داود بن المعتمر وبعض النساء

وبينما داودُ بن المعْتَمر الصُّبَيريّ جالسٌ معي إذ مرت به امرأةٌ جميلة لها قَوَامٌ وحُسْن وعينان عجيبتان وعليها ثيابٌ بيض فنهَضَ دَاودُ

فلم أشُكّ أنّه قام ليَتْبَعها فبعثْتُ غلامي ليَعرف ذلك فلمّا رجع قلت له : قد علمت أنّك إنما قُمتَ لتكلِّمها فليس ينفعُكَ إلا الصِّدق ولا ينْجِيك منِّي الجُحود وإنما غايتي أنْ أعرف كيفَ ابتَدأتَ القول وأي شيءٍ قلتَ لها وعلمت أنَّه سيأتي بآبدة وكان مليّاً بالأوابد قال : ابتدأتُ القول بأنْ قلتُ لها : لولا ما رأيتُ عليكِ من سيماء الخَيْر لمْ أتبَعْك قال : فضَحِكتْ حتى استنَدَتْ إلى الحائط ثمَّ قالت : إنما يمنع مِثلَكَ مِن اتِّباعِ مِثلي والطَّمَع فيها ما يَرَى من سِيماء الخير فأمَّا إذْ قد صار سيماءُ الخير هو الدي يُطمِعُ في النساء فإنا للّهِ وإنا إليه راجعون .
وتبع داودُ بنُ المعتمر امرأة فلم يزلْ يُطريها حتى أجابت ودَلَّها على المنزل الذي يمكنها فيه ما يريد فتقدمت الفاجرة وعرض له

رجلٌ فشغَلَهُ وجاء إلى المنزل وقد قضى القَوْمُ حوائِجهُمْ وأخَذَتْ حاجتها فلم تنتظره فلما أتاهُمْ ولم يَرَها قالَ : أين هي قالوا : واللّه قد فَرَغْنا وذَهَبَت قال : فأيَّ طريقٍ أخَذَتْ قالوا : لا واللّه ما ندري قال فإنْ عَدَوْتُ في إثْرِها حتَّى أقُومَ على مجامع الطُرق أتُرَوْني ألحقها قالوا : لا واللّهِ ما تَلحقها قال : فقد فاتَتِ الآن قالوا : نعم قال : فعسى أن يكون خيراً فلم أسمَعْ قطُّ بإنسانٍ يشكُّ أنَّ السَّلامة من الذنوب خير غيره . ( قول أبي لقمان الممرور في الجزء الذي لا يتجزَّأ ) وسأل بعضُ أصحابنا أبا لُقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزَّأ : ما هو قال : الجزء الذي لا يتجزأ هو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو العيناء محمد :

أفليس في الأرض جزءٌ لا يتجزأ غيرُه قال : بلى حَمزةُ جزءٌ لا يتجزأ وجَعَفرٌ جزء لا يتجزأ قال فما تقول في العباس قال : جزء لا يتجزأ قال : فما تقول في أبي بكر وعمر قال : أبو بكر يتجزأ وعمر يتجزأ قال : فما تقول في عثمان قال : يتجزَّأ مَرَّتين والزُّبير يتجزَّأ مرَّتين قال : فأيَّ شيءٍ تقولُ في معاوية قال : لا يتجزأ ولا لا يتجزأ .
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزْءاً لا يتجزأ إلى أيِّ شيءٍ ذهب فلم نقع عليه إلاّ أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلِّمين يذكرون الجُزْءَ الذي لا يتجزَّأ هاله ذلك وكبُر في صدره وتوهَّمَ أنَّه البابُ الأكبرُ مِن عِلم الفلسفة وأن الشيءَ إذا عظُم خَطَرُه سموه بالجزء الذي لا يتجزأ .
وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديث واستجزْنا ذلك بما تقدَّم من العُذر وسنَذْكر قَبْلَ ذِكرِنا القول في الحمام جملاً من غُرَرٍ ونَوَادِرَ وأشْعَارٍ ونُتفٍ وفقَرٍ مِن قصائِدَ قصار وشوارِدَ وأبياتٍ لنُعطِيَ قارئ الكِتاب من كلِّ نوعٍ تَذْهَبُ إليه النُّفوسُ نصيباً إن شاء اللّه .

تناسب الألفاظ مع الأغراض

ولكلِّ ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللفظ ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماء : فالسَّخيفُ للسخيف والخَفِيفُ للخفيف والجَزلُ للجَزل والإفصاحُ في مَوضع الإفصاح والكِنايةُ في موضع الكناية والاسترسال في موضع الاسترسال .
وإذا كان مَوْضِعُ الحديثِ على أنَّهُ مُضْحِكٌ ومُلْهٍ وداخِلٌ في باب المزَاح والطِّيب فاستعْمَلتَ فيه الإعراب انقَلَبَ عن جِهَتِه وإنْ كان في لفظه سُخْف وأبْدَلْتَ السَّخافَة بالجَزالة صارَ الحديثُ الذي وَضِع على أنْ يُسرَّ النُّفوسَ يُكْرُ بها ويَأْخُذُ بِأَكظامها .

الوقار المتكلف

وبعض الناسِ إذا انتهى إلى ذِكرِ الحِرِ والأير والنيك ارتَدَع وأظهر التقَزُّز واستَعْمَلَ بابَ التَّوَرُّع وأكثَرُ مَنْ تجده كذلك فإنَّما هو رجلٌ ليس مَعَه من العَفافِ والكَرَم والنُّبْل والوَقار إلاَّ بقَدْرِ هذا الشَّكل من التَّصنع ولم يُكْشَفْ قطُّ صاحِبُ رياءٍ ونِفاقٍ إلاَّ عن لؤمٍ مُسْتَعْمَل ونذالةٍ متمكِّنة . ( تسمُّح بعض الأئمة في ذكر ألفاظ ) وقد كان لهم في عبدِ اللّه بن عباسٍ مَقْنَع حينَ سَمِعه بعضُ الناس يُنشد في المسجد الحرام : ( سقط : بيت الشعر ) ( وهنا ** إن تصدق الطير تنك لميسا )

فقيل له في ذلك فقال : إنَّما الرَّفَتُ ما كان عند النساء .
وقال الضَّحَّاك : لو كان ذلك القولُ رَفَثاً لكان قطْعُ لسانِه أحبُّ إليه مِن أن يَقُولَ هُجْراً قال شَبيبُ بن يزيد الشيباني لَيْلَةَ بَيَّتَ عتَّابَ بنَ ورَقاء : مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي اللّه عنه حينَ دخَلَ على بعض الأمراء فقال له : مَن في هذه البيوت فلما قيل له : عقائلُ من عقائل

العرب قال عليٌّ : مَنْ يَطُلْ أَيْرُ أَبِيهِ يَنْتَطق به .
فعَلَى عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه يعوَّل في تنزيه اللفظ وتشريف المعاني .
وقال أبو بكر رضي اللّه عنه حين قال بُدَيل بنُ ورقاء للنبيّ صلى الله عليه وسلم : جئتَنا بعجرائك وسودانك ولو قد مَسَّ هؤلاء وخْزُ السِّلاحِ لَقَدْ أسْلَمُوك فقال أبو بكر رضي اللّه عنه : عَضِضْتَ ببَظْر اللاَّت .


وقد روَوْا مرفوعاً قوله : مَنْ يُعْذِرُني من ابن أمّ سباع مُقطِّعَة البُظور . ) ( لكلِّ مقام مقال ) ولو كان ذلك الموضعُ موضعَ كناية هي المستعملة وبعد فلو لم يكن لهذه الألفاظِ مواضعُ استعملها أهلُ هذه اللُّغة وكان الرأيُ ألاَّ يُلفَظَ بها لم يَكُنْ لأوَّل كونها معنًى إلاّ على وجه الخطأ ولكان في الحزْم والصَّوْنِ لهذه اللُّغة أنْ تُرْفَعَ هذه الأسماء منها .
وقد أصاب كلَّ الصَّوابِ الذي قال : لِكُلِّ مَقَامٍ مَقال .

صورة من الوقار المتكلف

ولقد دخل علينا فتًى حَدَثْ كان قَدْ وقَعَ إلى أصحاب عبد الواحد بن زيد ونحنُ عند مُوسى بن عِمْران فدارَ الحديثُ إلى أن قال الفتى : أفطرتُ البارحةَ على رغيفٍ وزيتونة ونصف أو زيتونَة وثلث أو زيتونَة وثُلْثَي زيتونة أو ما أشبه ذلك بل أقول : أكلت زيتونَة وما علم اللّه من

أخرى فقال موسى : إنّ مِن الورع ما يُبغِصُه اللّه علمَ اللّه وأظُنُّ ورَعَكَ هذا من ذلك الورع .
وكان العُتْبي ربّما قال : فقال لي المأمون كذا وكذا حينَ صارَ التَّجْمُ على قِمَّة الرأس أو حينَ جازَنِي شيئاً أو قبل أن يوازيَ هامتي هكذا هو عندي وفي أغلَبِ ظنِّي وأكرَهُ أنْ أجزِمَ على شيءٍ وهُوَ كما قلت إن شاء اللّه تعالى وقريباً ممّا نقلت فيتوقف في الوقتِ الذي ليسَ من الحديث في شيء وذلك الحديث إن كان مَعَ طلوعِ الشمسِ لم يَزِدْه ذلك خيراً وإن كان مَعَ غرُوبها لم ينقُصه ذلك شيئاً هذا ولعلَّ الحديثَ في نفسه لم يكُنْ قَطُّ ولم يَصلْ هو في تلك الليلة البتّة وهو مع ذلك زعم أنّه دخَل على أصحابِ الكَهف فَعَرف عََدَدَهم وكانت عليهم ثيابٌ سَبَنيّة وكلبهم مُمَعّط الجلد وقد قال اللّه عزَّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً .

بعض نوادر الشعر

وسنذكرُ من نوادرِ الشِّعر جملةً فإن نشطت لحِفظِها فاحفَظها فإنَّها من أشعار المذاكرة قال الثَّقفي : ( مَنْ كَانَ ذَا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامَتهُ ** إن الذَّليلَ الَّذِي لَيْسَت لَهُ عضُد ) ( تَنْبُو يَدَاهُ إذَا مَا قلَّ نَاصرُهُ ** ويَأنف الضَّيمَ إنْ أثْرى لَهُ عَدَدُ ) وقال أبو قيس بن الأسلت :

( بزُّ امرئٍ مُسْتَبْسِلٍ حَاذرٍ ** للدَّهر جِلْدٍ غيرِ مِجْزَاعِ ) ( الكيْسُ والقُوَّةُ خيْرٌ مِنْ ال ** إشْفَاقِ والفهةِ والهَاعِ ) وقال عَبْدَهُ بنُ الطَّبيب : ( رَبٌّ حَبَانَا بأمْوَالٍ مُخَوَّلةٍ ** وكلُّ شيءٍ حَبَاهُ اللّهُ تَخويِلُ ) وكان عمرُ بنُ الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه يردِّد هذا النصف الآخِرَ ويَعجَبُ مِنْ جَودَة ما قَسم .


وقال المتلمِّس : ( وأعْلَمُ علْمَ حَقِّ غَيْرَ ظَنٍّ ** وتَقْوَى اللّهِ مِنْ خيْرِ العَتَاد ) ( لَحِفْظُ المال أيسر من بُغاهُ ** وضربٍ في البِلادِ بِغَيْرِ زَادِ ) ( وإصْلاَحُ القَليلِ يزيدُ فيه ** ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفَسادِ ) وقال آخر : ( وحِفْظكَ مَالاً قَدْ عُنيتَ بجمعهِ ** أَشَدُّ من الجمْع الذي أَنت طالبُه ) وقال حُميد بن ثَور الهِلاليّ : ( أتشْغَلُ عنَّا يَابْنَ عمِّ فلن ترى أخا ** البخل إلاَّ سوف يعتلُّ بالشغل ) وقال ابن أحمر : ( هذا الثناء وأَجْدِرْ أنْ أصاحبه ** وقد يدوِّم رِيقَ الطامِعِ الأملُ )

وقال ابن مقبل : ( هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَان فمِنهما ** أموت وأُخْرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ ) وقال عمرو بن هند : ) ( وإن الذي ينْهاكمُ عن طلابِها ** يُناغي نِساءَ الحيِّ في طُرَّةِ البُردِ ) ( يُعَلَّلُ والأيَّامُ تنقُصُ عُمْرَه ** كما تنقص النِّيران من طرف الزَّند )

وقال أُمَيَّة إن كان قالها : ( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوس مِنَ الأمْ ** رِ لهُ فَرْجَة كَحَلِّ العِقَال ) شعر في الغزل وقال آخر : ( رَمَتْنِي وَسِتْرُ اللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا ** عَشِيَّة آرَام الكِناسِ رَمِيمُ ) ألاَ رُبَّ يومٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا ولكِنَّ عَهْدِي بالنِّضَالِ قدِيمُ رَمِيمُ الَّتِي قالتْ لَجارَات بَيْتِهَا ضَمِنْت لَكُمْ أَنْ لاَ يَزَالُ يَهيمُ وقال آخر : ( لم أَعْطُهَا بِيَدِي إذْ بِتُّ أرْشُفهَا ** إلاَّ تطاوَلَ غُصْنُ الجيدِ للجِيدِ )

( كما تَطَاعَمَ في خَضْرَاءَ نَاعِمَةٍ ** مطوَّقَانِ أصَاخَا بعد تغريدِ ) فإنْ سَمِعتَ بهلُكٍ للبَخيلِ فقُلْ بُعداً وسُحْقاً له مِنْ هَالكٍ مُودِي وقال أبو الأسود الدؤلي : ( المرءُ يَسْعَى ثمَّ يُدْرِكُ مَجْدُهُ ** حَتَّى يُزَيَّنَ بالَّذِي لم يَفْعلِ ) ( وتَرَى الشقيَّ إذا تكامَلَ غَيُّه ** يُرْمى ويقْذَفُ بالَّذِي لم يعْمَلِ ) ( رئيسُ حروب لا يزال ربيئةً ** مشيحٌ على محقوقف الصُّلب مُلْبَدِ ) ( صَبور على رزء المصائب حافظٌ ** من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ ) ( وهَوَّن وجدي أنني لم أقلْ له ** كذَبتَ ولم أبخَلْ بما ملكتْ يدي )

وقال سعيدُ بن عبد الرحمن : ( وإنَّ امرأً يُمسي ويُصْبِحُ سَالِماً ** مِنَ النَّاس إلاَّ ما جنَى لَسَعِيدُ ) وقال أكثمُ بنُ صيفيّ : ( نُربَّى ويَهْلِك آباؤنَا ** وبَيْنَا نُرَبِّي بَنِينَا فَنِينَا ) وقَال بعضُ المحدَثين : ( فالآنَ أَسْمحْتُ للخطوبِ فَلاَ ** يُلْفَى فُؤادِي مِنْ حَادِثٍ يَجِبُ ) ( قَلَّبني الدَّهرُ في قوالبه ** وكُلُّ شيءٍ ليومِه سَبَبُ ) وقال آخر : ( ألاَ يا موتُ لم أَرَ مِنْكَ بُدّاً ** أَبيتَ فما تَحِيفُ ولا تُحَابي ) ( كأنَّكَ قَدْ هجمت على مَشيبي ** كما هَجَمَ المشيب عَلَى شبابي )

وقال آخر : ( يا نفس خوضي بحَارَ الْعِلْمِ أو غُوصي ** فالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَعْمومٍ ومَخْصوصِ ) ( لا شيء في هذه الدنيا يُحاط به ** إلاَّ إحَاطَةَ مَنقوص بمنقوصِ ) شعر في التشبيه وأنشدنا للأحيمر : ( بأقَبَّ منْطَلِقِ اللَّبانِ كأنَّه ** سِيدٌ تَنَصَّل من حُجور سَعالي ) وقال الآخر : ( أراقب لمحاً من سهيلٍ كأنَّه ** إذَا ما بَدَا مِنْ دُجْية اللَّيل يطرفُ ) وقالوا : قال خلفٌ الأحمر : لم أَرَ أجمَعَ مِن بيتٍ لامرئ القيس وهو قوله :

( أفادَ وجَادَ وسَاد وزَادَ ** وقاد وذاد وعادَ وأفضل ) ولا أجمعَ مِنْ قوله : ( لهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامَةٍ ** وإرخاءُ سِرْحَانِ وتَقْرِيبُ تَتْفُل ) وقالوا : ولم نر في التشبيه كقوله حينَ شبّه شيئين بشيئين في حالَتين مختلفين في بيتٍ واحدٍ وهو قوله : ( كأن قلوبَ الطَّيرِ رَطْباً ويَابساً ** لدَى وكْرهَا العُنَّابُ وَ الحَشَفُ البَالي )
قطعة من أشعار النساء وسنذكرُ قِطعة من أشعارِ النساء قالتْ أعرابيَّة : ( رَأَتْ نِضْوَ أَسْفارٍ أُميمَةُ شاحباً ** على نِضْوِ أسفارٍ فجنَّ جُنُونها ) ( فقالتْ مِن أيِّ الناس أنتَ ومَنْ تَكُنْ ** فإنَّكَ مَوْلى فِرْقَةٍ لا تَزينُها )

وقالت امرأة من خثعم : ( فإنْ تسألوني مَنْ أُحِبُّ فإنَّني ** أُحِبُّ وبَيتِ اللّه كَعْبَ بْنَ طارقِ ) ( أحبُّ الفتى الجَعْدَ السَّلولِيَّ ناضلا ** على النَّاس مُعتاداً لضَرْبِ المَفارقِ ) وقالت أخرى : ( وما أحسَنَ الدُّنيا وفي الدَّارِ خالد ** وأَقَبحَها لمَّا تَجَهزَ غادِيا ) وقالتْ أُمُّ فَروة الغطَفانيَّة : ( فما ماءُ مزْنٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ ** تَحدَّرَ مِنْ غُرٍّ طِوَالَ الذَّوَائب ) ( نَفَى نَسَمُ الرِّيحِ القَذَا عنْ متونِه ** فما إنْ بِهِ عَيبٌ يكونُ لعائبِ ) ( بأطْيبَ مِمَّن يقصُرُ الطَّرْفَ دُونَه ** تُقى اللّهِ واستحياءُ بعْضِ العَواقب )

وقال بعضُ العُشاقِ : ( وأنتِ الَّتي كلَّفتِنِي دَلَجَ السُّرَى ** وجُونُ القَطَا بالجَلْهَتَينِ جُثومُ ) ( وأنتِ الّتي أَوْرَثتِ قَلبي حَرارةً ** وقرّحتِ قَرحَ القَلب وهو كليم ) ( وأنتِ التي أسخطت قومي فكلُّهُمْ ** بَعِيدُ الرِّضَا دَانِي الصُّدُودِ كَظِيمُ ) فقالت المعشوقة : ( وأنتَ الَّذِي أخْلَفْتَني ما وَعَدْتَني ** وأشمتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ ) ( وأبرَزتَني للنَّاسِ حتَّى تركْتَني ** لَهُمْ غَرَضاً أُرْمى وأنتَ سَليمُ ) ( فلوْ أَنَّ قَوْلاً يكلِمُ الجسْمَ قد بَدَا ** بجلْدِيَ مِنْ قَوْل الوُشاة كُلومُ ) وقال آخر : ( شهدْتُ وبَيتِ اللّهِ أنَّكِ غادةٌ ** رَدَاحٌ وأَنَّ الوجهَ مِنكِ عَتيقُ ) ( وأنَّكِ لا تجزينني بموَدَّةٍ ** ولا أنا للهجْرانِ مِنكِ مُطيقُ )

فأجابته : ( شَهدْت وبيتِ اللّهِ أنَّكَ بارِدُ ال ** ثَّنَايا وأنَّ الخصْرَ مِنكَ رَقيقُ )
شعر مختار وقال آخر : ( اللّه يعلم يا مغيرة أنني ** قد دُستها دَوس الحصان الهيكل ) ( فأخذتها أخْذَ المقصِّب شاتَهُ ** عَجلانَ يَشويها لقومٍ نُزَّلِ ) وقال كعبُ بنُ سعدٍ الغَنَوي : ( وحَدَّثتماني أنَّما الموتُ بالقُرَى ** فكَيفَ وهاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ )

( وماءُ سماءٍ كانَ غيرَ مَجمَّةٍ ** ببَرّيّةٍ تجْرِي عَلَيهِ جنوب ) ( ومنزلة في دارِ صدقِ وغِبطةٍ ** وما اقْتالَ في حُكْمٍ عليَّ طَبيبُ ) وقال دُرَيد بن الصِّمَّة ( رئيسُ حُروبٍ لا يزَالُ رَبِيئَةً ** مشيح على مُحْقوقفِ الصُّلبِ مُلْبدِ ) ( صبورٌ على رُزء المصائبِ حافظٌ ** مِنَ اليَومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ ) ( وهَوَّنَ وَجدي أنني لم أقلْ لَهُ ** كَذَبْتَ ولم أبْخَلْ بما مَلَكَت يَدي ) قطع من البديع وقطعةٌ من البَديع قوله :

( يتبعْن منهن جُلالاً أتلعا ** أدمك في ماء المهاوي مُنْقَعَا ) وقال الراجزُ في البديع المحمود : ( قد كنت إذْ حبلُ صِباك مُدْمَش ** وإذْ أهاضيبُ الشبابِ تَبْغَشُ ) ومن هذا البديع المستَحْسَن منه قولُ حُجْر بن خالد بن مرثد : ( سمعتُ بِفِعْلِ الفاعلين فلم أَجدْ ** كفِعْلِ أبي قابوسَ حَزْماً ونائلا ) ( يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كلِّ بلدةٍ ** إليك فأضحى حَوْلَ بيتِك نَازِلا )

( فأصبحَ منه كلُّ وادٍ حللتَه ** وإن كان قد َخوَّى المرابيعُ سائلا ) ( فإن أنتَ تَهْلِك يَهْلِك الباعُ والنَّدَا ** وتُضْحِي قلوصُ الحمد جَرْباء حائِلا ) ( فلا ملكٌ ما يبلغَنَّك سَعْيُهُ ** ولا سُوقةٌ ما يَمْدَحَنَّك باطلا ) ( صدق الظَّنِّ وجَودة الفِراسة ) قال أوس بن حجر : ( الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظ ** نّ كأَنْ قَدْ رأى وقد سمعا ) وقال عمر بن الخطَّاب : إنك لا تَنْتَفعُ بعقل الرَّجل حتّى تعرفَ صدقَ فطنته .

وقال أوس بن حجر : ( مليحٌ نَجيحٌ أخو مَأْزِقِ ** نِقابٌ يُحدَّث بالغَائبِ ) وقال أبو الفضَّة قاتِل أحمرَ بن شميط : ( فإلاَّ يَأتِكُمْ خَبَرٌ يَقِينٌ ** فإنَّ الظَّنّ يَنْقُصُ أوْ يزيدُ ) وقيل لأبي الهذيل : إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ وأنتَ تكلِّم النظام وقمت فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال : خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد وقال كُثَيِّرٌ في عبدِ الملك : ( رَأيتُ أبا الوَليد غَدَاةَ جَمعٍ ** به شَيبٌ وما فَقَدَ الشَّبَابَا ) ( فقلتُ لَهُ ولا أعيا جَواباً : ** إذا شابتْ لِدَاتُ المَرْءِ شَابَا ) ( ولكنْ تَحتَ ذاكَ الشيبِ حزمٌ ** إذا ما قال أمْرَضَ أو أصابا ) وليس في جَودة الظَّنِّ بيتُ شعرٍ أحسن مِنْ بيتِ بلعاء بنِ قيس :

( وأبغى صواب الظن أعلم أنه ** إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره ) وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ .
وقال ابن أبي ربيعةَ في الظَّنِّ : ( ودَعاني إلى الرَّشادِ فؤادٌ ** كان للغَيِّ مَرَّةً قَدْ دَعاني ) ( وتَقَلَّبتُ في الفِراشِ ولا تَع ** لَمُ إلاَّ الظُّنُونَ أيْنَ مَكانِي )

من مختار الشعر

وقال ابنُ أبي ربيعة في غير هذا الباب : ( وخِلٍّ كنتُ عَينَ النُّصْحِ منْهُ ** إذا نَظَرَتْ ومستَمعاً مطيعا ) ( أطافَ بغيَّةٍ فَنَهيتُ عنها ** وقُلْتُ لَهُ أَرَى أمراً شَنيعَا ) ( أَرَدْتُ رَشادَه جَهْدي فلما ** أبَى وعَصى أَتَيناها جَميعَا ) وقال معَقِّر بن حمار البارقي : )

( الشِّعرُ لبُّ المرْءِ يَعْرِضه ** والقَوْلُ مِثلُ مَوَاقِعِ النَّبْلِ ) ( منها المقصِّر عَن رَمِيَّتِه ** ونَوَافذٌ يذهَبنَ بالخَصل ) ( أبياتٌ للمحدَثينَ حِسانٌ ) وأبياتٌ للمحْدَثين حِسَان قال العَتَّابيّ : ( وَكَمْ نِعمةٍ آتاكها اللّهُ جَزْلَةً ** مُبرَّأَةً مِنْ كُلِّ خُلْقٍ يَذِيمُها ) ( فَسلطتَ أَخلاقاً عليها ذمِيمةً ** تَعَاوَرنها حَتَّى تَفَرَّى أدِيمها ) ( وكنتَ امرأً لو شِئتَ أنْ تَبْلُغَ المدَى ** بَلَغت بأدنى نِعمَة تَسْتَدِيمُها ) ( ولكنْ فِطامُ النَّفْسِ أعسر محمَلاً ** مِنَ الصَّخرَةِ الصّمَّاء حِين ترُومُها )

وقال أيضاً : ( وكنتُ امرأً هَيَّابَةً تَسْتَفِزّني ** رضاعي بأدنى ضجْعَةٍ أستلينُها ) ( أُوافي أميرَ المؤمنين بِهمَّةٍ ** تَوَقَّلُ في نَيلِ المَعالي فنُونُها ) ( رَعى أُمَّةَ الإسلامِ فهو إمامُها ** وأدَّى إليها الحقَّ فهو أمينُها ) ( ويَستَنتج العقماء حتَّى كأنما ** تَغَلْغَلَ في حيثُ استَقَرَّ جنينُها ) ( وما كل مَوصوفٍ لَهُ يَهتَدِي ** ولا كل مَن أَمَّ الصُّوَى يَسْتَبِينُها ) ( مُقيمٌ بمستنِّ العُلا حيثُ تَلتَقي ** طوارفُ أبكارِ الخُطُوبِ وعُونُها ) وقال الحسن بن هانئ : ( قُولاَ لهارُون إمامِ الهدَى ** عندَ احتِفالِ المجلِسِ الحاشد ) ( نَصيحةُ الفَضْلِ وإشفاقُهُ ** أخلَى لَهُ وجهَكَ مِن حَاسد ) ( بصادِق الطاعةِ ديَّانِها ** وواحد الغائب والشاهد )

( أنتَ على ما بِكَ مِنْ قُدْرَةٍ ** ما أنتَ مِثلَ الفَضْل بالواجِدِ ) ( وليس على اللّه بمستنكر ** أنْ يَجْمَعَ العالَمَ في واحد ) وقال عَديُّ بن الرِّقاعِ العاملي : ( وقَصيدةٍ قَدْ بِتُّ أجْمعُ بَيْنَها ** حتَّى أُقَوِّمَ مَيْلهَا وسنادها ) ( نظَرَ المثقِّف في كُعُوب قَناتِه ** حتَّى يُقيمَ ثِقافُهُ مُنآدها ) ( وعَلِمْتُ حتَّى لَسْتُ أسْأَلُ عالِما ** عَنْ حَرْف وَاحدة لكيْ أزْدَادَهَا ) ( صَلَّى الإلهُ عَلَى امْرئٍ ودَّعته ** وأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَزَادَها )

شعر لبنت عدي بن الرقاع

قال : واجتمع ناسٌ من الشُّعَرَاء ببابِ عَديِّ بن الرقاعِ يُريدون مُماتَنَتَهُ ومُساجَلَتَه فخَرجَت إليهمْ بِنْتٌ له صغيرة فقالت : ( تجَمَّعْتُم منْ كُلِّ أَوْبٍ ومَنزل ** عَلى وَاحدٍ لا زلْتُمُ قِرْنَ واحد )

شعر لعبد الرحمن الأنصاري وهو صغير وقال عبدُ الرحمن بن حسّان الأنصاري وهو صغير : ( اللّه يَعْلَمُ أنِّي كُنْت مُشْتَغِلاً ** في دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبَا ) وقال لأبيه وهو صبيٌّ ورجع إليه وهو يبكي ويقول : لسعني طائر قال : فصفه لي يا بنيّ قال وكان الذي لَسعه زنبوراً .

شعر سهل بن هارون وهو صغير
وقال سَهْلُ بن هارون وهو يختلف إلى الكُتَّابِ لجارٍ لهم : ( نُبِّيت بَغْلك مبْطوناً فقلت له ** فهل تَماثَل أو نأتيه عُوَّادا ) وقال طرفة وهو صبيٌّ صغير : ( يا لَكِ مِنْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ ** خلا لكِ الجَوُّ فبِيضي واصفِرِي ) وقال بعض الشعراء : ( إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِن تَميمٍ ** فسَرَّكَ أن يَعيش فجِئْ بزادِ )

( بخبزٍ أو بِلَحْمٍ أوْ بِسَمْنٍ ** أو الشَّيءْ الملفَّفِ في البِجَادِ ) ( تراه يَطوف بالآفاق حِرْصاً ** ليأكُلَ رأسَ لُقمْان بنِ عادِ ) وقال الأصمعي : الشيء الملفَّف في البِجاد : الوَطْب .
وقال أعرابيٌّ : أَلاَ بَكَرَتْ تَلْحَى قتَيْلَةُ بَعْدَما بدا في سَوادِ الرَّأس أبيض واضحُ ( لتُدرِك بالإمْساك والمَنْع ثَرْوةً ** مِنَ المال أفنتْها السّنونَ الجَوائحُ ) ( فقلت لها : لا تعذُليني فإنما ** بذِكْر النَّدَى تَبْكِي عَلَيَّ النوائح ) وقال بَشَّارٌ أبياتاً تجوز في المذاكرة في باب المنى وفي باب الحزم وفي باب المشورة وناسٌ يجعلونها للجعجاع الأزدي وناسٌ يَجعلونها لغيره وهي قوله :

( إذا بَلَغَ الرَّأيُ المَشَورَة فاستَعِنْ ** برَأْيِ نَصيحٍ أو نَصيحةِ حازِم ) ( ولا تحْسَبِ الشّورى عَلَيْكَ غَضاضَةً ** مَكَانُ الخَوافي رافِدٌ للقَوادم ) ( وأدْنِ مِنَ القُرْبى المقرِّبَ نَفْسَه ** ولا تُشْهِدِ الشّورَى امرأً غَيْرَ كاتِم ) ( وما خيْرُ كَفٍّ أمسَك الغلُّ أُخْتَهَا ** ومَا خيْرُ نَصْلٍ لَمْ يُؤيَدْ بِقائمِ ) ( فإنّك لا تَسْتطرِدُ الهَمَّ بِالمَنى ** ولا تَبْلُغُ العَليَا بغَيْرِ المَكارِمِ ) وقال بعض الأنصار : ( وبَعْضُ خلائقِ الأقوامِ دَاءٌ ** كَداءِ الشيْخ ليسَ له شفاءُُ ) ( وبَعْضُ القَوْل ليس لَهُ عِناجٌ ** كمخْض الماء ليس لَهُ إتاءُ ) وقال تأبَط شَرّاً إنْ كان قاَلها :

( شامِسٌ في القُرِّ حتَّى إذا مَا ** ذَكَت الشِّعْرى فَبَردٌ وظِلُّ ) ( ولَهُ طَعْمَانِ : أَرْيٌ وشَري ّ ** وكِلاَ الطِّعمَين قدْ ذَاقَ كُلُّ ) ( مُسْبِلٌ في الحَيِّ أحْوَى رِفَلُّ ** وإذا يغْدو فسِمْعٌ أزَلُّ ) ( مُطرِقٌ يَرشَحُ سُمًّا كما ** أَطرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمّ صِلُّ ) ( خَبَرٌ مَا نابَنَا مُصمَئِلُّ ** جَلّ حتَى دقّ فيه الأجَلُّ )

( كُلُّ ماضٍ قَد تَرَدَّى بِماض ** كَسَنَا البَرقِ إذا ما يُسَلُّ ) ( فَاسقِنيها يا سَوَاد بنَ عَمرو ** إنَّ جِسمي بَعدَ خالي لخلُّ ) وقال سلامَة بنُ جَندَل : ( سأَجزيك بالوُدِّ الذي كان بينَنا ** أصَعْصَعُ إِنِّي سَوف أَجزِيكَ صَعْصَعا ) ( سأُهْدِي وإن كنا بتثليثَ مِدْحةً ** إليك وإن حلَّت بُيُوتك لَعلعا ) ( فإنْ يَك محموداً أبوك فإنَّنا ** وجدناك مَحمُود الخَلائقِ أروَعا ) ( فإن شئتَ أهدينَا ثناءً ومدحةً ** وإن شئت أهدينَا لَكُم مائةً معا ) فقال صعصَعة بن محمود بن بشر بن عمرو بن مرثد : الثَّناء والمدحة

أحبُ إلينا وكان أحمر بن جندل أسيراً في يده فخلَّى سبيلَه من غير فداء .
وقال أوسُ بن حَجَر في هذا الشّكل من الشّعر وهو يقع في باب الشّكر والحمد : ( لَعَمرُك مَا ملَّت ثَوَاءَ ثَويِّها ** حَليمَةُ إذْ ألْقى مراسيَ مُقعَدِ ) ( وَلَكِنْ تَلقت باليدَينِ ضَمانتي ** وَحَلَّ بفَلجٍ فالقنافذ عُوَّدي ) ( ولم تُلههَا تِلك التَّكَاليفُ إنّها ** كما شِئتَ مِنْ أُكرُومَةٍ وتَخَرُّدِ ) ( سأجزيكِ أو يَجزِيكِ عني مثَوِّبٌ ** وحَسْبُك أن يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحمَدِي )

وقال أبو يعقوب الأعور : ( فلم أجْزهِ إلاَّ الموَدَّة جاهداً ** وَحَسْبُك مِنّي أن أوَدَ وأجهدا )

من شعر الإيجاز

وأبيات تضافُ إلى الإيجاز وحَذْف الفضول قال بعضهم ووصف كِلاَباً في حالِ شَدِّها وعَدْوِها وفي سُرعةِ رفعِ قوائمها ووضعها فقال : كأنَّما تَرْفَعُ ما لَمْ يُوضَعِ ووصف آخرُ ناقة بالنشاط والقوَّة فقال : خرقَاءُ إلاَّ أنها صَنَاعِ وقال الآخر : الليلُ أخفى والنْهارُ أفضَحُ ووصف الآخر قَوْساً فقال :

وقال الآخر : ( وَمَهْمَهٍ فِيهِ السَرَابُ يَسْبَحُ ** كَأَنَما دليلُه مطوَّح ) ( يَدْأَبُ فِيهِ القَوْمُ حتّى يَطْلَحُوا ** كأنَّما بَاتُوا بِحَيْثُ أصْبَحُوا ) ومثل هذا البيت الأخير قوله : ( وكأنَّما بَدْرٌ وَصِيلُ كُتيفة ** وكأنّما مِنْ عاقِلٍ أرْمَامُ ) ومثله : ( تجاوَزْتُ حُمْرَانَ في ليلةٍ ** وقُلتُ قُسَاسٍ من الحَرْمَلِ ) ومن الباب الأوّلِ قوله : ( عادَني الهمُّ فاعتلجْ ** كُلُّ هَمٍ ّ إلى فَرَجْ ) وهذا الشِّعر لجُعَيفران الموَسْوَس .
وقال الآخَر :

( لم أقْضِ من صحْبةِ زَيدٍ أرَبي ** فتًى إذا نبّهْتَه لم يَغْضَبِ ) ( أبيضُ بَسّامٌ وإن لم يعجب ** ولا يضن بالمتاعِ المحقَب ) ( مُوَكَّلُ النَّفس بِحِفْظِ الغُيّب ** أقصى رفِيقيه له كالأقْرَب ) ( وقدْ تعَلّلتُ ذَمِيلَ العَنْس ** بالسّوْط في دَيْمومةٍ كالتّرْس ) إذْ عَرَّج اللّيلَ بروجَ الشَّمسِ وقال دُكَينٌ أيضاً : بمَوطنٍ يُنْبِطُ فيه المحتسي بالمشْرَفِيّات نِطافَ الأنْفُسِ

وقال الراجز : ( طاَلَ عليهنَّ تكاليف السّرَى ** والنّصُّ في حِينِ الهَجِيرِ والضّحى ) ( حَتَى عُجاهُنَّ فما تحت العُجى ** رَوَاعِفٌ يَخْضِبْنَ مُبْيَضَّ الحَصى ) في هذه الأرجوزة يقول : وضَحِكَ المزن بها ثمَّ بكى ومن الإيجاز المحذوف قولُ الراجز ووصف سَهمه حينَ رَمى عَيراً كيف نَفَذَ سهمه وكيفَ صرَعه وهو قوله : حتَى نجَا مِنْ جوفه وما نجا ( شعر في الاتِعاظ والزهد ) ( أنت وهَبْتَ الفِتيَةَ السَلاهِبْ ** وهَجْمةً يَحارُ فيها الطَالِبْ )

( وغنَما مِثلَ الجَرَادِ السّارِبْ ** متاعَ أيَامٍ وكُلٌّ ذَاهِبْ ) ومثله قولُ المسعوديّ : ( أخلِفْ وأنْطفْ كلُّ شي ** ءٍ زعزعتْه الريحُ ذاهبْ ) وقال القُدار وكان سيّد عَنَزة في الجاهلية : ( أهلَكْت مُهْرِيَ في الرِّهان لجَاجةً ** ومن اللّجَاجة ما يَضُرُّ وَيَنفَعُ ) قال : وسمعت عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ينشد وكان فصيحاً : ( إذا أنت لم تنفع فضرَّ فإنَما ** يُرَجَى الفتى كيما يضرَّ وينفعا ) وقال الأخطل : ( شُمْسُ العَداوةِ حتَّى يُستفادُ لهم ** وأعظمُ النّاس أحلاماً إذا قدروا )


وقال حارثة بن بدر : ( طربتُ بفاثور وما كدت أطربُ ** سَفاهاً وقَدْ جَرَّبْتُ فيمَن يجرِّب ) ( وجرّبتُ ماذا العَيْشُ إلاَّ تِعلّةٌ ** وما الدَّهر إلاّ مَنْجَنَونُ يقلّب ) ( وما اليومُ إلاَّ مِثلُ أمْس الذي مضى ** ومثلُ غدِ الجائي وكلٌّ سيَذْهب ) ( إذا الهمُّ أمسَى وَهو داءٌ فأَلْقِه ** ولَسْتَ بمُمْضِيهِ وأنتَ تعادِله ) ( فلا تُنْزِلَنْ أمْرَ الشدِيدِة بامرئٍ ** إذا رامَ أمراً عَوَّقَتْهُ عَواذِله ) ( وَقُل للفؤِاد إن نَزا بِك نزوَةً ** مِنَ الرَّوع أفْرخْ أكثَرُ الرَّوع باطِلُه ) ( شعر في الغَزْوِ ) وقال الحارثُ بن يزيد وهو جدُّ الأحَيمِر السَّعديِّ وهو يقع في باب الغزْو وتمدُّحهم ببعد المغْزى : ( لا لا أعُقُّ ولا أحو ** ب ولا أُغير عَلَى مُضرْ ) ( لَكنَّما غزوي إذا ** ضَجَّ المَطيُّ منَ الدَّبَرْ ) وقال ابن محفّض المازنيُّ :

( إن تَك دِرْعي يَوْمَ صَحرَاءِ كُليةٍ ** أُصِيبت فما ذَاكُمْ عَلَيَّ بِعارِ ) ( ألم تك منْ أسْلابكمْ قبل ذاكمُ ** عَلَى وَقَبَى يومًا ويَوْمَ سَفارِ ) ( فتلك سرابيل ابن داودَ بيننا ** عواريُّ والأيام وغير قصارِ ) ( ونحن طرَدنا الحيَّ بَكْرَ بنَ وائلٍ ** إلى سَنَةٍ مثلِ الشِّهاب وَنَارِ ) ( ومُومٍ وطاعون وحُمّى وحًصْبةٍ ** وذي لِبَدٍ يَغشى المهَجْهِجَ ضاري )

وقال آخر : ( خُذُوا العَقْلََ إن أعطاكُم القَوْم عَقْلَكُمْ ** وكونوا كَمَنْ سِيمَ الهَوَانَ فأَرتعا ) ( ولا تُكثروا فيها الضِجاجَ فإنَه ** محَا السّيف ما قالَ ابنُ دَارةَ أجْمَعا ) وقال أبو ليلى : ( كأَن قطاتها كُردُوسُ فَحل ** مقلّصة على ساقَيْ ظليمِ )

شعر في السيادة

وقال أبو سلمى : ( لابدَّ للسُّودد من أرماحِ ** ومِنْ سفِيهٍ دائمِ النُّباحِ )


ومنْ عَديدٍ يُتَّقى بالرّاحِ وقال الهذلي : ( وإنَّ سيادة الأقوام فاعْلَمْ ** لها صعْداءُ مَطلبها طويل ) وقال حارثة بن بدر وأنشده سفيان بنُ عُيينة : ( خلَت الدِّيارُ فَسُدْتُ غيْرَ مُسَوَّد ** ومِنَ الشَّقاء تفرّدي بالسُّوددِ ) وقال أبو نخيلة : ( وإنَّ بقَوْمٍ سَوَّدوك لَفَاقَةً ** إلى سَيِّدٍ لوْ يظفَرُون بسيِّدِ ) وقال إياس بن قتادة في الأحنف بن قيس : ( وإنَّ مِنَ السّادات مَن لو أطعْتَه ** دَعَاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرها ) وقال حُميضة بن حذيفة : ( أيظلمهم قسراً فتبّاً لسَعيهِ ** وكل مطاعٍ لا أبالكَ يَظلِمُ )

وقال آخر : ( فأصبحتَ بعد الحلم في الحيِّ ظالما ** تخَمَّطُ فيهم والمسوَّدُ يَظْلِمُ ) وكان أنس بن مدركة الخثعمي يقول : ( عزمت على إقامةِ ذي صباحٍ ** لأمرِ ما يسوَّدُ مَنْ يسودُ ) وقال الآخر : ( كما قال الحمار لسهم رامٍ ** لقد جَمَّعْتَ من شيء لأمر ) وقال أبو حيّة : ( إذا قُلْنَ كلاَّ قال والنَّقْع ساطعٌ ** بلى وهو واهٍ بالجراءِ أباجِلُه ) ( إني رأيت أبا العوراء مرتفقاً ** بشطّ دجلة يشري التمر والسمكا ) ( كشدَّة الخيل تبقى عند مذودها ** والموت أعلم إذ قفَّى بمن تركا ) ( هذه مساعيك في آثار سادتنا ** ومن تكن أنت ساعيه فقد هلكا )

وقال شتيم بن خويلد أحد بني غراب بن فزارة : ( وقلت لسيِّدِنا يا حليمُ ** إنَّك لَمْ تأْسُ أَسْواً رَفِيقَا ) ( أعَنتَ عديّاً على شَأوها ** تُعادي فَريقاً وتُبقي فريقَا ) ( زَحرتَ بها ليلةً كلَّها ** فجئتَ بها مؤْيِداً خَنْفَقِيقَا ) وقال ابن ميادة : ( أتيتُ ابن قشراءِ العِجانِ فلم أجدْ ** لدى بَابهِ إذناً يسيراً ولا نُزْلا ) ( وإنَّ الَّذي ولاّك أمْر جماعةٍ ** لأنقَصُ من يَمْشي على قَدَم عَقلا )

شعر في المجد والسيادة

وقال آخر : ( ورِثنَا المجْد عن آباءِ صِدقٍ ** أسأْنَا في ديارِهِمُ الصَّنيعا )

( سقط : بيت الشعر ) ( إذا المجد الرفيع تعاورته ** بناة السوء أوشك أن يضيعا ) وقال الآخر : ( إذا المرءُ أثْرَى ثمَّ قال لقومِه ** أنَا السَّيِّدُ المُفْضَى إليه المعمَّمُ ) ( ولم يعْطِهمْ خيراً أبَوْا أنْ يَسُودَهُم ** وهانَ عليهمْ رَغْمُهُ وهو أظْلم ) وقال الآخر : ( تركتُ لبحرٍ دِرهَميه ولمَ يَكُنْ ** ليَدفَع عَنّي خَلَّتي دِرْهمَا بحرِ ) ( فقلتُ لبحرٍ خذْهُما واصطَرِفهُما ** وأَنفقْهما في غيرِ حمدٍ ولا أجرِ ) ( أتمنَعُ سُؤال العشيرةِ بعدَ مَا ** تسمَّيتَ بحراً وأكنيت أبا الغَمر ) وقال الهذليُّ : ( وكنت إذا ما الدّهرُ أحدَث نَكبة ** أقولُ شَوًى ما لَم يُصِبنَ صمِيمي ) وقال آخر في غير هذا الباب : ( سقى اللّه أرضاً يَعْلَمُ الضَّبُّ أَنَّها ** بعيدٌ من الأدواء طَيِبَةُ البَقْلِ ) ( بنى بيته في رأس نَشْزٍ وكُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرفَةِ العَيْش ذُو عَقْل )

أبو الحارث جمين والبرذون

وحدّثني المكيُّ قال : نظر أبو الحارث جُمَّين إلى برذون يُستقى عليه ماءٌ فقال : المرء حيث يضع نفسه هذا لو قد همجلج لم يبتل بما ترى ( بين العقل والحَظ ) وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي : ( وما لُبُّ اللَّبيب بغير حظٍّ ** بأغنى في المعيشةِ من فَتيل ) ( رأَيت الحَظَّ يستُر كلَّ عَيْب ** وَهَيْهَاتَ الحُظوظ من العقول )

( هجو الخَلْف ) وقال الآخر : ( ذهبَ الَّذين أُحبُّهم سلَفاً ** وبَقِيت كالمقْهور في خَلْفِ ) ( من كلِّ مَطوِيٍّ على حَنَقٍ ** مُتَضَجِّع يُكْفَى ولا يَكفِي ) ( عبد العَين ) وقال آخر : ( ومَوْلى كَعَبْدِ العَيْن أمَّا لِقاؤه ** فيُرضى وأمّا غَيبُه فظَنُونُ ) ويقال للمرائي ولمن إذا رأى صاحبَه تحرّك له وأرَاه الخدْمة والسرعة في طاعته فإذا غابَ عنه وعن عينه خالف ذلك : إنَّما هو عَبْدُ عَين .


وقال اللّهُ عزَّ وجلّ : وَمِنْ أهْلِ الكِتَابِ مَن إنْ تَأمَنْه بِقِنطارٍ يُؤَدِّه إلَيْكَ وَمنْهُم مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّه إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائماً .

من إيجاز القرآن

وقد ذكرنا أبياتاً تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّة الفُضول ولي كتابٌ جَمَعْتُ فيه آياً من القرآن لتَعرِفَ بها فصل ما بينَ الإيجاز والحَذْف وبين الزّوائد والفُضول والاستعارات فإذا قرأْتها رأيت فضلها في الإيجاز والجَمْعِ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظ القليلة على الَّذي كتبتُهُ لك في بابِ الإيجازِ وترك الفضول فمنها قوله حينَ وصفَ خمرَ أهلِ الجنّة : لاَ يُصَدَّعُون عَنْها وَلاَ يُنْزِفون وهاتان الكلمتان قد جَمَعتا جميعَ عُيوبِ خمرِ أهلِ الدُّنيا .
وقولُه عزّ وجل حينَ ذكر فاكهة أّهلِ الجنّة فقال : لاَ مَقْطُوعةٍ وَلاَ مَمْنُوعةٍ . جمع بهاتين الكلمتين جميعَ تلك المعاني .
وهذا كثيرٌ قد دَللتك عليه فإنْ أردته فموضعه مشهور .
وقال أعرابي من بني أسد : ( يقُولون ثَمِّر ما استَطَعت وإنما ** لِوَارِثِه ما ثَمَّرَ المَالَ كاسبُه ) ( فكلْهُ وأطعمْهُ وَخالِسهُ وَارِثاً ** شحيحاً ودهراً تَعْتَريكَ نوائبُهْ )

شعر في الهجاء

)


وقال رجلٌ من بني عَبْس : ( أبلغ قُراداً لقد حَكَّمتُمُ رجلاً ** لا يَعرِفُ النَّصْفَ بل قد جاوَزَ النَّصَفا ) ( كان امرأً ثائراً والحقُّ يَغْلِبُه ** فجانَبَ السَّهْلَ سَهْلَ الحقِّ واعتسفا ) ( وذاكمُ أنَّ ذُلَّ الجار حالَفَكُم ** وأنّ أنفَكُمُ لا يعرِفُ الأنَفا ) ( إنَّ المحكَّمَ ما لَمْ يَرْتَقِبْ حَسَباً ** أوْ يَرْهَبِ السَّيف أو حدَّ القَنا جنَفَا ) ( مَن لاذ بالسَّيفِ لاقى قَرضَه عجبا ** موتاً على عَجَلٍ أو عاش مُنْتَصِفَا ) ( بِيعُوا الحياة بها إذ سام طالبُها ** إمَّا رَواحاً وإما مِتَةً أنَفا )

( ليس امرؤٌ خالداً والموتُ يطلبُه ** هاتيك أجْسادُ عادٍ أصبحتْ جِيفَا ) ( أبِلغْ لَديك أبا كعب مغَلْغَلة ** أنَّ الذي بيننا قد مات أو دنِفا ) ( إنِّي لأعلَمُ ظَهْرَ الضِّغن أعْدِله ** عَنِّي وَأعْلَمُ أَنِّي آكُلُ الكتفا )

شعرحكمى

ّ ) وقال أسقفُّ نجْران : منَعَ البقَاءَ تصرُّفُ الشمسِ وطُلوعُها منْ حيْثُ لا تُمسي وطُلوعُها بَيضاءَ صافِيَةً وغروبُها صَفْراءَ كالوَرْس اليوم أَعلم ما يجيءُ بِهِ ومضى بفَصْل قضائه أَمْس

وقال عبيدُ بن الأبرص : ( وكُلُّ ذي غَيْبةٍ يَؤوبُ ** وغائِبُ الموْتِ لا يَؤوبُ ) ( مَنْ يَسْألِ النَّاسَ يَحْرِمُوه ** وسائلُ اللّهِ لا يَخيبُ ) ( وعاقرٌ مثلُ ذاتِ رحْمٍ ** وغانمٌ مثْلُ مَنْ يَخِيبُ ) ( أَفْلحْ بما شئْتَ فقَدْ يُبْلَغُ بالضَّ ** عْف وقَدْ يُخدَعُ الأريبُ ) ( المرءُ مَا عاش في تَكْذيبِ ** طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعذِيبُ ) وقال آخر : ( وَجَعلَتْ أوْصابُها تعتادُها ** فَهْيَ زُروعٌ قد دنا حَصَادها )

مرثية في محمد المخلوع

وقال بنت عيسى بن جعفر وكان مُمْلَكَةً لمحمدٍ المخلوع حينَ قتل : )

( أبْكيِك لا للنَّعيم والأنس ** بَلْ للِمعَالي والرُّمحِ والفَرَسِ ) ( أبكي على فارسٍ فُجعْتُ به ** أرْملَني قَبْلَ لَيْلةِ العرسُ )

من نعت النساء

وقال سَلْمٌ الخاسر : ( تبدَّتْ فقلتُ الشَّمسُ عِنْدَ طلُوعِها ** بجيدٍ نقيِّ الّلونِ من أَثر الوَرْس ) ( فلما كَرَرْت الطّرفَ قلت لصَاحِبي ** على مِريْةٍ : ما هاهُنا مطلع الشمس )

شعر رثاء

وقال الآخر : ( كفى حَزَناً بدَفنِكَ ثُمَّ أَنِّي ** نَفَضْتُ تُرابَ قبَرِك عَنْ يَدَيَّا ) ( وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ ** وأنتَ اليوْم أوعظُ منْك حَيّا ) قال مزاحمٌ العقيليّ : ( يزين سنا الماويِّ كلَّ عشيّةٍ ** على غَفَلاَت الزَّينِ والمتجَمَّلِ ) ( وجوهٌ لوَ انَّ المدْلجِينَ اعتشوْا بها ** صَدَعْنَ الدُّجى حتَّى ترى اللَّيْل ينْجَلي ) وقال الشَّمَردَل : ( إذا جَرى المسْكُ يَنْدى في مفارِقِهِمْ ** راحُوا كأنهمُ مَرْضى من الكَرَم )

( يشبَّهونَ ملوكاً من تجلّتهم ** وطولِ أنضية الأعناق والأُمم ) النضيُّ : السَّهم الذي لم يُرَش يعني أن أعناقهم مُلسٌ مستوية والأمم : القامات .
وقال القتَّال الكلابيّ : ( يا لَيتَني والمُنى لَيست بنافعةٍ ** لمالكٍ أو لحِصْنٍ أو لسَيَّارِ ) ( طوال أنضيَة الأعناق لم يجدوا ** ريحَ الإماء إذا راحت بأزفار ) ( لم يرْضَعوا الدَّهر إلا ثدَْيَ واضِحةٍ ** لواضِحِ الوَجْهِ يَحمِي باحَةَ الدَّارِ ) وقال آخر : ( إذا كان عَقْلٌ قلتُمُ إنَّ عَقْلَنَا ** إلى الشَّاء لم تْحلُلْ عَلينا الأباعِرُ ) ( وإنَّ امرأً بعدِي يُبادل وُدَّكُمْ ** بُودِّ بني ذبيان مولى لخاسِرُ )

( سقط : بيت الشعر ) ( أولئك قوم لا يهان هديهم ** إذا صرحت كحل وهبت أعاصر ) ( مَذاليق بالخَيل العِتاق إذا عَدَوا ** بأيديهمُ خطِّيَّة وبَواتِرُ )
وقال أبو الطَّمَحَان القَينيّ في المعنى الذي ذكرنا : ( كم فيهمُ مِنْ سَيِّدٍ وابنِ سَيِّد ** وَفيٍّ بعَقْدِ الجَارِ حِينَ يُفارقُه ) ( يكاد الغَمام الغُرُّ يُرْعِدُ أنْ رَأى ** وُجُوهَ بَني لأمٍ ويَنْهَلُّ بارقُه ) وقال لَقِيطُ بن زرارة : ( وإنِّي مِنَ القَوْْمِ الذين عَرَفْتمُ ** إذا مات منْهُمْ سَيِّدٌ قامَ صاحبُه ) ( نجومُ سماءٍ كُلما غار كوْكَبٌ ** بَدَا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكبُه ) ( أضاءَتْ لهمْ أحسابهُمْ ووُجُوههُم ** دُجَى اللّيلِ حتَّى نَظَّمَ الجزعَ ثاقِبه ) وقال بعض التميميِّين يمدَح عوفَ بنَ القَعْقاع بنِ مَعْبَدِ بن زرارة : ( بحقِّ امرئ سرو عتيبة خاله ** وأنت لَقعقاعٌ وعمُّك حاجبُ ) ( دراري نجوم كلما انقض َّ كوكبٌ ** بدا كوكب ترفضُّ عنه الكواكبُ )

وقال طفَيلٌ الغَنَويُّ : ( وكانَ هُريمٌ مِن سِنانٍ خَلِيفةً ** وعمرو ومن أسماءَ لَّما تَغَيّبُوا ) ( نجومُ ظلام كلما غاب كوكبٌ ** بَدَا ساطِعاً في حِنْدِس اللّى لِ كوْكب ) ( بقيَّة أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبتْ ** لَظلَّت مَعَدُّ في الدُّجى تَتكَسَّعُ ) ( إذا قمرٌ منهم تَغَوَّرَ أو خَبا ** بدَا قَمرٌ في جانب الليل يَلْمَعُ ) وقال بعضُ غنِيٍّ وهو يمدح جمَاعة إخوة أنشدنيها أبو قطَن الذي يقال له شهيد الكَرَم : ( حَبِّر ثَناءَ بني عمرٍ و فإنَّهمُ ** أُولو فُضولٍ وأنْفالٍ وأخطارِ ) إنْ يُسْأَلوا الخَيْرَ يُعطوهُ وَإنْ جُهِدُوا فالجهْدُ يُخْرج منْهُمْ طِيبَ أخبار

وإنْ تَودَّدْتَهم لانُوا وإن شُهِموا كشفْتَ أذمَار حربٍ غَيرَ أغمارِ مَن تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقَيتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلُ النُّجوم التي يسري بها السَّاري وقال رجلٌ ْ من بني نهشل : ( إنِّي لمِنْ مَعْشر أفْنَى أوائلَهُمْ ** قيلُ الكُماةِ ألا أَينَ المحامُونا ) ( لو كانَ في الألف منَّا واحدٌ فدَعَوْا ** مَنْ فارسٌ خالَهُمْ إيّاهُ يَعنُونا ) ( وليسَ يَذْهَبُ مِنّا سَيِّدٌ أبَداً ** إلاَّ افتلَيْنا غُلاماً سَيِّداً فِينا ) وفي المعنى الأوّل يقول النّابغة الذُّبيانيّ : ) ( وذاكَ لأنَّ اللّهَ أعطاك سُورَةً ** ترَى كُلَّ مُلْكِ دُونها يَتَذَبْذَبُ ) ( بأنَّك شمسٌ والملوك كواكب ** إذا طَلَعتَ لم يَبْدُ منهنّ كَوكَبُ ) ( وأتيتُ حَيّاً في الحروب محلُّهم ** والجيشُ باسم أبيهمُ يُستَهزَمُ ) وفي ذلك يقول الفرزدق : ( لتَبْك وكيعاً خيلُ ليلٍ مُغيرةٌ ** تَساَقى السِّمامَ بالرُّدَيْنِيَّة السُّمْرِ )

( لقوا مثلَهم فاستهزَموهمْ بدعوةٍ ** دعَوْها وكيعاً والرِّماحُ بهم تجري ) وأما قول الشاعر : تخامل المحتد أو هزام فإنَّما ذَهبَ إلى أنَّ الدَّعوة إذا قام بها خامل الذِّكر والنسب فلا يحسُده من أكفائه أحدٌ وأما إذا قام بها مذكورٌ بيُمن النَّقيبة وبالظَّفَر المتتابع فذلك أجود ما يكون وأقرَبُ إلى تمام الأمر .
وقال الفرزدق : ( تَصرَّم منّي وُدّ بكرِ بنِ وَائلٍ ** وما كان وُدِّي عَنْهُمُ يتصرَّمُ ) ( قوارصُ تأتِيني ويحتقرونها ** وقَدْ يَملأ القَطْرُ الأناءَ فَيُفْعَمُ ) وقال الفرزدق : ( وقالتْ أُراه واحداً لا أخَا لَهُ ** يؤمِّله في الوَارِثينَ الأباعدُ )

( لعلَّكِ يوماً أن ترَيْني كأنَّما ** بَنيَّ حَوَاليَّ الأسُودُ الحوارِدُ ) وقال الفرزدق أيضاً : ( فإنْ كان سيفٌ خان أو قَدَرٌ أتى ** لميقاتِ يومٍ حَتْفُه غير شاهد ) ( فسَيْفُ بني عَبْسٍ وقد ضَرَبُوا بِهِ ** نبا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ ) ( كذاك سُيوفُ الهِنْدِ تنْبُو ظُباتُها ** ويقْطَعْن أحياناً مَنَاطَ القَلائدِ )

خير قصار القصائد وإنْ أحببتَ أن تروِي مِن قِصار القصائدِ شِعراً لم يُسمَع بمثله فالتَمِسْ ذلك في قصار قصائدِ الفَرَزدق فإنك لم تَرَ شاعراً قطُّ يجمَعُ التَّجويدَ في القِصار والطِّوال غَيْرَ .
وقد قيل للكُميت : إنْ النَّاسَ يزْعمون أنّك لا تقدِر على القصار قال : مَنْ قال الطِّوال فهو على القِصار أقدر . )
هذا الكلام يَخْرج في ظاهر الرَّأي والظَّن ولم نجدْ ذلك عند التَّحصيل على ما قال .

جواب عقيل بن علفه وجرير
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة : لم لا تُطيل الهجاء قال : يَكفيِك مِنَ القِلادة مَا أحَاط بالعُنق .
وقيل لجرير : إلى كَمْ تهجُو النَّاس قال : إنِّي لا أبتدي ولكنِّي أعتدي .
وقيل له : لم لا تقصِّر قال : إن الجماحَ يمنع الأذى .
قال عبيد بن الأبرص : ( نبِّئتُ أنَّ بَني جَدِيلةَ أوْعَبُوا ** نُفَراءَ من سَلْمى لنا وتَكَتَّبُوا )

( ولقد جَرى لهمُ فلم يتعيَّفوا ** تيسٌ قَعيدٌ كالهِرَاوةِ أعضَبُ ) ( وأبو الفِراخ على خشاش هشيمةٍ ** متنكِّبٌ إبط الشَّمائل ينْعَبُ ) ( فتجاوزوا ذَاكُمْ إلينا كلَّه ** عَدْواً وَقرْطبةً فلما قرَّبوا ) ( طُعِنوا بمُرَّان الوَشيجِ فما تَرى ** خلفَ الأسِنّةِ غَيْرَ عِرْقِ يشْخَبُ ) ( وتَبَدَّلوا اليَعْبوبَ بَعدَ إلههِمْ ** صَنَماً ففِرُّوا يا جَدِيلَ وأعذِبوا )

وقال آخر : ( ألم تَرَ حَسّان بنَ مَيسرة الذي ** بِجُوْخَى إلى جيرانِه كيفَ يَصنَعُ ) ( مَتَارِيبُ ما تنفكُّ منهم عِصابة ** إليه سِراعاً يحصُدُون ويزْرَعُ )

شعر في قوله يريد أن يعربه فيعجمه

وبابٌ آخر مثلُ قوله : يريد أن يُعرِبَه فيُعجمَهُ كأنَّ مَنْ يحفَظها يُضيِعها

وقال آخر : أهوجُ لا يَنفَعُهُ التثَّقيفُ وقال بعض المحدَثين في هذا المعنى : ( إذا حَاوَلوا أن يَشْعَبُوها رَأيتَها ** مَعَ الشَّعْب لا تزْدَادُ إلا تَدَاعِيَا ) وقال صَالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوس : ( والشيخُ لا يَتْرُكَ أخلاقَهُ ** حَتَّى يُوارَى في ثَرَى رَمْسِهِ ) ( إذا ارْعَوَى عادَ إلى جَهلِهِ ** كَذِي الضَّنا عادَ إلى نُكْسِه ) ومثل هذا قوله : ( وتَروضُ عِرْسكَ بَعْدَ ما هَرِمتْ ** وَمِنَ العَناءِ رِياضةُ الهرِمِ ) وقال حُسيل بن عُرْفُطة : ( لِيَهْنيكَ بُغْضٌ في الصَّدِيق وَظِنة ** وتحديثُك الشَّيء الذي أنت كاذِبُهْ ) ( وأنكَ مَشْنوءٌ إلى كلِّ صاحبٍ ** قَلاك ومثلُ الشَّرِّ يُكْرَهُ جانبُهْ )

( وأنَّك مِهْداءُ الخَنا نَطِفُ النثَا ** شَدِيدُ السِّبَاب رافع الصوتِ غالبُهْ )
كلمة للزِّبرقان وقال الأصمعي : قال الزِّبرقَان بنُ بدر : خَصْلَتان كبيرتان فِي امرئ السَّوء : شِدَّة السِّباب وكثرة اللِّطام .
تمجيد الأقارب وقال خالد بن نَضْلة : ( لَعَمْري لَرَهْطُ المَرءِ خَيْرٌ بَقِيةً ** عليَه ولو عالَوْا به كلَّ مَركبِ ) ( منَ الجانِبِ الأقصَى وإنْ كان ذا نَدى ** كثيرٍ ولا يُنْبِيك مثلُ المجرِّبِ ) ( إذا كنْتَ في قومٍ عِداً لستَ مِنْهُمُ ** فكلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبيثٍ وَطَيِّبِ ) ( فإنْ تَلتَبِسْ بي خَيلُ دُودَان لا أَرِمْ ** وإن كنتُ ذا ذَنْب وإن غَيْرَ مُذْنِبِ )

4 ( بكل وادٍ بنو سعد ) قال : ولمَّا تأذَّى الأضبط بنُ قريع في بني سعد تحوَّلَ عنهمْ إلى آخَرينَ فآذَوه فقال : بكلِِّ وادٍ بنو سعد .
مقطَّعات شتَّى ( ألا ليسَ زَينَ الرَّحلِ قِطْعٌ وَنُمْرُق ** ولكنَّ زَينَ الرَّحْلِ يا ميَّ راكبُه ) وقال أعرابيٌّ : ( فما وجْدُ مِلواحٍ مِنَ الهيمِ خلِّئتْ ** عن الماء حتَّى جَوْفها يَتَصَلْصَلُ ) ( تحومُ وتَغْشَاها العِصيُّ وحَوْلها ** أقاَطيعُ أنعامٍ تُعَلُّ وتُنْهَلُ ) ( بأكثرَ مِنِّي غُلَّةً وتعطُّفاً ** إلى الورد إلاَّ أنَني أتَجَمّلُ )

وقال خالدُ بن عَلْقَمَةَ ابنُ الطَّيفان في عيب أخْذِ العَقْل والرِّضا بشيءٍ دونَ الدَّم فقال : ( وإنَّ الَّذي أصبحْتُمُ تَحلُبُونَه ** دَمٌ غَيْرَ أنّ اللَّونَ لَيسَ بأحْمَرَا ) ( فلا تُوعِدُوا أولادَ حَيَّانَ بَعْدَما ** رَضِيتُمْ وزوّجتم سَيَالة مِسْهَرَا ) ( وأعجَبَ قِردٍ يقصم القمل حَالقاً ** إذا عبّ في البَقِيةِ بَرْبَرَا ) ( إذا سكَبُوا في القَعبِ من ذي إنائهم ** رأوا لَونَه في القَعبِ وَرداً وأشقرا )

الغضب والجنون

في المواضع التي يكون فيها محمودا

ً ) قال الأشهبُ بن رُمَيلة :

( هرّ المَقادَة من لا يستقيِد ُلها ** واعصَوْصَب السَّيرُ وارتدّ المساكينُ ) ( مِنْ كلِّ أشعثَ قدْ مالَتْ عِمامَتهُ ** كأنَّهُ مِنْ ضِرارِ الضَّيم مجْنُون ) وقال في شبيهِ ذلك أبو الغول الطُّهَويُّ : فَدَتْ نفسي وما مَلَكَتْ يَميني مَعاشِرَ صُدِّقتْ فيهم ظُنُوني مَعاشِرَ لا يملُّون المنايا إذا دَارتْ رَحَى الحربِ الطَّحون ولا يجزُون مِن خير بشر ولا يَجْزُون من غِلَظٍ بِلِينِ ولا تَبلى بَسَالتُهُمْ وإنْ هُمْ صَلُوا بالحَرْبِ حيناً بعدَ حين

هُمُ أحمَواْ حِمَى الوَقَبَى بضَرْبٍ يُؤَلِّف بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ فنَكَّبَ عنهمُ دَرْءَ الأعادِي وَدَاوَوْا بالجُنُونِ من الجنونِ وقال ابن الطَّثريَّة : ( أو لاختطبتُ فإني قد هممت به ** بالسّيف إن خطيب السَّيفِ مَجْنُونُ ) وقالَ آخر : ( حمراءُ تامِكة السَّنامِ كأنَّها ** جَمَلٌ بِهَودجِ أهْلِهِ مَظْعُون ) ( جادَتْ بها يَومَ الوَداعِ يَمينه ** كِلْتاَ يَدَيْ عَمْرو الغَدَاةَ يَمينُ ) ( ما إنْ يجود بمثْلها في مثلِه ** إلاَّ كَرِيمُ الخِيمِ أو مجْنُونُ )

وفي هذا المعنى يقول حسَّان أو ابنُه عبدُ الرحمن بن حسَّان : ( إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ ** ودَ ما لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنونَا ) ( إنْ يكُنْ غَثَّ مِنْ رَقاشِ حَدِيثٌ ** فبِما نأكُلُ الحديثَ سَمِينا ) وفي شبيهٍ بذلك قول الشَّنْفَرَى : ( فدَقَّتْ وجلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلتْ ** فول جُنَّ إنْسانٌ مِنَ الحُسْنِ جُنّتِ ) وقال القُطاميُّ حين وصف إفراط ناقَتِه في المرَح والنَّشاط : ( يَتْبَعْن ساميةَ العَينَينِ تحسَبُها ** مَجْنُونَةً أو تُرَى ما لا تَرَى الإبلُ )
وقال ابنُ أحَمرَ في معنى التشبيه والاشتقاق : ( بِهَجْلٍ من قَساً ذَفرِ الخُزَامى ** تداعى الجِرْبِياءُ به الحنينا )

( سقط : بيت الشعر ) ( تفقأ فوقه القلع السواري ** وجن الحازباز به جنونا ) وفي مثل ذلك يقول الأعشى : ( وإذا الغيثُ صوبُه وَضَع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزِدْهُمْ سَفاهةً نشْوةُ الخم ** رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّباقُ ) وقال آخر في باب المزاح والبَطالة مما أنشَدَنيه أبو الأصبغ بن رِبعيّ : ( أتَوني بمجنونٍ يَسِيلُ لُعَابُه ** وما صاحبي إلاَّ الصَّحِيحُ المسلَّمُ ) وأنشدني ابراهيم بن هانئ وعبد الرحمن بن منصور : ( جنونك مجنون ولست بواحدٍ ** طبيباً يداوي من جنون جنون )

إبراهيم بن هانئ والشعر

وكان إبراهيم بن هانئ لا يقيم شعراً ولا أدري كيف أقَامَ هذا البيت .
وكان يدَّعى بحضرة أبي إسحاق علمَ الحِسابِ والكلامِ والهندسةِ واللحون وأنه يقول الشعر فقال أبو إسحاق : نحن لم نمتحِنك في هذه الأمور فلك أن تدّعِيهَا عندنا كيف صرْتَ تدّعي قول الشعر وأنتَ إذا رويتَه لغيرك كسرته قال : فإنّي هكذا طبِعتُ أن أقيمه إذا قلت وأكسره إذا أنشدت قال أبو إسحاق : ما بعدَ هذا الكلام كلام .
وقلت لأعرابيّ أيّما أشدُّ غلمةً : المرأة أو الرجل فأنشد : ( فوَاللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَسائِلُ ** أَألأيرُ أدنَى للفجور أو الحِرُ ) ( وقد جاءَ هذا مُرخِياً من عِنانه ** وأقبلَ هذا فاتحاً فاه يهدرُ )

مقطعات شتى

وأنشد بعضهم : ( أصبَح الشَّيبُ في المفارِقِ شاعا ** واكتَسى الرأسُ من بياض قناعا ) ( ثم وَلَّى الشَّبابُ إلاَّ سقليلاً ** ثم يأبَى القليلُ إلاَّ نزاعا ) وأنشد محمد بن يسير : ( قامتْ تُخاصرني لِقُبَّتِها ** خَوْدٌ تَأَطَّرُ ناعِمٌ بِكْرُ ) ( كلٌّ يَرَى أنَّ الشَّبابَ له ** في كل مبلغ لَذَّةٍ عُذْرُ ) وقال الآخرُ في خلاف ذلك أنشدنيه محمد بن هشام السِّدري : ( فلا تعذُراني في الإساءةِ إنَّه ** أشرُّ الرِّجال مَنْ يسيءُ فيُعذَرُ )

وقال ابن فسوة : ( إلى مَعْشَر لا يَخصِفُونَ نِعالَهم ** ولا يلبَسُون السِّبْتَ ما لم يُحضَّر ) وقال الطِّرِمَّاحُ بنُ حكيم وهو أبو نفْر : ( لقد زادني حُبّاً لنَفسيَ أنَّني ** بَغيضٌ إلى كلّ امرئٍ غَيْرِ طائل ) ( إذا ما رآني قطَّعَ الطَّرْفَ بَيْنه ** وَبَيْنيَ فِعْلَ العارِفِ المتجاهِلِ ) ( ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها ** من الضِّيقِ في عَينْيَهِ كِفَّةُ حابل )

وقال آخر : ( إذا أبصرتَني أعْرَضْتَ عَنِّي ** كأنَّ الشَّمْسَ مِنْ قِبَلي تَدُورُ ) وقال الخُرَيمي وَذَكر عماه : ( أصغي إلى قائدي ليخبرني ** إذا التقينا عمن يحييني ) ( أريدُ أن أعدِلَ السَّلامَ وأنْ ** أَفصِلَ بَيْنَ الشَّرِيفِ والدُّونِ ) ( اسمَعُ ما لا أرَى فأكره أنْ ** أُخطِئ والسَّمْعُ غيرُ مَأمُونِ ) ( لِلّه عيني التي فجعْتُ بها ** لو أنّ دَهراً بها يَواتيني ) ( لو كنْتُ خيِّرتُ ما أخَذْتُ بها ** تَعْميِرَ نُوحٍ في مُلْكِ قارُون ) وقال بعضُ القدَماء : ( يُؤَمِّل أنْ يُعَمَّرَ عُمْرَ نُوحٍ ** وأمرُ اللّهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَه )


وقال ابن عبَّاسٍ بعد ما ذهب بصره : ( إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما ** ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ ) ( قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ ** وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ ) وقال حسَّان يذكرُ بيانَ ابن عبَّاس : ( إذا قال لم يَترك مقالاً ولم يقفْ ** لِعِيٍّ ولم يَثنِ اللَّسانَ على هُجْرِ ) ( يصرِّف بالقولِ اللسانَ إذا انتحى ** وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْر )

شعر في الخصب والجدب

وقال بعضُ الأعراب يذْكُرُ الخِصْب والجَدْب : ( مُطِرْنا فلمّا أنْ رَوِينَاً تهادَرَتْ ** شَقاشِقُ فيها رائبٌ وحَليِبُ )

( ورابت رجالاً مِنْ رجال ظُلامةً ** وعُدَّتّْ ذُحولٌ بينهم وذنوبُ ) ( ونُصّتْ رِكابٌ للصِّبا فَتَرَوَّحَتْ ** لهنَّ بما هاج الحبيبَ خبيبُ ) ( وطَنَّ فناءُ الحيِّ حتَّى كأنَّه ** رَحى مَنْهَلٍ مِنْ كَرِّهِنّ نحيب ) ( فلو قَدْ تَوَلَّى النَّبتُ وامتيرَت القُرى ** وحَنَّتْ رِكابُ الحيِّ حِينَ تثوب ) ( وصاَرَ غَبُوقَ الخَود وهي كريمةٌ ** على أهلها ذو جُدَّتينِ مَشُوب ) ( وصار الَّذي في أنْفِه خُنزوانَةٌ ** ينادَى إلى هادي الرَّحى فيجيبُ ) ( أولئك أيَّامٌ تُبَيِّنُ ما الفَتَى ** أكابٍ سُكَيْتٌ أمٌْ أشمُّ نجيبُ )

شعر لأنس بن إياس وقال : ولما وَلِي حارثَة بنُ بَدْرٍ سُرَّق كتب إليه أنَسُ بن أبي إياسٍ الدُّيلي : ( أحارِ بنَ بَدْرٍ قَد وَلِيتَ وِلايةً ** فكُنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ ) ( وباهِ تميماً بالغِنى إنَّ للِغِنى ** لساناً به المرءُ الهَيُوبَةُ يَنْطِقُ ) ( ولا تحقِرَنْ يا حارِ شيئاً ملكته ** فَحظُّك من ملك العراقَين سُرَّق ) ( فإنَّ جميعَ النَّاسِ إمَّا مُكذَّبٌ ** يَقُول بَما يَهوَى وإمَّا مصَدَّقُ ) ( يقولون أقوالاً ولا يَعرِفُونها ** ولو قيل هاتُوا حقِّقوا لم يحقِّقوا ) وقال بعض الأعراب : ( فلمَّا رَأَينا القوم ثاروا بَجَمْعهِمْ ** رَعيْنَا الحديثَ وهو فِيهمْ مُضَيَّعُ ) ( وأدْرَكَنَا من عِزِّ قَيسٍ حفيظةٌ ** ولاخيْرَ فيمن لا يضرّ وينْفَعُ )

نصيحة رجل لبعض السلاطين
ويقال إنَّ رجلاً قال لبعض السَّلاطين : الدُّنيا بما فيها حديث فإن استَطَعتَ أنْ تكونَ مِن أحسَنِها حديثاً فافعَلْ .
وقال حُذَيفة بنُ بدرٍ لصاحبه يوم جَفْر الهباءة حينَ أعطاهُمْ بلسانه ما أعْطى : إيَّاك والكلامَ المأثور .
وأنشد الأصمعي : ( كلُّ يومٍ كأنَّه يومُ أضْحى ** عِنْدَ عبد العَزيزِ أو يومُ فِطرِ ) وقال : وذكر لي بعضُ البَغداديِّين أنَّه سمع مدَنِيّاً مرَّ ببابِ الفَضْلِ بن يحيى وعلى بابه جماعةٌ من الشعراء فقال : ( ما لَقِينا مِنْ جُودِ فضلِ بنِ يَحيى ** تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُعَرَاءَ )

وقال الأصمعي : قال لي خَلَفٌ الأحمر : الفارسيُّ إذا تظرّف تساكت والنَّبطيُّ إذا تظرَّف أكثر الكلام .
وقال الأصمعيُّ : قالَ رجلٌ لأعرابيٍّ : كيف فلانٌ فيكم قالَ : مرزوقٌ أحمق قالَ : هذا الرَّجلُ الكامل .
قال : وقال أعرابيٌّ لرجل : كيف فلانٌ فيكم قاَل : غَنيٌّ حَظِيٌّ قال : هذا من أهل الجَنَّة الأصمعيُّ قال : أخبرني جَوسق قال : كان يقال بالبدو : إذا ظَهَرَ البَياضُ قَلَّ السَّواد وإذا ظَهَرَ السَّواد قَلَّ البَياض قال الأصمعيُّ : يعني بالسَّواد التَّمر وبالبياضِ اللَّبن والأقِط يقول : إذا كانت السَّنَةُ مجدِبة كثُرَ التَّمْرُ وقَلَّ اللَّبن والأقِط وقال : إذا كان العام خصيباً ظهر في صدقةِ الفِطر البياض يعني الإقِط وإذا كان جَدِبياً ظهر السَّواد يعني التّمر .
وتقول الفُرس : إذا زَخَرت الأودية بالماء كثُر التَّمر وإذا اشتدَّت الرِّى اح كثر الحبُ .

وقل في أثر الريح في المطر

وحدَّثني محمَّد بن سلام عن شُعيب بن حجر قال : جاء رجلٌ على فرسٍ فوقفَ بماءٍ من مياه العرب فقال : أعندكم الرِّيحُ الَّتي تكُبّ البعير قالوا : لا قال : فتذْرِي الفارس قالوا : لا قال : فكما تكون يكونُ مطرُكم .
وحدَّثني العُتْبيُّ قال : هَجَمْتُ على بطنٍ بينَ جبلين فلم أرَ وادياً أخصبَ منه وإذا رجالٌ يتركَّلون على مَسَاحيهم وإذا وجوهٌ مهَجَّنة وألوان فاسِدة فقلتُ : واديكُمْ أخصبُ وادِ وأنتم لا تشبِهُونَ المخاصيبَ قال : فقال شيخٌ منهم : ليس لنا ريح .

شعر في الخصب

وقال النمر بن تولب : ( كأنَّ حَمدةَ أو عزّتْ لها شَبَها ** في العين يوماً تلاقَينْا بأرمامِ ) ( ميثاءُ جاد عليها وابِلٌ هَطِلٌ ** فأَمْرَعَتْ لاحتيالٍ فَرْطَ أعوامِ ) ( إذا يَجفُّ ثراهَا بلَّها دِيَمٌ ** مِن كوكبٍ بزل بالماء سَجام ) ( لم يَرْعَها أحدُ واربتها زَمناً ** فَأْوٌ مِنَ الأرضِ محفوف بأعلام ) ( تَسْمَعُ للطَّير في حافاتِها زَجلاً ** كأنَّ أصواتَها أصواتُ جُرَّامِ ) ( كأنَّ ريحَ خُزَاماها وحنْوَتها ** باللَّيل ريحُ يَلَنجوجٍ وأهْضام )

قال : فلم يَدَعْ معنًى مِنْ أجلِه يُخصِب الوادي ويعتمُّ نبتُه إلاّ ذكره وصدق النمر .
وقال الأسديُّ في ذِكر الخِصْب ورطوبة الأشجار ولدونة الأغصان وكثرة الماء : ( وَكأنَّ أرْحُلَنا بجوِّ مُحَصَّبٍ ** بِلِوى عُنيزةَ من مَقيل التَّرمُسِ ) ( في حيثُ خالَطَتِ الخُزَامى عَرْفَجاً ** يأتيك قابِسُ أهله لم يُقْبَسِ ) ذهب إلى أنَّه قد بَلغَ من الرُّطوبة في أغصانه وعيدانه أنَّها إذا حُكَّ بعضها ببعضٍ لم يقدح وفي شبيهٍ بذلك يقول الآخر وذهب إلى كثرة الألوان والأزهار والأنوار :

( كانت لنا من غَطفانَ جارَهْ ** كأنها من دَبَل وشاره ) ( والحلْي حلْيِ التِّبر والحِجارَه ** مَدْفَعُ مَيثاءَ إلى قَرَارَهْ ) إيَّاكِ أَعني واسمعي يا جاره وقال بشَّار : ( وحديثٍ كأنَه قِطَعُ الرَّو ** ضِ وفيه الحَمْراء والصَّفراءُ ) ( الفطن وفَهم الرَّطَانات . . ) ( والكنايات والفهْم والإفهام )

حديث المرأة التي طرقها اللصوص

الأصمعي قال : كانت امرأة تنزِل متنحِّية من الحيّ وتحبُّ العُزلة وكان لها غنَمٌ فطرقها اللُّصوص فقالت لأمَتها : اخرُجي مَنْ هاهنا

قالت : هاهنا حَيَّانُ والحُمارِس وعامرٌ والحارثُ ورأسُ عَنْز وَشادن وراعِيا بَهْمنا : فنحْن ما أولئك أي : فنحن أولئك فلما سَمِعُوا ذلك ظنُّوا أنَّ عِندَها بنِيها وقال الأصمعيُّ مرّة : فلما سمِعت حِسَّهم قالت لأمَتها : أَخرجِي سُلُحَ بَنيَّ من هاهن .
قال : وسُلُح جمع سُلاح وحيّان والحمارس : أسماءُ تُيوسٍ لها . ( قصة الممهُورة الشياه والخمر ) قال الأصمعيُّ : تزوَّج رجلٌ امرأةً فساق إليها مهرها ثلاثين شاة وبعثَ بها رسولاً وبعثَ بزِقِّ خَمْر فَعَمَدَ الرَّسولُ فذبح شاةً في الطريق فأكَلها وشَرَب بَعْض الزَّقِّ فلما أتَى المرأة نظرت إلى تسع وعشرين ورأت الزِّقَّ ناقصاً فعلمِت أنَّ الرجل لا يبعثُ إلاَّ بثلاثين وَزِقٍّ مملوءٍ

فقالت للرسول : قل لصاحبك : إن سُحيماً قد رُثم وإن رسولَك جاءَنا في المحاق فلما أتاه الرَّسولُ بالرِّسالة : قال يا عدوَّ اللّه أكلتَ مِنَ الثَلاثينَ شاةً شاةً وشرِبْتَ من رَأسِ الزِّق فاعتَرَف بذلك . ( قصة العنبريّ الأسير ) الأصمعيُّ قال : أخبرني شيخٌ من بني العنبر قال : أسر بَنو شَيبانَ رجلاً من بني العنبر قال : دَعوني حتى أرسل إلى أهلي ليَفدُوني قالوا : على ألاّ تكلّم الرّسولَ إلاَّ بين أيدينا قال : نعم قال : فقال للرسول ائتِ أهلي فقل : إنَّ الشَّجر قد أوْرق وقل : إنَّ النِّساءَ قد اشْتَكت وخرَزَت القِرب ثمَّ قال له : أتعقِلُ قال : نعم قال : إنْ كنت تَعقِلُ فما هذا قال : الليل قال : أراك تعقل انطلق إلى أهلي فقل لهم : عَرُّوا جملي الأصهب واركَبُوا ناقتي الحمراء وسلوا حارثاً عن أمري وكان حارث صديقاً له فذهب الرَّسولُ فأخبَرَهم فدعَوا حارثاً فقصَّ عليه الرَّسولُ القِصة فقال أمّا قوله : إنَّ الشَّجَر قد أورق فقد تسلَّح القوم

وأمّا قوله : إن النساء قد اشتكت ْ وخرَزت القِرَب فيقول : قد اتخذت الشِّكا وخَرزت القِرَبَ للغزو وأما قوله : هذا الليل فإنَّه يقول : أتاكم جَيشٌ مثلُ الليل وأمّا قوله : عرُّوا جملي الأصهْب فيقول : ارتحلوا عن الصَّمَّان وأما قوله : اركَبُوا ناقتي الحمراء فيقول انزِلُوا الدَّهناء .
وكان القوم قد تهيَّؤوا لغَزْوهم فخافوا أن يُنذِرهم فأنذرهم وهم لا يشعرون فجاء القومُ يطلبونهم فلم يِجدُوهم .

قصة العطاردي

وكذلك صنع العُطاردي في شأن شِعب جبلة وهو كرِب بن صفوان وذلك أنه حينَ لم يرجِع لهمْ قَولاً حين سألوه أن يقول ورَمى بصُرَّتين في إحداهما شوك والأخرى تراب فقال قيس بن زهير : هذا رجلٌ مأخوذٌ عليه ألا يتكلَّم وهو ينذِركم عدَداً وشَوْكة .
قال اللّهُ عزَّ وجلَّ : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكمْ .

شعر في صفة الخيل والجيش

قال أبُو نخيلة : ( لما رأيتُ الدِّينَ ديناً يُؤْفَك ** وأمْسَتِ القُبةُ لا تستمْسِكُ ) ( يُفْتَقُ مِن أعْراضها ويُهتك ** سرت من الباب فَطارَ الدَّكدَكُ ) ( منها الدَّجُوجيُّ ومِنها الأرْمَكُ ** كالّليل إلاَّ أنَّها تَحَرَّكُ ) وقال منَصورٌ النَّمري : وقال آخر : ( كأنَّهم ليلٌ إذا استنفِرُوا ** أو لُجَّةٌ ليس لها ساحلُ )

وقال العجاج : ( كأنَّما زُهاؤه إذا جُهِرْ ** ليلٌ وَرِزٌّ وَغْرِهِ إذا وَغَرْ ) سارٍ سَرَى مِن قِبَل العَيْنِ فجر وفي هذا الباب وليس منه يقول بشَّار : ( كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رؤُوسهم ** وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه ) وقال كلثوم بن عمرو : ( تَبني سنابكُهم من فوق أَرؤسهم ** سقفا كواكبه البِيضُ المبَاتيرُ ) وهذا المعنى قد غلب عليه بشّار كما غلب عنترةُ على قوله : ( فتَرَى الذُّبابَ بها يُغَنِّي وَحدَه ** هَزِجاً كفِعْلِ الشَّارب المترنِّم ) ( غَرِداً يُحكُّ ذِرَاعه بذِرَاعه ** فِعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذَم ) فلو أنَّ امرأ القَيس عَرضَ في هذا المعنى لعنترة لافتَضَح .

مقطعات شتى
وقال بعضهم في غير هذا المعنى : ) ( وفلاةٍ كأنَّما اشتْمَل الّلي ** لُ على رَكبِها بأبناءِ حامِ ) ( خضْتُ فيها إلى الخَليفة بالرّ ** قَّةِ بحْرَيْ ظَهيرةٍ وظَلام ) وقال العَرْجيُّ : ( سمّيتني خَلقاً بخَلَّةٍ قدُمَتْ ** ولا جَدِيدَ إذا لم يُلبَس الخَلَقُ ) ( يا أيها المتحلِّي غيْرَ شِيمَته ** ومِنْ خلائقهِ الإقصادُ والمَلَقُ ) ( ارجعْ إلى خِيمِك المعروفِ دَيْدَنُه ** إن التَّخَلقَ يأتي دُونَهُ الخُلُقُ ) وقال آخر : ( أودَى الخِيارُ مِنَ المعاشِرِ كلهمْ ** واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المَجْلسُ ) ( وتنازَعوا في كلِّ أمرِ عظيمةٍ ** لو قدْ تكونُ شهدْتهُمْ لم ينْبِسُوا )

وأبياتُ أبي نواسٍ على أنه مولَّد شاطر أشعرَ من شعر مهلهل في إطراق النَّاسِ في مجلِس كليب وهو قوله : ( على خبز إسماعيلَ واقِيَة البُخْلِ ** وقد حلَّ في دَارِ الأمان مِنَ الأكْل ) ( وما خبزُهُ إلاَّ كآوَى يُرى ابنها ** ولم تُرَ آوى في الحزون ولا السََّهْلِ ) ( يحدث عنها النَّاس من غيرِ رُؤيةٍ ** سِوى صُورةٍ ما أن تُمِرُّ ولا تُحْلي ) ( وما خبزُه إلاَّ كليبُ بنُ وائلٍ ** لَياليَ يحمي عزُّه مَنْبتَ البَقْلِ ) ( وإذْ هو لا يستبُّ خَصْمانِ عِندَه ** ولا القولُ مرفوعٌ بِجد ولا هَزْلِ )

( فإنْ خبْزُ إسماعيل حلَّ به الذي ** أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بَذْل ) ( ولكنْ قضاءٌ ُ ليس يُسطاعُ دَفْعهُ ** بحيلةِ ذي دَهْيٍ ولا فِكْرِ ذي عقل )

شعر العرب والمولدين

والقضية التي لا أحتشِمُ منها ولا أهابُ الخصومة فيها : أنّ عامّة العرب والأعراب والبدوِ والحضر من سائر العرب أشعر من عامَّة شعراء الأمصار والقُرَى من المولدة والنابتة وليس ذلك بواجبٍ لهم في كلِّ ما قالوه .
وقد رأيت ناساً منه يبهرِجون أشعارَ المولّدين ويستسقِطون مَن رواها ولم أر ذلك قطُّ إلاَّ في راويةٍ للشعرِ غيرِ بصيرٍ بجوهر ما يروى ولو كان له بصرٌ لعرَف موضعَ الجيِّد ممَّن كان . وفي أيِّ زمان كان .


وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانيَّ وقد بلغ من استجادته لهذين البيتينِ ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلَّف رجلاً حتى أحضره دواةً وقرطاساً حتَّى كتبهما له وأنا أزعم أنَّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخِلَ في الحكم بعض الفتك لزعمتَ أنّ ابنَه لا يقول شعراً أبداً وهما قوله : ( لا تحسِبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلَى ** فَإنَّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ ) ( كلاهما موتٌ ولكِنَّ ذَا ** أفظَعَ من ذاكَ لذلِّ السُّؤال )

القول في المعنى واللفظ

وذهب الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء

وفي صحَّة الطبع وجَودَة السَّبك فإنما الشعر صناعةٌ وضَرْب من النَّسج وجنسٌ من التَّصوير .
وقد قيل للخَليلِ بنِ أحمد : ما لكَ لا تقولُ الشِّعر قال : الذي يجيئُني لا أرضاه والذي أرْضاه لا يجيئني .
فأنا أستحسن هذا الكلام كما أستحسن جوابَ الأعرابيِّ حين قيل له : كيفَ تجِدُك قال :

شعر ابن المقفع

وقيل لابن المقفَّع : ما لك لا تجوزُ البيت والبيتين والثلاثة قال : إنْ جُزْتُها عرَفوا صاحبَها فقال له السائل : وما عليك أنْ تُعرَف بالطِّوال الجياد فعلم أنَّه لم يفهمْ عنه .
الفرق بين المولد والأعرابي ونقول : إن الفَرق بين المولَّد والأعرابي : أنَّ المولَّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبياتَ اللاحقَةَ بأشعارِ أهلِ البدو فإذا أَمعنَ انحلَّتْ قُوَّتُه واضطربَ كلامُه .


شعر في تعظيم الأشراف وفي شبيهٍ بمعنى مهلهلٍ وأبي نُوَاس في التَّعظيم والإطراقِ عندَ السّادة يقول الشاعر في بعضِ بني مروان : ( في كفِّه خَيْزَرَانٌ رِيحُه عَبِقٌ ** في كفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَممُ ) ( يغضِي حَياءً ويغضَى مِنْ مَهابتِه ** فما يكلَّم إلاَّ حينَ يبتَسِمُ ) ( إن قال قال بما يَهْوَى جَميعُهمُ ** وإن تكلَّمَ يوماً ساخَتِ الكلِمُ ) ( كَمْ هاتفٍ بك مِن داعٍ وهاتفةٍ ** يَدْعُوكَ يا قثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَمُ ) ( فتَرَى الساداتِ ماثلة ** لِسليلِ الشَّمس من قَمرهْ ) ( فَهمُ شَتَّى ظُنُونُهمُ ** حَذَرَ المطويِّ من خَبَرِهْ )

وقال إبراهيم بنُ هَرْمَةَ في مديحِ المنصور وهو شبيهٌ بهذا وليس منه : ( له لحظات عنْ حِفافيْ سريره ** إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائلُ ) ( فأمُّ الذي أمَّنْت آمِنة الرَّدَى ** وأمُّ الذي أوعدتَ بالثُّكْل ثاكلُ ) شعر في الحلف والعقد وقال مُهلهلٌ وهو يقع في باب الحلف وُكِّد بعَقْد : ( ملْنا على وائل وأفْلَتَنا ** يَوْماً عديٌّ جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ ) ( عتُ عنه الرِّماحَ مجتهداً ** حِفْظاً لِحلفي وحلف ذي يَمن ) ( أذكرُ مِن عهدِنا وعهدهِمُ ** عهداً وَثيقاً بمَنْحَر البُدُن ) ( ما بلَّ بحرٌ كفاً بصوفتها ** وما أنافَ الهضابُ من حَضَنِ ) ( يزيده اللَّيلُ والنَّهارُ معاً ** شَدَّاً خِرَاطَ الجَمُوح في الشَّطَنِ )

شعر في مصرع عمرو بن هند وقال جابر بن حنَيٍّ التغلبيّ : ( فسائل شُرَحبيلاً بنا ومحلّماً ** غداة نكُرُّ الخيْلَ في كلِّ خَنْدَق ) ( لعمرك ما عمرُو بنُ هندٍ وقَدْ دعا ** لتخدمَ ليلى أمَّهُ بموفَّقِ ) ( فقام ابنُ كُلثوم إلى السَّيف مُغْضباً ** فأمسَكَ مِن نَدْمَانِه بالمخنَّقِ ) ( وعممه عمداً على الرَّأس ضَرْبةً ** بذِي شُطَبٍ صافي الحديدة مخْفَق )

شعر في الأقارب وقال المتلمِّس : ( على كلّهم آسَى وللأَصل زلفة ** فزحزح عن الأدنَينَ أن يتصدَّعوا ) ( وقد كان إخواني كريماً جوارُهم ** ولكنَّ أصلَ العُود مِنْ حَيْثُ يُنزعُ ) وقال المتلمس : ( ولو غيرُ أخوالي أرادُوا نقِيضَتي ** جَعلتُ لهم فوقَ العرانِينِ ميسما ) ( وما كنتُ إلاَّ مِثْلَ قاطعِ كفِّهِ ** بكفٍّ لهُ أخْرَى فأَصبح أجْذَما ) ( يداهُ أصابتْ هذِهِ حَتْفَ هذه ** فلم تَجدِ الأخْرَى عليها مُقَدَّما ) ( فأَطرقَ إطراقَ الشجاع ولو يَرَى ** مَساغاً لنابَيهِ الشجاعُ لَصَمَّما ) ( أحارثُ إنا لو تَساطُ دِماؤُنا ** تَزَايَلْنَ حتَّى لا يمَسَّ دَمٌ دما ) قال : وسأَلتُ عن قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مَرْيم الحَنفي : واللّهِ لأَنا أشدُّ )
بغضاً لك من الأرض للدَّم قال :

لأنَّ الدَّم الجاري من كلِّ شيءٍ بيّن لا يغيضُ في الأرض ومتى جفَّ وتجلَّب ففرقته رأيتَ مكانَه أبيض .
إلاَّ إنَّ صاحب المنطقِ قال في كتابه في الحيوان : كذلك الدِّماء إلاَّ دَمَ البعير .
أشعار شتى وقال النَّمِرُ بنُ تولَب : ( إذا كنتَ في سعدٍ وأمُّك منهُمُ ** غريباً فلا تَغْرُرْك أمُّكَ من سَعْد ) وقال : ( وإنَّ ابنَ أُختِ القَومِ مُصغًى إنَاؤه ** إذا لم يُزَاحِمْ خالَهُ بأبٍ جَلْدِ )

وقال آخر : ( تخيَّرَهُ اللّهُ الغداةَ لدِينه ** على عِلْمِهِ واللّه بالعِلْمِ أفْرَسُ ) وقال آخر : ( وما ترَك الهاجون لي في أديمِكم ** مَصَحّاً ولكنّي أرى مُترقّعا ) وقال العِجْلِيّ أو العُكليّ لنوح بن جرير : ( ولقد أرى والمقْتَضى متجوِّزٌ ** يا نوحُ أنَّ أباك لا يُوفِينا ) وقال عمرو بن معد يكرب : ( إذا لم تَسْتَطعْ شيئاً فَدَعْه ** وجاوِزْه إلى مَا تَسْتَطيعُ ) ( وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكُلُّ أمرٍ ** سَمَا لكَ أو سَمَوت لَهُ ولوعُ ) وقال المقنَّع الكِنديُّ : ( وصاحبِ السُّوءِ كالدَّاء العَياء إذا ** مَا ارفَضَّ في الجوفِ يجري هاهُنا وهنا )

( يُنبي ويُخبِر عن عَوْراتِ صاحبِه ** وما رأى عنده من صالحٍ دفنا ) ( كمهْرِ سَوءٍ إذا رفَّعت سَيْرَتَه ** رامَ الجماح وإن خَفَّضته حَرَنَا ) ( إن يَحْيَ ذاك فكنْ منه بمعْزَلةٍ ** أو ماتَ ذاكَ فلا تعْرِفْ لَهُ جَنَنا )

خصال الحرم

فمن خصاله : أنّ الذِّئبَ يصيد الظَّبيَ ويُريغه ويعارضه فإِذا دخَلَ الحرم كفَّ عنه .


ومن خصاله : أنّه لا يسقط على الكعبة حمام إلاّ وهو عليل يُعرف ذلك متى امتُحنَ وتعرِّفتْ حالُه ولا يسقط عليها ما دامَ صحيحاً .
ومن خصاله : أنّه إذا حاذى أعلى الكعبة عَرَقَةٌ من الطّير كاليمام وغيره انفرَقت فِرقتين ولم يعلها طائرٌ منها .
ومن خصاله : أنَّه إذا أصاب المطرُ البابَ الذي من شِقِّ العِراق كان الخِصب والمطرُ في تلك السَّنة في شِقِّ العِراق وإذا أصاب الذي مِن شِقِّ الشَّام كان الخصْب والمطر في تلك السَّنَةِ في شِقِّ الشام وإِذا عمَّ جوانبَ البيتِ كان المطرُ والخِصْبُ عامّاً في سائر البُلدا .
ومن خصال الحرَم : أنَّ حَصَى الجمِار يُرمى بها في ذلك المرمى مُذْ يومَ حَجَّ النَّاسُ البيتَ على طَوَالِ الدَّهرِ ثمَّ كأنَّه على مقدارٍ واحد ولولا موضع الآيةِ والعلامة والأعجوبةِ التي فيها لقد كان ذلك كالجبال هذا مِنْ غير أن تكسَحَه السُّيول ويأخُذَ منه النَّاس .
ومن سُنَّتهم : أنَّ كلَّ مَن علا الكعبةَ من العبيد فهو حرٌّ لا يرون المِلْكَ على من علاها ولا وبمكة رجالٌ من الصُّلحاء لم يدخُلوا الكَعبةَ قطّ .
وكانوا في الجاهليَّة لا يبنُون بيتاً مربّعاً تعظيماً للكعبة والعربُ تسمّّي كلّ بيتٍ مربَّع كعبة ومنه : كعبة نَجران وَكان أوَّلُ مَن بنى بيتاً مربَّعاً حُميد بن زهير أحد بني أسد بن عبد العُزَّى .
ثمَّ البركة والشفاء الذي يجدُه مَن شرب من ماءِ زمزم على وجْه الدهر

وكثرةُ من يُقيم عليه يجدُ فيه الشفاء بعد أنْ لم يدعْ في الأرض حَمَّة إلاَّ أتاها وأقام عندها وشرب منها واستنقع فيها .
هذا مع شأن الفيل والطَّيرِ الأبابيلِ والحِجارة السِّجِّيل وأنَّها لم تزل أمْناً ولَقاحاً لا تؤدِّي إتاوة ولا تَدِين للملوك ولذلك سمِّي البيتَ العتيق لأنَّه لم يَزلْ حُرّاً لم يملِكه أحد .
وقال حرب بن أُميَّة في ذلك : ( أبا مطَر هَلُمَّ إلى صلاحِ ** فَتَكْفِيَكَ النَّدَامى مِنْ قريشِ ) ( فتأمَنَ وَسْطَهُمْ وتَعيِشَ فيهم ** أبا مطر هُدِيتَ لخيْرِ عَيشِ ) ( وتَنْزِلَ بَلْدَةً عزَّت قَدِيماً ** وتأمَنَ أن يَزُروَكَ ربُّ جيشِ )
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيم مُصلًّى وقال عزَّ وجلَّ حكايةً عن إبراهيم :

رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْر ذي زَرْعٍ عنْدَ بَيْتكَ المُحَرَّمِ رَبّنا لِيُقيِمُوا الصّلاة فاَجْعَلْ أَفْئِدَة مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرُونَ .

خصال المدينة

والمدينة هي طَيبة ولطيبها قيل تلفِط خَبَثها وينصعُ طيبُها وفي ريح ترابها وبنّةِ ترْبتها وعَرف ترابها ونسيمِ هوائِها والنعمة التي توجد في سِكَكِها وفي حيطانها دليلٌ على أنَّها جُعلت آيةً حينَ جعلت حرماً .
وكلُّ من خَرجَ من منزِلٍ مطَيّبٍ إلى استنشاق ريح الهواء والتُّرْبة في كل بلدة فإنَّه لابدَّ عند الاستنشاق والتثبُّت مِنْ أنْ يجِدَها منتنةً فذلك على طبقاتٍ من شأنِ البُلدان إلاّ ما كان في مدينة الرّسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فللصَّيَّاح والعِطْر والبَخور

والنضوح من الرائحة الطيبة إذا كان فيها أضعافُ ما يوجد له في غيرِها من البُلدان وإن كان الصَّيّاح أجوَد والعطر أفخرَ والبَخور أثمن . ( بعضُ البلدان الرديئة ) ورُبّت بلدةٍ يستحيل فيها العطرُ وتذهب رائحته كقصبَة الأهواز .
وقد كان الرشيدُ همَّ بالإقامة بأنطاكيَة وكره أهلَها ذلك فقال شيخٌ منهم وصَدَقَهُ : يا أمير المؤمنين ليست من بلادك ولا بلاد مثلك لأنّ الطِّيب الفاخرَ يتغيَّر فيها حتَّى لا يُنْتفعَ منه بكثير شيء والسِّلاَحَ يصدأ فيها ولو كان من قلْعة الهند ومن طبع اليمن ومطرها ربَّما أقام

شهرين ليس فيه سكون فلم يُقِم بها .
ثمّ ذكر المدينة فقال : وإنّ الجُويريةَ السّوداء لَتَجعل في رأسها شيئاً من بَلح وشيئاً من نَصُوحٍ مما لا قيمةَ له لهوانه على أهله فتجد لذلك خُمرةً طيِّبة وطيبَ رائحةٍ لا يعدِلُها بيتُ عَرُوسٍ من ذوي الأقدار حتَّى إنّ النَّوى المنْقع الذي يكونُ عندَ أهل العراق في غاية النَّتْن إذا طال إنقاعه يكونُ عندَهم في غاية الطِّيب واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

ذكر الحمام

أجناسه

قال صاحب الحمام : الحمام وحشيٌّ وأهليّ وبيوتيّ وطوراني وكلُّ طائرٍ يعرف بالزِّواج وبحسن الصَّوت والهديل والدُّعاء والترجيع فهو حمام وإن خالفَ بعضهُ بعضاً في بعض الصّوتِ واللّون وفي بعض القدِّ

ولحن الهدِيل وكذلك تختلف أجناس الدَّجاج على مثل ذلك ولا يخرجها ذلك من أن تكون دَجَاجاً : كالدِّيك الهندي والخِلاسيّ والنَّبطِيّ وكالدّجاج السِّنديّ والزنجيّ وغير ذلك وكذلك الإبل : كالعِراب والبُخْتِ والفوالج والبَهْوَنيّات والصَّرْصَرَانيّات والحُوش والنُّجب وغير ذلك من فحول الإبل ولا يخرجها ذلك من أنْ تكون إبلاً .
وما ذاك إلاّ مخالفة الجُرذانِ والفأر والنّمْلِ والذّر وكاختلاف الضّأْنِ والمعْزِ وأجناسِ البقر الأهليّة والبقر الوحشيَّة وكقرابَةِ ما بينهما وبين الجواميس .


وقد تختلف الحيّاتُ والعقاربُ بضروبِ الاختلاف ولا يخرجها ذلك من أن تكونَ عقاربَ وحيّاتٍ وكذلك الكلابُ والغِرْبان .
وحسْبُك بتفاوتِ ما بينَ النّاس : كالزِّنج والصقالبة في الشُّعُور والألوان وكيأجوج ومأجوج وعاد وثمود ومثلُ الكَنْعَانيّين والعمالقة .
فقد تخالف الماعزة الضائنة حتى ّ لا يقع بينهما تسافدٌ ولا تلاقح وهي في ذلك غنمٌ وشاء .
قال : والقُمريُّ حمام والفاخِتةُ حمام والوَرَشان حمام والشِّفْنين حمام وكذلك اليمام واليعقوب وضروبٌ أخرى كلها حمام ومفاخرها التي فيها ترجع إلى الحمام التي لا تُعرف إلاّ بهذا الاسم .
قال : وقد زعم أفْليمون صاحب الفِراسة أنَّ الحمام يتّخَذُ لضرُوب : منها ما يُتخذُ للأنس والنساء والبُيُوتِ ومنا ما يُتّخَدُ للزِّجال والسباق .

والزجال : إرسال الحمام الهوادي

مناقب الحمام

ومن مناقب الحمام حبُّه للناس وأنس الناس به وأنَّك لم تَرَ حيواناً قطُّ أعدلَ موضِعاً ولا أقْصَد مرتبةً من الحمام وأسفل النّاس لا يكون دُون أنْ يتَّخذها وأرفع الناس لا يكون فوقَ أن يتَّخذها وهي شيءٌ يتَّخذه ما بين الحجَّام إلى الملك الهمام .
والحمامُ مع عمومِ شهوةِ النّاس له ليس شيءٌ مما يتّخذونه هُمْ أشدُّ شغفاً به ولا أشدُّ صَبابَةً منهم بالحمام ثمَّ تجد ذلك في الخِصيان كما تجدُه في الفحول وتجده في الصِّبيان كما تجده في الرِّجال وتجدُهُ في الفِتْيان كما تجدُه في الشيوخ وتجده في النساء كما تجده في الرِّجال .
والحمامُ من الطَّير الميامين وليس من الحيوان الذي تظهر له عورة وحجم قضيبٍ كالكلب والحمارِ وأشباه ذلك فيكونَ ذلك مما يكونُ يجب على الرَّجال ألاّ يُدْخِِلوه دورَهم .


كلمة لمثنى في الحمام قال مثنَّى بن زهير : ومن العجب أنّ الحمامَ مُلَقًّى والسَّكْرَان مُوقًّى فأنشده ابن يسير بيت الخُرَيميّ : ( وأعْدَدتُهُ ذُخْراً لكلِّ مُلِمَّة ** وسَهْمُ المنَايا بالذَّخائرِ مُولَعُ ) ومتى رأى إنسان عطشان الدِّيك والدَّجاجة يشربان الماء ورأى ذئباً وكلباً يلطعَان الماء لطْعاً ذهَبَ عطشه من قُبْح حسْو الديك نغْبةً نغْبة ومن لطْع الكلب وإنَّه لَيَرى الحمام وهو يَشرب الماء وهو ريّان فيشتهِي أن يَكَرَعَ في ذلك الماء معه .

( صدق رغبة الحمام في النَّسل ) والدِّيك والكلبُ في طلب السِّّفاد وفي طلب الذَّرْء كما قال أبو الأخزْر الحِمَّانيُ : لاَ مُبْتَغي الضَّنءِ ولاَ بِالْعَازِلِ والحمام أكثر معانيه الذّرْء وطلبُ الولد فإذا علم الذَّكَرُ أنَّه قد أودَع رحمَ الأنثى ما يكون منه الولد تقدَّما في إعداد العشِّ ونقلِ القَصَب وشِقَقِ الخُوص وأشباه ذلك من العِيدان الخوَّارة الدِّقاق حتى يعملا أُفحوصة وينسجاها نسجاً مداخلاً وفي الموضع الذي قد رضياه اتخذاه

واصطنَعاه بقدر جثمان الحمامة ثمّ أشْخَصا لتِلك الأفحوصةِ حُروفاً غيرَ مرتفعة لتحفَطَ البيض وتمنَعَه من التَّدحرج ولتلزمَ كنَفي الجؤجؤ ولتكون رِفداً لصاحبِ الحَضْن وسَداً للبيض ثم َّ يتعاوران ذلك المكان ويتعاقَبان ذلك القرمُوص وتلك الأفحوصة يسخِّنانها ويدَفِّيانها ويطيِّبانها وينفِيان عنها طِباعها الأوّل ويُحدثان لها طبيعةً أخرى مشتقّةً من طبائعهما ومستخرجةً من رائحةِ أبدانهما وقُواهما الفاصِلة منهما لكي تقعَ البيضةُ إذا وقعت في موضعٍ أشبهِ المواضع طباعاً بأرحام الحمام مع الحضانة والوَثارَة لكي لا تنكسر البيضة بيبُس الموضع ولئلا ينكر طِباعُها طباعَ المكان وليكُون على مقدارٍ من البَرْد و السَّخانَة والرَّخاوة والصَّلابَة ثمّ إنْ ضََرَبها المخاضُ وطَرّقت

ببيضتها بَدَرَت إلى الموضع الذي قد أعدّتُه وتحاملتْ إلى المكانِ الذي اتَّخَذتْه وصنعتهُ إلاّ أن يقرِّعها رعدٌ قاصف أو ريحٌ عاصفٌ فإنَّها ربَّما رمَتْ بها دون ِكِنِّها وظل عُشها وبغير موضعها الذي اختارته والرَّعدَ ربما مَرِق عنده البيض وفسد كالمرأة التي تُسقِط من الفَزَع ويموتُ جنينُها من الرَّوع .
عناية الحمام وأنثاه بالبيض وإِذا وضَعت البيضَ في ذلك المكان فلا يزالان يتعاقبان الحضنَ ويتعاورانه حتِّى إذا بلغ ذلك البيضُ مَداه وانتهَتْ أيّامه وتمَّ مِيقاته الذي وظَّفه خالقُه ودبَّره صاحبه انصدع البيْض عن الفرخ فخرجَ

عاري الجِلْد صغيرَ الجَناح قليلَ الحِيلة منسَدَّ الحلقوم فيعينانه على خلاصِه من قيضه وترويحه من ضيق هَوَّته .
عنايتهما بالفراخ وهما يعلمان أن الفرخَينِ لا تتَّسع حلوقهما وحواصِلهُما للغذاء فلا يكون لهما عند ذلك همٌّ إلاَّ أنْ ينفخا في حلوقهما الريح لتتسع الحوصلةُ بعد التحامها وتَنْفَتقَ بعدَ ارتتاقِها ثم يعلمان أنّ الفرخ وإن اتّسعت حَوصلتُه شيئاً أنّه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزقَّ بالطّعم فيُزَقّ عند ذلك باللُّعاب المختلط بقواهما وقوى الطعْم وهمْ يسمُّونَ ذلك اللُّعاب اللِّباء ثم يعلمان أنّ طبع حوصلتِه يرق عن استمراء الغذاء

وهضم الطُّعمِ وأنَّ الحوصلة تحتاجُ إلى دَبْغٍ وتقوية وتحتاج إلى أن يكون لها بعضُ المتانَة والصلابة فيأكلن من شَورَج أصول الحِيطان وهو شيءٌ بينَ المِلح الخالص وبين التُّراب الملح فيزقَّان الفرخ حتِّى إذا علما أنّه قد اندبَغ واشتدّ زقّاه بالحبِّ الذي قد غبَّ في حواصلهما ثم زقَّاه بعد ذلك بالحبِّ الذي هو أقوى وأطرى فلا يزلان يزُقَّانه بالحبِّ والماء على مقدار قُوَّتِه ومبلغ طاقته وهو يطلب ذلك منهما ويبِضُّ نحوهما حتى إذا علما أنّه قد أطاق اللقطَ منَعاه بعضَ المنْع ليحتاج إلى اللقْطِ فيتعوَّده حتى إذا علما أنْ أدَاتَه قد تمَّتْ وأن أسبابَه قد اجتَمَعَتْ وأنَّهما إن فَطماهُ فطْماً مقطوعاً مجذوذاً قوِيَ على اللَّقط وبلغ لنفسِه مُنتِهى حاجتِه ضرباه إذا سألهما الكفاية ونَفَياه متى رجع إليهما

ثمّ تنْزَع عنهما تلك الرحمةُ العجيبة منهما له وينسَيان ذلك العطف المتمكِّنَ عليه ويُذهَلان عن تلك الأثرة له والكدِّ المضني من الغُدُوِّ عليه والرَّواح إليه ثم يبتديان العمل ابتداءً ثانياً على ذلك النظام وعلى تلك المقدّمات .
فسبحان من عرّفهما وألهمهما وهداهما وجعلهما دَلالة لمن استدلّ ومُخِبراً صادقاً لمن استخبر ذلكم اللّه رب العالمين . 4 ( حالات الطُّعم الذي يصير في أجواف الحيوان ) وما أعجب حالاتِ الطُّعْمِ الذي يصير في أجواف الحيوان وكيف تتصرّف به الحالاتُ وتختلف )
في أجناسه الوجوه : فمنها ما يكون مثل زق الحمام لفَرخه والزقُّ في معنى الْقيء أو في معنى التقيؤ وليس بهما وجِرَّة البعير والشاةِ والبقرة في معنى ذلك وليس به والبعير يريد أن

يعود في خَضمه الأوّل واستقصاء طعمه وربَّما كانت الجِرَّةُ رجيعاً والرَّجيع : أن يعود على ما قد أعاد عليه مرَّةً حتَّى ينزِعه من جَوفه ويقلبه عن جهته . ( زَقّ الحمام ) والحمام يُخرجه من حَوصلته ومن مُسْتكَنِّه وقَراره وموضعِ حاجته واستمرائه بالأثَرةِ والبِرِّ إلى حوصلةِ ولده قد ملك ذلك وطابتْ به نفسُه ولم تغْنَثْ عليه نفسه ولم يتَقَذَّر من صنيعه ولم تَخْبُثْ نفسُه ولم تتغيَّر شهوته ولعلَّ لذَّتَه في إخراجه أن تكون كلذّتِه في إدخاله وإنما اللذة في مثل هذا بالمجارِي كنحو ما يعتري مجرَى النُّطفةِ من استلذاذ مرُور النَّطفة فهذا شأن قَلْب الحمام ما في جوفه وإخراجه بعد إدخاله والتمساح يخرجه على أنّه رجعُه ونْجوه الذي لا مخرج له ولا فَرَج له في سواه .


تصرف طبيعة الإنسان والحيوان في الطعام وقد يعتري ذلك الإنسان لِما يعرِض من الدَّاء فلا يعرف إلاّ الأكلَ والقيء ولا يعرف النَّجْوَ إلاّ في الحِين على بعَضِ الشِّدَّةِ وليس ما عرَض بسبب آفةٍ كالذي يخرج على أصل تركيب الطبيعة .
والسِّنَّور والكلبُ على خلاف ذلك كلِّه لأنْهما يُخرجانه بعارضٍ يعرِضُ لهما مِن خُبْث النَّفس ومن الفساد ومن التَّثوير والانقباض ثمَّ يعودان بعد ذلك فيه من ساعتهما مشتهيَين له حريصين عليه .
والإنسان إذا ذَرَعه ذلك لم يكن شيء أبغض إليه منه وربَّما استقاء وتكلّف ذلك لبَعض الأمر وليس التكلف في هذا الباب إلاّ له .
وذوات الكروش كلها تَقْعص بجرّتها فإذا أجادتْ مضْغه أعادته والجِرّة هي الفرْث وأشدُّ من ذلك أنْ تكون رجيعاً فهي تجيدُ مَضغَها وإعادتَها إلى مكانها إلاّ أنَّ ذلك ممّا لا يجوز أفواهها وليس عند الحافِر من ذلك قليلٌ ولا كثير بوجهٍ من الوجوه .


وقد يعتري سباعَ الطير شبيهٌ بالقيء وهو الذي يسمُّونه الزُّمّج وبعضُ السَّمكِ يقيء قيئاً ذريعاً كالبال فإنَّه ربَّما دسَعَ الدَّسعة فتلقى بعض المراكب فيلقَون من ذلك شِدّة والناقة الضجور ربَّما دسعَتْ بِجرَّتها في وجه الذي يرحُلها أو يعالجها فيلقى من ذلك أشدّ الأذى )
ومعلومٌ أَنَّها تفعَلُ ذلك على عمد .
فلذوات الأقدام في ذلك مذهب ولذوات الكُروش من الظِّلف والخفِّ في ذلك مذهب ولذوات الأنياب في ذلك مذهب وللسَّمك والتمساح الذي يشبه السَّمَكَ في ذلك مذهب .
ويزعمون أن جوف التمساح إن هو إلاَّ معاليق فيه وأنه في صورة الجراب مفتوح الفم مسدود الدُّبر ولم أَحقَّ ذلك وما أكثر من لا يعرفُ الحال فيه .
الرجوع إلى طلب النسل عند الحمام ثم رجع بنا القولُ في الحمام بعد أن استغنى ولده عنه وبعد أن نُزِعت الرحمة منه وذلك أنّه يبتدئُ الذَّكرُ الدُّعاء والطرد وتبتدئ الأنثى بالتأتّي

والاستدعاء ثمَّ تزيف وتتشكّل ثمَّ تمكِّن وتمنع وتجيبُ وتصدفُ بوجهها ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويحدث لهما من التغزُّل والتفَتُّل ومن السَّوف والقبَل ومن المصِّ والرَّشف ومن التنفُّخِ والتنفُّج ومن الخيلاء والكبرياء ومن إعطاء التقبيل حقه ومن إدخال الفم في الفم وذلك من التطاعُم وهي المطاعَمة وقال الشاعر : ( لم أَعطها بيدي إذ بتُّ أرشُفُها ** إلاَّ تَطاولَ غصنُ الجيد بالجيدِ ) هذا مع إرسالها جناحيها وكفَّيها على الأرض ومع تَدَرعها وتبعُّلها ومع تصاوله وتطاوُله ومع تنفُّجه وتنفُّخِه مع ما يعتريه مع الحِكة والتفلِّي والتنفُّش حتّى تراهُ وقد رمى فيه بمثله .
ثمُّ الذي ترى من كسْحِه بذنبه وارتفاعِه بصدره ومن ضرْبه بجناحِه ومن فرحه ومَرَحِه بعد قَمْطِه والفراغِ من شهوتِه ثمَّ يعتريه ذلك في الوقت الذي يفتر فيه أنكحُ النَّاس .

القوة التناسلية لدى الحمام

وتلك الخَصلةُ يفُوق بها جميع الحيوان لأنّ الإنسان الذي هو أكثر الخلْق في قوّة الشهوة وفي دوامها في جميع السَّنة وأرغبُ الحيوانِ في التصَنُّع و التغزل والتشكُّل والتفتُّل أفتر ما يكونُ إذا فرغ وَعندَها يركبُه الفُتور ويحبُّ فِراق الزَّوج إلى أن يعودَ إلى نشاطِه وترجِعَ إليه قُوَّتُه .
والحمامُ أنشط ما يكون وأفرح وأقوى ما يكون وأمرح مع الزَّهو والشكل واللهْو والجَذل أبردَ ما يكون الإنسانُ وأفتره وأقطَع ما يكون وأقْصرَه .
هذا وفي الإنسان ضروبٌ من القُوى : أحدها فَضَل الشّهْوةِ والأخرى دوام الشهْوة في جميع الدَّهر والأخرى قوة التصَنُّع والتكلف وأنتَ إذا جمعتَ خِصالَه كلها كانت دونَ قوَّةِ الحمام عندَ فَراغِه من حاجته وهذه فضيلةٌ لا يُنْكِرُها أحدٌ ومَزِيّة لا يجحدها أحد .

البغال ونشاطها
ويقال : إنّ النَّاس لم يَجِدُوا مثلَ نشاط الحمام في وَقت فَتْرَة الإنسان إلاّ ما وجدوه في البغال فإنّ البغال تحمِل أثقالاً عشية فتسيرُ بقيَّة يومها وسوادَ ليلتها وصدرَ نهارِ غَدِها حتّى إذا حطُّوا عن جميع ما كان محمّلاً من أصناف الدوَاب أحمالها لم يكنْ لشيء منها همَّةٌ ولا لِمَنْ رَكِبَها من النّاس إلاّ المَرَاغة والماء والعَلف وللإنسان الاستلقاء ورفعُ الرِّجْلين والغمْز والتأوُّه إلاّ البغال فإنها في وقت إعياء جميعِ الدواب وشدّة كلالها وشَغْلها بأنفسها ممّا مرَّ عليها ليس عليها عملٌ إلاّ أنْ تدْلي أيورَها وتشظَّ وتضرِبَ بها بطونَها وتحُطها وترفعها وفي ذلك الوقت لو رأى المكاري امرأة حسناء لَما انتَشَرَ لها ولا هَمَّ بها ولو كان مُنعظاً ثم اعتراه بعْض ذلك الإعياء لنَسي الإنعاظ .
وهذه خَصْلة تخالف فيها البغالُ جميعَ الحيوانِ وتزعم العَمَلة أنَّها تلتمس بذلك الرَّاحَة وتتداوى به فليس العجبُ إن كان ذلك حقّاً إلاّ في إمكان ذلك لها في ذلك الوقت وذلك لا يكون إلاّ عن شهوة وشَبقٍ مُفرط .


النشاط العجيب لدى الأتراك وشِبهٌ آخرُ وشِكلٌ من ذلك كالذي يُوجدَ عند الأتراك عند بلوغ المنْزِل بعد مسير اللّيل كلِّه وبَعْضِ النَّهار فإن النَّاسَ في ذلك الوقْتِ ليس لهم إلاّ أن يتمددوا ويقيِّدوا دوابّهم والتركي في ذلك الوقت إذا عاين ظبْياً أو بعضَ الصّيد ابْتَدَأ الرَّكْضَ بمثلِ نشَاطه قبلَ أن يسيرَ ذلك السير وذلك وقْتَ يَهمُّ فيه الخارِجيَّ والخَصيَّ أنفسُهمُا فإنَّهما المذكوران بالصَّبرِ على ظَهْر الدّابَّةِ )
فطام البهائم أولادها وليس في الأرض بهيمةٌ تَفطِمُ ولدَها عن اللّبن دَفْعةً واحدةً بل تجِدُ الظّبيةَ أو البقرة أو الأتان أو الناقة إذا ظنت أنّ ولدَها قد أطاق الأكل منَعَتْهُ بعض المنْع ثمّ لا تزل تُنزِّل ذلك المنْع وترتبه وتدرِّجه حتَّى إذا علمتْ أنّ به غنًى عنها إنْ هي فطمته فطاماً لا رجْعَة فيه منَعَتْه كلَّ المنْع .


والعرب تسمِّي هذا التَّدبيرَ من البهائم التَّعفيرَ ولذلك قال لبيد : ( لمعفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَه ** غُبْسٌ كواسبُ ما يُمَنُّ طعامُها ) وعلى مثل هذه السِّيرة والعادة يكون عملُ الحمامِ في فراخه .

من عجيب أمر الحمام

ومن عجيب أمر الحمام أنّه يقلب بيضه حتى يصير الذي كان منه يَلي الأرض يَلي بدنَ الحمام من بطنه وباطِنِ جَناحهِ حتّى يُعطيَ جميعَ البيضةِ نصيبها من الحضن ومن مَسِّ الأرضِ لعلمها وخَصْلَةٌ أخرى محمودةٌ في الحمام وذلك أنّ البغْل المتولِّد بينَ الحمار والرَّمَكة لا يبقى له نسل والرَّاعِبي المتولّد فيما بينَ الحمام والوَرشان يكثر نسله ويطولُ عمرُ ولدهِ والبُخْتُ والفوالج إنْ ضرَبَ بعضُها بعضاً خرج الولدُ منقوص الخلق لا خير فيه والحمامُ كيفمَا أدَرتَه وكيفما زَاوجْتَ بينَ متّفِقها ومختلفها يكون الولد تامَّ الخلق مأمول الخير

فمن نتاج الحمام إِذا كان مركِباً مشْتركاً ما هو كالرّاعِبي والوَرداني وعلى أنّ للورْداني غرابةَ لون وظرَافَة قَدٍّ للرَّاعِبيِّ فضيلةٌ في عِظم البدنِ والفِراخِ وله من الهديلِ والقَرْقَرَةِ ما ليس لأبويه حتى ِّ صار ذلك سبباً للزِّيادة في ثمنه وعلّةً للحِرْص على اتِّخاذه .
والغنمُ على قسمين : ضأن ومَعز والبقرُ على قسمين : أحدهما الجواميس إلا ما كان من بقرِ الوحْش والظِّلْفُ إذا اختلَفا لم يكنْ بينهما تسافُدٌ ولا تلاقح فهذه فضيلة للحمام في جهة الإنسال والإلقاح واتِّساع الأرحام لأصنافِ القبول وعلى أنَّ بينَ سائر أجناس الحمامِ من الوَرَاشين والقماريّ والفواخت تسافداً وتلاقُحاً .

مما أشبه فيه الحمام الناس

وممَّا أشبّهَ فيه الحمامُ النَّاسَ أنّ ساعاتِ الحضْن أكثُرها على الأنثى وإنّما يحضُن الذّكرُ في صدْر النهار حَضْناً يسيراً والأنثى كالمرأة التي تكفُل

الصبيَّ فتَفْطِمه وتمرِّضه وتتعهده بالتمهيدِ والتَّحريك حتّى إذا ذهب الحضْنُ وانصرم وقتُه وصار البيضُ فِراخاً كالعِيال في البيت يحتاجون إلى الطّعام والشّراب صار أكثرُ ساعات الزَّقِّ على الذَّكر كما كان أكثرُ ساعاتِ الحضنْ على الأنثى .
وممَّا أشبه فيه الحمام النَّاس ما قال مثنَّى بنُ زُهير وهو إمام النّاس في البصرة بالحمام وكان جيِّد الفِراسة حاذقاً بالعلاج عارفاً بتدبير الخارجيِّ إذا ظهرت فيه مَخيلة الخير واسم الخارجيّ عندهم : المجهول وعالماً بتدبير العريِق المنسوب إذا ظهَرتْ فيه علاماتُ الفُسولِة وسوء الهِداية وقديمكن أن يَخلُفَ ابن قُرَشَيَّين وَيَنْدُب ابن خوزِيٍّ من نبطيَّةٍ وإنما فضَلنا نتاج العلْية على نِتاج السِّفلةِ لأنّ نِتاجَ النَّجابة فيهم أكثرُ والسٍّ قوط في أولاد السفلة أعمُّ فليس بواجبٍ أن يكون السفلةُ لا تَلِد إلاّ السفلة والعِلْية لا تَلِد إلاّ العِليةَ وقد يلدِ المجنونُ العاقِلَ والسخيُّ البخيلَ والجميل القبيحَ .


وقد زعم الأصمعي أنّ رجلاً من العرب قال لصاحب له : إذا تَزَوَّجْتَ امرأةً من العَرَب فَانظُرْ إلى أخوالها وأعمامها وإخوتها فإنها لا تخطئ الشبّهَ بواحدٍ منهم وإنْ كان هذا الموًصي والحكيم جعل ذلك حُكماً عامّاً فقد أسرفَ في القول وإن كان ذهبَ إلى التّخويف والزَّجْر وقال مثنّى بنُ زهير : لم أر قطُّ في رجلِ وامرأةٍ إلاّ وقد رأيتُ مثلَه في الذَّكر والأنثى من الحمام : رأيت حمامة لا تريد إلاّ ذكرَها كالمرأة لا تريدُ إلاّ زوجها وسيّدها ورأيتُ حمامةً لا تمنَع شيئاً من الذُّكورة ورأيتُ امرأةً لا تمنع يَدَ لامس ورأيت الحمامةَ لا تزيف إلا بعْدَ طَرْدٍ شديد وشدة طلبٍ ورأيتُها تزِيفَ لأَوَِّل ذَكر يُريدُها ساعةَ يقصِد إليها ورأيتُ من النساء كذلك ورأيت حمامةً لها زوج وهي تمكن ذكراً آخرَ لاتَعْدُوهُ ورأيتُ مثل ذلك من النساء ورأيتُها تزيفُ لغير ذكرِها وذكرُها يراها ورأيتها لا تفعل ذلك إلاّ وذكرها يطيرُ أو يحضُنُ ورأيت الحمامةَ تقمُطُ الحمام الذكور ورأيت الحمامةَ تقمط الحمامة ورأيت أنثى كانت لي لا تقمط إلا الإناث ورأيت أخرى تقمط الإناثَ فقط ولا تدَع أنثى تقمطها .


قال : ورأيت ذكراً يقمُط الذُّكورة وتقمطه ورأيت ذَكراً يقمُطها ولا يدعها تقمطه ورأيت أنثى )
تزيفُ للذُّكورةِ ولا تدع شيئاً منها يقمطها .
قال : ورأيت هذه الأصنافَ كلَّها في السَّحّاقات من المذكَّرات والمؤنثات وفي الرَّجال الحَلَقيِّين واللُّوطيِّين وفي الرجَال من لا يريد النساء وفي النساء من لا يريد الرجال .
قال : وامتنعتْ عليَّ خصلةٌ فو اللّه لقد رأيت من النساء من تزْني أبداً وتساحق أبداً ولا تتزوج أبداً ومن الرجال من يلوط أبداً ويزني أبداً ولا يتزوَّج ورأيت حماماً ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج ورأيتُ حمامَة تمكِّن كلَّ حمامٍ أرادَها مِنْ ذكرٍ وأنثى وتقمُطُ الذكورةَ والإناثَ ولا تزاوِج ورأيتها تزَاوج ولا تبيض وتبيضُ فيفسدُ بيضُها كالمرأة تتزَوَّج وهي عاقر وكالمرأة تلد وتكون خرقاء ورْهاء ويعرض لها الغلظة والعقوق للأولاد كما يعتري ذلك العُقاب .
وأمَّا أنَا فقد رأيتُ الجفاء للأَولاد شائعاً في اللّواتي حَمَلْن من الحرام ولربَّمَا ولدت من زَوجها فيكون عطفها وتحنُّنها كتحنن العفيفاتِ

السَّتيرات فما هو إلاّ أن تزنيَ أو تَقْحُب فكأَنَّ اللّه لم يضْرِب بينها وبين ذلك الولدِ بشبكة رَحِم وكأنّها لم تَلِدْهُ .
قال مثنَّى بنُ زهير : ورأيتْ ذكراً له أنثيان وقد باضَتا منه وهو يحضُن مع هذه ومع تلك ويزُقُّ مع هذه ومع تلك ورأيت أنثَى تبيض بيضة ورأيت أنثى تبيض في أكثر حالاتها ثلاث بيضات .
وزعم أنّه إنَّما جزَم بذلك فيها ولم يظنه بالذَّكر لأنّها قد كانت قبل ذلك عند ذكرٍ آخر وكانت تبيض كذلك .
ورأيتُ أنا حمامةً في المنزل لم يعرِضَ لها ذَكرٌ إلاّ اشتدّت نحوه بحدَّةٍ ونزقٍ وتسرُّعٍ حتِى تنقر أينَ صادفتْ منهُ حتى يصدّ عنها كالهارب منها وكان زوجها جميلاً في العَين رائعاً وكان لها في المنزل بنون وبنو بنين وبنات وبنات بنات وكان في العَين كأنّه أشبُّ من جميعهنَّ وقد بَلَغ من حظوتِه أني قلَّما رأيتُه أرادَ واحدةً من عرْض تلك الإناثِ فامتنعتْ عليه وقد كن يمتنعن من غيره فبينا أنا ذاتَ يومٍ جالسٌ بحيث أراهنّ إذ رأيتُ تلك الأُنثى قد زافتْ لبعض بنيها فقلت لخادمي :

ما الذي غيَّرها عن ذلك الخلق الكريم فقال : إني رَحّلت زوجها من القاطول فذهب ولهذا شهر فقلت : هذا عذر .
قال مثنّى بنُ زهير : وقد رأيت الحمامة تزاوِج هذا الحمام ثم تتحول منه إلى آخر وَرَأيت ذكراً فَعَلَ مثل ذلك في الإناث ورأيت الذَّكرَ كثيرَ النَّسل قويًاً على القمْط ثمَّ يُصِفي كما يُصْفي )
الرَّجلُ إذا أكثر من النَّسْل والجماع .
ثمَّ عدّد مُثَنًّى أبواباً غيرَ ما حفِظت ممَّا يُصابُ مثلُه في الناس . ( خبرة مثنَّى بن زهير بالحمام ) وزعموا أنّ مثنًّى كان ينظر إلى العاتِق والمخلِف فيظنَ أنّه يجيء من الغاية فلا يكاد ظنهُ يخطئ وكان إذا أظهرَ ابتياع حمامٍ أغلوْه عليه

وقالوا : لم يطلُبْه إلاّ وقد رأى فيه علامةَ المجيء من الغاية وكان يدسُّ في ذلك ففطنوا له وتحفظوا منه فربَّما اشترى نصفَه وثلثه فلا يقصِّر عند الزِّجال من الغاية .
وكان له خصيٌّ يقال له خديج يجري مجراه فكانا إذا تناظرا في شأنِ طاِئرٍ لم تُخلِف فراستهما .

المدة التي يبيض فيها الحمام والدجاج

قال : والحمام تبيض عشرة أشهرِ من السَّنة فإذا صانوه وحفِظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنُوا تعهُّدُه باضَ في جميع السَّنة .
قالوا : والدَّجاجة تبيض في كلِّ السَّنة خلا شهرين .
ضروب من الدجاج ومن الدَّجاج ما هو عظيم الجثّة يبيض بيضاً كبيراً وما أقل ما يحضُن ومن الدجاج ما يبيض ستِّين بيضة وأكثرُ الدجاج العظيم الجثَّة يبيضُ أكثرَ من الصغير الجثَّة .


قال : أما الدَّجاج التي نسبت إلى أبي ريانوس الملك فهو طويلُ البدَن ويبيضُ في كلّ يوم وهي صعبة الخلق وتقتل فراريجها .
ومن الدَّجَاج الذي يربَّى في المنازل ما يبيض مرَّتين في اليوم ومن الدجَاج ما إذا باض كثيراً مات سريعاً لذلك العَرض .
قال : والخُطَّاف تبيض مَرَّتين في السّنة وتبني بيَتها في أوثق مكانٍ وأعلاه .
فأمَّا الحمام والفَواخت والأطْرُغلاَّت والحمام البريُّ فإنّها تبيض مرَّتين في السنة والحمامُ الأهليُّ يبيض عشْر مرات وأما القَبَج والدُّرَّاج فهما يبيضان بين العُشب ولا سيما فيما طال شيّاً والتوى .
خروج البيضة وإذا باض الطّيرُ بيضاً لم تخرُج البيضة من حدِّ التحْدِيد والتَّلطيف بل يكون الذي يبدأ بالخروج الجانب الأعظم وكان الظنُّ يسرعُ إلى أنّ الرأس المحدَّد هو الذي يخرج أوّلاً .


قال : وما كان من البيض مستطيلاً محدَّد الأطراف فهو للإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف فهو للذّكور .
قال : والبيضة عندَ خروجهِا ليِّنَة القِشْر غير جاسية ولا يابسة ولا جامدة .
بيض الريح والتراب قال : والبيض الذي يتولد من الريح والتُّراب أصغرُ وألطَف وهو في الطِّيب دُونَ الآخر ويكونُ بيضُ الرِّيح من الدجاج والقبج والحمام والطاوس والإوز .
أثر حضن الطائر قال : وحضْن الطائر وجثومه على البَيض صلاَح لبَدن الطائر كما يكون صلاحاً لبدَن البيض ولا كذلك الحضْنُ على الفراخ والفراريج فربما هلك الطائر عن ذلك السبب .


تكوّن بيض الريح وزعم ناسٌ أن بيض الرِّيح إنما تكوَّن منْ سفادٍ متقدِّم وذلك خطأٌ من وجهين : أمّا أحدُهما فأن ذلك قد عُرف من فَرَاريجَ لم يَرينَ ديكاً قط والوجه الآخر : أن بيضَ الريح لم يكن منه فَرُّوج قطّ إلاّ أن يسفَدَ الدجَاجة ديك بعد أن يمضي أيضاً خلْقُ البيض .
معارف شتى في البيض قال : وبيض الصّيف المحضون أسرعْ خروجاً منه في الشتاء ولذلك تحضن الدجاجة البيضةَ في الصّيف خمس عشرة ليلة .
قال : وربَّما عَرَض غيمٌ في الهواء أو رَعْدٌ في وقتِ حضْن الطائر فيفسُدُ البيض وعلى كل حال ففسادُه في الصيف أكثر والموتُ فيها في ذلك الزمان أعمّ وأكثر ما يكون فسادُ البيض في الجَنائب ولذلك كانَ

ابن الجهم لا يطلبُ من نسائه الوَلد إلاّ والرِّيح شمال وهذا عندي تعرُّضٌ للبلاء وتحُّكك بالشرّ واستدعاء للعقوبة .
وقال : وبعضهم يسمِّي بيضَ الرِّيح : البيض الجُنُوبيَّ لأنَّ أصناف الطّيرِ تقْبَلُ الرِّى ح في أجوافها .
وربَّما أفرخ بيضُ الرِّيح بسفادٍ كان ولكنَّ لونَه يكونُ متغيِّراً وإن سفِد الأنثى طائرٌ من غير جنسها غيَّر خلق ذلك المخلوقِ الذي كان من الذّكر المتقدِّم وهو في الديَكةِ أعمَّ .
ويقولون : إنّ البَيض يكون من أربعةِ أشياء : فمِنه مَا يكونُ من التُّراب ومنه ما يكونُ من السفاد ومنه ما يكون من النّسيم إذا وصلَ إلى أرحامهن وفي بعض الزَّمَان ومنْهُ شيءٌ ُ يعتري الحَجَل وما شاكله في الطّبيعة فإنّ الأنثى ربَّما كانَتْ على سُفَالةِ الريح التي تهبُّ من شِقِّ الذكَر في بعض الزمَان فتحتشي من ذلك بيضاً ولم أرهم يشكون أن النَّخلة المُطْلِعَةَ تكون بقربِ الفُحَّال وتحت ريحه فتَلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك

قال : وبيضُ أبكارِ الطّير أصغر وكذلك أولادُ النساء إلى أنْ تتسع الأرحَام وتنتفخ الجنوب .

هديل الحمام

ويكون هديل الحمام الفتيِّ ضئيلاً فإذا زقَّ مِرَاراً فَتَحَ الزَّقُّ جلْدَة غَببه وحوصلِته فخرَجَ الصّوتُ أغلظَ وأجهرَ .
حياة البكر وهم لا يثِقون بحياة البكر من النّاسِ كما يثِقون بحياة الثاني ويرون أنّ طبيعَة الشباب والابتداء لا يعطيانه شيئاً إلاّ أخَذه تضايقُ مكانِه من الرّحم ويحبُّون أن تبكّر بجارية وأظُنُّ أن ذلك إنما هو لشدّةِ خوفِهم على الذكر وفي الجملة لا يتيمَّنون بالبكر الذكر فإن كان البكرُ ابنَ بكرٍ تشاءمُوا به فإن كان البكْرُ ابنَ بكرَينِ فهو في الشؤمِ

مثل قيسِ بنِ زهير والبَسوس فإن قيساً كان أزْرق وبكراً ابن بكرين ولا أحفظُ شأن البَسوس حفظاً أجزمُ عليه .

ما يعتري الحمام والإوز بعد السفاد

قال : وأمّا الحمام فإنّه إذا قمط تَنَفّشَ وتكبَّر ونَفَضَ ذَنبه وضَرَبَ بجناحِه وأمّا الإوَزّ فإنّه إذا سفِد أكثر من السباحة اعتراه في الماء من المَرَح مثلُ ما يعتري الحمام في الهواء .


قال : وبيضُ الدجَاج يتمُّ خلقُه في عشْرة أيام وأكثرَ شيئاً وأمَّا بيض الحمام ففي أقلَّ من ذلك .

احتباس بيض الحمامة

والحمامة ربَّما احتبَسَ البيضُ في جوفها بَعْدَ الوقتِ لأمورٍ تَعْرِضُ لها : إمّا لأمر عَرَض لعُشِّها وأفحوصها وإمّا لنتْفِ ريشها وإمَّا لعلَّةِ وجعٍ من أوجاعها وإمّا لصوتِ رعد فإنّ الرَّعدَ إذا اشتَدَّ لم يبقَ طائرٌ على الأرض واقع إلاّ عدَا فَزعاً وإن كان يطيرُ رَمى بنفسه إلى الأرض قال علقمة بن عَبَدَة : ( كأنّهمُ صابتْ عليهمْ سحابةٌ ** صواعقُها لطيرهِنَّ دَبِيبُ )

تقبيل الحمام

قال : وليس التَّقبيلُ إلاّ للحمَام والإنسان ولا يدَعُ ذلك ذكرُ الحمام إلاَّ بعد الهَرَم وكان في أكثرِ الظَّنِّ أنَّه أحوجُ ما يكون إلى ذلك التَّهييجِ به عند الكِبَرِ والضَّعف .
وتزعمُ العوامُّ أنَّ تسافُدَ الغِرْبان هو تطاعُمُها بالمناقير وأنّ إلقاحَها إنَّما يكونُ من ذلك الوجه ولم أرَ العلماء يعرفون هذا .
قال : وإناثُ الحمام إذا تسافَدَت أيضاً قَبَّل بَعْضُهُنَّ بعضاً ويقال إنّها تبيضُ عن ذلك ولكِنْ لا يكون عن ذلك البيضِ فِراخ وإنَّه في سبيل بيض الريح . ( تكوُّن الفرخ في البيضة ) قال : ويَستَبينُ خَلْقُ الفِراخ إذا مضت لها ثلاثةُ أيَّامٍ بليالها وذلك في شَبَاب الدَّجاج وأمَّا في المَسَانِّ منها فهو أكثر وفي ذلك الوقت تُوجد الصُّفرةُ من النَّاحيةِ العُليَا من البَيضة عند الطرَف المحدَّد وحيث يكون أوَّلُ نَقْرِها فَثَمَّ يستبين في بياض البَيضة مثلُ نقطة من دم وهي تختلجُ وتتحرَّك والفرخ إنَّما يُخلق من البَياض ويَغْتذي

الصُّفرة ويتمُّ خَلْقُه لعشرةِ أيّام والرَّأسُ وحْدَهُ البيض العجيب قال : ومن الدَّجاج ما يبيض بيضاً له صُفْرتان في بعض الأحايين خبَّرني بذلك كم شِئتَ من ثقاتِ أصحابِنا .
وقال صاحب المنطق : وقد باضت فيما مضى دَجاجةٌ ثماني عشْرَة بيضةً لكلِ بيضةٍ مُحَّتانِ ثمَّ سخِّنت وحُضنت فخرَجَ من كلِّ بيضة فَرُّوجان ما خلا البيضَ الذي كان فاسداً في الأصل وقد يخرج من البَيضة فَرُّوجان ويكون أحدُهما أعظمَ جثَّةً وكذلك الحمام وما أقَلَّ ما يغادر الحمامُ أن يكون أحدُ الفرْخَيْنِ ذكَراً والآخر أنثى .
معارف في البيض قال : وربَّما باضتْ الحمامةُ وأشباهها من الفَواخِتِ ثَلاث بيضات فأمَّا الأُطرُغلاَّت والفَواخت فإنها تبيض بيضَتينِ وربّما باضتْ ثَلاثَ

بيضات ولكنْ لا يخرُجُ منها أكثرُ من فرخين وربّما كان واحداً فقط .
قال : وبعض الطير لايبيض إلاّ بعدَ مُرُورِ الحَوْلِ عليه كَامَلاً والحمامةُ في أكثر أمْرها يكونُ أحدُ فَرخَيها ذكراً والآخر أنثى وهي تبيضُ أوّلاً البيضةَ التي فيها الذَّكر ثمّ تقيم يوماً وليلةً ثمَّ تبيض الأخرى وتحضُنُ ما بينَ السَّبْعةَ عشَرَ يوماً إلى العشرين على قدْر اختلاَفِ طباع الزَّمان والذي قال : وأمّا جميعُ أجناسِ الطيرِ ممّا يأكل اللّّحمَ فلم يظهْر لنا أنَّه يبيضُ ويُفرخ أكثرَ من مرَّة واحدة مَا خلا الخُطّاف فإنَّه يبيض مرَّتين .
تربية الطيور فراخها والعُقابُ تبيضُ ثلاث بيضات فَيَخْرُج لها فرْخان واختلفوا فقال بعضهم : لأنها لا تحضُن إلاَّ بَيضتين وقال آخرون : قد تحضُنْ وَيخرج

لها ثلاثَةُ أفراخ ولكنَّها ترمي بواحدٍ استثقالاً للتكسُّب على ثَلاثة وقال آخرون : ليس ذلك إلاّ بما يعتريها من الضعفِ عن الصّيد كما يعتري النُّفساء )
من الوهْن والضّعف وقال آخرون : العُقاب طائر سيّء الخلق رديءُ التَّربية وليس يُستعانُ على تربية الأولاد إلاَّ بالصَّبْر وقال آخرون : لا ولكنّها شديدةُ النَّهم والشَّرَهِ وإذا لم تكنْ أمُّ الفِراخِ ذاتَ أثرَةٍ لها ضاعت .
وكذلك قالوا في العَقعقَ عند إضاعتها لفراخها حتى قالوا : أحمقُ من عَقْعَقَ كما قالوا : أحذَر من عقْعقَ .
وقالوا : وأمّا الفَرخ الذي يُخرجه العُقاب فإنّ المكلَّفَةَ وهي طائرٌ يقال لها كاسِر العِظام تقبلُه وتربِّيه .
والعُقاب تحضن ثلاثين يوماً وكذلك كلُّ طائرٍ عظيم الجثَّة مثل الإوزّ وأشباهِ ذلك فأمَّا الوسط

والحدأة تبيضُ بيضتين وربّما باضتْ ثلاث بيضات وخرَج منهن ثلاثة فِراخ .
قالوا : وأما العقبان السُّودُ الألوان فإنَّها تربّي وتحضن .
وجميع الطير المعقَّف المخالب تطردُ فراخها من أعشاشها عندَ قوَّتها على الطَّيران وكذلك سائر الأصنافِ منَ الطيرِ فإنَّها تطردُ الفِراخ ثمَّ لا تعرفُها ما عدا الغداف فإنها لا تزالُ لولدها قابلة ولحالِهِ متفقِّدة .
أجناس العقبان وقال قوم : إن العِقبانَ والبُزاة التَّامّة والجهارْرَانك والسُّمنان

والزَّمامجِ والزَّرارقة إنها كلّها عِقْبان وأمَّا الشّواهينُ والصُّقورةَ واليَوايئ فإنها أجناسٌ أخر .
حضن الطير قال : وقالوا : فراخ البزاة سمينة طَيِّبَةٌ جدّاً وأما الإوزة فإنها التي تحضن دونَ الذكر وأمّا الغِربانُ فعلى الإنَاث الحضن والذكورة تأتي الإنَاث بالطُّعمة .
وأمّا الحجَل فإنَّ الزّوج مِنها يهيّئان للبَيض عُشّى ن وثيقين

مقسومَين عليهما فيحضنُ أحدُهُمَا الذَّكَرَ والآخرَ الأنثى وكذلك هُمَا في التَّربية وكلُّ واحدٍ منهما يعيشُ خمساً وعِشرين سنة ولا تلْقَحُ الأنثى بالبيض ولا يُلِقحُ الذكرُ إلاَّ بعدَ ثلاثِ سنين .
قال : وأمَّا الطّاوس فأوّل ما تبيضُ ثماني بيضات وتبيض أيضاً بيضَ الريح والطاوس يُلقي ريشَه في زَمن الخَريف إذا بدَا أوّلُ ورقِ الشَّجر يسقُطُ وإذا بدأ الشَّجرُ يكتسي ورقاً بدأ الطاوس فاكتسى ريشاً . )


ما ليس له عشٌّ من الطير قال : وما كان من الطّير الثَّقيل الجثَّة فليس يهيئ لبيضهِ عُشاً من أجْل أنَّه لا يُجيد الطَّيرَان ويثقل عليه النهوض ولا يتحَلَّق مثل الدُّرَّاج والقَبَجَ وإنما يبيض على التُراب وفراخ هذه الأجناس كفراريج الدَّجاج وكذلك فراريج البطِّ الصِّيني فإنَّ هذه كلَّها تخرُج من البيض كاسية كاسبة تلقط من ساعتها وتَكفي نفسها .
القبجة قال : وإذا دنا الصَّيّاد من عُشِّ القبجة ولَها فراخٌ مرَّتْ بينَ يدَيهِ مَراً غيرَ مفُيت وأطمعتْه في نفسها ليتبعها فتمرُّ الفراخ في رجوعها إلى موضعِ عُشِّها والفراخ ليسَ معها من الهِداية ما مع

أمّها وعلى أنّ القَبَجَةَ سيِّئة الدَّلالةِ والهداية وكذلك كلُّ طائر يعجَّلُ له الكَيْس والكسْوة ويعجَّل له الكَسْبُ في صغره .
وهذا إنَّما اعتراها لقَرابةِ ما بينَها وبين الدِّيك .
قال : فإذا أمعن الصَّائد خلْفها وقد خرجت الفراخ من موضَعِها طارت وقد نحَّتْه إلى حيثُ لا يَهتدي الرُّجوع منه إلى موضع عشِّها فإذا سقَطَتْ قريباً دعتْها بأصواتٍ لها حتَّى يجتمعْنَ إليها .
قال : وإناثُ القَبَجْ تبيض خَمْسَ عشْرَةَ بيضة إلى ستَّ عشرةَ بيضة قال : والقبج طيرٌ منكرٌ وهي تفرُّ ببَيضها من الذَّكر لأنَّ الأنثى تشتغل بالحضْن عن طاعة الذَّكر في طلب السِّفاد والقَبَج الذَّكَرُ يوصَفُ بالقوّة على السِّفاد كما يوصف الدِّيكُ والحجَلُ والعُصفور .
قال : فإذا شُغِلَت عنه بالحضْن ظلبَ مواضعَ بيضها حتى يفسِدَهُ فلذلك ترتاد الأنثى عشَّها في مَخَابِئَ إذا أحسَّت بوقْتِ البيض .
وثوب الذكورة على الذكورة وإذا قاتل بعضُ ذُكورةِ القَبَج بَعضاً فالمغلوبُ منها مسفودٌ والغالبُ

سافد وهذا العرض يعرِضُ للدِّيكة ولذكور الدَّراريج فإذا دَخَل بين الدِّيَكةِ ديكٌ غريب فمَا أكثَرَ ما تجتمع عليه حتَّى تسفَدَه وسفادُ ذُكورة هذه الأجناسِ إنما يعرض لها لهذه الأسباب فأمَّا ذُكورةُ الحَمير والخَنازيرِ والحمامِ فإنّ ذُكورَها تثِبُ على بعضٍ مِن جهة الشَّهوة . )
وكان عند يعقوبَ بن صباح الأشعثيِّ هِرّان ضخْمان أحدُهُما يكومُ الآخَر متى أرادهُ مِنْ غيرِ إكراهٍ ومِن غيرِ أن يكونَ المسْفودُ يريدُ من السَّافِد مِثلَ ما يريدُ منه السَّافد وهذا البابُ شائعٌ في كثير من الأَجناس إلاَّ أنَّه في هذه الأَجناس أوْجَد . ( صيد البُزاة للحمام ) ثمَّ رجَع بنا القَولُ إلى ذِكر الحمام من غير أن يشاب بذكر غيره .


زعم صاحبُ المنطق أنَّ البُزاةُ عشرة أجناس فمنها ما يضرِب الحمامة والحمامة جاثمة ومنها ما لا يضرب الحمامَ إلاّ وهو يطير ومنها ما لا يضرب الحمام في حال طَيَرَانِهِ ولا في حال جثومهِ ولا يعرض له إلاَّ أنْ يجده في بَعْض الأغْصان أو على بعض الأنشازِ والأشجار فعدَّد أجناسَ صيدِها ثمَّ ذكرَ أنَّ الحمامَ لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازيَ في الهواء أيُّ البُزَاةِ هُو وأَيُّ نوعٍ صًيدُه فيخالف ذلك ولمعرفة الحمامِ بذلك من البازي أشكال : أوَّلَ ذلك أنّ الحمامَ في أوَّلِ نُهوضِه يفصلُ بينَ النَّسر والعُقاب وبينَ الرّخمةِ والبازي وبينَ الغُرابِ والصَّقر فهوَ يَرَى الكرْكيَّ والطَّبرزين ولا يستوحِشُ منهما ويرى الزُّرَّق فيتضاءل فإنْ رأى الشّاهينَ فَقَدْ رأى السّمَّ الذعاف الناقِع .
والنَّعجة ترى الفِيلَ والزَّنْدَبِيلَ والجاموسَ والبعير فلا يهزُّها ذلك وترى السَّبع وهي لم تره قبل ذلك وَعضوُ من أعضاء تلك البهائم أعظمُ

وهي أهولُ في العين وأشنعُ ثمَّ ترى الأسَدَ فتخافه وكذلك البَبْر والنمر فإن رأت الذئب وحده اعتراها منه وحْدَهُ مثلُ ما اعتراها من تلك الأجناسِ لو كانت مجموعةً في مكانٍ واحد وليس ذلك عن تجرِبَةٍ ولا لأنّ منظرَه أشنعُ وأعظم وليسَ في ذلك عِلَّة إلاَّ ما طُبِعت عليه من تمييز الحيوان عندها فليس بمُسْتَنكَرٍ أنْ تَفْصِلَ الحمامة بينَ البازي والبازي كما فصلت بين البازي والكَرْكيِّ .
فإنْ زعمتَ أنَّها تعرف بالمخالب فمِنْقارُ الكرْكيِّ أشنع وأعظم وأَفظع وأطولُ وأعرض فأمَّا طَرَفُ منقار الأبغث فما كانَ كلُّ سنانٍ وإن كان مذرَّباً ليبلغه .

بلاهة الحمام وخرقه

قال صاحب الدِّيك : وكيفَ يكونُ للحمام من المعرفة والفِطنة ما تذكرون وقد جاء في الأثر : كُونُوا بُلْهاً كالحمام .
وقال صاحب الدِّيك : تقول العربُ : أخْرَق مِنْ حمامةٍ وممَّا يدل على ذلك قولُ عَبيدِ بنِ الأبرص : ( عَيُّوا بِأَمْرِهُمُ كما ** عَيَّتْ ببَيْضَتهَا الحَمَامهْ )

فإن كان عَبيدٌ إنما عَنَى حمامةً من حمامكم هذا الذي أنتم بِهِ تفْخَرُونَ فقد أكثرتم في ذكر تدبيرها لمواضعِ بَيضها وإحكامها لصَنعة عشاشها وأفاحيصها .
وإن قلتم : إنَّه إنما عَنَى بعضَ أجناسِ الحَمَام الوحشي والبَرّيّ فقد أخرجتمْ بعضَ الحَمَامِ مِنْ حُسْنِ التَّدْبير وعبيدٌ لم يُخصَّ حماماً دُونَ حمام .

رغبة عثمان في ذبح الحمام

وحدَّث أُسامةُ بن زيد قال : سمعتُ بعضَ أشْياخِنا منذُ زمانٍ يحدِّثُ أنَّ عثمانَ ابنَ عفَّانَ رضي اللّهُ تعالى عنه أراد أنْ يَذْبَحَ الحمَامَ ثمَّ قال : لولا أنّها أُمّةٌ من الأمم لأَمرت بذبحهن ولكنْ قُصُّوهنَّ فدلَّ بقوله : قُصُّوهنّ على أنَّها إنما تُذْبَحُ لرغبة مَنْ يتّخذُهنّ ويَلعبُ بهنَّ من الفِتْيانِ والأَحداثِ والشّطَّار وأصحابِ المراهَنة والقِمار والذين

يتشرَّفون على حُرَم الناس والجيران ويخْتَدِعُون بفراخ الحَمَامِ أولاد النَّاس ويرمون بالجُلاَهِقِ وما أكثر مَنْ قد فقأَ عيناً وهشَمَ أنْفاً وهتَمَ فَماً وهو لا يدري مَا يصنَع ولا يَقِفُ على مقدارِ مَا ركِبَ به القومَ ثم تذهب جِنايتُهُ هدَراً ويعودُ ذلك الدَّمُ مطلولاً بلا عقْل ولا قوَدٍ ولا قِصاص ولا أرْش إذْ كان صاحِبُه مجهولاً .
وعلى شبيهٍ بذلك كان عمرُ رضي اللّه عنه أمر بِذَبْحِ الدِّيَكة وأمرَ النبيُّ صلَّى اللّه عليه وسلَّم بقتْل الكلاب .
قالوا : ففيما ذكرنا دليلٌ على أنَّ أكْلَ لحومِ الكلابِ لم يكنْ مِنْ دينِهم ولا أخْلاقهِمْ ولا مِنْ دواعي شهواتهم ولولا ذلك لما جاء الأثرُ عن النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلم وعُمرَ وعُثمانَ رضي اللّه تعالى عنهما بِذَبْح الدِّيكةِ والحَمَامِ وقتْل الكلاب ولولا أنّ الأمرَ على ما قلنا لقالوا : اقتلوا الدُّيوكَ والحَمَامَ كما قال : اقتلوا الكلاب وفي تفريقهم بينها دليلٌ على افتراقِ الحالاَتِ عندَهم .


قال : حدَّثني أسامة بن زيد وإبراهيمُ بنُ أبي يحيى أنَّ عثمان شكَوْا إليه الحَمَامَ وأنّه قال : مَنْ )
أخَذَ منهنَّ شيئاً فهو له وقد علمْنا أنّ اللفظَ وإن كان قد وقَعَ على شِكاية الحَمام فإن المعنى إنَّما هو على شكايةِ أصحاب الحَمام لأنّه ليس في الحَمامِ مَعنىً يدعُو إلى شكايةٍ .
قال : وحدّثنا عُثمان قال : سُئل الحسنُ عن الحَمام الذي يصطاده النَّاس قال : لا تأكلْه فإنّه منْ أموال الناس فجعله مالاً ونَهَى عن أكْله بغير إذنِ أهله وكلُّ ما كان مالاً فيبيعُه حسَنٌ وابتياعُه حسن فكيفَ يجوزُ لشيء هذه صفته أنْ يُذبح إلاَّ أن يكون ذلك على طريق العِقاب والزَّجْرِ لمن اتَّخذَه لما لا يحلّ .
قال : ورووا عن الزُّهري عن سعيدِ بن المسيَّب قال : نَهَى عُثمانُ عن اللعِبِ بالحَمَام وعن رمي ( أمْن حمام مكة وغِزْلانها ) والناس يقولون : آمَنُ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ ومِنْ غِزلان مكة وهذا شَائعٌ على جميع الألسنة لا يردُّ أحدٌ ممن يعرِفُ الأَمثَالَ والشّواهدَ قال عُقيبةُ الأَسديُّ لابن الزُّبير :

( ما زلتَ مذ حِججٍ بمكة محْرماً ** في حيثُ يأمَنُ طائرٌ وحَمامُ ) ( فَلَتَنْهَضَنّ العِيسُ تنفخُ في البُرَا ** يَجْتبْنَ عُرْض مَخارِمِ الأعلامِ ) ( أبنو المغيرةِ مثلُ آلِ خُويلدٍ ** يا لَلرّجال لِخِفّةِ الأحلام ) وقال النابغةُ في الغِزْلان وأمْنِهَا كقول جميع الشُّعراء في الحمام : ( والمؤمن العائذاتِ الطيرَ تمسَحُها ** رُكبانَ مَكّةَ بين الغِيلِ والسَّعَدِ ) ولو أنّ الظِّباء ابتُليْت مِمَّنْ يتَّخِذها بِمثل الذي ابتُليت به الحَمام ثمَّ ركبوا المسلمين في الغِزلان بمثل ما ركبوهم به في الحَمام لساروا في ذَبْحِ الغِزلان كسيرتهم في ذَبْحِ الحمام .
وقالوا : إنّه لَيبلُغُ مَن تعظيم الحَمام لحُرْمة البيتِِ الحرام أنّ أهلَ مكة يشهَدون عن آخرهم أنّهم لم يَرَوْا حَماماً قطُّ سقَطَ على ظهر الكعبة إلاَّ مِنْ

عِلةٍ عَرَضتْ له فإن كانت هذه المعرفة اكتساباً من الحَمام فالحَمامُ فوق جميعِ الطير وكلِّ ذي أربع وإن كان هذا إنَّما كان من طريقِ وقال الشّاعر في أمْن الحمَام : ( لقد علم القبائلُ أنّ بَيْتي ** تفرَّعَ في الذّوائبِ والسَّنامِ ) ( وأنَّا نَحْنُ أولُ من تَبَنَّى ** بمكّتها البيوتَ معَ الحَمام ) وقال كثيِّر أو غيره من بني سهم في أمْن الحَمام : ( لَعَنَ اللّهُ مَنْ يَسُبُّ عليّاً ** وحُسَيْناً مِنْ سُوقَةٍ وإمامِ ) ( أَيُسَبُّ المطيَّبون جدوداً ** والكرامُ الأخوالِ والأعمامِ ) ( يأمن الظبي والحَمامُ ولا يأ ** مَنُ آلُ الرَّسولِ عِنْدَ المَقامِ ) ( رحمةُ اللّهِ والسَّلامُ عليهم ** كلما قامَ قائمٌ بسلامِ )

وذكر شأنَ ابنِ الزبير وشأنَ ابنِ الحنفيَّة فقال : ( ومن يَرَ هذا الشَّيخَ بِالخِيفِ من مِنى ** مِنَ النَّاس يَعْلمْ أنَّهُ غيرُ ظالم ) ( سَمِيُّ النبيِّ المصطفَى وابن عمِّهِ ** وفكَّاكُ أغْلالٍ ونفَّاعُ غارمِ ) ( أبَى فهو لا يشْرِي هُدى بضَلالةٍ ** ولا يتَّقِي في اللّه لوْمَةَ لائمِ ) ( ونحن بحَمْدِ اللّهِ نتلُو كتابَهُ ** حُلولاً بهذا الخَيْفِ خَيفِ المحَارِمِ ) ( بحيثُ الحَمَامُ آمناتٌ سواكنٌ ** وتَلْقَى العدُوَّ كالوَليِّ المسالمِ ) قال صاحب الحَمام : أمَّا العرب والأعرابُ والشُّعَراء فقد أطبقوا على أنّ الحَمَامَة هي التي كانت دليلَ نوحٍ ورائده وهي التي استجعَلَتْ

عليه الطّوْقَ الذي في عنقها وعند ذلك أعطاها اللّه تعالى تلك الحِلْية ومنَحَها تلك الزِّينة بدعاء نوحٍ عليه السلام حينَ رجعتْ إليه ومعها من الكرْم ما مَعها وفي رجليها من الطِّين والحَمْأة ما برجليها فعوِّضتْ من ذلك الطِّين خِضابَ الرِّجلين ومن حُسن الدَّلاَلَةِ والطَّاعةِ طَوْقَ العنق .

شعر في طوق الحمامة

وفي طوقها يقول الفرزدق : ( فمن يكُ خائفاً لأذاةِِ شِعري ** فقد أَمِنَ الهِجَاءَ بنو حَرَامِ ) ( هم قادُوا سفيهَهُم وخافُوا ** قلائِدَ مِثلَ أطواقِ الحمامِ ) وقال في ذلك بَكْر بن النَّطَّاح :

( إذا شئتُ غنَّتْني بِبَغدَادَ قَيْنَة ** وإن شئتُ غنَّاني الحَمَامُ المطوَّق ) ( لباسي الحسامُ أو إزارٌ مُعصفرٌ ** ودِرْعُ حديدٍ أو قميصٌ مخلَّق ) فذكر الطَّوق ووصَفها بالغِناءِ والإطراب وكذلك قال حُمَيد بن ثَور : ( وليستْ مِنَ اللائي يكونُ حديثَها ** أمَام بيوتِ الحيِّ إنّ وإنَّما ) ثمّ قال : ( وما هاج هذا الشّوقَ إلاَّ حمامةٌ ** دعَتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وتَرَنُّما )

( مطوّقةٌ خطْباء تصدَحَ كلما ** دنَا الصَّيفُ وانجاب الربيعَ فأنجما ) ثمّ قال بعد ذكر الطوق : ( إذا شئتُ غنَّتْنِي بأجزَاعِ بِيشَةٍ ** أو النَّخْلِ مِنْ تَثلِيثَ أو بيلملما ) ( عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤها ** فصيحاً ولم تَفْغَرْ بمنْطِقها فمَا ) ( ولم أرَ محزُوناً لهُ مِثلُ صوتِها ** ولا عَرَبيّاً شاقَهُ صوتُ أعجَما ) وقال في ذكر الطّوق وأنّ الحَمامةَ نَوّاحةٌ عبدُ اللّه بن أبي بكر وهو شهيد يوم الطائِف وهو صاحبٌ ابن صاحِب :

( فلم أرَ مثلِي طلّق اليومَ مثلها ** ولا مِثْلها في غير جرمٍ تطَلّقُ ) ( أعاتكُ لا أنْساكِ مَا هبَّتِ الصَّبَا ** وما نَاحَ قُمرِيُّ الحَمامِ المطوَّقُ ) وقال جَهْم بن خَلَف وذكرها بالنَّوح والغناء والطّوْق ودعوةِ نوح وهو قَوُلَهُ : ( وقد شاقني نَوْحُ قُمرِيةٍ ** طرُوبِِ العَشِيِّ هتوفِ الضُّحَى ) ( تَغَنَّتْ عَليهِ بلحنٍ لها ** يُهيِّج للصَّبِّ ما قدْ مَضى ) ( مطوَّقةٍ كُسِبتْ زِينةً ** بدعْوةِ نوحٍ لها إذ دَعَا ) ( فلم أرَ باكِيةً مِثلها ** تبكِّي وَدَمْعَتها لا تُرَى ) ( أضلّتْ فُرَيْخاً فَطَافَتْ لَهُ ** وقد عَلِقتْه حبالُ الرَّدَى ) ( فلما بدا اليأْسُ منهُ بَكَتْ ** عَليهِ وما ذا يردُّ البُكا ) ( وقد صادَهُ ضَرِمٌ مُلْحِمٌ ** خفوقُ الجَناحِ حَثِيثُ النَّجَا )

( حديد المخالِبِ عارِي الوَظِي ** فِ ضارٍ من الوُرْقِ فيه قنا ) ( تَرَى الطّيرَ والوحْش مِن خَوفه ** جوامزَ منه إذا ما اغتدى ) نزاع صاحب الدِّيك في الفخر بالطوق قال صاحب الديك : وأمَّا قوله : ( مطوّقَة كساها اللّه طوقاً ** ولم يخْصُصْ به طيراً سِواهَا ) كيف لم يخصُص بالأطواق غَيْرَ الحَمام والتَّدارِجُ أحقُّ بالأطواق وأحسنُ أطواقاً منها وهي في ذُكورتها أعمّ وعلى أنّه لم يصف بالطّوق الحَمامة التي فاخرتم بها الدِّيك لأنَّ الحَمامة ليست بمطوَّقة وإنما الأطواقُ لذكورة الوارشين وأشباه الوارشين من نوائح الطّير وهواتفِها ومغنِّياتها

( أعاتكَ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبَا ** وما ناحَ قُمرَيُّ الحمَامِ المطوَّقُ ) وقال الآخر : ( وقد شاقني نوحَ قمريةٍ ** طروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحى ) ووصفها فقال : ( مطوَّقةٍ كُسِيت زِينةً ** بدَعوةِ نوحٍ لها إذْ دَعا ) فإن زعمتم أنّ الحَمامَ والقمْرِيَّ واليمامَ والفواخِتَ والدَّبَاسِيَّ والشّفانِينَ والوارشين حمامٌ كلُّه قلنا : إنَّا نزعم أنّ ذكورةَ التَّدَارِجِ وذكورةَ القَبَج وذكورةَ الحجَلِ ديوكٌ كلها فإنْ كان ذلك كذلك فالفخْرُ بالطّوق نحن أولى به .
قال صاحب الحَمام : العرب تسمِّي هذه الأجناسَ كلها حماماً فجمعوها بالاسم العامّ وفرَّقوها بالاسم الخاص ورأينا صُورَها متشابهة وإن كانَ في الأجسامِ بعضُ الاختلافِ وفي الجُثَث بعض الائتلاف وكذلك المناقير ووجدناها تتشابه من طريق الزِّواج ومن طريقْ

الدُّعاء والغناء والنَّوح وكذلك هي في القدودِ وصُورِ الأعناق وقصب الريش وصِيغَة الرُّؤوس والأرجل والسُّوق والبَراثِنِ .
والأجناسُ التي عددتم ليس يجمعها اسمٌ ولا بلدةٌ ولا صورةٌ ولا زِواج وليس بين الدِّيَكة وبينَ )
تلك الذُّكورةِ نسبٌ إلاَّ أنّها من الطَّير الموصوفة بكَثْرةِ السِّفاد وأنَّ فِراخَها وفرارِيجها تخرُج من بيضها كاسية كاسبة والبطُّ طائرٌ مثقل وقد ينبغي أن تجعلوا فرخَ البطَّة فَرُّوجاً والأنثى دجاجةً والذَّكرَ دِيكاً ونحنُ نجد الحَمامَ ونجد الوراشين تتسافد وتتلاقح ويجيء منها الراعبيُّ والوردانيُّ ونجد الفَواخِت والقماريّ تتسافد وتتلاقح مع ما ذكرنا من التشابهُ في تلك الوجوه وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ بعضها مع بعْضٍ كالبُخْتِ والعراب ونتائج ما بينهما وكالبراذين والعِتاق وكلها خيلٌ وتلك كلها إبل وليس بين التَّدارج والقَبَج والحَجَلِ والدَّجاجِ هذه الأمورُ التي ذكرنا .
وعلى أنَّا قد وجدْنا الأطواقَ عامّةً في ذوات الأوضاحِ مِنَ الحَمام لأنَّ فيها من الألوان ولها من الشِّياتِ وأشكالِ وألوان الريش ما ليس لغيرها من الطَّير ولَو احْتجَجْنَا بالتَّسافُدِ دون التَّلاقُح لكان لقائل مقال ولكنَّا وجدنَاهَا تجمع الخَصلتين لأنَّا قدْ نجِدُ سُفهاء

النّاس ومن لا يتقَّذر من الناس والأحداث ومن تشتدُّ غلمته عند احتلامه ويَقِلُّ طرُوقُه وتطول عُزْبته كالمعْزِب من الرِّعاء فإنّ هذه الطَّبَقةَ من النّاس لم يَدَعُوا نَاقَةً ولا بقرَةً ولا شاةً ولا أتاناً ولا رَمَكةً ولا حِجْراً ولا كلبةً إلاَّ وقد وقعوا عليها .
ولَولاَ أَنَّ في نفوس النَّاس وشَهوَاتِهم ما يدعو إلى هذه القاذورة لَما وجدْتَ هذا العَمَلَ شائعاً في أهل هذه الصفة ولَوْ جمعتَهم لجمعتَ أكثرَ من أهلِ بغْدَادَ والبصرة ثم لم يُلقحْ واحد منهم شيئاً ولقد خبَّرني من إخواني من لا أتَّهمُ خَبَرَه أنّ مملوكاً كان لبعض أهل القَطيعة أعني قطيعة الربيع وكان ذلك المملوكُ يَكومُ بغلةً

وأنّها كانت تودق وتتلمّظ وأنّها في بعض تلك الوَقَعاتِ تأخَّرَتْ وهو موعبٌ فيها ذكرَه تطلبُ الزيادة فلم يَزَلْ المملوكُ يتأخّرُ وتتأخّرُ البغْلة حتَّى أسندتْه إلى زاويةٍ مِنْ زَوايا الإصطبل فَاضَّغَطتْه حتّى بَرَدَ فدخل بعضُ من دخل فرآه على تلك الحال فصاح بها فتنحّتْ وخرّ الغلام مَيِّتاً .
وأخبرني صديقٌ لي قال : بلغني عن بِرْذَوْنٍ لزُرْقان المتكَلِّم أنّهُ كان يدربخ للبغال والحَمير والبراذين حتى تكومَه قال : فأقبلت يوماً في ذلك الإصطبل فتناولت المجرفة فَوَضعَتُ رأس عودِ المِجْرَفَة على

مَرَاثِه وإنّه لأكْثَرُ مِنْ ذرَاعٍ ونصف وإنه لخَشِنٌ غليظٌ غير محكوك الرأس ولا ممَلّسهِ فدفعْته حتى بلغ أقصى العود وامتنع من الدُّخول ببدن المِجْرَفة فحلَفَ أنّه ما رآه تأطّرَ ولا انثنى .
قال صاحب الحمام : فهذا فرق ما بيننا وبينكم . )

ما وصف به الحمام من الإسعاد

. . )

وحسن الغناء والنوح

ونَذْكر ما وُصِف به الحمامُ من الإسعاد ومن حُسْن الغُناء والإطراب والنَّوح والشّجَا قال الحسن بن هانئ : ( إذا ثَنَتْه الغصون جلّلني ** فَينانُ مَا في أدِيمه جُوَبُ )

( تبيتُ في مأتمٍ حمائمه ** كما تُرِنُّ الفواقدُ السُّلُبُ ) ( يهبُّ شوقي وشوقهُنَّ معاً ** كأنّما يستخفُّنا طرب ) وقال آخر : ( لقد هَتَفتْ في جُنحِ لَيل حمامةٌ ** على فَنَنٍ وهناً وإنِّي لَنائمُ ) ( فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنّني ** لنفسي مما قد سَمِعتُ لَلائمُ ) ( كذبتُ وبيتِ اللّهِ لو كنتُ عاشقاً ** لما سَبَقَتْني بالبُكاءِ الحَمَائمُ ) وقال نصيب : ( ولو قَبْلَ مَبْكاها بَكَيتُ صبابَةً ** بسُعدي شَفيت النّفس قبلَ التندُّمِ ) ( ولكنْ بَكَتْ قَبلي فهيَّج لي البُكا ** بُكَاها فقلتُ الفَضلُ للْمُتَقَدِّمِ ) وقال أعرابي : ( عليكِ سَلامُ اللّه قاطعَة القُوى ** على أنَّ قَلبي للفِراق كليمُ )

( سقط : بيت الشعر ) ( قريح بتغريد الحمام إذا بكت ** وإن هب يوما للجنوب نسيم ) وقال المجنونُ أو غيره : ( ولو لم يَهجْني الرائحون لَهاجَني ** حمائمُ ورقٌ في الدِّيار وُقوعُ ) ( تجاوَبْنَ فاستبْكَيْنَ من كان ذا هوى ** نوائحُ لا تجري لهنَّ دُموعُ ) وقال الآخر : ( ألا يا سَيَالاتِ الدَّحائلِ باللِّوى ** عليكنَّ من بَين السَّيالِ سلامُ ) ( أرَى الوَحْشَ آجالاً إليكنَّ بالضحى ** لهنَ إلى أفيائكنَّ بُغامُ )

( وإنِّي لمجلوبٌ لي الشَّوقُ كلما ** تَرَنّمَ في أفنانكنَّ حَمامُ ) وقال عمرُو بن الوليد : ( حال مِنْ دونِ أنْ أحلَّ بهِ النَّأ ** يُ وصَرْفُ النَّوى وحَرْبٌ عقامُ ) ( فتبدَّلْتُ من مَسَاكِنِ قوْمي ** والقصور التي بها الآطام ) ( كلَّ قصرٍ مشَيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذراه الحَمامُ ) وقال آخر : ( ألا يا صَبَا نجدٍ متى هِجْتَ مِن نَجدِ ** فقد هاج لي مَسراكَ وجدًا علَى وَجد ) ( أَأن هَتَفتْ ورقاء في رَوْنقِ الضُّحى ** عَلَى غُصُنٍ غضِّ النَّبات مِن الرَّنْدِ )

( سقط : بيت الشعر ) ( بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ** جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدى ) ( وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنَا ** يُمَلُّ وأنّ النّأي يشفي مِنَ الْوَجْد ) ( بكلٍّ تَدَاوَينْا فلم يَشْفِ ما بنا ** عَلَى أنّ قُربَ الدَّارِ خيرٌ ُ من البُعْد )

أنساب الحمام

وقال صاحب الحَمام : للحمام مجاهيل ومعروفات وخارجيَّات ومنسوبات والذي يشتملُ عليه دواوينُ أصحب الحمام أكثرُ من كتب النَّسب التي تضاف إلى ابن الكلبيِّ والشّرقيِّ بن القطاميِّ وأبي اليقظان وأبي عُبيدة النحويِّ بل إلى دَغْفَلِ ابن حنظلة وابن لسان الحُمَّرَة بل إلى صُحارٍ العبديِّ وإلى أبي السَّطّاح اللّخميّ بل إلى النَّخّار

العذريِّ وصُبح الطائيِّ بل إلى مثْجور بن غيلان الضّبيّ وإلى سَطيح الذئبيّ بل ابن شرِيَّة الجُرْهميِّ وإلى زيد بن الكيِّس النَّمَريّ وإلى كلِّ نسَّابَةٍ راويَةٍ وكلِّ متفنن علاّمة .
ووصف الهذيل المازنيُّ مثنّى بن َ زُهير وحفظه لأنساب الحمام فقال : واللّه لهو أنسَب من سعيد بن المسيّب وقَتادة بن دِعامة للنَّاس بل هو أنسبُ من أبي بكر الصِّدِّيق رضي اللّه عنه لقد دخلت على رجلٍ

أعْرفَ بالأمَّهاتِ المنْجِبات من سُحَيم ابن حفص وأعرفَ بما دخَلها من الهُجْنةِ والإقراف من يُونسَ بنِ حبيب .
قال : وممَّا أشبَهَ فيه الحَمامُ النَّاسَ في الصّور والشَّمائلِ ورقّة الطباع وسُرعة القَبول والانقلاب أنّك إذا كنتَ صاحبَ فِراسةٍ فمرَّ بك رجالٌ بعضُهم كوفيٌّ وبعضهم بَصريٌ وبعضهُم شاميٌ ّ وبعضُم يمانيٌّ لم يَخْفَ عَليك أمُورهم في الصُّوَر والشمائِل والقُدودِ والنَّغم أيّهم بصريٌ ّ وَأيُّهم كوفيّ وأيّهم يمانيٌ ّ وَأيهم مدنيٌّ وكذلك الحمام لا تَرَى صاحبَ حَمامٍ تخفى عليه نسب الحمام وجنسها وبلادُها إذا رآها .

مبلغ ثمن الحمام وغيره

وللحمام من الفضيلة والفخْر أن الحمام الواحدَ يباعُ بخسمائة دينار ولايبلغ ذلك بازٍ ولا شاهينٌ ولا صقرٌ ولا عُقاب ولا طاوس ولا تدْرَجٌ ولا ديكٌ ولا بعيرٌ ولا حمارٌ ولا بغلٌ ولو أردْنَا أن نحقِّقَ الخبرَ بأنَّ برذوناً أو فرَسَاً بيع بخمسمائة دينار لما قدَرْنا عليه إلاّ في حديث السَّمَر .
وأنت إذا أردْتَ أن تتعرَّف مبلغ ثمنِ الحمام الذي جاء من الغايَةِ ثمَّ دخلْتَ بغدادَ والبصرة وجدْت ذلك بلا معاناة وفيه أنَّ الحمام إذا جاء من الغاية بيع الفَرخُ الذَّكرُ من فراخ بعشرين ديناراً أو أكثر وبيعَت الأنثى بعشرة دَنَانير أو أكثر وبيعَت البيضة بخمسة دنانير فيقوم الزَّوج منها في الغَلَّةِ مقام ضيعة وحتى ينهَضَ بمؤْنَة العِيال ويَقضيَ الدَّين وتبنى من غلاّتِه وأثمانِ رقابهِ الدُّورُ الجياد وتبتاع الحوانيتُ المغِلَّة هذا وهي في ذلك الوقتِ مَلْهى عجيبٌ ومنظرٌ أنيق ومعتَبَرٌ لمنْ فكّر ودليلٌ لمن نظرَ .

عناية الناس بالحمام

ومن دخل الحَجَر ورأَى قصُورَها المبنيَّة لها بالشّامات وكيف اختزانُ تلك الغلاَّت وحفْظُ تلك المؤونات ومن شهد أربابَ الحمام وأصحابَ الهُدَّى وما يحتملون فيها من الكُلف الغِلاظِ أيَّامَ الزَّجْل في حملانها على ظهور الرِّجال وقبل ذلك في بُطون السفن وكيف تُفْرَدُ في البيوت وتجمع إذا كان الجمع أمثل وتفرَّقُ إذا كانت التَّفرِقَةُ أمثل وكيف تُنقلُ الإنَاثُ عن ذُكورتِها وكيفَ تنقَلُ الذُّكورَةُ عن إناثها إلى غيرها وكيف يُخافُ عليها الضَّوَى إذا تقاربت أنسابُها وكيف يُخاف على أعراقِها من دخول الخارجيّات فيها وكيف يحتاط في صحَّة طرْقها ونجْلها لأنَّهُ لاَ يُؤْمَن أن يقمُط الأنثى ذكرٌ من

عُرْضِ الحمام فيضربَ في النَّجلِ بنصيبٍ فتعتريه الهُجنة والبيضة عند ذلك تنسب إلى طَرْقها وهم لا يحوطون أرحام نسائهم كما يُحوطون أرحامَ المنْجِبات من إناثِ الحمام ومن شهد أصحاب الحمام عند زَجْلها من الغاية والذين يعلّمون الحمامَ كيف يختارون لصاحب العلامات وكيفَ يتخيَّرُون الثِّقة وموضعَ الصِّدقِ والأمانَةِ والبُعدِ من الكِذَب والرّشوة وكيفَ يتوخّوْن ذا التَّجربَة والمعرفة اللَّطيفة وكيف تسخو أنفسُهمْ بالجعالة الرَّفيعة وكيف يختارون لحملها من رجال الأمانةِ والجَلَدِ والشَّفَقَةِ والبَصَر وحُسْنِ المعرفَةِ لعَلم عند ذلك صاحب الدِّيك والكلب أنَّهما لا يجريان في هذه الحلبةِ ولا يتعاطيان هذه )
الفضيلة .

خصائص الحمام

قال : وللحمام من حسنِ الاهتداءِ وجودةِ الاستدلالِ وثَباتِ الحِفْظِ والذِّكرْ وقوّةِ النِّزاع إلى أربابه والإلف لوطنه ما ليس لشيء

وكفاك اهتداءً ونِزاعاً أن يكون طائرٌ من بهائم الطير يجيء من بَرْغَمَة لا بَلْ من العليق أو من خَرشنة أوْ من الصفصاف لاَ بَلْ من البَغْراس ومن لؤلؤة .
ثمَّ الدَّليلُ على أنَّه يَستدلُّ بالعقلِ والمعرفة والفِكرةِ والعناية أنَّه إنما يجيء من الغاية على تدريج وتَدْرِيبٍ وتنزيل والدليل عَلَى علم أربابه بأنّ تلك المقدَّمات قد نَجَعنَ فيه وعملن في طِباعه أنّهُ إذا بلغ الرَّقَّة غمَّروا بهِ بكَرّةٍ إلى الدَّرب وما فوقَ الدَّرْب من بلاد الرُّوم بل لا يجعلون ذلك

ولو كان الحمام ممَّا يُرسَل باللّيل لكان مِمَّا يستِدلُّ بالنُّجوم لأنّا رأيناه يلزَم بَطنَ الفُرات أو بطنَ دِجلة أو بُطونَ الأوديةِ التي قد مرَّ بها وهو يرى ويُبصِرُ ويفهَمُ انحدار الماء ويعلمُ بَعْدَ طولِ الجَوَلانِ و بَعْدَ الزِّجال إذا هو أشرف علَى الفرات أو دِجلة أنّ طرِيقَه وطريق الماء واحد وأنهُ ينبغي أن ينحدِر مَعهُ .
وما أكثرَ ما يستدلُّ بالجَوَادِّ من الطُّرُق إذا أعيتْهُ بطونُ الأودية فإذا لم يَدْرِ أمُصْعِدٌ أمْ مُنْحَدِرٌ تعَرَّفَ ذلك بالرِّيح ومواضعِ قُرْصِ الشمس في السماء وإنَّما يحتاج إلى ذلك كلِّه إذا لم يكُن وَقَعَ بعد على رسم يعمَلُ عليه فرَّبما كَرّ حين يزجل بهِ يميناً وشِمالاً وجنوباً وشَمالاً وصَباً ودَبُوراً الفرَاسِخَ الكثيرةَ وفوقَ الكثيرة .

( الغُمر والمجرّب من الحمام ) وفي الحمام الغُمْر والمجرّب وهم لا يُخاطِرون بالأغمار لوجهين : أحدهما أن يكون الغُمْر عريفاً فصاحبُه يضنُّ به فهو يريدُ أن يدرِّبه ويمرِّنَه ثمَّ يكلفه بعد الشيء الذي اتّخذه له وبسببه اصطنعه واتخذهُ وإمَّا أن يكونَ الغمْر مجهولاً فهو لا يتعنِّى ويُشقي نفسَه ويتوقَّعُ الهِِدَايَةَ من الأغمار المجاهيل .
وخَصلةٌ أخرى : أنّ المجهولَ إذا رَجَعَ مع الهدَّى المعروفاتِ فحملهُ معها إلى الغاية فجاء سابقاً لم يكنْ له كبير ثمنٍ حتَّى تتلاحق به الأولاد فإِنْ أنْجَبَ فيهنَّ صار أباً مذْكوراً وصار نَسَباً يرجَع إليه وزاد ذلك في ثمنه .


فأمَّا المجرَّب غير الغمر فهو الذي قد عرَّفوه الوُرودَ والتحَصُّب لأنّه متى لم يقدرْ عَلى أن ينقضّ حتَّى يشربَ الماء من بطون الأوديةِ والأنهار والغُدْران ومناقع المياه ولم يتحَصّب بطلب بُزورِ البراري وجاعَ وعطش التمسَ مواضعَ الناس وإذا مرَّ بالقرى والعُمْران سقط وإذا سقط أُخِذ بالبَايْكير

وبالقفَّاعة وبالمِلْقَفِ وبالتَّدْبيق وبالدُّشَاخِ ورمى أيضاً بالجُلاهِق وبغير ذلك من أسبابِ الصَّيد .
والحمام طائرٌ مُلقًّى غير مُوَقًّى وأعداؤه كثير وسباع الطّير تطلُبه أشدّ الطلب وقد يترفّع مع الشّاهين وهو للشاهين أخوَف فالحَمامُ

أطْيرَ منْهُ ومن جميعِ سباعِ الطير ولكِنَّهُ يُذْعرُ فيجهَلُ بابَ المَخْلَص ويعتريه ما يعتري الحمار من الأسدِ إذا رآه والشاةَ إذا رأت الذِّئب والفارة إذا رأت السِّنَّور .

سرعة طيران الحمام

والحمامُ أشدُّ طيراناً من جميع سباع الطير إلاَّ في انقضاض وانحدار فإنَّ تلك تنحطّ انحطاط الصخور و متى التقت أمَّةٌ من سباع الطَّير أوْ جُفالةٌ من بهائم الطير أو طِرْنَ عَلَى عَرَقةٍ وخيطِ ممدود فكلُّهَا يعتريها عند ذلك التَّقصير عما ما كانت عليه إذا طارت في غير جماعة

ولن ترى جماعة طير أكثرَ طيراناً إذا كَثُرْنَ من الحمام فإنّهُنّ كلما التففن وضاق موضعُهنَّ كان أشدّ لطيرانهنَّ وقد ذكر ذلك النَّابغة الذُّبيانيُّ في قوله : ( وَاحْكمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذ نَظَرتْ ** إلى حمامٍ شراعٍ واردِ الثَّمدِ ) ( يحفُّه جانبًا نِيقٍ ويَتْبَعُهُ ** مثلُ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمدِِ ) ( قالت : ألا لَيتما هذا الحمامُ لنا ** إلى حمامَتا ونِصْفُهُ فَقَدِ ) ( فحسَبوه فألفَوه كما حَسَبَتْ ** تِسعًا وتسْعينَ لم تنقُصْ ولم تزِدِ ) ( فكَمَّلت مائةً فيها حمامتُها ** وأسْرَعَتْ حَسْبَةً في ذلك العَدَدِ )

قال الأصمعيُّ : لما أراد مَديحَ الحاسب وسرعة إصابته شدَّدَ الأمرَ وضيَّقه عليه ليكون أحمدَ له إذا أصاب فجعَلَهُ حَزَر طيراً والطّيرُ أخفُّ من غيره ثمَّ جعله حماماً والحمامُ أسرع الطّيرِ وأكثرُها اجتهاداً في السرعة إذا كثر عددهنَّ وذلك أنّه يشتدُّ طيرانُهُ عند المسابقة والمنافسة وقال : يحفّه جانبا نِيقٍ ويتبعه فأراد أنّ الحمام إذا كان في مضيقٍ من الهواء كان أسرَعَ منه إذا

غايات الحمام

وصاحب الحَمام قد كان يدرِّب ويمرِّن ويُنزِل في الزِّجال والغايَة يومئذٍ واسط فكيف يصنَع اليومَ بتعريفه الطَّريق وتعريفهِ الوُرود والتحصُّب مع بُعد الغاية

ما يختار لِلزّجْل من الحَمام والبغداديون يختارون للزِّجال من الغايةِ الإناث والبصريّون يختارون الذُّكور فحجَّة البغداديّين أن الذَّكر إذا سافر وبَعُد عهده بقَمْط الإناث وتاقَتْ نفسُه إلى السِّفاد ورأى أنثاه في طريقه ترك الطَّلبَ إن كان بعُد في الجوَلان أو ترك السَّيرَ إن كان وقع على القَصْد ومالَ إلى الأنثى وفي ذلك الفسادُ كلُّه .
وقال البَصريُّ : الذَّكرُ أحنُّ إلى بيتِه لمكان أنثاه وهو أشدُّ متْناً وأقوى بدَناً وهو أحسنُ اهتداء فَنحنُ لا نَدع تقديمَ الشيء القائم إلى معنًى قد يعرضُ وقد لا يعرض .
نصيحة شدفويه في تربية الحَمام وسمعتُ شدفويه السلائحي من نحو خمسين سنة وهو يقول لعبد السلام بن أبي عمار : اجعل كعبة حمامك في صَحْن دارِك فإنَّ الحَمامَ إذا كان متَى خرج من بيته إلى المعلاة لم يصل إلى معلاتهِ إلاّ بجمع النَّفس والجناحين وبالنهوضِ ومكَابدَةِ الصعود اشتدَّ متْنُه وقويَ

جناحُه ولحمه ومتى أراد بيتَه فاحْتاج إلى أن ينتكس ويجيء منقضّاً كان أقوَى على الارتفاع في الهواءِ بعد أن يروى وقد تعلمون أَنَّ الباطنيِّين أشدّ متناً من الظاهريِّين وأنّ النِّقرِسَ لا يُصِيب الباطِنيَّ في رجله ليس ذلك إلاَّ لأنَّه يصعد إلى العلالي فوق الكَنادِيجِ درجةً بعد درجة وكذلك نزوله فلو درَّبتم الحَمامَ على هذا التّرتيب كانَ أصوب ولا يعجَبُني تَدْريب العاتق وما فوق العاتق إلاّ من الأماكنِ القريبة لأن العاتقَ كالفتاةِ العاتق وكالصبّي الغرير فهو لاَ يَعْدِمُه ضعفُ البدن وقلَّةُ المعرفة وسوء الإلف ولا يُعجبُني أن تتركوا الحمام حتّى

إذا صار في عدد المسانِّ واكتهل وولَدَ البطونَ بَعْدَ البطونِ وأخذ ذلك من قوَّةِ شبابهِ حملتموه على الزَّجْل وعلى التَّمْرين ثمَّ رميتم به أقصى غايةٍ لاَ ولكنَّ التَّدريب مع الشباب وانتهاء الحِدَّةِ وكمال القوَّةِ من قبل أن تأخذ القوّة في النُّقصان فهو يلقَّن بقربه من الحداثة ويُعرَّف بخروجه من حدِّ الحداثة فابتدِِئُوا به التّعليمَ والتمْرينَ في هذه المنزلة الوُسطى .
الوقت الملائم لتمرين فراخ الحمام وهُمْ إذا أرادوا أن يمرِّنوا الفراخَ أخرجُوها وهي جائعة حتى إذا ألقوا إليها الحبَّ أسرعت النزول ولا تُخْرَجُ والرِّيح عاصف فتخرج قبل المغربِ وانتصاف النهار وحُذّاقهم لا يخرجونها مع ذكورة الحمام فإنَّ الذُّكورة يعتريها النَّشاط والطَّيران والتَّباعُدُ ومجاوزة القبيلة فإن طارت الفِراخُ معها سقطتْ على دور الناس فرياضتها شديدة وتحتاج إلى معرفة وعنايَةٍ وإلى صبرٍ ومُطاوَلة لأنّ الذي يُراد منها إذا احتيج إليه بعد هذه المقدّمات كان أيضاً من العجَب العجيب .


حوار يعقوب بن داود مع رجل في اختيار الحمام وحدَّثني بعضُ من أثقُ به أنّ يَعقوبَ بن داود قال لبعض مَنْ دَخَلَ عليه وقد ذهب عنِّي اسمُه ونسيتُه بَعْدَ أَنْ كنْتُ عرفته : أَما تَرَى كيُ أخلَف ظنُّنا وأخطأ رأينُا حتّى عمَّ ذلك ولم يخصّ أما كان في جميع من اصطنعناه واخترناه وتفرَّسَنا فيه الخير وأردنَاه بِه واحدٌ تكفِينا معرفته مؤنَةَ الاحتجاج عنه حتَّى صرْتُ لا أقرّع إلاّ بهم ولاَ أعابُ إلاَّ باختيارهم قال : فقال له رجل إنّ الحمام يُختارُ من جهة النَّسَب ومن جهة الخِلْقة ثم لا يرضى له أربابُه بذلك حتى ترتِّبه وتنزِّلهُ وتُدَرِّجُه ثم تُحمَل الجماعةُ منه بعد ذلك التّرتيب والتَّدْرِيبِ إلى الغاية فيذهبُ الشَّطرُ ويرجعُ الشطر أو شبيهٌ بذلك أو قرِيبٌ من ذلك وأنتَ عَمدْتَ إلى حمامٍ لم تنظرْ في أَنْسابِها ولم تتأمَّلْ مَخيلة الخير في خلْقها ثمَّ لم ترْض حتى ضربْتَ بها بكَرَّةٍ واحدةٍ

إلى الغاية فليس بعَجَبٍ ولا مُنْكَرٍ ألاّ يرجعَ إليكَ واحدٌ منها وإنما كان العَجبُ في الرُّجوع فأمّا في الضّلال فليس في ذلك عجبٌ وعلى أنّه لو رجع منها واحدٌ أو أكثرُ من الواحدِ لكان خطؤك موفّراً عليك ولم ينتقصْهُ خطأُ من أخطأ لأنّه ليس من الصواب أن يجيء طائراً من الغايةِ على غير عِرْقٍ وعلى غير تدريب . ( كرم الحَمام . . ) ( الإلف والأنْس والنِّزاعُ والشّوق ) وذلك يَدُلُّ على ثبات العهد وحفْظِ ما ينبغي أن يُحفَظ وصوْنِ ما ينبغي أن يصان وإنه لخلق صِدْق في بني آدم فكيفَ إذا كان ذلك الخلقُ في بعض الطير . )
وقد قالوا : عمَّرَ اللّه البُلدان بحبِّ الأوطان .
قال ابن الزُّبير : ليس النَّاسُ بشيء مِنْ أقسامهم أقنَعَ منهم بأوطانهم .


وأخبر اللّه عزَّ وجلَّ عن طبائع النَّاس في حبِّ الأوطان فقال : قَالُوا وَمَا لنَا أَلاّ نقَاتِلَ في سَبيلِ اللّه وقدْ أُخْرِجْنَا من دِيَارِنَا وَأَبْنَائنَا وقال : ولَوْ أنّا كَتبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ما فَعَلوهُ إلاّ قَليلٌ منْهُمْ . ( وكنتُ فيهمْ كممْطُورٍ ببَلْدِتهِ ** فسُرَّ أَنْ جَمَعَ الأوْطَانَ والمطَرَا ) فتجدُهُ يُرْسَل منْ موضعٍ فيجيء ثمَّ يخرج من بيته إلى أضيق موضع وإلى رخام ونقان فيرسل من أبعد من ذلك فيجيء ثم يصنَع به مثلُ ذلك المرار الكثيرة ويزاد في الفراسخ ثم يَكون جزاؤه أن يغمَّر به من الرَّقّة إلى لؤلؤة فيجيء ويستَرَق من منزل

صاحبه فيقصُّ ويَغْبرُ هناك حولاً وأكثَرَ من الحول فحينَ ينبت جناحهُ يحنُّ إلى إلفه وينزع إلى وطنه وإن كان الموضع الثَّاني أنفعَ له وأنعمَ لباله فيَهبُ فضْلَ ما بينهما لموضعِ تربيته وسكنه كالإنسان الذي لو أصاب في غَير بلادِه الرِّيف لم يقعْ ذلك في قلبه وهو يعالجهم على أن يُعطَى عُشْرَ ما هو فيه في وطنه .
ثمَّ ربَّما باعه صاحبهُ فإذا وجد مَخْلَصاً رجع إليه حتَّى ربما فَعَلَ ذلك مِراراً وربَّما طار دَهْرَهُ وجالَ في البلادِ وألفَ الطّيران والتقلُّبَ في الهواء والنَّظَرَ إلى الدنيا فيبدو لصاحبه فيقصُّ جناحَه ويُلقِيه في ديماس فينبت جناحُهُ فلا يَذْهب عنه ولا يتغيَّر له نَعَمْ حَتَّى ربّما جَدَف وهو مقصوصٌ فإمَّا صار إليهِ وإمّا بلغَ عذراً .

قص جناح الحمام

ومتى قصَّ أحد جناحيه كان أعجزَ له عن الطّيران ومتى قصِّهما جميعاً كان أقوى له عليه ولكنهُ لا يبْعِد لأنّه إذا كان مقصوصاً من شِقٍّ واحدٍ اختلفَ خلقه ولم يعْتدل وزنه وصارَ أحدُهما هوائياً والآخرُ أرضياً فإذا قصّ الجناحان جميعاً طار وإن كان مقصوصاً فقد بلغ بذلك التعديل من جناحيه أكثر مما كان يبلغ بهما إذا كان أحدُهما وافياً والآخرُ مبتوراً .
فالكلبُ الذي تَدَّعون له الإلف وثبات العَهد لا يبلغُ هذا وصاحبُ الدِّيك الذي لايفخرُ للدِّيك بشيءٍ من الوفاء والحفاظ والإلف أحقُّ بألاّ يعرِض في هذا الباب .
قال : وقد يكون الإنسان شديدَ الحضْر فإذا قُطِعَتْ إحدى يديه فأراد العَدْو كان خطوهُ أقصر وكان عن ذلك القَصد والسَّننِ أَذهبَ وكانت غاَيةُ مجهوده أقربَ .


حديث نباتَةَ الأقطع وخبّرني كم شئتَ أنّ نباتَة الأَقطع وَكان منْ أَشِدَّاء الفتيان وكانت يدُه قطعت من دُوينِ المنكبِ وكان ذلك في شقِّه الأيسر فكان إذا صار إلى القتالِ وضرَبَ بسيفِه فإن أصاب الضَّريبةَ ثَبَتَ وإن أَخطأ سقطَ لوجههِ إذ لم يكنْ جَناحه الأيسر يُمسكه ويثقّله حتى يعْتَدلَ بَدَنُهُ .
أجنحة الملائكة وقد طعن قومٌ في أجنحة الملائكة وقد قال اللّه تعالى : الحَمْد للّه فاطرِ السَّموَاتِ والأرض جَاعلِ الْمَلاَئكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يشَاءُ . وزعموا أنَّ الجناحين كاليدين وإذا كان الجناح اثنين أو أرْبَعَة كانتْ معتدلة وإذا كانت ثلاَثة

كان صاحبُ الثَّلاثةِ كالجادِفُ من الطَّير الذي أحدُ جناحَيه مقصوص فلا يستطيع الطّى ران لعدم التعديل وإذا كان أحدُ جناحيه وافياً والآخرُ مقصوصاً اختلفَ خَلْقُه وصار بَعْضُه يذهب إلى أسفْلَ والآخر إلى فوق .
وقالوا : إنَّما الجناحُ مثل اليد ووجدنا الأيديَ والأرجل في جميع الحيوان لا تكون إلاَّ أزواجاً فلو جعلتمْ لكُلِّ واحدٍ منهم مائَة جَناحٍ لم نُنْكِرْ ذلك وإن جعلتموها أنقصَ بواحدٍ أو أكثرَ بواحدٍ لم نجوِّزه .
قيل لهم : قد رأينا من ذوات الأربع ما ليسَ له قَرن ورأينا ما له قرْنَان أملسان ورأينا ما له )
قرنان لهما شُعَبٌ في مقاديم القرون ورأينا بعضَها جُمّاً ولأخَواتِها قرون ورأينا منها ما لا يقال لها جُمٌّ لأنَّها ليست لها شكلُ ذواتِ القرون ورأينا لبعض الشاء عِدَّةَ قرون نَابتةٍ في عظم الرَّأس أزواجاً وأفراداً ورأينا قرُونًاً جُوفاً فيها قرون ورأينا قروناً لا قرونَ فيها ورأيناها مُصمََتَة ورأينا بعضَها يتصُل قَرْنُه في كلِّ سنة كما تسلخ الحيَّةُ جلدَها وتنفضُ الأشجارُ ورقها وهي قُرون الأيائلِ وقد زعموا أنَّ للحِمار الهنديِّ قرناً واحداً .


وقد رأينا طائراً شَديدَ الطيران بلا ريشٍ كالخُفاش ورأينا طائراً لايطير وهو وافي الجَناح ورأينا طائراً لا يمشي وهو الزَّرزور ونحن نُؤْمن بأنَّ جعفَراً الطَّيارَ ابنَ أبي طالب له جناحان يطير بهما في الجِنان جُعِلا له عوضاً من يديه اللتين قطعتا على لواء المسلمين في يوم مؤتة وغير ذلك من أعاجيب أصناف الخلق .
فقد يستقيم وهو سهلٌ جائزٌ شائع مفهوم ومعقول قريبٌ غير بعيد أن يكون إِذا وُضع طباع الطائر على هذا الوضع الذي تراه ألاّ يطير إلاّ بالأزواج فإذا وُضع على غير هذا الوَضع وركِّب غيرَ هذا التَّركيب صارت ثلاثة أجنحة وَفُوق تلك الطبيعة ولو كان الوَطواط في وضْعِ أخلاطه وأعضائه وامتزاجاته كسائر الطير لما طار بلا ريش .


الطير الدائم الطيران وقد زعم البَحْريّون أنّهم يعرفون طائراً لم يسقط قطّ وإنما يكون سقوطه من لدُنْ خروجهِ من بيضه إلى أن يتمَّ قصبُ ريشه ثم َّ يطير فليس له رِزق إلاّ من بعوض الهواء وأشباه البَعوض إلاّ أَنَّهُ قصيرُ العمر سريعُ الانحطام .
بقية الحديث في أجنحة الملائكة وليس بمستنكر أن يُمزَج الطائر ويُعْجَن غيرَ عجْنه الأوَّل فيعيش ضعفَ ذلك العُمر وقد يجوز أيضاً أنْ يكونَ موضعُ الجَناح الثالث بين الجَناحين فيكون الثالث للثاني كالثاني للأوّل وتكون كلُّ واحدةٍ من ريشةٍ عاملةً في التي تليها من ذلك الجسم فتستوي في القوى وفي الحِصص .


ولعَلَّ الجَناح الذي أنكره الملحدُ الضَّيِّقُ العَطَن أن يكونَ مركزُ قوادِمِهِ في حاقِّ الصُّلب .
ولعَلَّ ذلك الجناح أن تكون الريشة الأولى منه معينة للجنَاح الأيمن والثانية معينة للجناح الأيسر وهذا مما لايضيقُ عنه الوهم ولا يعجِز عنه الجواز .
فإذا كان ذلك ممكناً في معرفة العبد بما أعاره الربُّ جلّ وعزَّ كان ذلك في قدرة اللّه أجوز )
وما أكثر من يضيقُ صدرُه لقلَّة علمه .

أعضاء المشي لدى الحيوان والإنسان

وقد علموا أنَّ كلّ ذي أربعٍ فإنّه إذا مَشى قدّم إحدِى يديه ولا يجوز أن يستعمل اليَد الأخرى ويقدِّمها بَعْدَ الأولى حَتّى يستعمل الرِّجل المخالفة لتلك اليد : إنْ كانت اليدُ المتقدّمة اليمنى حرَّكَ الرِّجْلِ اليسرى وإذا حَرّك الرجل اليسرى لم يحرِّك الرِّجْل اليمنى وهو أقْرَبُ إليها وأشبه بها حَتَّى يحرِّك اليَدَ اليسرى وهذا كثير .


وفي طريقٍ أخرى فقد يقال : إنَّ كلَّ إنسانِ فإنما رُكْبَته في رِِجله وجميعَ ذوات الأربَع فإنَّما رُكبها في أيديها وكلُّ شيء ذي كفِّ وبَنان كالإنسان والقرد والأسد والضَّبّ والدُّب فكفُّه في يده والطَّائر كفّه في رجله .
استعمال الإنسان رجليه فيما يعمله في العادة بيديه وما رأيتُ أحداً ليس له يَدٌ إلاّ وهو يعمل برجليه ما كان يعمل بيديه وما أقف على شيء من عمل الأيدي إلاّ وأنا قد رأيتُ قوماً يتكلّفونه بأرجلهم .
ولقد رأيتُ واحداً منهم راهنَ على أن يُفرِغ برجليه ما في دَسْتيجة نبيذ في قنانيَّ رِطليَّات وفقَّاعِيّات فراهنوه وأزعجني أمرٌ فتركته عند ثقات لا أشك في خبرهم فزعموا أنّه وَفَى وزاد قلت :

قد عرَفتُ قولَكم وفى فما معنى قولكم زاد قالوا : هو أنّه لو صبَّ من رأس الدّستيجة حوالي أفواه القنانيّ كما يعجِز عن ضَبطه جميعُ أصحاب الكمال في الجوارح لما أنكرنا ذلك ولقد فرَّغ ما فيها في جميع القناني فَما ضيّعَ أوقيَّةً واحدة .
قيام بعض الناس بعمل دقيق في الظلام وخبَّرني الحزَاميُّ عن خليل أخيه أنّه متى شاء أن يَدْخُلَ في بيِت ليلاً بلا مصباح ويفرغ قربة في قنانيّ فلا يصبُّ إستاراً واحداً فعله .
ولو حكى لي الحزاميُّ هذا الصَّنيعَ عن رجل وُلِد أعمى أو عمي في صباه كان يعجبني منه أقلُّ فأمّا من تعوّد أن يفعل مثل ذلك وهو يبصر فما أشدَّ عليه أن يفعله وهو مغمَض العينين فإن كان أخوه قد كان يقدر على ذلك إذا غمَّض عينيه فهو عندي عجب وإن كان يبصر في الظلمة فهو قد أشبه في هذا الوجه السِّنّورَ والفأر فإنَّ هذا عندي عجبٌ

آخر وغرائب الدُّنيا كثيرة عند كلّ من كان كلفاً بتَعرافها وكان له في العلم أصلٌ وكان بينه وبين التبَيُّنِ نَسَب . )
اختلاف أحوال الناس عند سماعهم للغرائب وأكثر الناس لا تجدّهم إلاَّ في حالتين : إمّا في حالِ إعراض عن التبيُّن وإهمال للنّفس وإمَّا في حالِ تكذيبٍ وإنكارٍ وتسرّع إلى أصحاب الاعتبار وتتبُّعِ الغرائب والرغبةِ في الفوائد ثمَّ يرى بعضهم أنَّ له بذلك التكذيب فضيلةً وأنّ ذلك بابٌ من التوقِّي وجنسٌ من استعظام الكذب وأنّه لم يكن كذلك إلاَّ من حاقِّ الرَّغبةِ في الصِّدقِ وبئس الشيء عادة الإقرار والقبول والحقُّ الذي أمر اللّه تعالى به ورغب فيه وحثَّ عليه أن ننكر من الخبر ضربين : أحدهما ما تناقَضَ واستحال والآخر ما امْتنع في الطِبيعة وخرج من طاقة الخلقة فإذا خرج الخبرُ من هذين البابين وجرى عليه حكم الجواز فالتدبير في ذلك التثبت

وأن يكون الحقُّ في ذلك هو ضالّتك والصِّدق هو بُغيتك كائناً ما كان وقَع منك بالموافقةِ أم وقع منك بالمكروه ومتى لم تعلم أَنّ ثوابَ الحقِّ وثمرَة الصِّدق أجدى عليك من تلك الموافقةِ لم تقَع على أن تعطِي التثبتَ حَقّه .
قال : وهم يصفون الرَّماد الذي بين الأثافيّ بالحمامةِ ويجعلون الأثافيَّ أظآراً لها للانحناء الذي في أعالي تلك الأحجار ولأنَّها كانت معطّفات عليها وحانيات على أولادها قال ذو الرُّمَّة : ( كأنَّ الحمامَ الوُرْقَ في الدَّارِ جَثَّمت ** على خَرِق بين الأثافي جَوازِلُه ) شبّه الرّماد بالفراخ قبل أن تنهض والجُثوم في الطير مثل الرُّبوض في الغنم وقال الشماخ : ( وإرثِ رَماد كالحمامة ماِثل ** ونُؤْيَينَ في مَظلومَتَيْنِ كُدَاهما )

وقال أبو حيَّة : ( مِنَ العَرَصاتِ غير مَخَدِّ نُؤْيٍ ** كباقي الوحْي خُطَّ على إمام ) وغيرِ خوالدٍ لُوِّحْن حَتى بهنَّ علامةٌ من غير شام ( كأنّ بها حمامَات ثَلاثاً ** مَثَلْنَ ولم يَطِرْنَ مَعَ الحمامِ ) وقال العَرْجي : ( ومَرْبط أفْرَاسٍ وخَيمٌ مُصَرَّعٌ ** وهابٍ كجُثْمانِ الحمامةِ هامِدُ ) وقال البَعِيث : ( وَيَسُفْعْ ثَوَيْنَ العَامَ والعَامَ قبْلَهُ ** وَسَحْق رَمادٍ كالنَّصيف من العصْبِ ) وقالوا في نوح الحمام قال جِران العَود : ( واستقبلوا وادِى اً نوحُ الحمامِ بِهِ ** كأنّه صوتُ أنباطٍ مَثاكيلِ )


وقالوا في ارتفاع مواضعِ بُيوتِها وأعشاشها وقال الأعشى : ( ألم تر أن العِرْض أصبَحَ بطنهُ ** خيلاً وزرعاً نابتاً وفَصافصا ) ( وذا شُرُفات يقصُر الطّرف دونَه ** تَرَى للحمام الورقِ فيه قرامصَا ) وقال عمرو بن الوليد : ( فتبدَّلتُ من مساكنِ قومي ** والقُصور التي بها الآطامُ ) ( كلَّ قصرٍ مشيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذُراه الحمامُ ) والحمام أيضاً ربما سكن أجْوَافَ الرَّكايا ولا يكون ذلك إلاّ لِلْوحشيِّ منها وفي البِير التي لا تُورد قال الشاعر : ( بدلو غير مُكرَبَةٍ أصابتْ ** حَماماً فِي مساكِنِه فَطَارَا ) يقول : استقى بِسُفرِته من هذه البئر ولم يستقِ بدَلوٍ وهذه بئر قد سكنها الحمام لأنّها لا تُورَدُ

وقال جهم بن خلف : ( وقد هاج شوقي أنْ تَغنَّت حمامةٌ ** مطوَّقةٌ ورقاء تصدَحُ في الفجر ) ( تغنَّتْ بلحنٍ فاستجابَت لصوتها ** نَوائحُ بالأصياف في فَنَنِ السِّدْر ) ( إذا فَترَتْ كرَّتْ بلحنٍ شجٍ لها ** يُهَيِّج للصَّبِّ الحزينِ جَوَى الصَّدْرِ ) ( دعتهُنَّ مِطرابُ العشيَّات والضُحى ** بصوتٍ يَهيجُ المستهامَ على الذِّكرِ ) ( فلم أرَ ذا وجد يزيدَ صبابةً ** عليها ولا ثكلِى تُبَكِّي على بِكْرِ ) ( فأسْعَدْنها بالنَّوح حتَّى كأنَّما ** شَرِبنَ سُلافًا من معتَّقة الخَمْرِ ) ( تجاوبْنَ لحنًا في الغُصونِ كأنَّها ** نوائحُ مَيْت يلتدِمْنَ لدى قبرِ ) ( بسُرَّةِ وادٍ من تَبَالة مُونِقٍ ** كسا جانبيه الطّلحُ واعتمَّ بالزَّهْرِ )

استطراد لغوي ويقال : هدر الحمام يهدِر قال : ويقال في الحمام الوحشي من القماريِّ والفواخت والدَّباسي وما أشبه ذلك : قد هدل يهدِل هدِيلاً فإذا طَرَّب قيل غرَّد يغرد تغريداً والتغريد يكون للحمام والإنسان وأصله من الطير .
وأمَّا أصحابنا فيقولون : إنّ الجمل يهدِر ولايكون باللام والحمام يهدل وربّما كان بالراء .
وبعضهم يزعُم أنّ الهديلَ من أسماء الحمام الذَّكر قال الرّاعي واسمه عبيد بن الحصين : ) ( كهداهِدٍ كَسَرَ الرُّماةُ جَناحَه ** يدعُو بقارِعَةِ الطَّرِيق هديلا ) وزعم الأصمعيُّ أنّ قوله : هتوفٌ تبكّي ساقَ حرٍّ إنَّما هو حكاية صوت وحشيِّ الطير من هذه النَّوَّاحات وبعضهم يزعم أنّ ساق حرّ هو الذكر وذهب إلى قول الطِّرمَّاح في تشبيه الرَّماد بالحمام فقال : ( بين أظآرٍ بمظلومةٍ ** كسَراةِ السّاقِ ساقِ الحمامِْ )

صفة فرس وقال آخر يصف فرساً : ( ينْجيه مِنْ مِثْلِ حمام الأغْلاَلْ ** رفعُ يدٍ عَجلَى ورِجل شملاَلْ ) تَظْمَأُ من تحتُ وتُروَي من عالْ الأغلال : جمع غَلَلٍ وهو الماء الذي يجري بين ظهرَي الشّجر قال : والمعنى أنّ الحمام إذا كان يريد الماء فهو أسرعُ لها وقوله : شِملال أيْ خفيفة .
ليس في الأرض جنسٌ يعتريه الأوضاح والشِّيات ويكون فيها المصْمَت والبهيمُ أكثرَ ألواناً و من أصناف التَّحَاسِين ما يكون في الحمام فمنها ما يكون أخضرَ مُصمُّتاً وأحمر مصمتاً وأسودَ

مصمتاً وأبيض مصمتاً وضروباً من ذلك كلها مصمتة إلاّ أنّ الهِدَايَةَ للخُضْرِ النُّمر فإذا ابيضَّ الحمام كالفقيع فمثله من النّاس الصَّقلابيُّ فإن الصَّقلابيَّ فطيرٌ خامٌ لم تُنْضِجْه الأرحام إذ كانت وإن اسودّ الحمامُ فإنما ذلك احتراقٌ ومجاوزة لحدِّ النُّضج ومثلُ سود الحمام من الناس الزِّنج فإن أرحامهم جاوزت حدَّ الإنضاح إلى الإحراق وشيَّطت الشّمس شُعورَهم فتقبَّضت .
والشّعر إذا أدنَيته من النَّار تجعَّد فإنْ زدْتَه تفَلفَل فإن زدتَه احترق .
وكما أنّ عقول سُودانِ النَّاس وحُمرانِهم دونَ عقول السُّمر كذلك بيضُ الحمام وسودُها دونَ الخُضْر في المعرفة والهدايَةِ .


استطراد لغوي وأصل الخضرة إنَّما هو لون الرَّيحان والبقولِ ثم جعلوا بعدُ الحديدَ أخضرَ والسماء خضراء حتّى سمَّوا بذلك الكُحْل واللّيل .
قال الشَّمَّاخ بنُ ضرار : ( ورُحْنَ رَواحاً مًنْ زَرُودَ فنازعت ** زُبالةَ جلباباً من الليل أخضرا )
وقال الرّاجز : ( حتَّى انتضاه الصُّبح من ليلٍ خَضِرْ ** مثل انتضاء البَطَلِ السَّيفَ الذّكَرْ ) نضو هوى بالٍ على نِضَوِ سَفَرْ وقال اللّه عزّ وجلّ : ومنْ دُونِهمَا جَنَّتانِ فَبأيِّ آلاء رَبِّكما تُكَذِّبَان مُدْهَامَّتَانِ قال : ويقال : إن العراقَ إنَّما سمِّي سواداً بلون السَّعَف الذي في النّخل ومائه .
والأسودان : الماء والتمر والأبيضان : الماء واللبن والماء أسودُ إذا كان مع التّمر وأبيض إذا كان مع اللّبن .


ويقولون : سُودُ البطون وحمْر الكُلى ويقولون : سود الأكباد يريدون العداوة وأن الأحقاد قد أحرقت أكبادَهم ويقال للحافر أسود البطن لأَن الحافر لا يكون في بطونها شحم .
ويقولون : نحن بخير ما رأينا سَواد فلان بين أظهرُنا يريدون شخصه وقالوا : بل يريدون ظلَّه .
فأمّا خضْرُ مُحارِب فإنما يريدون السُّود وكذلك : خُضْر غسَّان .
ولذلك قال الشاعِرُ : ( إنّ الخَضارمة الخضْر الذين غدَوْا ** أهْلَ البريصِ ثمانٍ منهمُ الحكمُ ) ومن هذا المعنى قول القرشي في مديح نفسِه :

( وأنا الأَخضَرُ مَنْ يَعْرِفني ** أخضَرُ الجلْدةِ في بَيْتِ العربْ ) وإذا قالوا : فلان أخضر القفا فإنما يعنون به أنّه قد ولدتْه سوداء وإذا قالوا : فلان أخضر البطْن فإنما يريدون أنّه حائك لأَنّ الحائك بطنَه لطول التزاقه بالخشبة التي يطوى عليها الثّوب يسودّ .
وكان سبب عداوة العَروضي لإبراهيم النَّظام أنّه كان يسمِّيه الأَخضرَ البطن والأسَود البطن فكان يكشِفُ بطنَه للناس يريدُ بذلك تكذيبَ أبي إسحاق حتى قال له إسماعيل بن غزْوان : إنَّما يريد أنَّك من أبناء الحاكة فعاداه لذلك .
استطراد لغوي فإذا قيل أخضر النَّواجذ فإنما يريدون أنّه من أهل القُرَى ممّن يأكل الكُرَّاث والبصل .
وإذا قيل للثّور : خاضب فإِنما يريدونَ أنّ البقل قدْ خَضَب أظلافه بالخضرة وإذا قيل للظليم : خاضب فإنما يَريدونَ حمرةَ وظيفيه

فإنهما يَحمرَّان في القيْظ وإذا قيل للرَّجل خاضب فإنَّما )
يريدون الحنَّاء فإذا كان خضابُه بغير الحِنَّاء قالوا : صَبَغ ولا يقال خضب .
ويقولون في شبيهٍ بالباب الأَوَّل : الأحمران : الذهب والزعفران والأبيضان : الماء واللَّبن والأسودان : الماء والتمر .
ويقولون : أهلَكَ النِّساء الأَحمران : الذَّهب والزّعفران وأهلَكَ النَّاسَ الأحامِر : الذهب والزعفران واللَّحم والخمر .
والجديدان : اللَّيل والنهار وهما الملوان .
والعصر : الدَّهر والعصران : صلاة الفَجْر وصلاة العشي والعصران : الغَداة والعَشِيُّ قال ( وأمطُله العَصْرَينِ حَتَّى يملَّني ** ويَرْضى بِنِصْفِ الدَّينِ والأنفُ رَاغِمُ )

ويقال : البائعان بالخيار وإنَّما هو البائع والمشتري فدخل المبتاع في البائع .
وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ دخلت الأمُّ في اسم الأبوَّة كأنهُمْ يَجمعُون على أنْبَهِ الاسميْنِ وكقولهم : ثبِيرَين والبَصرتَين وليس ذلك بالواجب وقَدْ قالوا : سيرَة العُمَرَين وأبو بكْرٍ فوقَ عمر قال الفرزْدَق : ( أخذْنَا بآفاقِ السَّماءِ عليكمُ ** لنا قَمرَاها والنُّجومُ الطَّوالعُ ) وأمَّا قولُ ذي الرُّمَّة : ( وليلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ ادَّرعتُه ** بأربْعةٍ والشخْصُ في العَينِ وَاحِدُ ) فإنهُ ليس يريدُ لونَ الجلباب ولكنّهُ يريد سُبوغه .


جواب أعرابيّ قال : وكذلك قول الأعرابيِّ حينَ قيل له : بأيِّ شيء تعرفُ حَملَ شاتِك قال : إذا استفاضَتْ خاصِرتها ودَجت شَعْرَتها فالدَّاجي هاهنا اللابس .
قال الأصمعي ومسعود بن فيد الفزاري : ألا تَرونَه يقول : كان ذلك وثَوبُ الإِسلامِ داجٍ وأما لفظ الأصمعيّ فإنّه قال : كان ذلك منذُ دَجَا الإسلام يعني أنّه أَلبس كلَّ شيء .
ثمَّ رجع بنا القول إلى ذكر شِياتِ الحمام .
وزعموا أنّ الأوضاحَ كلَّها ضعَف قليلها وكثيرها إلاّ أنَّ ذلك بالحِصَص على قدْر الكثرة والقلَّة كذلك هي في جميع الحيوانِ سواءٌ مستقبلُها ومستدْبرها وذلك ليس بالواجِبِ حتى لا يغادر شيئاً البتة لأنَّ الكَلْبةَ السَّلوقيَّةَ البيضاءَ أكرمُ وأصيَدُ وأصبَرُ من السَّوْدَاء . )
والبياضُ في النَّاسِ على ضروب : فالمعيب منه بياضُ المُغْرَب

والأشقَرُ والأحمرُ أقلُّ في الضّعف والفَسادِ إذا كان مشتقّاً من بَياضِ البَهَقِ والبَرَصِ والبَرَشِ والشيب .
والمغْرَبُ عند العرب لا خير فيه البتة والفقيع لا يُنجِب وليس عنده إلاّ حسنُ بياضه عند من اشتهى ذلك .
سوابق الخيل وزعم ابن سلاّم الجَمحيّ أنَّه لم يرَ قطُّ بلقاءَ ولا أبلق جاء سابقاً وقال الأصمعيّ : لم يسبق الحَلْبَة أهضَمُ قطُّ لأنهم يمدحون المُجْفَرَ من الخيل كما قال : ( خِيط على زَفرةٍ فَتَمَّ ولم ** يرجعْ إلى دِقّة وَلاَ هَضَمِ ) ويقولون : إنَّ الفرَس بعُنُقِه وبطْنه .
وخبّرني بعض أصحابنا أنَّه رأى فَرَساً للمأمون بَلقاء سبقتِ الحلبة وهذه نادرةٌ غريبة .

نظلفة الحمام ونفع ذرفه
والحمام طائر ألوفٌ مألوف ومحبَّب موصوفٌ بالنّظافة حتى إنّ ذرْقه لا يعاف ولا نتن له كسُلاَحِ الدَّجاج والدِّيَكة وقد يُعالج بذرْقه صاحبُ الحصاة والفلاّحون يجدون فيه أكثرَ المنافع والخبَّاز يُلقي الشيء منه في الخمير لينتفخَ العجينُ ويعظُمَ الرغيف ثمّ لا يستبينُ ذلك فيه ولذَرْقه غلاّتٌ يعرف ذلك أصحاب الحُجَر وهو يصلُحْ في بَعض وُجوهِ الدَّبْغ . ( الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب ) وقال صاحبُ الدِّيك : الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب وإن برَّ بزَعْمِكم ولدَ غيرِه وصنَعَ به كما يصنع بفرخه وذلك أنهما يحضُنان كلَّ بيض ويزُقّان كلَّ فرْخ وما ذاك منهما إلاّ في الفَرْط .
لؤم الحمام فأمَّا لؤمه فمن طرِيق الغَيرة فإنّه يرى بعينه الذّكَرَ الذي هو أضعف منه وهو يطرُدُ أنثاه ويكسَحُ بِذَنَبه حَولها ويتطوَّس لها

ويستميلها وهو يرى ذلك بعَينه ثمَّ لم نر قط ذكراً واثَبَ ذكراً عند مثلِ ذلك .
فإذا قلت : إنّه يشتدُّ عليه ويمنعه إذا جثَمت له وأراد أن يعلوَها فكلُّ ذكر وأنثى هنالك يفعل ذلك وليس ذلك من الذكر الغريب من طريق الغَيرة ولكنّه ضربٌ من البُخْل ومن النّفاسة وإذا لم يكن من ذكَرِها إلاّ مثلُ ما يكون من جميع الحمام عُلم أنّ ذلك منه ليس من طريق الغيرة وأنا رأيت النواهضَ تفعل ذلك وتقطع على الذَّكر بَعْدَ أن يعلُوَ على الأنثى .
قال : وأمَّا ما ذكرتم من أن الحمامَ معطوفٌ على فِراخه ما دامتْ محتاجةً إلى الزّقّ فإذا استغنَت نُزِعت منها الرحمةُ فليس ذلك كما قلتم الحمامُ طائِرٌ ليس له عهد وذلك أنّ الذّكرَ ربما كانت معه الأنثى السِّنينَ ثمَّ تُنقَلُ عنه وتُوارَى عنه شهراً واحداً ثم تظهر له مع زوجٍ أضْعَفَ منه فيراها طولَ دهْره وهي إلى جنب بيتِه وتماريده فكأنه لا يعرفها بعد معرفتها الدَّهرَ الطويل وإنما غابت عنه الأيَّامَ اليسيرةَ فليس يوجَّهُ ذلك الجهلُ الذي يُعامِل به فراخَهُ بعد أن كبِرَت إلاَّ على

الغباوة وسُوءِ الذِّكر وأنّ الفرْخ حين استوى ريشهُ وأشبَهَ غيرَه من الحمام جهِل الفصْل الذي بينهما .
فإن كان يعرف أنثاه وهو يجدُها مع ذكَرٍ ضعيف وهو مسلِّم لذلك وقانعٌ بِهِ وقليلُ الاكتراث به فهو من لؤمِ في أصل الطبيعة .
قسوة الحمام قال : وبابٌ آخر من لؤمه : القسوة وهي ألأمُ اللّؤم وذلك أن الذّكَر ربَّما كان في البيت طائرٌ ذكرٌ قد اشتدَّ ضعفهُ فينقُر رأسَه والآخرُ مستخذٍ له قد أمكَنَه من رأسِهِ خاضعاً له شديدَ الاستسلام لأمره فلا هو يرحمُه لضعْفِه وعجْزِه عنهُ ولا هو يرحَمُه لخضوعه ولا هو يملُّ وليس له عنده وِتر ثمّ ينقُر يافُوخَه حتى ينقُبَ عنهُ ثمَّ لا يزال ينقُر ذلك المكانَ بَعْدَ النّقْب حتى يُخرِجَ دِمَاغَهُ فيموتَ بين يَدَيْه .
فلو كان ممَّا يأكل اللَّحمَ واشتهى الدماغ كان ذلك له عذراً إذ لم يَعْدُ ما طَبَعَ اللّه عليه سِباعَ الطير .
فإذا رأينا من بعض بهائمِ الطيرِ من القَسوةِ ما لا نرى من سِباع الطير لم يكن لنا إلاّ أن نقضيَ عليهِ من اللؤم على حسب مباينته لشكل

البهيمة ويزيد في ذلك على ما في جوارح الطير من السَّبُعِية .
أقوال لصاحب الديك في الحمام وقال صاحب الديك : زعم أبو الأصبغ بن ربعيّ قال : كان رَوحٌ أبو همام صاحِب المعمّى عند مثنَّى ابن زهير فبينما هو يوماً وهو معهُ في السطح إذ جاء جماعةٌ فصعِدوا فلم يلبثْ أن جاء آخرون ثمَّ لم يلبَثْ أن جاء مثلهُمْ فأقبَلَ عليهم فقال : أيُّ شيءٍ جاء بكم وما الذي جَمَعكم اليوم قالوا : هذا اليومُ الذي يرجع فيهِ مَزَاجيلُ الحمامِ من الغايَةِ قال : ثمَّ ماذا قالوا : ثمَّ نَتَمَتَّعُ بالنَّظَر إليها ( التلهِّي بالحمام ) وقال مثنّى بنُ زهير ذاتَ يوم : ما تلَهَّى النّاسُ بشيءٍ مثل الحمام ولا وجدنا شيئاً مما يتخذه النّاس ويُلعَبُ بِهِ ويُلْهَى بِهِ يخرج من أبواب

الهزل إلى أبواب الجِدّ كالحمام وأبو إسحاق حاضر فغاظه ذلك وكظم على غيظه فلمَّا رأى مثَنَّى سكوته عن الردِّ عليه طمِع فيه فقال : يبلغُ واللّهِ مِنْ كرَم الحمامِ ووفائِه وثباتِ عهْدِه وحنينِه إلى أهله أنِّي ربّما قصَصتُ الطَّائر وبعد أنْ طار عِندي دهراً فمتى نبَتَ جَناحُه كنباته الأوَّل لم يَدْعُه سوءُ صنعِي إليه إلى الذَّهاب عنِّي ولربَّما بِعْتُه فيقصُّه المبتاعُ حيناً فما هو إلاَّ أن يجدَ في جَناحِه قوَّةٍ على النُّهوض حتَّى أراه أتاني جادفاً أو غير جادف وربَّما فعلتُ ذلك به مراراً كثيرة كلَّ ذلك لا يزدَادُ إلاَّ وفاء .
قال أبو إسحاق : أمَّا أنت فأراكَ دائباً تحمَده وتذمُّ نَفْسَك ولئنْ كان رجوعُه إليك من الكرمِ إنّ إخراجَك له من اللُّؤم وما يُعجبني من الرِّجال مَنْ يَقْطَعْ نفسَه لصلةِ طائر وينسى ما عليه في جنبِ ما للبهيمة ثم قال : خبِّرني عنْكَ حين تقول : رجَعَ إليَّ مرَّةً بعدَ مرَّة وكلما زهِدْتُ فيه كان فيَّ أرغبَ وكلّما باعدْتُه كان لي أطْلَبَ إليكَ جاء وإليكَ حنَّ أمْ إلى عُشِّه الذي درَج منه وإلى وكْره الذي رُبِّي فيه أرأيت أنْ لو رجَعَ إلَى وكرِه وبيتِه ثمَّ لم يجدْك وألفاك غائباً أو ميِّتاً أكان يرجِعُ إلى موضعه الذي خلّفه وعلى أنّك تتعجَّب من هدايتِه وما لك فيه

مقالٌ غيره فأمَّا شكرُك على إرادته لك فقد تبيَّنَ خَطَاؤك فيه وإنما بقي الآن حسنُ الاهتداء والحنينُ إلى الوطن .

مشابهة هداية الحمام لهداية الرخم

وقد أجمعوا على أنَّ الرَّخَمَ من لئام الطير وبغاثها وليست من عِتاقها وأحْرارها وهي من قواطِع الطّير ومِنْ موضِع مَقْطَعها إلينا ثمَّ مرجِعِها إليه من عندنا أكثَرُ وأطوَل من مقدارِ أبعَدِ غايات حمامكم فإن كانتْ وقتَ خُروجها من أوطانها إلينا خرجتْ تقطَع الصَّحارى والبراريَّ والجزائرَ والغِياضَ والبِحارَ والجبالَ حتّى تصير إلينا في كلِّ عام فإن قلت إنّها ليستْ تخرج إلينا على سمْتٍ ولا على هِدايةٍ ولا دَلالةٍ ولا على أمارةٍ وعَلامة وإنما هَرَبت من الثُّلوج والبرْد الشديد وعلمت أنّها تحتاج إلى الطُّعْم وأنّ الثّلجَ قد ألبَس ذلك العالم فخرجتْ هاربة فلا تزالُ في هربها إلى أن تصادفَ أرضاً خِصْباً دفئاً فتقيم عندَ أدنى ما تجد فما تقولُ فيها عند رجوعها ومعرفِتها بانحسارِ الثلوج عن بلادها أليست قد اهتدت طرِيقَ الرُّجوع ومعلوم عند أهل تلك الأطراف وعند أصحاب التَّجارب

وعند القانص أنّ طَيْرَ كلِّ جهةٍ إذا قَطَعَتْ رَجَعت إلى بلادها وجبالها وأوكارها وإلى غياضها وأعشّتها فتجد هذه الصِّفة في جميع القواطع من الطَّير كرامها كلئامها وبهائمها كسباعها ثمَّ لا يكون اهتداؤها على تمرينٍ وتوطين ولا عن تدريبٍ وتجريبٍ ولم تلقّن بالتّعليم ولم تثبّتْ بالتّدبيرِ والتقويم فالقواطع لأنفسها تصير إلينا ولأنفسها تعودُ إلى أوكارها .
وكذلك الأوابد من الحمام لأنفسها ترجع وإلفُها للوطن إلفٌ مشترَكٌ مقسومٌ على جميع الطّير فقَدْ بَطَلَ جميعُ ما ذكرت .
قواطع السمك ثمّ قال : وأعجبُ من جميعِ قواطعِ الطّيرِ قواطعُ السَّمك كالأسبور والجُوَاف والبَرستُوج فإنَّ هذه الأنواعَ تأتي دِجلَة البصرةِ من

أقصى البحار تستعذبُ الماء في ذلك الإبَّان كأنها تتحمَّضُ بحلاوة الماء وعذوبَتِه بعدَ مُلوحةِ البحر كما تتحمَّض الإبلُ فتتطلب الحَمْضَ وهو ملحٌ بَعْدَ الخُلّة وهو ما حلا وعذب .
طلب الأسد للملح والأُسْدُ إذا أكثَرتْ مِنْ حَسْوِ الدِّماء والدِّماءُ حلوةٌ وأكْلِ اللّحْم واللّحمُ حلو طلبت المِلْحَ لتتملّحَ به وتجعلَه كالحمْض بعْدَ الخُلّة .
والأَسَدُ يخرج للتملُّح فَلاَ يزالُ يسيرُ حتّى يجِدَ مَلاَّحة وربَّما اعتادَ الأَسَدُ مكاناً فيجده ممنوعاً )
فلاَ يزالُ يقْطَعُ الفراسِخَ الكثيرَةَ بَعْدَ ذلك فإذا تملَّح رجع إلى موضعِهِ وغَيْضَتِه وعَرينِه وغابه وعِرِّيسته وإن كان الذي قَطَع خمسين فرسخاً .

مجيء قواطع السمك إلى البصرة
قواطع السمك ونحن بالبصرة نعرف الأَشْهُر التي يقبل إلينا فيها هذه الأَصناف وهي تقبلُ مرَّتين في كلِّ سنة ثمّ نجدُها في إحداهما أسمَنَ الجنس فيقيم كلُّ جنس منها عنْدَنا شهرَين إلى ثَلاَثة أشهُر فإذا مضى ذلك الأَجلُ وانقضتْ عِدّةُ ذلك الجنسِ أقْبل الجنسُ الآخر فهم في جميع أقسام شُهورِ السَّنَةِ من الشتاءِ والربيعِ والصَّيفِ والخريف في نوعٍ من السَّمك غَيرِ النّوع الآخَر إلاَّ أنْ البَرَسْتُوجَ يُقْبِل إلينا قاطعاً من بلاد الزِّنج يستعذب الماء من دِجلةِ البَصْرَةِ يعرفُ ذلك جميعُ الزِّنج والبَحْريّين .


ُبعْدُ بلاد الزِّنج والصِّين عن البصرة وهم يزعمون أنّ الذي بين البصرة والزِّنج أبعَدُ مما بين الصِّين وبينها .
وإنما غلط ناسٌ فزعموا أنّ الصِّين أبعد لأن بحرَ الزِّنج حفرةٌ واحِدة عميقَة واسعة وأمواجها عِظام ولذلك البَحْرِ ريحٌ تهبُّ من عُمانَ إلى جهة الزِّنج شهْرَين وريحٌ تَهُبُّ من بلاد الزِّنج تريدُ جِهَة عُمان شهْرين على مقْدَارٍ واحدٍ فيما بينَ الشِّدَّة واللِّين إلاّ أنّها إلى الشدِّةِ أقْرَب فلما كان البَحْرُ عميقاً والرِّيحُ قَوِيَّةً والأمْواجُ عظيمَة وكان الشِّراعُ لا يحطُّ وكان سيرهم مع الوَتَر ولم يكن مع القَوْس ولا يَعْرفون الخِبَّ والمكلأََّ صارت الأَيّامُ التي تسير فيها السُّفن إلى الزِّنْجِ أقل .


البرستُوج قال : والبَرَسْتوج سَمكٌ يقْطَعُ أمواجَ الماء وَيَسيح إلى البصرة مِنَ الزنْج ثم يَعُودُ ما فَضَلَ عنْ صيدِ الناس إلى بلاده وبحره وذلك أبْعَدُ ممّا بين البصرة إلى العليق المرارَ الكثيرة وهم لا يصيدون من البَحْر فيما بين البَصرة إلى الزنْج من البَرَسْتُوج شيئاً إلاَّ في إبانِ مَجيئها إلينا ورجوعِها عَنَّا وإِلاَّ فالبحر منها فارغٌ خالٍ . فَعامة الطيرِ أعجبُ من حمامكم وعامَّةُ السّمك أعجبُ من الطَّير .

هداية السمك والحمام

والطَّيرُ ذو جناحين يحلِّق في الهواء فله سُرعةُ الدَّرَك وبلوغ الغاية بالطيران وله إدراك العالم بما فيهِ بعلامات وأمارات إذا هو

حلَّق في الهواء وعلا فَوق كل شيء والسَّمكة تسبِّح في غَمْر البَحْر والماء ولا تسبِّح في أعلاه ونسيمُ الهواء الذي يعيشُ بهِ الطيرُ لو دامَ على السمَكِ ساعة وقال أبو العنبر : قال أبو نخيلة الراجز وذَكَرَ السمك : ( تغمُّه النشرَة والنسِيم ** فَلا يزال مُغرَقاً يَعُومُ ) ( في البَحر والبَحْرُ له تخميمُ ** وأمُّهُ الوَالدة الرؤومُ ) تَلهمهُ جهلاً وما يَرِيمُ

يقول : النشرَة والنسيم الذي يُحيي جَميعَ الحيواناتِ إذا طال عليه الخُمُومُ واللَّخَنُ والعَفَن والرُّطوباتُ الغليظة فذلك يغمُّ السَّمَك ويكرُبُه وأمُّه التي ولدته تأكله لأنّ السَّمكَ يأكلُ بعضُه بعضاً وهو في ذلك لاَ يرِيمُ هذا الموضع .
وقال رؤبة : ( والحوت لا يَكفِيه شيءٌ يَلْهَمُه ** يُصبِحُ عَطْشَانَ وفي الماءِ فَمُهْ ) يصف طباعَه واتِّصاله بالماء وأنَّه شديد الحاجةِ إليه وإن كان غَرِقاً فيه أبداً .


شعر في الهجاء وأنشدني محمَّدُ بنُ يسير لبعض المدنيِّين يهجُو رجلاً وهو قوله : ( لو رأى في السَّقفِ فرْجاً ** لنزَا حتَّى يموتَا ) ( أو رآهُ وَسْطَ بحرٍ ** صارَ فيه الدَّهرَ حُوتَا ) شعر في الضفدع وقال الذَّكواني وهو يصف الضِّفْدعَ : ( يُدخل في الأشْدَاق ماءً يَنصُفهّْ ** كَيمَا يَنقَّ والنّقِيقُ يُتْلِفهْ ) قال : يقول : الضِّفدع لا يصوِّت ولا يتهيَّأ له ذلك حتَّى يكون في فيه ماء وإذا أرادَ ذلك أدخل فكه الأسفلَ في الماءِ وترَك الأعلى حتى يبلُغَ الماءُ نِصفَه .


والمثل الذي يَتَمَثّلُ بِهِ النّاس : فلانٌ لا يستطيعُ أن يُجيبَ خُصومَه لأنّ فاهُ مَلآن ماءً وقال شاعرهُمْ : ) ( وما نسيت مكان الآمريكِ بذا ** يا مَنْ هوِيتُ ولكنْ في فمِي ماءُ ) وإنَّما جعلوا ذلك مثلاً حينَ وجَدُوا الإنسانَ إذا كان في فمه ماءٌ على الحقيقة لم يَسْتطع الكلام فهو تأويلُ قولِ الذَّكوانيِّ : يُدخِلُ في الأشداقِ ماءً يَنْصُفُه بفتح الياءِ وضمِّ الصَّاد فإنَّه ذهبَ إلى قول الشاعرِ : ( وكنتُ إذا جاري دَعا لمضُوفةٍ ** أشمِّر حتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي ) المضوفة : الأمر الذي يشفقُ منه .
فإنَّ الظَّنَّ يَنْصُفُ أو يزِيدُ وهذا ليس من الإنصاف الذي هو العَدْل وإنَّما هو من بلوغ نِصْف الساق .


وأمَّا قوله : كَيما ينقَّ والنَّقِيقُ يُتلِفهُ فإنه ذهَبَ إلى قول الشاعِر : ( ضفادِعُ في ظلماء ليل تجاوَبتْ ** فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتهَا حَيَّة البَحْرِ ) معرفة العرب والأعراب بالحيوان وقلَّ معنًى سَمِعناهُ في باب مَعْرفةِ الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتبِ الأطبَّاءِ والمتكلمين إِلاَّ ونحنُ قد وجدناه أو قريباً منهُ في أشعار العَرب والأعراب وَفي معرفةِ أهلِ لغَتنا ومِلّتنا ولولا أنْ يطولَ الكتابُ لذكرتُ ذلك أجمعَ وعلى أنِّي قد تركتُ تفسيرَ أشعارٍ كثيرة وشواهد عديدة مما لا يعرفه إلاَّ الرَّاويةُ النِّحرير مِنْ خوف التطويل .

حمام النساء وحمام الفراخ

وقال أفليمون صاحبُ الفِراسة : اجعل حمامَ النساء المسرْوَلاتِ العِظامَ الحِسانَ ذواتِ الاختيال والتَّبختر والهدير واجعل حمام الفِراخِ ذواتِ الأنساب الشريفة والأعراق الكريمة فإنّ الفراخَ إنَّما تكثُر عن حُسْن التعهُّد ونظافَةِ القرامِيص والبُروج واتَّخِذْ لهنَّ بيتاً محفوراً عَلَى خِلقة الصَّومَعة محفوفاً من أسفله إلى مقدارِ ثُلثَي حيطانِه بالتماريد ولتَكُنْ واسعةً وليكن بينها حَجاز وأجودُ ذلك أن تكونَ تماريدُها محفورةَ في الحائِطِ على ذلك المثال وتعهَّد البُرْج بالكنس والرَّشِّ في زمان الرش وليكن مخرجُهنَّ من كَوٍّ في أعلى

الصَّومعة وليكن مقتصداً في السِّعةِ والضِّيق بقدر ما يدخُل منه ويخرجُ منه الواحد بعد الواحد وإن استطعتَ أن يكونَ البيتُ بقُربِ مزرعةٍ فافعلْ فإنْ أعجزكَ المنسوبُ منها فالتمسْ ذلك بالفِراسةِ التي لا تخطئُ وقلَّما يُخطئُ المتفرِّس .
قال : وليس كلُّ الهُدَّى تَقْوَى على الرّجعة من حيثُ أرسِلتْ لأنَّ منها ما تفضل قوَّتهُ على هِدايته ومنها البطيء وإن كان قويّاً ومنها السَّريع وإن كان ضعيفاً على قدر الحنين والاغترام ولا بدَّ لجميعها من الصَّرامةِ ومن التّعليم أوَّلاً والتَّوطين آخِراً .

انتخاب الحمام

وقال : جِماع الفِرَاسةِ لاَ يَخرج من أربعة أوجه : أوَّلها التقطيع الثاني المجسَّة والثالث الشمائل والرابع الحركة .
فالتقطيع : انتصاب العنق والخِلْقة واستدارةُ الرأس من غير عِظَمٍ ولا صِغَر مع عظم القرطمتين واتِّساع المنخرين وانهرات الشدقين

وهذان مِنْ أعلامِ الكَرَم في الخيل للاسترواحِ وغير ذلك ثمّ حُسنُ خِلْقة العينين وقِصر المنقار في غير دِقّة ثمَّ اتّساعُ الصّدرِ وامتلاءُ الجؤجؤ وطولُ العُنق وإشراف المنكِبين وطول القوادمِ في غير إفراط ولحُوق بَعض الخوافي ببعض وصلابة العَصَبِ في غير انتفاخٍ ولا يُبس واجتماعُ الخلْق في غير الجعودة والكَزَازَةِ وعِظَمُ الفخذين وقِصرَ الساقين والوظِيفَين وافتراق الأصابع وقِصرَ الذَّنب وخِفَّته من غير تَفْنين وتفرُّق ثم تَوَقُّد الحَدَقتين وصفاء اللَّون فهذه أعلامُ الفِراسة في التقطيع .
وأمَّا أعلامُ المجسة فَوثَاقةُ الخلْق وشدَّة اللَّحم ومَتانَة العَصَب وصلاَبةُ القَصَب ولينُ الرِّيش في غيرِ رِقّةٍ وصَلابَة المِنقارِ في غيرِ دقة .
وأمَّا أعلامُ الشمائل فقلَّة الاخْتيال وصفاءُ البصر وثباتُ النَّظَر

وشدّة الحَذر وحسنُ التّلَفت )
وقلَّةَ الرعْدةِ عنْدَ الفزع وخفَّةُ النّهوض إذا طار وَترْكُ المبادرةِ إذا لَقَطَ .
وأمّا أعلام الحركةِ فالطيران في علوٍ ّ ومدُّ العُنق في سموٍّ وقلة الاضطراب في جوِّ السماءِ وضمُّ الجناحين في الهواء وتَدَافُعُ الركض في غير اختلاط وحُسْنُ القَصْد في غيرِ دَوَرَانٍ وشدَّةُ المدِّ في الطيران فإذا أصبتَه جَامعاً لهذه الخصال فهو الطائر الكامل وإلا فبقدر ما فيهِ من

أدواء الحمام وعلاجها

قال : فاعلموا أنَّ الحمامَ من الطيرِ الرقيق الذي تُسرِع إليهِ الآفة وتَعْرُوهُ الأدواءُ وطَبيعَتهُ الحَرارة واليُبْس وأكثرُ أدوائِه الخُنان والكباد والعُطاش والسل والقُمَّل فَهوَ يحتاجُ إلى المكانِ الباردِ

والنَّظيف وإلى الحبوبِ البارِِدَة كالعَدَس والماشِ والشّعير المنخول والقُرْطمُ له بمنزلة اللَّحم للإنسان لما فيه من قوّةِ الدَّسم .
فممَّا يُعالَجُ بِهِ الكبادُ : الزَّعفران والسكر الطبَرْزَد وماء الهِندباء يجعل في سُكرَّجة ثمَّ يُوجر ذلك أو يمجُّ في حلقه مجّاً وهو على الرِّيق .
وممَّا يعالَجُ به الخُنان : أنْ يليَّنَ لسانَه يوماً أو يومين بدُهْن البنفسج ثمَّ بالرَّمادِ والملحِ يُدْلَك بها حتَّى تنسلخ الجلدة العليا التي غشيت لسانَه ثمَّ يطلى بعَسل ودَهنِ ورد حتّى يبرأ .
وممَّا يعالج به السّلّ : أنْ يُطعَم الماشَ المقْشور ويمجَّ في حلْقه من اللَّبن الحليبِ ويُقطَعَ من وظيفَيْهِ عِرقان ظاهران في أسفل ذلك مما يلي المفصل من باطن .


وممَّا يعالَجُ بِهِ القُمَّل : أنْ يُطلى أصولُ ريشهِ بالزِّيبَق المحلّلِ بدُهن البنفسَج يفعل بِهِ ذلك مرَّاتِ حتى يسقُطَ قملُه ويُكْنَسَ مكانُهُ الذي يكون فيهِ كنساً نظيفاً .
وقال : اعلم أنَّ الحمامَ والطيرَ كلَّها لا يصلُح التَّغمير بهِ من البعْد وهدايته على قدْر التعليم وعلى قدر التوطين فأوَّل ذلك أن يخرج إلى ظهر سطحٍ يعلو عليه ويُنْصَبَ عليه علَمٌ يعرفُهُ ويكونَ طيرانُه لا يجاوز مَحَلَّتُه وأن يكون عَلَفُه بالغداة والعَشِيِّ يُلقَى له فوقَ ذلك السَّطْح قريباً من علَمِه المنصوبِ له حتَّى يألفَ المكانَ ويتعَّودَ الرُّجوعَ إليه ولكن

ليَنْظُرْ مِنْ أيِّ شيء يتّخذ العلمَ فإنّه لا ينبغي أنْ يكون أسودَ ولا يكون شيئاً تراه من البُعْدِ أسود وكلما كان أعظمَ كان أدلَّ .
ولا ينبغي أن يطيِّره وزوجتَه معاً ولكن يَنْتفُ أحدهُما ويطيِّر الآخر ويُخرَجان إلى السَّطح جميعاً ثمَّ يطيَّر الوافي الجناح فإنّه ينازِع إلى زوجتِه وإذا عرَف المكان ودَارَ ورَجع وألِفَ )
ذلك الموضع ونبتَ ريشُ الآخَرِ صُنع به كذلك .
وأجود من ذلك أن يُخرَجا إلى السَّطْح وهما مقصوصان حتّى يألفا ذلك الموضع ثمَّ يطيَّرَ أحدُهُما قبلَ صاحبه ويُصْنَعَ بالثّاني كما صنع بالأوّل .
وما أشبه قوله هذا بقول ماسرجويه فإنهُ وصفَ في كتابه طباعَ جميعِ الألبان وشُرْبَها للدَّواء فلمّا فرغَ من الصّفة قال : وقد وصفت لك حالَ الألبان في أنفسها ولكن انظُرْ إلى من يسقيك اللَّبن فإنَّكَ بدءاً تحتاجُ إلى تنظيف جوفك وتحتاج إلى مَن يعرفُ مقدارَ عِلَّتك من قدر اللّبن

4

حوار مع نجار

ومثلُ ذلك قول نجَّارٍ كان عندي دعوته لتعليقِ بابٍ ثمينٍ كريم فقلت له : إنّ إحكامَ تعليق الباب شديدٌ ولا يحسنه من مائِة نجَّارٍ نجارٌ واحد وقد يُذْكر بالحذْق في نِجارة السقُوف والقِباب وهو لا يكمُلُ لتعليق بابٍ على تمامِ الاحكام فيه والسقُوف والقِباب عند العامَّة أصعب .
ولهذا أمثال : فمن ذلك أنّ الغلام والجاريةَ يشوِيان الجَدْيَ والحملَ ويحكمان الشيّ وهما لا يُحكمانِ شيَّ جنبٍ ومَن لا عِلْم له يظنُّ أنَّ شيَّ البَعْض أَهونُ من شيَّ الجميع .
فقال لي : قد أحسنتَ حين أعلمْتَني أنّك تُبصِر العمل فإنَّ معرفتي بمعرفتك تمنعني من التشفيق فَعَلَّقه فأحكَمَ تَعليقَه ثمَّ لم يكنْ عندي حَلْقةٌ لوجه الباب إذا أردتُ إصفاقه فقلت له : أكره أن أحبسَك إلى

أن يذهب الغلامُ إلى السوق ويرجع ولكن اثقبْ لي موضعها فلما ثقَبهُ وأخذ حقّه ولاّني ظَهرَه للانصراف والتفت إليَّ فقال : قد جوّدتُ الثَّقب ولكن انظُرْ أيُّ نجارٍ يدُقُّ فيه الزِّرَّة فإنه إن أخطأ بضربة واحدة شقّ الباب والشق عيب فعلمتُ أنّهُ يفهَمُ صِناعتَهُ فهماً تَامّاً . ( قص الْحَمام ونتفه ) وبعض الناس إذا أراد أن يعلِّم زوجاً قصّهُما ولم ينْتِفْهما وبين النَّتفِ والقصِّ بَونٌ بَعيد والقصُّ كثير القصِّ لا يُوجعُ ولا يُقَرِّحُ مَغارِزَ قصب الرِّيش والنَّتْف يُوهن المنكِبين فإذا نُتِفَ الطائرُ مِراراً لم يقْوَ على الغاية ولم يزَلْ واهنَ المنكِبين ومتى أبطأ عليه فنتفهُ وقد جفّت أصولُه وقُربت من الطَّرح كان أهونَ عليهِ وكلما كان النباتُ أطرأ كان أضرَّ

عليه وإنه ليبلغَ من مضرَّته وأنّ الذّكَرَ لا يجيدُ الإلقاحَ والأنثى لا تُجيد القَبول وربّما نتفت الأنثى وقد احتشتْ بيضاً وقد قارَبت أن تبيضَ فتبطئُ بَعْدَ وقتها الأيّامَ ورُبما أضرَّ ذلك بالبيض . ( زجْل الحمام ) قال : وإذا بَلغ الثَّاني مبلغَ الأوَّلِ في استواءِ الرِّيش والاهتداء إلى العَلَم طيِّرا جميعاً ومُنِعا من الاستقرار إلاّ أن يظن بهما الإعياء والكلال ثم يُوَطَّنُ لهما المَرَاجِلُ برّاً وبحْراً من حيث يبصران إذا هما ارتفعا في الهواء السَّمتَ ونفْسَ العَلَم وأقاصيَ ما كانا يريانِه منها عند التَّباعد في الدّورَانِ والجَوَلان فإذا رَجَعا من ذلك المكانِ مَرَّاتٍ زُجِلا من أبعَدَ منه وقد كانوا مَرَّةً يعجبهم أن يزجُلوا من جميع التوطينات ما لم تبعدْ مرّتين مرَّتين فلا يزالان كذلك حتَّى يبلغا الغاية ويكون أحدهما محتبساً إذا أرسل صاحبه ليتذكّرَه فيرجعَ إليه فإنْ خيفَ عليه أن

يكون قد ملَّ زوجتَه عرِضت عليه زوجةٌ أخرى قبل الزَّجل فإذا تسنَّمَها مرَّة حِيلَ بينه وبينها يومَه ذلك ثمَّ عرضوها عليه قبل أنْ يُحمَل فإذا أطاف بها نُحِّيت عنهُ ثمَّ حُمِل إلى الزَّاجل فإنَّ ذلك أسرعَ له .
وقال : اعلموا أنَّ أشدَّ المَزَاجِلِ ما قلَّتْ أعلامُه كالصَّحارى والبِحار .
قال : والطير تختلفُ في الطّباع اختلافاً شديداً : فمنها القويُّ ومنها الضعيف ومنها البطيء ومنها السَّريع ومنها الذَّهولُ ومنها الذَّكورُ ومنها القليل الصَّبرِ على العطش ومنها الصَّبورُ وذلك لا يخفى فيهنَّ عند التَّعليمِ والتَّوطين في سرعة الإجابة والإبطاء فلا تبْعِدَنّ غايَةَ الضَّعيفِ والذَّهولِ والقَليلِ الصَّبر على العطش ولا تزجلنَّ ما كان منشؤه في بلا الحرِّ في بلاد البرد ولا ما كان منشؤه في بلاد البَرْد في بلاد الحرِّ إلاَّ ما كان بعد الاعتياد ولا يصبرُ على طول الطيران في غير هوائِه وأجوائه طائرٌ إلا بطولِ الإقامةِ في ذلك المكان ولا تستوي حاله وحالُ من لا يَعْدُو هَوَاءَه والهَوَاءَ الذي يقرُبُ من طِباع هوائه . )


تعليم الحمام ورود الماء قال : ولا بدَّ أن يُعلَّم الورودَ فإذا أرَدتَ به ذلك فأوْرِدْه العيونَ والغُدْرانَ والأنهارَ ثمَّ حُلْ بينه وبين النَّظِر إلى الماء حتى تكفَّ بصرَه بأصابِعِك عن جهة الماء واتِّساع المورد إلاَّ بقدْر ما كان يشربُ فيه من المساقي ثمَّ أوسِعْ له إذا عَبّ قليلاً بقدر ما لا يَرُوعه ذلك المنْظر وليكن ْمعطَّشاً فإنّه أجدرُ أن يشرَب تفعلُ به ذلك مراراً ثمَّ تفسحُ له المنْظَر أوّلاً أوَّلاً حتَّى لا يُنكِر ما هو فيه فلا تزالُ بِهِ حتَّى يعتادَ الشُّربَ بغَيرِ سترة .
استئناسه واستيحاشه قال : واعلم أنَّ الحمامَ الأهليَّ الذي عايشَ النّاسَ وشَرِب من المساقي ولَقَط في البيوت يختلُّ بالوَحدة ويَستَوحِش بالغُربة .


قال : واعلم أنّ الوحشيَّ يستأنِس والأهلي يستوحش .
قال : واعلم أنّه ينسى التّأديبَ إذا أُهمِلَ كما يتأدَّب بعد الإهمال .
ترتيب الزجْل وإذا زَجَلتَ فلا تُخَطْرف به من نصف الغاية إلى الغاية ولكن رتِّب ذلك فإِنّه ربّما اعتادَ المجيء من ذلك البُعد فمتى أرسلتَه من أقربَ منه تحيَّر وأرادَ أن يبتدئَ أمْرَه ابتداءً وهم اليومَ لا يفعلون ذلك لأنّه إذا بلغ الرَّقّة أو فوقَ ذلك شيئاً فقدْ صار عُقْدَةً وصار له ثمنٌ وغَلّة فهو لا يرى أن يُخاطر بشيءٍ له قدْر ولكنّه إن جاءَ من هِيتَ أُدْرِبَ به لأنّه إن ذهب لم يذهب شيءٌ له ثمن ولا طائرٌ له رياسة

وليس له اسم ولا ذِكر وإن جاء جاء شيء كبير وخطير وقال : لا ترسِل الزَّاقَّ حتى تستأنف به الرِّياضة ولا تَدَعْ ما تُعِدُّه للزِّجال أن يحصن بيضاً ولا يجثم عليه فإنّ ذلك ممّا ينقُضه ويُفَتِّحه ويعظم له رأسَه لأنّه عندَ ذلك يسمَن وتكثُر رطوبتُه فتقذِفُ الحرارة تلك الرُّطوبة الحادَّة العارضةَ إلى رأسه فإِن ثقَبَ البيضَ وزقَّ وحَضن احتجْت إلى تضميره واستئناف سياسِته ولكنْ إنْ بَدَا لكَ أن تستفرخه فانقُلْ بيضَهُ إلى غيره بَعْدَ أن تُعْلِمه بعلامةٍ تعرِفُه بها إذا انصَدَع .


علاج الحمام الفزع وإن أصاب الحمامَ أيضاً فَزَعٌ وذُعْرٌ عن طلب شيءِ من الجوارح له فإيَّاك أن تُعيدَه إلى الزَّجل حتّى ترضمه وتستفرخه فإن ذلك الذُّعْرَ لا يفارقُه ولا يسكن حتى تستأنفَ به التّوطين . )
طريقة استكثار الحمام وإنْ أردتَ أن تستكثرَ من الفِراخ فاعزِلِ الذُّكورةَ عن الإناث شهراً أو نحوَه حتى يصول بعضها على بعض ثم اجمعْ بينها فإنّ بيضها سيكثُر ويقلُّ سَقطهُ ومُرُوقه وكذلك كلُّ أرضٍ أثيرت وكذلك الحِيالُ لما كان من الحيوان حائلاً قال الأعشى : ( مِنْ سَرَاة الهِجَانِ صَلَّبَهَا العُ ** ضُّ ورَعْيُ الحِمَى وطُولُ الحِيَالِ )

وقال الحارث بن عبادٍ وجَعَل ذلك مثلاً : دث أفليمون عن نفع الحمام وقال أفليمون صاحب الفِراسة لصاحبه : وأنا محدِّثك عن نفَع الحمام بحديثٍ يزيدُك رغبة فيها : وذلك أنَّ مَلِكَينِ طلب أحدُهما مُلْكَ صاحبِهِ وكان المطلوبُ أكثرَ مالا وأقلَّ رجالاً وأخصب بلاداً وكانت بينهما مسافةٌ من الأرضِ بعيدة فلما بلغَه ذلك دعا خاصَّته فشاوَرَهُمْ في أمْره وشَكا إليهم خوفَه على مُلكه فقال له بعضهم : دامتْ لك أيُّها الملِكُ السلامةُ ووُقيتَ المكروه إنَّ الذي تاقَتْ له نفسك قد يُحتالُ له باليَسيرِ من الطمع وليسَ مِنْ شأنِ العاقلِ التَّغريرُ وليس بعد المُناجَزَة بقيّة والمناجزُ لا يدري لمن تكون الغَلَبة والتمسُّك بالثقةِ خيرٌ من الإقدام على الغَرر

وقال بعضهم : دامَ لك العزُّ ومُدّ لك في البقاء ليسَ في الذُّلِّ دَرَكٌ ولا في الرِّضا بالضيم بقيَّة فالرَّأيُ اتخاذ الحُصون وإذكاءُ العُيونِ والاستعدادُ للقتال فإنّ الموتَ في عزٍّ خيرٌ من الحياة في ذل .
وقال بعضهم : وُقِيتَ وكُفِيت وأُعطيتَ فَضْلَ المزيد الرَّأيُ طلب المصاهرة له والخِطْبة إليه فإِنّ الصهرَ سببُ أُلفةٍ تقعُ به الحُرْمةُ وتثبت بِهِ المودَّة وَيُحلُّ به صاحبُهُ المحلَّ الأدنى ومنْ حلَّ من صاحبه هذا المحلَّ لم يخلِّه مما عَراه ولم يمتنع من مناوأة من ناواه فالتمس خِلطَتهُ فإنّه ليسَ بَعْدَ الخِلطةِ عداوةٌ ولا مَع الشِّركة مبايَنة .
فقال لهم الملك : كلٌّ قد أشارَ برأيٍ ولكلٍّ مدَّة وأنا ناظِرٌ في قولِكم وباللّه العِصمة وبشكره تتمُّ النعمة وأظهَرَ الخِطبة إلى الملكِ الذي فَوقَه وأرسل رُسلاً وأهدى هدايا وأمَرَهُم بمصانعةِ جميع مَن يَصِل إليه ودسَّ رجالاً من ثقاتِه وأمَرهُم باتِّخاذ الحمام في بلاده وتَوطينِهِنَّ واتخذ أيضاً عندَ نفسه مِثلهنَّ فرفَّعهن من غايَةٍ إلى غاية فجعلَ هؤلاء يرسلون من بلاد صاحبهم وجعل مَن عندَ الملِكِ يرسلون من بلاد

الملك وأمرهمْ بمكاتَبتِه بخبرِ كلِّ يوم وتعليقِ الكتُب في )
أصولِ أجنحة الحمام فصار لا يخفى عليه شيءٌ من أمره وأطمعَه الْملِك في التزويج واستفردَهُ وطاولَه وتَابعَ بين الهدايا ودسَّ لحرسِه رجالاً يلاطفونَهمْ حتى صاروا يبيتون بأبوابه معهم فلمَّا كتبَ أصحابهُ إليه بغِرَّتهم وصل الخبر إليه من يومِه فسار إليه في جندٍ قد انتخبهم حتى إذا كان على ليلةٍ أو بَعْض ليلة أخذ بمجامع الطُّرُق ثم بيَّتَهُمْ ووثَبَ أصحابهُ من داخِل المدينةِ وهو وجنده من خارج ففَتحوا الأبوابَ وقَتَلوا المَلِك وأصبَحَ قد غَلَبَ على تلك المدينة وعلى تلك المملكة فَعظُمَ شأنُه وأعظَمتْه الملوك وذُكِر فيهم بالحزْم والكَيْد .
وإنما كان سبب ذلك كلِّه الحمام .


حديث آخر في نفع الحمام قال : وأحدِّثك عن الحمام أيضاً بحديثٍ آخر في أمر النساء والرِّجال وما يصابُ من اللَّذَّةِ فيهنَّ والصَّواب في معاملتهنَّ قال : وذلك أنَّ رجلاً أتَاني مرَّةً فَشَكا إليَّ حاله في فتاةٍ عُلِّقها فتزَوّجها وكات جاريةٌ غِرّاً حسناء وكانت بكراً ذاتَ عقلٍ وحياء وكانت غَريرةً فيما يحسِن النِّساءُ من استمالةِ أهواء الرِّجال ومِنْ أخْذِها بنصيبها من لذّة النساء فلما دخَلَ بها امتنعتْ عليه ودافعته عن نفسها فَزاولها بكلِّ ضربٍ كان يحسنُهُ من لَطفٍ وأدخل عليها مِن نسائه ونسائها مَنْ ظَنَّ أنَّها تقبَل منهنّ فأعيتْهُن حتى همَّ برفضها مع شدَّة وجْده بها فأتَاني فشكا ذلك إليَّ مرةً فأمرْته أن يُفْرِدها ويخلِّيَها من الناس فلا يَصِلَ إليها أحدٌ وأنْ يضْعفَ لها الكرامة في اللّطفِ والإقامة لما يُصلِحها من مَطعَم ومشرَبٍ ومَلبس وطيبٍ وغير ذلك مما تلهو به امرأةٌ وتُعجَبُ بِهِ وأنْ يجعَلَ خادِمَها أعجميَّةً لا تَفْهَم عنها وهي في ذلك عاقلة ولا تفْهمُها إلاّ

بالإيماء حتى تستوحِشَ إليها وإلى كل من يصل إليها من النَّساء وحتى تشتهيَ أن تجِدَ مَنْ يراجعها الكلام وتشكو إليه وحْشة الوَحْدة وأنْ يَدخِل عليها أزواجاً من الحمام ذوات صورةٍ حسنةٍ وتخَيُّل وهدير فيُصَيِّرَهُنّ في بيتٍ نظيف ويجعل لهنّ في البيت تماريد وبين يدي البيت حجْرة نظيفة ويفتح لها من بيتها باباً فيصْرن نُصْبَ عينها فتلهو بهن وتنظر إليهنَّ ويجعل دخوله عليها في اليوم دَفْعَةً إلى تلك الحمام والتسلّي بهنّ والاستدعاء لهنّ إلى الهدير ساعةً ثم يخرج فإنَّها لا تلبث أنْ تتفكّر في صنيعهنّ إذا رأتْ حالهن فإنَّ الطَّبيعةَ لا تَلبَثُ حتى تحرّكها ويكون أوفقُ المقاعد لها الدنّو منهن وأغلبُ الملاهي عليها النَّظَرَ إليهن لأنَّ الحواس لا تؤدي إلى النَّفس شيئاً من قِبَل السمعِ والبَصر والذوق والشم

والمجسّة إلاّ تحرّك مِنَ العَقْل قي قَبُولِ ذلك أوْ رَدِّه )
والاحتيالِ في إصابته أو دفِعه والكراهية له أو السُّرور به بقدر ما حرّك النَّفسَ منه فإذا رأيتَ الغالبَ عليها الدنوّ منهنّ والتأمُّل لهن فأدخِلْ عليها امرأةً مجرِّبة غَزلة تأنس بها وتفطُنها لصنيعهنَّ وتعجُّبُها منهنّ وتستميل فِكرتها إليهنّ وتَصِف لها موقِعَ اللَّذّة على قدْر ما ترى من تحريك الشّهوة ثمّ أخْرِج المرأة عنها وحاوِل الدُّنو منها فإنْ رأيتَ كراهيَةً أمسكْت وأعدْتَ المرأةَ إليها فإنها لا تلبَث أن تمْكِنَك فإنْ فعلتْ ما تحبُّ وأمكنَتْك بعض الإمكان ولم تَبْلُغ ما تريد فأخبرني بذلك .
قال : وقلتُ له : مُر المرأةَ فلتسألها عن حالها في نفسها وحالِك عندها فلعَلّ فيها طبيعةً من الحياء تَمْنَعُها من الانبساط ولعلَّها غِرٌّ لا يُلتمس ما قِبَلها من الخَرقَ ففعل وأمر المرأة أن تكشفها عن ذات نفسها فشكت إليها الخَرَق فأشارت عليها بالمتابعة وقالت : اعتبري بما تَرينَ من هذا الحمام فقد تَرَين الزّوجين كيفَ يصنعان قالت : قد

تأمَّلت ذلك فعجِبتُ منه ولستُ أحْسِنُه فقالت لها : لا تمنعي يدَهُ ولا تحمِلي على نفسك الهيبة وإنْ وجدتِ من نفسِك شيئاً تدعوكِ إليه لذَّةٌ فاصنَعيه فإِنَّ ذلك يأخُذُ بقلبه ويزيدُ في محبَّتِكِ ويحرِّك ذلك منهُ أكثرَ مما أعطاك فلم يلبثْ أنْ نال حاجتَه وذهبت الحشمة وسقطت المداراة فكان سببُ الصُّنع لهما والخروج من الوَحْشة إلى الأُنس ومن الحال الدَّاعِية إلى مفارقتها إلى الحال الدَّاعية إلى ملازمتها والضَّنِّ بها الحمام .

الخوف على النساء من الحمام

وما أكثرَ مِنَ الرِّجال من ليسَ يمنَعُه من إدخال الحمام إلى نسائه الاَّ هذا الشيء الذي حثَّ عليه صاحبُ الفِراسة وذلك أنَّ تلك الرُّؤيةَ قد تذَكِّر وتشهِّي وتَمْحَن وأكثرُ النِّساء بين ثلاثة أحوال : إمَّا امرأة قد مات زَوجُها فتحريكُ طِباعها خِطار بأمانتها وعَفافِها والمُغيبة

في مثل هذا المعنى والثَّالثة : امرأةٌ قد طال لُبثها مع زوْجها فقد ذهب الاستطراف وماتت الشهوة وإذا رأت ذلك تحرَّك منها كلُّ ساكن وذكَرَتْ ما كانتْ عنه بمندوحة .
والمرأة سليمة الدين والعِرْضِ والقَلب ما لم تَهْجِسْ في صدرها الخواطر ولم تتوهَّمْ حالاتِ اللَّذَّة وتحرُّك الشهوة فأمَّا إذا وقع ذلك فعزْمُها أضعفُ العَزم وعزْمُها على ركوب الهوى أقوى العَزْم .
فأمَّا الأبكارُ الغريرات فهنَّ إلى أن يُؤْخذْن بالقراءة في المصحف ويُحتالَ لهن حتى يصرْنَ إلى حال التشييخ والجبن والكَزَازَة وحتَّى لا يسمعَن من أحاديث البَاهِ والغَزَل قليلاً ولا كثيراً

نادرة لعجوز سندية ولقد ركبتْ عجوزٌ سنديةٌ ظهر بعيرٍ فلما أقبَلَ بها هذا البعيرُ وأدبر وطمَر فمخَضها مَرََّةً مخضَ السقاء وجعلَها مَرَّةً كأنَّها ترْهَزُ فقالت بلسانها وهي سنديّةٌ أعجميَّة أخزَى اللّه هذا الذَّمل فإنَه يذكِّر بالسَّرِّ تريد : أخزى اللّه هذا الجمل فإنه يذكِّر بالشر حدثنا بهذه النادرة محمَّد بن عبَّاد بن كاسب
نادرة لعجوز من الأعراب وحدَّثنا رِبْعيٌّ الأنصاريُّ : أنَّ عجوزاً من الأعرابِ جَلستْ في طريق مكة إلى فتيانٍ يشربون نبيذاً لهم فسقَوْها قَدَحاً فطابت نفسُها

وتبسمت ثمَّ سقَوْها قدحاً آخرَ فاحمرَّ وجهها وضَحِكت فسقَوْها قدَحاً ثالثاً فقالت : خبِّروي عن نسائكم بالعراق أيشرَبْنَ من هذا الشراب فقالوا : نعم فقالت : زَنَيْنَ ورَبِّ الكعبة . 4

عقاب خصي

ّ ) وزعم إبراهيم الأنصاريُّ المعتزليُّ أنَّ عباس بن يزيد بن جريرٍ دخَلَ مقصورة لبعض حَواريه فأبصَرَ حماماً قد قَمط حمامةً ثمَّ كسَحَ بِذنبه ونفَش ريشه فقال : لمن هذا الحمام فقالوا : لفلانٍ خادِمك يعْنونَ خَصِيّاً له فقدّمه فضَرَبَ عنقهُ .
وقد قال الحطيئة لفتيان من بني قُرَيع وقد كانوا ربَّما جلَسُوا بقُربِ خَيْمتهِ فتغَنَّى بعضُهمْ غناء الرّكبان فقال : يا بني قريعْ إيَّايَ والغناءَ فإنّه داعيةُ الزِّنا .


أبو أحمد التمار وصاحب حمام وأما أبو أحمد التمار المتكلم فإنّه شاهدَ صاحبَ حمامٍ في يوم مجيء حَمامِه من واسط وكانت واسط يومئذ الغايَة فرآه كلما أقبلَ طائرٌ من حمامه نعر ورَقَص فقال له : واللّه إني لأرَى منك عجباً أراك تفْرَحُ بأن جاءك حمامٌ من واسط وهو ذلك الذي كان وهو الذي جاء وهو الذي اهتدى وأنتَ لم تجئ ولم تهتَدِ وحين جاءَ من واسط لم يجئ معه بشيءٍ من خبر أبي حمزة ولا بشيءٍ من مقاريض واسط وبزيون واسط ولا جاء معه أيضاً بشيء من خِطْمِيٍّ ولا بشيءٍ من جوز

ولا بشيءٍ من زبيب وقد مرَّ بكسكَرَ فأين كان عن جِدَاء كسكر ودَجاج كسكر وسمك كسكر وصحناة كسكر ورُبيثاء كسكر وشعير كسكر وذهب صحيحاً نشيطاً ورجع مريضاً كسلان وقد غرمت ما غرمت فقل لي : ما وجه فرحك فقال : فرحي أنِّي أرجو أن أبيعه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان وفلان فقام ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان أنّك تشتري منه حماماً جاءَ من واسِط بخمسين دينْاراً قال : صدق قال : فقل لي لم تشتريه

بخمسين ديناراً قال : لأنّه جاء من واسط قال : فإذا جاء من واسط فِلمَ تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنِّي أبيع الفرخَ منه بثلاَثة دنانير والبيضة بدينارين قال : ومن يشتري منك قال : مثلُ فلان وفلان فأخَذ نَعْله ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان )
أنّك تشتْري منه فرخاً من طائرٍ جاءَ من واسط بثلاثة دنانير والبيضةَ بدينارَين قال : صَدَق قال : فقل لي : لِمَ تشتري فرخَة بثلاثة دنانير قال : لأنَّ أباه جاء من واسط قال : ولِمَ تشتريه بثلاثة دنانير إذا جاء أبوه من واسط قال : لأني أرجو أن يجيءَ من واسط قال : وإذا جاء مِن واسط فأيَّ شيء يكون قال : يكون أن أبيعَه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان فتركَه ومضى إلى فلانٍ فقال : زعم فلان أنّ فرخاً من فراخه إذا جاء أبُوه من واسط اشتريته أنت منه بخمسين ديناراً قال : صدق قال : ولم تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنَّه جاء من واسط قال : وإذا جاء من واسط لم تشتريه بخمسين ديناراً قال : فأعاد عليه مثل قولِ الأوَّل فقل : لا رزق اللّه من يشتري حماماً جاء من واسط بخمسين ديناراً ولا رزق اللّه إلاَّ مَن لاَ يشتريه بقليل ولا بكثير .


نوادر لأبي أحمد التمار وأبو أحمد هذا هو الذي قال وهو يعظ بعض المسرفين لو أنَّ رجلاً كانت عنده ألفُ ألف دينار ثم أنْفقها كلَّها لذهبت كلها وإنما سمع قول القائل : لو أنَّ رجلاً عنده ألفُ ألفِ دينار وهو القائل في قصَصه : ولقد عظَّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حقَّ الجارِ وقال فيه قولاً أستحْيي واللّه من ذكره .
وهو الذي قال لبعضهم : بلغني أنَّ في بستانك أشياءَ تهمّني فأحبُّ أن تَهَبَ لي منه أمراً من أمْرِ اللّه عظيم .
وكان زَجَّالاً قبل أن يكون تماراً .
وزعم سليمان الزجَّال وأخوه ثابت أنّه قبل أن يكون تماراً قال يوماً وذكر الحمام حينَ زَهِد في بيع الحمام وذكَرَ بعضَ الملوك فقال : أمَّا فلان فإنّه لما بلغني أنه يلعبُ بالحمام سقط من عيني .


واللّه سبحانه وتعالى أعلم .
تمَّ القولُ في الحمام والحمد للّه وحدَه . ( أجناس الذِّبَّان ) بسم اللّه وباللّه والحمد للّه ولا حَولَ ولا قُوَّة إلا باللّه وصلَّى اللّه على سيِّدنَا محمَّدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبِه وسلّم وعلى أبرار عِتْرَتِه الطيِّبينَ الأخيار .
أوصيك أيُّها القارئ المتفهِّم وأيهُا المستمعُ المنصت المصيخ ألاّ تحقِرَ شيئاً أبداً لصغر جثَّته ولا تستصغر قدرَه لقلَّة ثمنٍ .

( دلالة الدقيق من الخلق على اللّه ) ثمّ اعلمْ أنَّ الجبلَ ليس بأدلّ على اللّه من الحصاة ولا الفَلكَ المشتمل على عالَمنا هذا بأدلَّ عَلَى اللّه من بَدَن الإنسان وأنَّ صغيرَ ذلك ودقيقَهُ كعظيمهِ وجليله ولم تفترقِ الأمورُ في حقائقها وإنما افترقَ المفكّرون فيها ومَن أهمَل النَّظر وأغفَلَ مواضع الفَرْق وفَصولَ الحدود .
فمنْ قِبَلِ ترْكِ النَّظر ومن قِبَلِ قطْع النَّظر ومن قِبَل النظر من غير وجه النَّظَرِ ومن قِبَل الإخلال ببعض المقدّمات ومن قِبَل ابتداء النَّظر من جهَة النَّظرِ واستتمام النظر مع انتظام المقدّمات اختلَفوا .
فهذه الخصالُ هِيَ جُمَّاع هذا الباب إلاّ ما لم نذْكرْه من بِاب العجز والنقص فإن الذي امتنع وإنما ذكرنا بَابَ الخطأ والصَّواب والتَّقصير والتكميل فإِياك أن تسيءَ الظَّنّ بشيءٍ من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوُت التركيب ولأنّه مشنوءٌ في العين أو لأنّه قليلُ النّفعِ والرَّدِّ فإنَّ الذي تظُّنُّ أنَّه أقلُّها نفعاً لعله أن يكون أكثرَها ردّاً فإلاَّ يكن ذلك من جهةِ عاجلِ أمرِ الدنيا

كان ذلك في آجل أمر الدين وثوابُ الدين وعقابُهُ باقيان ومنافعُ الدنيا فانية زائلة فلذلك قدِّمت الآخرة على الأولى .
فإذا رأيتَ شيئاً من الحيوان بعيداً من المعاوَنة وجاهلاً بسبب المكانَفَةِ أو كان مما يشتدُّ ضررُه وتشتدُّ الحِراسة منهُ كذوات الأنيابِ من الحيَّات والذئابِ وذواتِ المخالبِ من الأسْدِ والنُّمور وذوات الإبر والشعر من العقارب والدَّبْر فاعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلَوى ومن جهة ما أعد اللّه عزَّ وجلَّ للصابرين ولمن فهم عنه ولمن علم أنَّ الاختِيارَ والاختبَار لا يكونان والدنيا كلُّها شرٌّ صِرْفٌ أو خيرٌ محْض فإنّ ذلك لا يكون إلاَّ بالمزواجة بين المكروهِ والمحبوب والمُؤلم والملِذّ والمحقَّرِ والمعظَّم والمأمُون والمخوفِ فإذا كان الحظُّ الأوَفرُ في الاختبار والاختيار وبهما يُتوسل إلى ولاية اللّه عزّ وجلّ وآبِد كرامته وكان ذلك إنما يكون في )
الدار الممزوجةِ من

الخير والشرِّ والمشتركة والمركّبة بالنّفْع والضر المشوبةِ باليُسْرِ والعسْر فليعلَمْ موضعَ النَّفْع في خلْق العقرب ومكانَ الصُّنْع في خَلْق الحيَّة فلا يحقرنَّ الجِرْجس والفَرَاشَ والذرَّ والذِّبان ولْتقِفْ حتى َّ تتفكَّرَ في الباب الذي رميتُ إليك بجمْلَتِه فإنّك ستكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ على خلْق الهمجِ والحشرَات وذواتِ السُّمومِ والأنياب كما تحمَده عَلَى خلقِ الأغذيةِ من الماءِ والنَّسيم .
فإنْ أردتَ الزِّراية والتَّحقيرَ والعَداوة والتَّصغير فاصرفْ ذلك كلَّهُ إلى الجنِّ والإنس واحقِرْ منهم كلَّ مَن عمِل عملاً من جهةِ الاختيار يستوجبُ به الاحتقار ويستحقُّ به غايةَ المقْت من وجهٍ والتصغيرَ من وجه .
فإِن أنت أبغضت من جهةِ الطبيعة واسَتثْقَلت من جهة الفِطرة ضربينِ من الحَيَوان : ضرباً يقتلك بسمه وضرباً يقتلك بشدةِ أسْره لم تُلَمْ إلاّ أنّ عليك أنْ تَعَلَمَ أنّ خالقَهما لم يخلقْهما لأذاك وإنما خلقهما لتصبَر عَلَى أذاهما ولأن تنالَ بالصَّبر الدَرجةَ التي يستحيل أنْ تنالها إلاّ بالصَّبر

والصبر لا يكُونَ إلاّ عَلى حَالِّ مكروه فسواءٌ عليك أكان المكروه سبُعاً وثَّاباً أو كان مَرَضاً قاتلاً وعَلَى أنّك لا تدري لعلَّ النزْعَ والعَلَزَ والحشْرَجة أن يكون أشدَّ من لدْغ حيَّة وضَغْمَةِ سبعِ فإلاّ تكُنْ له حُرقةٌ كحرق النار وألمٌ كألم الدّهق فلعلَّ هناك من الكَرْب ما يكون موقعِهُ من النَّفس فوقَ ذلك .
وقد عمنا أنّ النَّاس يُسَمُّون الانتظار لوقع السيف علَى صليف العُنق جهَدْ البلاءِ وليس ذلك الجهد من شكل لذْع النار ولا من شكل ألم الضربِ بالعصا فافهم فهمَكَ اللّه مواقع النفع كما يعرفها أهلُ الحكمة وأصحاب الأحْسَاس الصحيحة .
ولا تَذْهب في الأمورِ مذهَبَ العامّةِ وقد جَعَلَكَ اللّهُ تعَالى من الخاصة فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة لأنّها لم تجعل لِعباً ولم تترَكْ

هَمَلاً واصرِفْ بُغضك إلى مُريدِ ظلمكَ لا يراقِب فِيكَ إلاًّ ولا ذِمَّة ولا مودةً ولا كتاباً ولا سنَّة وكلما زادك اللّه عزَّ وجلَّ نعمة ازدادَ عليك حنَقاً ولكَ بُغْضاً وفِرّ كلَّ الفِرارِ واهرُبْ كلَّ الهرب واحترسْ كلّ الاحتراس ممن لايراقب اللّه عزَّ وجلَّ فإنه لا يخلو من أحد أمرين إمَّا أن يكون لا يعرفُ رَبَّهُ مع ظهور آياتِه ودلالاته وسبوغِ آلائه وتتابُع نَعَمائه ومع برهانات رُسله وبيانِ كتبِهِ وإمَّا أنْ يكونِ بهِ عارفاً وبدينِه موقناً وعليهِ مجترئاً وبحُرماتِه مستخفاً فإن كان بحقِّهِ جاهلاً فهو بحقِّك أجهل وله أنْكَر وإن كان به عارفاً )
وعليه مجترئاً فهو عليك أجرأ ولحقوقك أضيَع ولأياديك أكفر .
فأمَّا خلْق البَعوضةِ والنَّملة والفَرَاشةِ والذَّرَّة والذِّبّان والجِعْلان واليعاسيب والجراد فإياك أن تتهاونَ بشأن هذا الجُنْد وتستخف بالآلة التي في هذا الذَّرْء فَربَّتَ أمة قد أجلاها عن بلادها النملُ ونقلَها

عن مساقِطِ رؤوسها الذَّرُّ وأُهلِكت بالفأر وجُردت بالجَرَادِ وعُذِّبت بالبعوض وأفسَدَ عيشها الذِّبَّان فهي جُندٌ إن أراد اللّه عزَّ وجلَّ أن يهلِك بها قوماً بَعْدَ طُغْيانِهم وتجبُّرهم وعتَوِّهم ليعرفوا أو ليُعرَفَ بهم أنَّ كثيرَ أمرِهم لا يقوم بالقليلِ من أمر اللّه عَزّ وجلّ وفيها بَعْدُ مُعتبرٌ لمن اعتبر وموعظةٌ لمن فكّر وصلاجٌ لمن استبصر وبلوَى ومحْنة وعذابٌ ونِقْمة وحُجَّة صادقة وآيةٌ واضحة وسَبَبٌ إلى الصّبْرِ والفِكْرَةِ وَهما جِمَاع الخيرِ في باب المعْرفة والاستبانة وفي بابِ الأجْر وعِظمِ المثوبة .
وسَنَذْكر جملةً من حال الذَّبّان ثم نقولُ في جملةِ ما يَحضرُنا منْ شَأْنِ الغِرْبانِ والجعلانِ

أمثال في الفراش والذباب

ويقال في موضع الذمِّ والهجاء : ما هُمْ إلاّ فَراشُ نارٍ وَذِبَّانُ طَمَعٍ وَيقال : أطْيَشْ مِنْ فَراشَة وَأزهى مِنْ ذِبّانٍ .


وقال الشاعر : ( كأنَّ بني ذويبة رهْطَ سلمَى ** فَرَاشٌ حول نارٍ يَصْطلينا ) ( يُطَفْنَ بحرِّها ويَقَعْنَ فيها ** ولا يَدْرِينَ ماذا يتَّقينا ) والعرب تجعل الفَراشَ والنَّحلَ والزَّنابيرَ والدَّبْر كلَّها من الذِّبان وأما قولهم : أزهى مِنْ ذُباب فلأَنَ الذُّباب يسقُط على أنفِ الملِكِ الجبَّار وعلى موُقِ عينيه ليأكله ثم يطرده فَلا ينطرد .
والأنف هو النَّخْوة وموضعُ التَّجبُّر .
وكان من شأن البطارقة وقوَّاد الملوك إذا أنفوا من شيء أن ينخُِروا كما ينْخِر الثَّورُ عندَ الذَّبحِ والبِرذونُ عند النَّشاط .


والأنف هو موضعُ الخُنْزُوانة والنُّعَرةِ وإذا تكبَّرت النَّاقَةُ بعد أن تلْقَح فإنهَّا تزمّ بأنفها .
والأصيد : الملك الذي تراه أبداً من كِبْره مائلَ الوجه وشُبِّه بالأسد فقيل أصيد لأنَّ عُنقَ الأسدِ من عظمٍ واحد فهو لا يلتفتُ إلاّّ بكُلِّه فلذلك يقال لِلمُتَكَبِّرِ : إنَّما أنفه في أسلوب ويقال : أرغَمَ اللّه أنفَه وأذلَّ معطِسَه ويقال : ستفعل ذلك وأنفُك راغم والرَّغام : التّراب ولولا كذا )
وكذا لهشَّمت أنفك فإنما يخصُّون بذلك الأنف لأنَّ الكبر إليه يضاف قال الشاعر : ( يا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أذْوادنا ** رُحن عَلَى بَغْضائه واغتديْن ) ( لو نَبَتَ البَقلُ عَلَى أنفِه ** لرُحْنَ منه أُصُلاً قد أبين )

ويقال بعير مذبوب إذا عرض له ما يدعو الذِّبَّانَ إلى السُّقوط عليه وهم يعرفون الغُدَّة إذا فشَتْ أو أصابَتْ بعيراً بسُقوط الذِّبَّان عليه .

احتيال الجمالين على السلطان

وبسقوط الذّبّان على البعير يحتال الجَمَّال للسُّلطان إذا كان قد تسخَّرَ إبلَهُ وهو لذلك كاره وإذا كان في جماله الجملُ النفيسُ أو الناقةُ الكريمة فإنه يعمِد إلى الخَضْخاض فيصبُّ فيه شيئاً من دِبس ثم يَطْلى به ذلك البعير فإذا وجد الذّبّان رِيحَ الدِّبس تساقَطْنَ عليه فيدَّعي عند ذلك أنَّ به غُدَّة ويجعلُ الشاهدَ له عندَ السُّلطان ما يُوجد عليه من الذِّبان فما أكثر ما يتخلصون بكرائم أموالهم بالحيلِ من أيدي

السلطان ولا يظنُّ ذلك السُّلطانُ إلاّ أنه متى شاء أنْ يبيعَ مائةَ أعرابي بدرهم فَعَل والغدّة عندهُمْ تُعدِي وطباع الإبل أقبلُ شيء للأَدواء التي تُعْدِي فيقول الجمَّال عنْدَ ذلك للسُّلطان : لو لم أخف على الإبل إلاَّ بعيري هذا المغِدّ أن يُعدِيَ لم أبال ولكنِّي أخاف إعداء الغُدَّةِ ومضرَّتها في سائر مالي فلا يزال يستعطِفهُ بذلك ويحتالُ له به حتَّى يخلِّيَ سبيلَه ( نفور الذَّبّان من بعض الأشياء ) ويقال إنَّ الذَّبَّان لا يقْرُبَ قدْراً فيه كمأَة كما لا يَدخُل سامُّ أبْرص بيتاً فيه زعفران . ( الخوف على المكلوب من الذِّبَّان ) ومن أصابه عض الكلب الكَلِبِ حَمَوا وجهَه من سقوط الذِّبان عليه قالوا : وهو أشدُّ عليه من دبيب النِّبر على البعير .

النبر والنِّبْر دويْبَّةٌ إذا دبَّت على البعير تورَّم وربَّمَا كان ذلك سبَبَ هلاكه .
قال الشاعرُ وهو يصف سِمَن إبله وعِظَمَ أبدانها : ( حمر تحقَّنَت النّجيل كأنَّما ** بجلودهِنَّ مَدَارِجُ الأنْبارِ ) مميزات خلقيَّة لبعض الحيوان وليس في الأرض ذبابٌ إلاَّ وهو أقْرَح ولا في الأرض بعيرٌ إلاّ وهو أعْلم كما أنَّه ليس في الأرض ثورٌ إلاّ وهو أفطس .
وفي أنَّ كلَّ بعير أعلمُ يقولُ عنترة : ( وحَليل غانيةٍ تركتُ مجدَّلاً ** تمكو فريصَتُه كشِدْق الأعلَمِ )

 

 

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...