اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 9.و 10. من كتاب:الحيوان المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

 

مجلد 9. من كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

وقال حسين بن أبي علي الكرخي : أنا إنسان لا أبالي ما استقبلت به الأحرار . وقال عَمرو بن القاسم : إنما قويت على خصمي بأني لم أتستَّرْ قطُّ عن شيء من القبيح فقال أبو إسحاق : نلتَ اللذَّة وهتكتَ المروءة وغلبتك النفس الدَّنية فأرَتْك مكروهَ عملك محبوباً وشيء قولك حسناً ومن كان عَلَى هذا السبيل لم يتلفتْ إلى خير يكون منه ولم يكترثْ بشرٍ يفعله .
وقال الفرزدق : ( وكان يُجيرُ الناس من سيفِ مالك ** فأصبح يبغي نفسَه من يُجيرُها ) ومن هذا الباب قول التُّوتّ اليمانيِّ : ( عَلَى أيَّ باب أطلُبُ الإذنَ بعد ما ** حُجِبْتُ عن الباب الذي أنا حاجبُه ) ومن هذا الشكل قولُ عديِّ بن زيد : ( لو بغير الماء حَلْقِي شرِقٌ ** كنتُ كَالغَصَّانِ بالماء اعتصاري ) وقال زُهير : ( فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جمامُه ** وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ )

وكتب سُوَيد بن منجوف إلى مُصعب بن الزبير : ( فأبْلغْ مُصْعَباً عني رسولاً ** وهل يُلفَى النصيحُ بكل وادِ ) وحدثني إبراهيم بن عبد الوهاب قال : كتب شيخٌ من أهل الريّ عَلَى باب داره : جزى اللّه من لا يعرفنا ولا نعرفه خيراً فأمّا أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهمُ الله خيراً فإنا لم نُؤْتَ قطُّ إلا منهم وأنشدني النهشليُّ لأعرابي يصف نخْلاً : ( ترى مخارفَها ثِنيَيْ جوانبها ** كأَنَّ جانيَ بَيْضِ النَّحْلِ جَانِيها ) ووصف آخر نخلاً فقال : إذا عَلا قِمَّتَها الرَّاقي أهَلّ وقال الشاعر :

( ومن تَقْلِلْ حلوبَتُهُ وَينْكُلْ ** عن الأعداء يَغْبَقُهُ القَراحُ ) ( رأيتُ مَعاشِراً يُثْنى عليهم ** إذا شَبِعوا وأَوجُهُهُمْ قِبَاحُ ) ( ظلُّ المُصْرِمُونَ لهمُ سُجُوداً ** وإن لم يُسْقَ عندهُم ضَياحُ ) وقال الشاعر : ( البائتين قريباً من بيوتهمُ ** ولو يشاؤون آيبوا الحيّ أوْ طرَقوا ) يقول : لرَغبته في القِرَى وفي طعام الناس يبيت بهمْ ويدعُ أهلَه ولو شاء أنْ يبيت عندهم لَفعل . ( تَقرِي قدورُهم سُرَّاءَ ليلهِمُ ** ولا يبيتون دون الحيِّ أَضيافا ) وقال جرير : ( وإني لأسْتَحيي أخِي أن أرى له ** عَليَّ من الحق الذي لا يَرى لِيَا )

قال : أستحيي أن يكون له عندي يدٌ ولا يرى لي عندَه مثلها .
وقال امرؤ القيس : ( وهلْ ينعمْنَ إلا خلِيٌّ منعَّمٌ ** قليلُ الهموم ما يبيتُ بأوْجالِ ) قال : وهو كقوله : استراحَ من لا عقْلَ لهَ وأنشد مع هذا البيت قول عمر بن أبي ربيعة ويحكى أن المنصور كان يعجبُه النصف الأخير من البيت الثاني جدّاً ويتمثل به كثيراً حتي انتقده بعض من قضى به عليه أَن المعنى قدَّمَهُ دهراً وكان استحسانه عن فضل معرفته بإحقاقه فيه وصواب قوله : ( وأعجَبَها من عيشها ظِلُّ غُرْفَة ** ورَيَّانُ مُلْتَفُّ الحدائِق أخَضرُ ) ( ووالٍ كَفَاها كلَّ شيء يَهُمُّها ** فليَستْ لشيء آخر الدهرِ تَسْهَرُ ) وأنشد : ( إذا ابْتَدَرَ الناسُ المعالي رأيتهمْ ** وقُوفاً بأيديهم مسُوكُ الأرانب ) ( إذا ابتدرَ الناسُ المكارمَ والعُلاَ ** أقاموا رُتوباً في النُّهُوجِ اللهاجمِ )

يخْبر أنهم يسألون الناس والنهج واللهْجم : الطريق الواسع .
وقال الآخر : ( لنا إبلٌ يَروين يوماً عِيالَنا ** ثلاثُ وإن يكثرْنَ يوماً فأربعُ ) ( نُمِدُّهمُ بالماء لا مِنْ هَوانِهِمْ ** ولكِنْ إذا مَا قلَّ شيءٌ يوسَّعُ )
وقال الآخر : ( من المُهْدَيات الماءَ بالماء بعدما ** رمى بالمقادي كلُّ قادٍ ومُعْتَمِ ) وقال الآخر : ( وداعٍ دعا والليلُ مُرخٍ سُدولَه ** رجاءَ القِرَى يا مُسلمَ بنَ حِمارِ ) ( دَعا جُعَلاً لا يهتدي لِمَبيته ** من اللوم حتى يهتدي ابنُوبارِ ) وقال الحسن بن هانئ : ( أَضْمرتُ للنِّيل هِجْراناً ومَقليةً ** إذ قيل لي إنما التِّمساحُ في النيل ) ( فمن رأَى النِّيل رأيَ العَينِ من كثَبٍ ** فما أرى النّيلَ إلا في البواقيل )

وقال ابن ميَّادة : ( فإن الذي ولاّكَ أمْرَ جماعةٍ ** لأنقَصُ مَن يمشي على قَدم عْقلا ) ومن هذا الباب قوله : ( إني رأيت أبا العوراء مُرتفقاً ** بشَطِّ دِجْلَة يَشْرِي التَّمر والسَّمكا ) ( كَشِرَّةِ الخيل تبقَى عند مِذْودِها ** والموتُ أَعلم إذْ قَفَّى بمن تركا ) ( هَذِي مساعيكَ في آثارِ سادَتِنا ** ومن تكنْ أنت ساعيه فقد هَلكا ) ومن هذا الباب قوله : ( ورِثنا المجدَ عن آباء صِدق ** أسأنا في ديارهم الصَّنيعَا ) ( إذا المجدُ الرفيعُ تعاورتْه ** وُلاة السُّوء أوشك أن يضِيعا ) وقال جِران العَوْدِ : ( أُراقبُ لمحاً من سُهيل كأنه ** إذا ما بَدَا في دُجْيةَ الليل يطرفُ )

وقال : ( ولَمْ أَجِدِ الموقوذَ تُرجى حياتُه ** إذا لم يرعْه الماءُ ساعةَ يُنضَحُ ) وكان أبو عبادِ النُّميريُّ أتى باب بعض العمال يسأله شيئاً من عمل السلطان فبعثه إلى أُسْتقَانَا فسرقوا كل شيء في البَيْدر وهو لا يشعر فعاتبه في ذلك فكتب إليه أبو عبّاد : ( فتقنَّصْتَ بيَ الصَّ ** عْو فأوهنْتَ القُدَامى ) ( وإذا ما أُرسل البا ** زِي عَلَى الصعْو تَعَامَى )
أراد قول أبي النجم في الراعي : ( يمرُّ بين الغانيات الجهَّلِ ** كالصقر يجفو عن طِرادِ الدُّخّلِ )

وبات أبو عبّادِ مع أبي بكر الغِفاريّ في ليالي شهر رمضان في المسجد الأعظم فدبّ إليه وأنشأ يقول : ( يا ليلةً لي بتُّ ألْهُو بها ** مع الغِفاريِّ أبي بكرِ ) ( قمتُ إليه بعد ما قد مضى ** ثُلْثٌ من الليل على قدْرِ ) ( في للة القدْرِ فيا مَنْ رأى ** أدَبَّ منِّي ليلةَ القَدْرِ ) ( ما قام حَمْدانٌ أبو بكرِ ** إلا وقد أفزَعَهُ نَخْري ) وقال في قلْبانَ صديقتِه : ( إنَّ قلبانَ قد بَغَتْ ** لشقائي وقد طَغَتْ ) ( وإذا لم تُنَك بأيْ ** رٍ عظيم القِوى بكتْ ) وقال مسكينٌ الدَّارمي : ( لدَى كلِّ قرموص كأنَّ فراخهَ ** كُلًى غير أن كانت لهنَّ جُلودُ )

وقال أبو الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان : ( أمِنْتَ على السّرِّ امْرأً غيرَ كاتمٍ ** ولكنه في النصحِ غيرُ مُريبِ ) ( أذاعَ بِهِ في الناسِ حتَّى كَأَنَّهُ ** بعَلياء نارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ ) ( وكنتَ متى لم تَرْع سِرَّك تنتشرْ ** قوارعُه مِنْ مخطئ ومُصيبِ ) ( وما كل ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَهُ ** وما كلُّ مؤتٍ نصحَهُ بِلَبيبِ ) ( ولكن إذا ما استَجْمعا عند واحدٍ ** فحقّ له مِنْ طاعةٍ بِنَصيبِ ) وقال أيضاً : ( إذا كنتَ مظلوماً فلا تُلفَ راضياً ** عَنِ القَوْمِ حتَّى تأخُذَ النصفَ واغْضَبِ ) ( وَإن كنتَ أنتَ الظَّالمُ القومَ فاطَّرِحْ ** مقالتهم وَأشْغب بهم كل مَشغَبِ ) ( وقارِبْ بذي جهلٍ وباعدْ بعالمٍ ** جَلوبٍ عليكَ الحقَّ مِنْ كلِّ مَجلبِ )

( فإن حَدِبوا فاقعَسْ وإن هم تقاعَسُوا ** ليستمسكون مما وراءك فاحدَبِ ) ( ولا تُذْعِنَنْ للحقِّ واصبر على التي ** بها كنتُ أَقضِي للبعيد على أبي ) ( فإني امرؤٌ أخشَى إلهي وأَتَّقي ** مَعادي وقد جرّبتُ ما لم تجربِ ) ( إني إذا الأصواتُ في القوم عَلَتْ ** في مَوْطِنٍ يَخشى به القومُ العَنَتْ ) ( مُوَطِّنٌ نفسي على ما خَيَّلَتْ ** بالصَّبر حتَّى تنجلي عَمَّا انجلَتْ ) وقال الكميت : ( وبيضٍ رِقاقٍ خفاف المُتُونِ ** تسمعُ للبَيْضِ منها صريرا ) ( تُشبَّهُ في الهامِ آثارُها ** مَشافِرَ قَرْحَى أكلْن البَريرا ) وأنشدني أبو عبيدة : ( نُصْبِحُها قيساً بلا استبقائها ** صفائحاً فيها فضولُ مائها ) ( من كلِّ غَضْبٍ علَّ من دِمائها ** إذا علا البيضة في استوائها ) ( رونقُه أوقَدَ في حِرْبائها ** ناراً وقد أمخض من ورائها ) وأنشدني لرجُل من طيئ : ( لم أَرَ فتيانَ صباحٍ أصبَراً ** منهم إذا كان الرماحُ كِسَرا )

( سفْعَ الحدودِ دُرَّعاً وحُسَّرا ** لا يشتهون الأجَل المؤخَّرا ) وقال ابن مفرِّع : ( قبُّ البطون والهوادي قودُ ** إن حادتِ الأبطالُ لا تحيدُ ) ومن المجهولات : ( عليكَ سلامَ اللّه من مَنزلٍ قَفْرِ ** فقد هِجْتَ لي شوقاً قديماً وما تدرِي ) ( عهدتك من شهر جديداً ولم أخَلْ ** صُروفَ النّوَى تُبلي مغانيك في شهرِ ) الخرَيميُّ أبو يعقوب : ( لعمرك ما أخلقتُ وجهاً بذلتُه ** إليك ولا عَرَّضْتُه للمعايرِ ) أي لا أعيَّرُ لقصدك . ( فتًى وفَرتْ أَيدي المحامِدِ عِرضَه ** عليه وخلَّتْ ماله غيرَ وافرِ ) وقال مطيعُ بنُ إياسٍ : ( قد كَلَّفْتَني طويلةُ العُنُقِ ** وحُبُّ طُولِ الأَعْناقِ مِنْ خُلُقي ) ( أَقْلَقُ مِنْ بُعْدِها فإنْ قَربَتْ ** فالقُرْبُ أيضاً يزيدُ في قَلَقي )
وقال سهلُ بنُ هارون : إذا امرؤٌ ضاقَ عنِّي لم يَضِقْ خُلُقي مِنْ أَنْ يراني غَنِيّاً عنه بالياسِ

( ولا يراني إذا لم يَرْعَ آصِرَتي ** مُسْتَمْرِياً دِرَراً منه بإبساسِ ) ( لا أَطْلُبُ المالَ كي أُغْنَي بفضلته ** ما كان مَطْلَبُهُ فقراً إلى الناسِ ) ( عدّ تلادِ المال فيما ينوبه ** منوعٌ إذا ما منْعُه كان أحْزَما ) ( فِسيَّان حالاه له فضْل منْعِه ** كما يستحقُّ الفضلَ إن هو أنْعَمَا ) ( مذلِّلُ نفس قد أبتْ غير أن ترى ** مَكارِهَ ما تأتي من الحقِّ مَغْنما ) وقال أبو الأسود لزياد : ( لعَمْرُكَ ما حَشاكَ اللّهُ رُوحاً ** به جَشَعٌ ولا نَفْساً شَرِيرهْ ) ( ولكنَّ أنتَ لا شَرِسٌ غليظٌ ** ولا هَشٌّ تنازِعُه خؤُورَهْ ) ( كأنا إذْ أتَيناهُ نزلْنا ** بجانِبِ رَوْضة رَيَّا مَطيرة ْ )

الجزء السادس

الخطوط ومرافقها

بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
اللهم جنبنا فضول القول بما عندنا ولا تجعلنا من المتكلفين . قد قلنافي الخطوط ومرافقها وفي عموم منافعها وكيف كانت الحاجة إلى استخراجها وكيف اختلفت صورها على قدر اختلاف طبائع أهلها وكيف كانت ضرورتهم إلى وضعها وكيف كانت تكون الهلة عند فقدها .
وقلنا في العقد ولم تكلفوه وفي الإشارة ولم اجتلبوها ولم شبهوا جميع ذلك ببيان اللسان حتى سموه بالبيان . ولم قالوا : القلم أحد اللسانين والعين أنم من اللسان .
وقلنا في الحاجة إلى المنطق وعموم نفعه وشدة الحاجة إليه وكيف صار أعم نفعاً ولجميع هذه الأشكال أصلاً وصار هو المشتق منه

والمحمول عليه وكيف جعلنا الأجسام الصامتة نطقاً والبرهان الذي في الأجرام الجامدة بياناً .
وذكرنا جملة القول في الكلب والدِّيك في الجزْأين الأوَّلين وذكرْنا جملة القول في الحمام وفي الذِّبَّان ) و في الغربان وفي الخنافس وفي الجعلان إلاّ ما بقي من فضْل القول فيهما فإنّا قد أخَّرنا ذلك لدخوله في باب الحشرات وصواب موقعهما في باب القول في الهمج في الجزء الثالث .
وإذا سمعت ما أودعها اللّه تعالى من عظيم الصَّنعة وما فطرها اللّه تعالى عليه من غريب المعرفة وما أجْرى بأسبابها من المنافع الكثيرة والمِحن العظيمة وما جعل فيها من الدَّاء والدَّواء أجلَلْتها أنْ تسميها همجاً وأكبرت الصنف الآخر أنْ تسمِّيه حشرة وعلمت أنَّ أقدارَ الحيوان ليست على قدر الاستحسان ولا على أقْدار الأثمان .
وذكرنا جملة القول في الذّرّة والنَّملة وفي القرد والخنزير وفي الحيَّات والنّعام وبعض القول في النَّار في الجزء الرابع .


والنار حفظك اللّه وإنْ لم تكن من الحيوان فقد كان جرى من السَّبب المتَّصل بذكرها ومن القول المضمر بما فيها ما أوجبَ ذِكْرها والإخبار عن جملة القول فيها .
وقد ذكرنا بقيَّة القول في النّارِ ثمَّ جملة القول في العصافير ثمَّ جملة القول في الجرذان والسَّنانير والعقارب وِلجَمْعِ هذه الأجناس في باب واحد سببٌ سيعرفه من قرأه ويتبيّنه من رآه .
ثمَّ القولَ في القمل والبراغيث والبعوض ثمَّ القول في العنكبوت والنَّحل ثمَّ القولَ في الحُبارى . ثمَّ

الإطناب والإيجاز

وقد بقيتْ أبقاك اللّه تعالى أبوابٌ توجب الإطالة وتُحوج إلى الإطناب وليس بإطالةٍ ما لم يُجاوزْ مِقْدارَ الحاجة ووقف عند منتهى البغية .


وإنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرُها لكثيرها وقليلها لقليلها وشريفُها لشريفها وسخيفها لسخيفها والمعاني المفردةُ البائنة بصٍُ ورها وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقلَّ مما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهاتُ الملْتبسة .
ولو جَهِد جميعُ أهل البلاغة أن يُخبروا من دونهم عن هذه المعاني بكلام وجيز يُغْني عن التفسير باللِّسان والإشارة باليد والرأس لما قَدَرُوا عليه وقد قال الأوّل : إذا لم يكنْ ما تُريدُ فأرِدْ ما يكون وليس ينبغي للعاقل أن يسُوم اللُّغاتِ ما ليس في طاقتها ويسومَ النُّفوس ما ليس في جِبلَّتها ولذلك صار يحتاجُ صاحبُ كتاب المنطق إلى أنْ يفسِّره لِمَنْ طُلب مِنْ قبَلِه علم المنطق وإن كان المتكلمُ رفيق اللِّسان حسن البيان إلاّ أنِّي لا أشُكُّ على حالٍ أنَّ النفوسَ إذْ كانتْ إلى الطَّرائف أحنَّ وبالنَّوادر أشغف وإلى قصار الأحاديث أمْيل وبها أصبَّ أنَّها خليقةٌ لاستثقال الكثير وإن استحقَّت

تلك المعاني الكثيرة وإنْ كان ذلك الطَّويلُ أنفعَ وذلك الكثيرُ أردّ .

رجع إلى سرد سائر أبواب الكتاب

وسنبدأ بعون اللّه تعالى وتأييده بالقول في الحشرات والهمج وصغار السباع والمجهولات الخاملة الذِّكْر من البهائم ونجعل ذلك كله باباً واحداً ونتَّكل بعد صُنْع اللّه تعالى على أنّ ذلك الباب إذْ كان أبواباً كثيرة وأسماء مختلفة أنّ القارئ لها لا يملُّ باباً حتَّى يخرجه الثَّاني إلى خلافه وكذلك يكون مقامُ الثَّالث من الرَّابع والرابع من الخامس والخامس من السَّادِس

مقياس قدر الحيوان

وليس الذي يُعتمد عليه من شأن الحيوان عِظم الجثة ولا كثرة العدد ولا ثقل الوزن والغايةُ التي يُجرى إليها والغرض الذي نرمي إليه غير ذلك

لأن خلْق البعوضة وما فيها من عجيب التركيب ومن غريب العمل كخلْق الذَّرَّة وما فيها من عجيب التركيب ومن الأحاسيس الصَّادقة والتدابير الحسنة ومن الرويَّةِ والنظر في العاقبة والاختيارِ لكلِّ ما فيه صلاحُ المعيشة ومع ما فيها من البُرهانات النيرة والحججِ الظَّاهرة .
وكذا خلق النَّحْلة مع ما فيها من غريب الحكم وعجيب التَّدبير ومن التقدُّم فيما يُعيشها والادخارِ ليوم العجْز عن كسبها وشمِّها ما لا يُشَمُّ ورؤيتها لما لا يُرى وحُسن هدايتها والتّدبير في التأمير عليها وطاعة ساداتها وتقسيط أجناس الأعمال بينها على أقدار معارفها وقُوّة أبدانها .
فهذه النَّحلة وإن كانت ذبابة فانظر قبل كل شيء في ضروب انتفاع ضُروب الناس فيها فإنَّك تجدُها أكبر من الجبل الشامخ والفضاء الواسع .
وكلُّ شيء وإن كان فيه من العجب العاجب ومن البُرهان النّاصع ما يوسِّع فِكر العاقل ويملأ صدْر المفكّر فإنّ بعض الأمور أكثرُ أعجوبة وأظهر علامة وكما تختلف بُرهاناتها في الغموض والظُّهور فكذلك تختلف في طبقات الكثْرةِ وإن شملتها الكثرةُ ووقع عليها اسم البرهان .

( رجْع إلى سرد سائر أبواب الكتاب ) ولعلَّ هذا الجزء الذي نبتدئُ فيه بذكر ما في الحشرات والهمج أنْ يفضل من ورقه شيءٌ فنرفعه ونتِمَّه بجملة القول في الظّباء والذئاب فإنَّهما بابان يقصُران عن الطوال ويزيدان على وقد بقي من الأبواب المتوسِّطة والمقتصدة المعتدلة التي قد أخذت من القِصر لمنَ طلب القصر )
بحظٍّ ومن الطُّول لمن طلب الطُّول بحظّ وهو القولُ في البقر والقولُ في الحمير والقولُ في كِبار السِّباع وأشرافِها ورؤسائها وذوِي النَّباهة منها كالأسد والنَّمر والبَبْر وأشباه ذلك مما يجمعُ قوَّة أصل النَّاب والذَّرب وشَحْو الفم والسَّبُعيّة وحدّة البرثن وتمكُّنه في العصب وشدّة القلب وصرامته عند الحاجة ووثاقة خَلْق البدن وقوّته على الوثْب .
وسنذكر تسالُمَ المتسالمةِ منها وتعادِي المتعادية منها وما الذي

أصلح بينها على السَّبُعيَّة الصِّرف واستواء حالها في اقتيات اللُّحمان حتَّى ربَّما استوت فريستُها في الجنس .
وقد شاهدْنا غير هذه الأجناس يكون تعاديها من قِبل هذه الأمور التي ذكرناها وليس فيما بين هذه السِّباع بأعيانها تفاوتٌ في الشِّدَّة فتكون كالأسد الذي يطلب الفهد ليأكله والفهدُ لا يطمع فيه ولا يأكله فوجدنا التَّكافؤ في القُوَّة والآلة من أسباب التَّفاسُد وإنَّ ذلك ليعملُ في طباع عقلاء الإنس حتَّى يخُرجوا إلى تهارُشِ السِّباع فما بالها لم تعمل هذا العمل في أنفُس السِّباع وسنذكر علَّة التسالم وعِلَّة التعادي ولِم طُبعت رؤساء السِّباع على الغفلة وبعض ما يدخلُ في باب الكرَم دون صغار السِّباع وسفْلتها وحاشيتها وحَشْوها وكذلك أوساطها والمعتدلة الآلة والأسر منها .
ولم نذكر بحمد اللّه تعالى شيئاً من هذه الغرائب وطريفة من هذه الطرائف إلا ومعها شاهد من كتاب مُنْزلٍ أو حديثٍ مأثور

أو خبرٍ مستفيض أو شعرٍ معروف أو مثل مضروب أو يكون ذلك ممّا يشهد عليه الطبيب ومن قد أكثر قراءة الكتب أو بعض من قد مارَس الأسفار وركب البحار وسكنَ الصَّحارِي واستَذْرى بالهضاب ودخل في الغياض ومشى في بطون الأودية .
وقد رأيْنا أقواماً يدَّعُون في كتبهم الغرائب الكثيرة والأمور البديعة ويخاطرون من أجل ذلك بمروءاتهم ويُعرِّضون أقدارهم ويسلِّطون السُّفهاء على أعراضهم ويجترُّون سُوء الظَّنِّ إلى أخبارهم ويحكِّمون حُسّاد النِّعم في كتبهم ويمكِّنون لهم من مقالتِهم وبعضهم يتّكل على حُسْن الظَّنِّ بهم أو على التسليم لهم والتقليد لدعواهم وأحسنهم حالاً من يُحِبُّ أن يُتفضَّلَ عليه ببسط العُذْر له ويُتكلّف الاحتجاجُ عنه ولا يبالي أن يُمَنّ بذلك على عقبه أو من دان بدينه أو اقتبس ذلك العلم من قِبل كُتُبه .


ونحن حفظك اللّه تعالى إذا استنطقْنا الشَّاهد وأحَلْنا على المثل فالخصومة حينئذٍ إنَّما هي )
بينهم وبينها إذْ كنّا نحنُ لم نستشهد إلاّ بما ذكرنا وفيما ذكرنا مقنعٌ عند علمائنا إلاّ أن يكون شيءٌ يثبتُ بالقياس أو يبطلُ بالقياس فواضعُ الكتاب ضامنٌ لتخليصه وتلخيصه ولتثبيتِهِ فأمَّا الأبوابُ الكبارُ فمثلُ القَوْل في الإبل والقولِ في فضيلة الإنسان على جميع الحيوان كفضل الحيوان على جميع النامي وفضل النَّامي على جميع الجماد .
وليس يدخلُ في هذا الباب القولُ فيما قسم اللّه عزّ وجلّ لبعض البقاع من التَّعظيم دون بعض ولا فيما قسم من السّاعات والليالي والأيَّام والشُّهور وأشباه ذلك لأنّه معنًى يرجع إلى المختبرين بذلك من الملائكة والجنّ والآدميِّين .
فمن أبواب الكبار القول في فصْل ما بين الذُّكورةِ والإناث وفي فصْل ما بين الرّجل والمرأة خاصَّة .
وقد يدخل في القول في الإنسان ذكر اختلاف النّاس في الأعمار وفي طول الأجسام وفي مقادير العقول وفي تفاضل الصِّناعات وكيف

قال من قال في تقديم الأوَّل وكيف قال من قال في تقديم الآخر .
فأما الأبوابُ الأُخر كفضْل الملكِ على الإنسان وفضلِ الإنسان على الجانّ وهي جملة القول في اختلاف جواهرهم وفي أيِّ موضع يتشاكلون وفي أيِّ موضع يختلفون فإن هذه من الأبوابَ المعتدلة في القصَر والطّول . وليس من الأبواب بابُ إلاّ وقد يدخلُه نُتفٌ من أبوابٍ أُخرَ على قدْرِ ما يتعلّق بها من الأسباب ويعرض فيه من التضمين ولعلك أن تكون بها أشدَّ انتفاعاً .
وعلى أني ربما وشّحْت هذا الكتاب وفصَّلت فيه بين الجزء والجزء بنوادر كلام وطرف أخبار وغُرر أشعار مع طرف مضاحيك ولولا الذي نُحاول من استعطاف على استتمام انتفاعكم لقد كنَّا تسخَّفْنا وسخَّفْنا شأن كتابنا هذا .
وإذا علم اللّه تعالى موقع النِّيَّة وجهة القصْد أعان على السَّلامة من كلّ مخوف .

العلة في عدم إفراد باب للسمك

ولم نجعل لما يسكن المِلحَ والعذوبة والأنهارَ والأدوية والمناقع والمياه الجارية من السَّمَك وممَّا يخالف السَّمك ممَّا يعيش مع السمك باباً مجرّداً لأنِّي لم أجدْ في أكثره شِعراً يجمع الشّاهد ويُوثق منه بحسْنِ الوصف وينشِّط بما فيه من غير ذلك للقراءة ولم يكن الشّاهد عليه إلاّ أخبار البحْريِّين وهم قومٌ لا يعدُّون القول في باب الفِعْل وكلّما كان الخبرُ أغرب كانوا به أشدّ عُجْباً مع عبارة غثَّة ومخارج سَمِجة .
وفيه عيبٌ آخر : وهو أنّ معه من الطّول والكثْرة ما لا تحتملونه ولو غنَّاكم بجميعه مُخارِق وضرب عليه زلْزل وزمر به

بَرْصُوماً فلذلك لم أتعرَّضْ له .
وقد أكثر في هذا الباب أرسطاطاليس ولم أجد في كتابه على ذلك من الشّاهد إلاّ دعْواه .
ولقد قلت لرجل من البحريِّين : زعم أرسطاطاليس أنّ السّمكة لا تبتلعُ الطُّعم أبداً إلاّ ومعه شيءٌ من ماء مع سعة المدخل وشرّ النفس فكان من جوابه أن قال لي : ما يعلم هذا إلاّ مَنْ كان سمكة مرَّةً أو أخبرته به سمكة أو حدَّثه بذلك الحواريُّون أصحاب عيسى فإنهم كانوا صيّادين وكانوا تلامذة المسيح .
وهذا البحريُّ صاحبُ كلام وهو يتكلَّف معرفة العِلل وهذا كان

جوابه ولكني لن أدع ذِكْرَ بعض ما وجدته في الأشعار والأخبار أوْ كان مشهوراً عند من ينزل الأسيافَ وشطوط الأودية والأنهار ويعرفه السَّمَّاكون ويُقِرُّ بهِ الأطبَّاء بقدر ما أمكن من القول .
زعم إياس بن معاوية في الشبُّوط وقد روى لنا غيرُ واحد من أصحابِ الأخبار أنّ إياسَ بن مُعاوية زعم أنّ الشَّبُّوطة كالبغْل وأنّ أُمّها بُنيّة وأباها زَجْرٌ وأنّ من الدّليل على ذلك أنّ الناس لم يجدوا في بطن شَبُّوطة قطُّ بيضاً .
وأنا أخبرك أنِّي قد وجدته فيها مِراراً ولكنِّي وجدتُهُ أصغر جُثّةً وأبعد من الطِّيب ولم أجده عامّاً كما أجده في بطون جميع السمك .


فهذا قول أبي واثلة إياس بن معاوية المزني الفقيه القاضي وصاحب الإزكان وأقْوف من كرْز الشك في أخبار البحريين والسّماكين والمترجمين فكيف أسكُنُ بعد هذا إلى أخبار البحْريِّين وأحاديث السمَّاكين وإلى ما في كتابِ رَجُل لعلَّه أنْ لو وجد هذا المترجم أن يُقِيمَهُ على المِصْطبة ويبرأ إلى النَّاس من كذبه عليه ومن إفساد معانيه بسوء ترجمته .

فصيلة الضب

والذي حضرني من أسماء الحشرات ممَّا يرجع عمود صُورها إلى

قالبٍ واحد وإن اختلفتْ بعد ذلك في أمور فأوَّل ما نذكر من ذلك الضبّ .
والأجناسُ التي ترجع إلى صورة الضّبّ : الورلُ والحرباء والوحرة والحُلْكة وشحمة الأرض وكذلك العظاء والوزغ والحرذون وقال أبو زيد : وذكر العظاية هو العضْرَفُوط ويقال في أمِّ حُبين حُبيْنة وأشباهُها مما يسكن الماء : الرّقُّ والسُّلحفاة والغيلم والتِّمساح وما أشبه ذلك .

الحشرات

وممّا نحن قائلون في شأنه من الحشرات : الظربان والعُثّ والحُفَّاث

والعِربِدُ والعضْرفوط والوبْر وأم حبين والجعل والقرَنْبى والدَّسَّاس والخنفساء والحيّة والعقرب والشّبث والرُّتيلاء والطَّبُّوع والحرقُوص والدَّلم وقمْلة النَّسْر والمثل

والنِّبْر وهي دويْبَّة إذا دبَّتْ على جلد البعير تورَّم ولذلك يقول الشاعر وهو يصف إبله بالسِّمن : ( كأنّها من بُدُنٍ واستيقارْ ** دَبَّتْ عليها ذربات الأنبارْ ) وقال الآخر : ( حمر تحقّنت النَّجيلَ كأنما ** بجلودهن مدارِجُ الأنبارِ )
والضَّمْج والقنفذ والنَّمْل والذّرِّ والدّساس ومنها ما تتشاكل في وجوه وتختلف من وجوه : كالفأر والجرذان والزباب والخلد واليربوع وابن عِرس وابن مقرض

ومنها العنكبوت الذي يقال له منونة وهي شرُّ من الجرَّارة والضّمْج .

ما فيه الوحشي والأهلي من الحيوان

وسنقول في الأجناس التي يكون في الجنس منها الوحشيُّ والأهليّ كالفيلة والخنازير والبقر والحمير والسَّنانير .
والظِّباء قد تَدْجُن وتُولّد على صُعوبةٍ فيها وليس في أجناس الإبل جنس وحشيٌّ إلاّ في قول الأعراب .
وممَّا يكون أهليّاً ولا يكون وحشيّاً وهو سبعُ الكلاب وليس يتوحّش منها إلاّ الكلب الكَلِب فأمّا الضِّباع والذِّئاب

والأسد والنمور والبُبور والثعالب وبنات آوى فوحشيَّةٌ كلها وقد يقلّم الأسد وتُنزع أنْيابه ويطول ثواؤُه مع الناس حتى يهرم مع ذلك ويحسّ بعجزه عن الصَّيد ثمَّ هو في ذلك لا يُؤتمن عُرامه ولا شروده إذا انفرد عن سوَّاسه وأبصر غيضة قُدّامها صَحراء .
قصة الأعرابي والذئب وقد كان بعض الأعراب ربّى جرو ذئب صغيراً حتَّى شبَّ وظنَّ أنه يكونُ أغْنى غناءً من الكلب وأقوى على الذّبِّ عن الماشية فلمَّا قوي شيئاً وثب على شاةٍ فذبحها وكذلك يصنعُ الذِّئب ثمَّ أكل منها فلمَّا أبصر الرّجل أمرهُ قال : ( أكَلْتَ شوَيهتي وَربيت فينا ** فمن أنباك أنّ أباك ذيبُ )

وقد أنكر ناسٌ من أصحابنا هذا الحديث وقالوا : لم يكنْ ليألفه ويقيم معه بعد أن اشتدّ عظْمُه ولِمَ لَمْ يذهَبْ مع الذِّئاب والضِّباع ولم تكن الباديةُ أحبَّ إليه من الحاضرة والقفارُ أحبَّ إليه من المواضع المأنوسة .
كيف يصير الوحشيُّ من الحيوان أهلياً وليس يصير السبعُ من هذه الأجناس أو الوحشيُّ من البهائم أهليّاً بالمقام فيهم وهو لا يقدر ما يعتري الوحشي إذا صار إلى الناس وقد تتسافد وتتوالد في الدُّور وهي بعد وحشيَّة وليس ذلك فيها بعامّ ومن الوحْش ما إذا صار إلى النّاس وفي دُورهم ترك السّفاد ومنها ما لا يطعم ولا يشربُ البتَّة بوجْهٍ من الوجوه ومنها ما يُكره على الطُّعْم

ويدخل في حلقة كالحيّة ومنها ما لا يسفد ولا يدْجُن ولا يطعم ولا يشرب ولا يصيحُ حتى يموت وهذا المعنى في وحشيِّ الطَّير أكثر .
السوراني ورياضته للوحوش والذي يحكى عن السوراني القَنَّاص الجبليّ ليس بناقضٍ لما قُلنا لأنّ الشَّيء الغريبَ والنادر الخارجيّ لا يقاس عليه وقد زعموا أنّه بلغ من حذْقه بتدريب الجوارح وتضْرِيتها أنّه ضرَّى ذئباً حتّى اصطاد به الظِّباء وما دونها صيداً ذريعاً وأنه ألفه حتى رجع إليه من ثلاثين فرسخاً وقد كان بعضُ العُمَّال سرقه منه وقد ذكروا أنّ هذا الذِّئب قد صار إلى العسكر وأن هذا السُّوراني ضرّى أسداً حتى اصطاد له الحمير فما دونها صيداً ذريعاً وأنه ضرَّى الزَّنابيرَ فاصطاد بها الذِّبّان وكلُّ هذا عجب وهو غريبٌ نادرٌ بديعٌ خارجيّ

وذكروا أنّه من قيس عيلان وأن حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قد ولدته .
الحيوانات العجيبة وليس عندي في الحمار الهنديِّ شيء وقد ذكره صاحب المنطق فأما الدِّباب وفأرة المسك والفنك والقاقُم والسِّنجاب والسَّمُّور وهذه الدوابّ ذوات الفِراء والوبر الكثيف النّاعم والمرغوب فيه والمنتفع به فهي عجيبة .
وإنّما نذكر ما يعرفه أصحابنا وعلماؤنا وأهلُ باديتنا ألا ترى أنّي لم أذكر لك الحريش والدُّخس ولا هذه السِّباع المشتركة الخلق

المتولّدة فيما بين السِّباع المختلفة الأعضاء المتشابهة الأرحام التي إذا صار بعضُها في أيدي القرّادين والمتكسِّبين و الطوّافين وضعوا لها أسماء فقالوا : مقلاس وكيلاس وشلقطير وخلقطير وأشباه ذلك حين لمْ تَكُنْ من السِّباع الأصلية والمشهورة النسب والمعروفة بالنّفع والضّرر .
وقد ذكرنا منها ما كان مثل الضبع والسِّمع والعِسبار إذ كانت معروفةً عند الأعراب مشهورة في الأخبار منوَّهاً بها في الأشعار .


الاعتماد على معارف الأعراب في الوحش وإنَّما أعتمد في مثل هذا على ما عند الأعراب وإن كانوا لم يَعْرِفوا شكل ما احتِيجَ إليه منها من جهة العناية والفلاية ولا من جهة التذاكر والتكسُّب ولكن هذه الأجناس الكثيرة ما كان منها سبعاً أو بهيمةً أو مشترك الخلْق فإنّما هي مبثوثة في بلاد الوحْش : من صحراء أو وادٍ أو غائط أو غيضة أو رملةٍ أو رأس جبل وهي في منازلهم ومناشئهم فقد نزلوا كما ترى بينها وأقاموا معها وهم أيضاً من بين النّاس وحشٌ أو أشباه الوحش .
وربَّما بلْ كثيراً ما يُبتلون بالناب والمخلب وباللدغ واللَّسع والعضّ والأكل فخرجتْ بهم الحاجة إلى تعرُّف حالِ الجاني والجارح والقاتل وحال المجنيِّ عليه والمجروحِ والمقتول وكيف الطَّلبُ والهرب وكيف الداء والدواء لطول الحاجة ولطول وُقوع البصر مع ما يتوارثون من المعرفة بالدَّاء والدواء

4

معرفة العرب للآثار والأنواء والنجوم

ومن هذه الجهة عرفوا الآثار في الأرض والرَّمل وعرفوا الأنواءَ ونجوم الاهتداء لأنَّ كلَّ من كان بالصَّحاصح الأماليس حيث لا أمارة ولا هادي مع حاجته إلى بعد الشَّقّة مضطرٌّ إلى التماس ما ينجيه ويُؤْديه .
ولحاجته إلى الغيث وفِراره من الجدْب وضنِّه بالحياة اضطرته الحاجة إلى تعرُّف شأنِ الغيث .
ولأنه في كلِّ حالٍ يرى السَّماء وما يجري فيها من كوكب ويرى التَّعاقب بينها والنّجوم الثوابت

4

أقوال لبعض الأعراب في النجوم

وسئلت أعرابيَّة فقيل لها : أتعرفين النجوم قالت : سبحانَ اللّه أما أعرف أشباحاً وُقوفاً عليَّ كلَّ ليلة .
وقال اليقطريّ : وصف أعرابيٌّ لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء ونجوم الاهتداء ونجوم ساعات اللّيل والسُّعودِ والنُّحوس فقال قائلٌ لشيخ عباديٍّ كان حاضراً : أما ترى هذا الأعرابيَّ يعرف من النُّجوم ما لا نعرف قال : ويل أمِّك منْ لا يعرف أجذاع بيته قال : وقلت لشيخٍ من الأعراب قد خرِفَ وكان من دُهاتهم : إني لا أراكَ عارفاً بالنُّجوم قال : أما إنّها لو كانت أكثر لكنتُ بشأنها أبصر ولو كانت أقلَّ لكنت لها أذْكر .
وأكثرُ سببِ ذلك كلِّه بعد فَرْط الحاجة وطول المدارسة دِقّةُ الأذهان وجودة الحفظ ولذلك قال مجنونٌ من الأعراب لَمّا قال

له أبو الأصْبَغِ بن رِبْعيّ : أما تعرِف النجوم قال : وما لي أعرفُ من لا يعرفني فلو كان لهذا الأعرابيِّ المجنون مثلُ عُقول أصحابه لعرف مثل ما عرفوا .

ما يجب في التعليم

ولو كان عندي في أبْدان السَّمُّور والفنَك والقَاقُم ما عِندي في أبدان الأرانب والثَّعالب دون فرائها لذكرتها بما قَلَّ أو كثُر لكنّه لا ينبغي لمن قلَّ علمُه أن يدعَ تعليم من هو أقلُّ منه علماً ( الدساس وعلة اختصاصه بالذِّكر ) ولو كانت الدَّسَّاس من أصناف الحيّات لم نخصَّها من بينها بالذِّكر ولكنها وإن كانت على قالب الحيَّات وخَرْطها وأفرغت

كإفراغها وعلى عَمُود صُورها فخصائصها دون خصائصها كما يناسبها في ذلك الحُفَّاث والعِرْبِد وليسا من الحيّات كما أن هذا ليس من الحيّات لأنّ الدّسَّاس ممسوحة الأذن وهي مع ذلك ممَّا يلد ولا يبيض والمعروف في ذلك أنّ الولادة هي في الأشرف والبيض في الممسوح .
وقد زعم ناسٌ أنّ الولادة لا تُخرج الدَّسَّاسَ من اسم الحيّة كما أن الولادة لا تخرج الخفَّاش من اسم الطير .
وكلّ ولد يخرج من بيضه فهو فرْخ إلا ولد بيض الدَّجاج فإنّه فَرُّوج .
والأصناف التي ذكرناها مع ذكر الضَّبّ تبيض كلُّها ويسمى ولدُها بالاسم الأعم فرْخاً .
وزعم لي ابنُ أبي العجوز أنّ الدّسّاس تلد وكذلك خبّرني به محمد بنُ أيوبَ ابن جعفر عن أبيه وخبَّرني به الفضل بنُ إسحاق

بن سليمان فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم .
وقد زعموا بهذا الإسناد أنّ الأرْويَّة تضعُ مع كلِّ ولد وضعَتْه أفعى في مشيمةٍ واحدة .
وقال الآخرون : الأرويّة لا تعرف بهذا المعنى ولكنه ليس في الأرض نمرة إلا وهي تضعُ ولدها وفي عنقه أفعى في مكان الطَّوق وذكروا أنَّها تنهش وتعضّ ولا تقتل .
ولم أكتب هذا لتقرَّ بهِ ولكنها رواية أحببت أن تسمعها ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له ولكن ليكنْ قلبك إلى إنكاره أميلَ .

الشك واليقين

وبعد هذا فاعرف مواضع الشّكّ وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له وتعلم الشَّكّ في المشكوك فيه تعلُّماً فلو لم يكن في ذلك إلاّ تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه .
ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف .
ولمّا قال ابن الجهم للمَكِّيِّ : أنا لا أكاد أشكّ قال المكّيّ : وأنا لا أكاد أوقن ففخر عليه المكيّ بالشكّ في مواضع الشّك كما فخر عليه ابنُ الجهم باليقين في مواضع اليقين .
وقال أبو إسحاق : نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدتُ الشُّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود .
وقال أبو إسحاق : الشاك أقربُ إليك من الجاحِد ولم يكنْ يقينٌ

قط حتى كان قبله شكّ ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حالُ شكّ .
وقال ابنُ الجهم : ما أطمعني في أوْبة المتحيِّر لأنّ كل من اقتطعته عن اليقين الحيرة فضالته التبيُّن ومنْ وجد ضالته فرِح بها .
وقال عمرو بن عُبيد : تقرير لسانِ الجاحد أشدُّ من تعريفِ قلب الجاهل .
وقال أبو إسحاق : إذا أردت أن تعرِف مقدار الرجل العالِم وفي أيِّ طبقةٍ هو وأردت أن تدخِله الكورَ وتنفخ عليه ليظهر لك فيه الصّحَّةُ من الفساد أو مقدارُه من الصّحَّة والفساد فكن عالماً في صورة متعلِّم ثم اسأله سؤال من يطمع في بلوغ حاجتهِ منه .
فصل ما بين العوام والخواص في الشك والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق

والتكذيب ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك وعلى مقادير الأغلب .
حرمة المتكلمين وسمع رجلٌ ممَّن قد نظر بعض النظر تصويب العلماء لبعض الشكّ فأجرى ذلك في جميع الأمور حتّى زعم أنّ الأمور كلها يُعرف حقها وباطُلها بالأغلب .
وقد مات ولم يخلّف عَقِباً ولا واحداً يدينُ بدينه فلو ذكرت اسمه مع هذه الحال لم أكنْ أسأت ولكنِّي على حالٍ أكرهُ التّنويه بذكر من قد تحرّم بحُرمة الكلام وشارك المتكلِّمين في اسم الصِّناعة ولا سيَّما إنْ كان ممّن ينتحل تقْديم الاستطاعة .


الأوعال والثياتل والأيايل فأمّا القولُ في الأوعال والثّياتِل والأيايل وأشباه ذلك فلم يحضرْنا فيها ما إن نجعل لذكرها باباً مبوباً ولكننا سنذكرها في مواضِع ذكرها من تضاعيف هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى .

الضب

وأنا مبتدئٌ على اسم اللّه تعالى في القول في الضَّبّ على أنِّي أذمُّ هذا الكتابَ في الجملة لأنَّ الشواهد على كلِّ شيء بعينه وقعتْ متفرِّقة غير مجتمعة ولو قدرتُ على جمعها لكان ذلك أبلغ

في تزكية الشَّاهد وأنور َ للبُرهان وأملأ للنفس وأمْتع لها بحسن الرّصف وأحمده لأنّ جُملة الكتاب على حالٍ مشتملةٍ على جميع تلك الحجج ومحيطة بجميع تلك البرهانات وإن وقع بعضُه في مكان بعضٍ تأخَّر متقدِّم وتقدّم متأخر .

جحر الضب وما قيل فيه من الشعر

وقالوا : و من كيْس الضّبّ أنّه لا يتخذ جُحره إلاّ في كُدْية وهو الموضع الصُّلب أو في ارتفاعٍ عن المسيل والبسيط ولذلك توجدُ براثنُه ناقصةً كليلة لأنّه يحفر في الصَّلابة ويعمِّق الحفْر ولذلك قال خالد بن الطَّيْفان : ( ومَولى كمولى الزِّبرقانِ دَمَلْته ** كما دُمِلَتْ ساقٌ تهاضُ بها كَسْرُ )

( إذا ما أحالتْ والجبائرُ فَوْقها ** مضى الحوْل لا بُرْءٌ مُبينٌ ولا جَبرُ ) ( تراه كأنّ اللّه يَجْدَعُ أنفه ** وأذْنَيْهِ إنْ مولاهُ ثابَ له وفرُ ) وقال كثيِّر : ( فإن شئت قلت له صادقاً ** وجدْتك بالقُفِّ ضَباً جَحُولا ) ( من اللاءِ يحفِرْن تحت الكُدى ** ولا يَبْتَغين الدِّماث السُّهولا ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : وجدْنا أبا الجبَّار ضَبّاً مورَّشاً لهُ في الصَّفاة بُرثنٌ ومعاوِلُ

( له كدْيَةٌ أعيت على كلِّ قانصٍ ** ولو كان مِنهمْ حارشان وحابلُ ) ( ظَلِلْتُ أراعي الشمس لولا ملالتي ** تزلَّع جلدي عِنْدَهُ وهو قائِلُ ) وأنشد لدريد بن الصمة : ( وعوْراء مِنْ قيلِ امرئٍ قد ردَدْتُها ** بسالمةِ العَيْنينِ طالبةٍ عُذْرا ) ( ولو أنني إذ قالها قلْت مِثْلَها ** وأكثر منها أورثتْ بَيْنَنا غِمْرا ) ( فأعْرَضْتُ عنها وانتظرت به غداً ** لعلَّ غداً يُبدي لمُنْتظِر أمرا ) ( لأُخرج ضباً كان تحت ضلوعِه ** وأقْلِمَ أظفاراً أطال بها الحفرا )


وقال أوسُ بنُ حَجَر في أكل الصَّخرِ للأظفار : ( فأشرط فيها نفسهُ وهو مُعْصِمٌ ** وألْقى بأسبابٍ لَهُ وتوَكّلا ) فقد وصفوا الضَّبّ كما ترى بأنه لا يحفِرُ إلاّ في كدية ويطيلُ الحفْرَ حتّى تفنى براثنه ويتوخّى به الارتفاع عن مجاري السّيل و المياه وعن مدق الحوافر لكيلا يَنْهارَ عليه بيته .

الموضع الذي يختاره الضب لجحره

ولمّا علم أنَّهُ نَسَّاءٌ سيِّئ الهداية لم يحفر وجاره إلاَّ عند أكمة أو صخْرةٍ أو شجرة ليكون متى تباعد من جُحره لطلب الطُّعم أو لبعض الخوف فالتفت ورآه أحسن الهداية إلى جحره ولأنّه إذا لم يُقِمْ عَلَماً فلعلّه أن يلِجَ على ظرِبانٍ أو وَرَل فلا يكون

دون أكله له شيءٌ .
فقالت العرب : خبٌّ ضبّ و : أخبُّ من ضبّ و أخْدع من ضبّ و : كلُّ ضبٍّ عِنْد مِرْداتِهِ .
وإذا خَدع في زوايا حفيرته فقد توثَّق لنفسه عند نفسه .
حذر بعض الحيوان ولهذه العلّة اتخذ اليربوع القاصعاء والنافقاء والدَّامَّاء والرَّاهطاء وهي أبوابٌ قد اتخذها لحفيرته فمتى أحسَّ بشرٍّ خالف تلك الجهة إلى الباب .
ولهذا وشبهه من الحذر كان التوبير من الأرانب وأشباهها والتوبير : أنْ تطأ على زمعاتها فلا

ولما أشبه هذا التَّدبير صار الظبي لا يدخل كناسَه إلاّ وهو مستدبر يستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه .

شعر في حزم الضب واليربوع

وقد جمع يحيى بن منصورٍ الذُّهليّ أبواباً من حزم الضب وخبثه وتدبيره إلاّ أنّه لم يرد تفضيل الضب في ذلك ولكنه بعد أنْ قدَّمه على حمْقى الرِّجال قال : فكيف لو فكّرتم في حزْم اليربوع والضبّ .
وأنشدني فقال : ( وبعضُ النّاسِ أنقصُ رأي حَزْمٍ ** من اليربُوع والضبِّ المكونِ )

( يَرى مِرْداتهُ مِن رأسِ مِيلٍ ** ويأمَنُ سَيْلَ بارقةٍ هَتُونِ ) ( وَيَحْفِرُ في الكُدى خَوْفَ انهيارٍ ** ويجعلُ مَكْوَهُ رأسَ الوجينِ ) ( ويخْدَعُ إنْ أردْتَ له احتيالاً ** رواغَ الفهْدِ من أسدٍ كمينِ ) ( ويدخِلُ عَقْرَباً تحت الذّنابى ** ويعمِلُ كيد ذي خدٍ ع طبينِ ) ( فهذا الضبُّ ليس بذي ** حريمٍ مع اليربوعِ والذِّئب اللَّعين ) وقد ذكر يحيى جميع ما ذكرنا إلاّ احتياله بإعداد العقرب لكفِّ المحترش فإنه لم يذكر هذه الحيلة من عمله وسنذكر ذلك في موضعه والشِّعر الذي يُثبتُ له ذلك كثير .
فهذا شأنُ الضّبُ في الحفر وإحكام شأن منزلِه .


الورل وعدم اتخاذه بيتاً ومن كلام العرب أنّ الورل إنَّما يمنعه من اتِّخاذ البُيوت أنَّ اتخادها لا يكونُ إلاّ بالحفر والورل يُبقي على براثنه ويعلم أنّها سلاحه الذي به يقوى على ما هو أشدُّ بدناً منه وله ذنبٌ يؤكل ويُستطاب كثيرُ الشَّحم .

قول الأعراب في مطايا الجن من الحيوان

والأعراب لا يصيدون يربوعاً ولا قُنفذاً ولا ورلاً من أول الليل وكذلك كل شيءٍ يكونُ عندهم من مطايا الجنّ كالنَّعام والظّباء .
ولا تكون الأرنبُ والضَّبع من مراكب الجن لأن الأرنب تحيض ولا تغتسل من الحيض والضبِّاع تركبُ أيورَ القتلى والموتى إذا جيَّفتْ أبدانهم وانتفخوا وأنعظوا ثم لا تغتسل عندهم من الجنابة ولا حنابة إلا ما كان للإنسان فيه شِرْك ولا تمتطي القرود لأن القرد زان ولا يغتسل من فإنْ قتلَ أعرابيٌّ قُنفذاً أو ورلاً من أول الليل أو بعض هذه

المراكب لم يأمنْ على فحل إبله ومتى اعتراه شيءٌ حكم بأنه عقوبةٌ من قبلهم .
قالوا : ويسمعون الهاتف عند ذلك بالنَّعي وبضروب الوعيد .
قول الأعراب في قتل الجان من الحيات وكذلك يقولون في الجانّ من الحيّات وقتلُ الجان عندهم عظيم ولذلك رأى رجلٌ منهم جاناً في قعر بئر لا يستطيع الخروج منها فنزل على خطر شديد حتَّى أخرجها ثم أرسلها من يده فانسابت وغمَّض عَيْنيه لكيلا يرى مدخلها كأنّه يريد الإخلاص في التقرُّب إلى الجن .
قال المازني : فأقبل عليه رجلٌ فقال له : كيف يقدر على أذاك مَنْ لم ينقذه من الأذى غيرك

ما لا يتم له التدبير إذا دخل الأنفاق

وقال : ثلاثة أشياء لا يتمُّ لها التَّدبير إذا دخلت الأسراب والأنفاق والمكامِن والتّوالج حتَّى يغص بها الخرْق . فمن ذلك :

أن الظربان إذا أراد أن يأكل حِسلة الضب أو الضبّ نفسه اقتحم جُحر الضّب مستدبراً ثم التمس أضيق موضع فيه فإذا وجده قد غَصَّ به وأيقنَ أنّه قد حال بينه وبين والآخر : أن الرجل إذا دخل وِجَارَ الضبع ومعه حَبْل فإن لم يسُدّ ببدنه وبثوبه جميع المخارق والمنافذ ثم وصل إلى الضبع من الضياء بمقدار سمّ الإبرة وثبتْ عليه فقطّعته ولو كان أشدّ من الأسد . والثالث : أنّ الضب إذا أراد أن يأكل حُسوله وقف لها من جحرها في أضيق موضعٍ من منفذه إلى خارج فإذا أحكم ذلك بدأ فأكل منها فإذا امتلأ جوفه انحطَّ عن ذلك المكان شيئاً قليلاً فلا يُفْلِتُ منه شيءٌ من ولده إلا بعد أنْ يشبع ويزولَ عن موضعه فيجد منفذاً .
وقال بعض الأعراب :

( ينْشب في المسلكِ عِنْدَ سَلَّتِهْ ** تزاحمَ الضبِّ عصى في كُدْيتِهْ ) ( شعر في أكل الضبّ ولدَه ) وقال : الدَّليل على أنّ الضّبّ يأكلُ ولدَه قول عَمَلَّس بن عقيل بن عُلّفَة لأبيه : ( أكَلْتَ بَنيك أكْل الضّبِّ حتى ** وجدت مَرارَة الكلأ الوبيلِ ) ( فلو أنّ الأُولى كانوا شهوداً ** مَنَعْتَ فِناءَ بيتكَ من بجيلِ ) وأنشد لغيره :

وقال عمرو بن مسافر : عتبت على أبي يوماً في بعض الأمر فقُلت : ( كيف ألومُ أبي طيْشاً ليرْحَمَني ** وَجَدُّه الضَّبُّ لم يَتْرك لَهُ وَلَدَا ) وقال خداش بنُ زُهير : ( فإن سمعُتْم بجيشٍ سالِكاً سَرِفاً ** أو بطْن قَوٍّ فأخْفُوا الجرْس واكتَتِمُوا ) ( ثمَّ ارجِعُوا فأكِبُّوا في بُيُوتِكُمُ ** كما أكبّ على ذي بَطْنه الهرِمُ ) جعله هَرِماً لطول عمره وذي بطنه : ولده .
وقال أبو بكر بن أبي قُحافة لعائشة رضي اللّه عنهما : إنِّي كنتُ نحلتكِ سبعين وَسْقاً من مالي بالعالية وإنّك لمْ تحُوزيه وإنما هو مالُ الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قالت : ما أعرِفُ

لي أختاً غير أسماء قال : إنَّه قد أُلقي في رُوعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية .
قال آخرون : لم يعْنِ بذي بطنه ولده ولكنَّ الضَّبَّ يرمي ما أكل أي يقيء ثم يرجعُ فيأكله فذلك هو ذو بَطْنه فشبَّهُوه في ذلك بالكلب والسّنّور .
وقال عمرو بن مسافر : ما عنى إلا أولاده فكأنَّ خداشاً قال : ارجعوا عن الحرب التي لا تستطيعونها إلى أكل الذُّريَّة والعيال .

قول أبي سليمان الغنوي في أكل الضبة أولادها
قال : وقال أبو سليمان الغنويّ : أبرأ إلى اللّه تعالى من أن تكون الضَّبَّة تأكل أولادها ولكنها تدفنهنَّ وتطمُّ عليهنَّ التُّراب وتتعهدهنَّ في كلِّ يوم حتَّى يُخرَّجن وذلك في ثلاثة أسابيع غير أنّ الثَّعالب والظَّرِبان والطَّير تحفر عنهنَّ فتأكلهنَّ ولو أفلت منهنَّ كلُّ فراخ الضِّباب لَملأْنَ الأرض جميعاً .
ولو أنَّ إنساناً نحل أمَّ الدَّرداء أو مُعاذة العدويَّة أو رابعة القيسيَّة أنهنَّ يأكلن أولادهنَّ لما كان عند أحدٍ من النّاس من إنكار ذلك ومن التكذيب عنهنَّ ومن استعظام هذا القول أكثر مما قاله أبو سليمان في التَّكذيب على الضِّباب أن تكون تأكل أولادها . )
قال أبو سليمان : ولكن الضبّ يأكلُ بعْره وهو طيِّبٌ عنده وأنشد : ( يَعود في تَيْعِه حِدْثانَ مَوْلدِهِ ** فإنْ أسنَّ تغدَّى نَجْوَهُ كَلِفا )

قال : وقال أفَّار بن لقيط : التَّيْع : القيء ولكنّا رويناهُ هكذا إنما قال : يعودُ في رَجْعِه وكذلك الضَّبُّ يأكُلُ رجْعَه .
وزعم أصحابنا أنَّ أبا المنْجُوف السَّدوسيَّ روى عن أبي الوجيه العُكْليّ قوله : ( وأفطنَ مِنْ ضَبٍّ إذا خافَ حَارِشاً ** أعدَّ لهُ عِنْدَ التلمُّس عَقْرَبا )

جملة القول في نصيب الضباب من الأعاجيب والغرائب أوَّل ذلك طولُ الذَّماء وهو بقيَّة النَّفْس وشدَّة انعقاد الحياة والرُّوحِ بعد الذبحِ وهَشْمِ الرّأس والطَّعنِ الجائف النافذ حتَّى يكون في ذلك أعجب من الخنزير ومن الكلب ومن الخنفساء وهذه الأشياء التي قد تفرَّدت بطول الذَّماء .
ثمَّ شارك الضَّبُّ الوزغة والحيَّة فإن الحية تُقطعُ من ثلث جسمها فتعيش إن سلمت من الذَّرّ فجمع الضَّبُّ الخصلتين جميعاً إلا ما رأيت في دَخّال الأذن من هذه الخصلة الواحدة فإنِّي كنتُ أقطعُه بنصفين فيمضي أحدُ نصفيه يمنةً والآخر يَسرة إلا أنِّي لا أعرفُ مقدار بقائهما بعد أن فاتا بَصَرِي .
ومن أعاجيبه طولُ العمر وذلك مشهورٌ في الأشعار والأخبار ومضروبٌ به المثلُ فشارك الحيَّات في هذه الفضيلة وشارك الأفعى الرّمْليَّة والصَّخرية في أنَّها لا تموتُ حتْفَ أنفِها وليس إلا أن تُقْتل أو تصطاد فتبقى في جُون الحوّائين تذيلها الأيدي وتُكره على

الطّعم في غير أرضِها وهوائها حتى تموت أو تحتملها السُّيولُ في الشِّتاء وزمان الزَّمْهرير فما أسرع موتها حينئذ لأنَّها صردة . 4

مثل في الحية

وتقول العرب : أصرد من حيّة كما تقول : أعرى من حية وقال القشيريّ : واللّه لهي أصْردُ من عنزٍ جرْباء . 4 ( حُتوف الحيّات ) وحُتوفها التي تُسرع إليها ثلاثة أشياء : أحدها مُرور أقاطيع الإبل والشَّاء وهي منبسطةٌ على وجه الأرض إما للتشرُّق نهاراً في أوائل البرد وإما للتبرُّد ليلاً في ليالي الصَّيف وإمّا لخروجها في طلب الطُّعم . )
والخصلة الثانية ما يسلَّط عليها من القنافذ والأوعال والورل فإنها

تطالبها مطالبة شديدة وتقوى عليها قوّةً ظاهرة والخنازير تأكلها . وقد ذكرنا ذلك في باب القول في الحيّات .
والخصلة الثالثة : تكسُّب الحوَّائين بصيدها وهي تموت عِندهم سريعاً .
ما يشارك الضب فيه الحية والضَّبُّ يشاركها في طول العمر ثمَّ الاكتفاء بالنسيم والتَّعيشِ ببرد الهواء وذلك عند الهرم وفناء الرُّطوبات ونَقْص الحرارات وهذه كلها عجب .
عود إلى أعاجيب الضب ثم اتخاذه الجحر في الصَّلابة وفي بعض الارتفاع خوفاً من الانهدام ومسيل المياه ثم لا يكون ذلك إلا عند عَلََم يرجع إليه إنْ هو أضلَّ جُحره ولو رأى بالقُرْب تراباً متراكِباً بقدر تلك المِرداة والصَّخرة لم يحفِلْ بذلك فهذا كله كيْسٌ وحزم وقال الشَّاعر :

( سقَى اللّه أرضاً يَعْلم الضب أنّها ** عَذيّة بَطْنِ القاع طيّبةُ البَقْلِ ) ( يرود بها بيتاً على رأس كُدْيةٍ ** وكل امرئٍ في حِرْفة العيْشِ ذو عقْلِ ) وقال البُطين : ( وكلُّ شيءٍ مصيبٌ في تعيُّشِه ** الضبُّ كالنُّون والإنسانُ كالسّبُعِ ) ومن أعاجيبه أنّ له أيرَين وللضبة حِرَين وهذا شيءٌ لا يُعْرف إلاَّ لهما فهذا قولُ الأعراب وأمَّا قولُ كثير من العلماء ومن نقّب في البلاد وقرأ الكتب فإنّهم يزعُمون أنَّ للسَّقَنْقور أيرين وهو الذي يتداوى به العاجزُ عن النكاح ليورثه ذلك القوة .
قالو : و إن للحِرْذون أيضاً أيرين وإنّهم عاينوا ذلك

معاينة وآخر من زعم لي ذلك موسى بن إبراهيم .
والحِرذون دويبة تشبه الحِرباء تكون بناحية مِصْرَ وما والاها وهي دويِّبَة مَليحة موشّاة بألوانٍ ونقط .
وقال جالينوس : الضبُّ الذي له لسانان يصلُح لحمه لكذا وكذا فهذه أيضاً أعجوبة أخرى في الضبِّ : أن يكونَ بعضه ذا لسانين وذا أيرين .
ومن أعاجيب الضَّبَّة أنّها تأكل أولادها وتجاوز في ذلك خلُق الهِرَّة حتّى قالت الأعراب : أعقُّ من ضَبٍّ . )
احتيال الضب بالعقرب وزعمت العرب أنّه يُعِدّ العقربَ في جُحره فإذا سمع صوت الحرْش استثفرها فألصقها بأصْل عَجْب الذَّنَب من تحتُ وضمّ عليها فإذا أدخل الحارشُ يده ليقبض على أصْل ذنبه لسعَتْه العقرب .
وقال علماؤهم : بل يهيِّئ العقارب في جحره لتلسع المحترِشَ إذا أدخل يده .
وقال أبو المنجد بن رويشد : رأيت الضب أخْور دابّة في

الأرض على الحر تراه أبداً في شهر ناجر بباب جُحره متدخِّلاً يخاف أن يقبض قابضٌ بذنبه فربّما أتاه الجاهلُ ليستخرجه وقد أتى بعقرب فوضَعَها تحت ذنبه بينه وبين الأرض يحبسها بعَجْب الذنب فإذا قبض الجاهلُ على أصلِ ذنبه لسعَتْه فَشغِل بنفسه .
فأما ذو المعرفة فإنّ معه عُويْداً يحرِّكه هُناك فإذا زالت العقرب قبض عليه .
وقال أبو الوجيه : كذب واللّه من زعم أنّ الضّبّة تستثفر عقرباً ولكنَّ العقارب مسالمة للضِّباب لأنها لا تعرض لبيضها وفراخها والضبُّ يأكل الجراد ولا يأكل ُ العقارب وأنشد قول التميميّ الذي كان ينزل به الأزديُّ : إنه ليس إلى الطعام يقصد وليس به إلا أنه قد صار به إلفاً وأنيساً فقال : ( أتأنسُ بي ونَجْرُك غير نَجْري ** كما بين العقارب والضِّبابِ )

وأنشد : ( تجَمَّعْن عند الضّبّ حتى كأنه ** على كلِّ حال أسودُ الجِلدِ خنْفَسُ ) لأن العقارب تألف الخنافِس وأنشدوا للحَكم بن عمرو البَهْراني : ( والوزَغُ الرُّقطُ على ذُلِّها ** تُطاعِمُ الحيّاتِ في الجحرِ ) ( والخُنفَسُ الأسود من نَجْره ** مودّةُ العقربِ في السِّرِّ ) لأنك لا تراهُما أبداً إلاّ ظاهرتين يطَّاعمان أو يتسايران ومتى رأيت مكنة أو اطَّلعْتَ على جُحر فرأيت إحداهما رأيت الأخرى .
قال : ومما يؤكِّد القول الأوَّل قولُه : ( ومُسْتثْفرٍ دون السَّوِيّةِ عقرباً ** لقد جئت بجْرياً من الدَّهْرِ أعوجا )

يقول : حين لم ترض من الدهاء والتنكر إلا بما مخالف عنده الناس وتجوزهم 0
إعجاب الضب والعقرب بالتمر وأنشدني ابن داحة لحذيفة بن دأب عمّ عيسى بن يزيد الذي يقال له ابن دأب في حديث طويل من أحاديث العشَّاق : ( لئن خُدِعتْ حُبَّى بِسبٍّ مُزَعفرٍ ** فقدْ يُخْدع الضَّبُّ المخادع بالتّمرِ )

لأن الضب شديد العُجْب بالتّمر فضرب الضب مثلاً في الخُبْث والخديعة .
والذي يدلُّ على أن الضب والعقرب يُعجبان بالتّمر عجباً شديداً ما جاء من الأشعار في ذلك وأنشدني ابن الأعرابيِّ لابن دَغْماء العِجْلي : ( سوى أنكم دُرِّبْتُم فجريْتم ** على دُرْبةٍ والضّبُّ يُحْبَلُ بالتّمْرِ ) فجعل صيده بالتّمر كصيده بالحِبالة وأنشدني القُشيريُّ : ( وما كنت ضباً يُخرج التّمر ضِغْنه ** ولا أنا ممنْ يزدهِيهِ وَعيدُ ) وقال بشر بن المعتمر في قصيدته التي ذكر فيها آيات اللّه عز ذكره في صُنوف خلْقه مع ذكر الإباضيّة والرافضة والحشوية

والنابتة فقال فيها : ( وهِقْلةٌ تَرتاعُ من ظِلِّها ** لها عِرارٌ ولَها زَمْرُ ) ( وضبّة تأكلُ أولادها ** وعُتْرُفانٌ بطنُه صِفْرُ ) ( يؤثِر بالطُّعْم وتأذينهُ ** مُنَجِّمُ ليس له فِكرُ ) ( وظبيةٌ تخضَمُ في حَنْظل ** وعقربٌ يُعجبها التمرُ ) وقال أيضاً بشرٌ في قصيدةٍ له أخرى : ( أما ترى الهِقْلَ وأمعاءَهُ ** يجمعُ بين الصَّخْر والجمْر ) ( وفأرة البيشِ على بيشِها ** أحْرص مِنْ ضبٍّ على تمرِ ) وقال أبو دارة وقد رأيتهُ أنا وكان صاحب قَنْص : ( وما التمْر إلا آفةٌ وبليّةٌ ** على جُلِّ هذا الخَلْقِ من ساكن البَحْرِ ) ( وفي البَرِّ من ذئب وسمع وعقربٍ ** وثُرمُلةٍ تسْعى وخُنفسة تسْري ) ( وقد قيل في الأمثالِ إن كنت واعياً ** عذيرك إنَّ الضَّبَّ يُحْبَلُ بالتمرِ )

وسنفسِّر معاني هذه الأبيات إذا كتبْنا القصيدتين على وجوههما بما يشتملان عليه من ذكر )
الغرائب والحكم والتّدبير والأعاجيب التي أودع اللّه تعالى أصناف هذا الخلْق ليعتبر مُعتبر ويفكر مفكر فيصير بذلك عاقلاً عالماً وموحِّداً مخْلصاً .
طول ذماء الضب والدّليل على ما ذكرْنا من تفسير قولهم : الضّبّ أطولُ شيءٍ ذماء قولهم : إنَّه لأحيا مِن ضَبّ لأنّ حارشه ربّما ذبحه فاستقْصى فرْي الأوداج ثم يدعُه فربما تحرك بعد ثلاثة أيام .
وقال أبو ذؤيبٍ الهذلي : ( ذكر الورُود بها وشاقى أمْرَهُ ** شؤماً وأقْبلَ حينه يتتبَّعُ ) ( فأبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فهاربٌ ** بذمائه أو ساقطٌ متَجَعْجِعُ ) وكان النّاس يروون : فهاربٌ بدمائه يريدون من الدم وكانوا

يكسِرون الدال حتى قال الأصمعيّ : بذمائِه معجمة الذال مفتوحة وقال كثير : ( ولقد شهدْت الخيل يحْمِل شِكَّتي ** متلمِّظٌ خذم العِنانِ بَهيمُ ) ( باقي الذماءِ إذا مَلَكْت مُناقِلٌ ** وإذا جَمَعْتُ به أجشُّ هَزيمُ ) خبث الضب والضّبّ إذا خدَع في جُحره وُصِف عند ذلك بالخبث والمكر ولذلك قال الشاعر : ( إنَّا مُنينا بِضَبٍّ من بني جُمحٍ ** يرى الخيانة مِثْلَ الماء بالعسَلِ ) وأنشد أبو عصام : ( إنّ لنا شيخَين لا ينفعاننا ** غنيَّينِ لا يجْدي عَلَيْنا غِناهُما )

( سقط : بيت الشعر ) ( كأنهما ضبان ضبا مغارة ** كبيران غيداقان صفر كشاهما ) ( فإن يُحْبَلا لا يوجدا في حبالةٍ ** وإنْ يُرصدا يوماً يخبْ راصِداهُما ) ولذلك شبَّهُوا الحِقد الكامنَ في القلْب الذي يسري ضررُه وتدبُّ عقاربُه بالضَّبّ فسمَّوا ذلك الحقد ضبّاً قال مَعنُ بنُ أوس : ( ألا مَنْ لمولًى لا يزالُ كأنَّهُ ** صفاً فيه صَدْعٌ لا يُدانيه شاعِبُ ) ( تدِبُّ ضِبابُ الغشِّ تحت ضُلوعِه ** لأهلِ النّدى من قومِه بالعقارب ) وقال أبو دَهْبل الجمحيّ : ( فاعلمْ بأنِّي لِمَنْ عاديتَ مضطغنٌ ** ضبّاً وإني عليك اليوم مَحْسودُ ) وأنشد ابن الأعرابيّ : ) ( يا رُبَّ مولًى حاسدٍ مُباغضِ ** عليَّ ذي ضغنٍ وضبٍّ فارِضِ )

له قُرُوءٌ كقُروءِ الحائضِ كأنّه ذهب إلى أنّ حِقده يخبو تارةً ثمَّ يستعر ثم يخبو ثم يستعر .
وقال ابن ميّادة وضرب المثل بنفخ الضب وتوثُّبِه : ( فإن لقيسٍ من بغيضٍ أقاصياً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخْر ضِبابُها ) وقال الآخر : ( ولو ضبَّ أعلى ذي دميثٍ حَبلتما ** إذاً ظلَّ يمطو من حبالكم حَبْلا ) والضب يُوصف بشدّة الكبر ولا سيّما إذا أخصب وأمِنَ وصارَ كما قال عبْدة بن الطَّبيب فإنهَ ضرب الضبّ مثلاً حيثُ يقول ليحيى بن هزّال :

( لأعرِفنّك يومَ الوِرْدِ ذا لغَطٍ ** ضخْم الجُزارةِ بالسَّلْمَينِ وَكّارُ ) ( تكفي الوليدة والرُّعيانَ مؤتزراً ** فاحلُبْ فإنّك حلاّبٌ وصرّارُ ) ( ما كُنْتَ أول ضب صاب تلْعَتَهُ ** غيثٌ فأمْرعَ واسترخت به الدارُ ) وقال ابن مَيّادة : ( ترى الضَّبّ أنْ لم يرهبِ الضَّبُّ غيْرهُ ** يكشُّ لهُ مُسْتكْبِراً ويُطاوِلُهْ ) وقال دَعْلَجٌ عبدُ المِنْجاب : ( إذا كان بيتُ الضب وسْط مَضبّةٍ ** تطاول للشخص الذي هو حابله ) المضبَّة : مكان ذو ضباب كثيرة ولا تكثر إلاّ وبقربها حَيّة أووَرل أو ظرِبان ولا يكون ذلك إلاّ في موضع بعيد من النّاس فإذا أمِن وخلا لَهُ جوُّه وأخصب نفخ وكشَّ نحو كل شيء يُريده .


ما يوصف بالكِبْر من الحيوان ومما يوصف بالكِبْر الثَّوْرُ في حال تشرُّقه وفي حالِ مشيته الخُيلاء في الرِّياض عند غِبِّ ديمة ( كشبوبٍ ذي كِبرياء من الوَحْ ** دة لا يبْتَغي عليها ظهيرا ) وهذا كثيرٌ وسيقع في موضعه من القول في البقر .
ومّما يُوصف بالكِبْر الجملُ الفَحْل إذا طافت به نوق الهجمة ومرَّ نحو ماءٍ أو كلأ فتبعنه وقال الرّاجز : ( فإنْ تشرَّدْن حواليْهِ وَقَفْ ** قالِبَ حِمْلاقيهِ في مثل الجرُفْ ) ( لو رُضَّ لحدُ عَيْنِهِ لما طرفْ ** كِبراً وإعجاباً وعِزّاً وتَرَفْ ) والنَّاقة يشتدُّ كِبْرها إذا لَقِحت وتزُمُّ بأنفها وتنفرد عن صحاباتها وأنشد الأصمعيّ :

( وهو إذا أراد منها عِرْسا ** دَهْماءَ مِرْباع الِّلقاح جَلْسا ) ( عاينها بعد السِّنان أنسا ** حتّى تلقَّتْهُ مخاضاً قُعْسا ) ( حتَّى احتشت في كلِّ نفسٍ نفْسا ** على الدّوامِ ضامِزاتٍ خُرْسا ) خُوصاً مُسِرَّاتٍ لقاحاً مُلْسا وأمَّا قول الشَّمَّاخ : ( جُماليَّة لو يُجعلُ السَّيفُ غَرضها ** على حَدِّه لاستكبرتْ أنْ تضوّرا ) فليس من الأوَّل في شيء .
والمذكورون من النَّاس بالكِبْر ثَمَّ من قريشٍ : بنو محزوم وبنو أميَّة ومن العرب : بنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عُدس خاصّة .


فأمَّا الأكاسرة من الفرْس فكانوا لا يعُدُّون النَّاس إلاّ عبيداً وأنفسهم إلاّ أرباباً .
ولسنا نُخْبر إلا عن دهماء النّاس وجُمهورهم كيف كانوا من ملوك وسوقة .
الكبر في الأجناس الذليلة والكِبر في الأجناس الذَّليلة من النّاس أرسَخ وأعمُّ ولكنّ الذلة والقلّة مانعتان من ظهور كبرهم فصار لا يعرف ذلك إلاّ أهلُ المعرفة كعبيدنا من السِّنْدِ وذِمَّتنا من اليهود .
والجملةُ أنّ كلّ من قدر من السِّفلة والوُضعاء والمحقرين أدنى قدرةٍ ظهر من كِبره على منْ تحت قدرته على مراتب القدرة ما لا خفاء به فإنْ كان ذمِّياً وحَسُنَ بما لَهُ في صدور النّاس تزيَّد في ذلك واستظهرت طبيعته بما يظنُّ أنّ فيه رَقْع ذلك الخرْق وحِياص ذلك الفتق وسد تلك الثُّلمة

فتفقدْ ما أقول لك فإنك ستجده فاشياً .
وعلى هذا الحسابِ من هذه الجهة صار المملوك أسوأ ملكةً من الحُرّ .
وشيءٌ قد قتلته عِلماً وهو أنِّي لم أرَ ذا كِبْر قطُّ على منَ دونه إلا وهو يذلُّ لمن فوقه بمقدارِ ذلك ووزْنه .
فأمّا بنو مخزوم وبنو أمَيَّة وبنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عُدُس فأبْطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة ولو كان في قُوى عقولهم وديانتهم فضلٌ على قوى دواعي الحميّة فيهم )
لكانوا كبني هاشمٍ في تواضُعِهم وفي إنصافهم لمنْ دونهم .
وقد قال في شبيهٍ بهذا المعنى عَبْدةُ بن الطبيب حيث يقول : ( إن الذين تُرَوْنَهُمْ خلاَّنكُمْ ** يَشْفي صُداع رؤوسهم أن تُصْرعوا ) ( فضلت عداوتهم على أحلامِهم ** وأبتْ ضِبابُ صُدورهم لا تنزعُ ) من عجائب الضب فأمَّا ما ذكروا أنَّ للضبّ أيرين وللضَّبَّة حِرَين فهذا من العجب

العجيب ولم نجدْهم يشكُّون وقد يختلفون ثمَّ يرجعون إلى هذا العمود وقال الفزاريّ : ( جبى المالَ عُمَّالُ الخراجِ وجِبْوتي ** مُحذَّفة الأذناب صُفْرُ الشّواكلِ ) ( رَعين الدَّبا والبَقْلَ حتى كأنما ** كساهُنَّ سُلطانٌ ثيابَ المراجلِ ) ( سِبحْل له نزكانِ كانا فضيلةً ** على كُلِّ حاف في البلاد وناعل )

( ترى كلَّ ذيَّال إذا الشمسُ عارضتْ ** سما بين عِرْسَيْهِ سُمُوَّ المخايلِ ) واسم أيره النَّزْك معجمة الزّاي والنون من فوق بواحدة وساكنة الزاي فهذا قول الفزاريّ ( تفرَّقتمُ لا زِلْتم قِرْنَ واحدٍ ** تفرُّق أيْرِ الضّبِّ والأصل واحدُ ) فهذا يؤكد ما رواه أبو خالد النميري عن أبي حيّة النُّميري قال أبو خالدِ : سئل أبو حيّة عن ذلك فزعم أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة : الأصل واحدٌ والفرعُ اثنان . 4 ( زعم بعض المفسِّرين في عقاب الحية ) وبعضُ أهل التّفسير يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ عاقب الحيَّة حين أدخلتْ إبليس في جوفها حتَّى كلّم آدم على لسانها بعشر خصال منها شقُّ اللسان .
قالوا : فلذلك ترى الحيّة أبداً إذا ضُربت لتُقْتل كيف تُخرجُ

لسانها تلويه كما يصنعُ المسترحمُ من النَّاس بإصبعه إذا ترحّم أو دعا لترِيَ الظالمَ عقوبة اللّه تعالى لها .
قول بعض العلماء في تناسل الضب قال أبو خالد : قال أبو حيّة : الأصل واحد والفرع اثنان وللأنثى مَدخلان وأنشد لحبَّى المدنيَّة : ( وَدِدتُ بأنّه ضبٌّ وأني ** كضبَّة كُدْيةٍ وجَدَتْ خلاءَ ) قال : قالت هذا البيت لابنها حين عذلها لأنَّّها تزوّجتْ ابن أمِّ كلاب وهو فتى حدثٌ وقال ابن الأعرابيّ : للأنثى سبيلان ولرحمها قُرْنتان وهما زاويتا الرَّحم فإذا امتلأت الزَّاويتان أتأمتْ وإذا لم تمتلئْ أفردت .
وقال غيرُه من العلماء : هذا لا يكون لذوات البيض والفراخ وإنما

هذا من صفة أرحام اللواتي يحْبلن بالأولاد ويضعْن خلقاً كخلقهنَّ ويُرْضعن وكيف تُفرِد الضبّة وهي لم تتئم قط وهي تبيض سبعين بيضةً في كلِّ بيضةٍ حِسْل .
قال : ولهذه الحشرات أيورٌ معروفة إلاّ أنّ بعضها أحقر من بعض فأما الخصى فشيءٌ ظاهرٌ لمن شقّ عنها .
تناسل الذباب وجسر أبو خالد فزعم أنه قد أبصر أير ذباب وهو يكُوم ذبابة وزعم أن اسم أيره المُتْك وأنشد لعبد اللّه بن همام السَّلوليِّ : ( لما رأيْتُ القصْرَ غُلِّقَ بابه ** وتعلَّقَتْ همْدانُ بالأسبابِ ) ( أيقنْتُ أنّ إمارة ابن مُضاربٍ ** لم يبْقَ منها قِيسُ أيرِ ذُبابِ ) وهذا شعرٌ لا يدلُّ على ما قال .
وقال أصحابنا : إنّما المتك البظْر ولذلك يقال للعِلْج : يابن المتْكاء كما يقال له : يابن البظراء .

القول فيمن استطاب لحم الضب ومن عافه
روى أنَّه أُتي به على خوان النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله وقال : ليس من طعام قومي وأكله خالد بن الوليد فلم يُنكر عليه .
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أحلُّه ولا أحرِّمه وأنكر ذلك ابنُ عباس وقال : ما بعثه اللّه تعالى إلاّ ليُحلّ ويحرِّم .
وحرّمه قومٌ ورووا أنَّ أُمّتين مُسختا أخذت إحداهما في البَرِّ فهي الضِّباب وأخذت الأخرى في طريق البحر فهي الجِرِّيّ . )
وروَوْا عن بعض الفقهاء أنه رأى رجلاً أكل لحم ضبٍّ فقال : اعلمْ أنَّك قد أكلت شيخاً من مشيخة بني إسرائيل .
وقال بعضُ من يعافه : الذي يدلُّ على أنّه مِسْخ شبه كفِّه بكفِّ الإنسان .


وقال العُدار الأبرص نديم أيّوب بن جعفر وكان أيوبُ لا يغبّ أكل الضباب في زمانها ولها في المِرْبد سوقٌ تقوم في ظلّ دار جعفر ولذلك قال أبو فرعون في كلمة له طويلة : سُوقُ الضبابِ خير سوقٍ في العربْ وكان أبو إسحاق إبراهيم النظام والعُدار إذا كان عند أيوب قاما عن خوانه إذا وضع له عليه ضبّ ومما قال فيه العُدار قوله : قول العوام في المسخ

والعوامّ تقول ذلك وناسٌ يزعمون أن الحيّة مسخ والضبّ مِسْخ والكلبَ مِسْخ والإربيان مِسخ والفأر مسخ .
قول أهل الكتاب في المسخ ولم أر أهل الكتاب يُقِرُّون بأنَّ اللّه تعالى مسخ إنساناً قط خنزيراً ولا قرداً إلاّ أنهم قد أجمعوا أنّ اللّه تبارك وتعالى قد مسخ امرأة لُوطٍ حَجَراً حين التفتتْ .
وتزعم الأعراب : أنَّ اللّه عزّ ذكره

قد مسخ كلَّ صاحب مَكْس وجابي خراج وإتاوة إذا كان ظالماً وأنه مسخ ماكسين أحدهما ذئباً والآخر ضبعاً .
شعر الحكم بن عمرو في غرائب الخلق وأنشد محمَّد بن السَّكن المعلِّم النحويّ للحكم بن عمرو البهراني في ذلك وفي غيره شعراً عجيباً وقد ذكر فيه ضروباً كلُّها طريف غريب وكلها باطل والأعراب تؤمن بها أجمع .
وكان الحكَم هذا أتى بني العنبر بالبادية على أنَّ العنبر من بَهْراء فنفوه من البادية إلى الحاضرة وكان يتفقَّه ويفتي فُتيا الأعراب وكان مكفوفاً ودهريّاً عُدْمُليّاً وهو الذي يقول : ( إنّ ربيِّ لمِا يشاءُ قديرٌ ** ما لشيءٍ أرادهُ منْ مفرِّ )

( بعثَ النملَ والجرادَ وقفّى ** بنجيعِ الرُّعافٍ في حيِّ بكرِ ) ( خرقتْ فارةٌ بأنفِ ضئيلٍ ** عرماً محكمَ الأساسِ بصخرِ ) ( فجَّرته وكانَ جيلان عنهُ ** عاجزاً لو يرومُه بعد دهرِ ) ( مسخَ الضبّ في الجدالة قدْماً ** وسهيلَ السماءِ عمداً بصغرِ ) ( والذي كانَ يكتنى برغالٍ ** جعلَ اللهُ قبرهُ شرَّ قبرِ ) ( وكذا كلُّ ذى سفينٍ وخرجٍ ** ومكوسٍ وكلُّ صاحبِ عشرِ ) ( منكبٌ كافرٌ وأشراطُ سوءٍ ** وعريفٌ جزاؤه حرُّ جمرِ ) ( ونزوجتُ في الشبيبةِ غولا ** بغزالٍ وصدقتي زقُّ خمرِ ) ( ثيبٌ إن هويتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ لم أجدْ غيرَ بكرِ ) ( بنتُ عمرو وخالها مسحَل الخي ** ر وخالي هميمُ صاحبُ عمرو ) ( ولها خطةٌ بأرضِ وبارٍ ** مسحوها فكان لي نصفُ شطرِ ) ( أرضُ حوشٍ وجاملٍ عكنانٍ ** وعروج من المؤبًّل دثرِ )

( سادة الجنّ ليس فيها من الج ** نِّ تاجر وآخرَ مكرِ ) ( ونفوْا عن حريمها كلَّ عفرٍ ** يسرقُ السمعَ كل ليلة بدرِ ) ( تأكل القولُ ذا البساطة مسياً ** بعد روثِ الحمار في كل فجر ) ( جعلَ اللهُ ذلك الروثَ بيضا ** من أنوقٍ ومن طروقة نسرِ ) ( ضربت فردةً فصارتْ هباءً ** في محاق القمير آخرَ شهرِ ) ( تركتْ عبدلاً ثمالَ اليتامَى ** وأخوه مزاحم كان بكرِى ) ( وضعتْ تسعةً وكانت نزورا ** من نساء في أهلها غير نزرِ ) ( غلبتني على النجابةِ عرسيْ ** بعد ما طار في النجابةِ ذكرى )

( وأرى فيهمُ شمائلَ إنسٍ ** غيرَ أنْ النجار صورةُ عفرِ ) ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** ملجماً قنفذاً ومسرجَ وبرِ ) ( كنت لا أركبُ الأرانب للحي ** ض ولا الضبع أنها ذاتُ نكر ) ( تركبُ المقعصَ المجيف ذا النع ** ظ وتدعو الضباع من كلِّ جحرِ ) ( جائباً للبحار أهدى لعرسي ** فلفُلا مجتنًى وهضمة عطرِ ) ( وأحِّلى هريرَ من صدفِ البح ** رِ وأسقى العيالَ من نيلِ مصرِ ) ( ويسنى المعقودَ نفثى وحلى ِّ ** ثم بخفى على السَّواحر سحري ) ( وأجوب البلاد تحتىً ظبيٌ ** ضاحكٌ سنهُ كثيرٌ التمرى ) ( يحسبُ الناظرون أنِّى ابن ماءٍ ** ذاكرٌ عشهُ بضفةِ نهر ) ( ربَّ يوم أكلت من كبدِ اللي ** ث وأعقبتُ بين ذئبٍ ونمر ) ( ليس ذا كم كمن يبيتُ بطيناً ** من شواءِ ومن قليةِ جزر )

( ثم لاحظتُ خلَّتي في غدوٍ ** بينَ عيني وعينها السمُّ يجرى ) ( ثم أصبحتُ بعد خفضٍ ولهوٍ ** مدنفاً مفرداً محالفَ عسرِ ) ( أتراني مقتُّ من ذبحَ الدي ** كَ وعاديتُ من أهابَ بصقرِ ) ( وسمعتُ النقيقَ في ظلمِ اللي ** لِ فجاوبته بسرٍ وجهرِ ) ( ثم يرمى بي الجحيمُ جهاراً ** في خمير وفي دراهم قمرِ ) ( فلعلْ الإله يرحمُ ضعفي ** ويَرى كبرتي ويقبلُ عذرى )

في حل الضب واستطابته

وسنقول في الذين استحلوه واستطابوه وقدّموه .
قالوا : الشيء لا يحرم إلاّ من جهة كتابٍ أو إجماعٍ أو حجةِ عقل أو من جهة القياس على أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ أو إجماع ولم نجدْ في تحريمه شيئاً من هذه الخصال وإن كان إنَّما يُترك من قِبلِ التقزز فقد أكل الناسُ الدَّجاجَ والشبابيط ولحوم الجَلاَّلة وأكلوا السراطين والعقصير وفراخ الزّنابير والصحناء

والرَّبيثا فكان التقزُّز مما يغتذي العذِرةَ رطْبةً ويابسة أولى وأحقَّ من كلِّ شيء يأكل الضروب التي قد ذكرناها وذكرها الرَّاجز حيث يقول : ( يَا رُبَّ ضَبٍّ بين أكنافِ اللِّوَى ** رعى المُرار والكَبَاث والدَّبا ) ( حَتَّى إذا ما ناصِل البُهْمَى ارتمى ** وأجفِئَتْ في الأرض أعْرَافُ السّفَا ) ( ظَلَّ يباري هُبَّصاً وَسْط المَلا ** وهو بَعيْنَي قانصٍ بالمرْتَبَا ) ( كان إذا أخْفَقَ مِن غير الرعا ** رازَمَ بالأكباد منها والكُشَى )

فإن عفتموه لأكل الدَّبا فلا تأكلوا الجراد ولا تستطيبوا بَيضه .
وقد قال أبو حجين المنقريُّ : ( ألا لَيت شِعرِي هل أبيتنَّ ليلة ** بأسفل وادٍ ليس فيه أذانُ ) ( وهل آكُلَنْ ضَبّاً بأسفَل تَلْعَةٍ ** وعرْفجُ أكماع المَديد خِواني ) . أقومُ إلى وقْتِ الصَّلاةِ وريحُهُ بَكَفَّيَّ لم أغسِلْهُما بشُنَانِ ) ( وهل أشرَبَنْ مِنْ ماءِ لِينةَ شرْبةً ** على عطَشٍ من سور أمّ أبانِ ) وقال آخر :

( أحبُّ إلينا أنْ يجاورَ أرْضَنَا ** من السَّمكِ البُنّيّ والسَّلْجَم الوَخِمْ ) وقال آخرُ في تفضيل أكل الضّبّ : ( أقولُ له يوماً وقد راح صُحْبتي ** وباللّه أبغي صَيْدَهُ وأخاتِلُهْ ) ( فلمَّا التقَتْ كَفّي على فضْل ذَيلِهِ ** وشالت شمالي زايَلَ الضَبّ باطلُهْ ) ( فأصبح محنوذاً نضِيجاً وأصبَحَتْ ** تَمَشَّى على القِيزان حُولاً حلائلهْ ) ( شديد اصفرار الكُشْيَتَيْن كأنّما ** تطَلَّى بوَرْس بَطْنُه وشواكِلُهْ ) ( فذلك أشْهى عنْدَنا من بيَاحِكمْ ** لَحَى اللّه شارِيهِ وقُبِّح آكِلُهْ )

وقال أبو الهنْديّ من ولد شَبَثِ بنِ رِبْعيٍّ : ( أكَلْتُ الضِّبابَ فما عِفْتها ** وإنِّي لأهْوَى قديد الغَنَمْ ) ( ورَكَّبتُ زُبداً على تَمرةٍ ** فنِعْمَ الطَّعام ونِعْمَ الأُدُمْ ) ( وسَمْن السِّلاءِ وكمءَ القصيصِ ** وزينُ السَّديفِ كبودُ النَّعَمْ ) ( ولحمَ الخروف حَنيذاً وقدْ ** أُتيتُ به فائراً في الشَّبمْ )

( فأمَّا البَهطُّ وحِيتانُكمُ ** فما زِلْتُ منها كَثِيرَ السَّقَمْ ) ( وقد نِلْتُ ذاكَ كما نِلْتمُ ** فلم أرَ فيها كضَبٍّ هَرِمْ ) ( ومَكنُ الضِّبابِ طَعَامُ العُرَيبِ ** وَلا تَشْتَهيهِ نُفُوسُ العَجمْ ) وإلى هذا المعنى ذهب جران العود حين أطعمَ ضيفَه ضَبّاً فهجاه ابن عمٍّ له كان يُغمزُ في نسبِه فلما قال في كلمةٍ له : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَك الجَوْعَانَ ضباً ** وتأكلُ دُونَهُ تمْراً بزبْدِ ) وقال في كلمةٍ له أخْرَى : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَكَ الجَوْعانَ ضبّاً ** كأنَّ الضَّبَّ عندهم عَرِيبُ ) قال جران العود :

( فلولا أنَّ أصْلكَ فارسيٌّ ** لَمَا عبْتَ الضِّبَابَ ومنْ قَرَاها ) ( قريتُ الضيفَ من حُبِّي كُشَاها ** وأيُّ لَوِيّةٍ إلاّ كُشاها )
واللَّوِيّة : الطُّعيِّم الطّيب واللَّطف يرفع للشَّيخِ والصبي وقد قال الأخطل : ( ففلتُ لهُمْ هاتوا لَوِيةَ مالكٍ ** وإنْ كان قد لاقى لَبوساً ومَطْعما ) بزماورد الزَّنابير وقال مُويس بن عمران : كان بشر بن المعتَمر خاصّاً بالفضل

بن يحيى فقدِم عليه رجلٌ من مواليه وهو أحد بني هلال بن عامر فمضى به يوماً إلى الفضْل ليكرمَه بذلك وحضرت المائدة فذكروا الضب ومن يأكلُه فأفرط الفضْلُ في ذمِّه وتابَعَهُ القوم بذلك ونظر الهلاليُّ فلم ير على المائدة عربيّاً غيره وغاظه كلامُهم فلم يلبث الفضل أن أُتِيَ بصَحْفة ملآنةٍ من فراخ الزَّنابير ليتّخذ لَه منها بزماورد والدَّبر والنَّحل عند العرب أجناسٌ من الذّبان فلم يشكّ الهلاليُّ أنَّ الذي رأى من ذِبّان البيوت والحشُوش وكان الفضْلُ حين وليَ خُراسان استظرف بها بزماورد الزَّنابير فلمَّا قدم العراق كان يتشَّهاها فتطلبُ له من كلِّ مكان فشمِت الهلاليُّ به وبأصحابه وخرجَ وهو يقول :

( وعِلْج يعافُ الضَّبّ لُؤْماً وبطْنةً ** وبعضُ إدام العِلْج هَامُ ذُبابِ ) ( ولو أن مَلْكاً في الْمَلا ناك أمَّه ** لقالُوا لقَدْ أُوتيتَ فَصلَ خطَابِ ) شعر أبي الطروق في مَهر امرأة لما قال أبو الطروق الضبي : ( يقولُون أصْدِقْها جَرَاداً وضَبَّةً ** فقد جَردَتْ بَيْتي وبَيْتَ عِياليا ) ( وأبْقتْ ضِباباً في الصُّدور جَواثماً ** فيا لك من دَعْوى تُصِمُّ المُناديا ) ( وعاديتُ أعمامي وهمْ شرُّ جِيرةٍ ** يُدِبُّونَ شَطْرَ اللَّيْلِ نحوي الأفاعيا )

( وقَدْ كانَ في قعبٍ وقوس وإنْ أشَأ ** من الأقط ما بلَّغن في المَهْرِ حاجيا ) ( فلو كان قَعباً رضّ قَعْبك جندلٌ ** ولَوْ كان قوساً كانَ للنَّبْلِ أذْكرا ) فقال عمُّها : دعوني والعبد .

شعر في الضب

ّ ) وأنشد للدُّبيري : ( أعامِرَ عبدِ اللّه إنِّي وجدتكمْ ** كعَرْفَجَةِ الضّبّ الذي يتذلَّلُ ) قال : هي ليّنة وعودُها ليّن فهو يعلوها إذا حضروا بالقيظ ويتشوَّف عليها ولستَ تَرَى الضّب إلا وهي ساميةٌ برأسها تنظر وترقب وأنشد :

( بلاد يكون الخَيْمَ أطلال أهْلِها ** إذا حَضَروا بالقَيْظِ والضَّبَُّ نونُها ) وقال عمرو بن خويلد : ( ركاب حُسَيْلٍ أشْهُرَ الصَّيْف بُدَّنٌ ** وناقةُ عَمرٍ و ما يُحَلُّ لها رَحلُ ) ( إذا ما ابتَنيْنَا بيتَنا لمعيشةٍ ** يعُودُ لما نبْني فيهدمُه حِسْلُ ) ( ويزعم حِسْلٌ أنّه فَرْعُ قومِه ** وما أنت فرعٌ يا حُسيلُ ولا أصْلُ ) ( وُلِدْت بحادي النَّجم تسعى بسعيه ** كَما ولَدَتْ بالنَّحْسِ دَيَّانهَا عُكْلُ )

استطراد لغوي وهم يسمُّون بحسل وحسيل : وضبّ وضبّة فمنهم ضبّة بن أدّ وضبة بن محض وزيد بن ضبّ ويقال : حفرة ضب وفي قريش بنو حسل ومن ذلك ضبَّة الباب ويسمّى حلْب الناقة بخمس أصابع ضبّاً يقال ضبَّها يضبُّها ضبّاً : إذا حلبها كذلك وضبَّ الجُرح وبَضّ : إذا سال دماً مثل ما تقول : جذب وجبذ و : إنّه لَخبٌ ّ ضَبّ وإنّه لأخْدع من ضبّ والضبُّ : الحقد إذا تمكَّن وسَرَت عقاربُه وأخفى مكانه والضّبُّ : ورمٌ في خفِّ البعير وقال الرَّاجز : ليس بذي عرك ولا ذي ضبِّ

ويقال ضَبٌّ خَدِعٌ أي مراوغ ولذلك سموا الخزانةِ المخْدع وقال راشد بن شهاب : ( أرقتُ فلم تَخْدَعْ بعينَيَّ نعسةٌ ** وواللّه ما دَهْري بعشق ولا سَقَمْ ) وقال ذو الرُّمَّة : ( مناسِمها خُثمٌ صِلابٌ كأنّها ** روؤس الضِّباب استخرجَتها الظهائرُ ) شعر فيه ذكر الضبّ ويدلُّ على كثْرةِ تصريفهم لهذا الاسم ما أنشدَناهُ أبو الرُّدَينيّ : ( لا يعقر التقبيل إلا زُبِّي ** ولا يُداوي مِنْ صَميم الحُبِّ )

والضّبُّ في صوَّانِهِ مُجَبّ ) ( يا أم سَمَّال ألَمَّا تدْرِي ** أنِّي على مَيَاسري وعَسْرِي ) ( يَكفيكِ رِفْدي رجلاً ذَا وَفْر ** ضَخْم المثاليثِ صغير الأيرِ ) ( إذا تغَدّى قالَ تَمْري تمْري ** كأنَّه بين الذَّرى والكِسْرِ ) ضَبٌّ تَضَحَّى بمكانٍ قَفْرِ وقال أعرابيّ : ( قد اصطدتُ يا يقظان ضَبّا ولم يَكُنْ ** ليُصْطاد ضبٌّ مِثْلُه بالحبائلِ ) ( يَظََلُّ رِعاءُ الشَّاءِ يَرْتَمِضُونهْ ** حَنِيذاً ويُجْنى بَعضُه للحَلائلِ )

( عظيمُ الكشى مثلَُ الصَّبِي إذا عداْ ** يفوتُ الضِّبابَ حِسلُه في السَّحابِلِ ) وقال العماني : ( إنّي لأرْجُو مِن عَطَايا رَبّي ** ومِنْ وَليِّ العَهد بعد الغِبِّ ) ( رُومِيّةً أولجُ فيها ضَبِّي ** لها حرٌ مُستهدِفٌ كالقبِ ) مُستَحصِفٌ نِعْم قرابُ الزُّبِّ وقال الآخر : ( إذا اصْطلَحوا على أمْرٍ تَوَلَّوْا ** وفي أجوافهم منه ضِبابُ ) ( ومن الموالي ضَبُّ جَنْدَلةٍ ** زَمِرُ المروءَة ناقص الشَّبرِ ) فالأول جعل أيره ضَبّاً والثاني جعل الحقد ضبّاً .
وقال الخليل بن أحمد في ظهر البصرة مما يلي قَصْر أنَس :

( زُرْ وادِيَ الْقَصْر نِعْمَ القَصْرُ والوادي ** لا بُدّ مِنْ زوْرةٍ عَنْ غير مِيعادِ ) ( تَرَى به السُّفْنَ كالظِّلْمانِ واقفةً ** والضبّ والنُّون والملاح والحادي ) وقال في مثل ذلك ابنُ أبي عُيَينة : ( يا جنَّةً فاتَتِ الجِنان فَما ** يَبْلُغُها قِيمةٌ ولا ثَمنُ ) ( ألِفْتُها فاتَّخَذْتُها وَطَناً ** إنَّ فَؤادي لأهْلِها وطَنُ ) ( زُوِّجِ حِيَتانُها الضِّبابَ بها ** فهذه كَنَّةٌ وذا خَتَنُ ) ( فانظُرْ وفَكِّرْ فيما تُطيف به ** إنَّ الأريب المفكِّرُ الفَطِنُ )

( من سُفنٍ كالنّعامِ مقبلةٍ ** ومن نَعَامٍ كأنَّها سُفنُ )
وقال عقبة بن مُكَدَّم في صفة الفَرَس : ( وَلَها مَنْخِرٌ إذا رَفعَتْه ** في المُجاراةِ مثلُ وَجْرِ الضِّبابِ ) وأنشد : وقال أبو حَيّة النُّميري : وَقرَّبوا كلَّ قِنعاس قُراسيةٍ أبَدَّ ليس به ضبٌّ ولا سرَرُ وقال كثير : ( ومحترش ضبَّ العَداوة منهُم ** بِحُلْو الرُّقى حرش الضِّباب الخْوادِعِ ) وقال كثير :

( سقط : بيت الشعر ) ( ومحترش ضب العداوة منهم ** بحلو الرقى حرش في الضباب الخوادع ) وقال كثيِّر أيضاً : وما زالتْ رُقاكَ تَسُلُّ ضِغْني وتُخْرِجُ مِنْ مضائبها ضِبابي

شعر في الهجاء فيه ذكر الضب

فأما الذين ذمُّوا الضب وأكْلَه وضربوا المثل به وبأعضائه وأخلاقه وأعماله فكما قال التميمي : ( لَكِسْرى كان أعْقَلَ مِنْ تميم ** لَيَاليَ فَرَّ مِنْ أرضِ الضِّبابِ ) ( فأنزَلَ أهْلَهُ ببلادِ رِيفٍ ** وأشجارٍ وأنهارٍ عِذابِ ) ( وصار بَنُو بَنِيه بها ملوكاً ** وصرْنَا نحنُ أمثالَ الكِلابِ )

( فلا رَحِمَ الإلهُ صَدَى تميم ** فقد أزْرى بنا في كلِّ بابِ ) وقال أبو نواس : ( تُفاخِرُ أبناء المُلُوكِ سَفاهةً ** وبَوْلُكَ يَجْري فُوق ساقِكَ والكعْبِ ) وقال الآخر : ( فحبَّذَا همْ ورَوَّى اللّه أرضَهُمُ ** مِنْ كلِّ مُنْهمِرِ الأحشاء ذي بَرَدِ ) ( ولا سقى اللّه أياماً غنيتُ بها ** ببَطْنِ فَلْجٍ على اليَنسُوع فالعُقدِ ) ( مواطنٌ مِنْ تميم غير معجِبة ** أهْلِ الجفاءِ وعيْشِ البُؤس والصّرَدِ ) ( همُّ الكرامِ كريمُ الأمْرِ تفْعلُهُ ** وهَمُّ سَعْد بما تُلقي إلى المَعِدِ ) ( أصحاب ضبٍّ ويربوع وحَنْظلةٍ ** وعَيشةٍ سَكَنُوا منها على ضَمَدِ ) ( إنْ يأكلوا الضّبَّ باتوا مُخصبين به ** وزَادُها الجُوعُ إن باتَتْ ولم تصدِ )

( لو أنَّ سعداً لها ريفٌ لقد دُفعَتْ ** عنه كما دُفِعتْ عن صالح البلدِ ) ( من ذا يقارع سعْداً عَنْ مفازتها ** ومَنْ يُنافِسُها في عَيْشها النّكدِ ) وقال في مثل ذلك عَمرُو بنُ الأهتم : ( وتَرَكْنَا عُمَيْرَهُمْ رَهْنَ ضَبْعٍ ** مُسْلَحِباً ورَهْنَ طُلْسِ الذِّئابِ ) ( نَزَلُوا منزلَ الضِّيافة منا ** فقَرى القَومَ غِلمة الأعرابِ ) ( ورَدَدْنَاهُمُ إلى حَرَّتَيْهِم ** حَيْث لا يأكُلون غَير الضّبابِ ) ( جاؤُوا بحارشةِ الضِّباب كأنَّما ** جاؤوا ببنْتِ الحارثِ بن عُبادِ ) وقائلة هذا الشعر امرأةٌ من بني مُرَّة بن عباد .


وقال الحارث الكندي : ( لعمرك ما إلى حَسَن أنخْنَا ** ولا جِئنا حُسيناً يابن أنسِ ) ( ولكنّ ضبّ جَنْدلةٍ أتينا ** مُضِبّاً في مضابئها يُفسِّي ) ( فلمَّا أنْ أتينَاهُ وقلْنا ** بحاجتنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ ) ( وآضَ بكفِّه يحتكُّ ضِرْساً ** يُرينا أنّه وَجعٌ بضرْسِ ) ( فقلتُ لصاحبي أبهِ كُزازٌ ** وقلت أُسِرُّه أتراه يُمسي ) ( وقمْنَا هاربيْن معاً جميعاً ** نحاذر أنْ نزَنّ بقَتْلِ نَفْسِ ) وقالت عائشة ابنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاص حين

خطبها وكان نزل أيْلَة وترك المدينة : ( نَزَلْتَ ببَيتِ الضَّبِّ لا أنت ضائرٌ ** عَدُوّاً ولا مستنفعاً أنت نافعُ ) وقال جرير : ( وجَدْنا بيتَ ضَبَّةَ في تميمٍ ** كبَيْتِ الضَّبِّ ليس له سَواري ) ( يا ضبُعَ الأكهافِ ذاتِ الشّعبِ ** والوثْبِ للعَنْزِ وغير الوثبِ ) ( عِيثي ولا تخشَيْنَ إلاَّ سَبِّي ** فلستُ بالطّبِّ ولا ابن الطَّبِّ ) ( إنْ لم أدع بيْتَك بيتَ الضّبِّ ** يضيق عند ذي القَرَد المكبِّ ) وقال الفرزدق :

( لحى اللّه ماءً حنبلٌ خيرُ أهله ** قفَا ضبَّةٍ عند الصّفَاةِ مَكُونِ ) ( فلو عَلِمَ الحجَّاجُ عِلمَك لم تَبِعْ ** يمينُك ماءً مُسلماً بيَمينِ )
وأنشد : ( زعمْتَ بأنَّ الضبَّ أعمى ولم يفت ** بأعمى ولكن فاتَ وهْو بصيرُ ) بل الضبُّ أعمى يوم يخنِسُ باسته إليك بصحراء البياضِ غريرُ وقالت امرأةٌ في ولدها وتهجو أباه : ( وُهِبْتُه من ذي تُفالٍ خَبِّ ** يقْلبُ عيْناً مثلَ عين الضَّبِّ )

ليس بمعشوق ولا مُحَبِّ وقال رجلٌ من فزارة : ( وجدناكم رَأْباً بين أمِّ قِرفةٍ ** كأسنانِ حِسْلٍ لا وَفاءٌ ولا غَدرُ ) ( ثلاثون رأباً أو تزيد ثلاثةً ** يقاتلنا بالقَرْنِ ألفٌ مقنَّعُ ) والرأب : السواء والمعنى الأولُ يشبه قوله : ( سَواسٍ كأسنان الحمار فلا تَرَى ** لِذي شَيْبةٍ منهمْ على ناشئٍ فَضلا )

وأنشد ابنُ الأعرابي : ( قُبِّحْتِ من سالفَةٍ ومن صُدُغْ ** كأنَّها كُشْية ضبٍّ في صُقُغْ ) أراد صُقْع بالعين فقلب وقال الآخر : أعقّ من ضبٍّ وأفْسَى من ظَرِبْ وأنشَد : ( فجاءت تهاب الذَّمَّ ليست بضَبّة ** ولا سلفعٍ يلْقَى مِراساً زمِيلُها )

يقول : لا تخدع كما يخدع الضّبُّ في جُحْره .
وأنشد ابنُ الأعرابي لحيّان بن عبيد الربعي جد أبي محضة : ( يا سهلُ لو رأيْتَهُ يَوْمَ الجُفَرْ ** إذْ هو يَسْعى يَسْتَجيرُ للسُّوَرْ ) ( يَرمي عن الصَّفو ويَرضى بالكَدَرْ ** لازْدَدتَ منه قذراً على قَذرْ ) ( يضحك عن ثغر ذميم المُكْتَشَرْ ** ولِثَةٍ كأنَّها سَيرُ حَوَرْ ) وأنشد السِّدري : ( هو القَرَنْبى ومَشْيُ الضب تعرفهُ ** وخُصْيَتَا صَرصَراني من الإبلِ )

( والخالُ ذو قُحَم في الجرْي صادقةٍ ** وعاتِقٌ يتعقَّى مأبِض الرجُلِ )
واعلم حفظك اللّه تعالى أنّه قد أكتِفي بالشّاهد وتبقى في الشعر فَضلةٌ ممّا يصلح لمذاكرة ولبعض ما بك إلى معرفته حاجة فأصلُه به ولا أقطعهُ عنه .
وأنشد لابن لجأ : ( وغَنَوي يَرْتمي بأسْهُمِ ** يلصق بالصّخْر لصوقَ الأرْقَمِ ) لو سئمَ الضبُّ بها لم يسْأم

وقال أعرابيُّ من بني تميم : ( تسخرُ مِنِّي أنْ رَأتْني أحتَرِش ** ولو حَرَشْتِ لكَشَفْتِ عن حِرشْ ) يريد عن حِرِك .
قال : وقال أبو سعنَة : ( قَلَهْزَمانِ جعدةٌ لِحَاهما ** عاداهما اللّهُ وقد عادَاهما ) ضَبّاً كُدًى قدْ غمِّرَت كشَاهما

وأنشد الأصمعي : ( إنِّي وجدتُك ياجُرثومُ من نفرٍ ** جرثومة اللُّؤم لا جُرْثومةِ الكرمِ ) ( إنِّا وجَدْنا بني جَلاَن كلَّهمُ ** كسَاعدِ الضَّبِّ لا طولٌ ولا عِظمِ ) وقال ابن ميّادة : ( فإنَّ لقيسٍ مِنْ بَغيضٍ لَنَاصراً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخرٍ ضِبابُها ) وفي هذه القصيدة يقول : ( ولو أنّ قَيساً قيسَ عَيْلان أقسَمَتْ ** على الشَّمْسِ لم يَطْلُع عليك حجابُها ) وهذا من شكل قول بشَّار : ( إذا ما غضِبنا غَضْبةً مُضَريّةً ** هَتَكْنَا حِجابَ الشَّمْسِ أو مَطَرتْ دمَا )

وأنشد لأبي الطَّمَحانِ : ( مهْلاً نَميرُ فإنَّكُمْ أمسيتُمُ ** مِنَّا بثَغْرِ ثَنيَةٍ لم تسْتَرِ ) ( سُوداً كأنّكمُ ذئابُ خطيطةٍ ** مُطِرَ البلادُ وحِرْمُها لم يُمْطَرِ ) ( يحْبُون بينَ أجاً وبُرْقةِ عالجٍ ** حبّو الضِّبابِ إلى أصول السَّخْبَرِ ) ( وتَرَكْتُمُ قصب الشُّرَيفِ طوامياً ** تهوي ثَنيّتُهُ كعينِ الأعور )

مفاخرة العث للضب وقال العُثّ واسمه زيد بن معروف للضب غلام رُتْبيل بن غَلاق : وقد رأيت من سمّى عَنزاً )
وثوراً وكلباً ويربوعاً فلم نر منهم أحَداً أشبَه العنز ولا الثَّور ولا الكلب ولا اليربوع وأنتَ قد تقيَّلتَ الضَّبَّ حتى لم تغادِرْ منه شيئاً فاحتمَلَ ذلك عنه فلمَّا قال : ( من كان يدعى باسمٍ لا يناسِبهُ ** فأنتَ والاسْمُ شَنٌّ فَوقه طبقُ ) فقال ضبٌّ لعثّ : ( إن كنْتُ ضَبّاً فإنَّ الضّبَ مُحْتَبَلٌ ** والضبُّ ذو ثَمن في السُّوق مَعْلُومِ ) ( وليس للعُثِّ حَبَّالٌ يُرَاوِغُه ** ولسْتَ شَيئاً سِوَى قرضٍ وتقليمِ ) وما أكثر ما يجيء الأعرابي بقربةٍ من ماء حتى يفرغها في جحره

ليخرج فيصطاده ولذلك قال الكميت في صفة المطر الشديد الذي يستخرج الضِّباب من جِحَرتها وإن كانتْ لاتتّخذها إلا في الارتفاع فقال : ( وعلته بتركها تحفش الأُكْ ** مَ ويكفي المضبِّبَ التفجيرُ ) والمضبّب هو الذي يصيد الضباب . ( القول في سن الضب وعُمره ) ( تعلّقت واتّصلت بعكْلِ ** خِطْبي وهّزَْتْ رأسها تسْتبْلي )

( تسألني من السِّنينَ كمْ لي ** فَقُلْتُ لو عمِّرتُ عمْر الحِسْلِ ) ( أو عُمرَ نوحٍ زَمَنَ الفِطَحْلِ ** والصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كطِينِ الوَحْلِ ) صِرْتُ رَهينَ هَرَمٍ أو قَتْلِ وهذا الشِّعر يدلُّ على طول عمر الحِسْل لأنه لم يكن ليقول : ( أو عُمرَ نوحٍ زمنَ الفِطَحْلِ ** والصّخرُ مبتلٌّ كطين الوَحْلِ ) إلاَّ وعمر الحِسل عنده من أطول الأعمار .
وروى ابن الأعرابي عن بعض الأعراب أنّ سِنَّ الضبّ واحدة أبداً وعلى حال أبداً قال فكأنه قال : لا أفعله ما دامَ سِنها كذلك لا ينقص ولا يزيد .
وقال زيد بن كَثْوة : سنّ الحِسْل ثلاثة أعوام وزعم أن قوله ثَمّةَ : لا أفعله سِنَّ الحسل غلَط ولكن الضبَّ طويلُ العمر إذا لم يَعرِضْ له أمر .
وسنُّ الحِسل مِثلُ سنّ القَلوص ثلاث سنين حتى يلقح

ولو كانت سنُّ الحِسل على حال واحدة أبداً لم تعرف الأعرابُ الفتيَّ من المُذَكِّي . )
وقد يكون الضّبُّ أعظَمَ من الضّبّ وليس بأكبَر منه سِنّاً .
قال : ولقد نظرتُ يوماً إلى شيخٍ لنا يفُرُّ ضَبّاً جَحْلاً سِبَحْلاً قد اصطاده فقلت له : لم تفعلُ ذلك فقال : أرجو أن يكون هرماً .

بيض الضب

قال : وزعم عمرو بن مسافر أن الضّبّة تبيض ستِّين بيضة فإذا كان ذلك سدَّت عليهن باب الجُحر ثم تدعهن أربعين يوماً فيتفقَّص البيض ويظهر ما فيه فتحفر عنهنَّ عند ذلك فإذا كشفَتْ عنهن أحْضَرْن وأحضرَتْ في أثرهن تأكلهن فيحفر المنفلت منها لنفسه جُحراً وَيرْعى من البقْل .


قال : وبيض الضبّ شبيهٌ ببيض الحمام قال : وفرخه حين يخرج يخُرج كيّساً كاسياً خبيثاً مُطيقاً للكَسْب وكذلك ولد العقرب وفراخ البطّ وفراريج الدَّجاج وولد العناكب . ( سنّ الضب ) وقال زيدبن كَثْوة مَرَّةً بعد ذلك : إنّ الضب ينبت سِنُّه معه وتكبر مع كِبر بدنه فلا يزال أبداً كذلك إلى أن ينتهي بدنُه منُتهاه قال : فلا يُدعى حِسلاً إلا ثلاثَ ليال فقط .
وهذا القول يخالف القول الأوَّل وأنشَدَ : نِعْمَ لعمرُ اللّه مهْر العِرْسَينْ أنشدني ابن فَضَّال : أمْهَرتها وزعم أنّه كذلك سِمعها من أعرابيّ .


وقد يكون أن يكون الحسل لا يُثْني ولا يُرْبِع فتكون أسنانُه أبداً على أمر واحد ويكون قول رؤبة بن العجّاج في طول عمره حَقّاً .
ويدلُّ على أنّ أسنانَه على ما ذكروا قولُ الفزاريّ : ( وجدناكمُ رأباً بني أمّ قِرفةٍ ** كأسنان حِسْلٍ لا وَفَاءٌ ولا غدْرُ ) يقول : لا زيادة ولا نقصان .

قصة في عمر الضب

وقال زيد بن كَثْوَة المزني : قال العنبريّ وهو أبو يحيى : مكثْتُ في عنفوان شَبيبتي ورَيعانٍ من ذلك أُريغُ ضَبّاً وكان ببعض بلادنا في وِشاز من الأرض وكان عظيماً منها مُنْكراً ما رأيتُ

مِثله فمكثْت دهراً أُرِيغه ما أقدر عليه ثم إنّي هبطت إلى البصرة فأقمت بها ثلاثينَ سنةً ثمَّ إنِّي واللّه كرَرْتُ راجعاً إلى بلادي فمررتُ في طريقي بموضع الضّبّ معتمداً لذلك فقلت : واللّه لأعلمنَّ اليوم عِلمَه وما دَهرِي إلا أن أجعل من جلده عُكَّة للّذي كان عليه من إفراط العِظَم فوجَّهت الرَّواحل نحوه فإذا أنا به واللّه مُحْرنْبئاً على تَلعة فلمّا سمِع حِسّ الرّواحل ورأى سواداً مقبلاً نحوه مرَّ مسرعاً نحو جحره وفاتني واللّه الذي لا إله إلا هو . ( مكن الضَّبة ) وقال ابن الأعرابيّ : أخبرني ابن فارس بن ضِبْعان الكلبيّ أنَّ الضّبّةَ يكون بيضُها في بطنها وهو مكْنها ويكون بيضُها متَّسِقاً فإذا أرادَتْ أن تبيضَه حفَرَتْ في الأرض أُدْحيّاً مثلَ أُدْحِيِّ النعامة ثم

ترمي بمكنها في ذلك الأدحِيّ ثمانين مَكنة وتدفنه بالتُّراب وتدعُه أربعين يوماً ثم تجيءُ بعد الأربعين فتبحثُ عن مَكْنها فإذا حِسَلَةٌ يتعادين منها فتأكلُ ما قدَرت عليه ولو قدرَتْ على جميعهن لأكلتهنّ قال : ومَكنها جلدٌ ليّن فإذا يبست فهي جلد فإذا شويْتَها أو طبخْتها وجَدْت لها مُحّاً كمحِّ بيض الدّجاج . ( عداوة الضَّبة للحية ) قال : والضّبّة تقاتل الحيّة وتضربُها بذَنبها وهو أخشن من السَّفَن وهو سلاحها وقد أُعطيت فيه من القُوَّةِ مثل ما أعطيت العُقاب في أصابعها فربما قطعتها بضربة أو قتلتها أو قَدّتها وذلك إذا كان الضّبّ ذَيّالاً مذنِّباً وإذا كان مرائساً قتلته الحية .


والتذنيب : أنّ الضبّ إذا أرادت الحيّةُ الدُّخول عليه في جُحره أخرَج الضبُّ ذنبه إلى فم جُحره ثم يضرب به كالمخراق يميناً وشمالاً فإذا أصاب الحية قطعها والحية عند ذلك تهرُبُ منه والمراءسة : أن يُخرِج الرَّأس ويدَعَ الذَّنَب ويكون غُمراً فتعضّه الحيَّة فتقتله .
استطراد لغوي قال : وتقول : أمكنت الضبّة والجرادة فهي تمكن إمكاناً : إذا جمعت البَيضَ في جوفها واسم البَيض المَكن والضّبة مكُون فإذا باضت الضّبة والجرادةُ قيل قد سرأت والمكن والسَّرء : البيض كان في بطنها أو بعد أن تبيضه وضَبّة

سرُوء وكذلك الجرادة تسرَأ سرءاً حين تُلقي بيضها وهي حينئذ سِلْقة .
وتقول : رزّت الجرادة ذنبها في الأرض فهي ترزُّ رزّاً وضربت بذنبها الأرض ضرباً وذلك إذا أرادت أن تلقي بيضها .
المضافات من الحيوان ويقولون : ذئب الخمَر وشيطان الحماطة وأرنب الخُلّة وتيس الرَّبْل وضبّ السَّحا والسَّحا : بقلة تحسُن حاله عنها .


ويقال : هو قنفذ بُرْقة إذا أراد أن يصِفَه بالخُبث .
وما أكثَر ما يذكرون الضَّبَّ إذا ذكَرُوا الصيف مثل قول الشاعر : ( سار أبو مسلمٍ عنها بصِرْمَتِهِ ** والضبُّ في الجُحْر والعُصفورُ مُجتمعُ ) وكما قال أبو زبيد : ( أيُّ ساعٍ سَعَى ليقطَع شرْبي ** حين لاحت للصَّابح الجوزاءُ ) ( واستكنَّ العُصفور كَرْهاً مع الض ** بِّ وأوْفى في عُودِهِ الحِرباءُ ) وأنشد الأصمعيّ : ( تجاوَزْتُ والعصفور في الجُحر لاجئٌ ** مع الضَّبِّ والشِّقْذَانُ تَسمُو صدورُها )
قال : والشِّقذان : الحرَابيّ قوله : تسمو : أي تَرتَفِع في رؤوس العيدان الواحد من الشّقذان بكسر الشين وإسكان القاف شَقذ بتحريك القاف .

أسطورة الضب والضفدع

وتقول الأعراب : خاصم الضبُّ الضفدعَ في الظّمأ أيُّهما أصبر وكان للضفدع ذنَب وكان الضبُّ ممسوحَ الذنب فلمّا غلبها الضبُّ أخذ ذنَبها فخرجا في الكلأ فصَبرت الضفدع يوماً ويوماً فنادت : يا ضبّ ورداً ورداً فقال الضبُّ : ( إلاّ عَرَاداً عَرِدا ** وصِلِّياناً بَرِدَا ) فلما كان في اليوم الثالث نادت : يا ضَبُّ وِرداً وِرداً قال :

فلمّا لم يُجِبها بادَرَتْ إلى الماء وأتْبعها الضبُّ فأخذ ذنَبها فقال : في تصْداقِ ذلك ابن هَرْمة : ( ألم تأرَقْ لضوءِ البَرْ ** قِ في أسْحَمَ لمَّاحِ ) ( كأعناقِ نساء الهِنْ ** دِ قد شِيبَتْ بأوْضاحِ ) ( تُؤَامِ الوَدْق كالزّاحِ ** فِ يُزْجَى خَلْف أطلاحِ ) ( كأنّ العازف الجنِّ ** يَّ أو أصوات أنْوَاحِ ) ( على أرجائها الغُرّ ** تَهَدِّيها بمصْباحِ )

( فقال الضبُّ للضفدِ ** عِ في بَيداءَ قِرواحِ ) ( تأمّل كيف تنْجوُ اليو ** مَ من كرب وتطْواحِ ) ( فإنيَ سَابحٌ ناجٍ ** وما أنتَ بسَبَّاحِ ) ( فلمّا دق أنف المُزْ ** نِ أبْدَى خيرَ إرْواحِ ) ( وسَحَّ الماء من مُستحْ ** لَب بالماء سَحَّاحِ ) ( رَأى الضبُّ من الضفد ** عِ عَوماً غير مِنْجاحِ ) ( ثَقَالُ المشْي كالسَّكرا ** نِ يمشي خلفه الصَّاحي ) ثم قال في شأن الضفدع والضب الكميتُ بن ثعلبة :

( على أخْذِها يَوْمَ غِبِّ الوُرُود ** وعند الحكومة أذْنَابَها ) وقال عبيد بن أيوب : ( ظَللت وناقتي نِضْويْ فَلاةٍ ** كفَرْخِ الضبّ لا يبغي ورُودا )
وقال أبوزياد : قال الضبّ لصاحبه : ( أهَدَموا بَيْتَكَ لا أبالَكا ** وزعموا أنك لا أخالكا ) وأنا أمشي الحَيكى حوالكا

قول العرب أروى من الضب

وتقول العرب : أرْوََى من ضبّ لأن الضب عندهم لا يحتاجُ

إلى شُرب الماء وإذا هرِم اكتفى بَبْرد النَّسيم وعند ذلك تفنى رطوبته فلا يبقى فيه شيءٌ من الدَّم ولا مما يُشبه الدّم وكذلك الحيَّة فإذا صارت كذلك لم تقْتُلْ بلعاب ولا بمجَاج ولا بمخالطةِ ريق وليس إلاّ مخالطة عظم السِّنَّ لدماء الحيوان وأنشدوا : فكلّما أقْصدَ منه الجوعُ شمّْ وأما صاحبُ المنطق فإنه قال : باضطرار إنه لا يعيش حيوانٌ إلاّ وفيه دمٌ أو شيء يشاكل الدم

إخراج الضب من جحره

والضبُّ تذْلقه من جُحره أمور منها السَّيل وربَّما صبُّوا

في جحره قربةً من ماءِ فأذْلقوه به وأنشد أبو عبيدة : ( يُذلقُ الضبَّ وَيخفيه كما ** يُذلقُ السَّيلُ يَرابيعَ النُّفَقْ ) يَخفيه مفتوحة الياء وتذلقه وقْع حوافِر الخيل ولذلك قال امرؤ القيس بن حُجْر : ( خَفَاهُنَّ مِنْ أنْفاقهنَّ كأنَّما ** خَفَاهُنَّ وَدْقٌ من سَحابٍ مُرَكّبِ ) تقول : خَفَيْته أخفِيه خَفْياً : إذا أظهرته وأخفيته إخفاءً : إذَا ستَرته وقال ابن أحمر : ( فإن تَدْفِنُوا الدّاء لا نَخفِهِ ** وإنْ تبعثُوا الحربَ لا نقعُدِ ) ولا بدَّ من أن يكونَ وقعُ الحوافرِ هدَم عليها أو يكونَ أفزَعَها فخرجَتْ وأهلُ الحجاز يسمُّون النّبّاش المُخْتفي لأنّه يستخرج الكفَنَ من القَبْر ويُظهره .


وحكَوا عن بعض الأعراب أنّه قال : إنَّ بني عامر قد جعلوني على حِنديرة أعينها تريد أن قول أبي عبيدة في تفضيل أبيات لامرئ القيس وأنشد أبو عبيدة : ( دِيمةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ** طبقُ الأرض تَحَرَّى وتَدُرّْ ) ( تُخرِج الضبَّ إذا ما أشجَذتْ ** وتُواريه إذا ما تَعْتكرْ ) ( وتَرَى الضّبَّ ذفيفاً ماهراً ** ثانياً بُرثُنَه ما يَنْعَفِرْ )

وكان أبو عبيدة يقدِّم هذه القصيدة في الغيث على قصيدة عَبيد بن الأبرص أوْ أوس بن حجر التي يقول فيها أحدهما : ( دانٍ مُسِفٍّ فويْقَ الأرْض هَيْدَبه ** يَكادُ يَدْفعُه مَنْ قامَ بالرَّاحِ ) ( فمن بنَجْوَتهِ كَمنْ بعَقْوَتِهِ ** والمُستَكنُّ كَمَنْ يمشي بقِرْواحِ ) وأنا أتعجّب مِنْ هذا الحكم .
قولهم : هذا أجلُّ من الحرش ومما يضيفون إلى هذه الضِّباب من الكلام ما رواه الأصمعيّ في تفسير المثل وهو قولهم : هذا أجَلُّ من الحَرْش أنّ الضَّبَّ قال لابنه : إذا سمعْتَ صَوْتَ الحَرْشِ فلا تخْرُجَنَّ قال : والحَرْش :

تحريكُ اليدِ عند جُحر الضب ليخرج ويَرى أنّه حيّة قال : فسمع الحِسْل صَوْتَ الحفْر فقال

الضب والضفدع والسمكة

وقال الكميت : ( يُؤَلِّفُ بَيْنَ ضِفدِعَة وضَبٍّ ** ويَعْجَب أنْ نَبَرّ بني أبِينا ) وقال في الضَّبِّ والنُّون : ( وَلوْ أنَّهُمْ جاؤوا بشيءٍ مُقَارِبٍ ** لِشَيءٍ وبالشِّكْل المقارِبِ للشِّكْل ) ( ولَكِنَّهُمْ جاؤوا بحِيتان لُجَّةٍ ** قَوامسَ والمكنيِّ فينا أبا حِسْلِ ) وقال الكميت : ( وما خلْتُ الضّبابَ مُعطَّفاتٍ ** على الحيتان مِنْ شَبَهِ الحسولِ ) وقال آخر : والعَربُ تقولُ في الشَّيءِ المُمْتَنع : لا يكونَ ذلك حتى يَرِدَ الضبُّ وفي تبعيدِ ما بينَ الجِنْسَيْن : حتّى يؤلَّف بين الضَّبِّ والنُّون .


استطراد لغوي قال : ويقال أضبَّت أرض بني فلان : إذا كَثرتْ ضِبابها وهذه أرضٌ مَضبَّة وأرضُ بني فلان مَضبَّة مثل فَئِرة من الفأر وجَرِذة من الجُرذان ومَحوَاة ومَحْياة من الحيّات وجَرِدة من الجراد وسرِفة من السُّرفة ومأسَدَة من الأسود ومَثْعلة من الثّعالب لأن الثَّعلب يسمَّى ثعالة والذِّئب ذُؤالة . )
ويقال أرضٌ مَذبَّة من الذُّباب مَذْأبَة من الذِّئاب .
ويقال في الضّبِّ : وقَعْنا في مَضابَّ منكَرَة وهي قطعٌ من الأرض تكثر ضِبابُها .
قال : ويقال أرضٌ مرْبعة كما يقال مضَبَّة إذا كانت ذات يرابيع وضِباب واسمُ بيضها المَكْن والواحدة مكنِة .
ويقال لفرْخه إذا خرج حِسْل والجميعُ حَسَلة وأحسال وحُسول

وهو حِسْل ثم مُطَبِّخ ثم غيداق ثمَّ جَحْل والسَّحْبَلُ : ما عظم منها وهو في ذلك كلِّه ضبٌّ .
وبعضُهم يقول : يكون غَيداقاً ثم يكون مطبِّخاً ثمَّ يكون جَحْلاً وهو العظيم ثمَّ هو خُضَرِمٌ ثمَّ يكون ضَباً وهذا خطأ وهو ضَبٌّ قبل ذلك وقال الرَّاجز : ( ينفي الغياديقَ عن الطَّريقِ ** قلَّص عنه بيضُهُ في نيق ) ما يوصف بسوء الهداية من الحيوان ويقال : أضَلُّ من ضبٍّ والضلال وسوء الهِداية يكونُ في الضبِّ والورَل والدِّيك .

الضب وشدة الحر
وإذا غيّر الحَرُّ لون جلْدِ الضبِّ فذلك أشدُّ ما يكون من الحر وقال الشَّاعر : ( وهَاجرةٍ تُنْجي عنِ الضَّبِّ جِلْدَه ** قَطَعْتُ حَشَاهَا بالغُرَيريَّة الصُّهبِ )

أمثال في الضب

وفي المثل : خلِّ دَرَج الضبّ وفي المثل : تعْلِمني بضبٍّ أنا حرَشْتُه و : هذا أجَلُّ من الحَرْش و : أضلُّ من ضبٍّ و : أخبُّ من ضبّ و : أروى من ضبٍّ و : أعَقُّ من

ضبّ و : أحيَا من ضبٍّ و : أطوَلُ ذَماءً من ضبّ و : كلُّ ضَبٍّ عِندَ مِرْداته ويقال : أقصرُ من إبهام الضّبّ كما يقال : أقصر من إبهام القطاة وقال ابن الطَّثْريّةِ : ويومٍ كإبهام القطاة ومن أمثالهم : لا آتِيكَ سنَّ الحِسْل وقال العجاج :

ثُمَّت لا آتيه سِنَّ الحِسْلِ كأنّه قال حتّى يكون مَا لا يكون لأنَّ الحسل لايستبدل بأسنانه أسناناً .
أسنان الذئب وزعم بَعضُهم أنّ أسنان الذِّئب ممطولة في فكيه وأنشد : وليس في هذا الشعر دَليلٌ على ما قال لأنَّ الشاعر يُشْبع الصفةَ إذا مَدَح أو هَجا وقد يجوز أن يكونَ ما قال حقّاً .
ما قيل في عبد الصمد بن علي فأما عبد الصَّمد بن علي فإنه لم يُثغر ودخل القبر بأسنان الصِّبا .


استطراد لغوي وقد يقال للضَّبِّ والحيّة والورَل وما أشبَهَ ذلك : فحَّ يفحُّ فحيحاً والفحيح : صوت الحية من جَوْفها والكشيش والقشيش : صَوت جْلدها إذا حكَّت بَعضها ببعض .
وليس كما قال ليس يُسمع صوت احتكاك الجلد بالجلد إلاَّ للأفعى فقط وقال رؤبة : ( فِحِّي فلا أفْرَقُ أن تَفِحِّي ** وأن تُرَحّي كرَحَى المرحِّي ) وقال ابنُ ميادة : ( ترى الضبَّ إن لم يرهب الضبُّ غيره ** يكِشُّ له مستكبراً ويطاولُه ) ( حديث أبي عمرة الأنصاري ) ويُكتَب في باب حبِّ الضّب للتّمر

حديث أبي عمرة الأنصاري

____________________

رووه من كلِّ وجه أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قالَ لرجل من أهل الطائف : الحُبْلة أفْضل أم النخلة قال : بل الحُبلة أتزببها وأشَمِّسها وأستظل في ظلّها وأصلح بُرْمَتي منها قال عمر : تأبى ذاك عليك الأنصار .
ودخل أبو عمرة عبد الرحمن بن محْصن النجَّاري فقال له عمر : الحبلة أفضل أم النَّخلة قال : الزبيب إنْ آكلْه أضْرَس وإن أتْرُكْه أغرث ليس كالصّقر في رُؤوس الرَّقل الراسخات في

الوحل المطعمات في المَحْل خُرْفَة الصائم وتُحْفة الكبير وصُمْتة الصغير وخُرسة مريم ويُحْتَرَشُ به الضِّباب من الصَّلعاء يعني الصحراء .

دية الضب واليربوع

قال : ويقالُ في الضّب حُلاَّم وفي اليَربوع جفْرة والجفرة :

التي قد انتفخ جَنْبَاها وشَدنت والحُلاَّم فوق الجدي وقد صَلُح أن يُذبَح للنُّسك والحُلاَّن بالنون : الجدي الصغير الذي لا يصلح للنُّسك .
وقال ابن أحمر : ( تهدِي إليه ذراع الجَدْي تَكْرِمَةً ** إمَّا ذَبيحاً وإمَّا كان حُلاّنا ) والحُلاَّن والحُلوان جميعاً : رشوة الكاهن وقد نُهي عن زَبْدِ المشركين وحُلوان الكاهن وقال مهلهِل : أقوال لبعض الأعراب وقال الأصمعي : قال أعرابيٌّ يَهزَأ بصاحبه : اشتر لي شاةً قفْعاء

كأنَّها تضْحَك : مندلقةً خاصرتاها كأنّها في مَحْمِل لها ضرْعٌ أرقط كأنّه ضبّ قال : فكيف العَفْلُ قال : أو لهذه عَفْل قال : وسأل مَدنيٌّ أعرابيّاً قال : أتأكلون الضَّبَّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال : فالورَل قال : نعم قال : أفتأكلون أمّ حُبَين قال : لا قال : فلْيَهْنِ أمَّ حُبينٍ العافية .
شعر في الضب وقال فِراس بن عبد اللّه الكلابي : ( لَمّا خَشِيت الجُوع والإرمَالا ** ولم أجد بشَوْلِها بلالا )

( أبصرت ضَبّاً دَحِناً مُخْتالا ** أوفَدَ فَوْقَ جُحْرِهِ وذالا ) ( فدَبّ لي يخْتلني اختيالا ** حتّى رأيتُ دونيَ القَذالا ) ( ومَيْلةً ما مِلْتُ حينَ مالا ** فَدهِشَتْ كَفَّاي فاستطالا ) ( مِني فلا نزْعَ ولا إرسالا ** فحاجزا وبَرَّأَ الأوصالا ) ( مِنِّي ولم أرفَعْ بذاكَ بالا ** لمَّا رأتْ عيني كُشًى خِدَالا )

أسماء لعب الأعراب البُقَّير وعُظَيمُ وضّاح والخَطْرة والدَّارة والشّحمة والحلق ولُعبة الضّبّ .
فالبُقيْرَ : أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى أسفله ثم يقول لصاحبه : اشتَهِ في نفسك فيصيبُ ويخطئ .
وعُظيمُ وَضّاح : أن يأخذ بالليل عظماً أبيضَ ثم يرمي به واحدٌ من الفَريقين فإنْ وجدَهُ واحدٌ من الفريقَين ركِب أصحابه الفريقَ الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه .
والخطرة : أن يعملوا مِخْراقاً ثم يرمي به واحدٌ منهم من خلفه

إلى الفريق الآخر فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم فإن أخذوه ركبوهم .
والدّارة هي التي يقال لها الخَراج .
والشّحمة : أن يمضيَ واحدٌ من أحد الفريقَين بغلامٍ فيتنحَّون ناحية ثم يقبلون ويستقبلهم الآخرون فإن منَعوا الغلام حتَّى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه ويُدفَع الغلام إليهم وإن هم لم يمنعوه ركبوهم وهذا كله يكون في ليالي الصَّيف عن غِبِّ ربيعٍ مُخصِب ولُعبة الضّبّ : أن يصوِّروا الضّبّ في الأرض ثم يحوِّل واحدٌ من الفريقين وجهَه ثم يضع َبعضهم يده على شيءٍ من الضّبِّ فيقول الذي يحوِّل وجهه : أنف الضّبِّ أو عين الضبِّ أو ذَنب الضّب أو كذا وكذا من الضّبِّ على الوِلاء حتّى يفرغ فإن أخطأ ما وضَع عليه يدَهُ رُكِب ورُكِب أصحابه وإن أصابَ حَوَّل وجهه الذي كان وضع يده على الضّبِّ ثم يصيرُ هو السائل .


ويقول : الأطبَّاء : إنَّ خُرء الضّب صالح للبياض الذي يصير في العين .
والأعرابُ ربَّما تداوَوْا به من وجَع الظهر .
وناسٌ يزعمون أنّ أكل لحمان الحيوان المذكور بطولِ العمر يزيد في العمر فصدَّق بذلك ابن )
الخارَكي وقال : هذا كما يزعمون أن أكل الكُلية جيِّد للكُلية وكذلك الكبدُ والطِّحال والرِّئة واللّحم ينبت اللّحم والشّحم ينبت الشّحم فغَبرَ سنةً وليس يأكلُ إلاّ قديد لحوم الحمر الوحشية وإلا الورشان والضِّباب وكلَّ شيء قدَر عليه مما يقضي له بطول العُمر فانتقض بدنه وكاد يموت فعاد بعدُ إلى غذائه الأوّل .
تفسير قصيدة البهراني نقول في تفسير قصيدة البَهْراني فإذا فرغنا منها ذكرنا ما في الحشرات من المنافع والأعاجيب والروايات ثم ذكرنا قصيدتي أبي سهل

بشر بن المعتمر في ذلك وفسرناهما وما فيهما من أعاجيب ما أودع اللّه تعالى هذا الخلْق وركّبهُ فيهم إن شاء اللّه تعالى وباللّه تبارك وتعالى أستعين .
أما قوله : ( مَسَخَ الماكِسَينِ ضَبْعاً وذئبا ** فلهذا تناجلا أمَّ عَمْرِو ) فإن ملوك العرب كانتْ تأخُذُ من التُّجَّار في البرِّ والبحر وفي أسواقهم المكْس وهو ضريبةٌ كانت تؤخذ منهم وكانوا يظلمونهم في ذلك ولذلك قال التَّغلبي وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد وهو قوله : ( ألا تَسْتحِي منّا مُلوكٌ وتَتّقِي ** حارِمنا لا يَبْوُؤُا الدَّمُ بالدَّمِ ) ( في كُلِّ أسْواقِ العراقِ إتاوةٌ ** ي كلِّ ما باعَ امرؤٌ مَكْسُ دِرْهمِ ) والإتاوة والأُربان والخرْج كله شيءُ واحد وقال الآخر :

( لاَ ابنَ المُعَلّى خِلْتَنا أمْ حسِبْتنا ** صراري نعطي الماكسينَ مُكُوسا ) وقال الأصمعيُّ في ذكر المكسِ والسُّفن التي كان تُعْشر في قصيدته التي ذكر فيها من أهلك الله عز ذكره من الملوك وقصم من الجبابرة وأباد من الأمم الخالية فقال : ( أعْلقَتْ تُبَّعاً حِبالُ المنونِ ** وانتحت بعده على ذي جُدُونِ ) ( ملكَ الحضر والفُراتِ إلى دِجْ ** لة شرقاً فالطور من عَبْدينِ ) ( كل حِمْلٍ يمرُّ فوق بعير ** فله مكسُهُ ومكسُ السُّفِينِ ) والأعراب يزعمون أن اللّه تعالى عزّ وجلّ لم يدعَ ماكساً ظالماً إلا أنزل به بليةً وأنَّه مسخَ منهم ضبُعاً وذئباً فلهذه القرابةِ

تسافدا وتناجلا وإن اختلفا في سوى ذلك فمن ولدهما السِّمع )
والعِسبار وإنما اختلفا لأنّ الأمَّ ربما كانت ضبعاً والأبُ ذئباً وربما كانت الأمُّ ذئبةً والأبُ ذيخاً والذِّيخ : ذكر الضِّباع .
ذكر من أهلك الله من الأمم وأمّا قوله : ( بَعَث الذَّرَّ والجراد وقفَّى ** بنجيع الرُّعافِ في حَيِّ بَكْرِ ) فإنّ الإعراب تزعم أن اللّه تعالى قد أهلك بالذرّ أمما وقد قال أميّةُ بن أبي الصّلت : ( أرسل الذَّرَّ والجراد عليهمْ ** وسنيناً فأهلَكَتْهم ومُورا ) ( ذكرَ الذَّرِّ إنَّه يفعلُ الش ** رّ وإنّ الجرادَ كان ثُبورا ) وأما قوله : وقفّي بنجيع الرُّعاف في حيِّ بكر فإنّه يريد بكر بن عبد مناة لأنّ كنانةَ بِنزولها مَكَّة كانوا لا يزالون يصيبهم من الرُّعاف ما يصير شبيهاً بالموتان ويجارف الطاعون وكان آخِر من

وكان الرُّعاف مِنْ منايا جرهُم أيام جرهم ولذلك قال شاعرٌ في الجاهلية من إياد : ( ونحنُ إيادٌ عبادُ الإله ** ورهط مُناجِيهِ في سُلّمِ ) ( ونحنُ ولاةُ حجاب العتيق ** زمان الرُّعافِ على جُرهمِ ) ولهذا المناجي الذي كان يناجي الله عز وجل في الجاهلية على سُلّم حديث .
سيل العرم فأما قوله : ( خَرقتْ فأرةٌ بأنفٍ ضئيلٍ ** عَرِماً مُحكَمَ الأساسِ بصَخْرِ ) فقد قال اللّه عز وجل : فَأَرْسَلْنا عَليْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ والعَرِم : المسنّاة التي كانوا أحكموا عملها لتكون حجازاً بين ضِياعهم وبين

السيل ففجرته فارة فكان ذلك أعجبَ وأظهر في الأعجوبة كما أفار اللّه تعالى عز وجل ماءَ الطوفان من جَوف تَنُّور ليكون ذلك أثبتَ في العِبرة وأعجَبَ في الآية .
ولذلك قال خالدُ بنُ صفوان لليمانيّ الذي فخر عليه عند المهديِّ وهو ساكت فقال المهدي : وما لكَ لا تقول قال : وما أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغُ جِلد وناسجُ بُرْدٍ وسائسُ قرد وراكب عَرْد غرَّقتهم فارة وملَكَتْهم امرأة ودلَّ عليهم هدهد . ( فَجَّرتْه وكان جِيلان عنه ** عاجزاً لو يَرُومُه بَعْدَ دَهْرِ )
فإنّ جيلان فَعَلة الملوك وكانوا من أهل الجَبَل وأنشد الأصمعي : ( أرسَلَ جِيلان يَنحَتون له ** ساتيدما بالحديد فانصدعا )

وأنشد : ( وتَبْني له جِيلانُ مِنْ نَحْتِها الصَّفا ** قُصوراً تُعالى بالصَّفيح وتُكْلَسُ ) وأنشد لامرئ القيس : ( أُتِيحَ له جَيلانُ عند جَذَاذِه ** ورُدِّدَ فيه الطَّرْفُ حتّى تحيَّرا ) يقول : فجَّرته فارةٌ ولو أنّ جيلان أرادت ذلك لامتَنعَ عليها لأنَّ الفارةَ إنما خرقته لما سخّر اللّه عز ذكره لها من ذلك العَرِم وأنشدوا : ( مِنْ سَبأ الحاضرِينَ مأرِب إذْ ** يَبْنُون مِنْ دُونِ سَيلِهِ العَرِما )

ومأرب : اسمٌ لقصر ذلك الملك ثم صار اسماً لذلك البلد ويدلُّ على ذلك قول أبي الطَّمحان القيني : ( ألا ترى مَأرباً ما كان أحَصَنَهُ ** وما حَوالَيْهِ مِنْ سُورٍ وبُنْيانِ ) ( ظلَّ العِباديُّ يُسقى فوق قُلّتهِ ** ولم يَهَبْ رَيْبَ دَهرٍ حقّ خَوَّانِ ) وقال الأعشى : ( ففي ذَاكَ للمُؤْتَسي أُسْوةٌ ** ومَأرِبُ قَفّى عليه العَرِمْ ) ( رخامٌ بَنتْه لهُ حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُم لم يَرِمْ ) ( فأروَى الحُرُوثَ وأعنابَها ** على ساعةٍ ماؤُهُم إذ قُسِمْ ) ( فطار الفُيولُ وفَيَّالها ** بِيَهْماءَ فيها سَرابٌ يطِمّ )

( فكانُوا بذلكمُ حِقْبةً ** فمال بِهمْ جارفٌ مُنْهدمْ ) ( فطارُوا سِراعاً وما يَقدِرُو ** نَ مِنْهُ لِشُرْب صَبِيٍّ فُطِمْ ) ( مسخ الضبّ وسهيل ) وأما قوله : ( مَسَخَ الضَّبّ في الجَدَالةِ قِدْماً ** وسُهَيلَ السَّماءِ عَمْداً بصُغْرِ ) فإنهم يزعمون أنّ الضّبَّ وسُهيلاً كانا ماكِسَين عَشّارين فمسخ اللّه عز وجل أحدهما في الأرض والآخَرَ في السماء والجدالة : الأرض ولذلك يقال : ضربه فجدَّله أي ألْزَقه بالأرض أي بالجَدالة وكذلك قول عنترة : وأنشد أبو زيدٍ سعيدُ بن أوسٍ الأنصاري : ( قد أركب الحالة بعد الحالهْ ** وأتْرُكُ العاجِز بالجَدالهْ )

أبو رغال وأما قوله : ( والذي كان يَكْتَني برِغال ** جَعَل اللّه قَبْرَهُ شَرَّ قَبْرِ ) ( وكذا كلُّ ذي سُفين وخَرْجٍ ** ومُكُوسٍ وكلُّ صاحب عُشْر ) فإنما ذكر أبا رِغال وهو الذي يرجم الناس قبره إذا أتوا مَكة وكان وجّهه صالحٌ النبي صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون على صدقات الأموال فخالف أمره وأساءَ السِّيرة فوثَب عليه ثقيف وهو قَسِيُّ بن مُنَبِّه فقتله قتْلاً شنيعاً وإنما ذلك لسوء سيرته في أهل الحرم فقال غيلان بن سلمة وذكر قَسوة أبيه على أبي رغال : نحنُ قسِيٌّ وقَسا أبونا وقال أُميّة بنُ أبي الصَّلت : ( نفوْا عن أرْضِهمْ عدْنانَ طُرّاً ** وكانوا للقبائل قاهِرِينا ) ( وهم قتلوا الرئيس أبا رغال ** بنخلة إذ يسوق بها الظعينا )

وقال عمرو بن دراك العبدي ، وذكر فجور أبي رغال وخبثه ، فقال : ( وإني إن قطعت حِبال قيسٍ ** وحَالَفْتُ المزُونَ على تمِيمِ ) ( لأعْظَمُ فَجْرةً مِنَ أبي رِغالٍ ** وأجْوَرُ في الحكومةِ من سَدُومِ ) وقال مسكينٌ الدارميّ : ( وأرجُمُ قَبْرَهُ في كلِّ عامٍ ** كرَجْمِ النّاس قَبْرَ أبي رغالِ ) وقال عُمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لَغَيلان بن سلَمة حين أعتق عبده وجعل ماله في ) رِتاج الكَعْبة : لئن لم تَرْجِعْ في مالك ثمَّ مُتَّ لأرجُمَنّ قبرك كما رُجِم قبرُ أبي رِغال وكلاماً غير هذا قد كلّمه به .


المنكب والعريف وأما قوله : ( مَنْكِبٌ كافرٌ وأشْرَاطُ سَوْءٍ ** وعَريفٌ جزاؤُه حَرُّ جَمْرِ ) فإنما ذهب إلى أحكام الإسلام كأنه قد كان لقى من المَنْكِب والعَرِيف جهْداً وهم ثلاثة : مَنْكِب ونقيب وعَريف وقال جُبَيْهاءُ الأشجعيُّ : ( رعاع عاونَتْ بَكْراً علَيْه ** كما جُعِل العريفُ على النَّقِيبِ ) الغول والسعلاة ( وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً ** بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ ) فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب ذكراً كان أو أنثى إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى .


وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ : ( وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ** بقرب عُهودهنّ وبالبعادِ ) ( وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً ** لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي ) ( وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ** كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ ) فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها : ( فما تدوم على حالٍ تكون بها ** كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ ) فالغول ما كان كذلك والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ السُّفّار .
قالو : وإنما هذا منها على العَبث أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً

فتغيِّرَ عقله فتداخِلَه عند ذلك لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما . ( وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها ** رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ ) ( أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ** إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ )
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن سريعة الحركة ممشوقة مُمَحَّصة قالوا : سعلاة وقال الأعشى :

( ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ** ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي )

تزاوج الجن والإنس

ويقولون : تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة وقال الرَّاجز : ( يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ** عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ ) وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ : أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره : وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ .


وقوله عز وجل : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ قالوا : فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ ولم يأتهنّ ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات لم يقل ذلك .
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل : وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فجعل منهنَّ النِّساء إذ قد جعل منهم الرِّجال وقوله تبارك وتعالى : أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال : دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال : اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي ولا جسدي ولا دمي ولا مالي ولا تُدخلهم في بيتي ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة .
قال أبو عبيدة : فقيل له : لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال : وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول : واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ حتى

قيل له : اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول : الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ وأسمعه يقول : وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه كما قال اللّه عزّ ذكره : فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ وقد جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي وكيف لا أستعيذ بالله منه وأنا أسمع الله عز ذكره يقول : ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ وكيف )
لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول : ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ ثم قال : يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ

وقُدُورٍ راسِياتٍ وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول : قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ .
وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول : ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ .

تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن

والأعراب يتزيّدون في هذا الباب وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى .

مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن

وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة وفي فرق ما بين الجن والإنس وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب وشعراءِ العرب ولولا العلم بالكلام وبما يجوز مما لا يجوز لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل .


قال عُبيدُ بن أيُّوب وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه وأبعد في الهرب : ( لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمامَةٌ ** لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ ) ( وخِفت خليلي ذا الصَّفاء وَرَابَني ** وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ ) ( فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ ** لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقتِّر ) ( أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ ** حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ ) ( وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ** ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ ) وقال في هذا الباب في كلمة له وهذا أولها : ( أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ** عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بنانيا ) ( خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ** ترامى بي البيدُ القِفارُ تراميا ) ( كأني وآجال الظِّباء بقفرةٍ ً ** لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا )

( رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ** ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا ) ( فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةٍ ً ** قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا ) ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا ( أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ** بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا ) ( وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ** وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا ) ( ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ** دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا ) ( أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ** كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا )

( إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ** فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا ) ( فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ** أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا ) ومما ذكر فيه الغيلان قولُه : ( نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ** مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ ) ( أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ** يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ ) ( رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ** على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ ) ( تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ** وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ ) ( إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ** وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ ) ( ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ** بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل )

( فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ** ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ ) ومما قال في هذا المعنى : ( علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ** أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ ) وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ ( فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ** لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ ) ( لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ** لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ ) ( أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ** على من يثير الجنّ وهي هجودُ )

أخبار وطرف تتعلق بالجن

وقال ابن الأعرابي : وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها فكمن

في عُشَرةٍ كانت بقربهم فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ فقال لامرأته : يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت : مَهْ يا شيخُ ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ : وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت : وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد قال : ونام الشَّيخ وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت .
وروى عن محمّد بن الحسن عن مُجالِد أو عن غيره وقال : كنّا عند الشّعبي جُلوساً فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي : ما كان اسمُ امرأة إبليس قال : ذاك نكاحٌ ما شهدناه .


وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال : قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص : أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس أنّك تشبه إبليس قال : وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه وروى الهيثم عن داود بن أبي هند قال : سئل الشّعبي عن لحم الفيل فتلا قولَه عزّ ذكره : قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ إلى آخر الآية وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال : نحن نرضى منه بالكَفَاف فقال له قائل : ما تقولُ في الذِّبّان قال : إن اشتهيته فكُلْهُ .
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته : ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين ( أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ** كما يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين ) وقال أبو الحسن وغيرُه : كان سعيدُ بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة ونصفَ سنةٍ يصح فيحبو ويُعطي ويكسُو

ويَحمِل فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه .
وتقول العرب : شيطان الحمَاطة وغول القَفْرَة وجانُّ العُشرَة وأنشد : ( فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ** تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالغِيَرْ ) وأنشد : الغُملول : الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل وضغب ضغبة الأرنب ليفزعه ويوهمه أنّه )
عامر لذلك الخمر .

رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان

( من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان ) وما يشبهون بالجن والشياطين وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم .
وأنشد : ( كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ** وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُهْ ) ( وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ** شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ ) أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ وأنشد : ( إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ** ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِيسِ ) ( بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ** إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس )

( وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ** أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ ) وهو الذي يقول : ( أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ** قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ ) وقال الخطفى : ( يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ** أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا ) وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا

وأنشد ابنُ الأعرابي : ( غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ** صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ ) وقال الحارث بن حلزة : ( ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ** شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ ) ( إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ** نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ ) وقال الأعشى : ( فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ** ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا ) ( لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ** وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا )


وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد : وقال ذو الرُّمَّة : ( قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه ** في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ ) ( للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ ** كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ )

( داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ** يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ ) وقال : ( وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ** به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ ) وقال : ( كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ** تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا ) وقال : ( ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ** هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ ) وقال :

( وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ** أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ ) ( فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ** هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ ) ( وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ** من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ ) ( بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ** بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ ) وقال ذو الرمة : ( وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ** بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ ) وقال الراعي : ( ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ** عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ )

( أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ** وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ )

لطيم الشيطان

ويقال لمن به لقوة أو شتَر إذا سُبَّ : يا لطيم الشيطان .
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد لعمرو بن سعيد حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية وكان مستضعفاً وكان مع الضّحّاك فأسِرَ فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه واستغاث بعبيد اللّه قال عبيد اللّه لعمرو : يدك يا لطيمَ الشيطان .
قولهم : ظل النعامة وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول : يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم : يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص : بينا أنت يا ظلَّ الشّيطان أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان .


وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال وكان مُفْرط الطّول : ( فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ** ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ ) قولهم : ظل الرمح فأما قولهم : مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع .
وقال ابن الطّثرية : ( ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُوله ** دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ ) قال : وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس .

التشبيه بالجن

قال : وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل

الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة وقال : تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان . ( إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ** مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا ) وأنشدوا : ( وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ** قلائصاً تحسِبهنَّ جنا ) وقال ابن ذي الزوائد : ( وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ** بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ )

( ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ** يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ ) ( بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ** جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا ) وأنشدوا : ( إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ** آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه ) ( يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ** فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه ) ( قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ** تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه ) ( َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ** حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه ) ( قام إليها فتيةٌ ثمانيه ** فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه )

أخلافها لِذي الأكف مالِيَه وقال ابنُ الأعرابي : قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به قال : وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه فقلت : ما أطيب ماءكم هذا وأعْذى منزلكم قال : نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله بعيد من العراق واليمامة والحجاز كثير الحيات كثير الجنان فقلت : أتَروَنَ الجن قال : نعم مكانُهم في هذا الجبل وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال : ثمَّ حدَّثني بأشياء .

شعر فيه ذكر الجن

وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس :

( هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ** ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ ) ( ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ** حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ ) ( فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ** فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ ) ( فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ** بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ ) ( قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ** لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ ) ( فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ** فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ ) ( فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ** شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج )

( ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ** تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً ) ( فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ** ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا ) ( فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ** وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا ) وقال حسّانُ بنُ ثابت في معنى قولِه : وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه فقال : ( وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ** مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها ) ( قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ** قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها ) فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها

وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة : ( أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ** مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ ) ( فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ** شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ )

من المثل والتشبيه بالجن

ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم : ( وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ** وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ ) ( بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ** تداعى الجربياءُ به الحنينا )

( تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ** وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا ) وقال الأعشى : ( وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ** رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق ) وقال النابغة : ( وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ** يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ )

ما يزعمون أنه من عمل الجن

وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا : ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً وجهلتم موضع الحِيلة فيه أضفْتُموه إلى الجنِّ ولم تعانوه بالفكر .
وقال العَرْجيُّ : ( سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل ** مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ )

وقال الأصمعيُّ : السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام فأمّا القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه وقال البعيث : ( بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ** من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ ) ( كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ** مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ ) وقال المقنَّع الكِنْديُّ : ( وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ** حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا ) ( جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ** شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا ) ( مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ** قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا ) وقال أبو النَّجم : ) ( أدرك عقلاً والرهان عمله ** كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه ) صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ

وقال الأعشى في المعنى الأوّل من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام : ( أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ** ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ ) ( بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ** له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ ) وكما يقولون : قنفذ بُرْقة وضبُّ سحاً وأرنب الخلَّة وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن وإمّا في الخُبث وإمَّا في القوة فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد :

( غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ** جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها ) وقال النّابغة : ( سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ ) وقال زهير : ( عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ** جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا ) وقال حاتم : ( عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ** يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما ) ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق أو شديدٍ : عبقري .


وفي الحديث في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه قال أعرابي : ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً .
ثمَّ ينزلون الجن في مراتب فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ سالماً قالوا : جني فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا : عامر والجميع عُمّار وإنْ كان ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان فإذا زاد على ذلك فهو مارد قال اللّه عز ذكره : وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ماردٍ فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت والجميع عفاريت قال اللّه تعالى : قال عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ مقامِك .
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي قال الشاعر : )
ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ

فإن طهَرَ الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك في قول من تأول قوله عز ذكره : كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ على أنّ الجنَّ في هذا الموضع الملائكة .
وقال آخرون : كان منهم على الإضافة إلى الدّار والدّيانة لا على أنّه كان من جنْسهم وإنّما ذلك على قولهم سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن طرْخان التّيمي وأبو علي الحرمازي وعَمْرو بن فائد الأسواري أضافوهم إلى المحالّ وتركوا أنسابهم في الحقيقة .
استطراد لغوي وقال آخرون : كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ وجانّ وجنين وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن

( ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا ** لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينا ) يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم .
قالوا : وكذلك الملائكة من الحَفَظة والحمَلة والكَرُوبيِّينَ فلا بدّ من طبقات وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال واشتُقَّ لهم الاسمُ من السّبب كما قالُوا لواحدٍ من الأنبياء : خليل اللّه وقالوا لآخر : كليم اللّه وقالوا لآخر : روح اللّه . 4

مراتب الشجعان

والعرب تُنزل الشُّجعاء في المراتب والاسم العامُّ شجاع ثمَّ بطلَ ثم بُهْمة ثم أليَس هذا قول أبي عبيدة .
فأمّا قولهم : شيطان الحماطة فإنّهم يعنون الحيّة وأنشد الأصمعي : ( تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّهُ ** تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ )

وقد يُسَمُّون الكِبر والطغيان والخُنْزُوانة والغضبَ الشّديدَ شيطاناً على التّشبيه قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : والله لأنزِعَنّ نُعْرتَه ولأضربنَّه حتى أنزع شيطانه من نخرته .
مراتب الجن والأعراب تجعل الخوافِي والمستجِنّات من قبل أن ترتِّب المراتب جنسين يقولون جِنّ وحنّ بالجيم والحاء وأنشدوا : ( أبيتُ أهْوي في شياطينَ تُرِنّ ** مختلفٍ نجواهمُ حِنٌّ وجنّ ) ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ وقال أعشى سليم : ) ( فما أنا منْ جِنٍّ إذا كنتُ خافياً ** ولستُ من النَّسْناسِ في عنصُرِ البَشَرْ )

ذهب إلى قول من قال : البشر ناسُ ونسناس والخوافي حنّ وجنّ يقول : أنا من أكرم الجِنسين حيثما كنت .
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ العُبّاد يزعمون أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم ويقال له المذهِب يُسْرِج لهم النِّيران ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك من قِبَل اللّه تعالى .
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ الذي قد تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن يسمى خَنْزَب وهو صاحب عثمان بن أبي العاص .

الخابل والخبل
قال : وأما الخابل والخَبَل فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين يخبلون النّاسَ بأعيانهم دون غيرهم وقال تناوح جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ كأنّه أخْرج الذين يخبلون ويتعرَّضون ممّن ليس عنده إلاّ العزيف والنّوح وفصل أيضاً لبيدٌ بينهم فقال : ( أعاذلُ لو كان النِّداد لقُوتلوا ** ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ ) وقد زعم ناسٌ أنَّ الخبلَ والخابل ناس قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فكيف يقول أوس بن حجر : تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ 4

استطراد لغوي

قالوا : وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة ثم غُول والغُول في كلام العرب الدَّاهية ويقال : لقد غالَتْهُ غول وقال الشاعر :

( تقول بيتي في عِزّْ وفي سعَةٍ ** فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ ) ( لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به ** تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً له غولُ ) وقال الرَّاجز : ( تَقْلِبُ للأوتارِ والذُّحُولِ ** حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ )

زواج الأعراب للجن

ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلِّمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي : ( ونارٍ قد حضأتُ بُعَيْدَ هَدْءٍ ** بدارٍ لا أُريدُ بها مُقامَا ) ( سِوى تَحْليلِ راحلةٍ وعينٍ ** أُكالئُها مخافَة أنّ تناما )

( أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالوا ** سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما ) ( فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُمْ ** زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعاما ) وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت مِنْه حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي فطارَتْ إليهنّ فقال : ( رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ ** فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا ) فمن هذا النِّتاج المشترك وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم بنو السِّعلاة من بين عمرو بن يربوع وبلقيسُ ملكة سبأ وتأوَّلوا قول الشاعر :

( سقط : بيت الشعر ) ( لا هم إن جرهما عبادكا ** الناس طرف وهم تلادكا ) فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السَّماء أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سُهيلاً عشّاراً مُسِخ نجماً وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً وكان اسمها أناهيد .
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا .
المخدومون ويقول الناس : فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه إذا عَزَم على الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه منهم عبد اللّه بن هلال الحميريّ الذي كان يقال له صديق إبليس ومنهم كرباش الهنديّ وصالح المديبري .


شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول : إن العامِر حريصٌ على إجابة العزيمة ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم يستطعْ دخوله والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر ويراعي سَيْرَ المشتري ويغتسلَ بالماء القراح ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات ويتوحّش في الفيافي ويُكثر دخول الخراباتِ حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ فإن عزم عند ذلك فلم يُجب فلا يعودنّ )
لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى عاد خُبط فربما جُنّ وربما مات .


قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلا لكنت فوق عبد الله بن هلال .

رؤية الجن

قال الأعراب : وربما نزلنا بجمعٍ كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا .
والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود رضي اللّه عنه رأى رجالاً من الزُّطِّ فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ .
قال : وقد رُوي عنه خلاف ذلك .
وتأوّلوا قوله تعالى : وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً ولم يُهلك الناس كالتأويل .
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم حيث يقول : بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ فأخرج الغول من الجِنّ للذِي بانَتْ به من الجنّ .


وهكذا عادتهم : أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ دخَلَ ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاصّ .
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمةٍ وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى احترق عامّةُ فخذه حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم .
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه تعالى ليمتحنَ بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوامّ وما أشك أنه قد كانتْ للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان التكسُّب .
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهِنْدُ من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أنّ اللّه تعالى قد مَنَّ على جملة الناس بالمتكلِّمين الذين قد نشؤوا فيهم .
افتتان بعض النصارى بمصابيح

كنيسة قمامة وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف والجراءةِ على البُهتان البَحْت وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة والمعرفة الثّاقبة .

إيمان الأعراب بالهواتف

والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول : قال : فقلتُ مجيباً له : ( ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى ** مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ ) فقال : ( نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى ** وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ )

وهذا الباب كثير .
قالوا : ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك والأمور المهمة كما تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب مكة وهذا الباب أيضاً كثير . ( من له رَئيٌّ من الجن ) وكانوا يقولون : إذا ألف الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه وخبّره ببعض الأخبار وجد حِسّه ورأى خياله فإذا كان عندهم كذلك قالوا : مع فلان رئَيٌّ من الجن وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة والمأمور الحارثي وعتيبة بن الحارث بن شهاب في ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار من بين فارس رئيس وسيِّد مُطاع .


فأما الكهّان : فمثل حارثة جهينة وكاهنة باهلة وعُزّى سلمة ومثل شِقّ وسَطيح وأما العرّاف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسدي والأجلح الزهري وعروة ابن زيد الأسدي وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة

وهو صاحب بنت المستنير البلتعي وقد قال الشاعر : ( فقلت لعراف اليمامة داوِني ** فإنَّك إنّ أبْرَأتني لَطبِيبُ ) وقال جُبَيهاء الأشجعيّ : ( أقامَ هَوى صفيَّة في فؤادي ** وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبيبِ ) ( لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ وُدِّي ** وما أنا مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ ) ( أقول وعروةُ الأسديُّ يرقي ** أتاك برُقْيةِ المَلِق الكذوبِ ) ( لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابن زيدٍ ** بشافٍ من رُقاك ولا مُجيبِ ) ( لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ أشفى ** لما بي منْ طبيب بني الذَّهوبِ )
وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس العيافة والزّجر والخطوط والنّظر في أسرار الكفّ وفي مواضع قرض الفار وفي الخيلان في الجسد وفي النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر .
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه ولذلك قال الشّاعر حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه :

( سقط : بيت الشعر ) ( ببيضة قارور وراية شادن ** وخلة جني وتوصيل طائر ) ألا تراه ذكر خُلّة الجني .

ظهور الشق للمسافرين

ويقولون : ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان واسمه شٍ قّ وإنّه كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه فرَّبما أهلَكه فزعاً وربما أهلَكه ضرباً وقتلاً .
قالوا : فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن محرِّث الكناني جدّ مروان بن الحكم خرج في الجاهلية وهو يريد مالاً له بمكة وهو على حمار وعليه إزارٌ ورداء ومعه مِقْرعة في ليلةٍ إضْحِيانة حتى انتهى إلى موضعٍ يقال له حائط حزمان فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل وعينٌ ومعه سيف وهو يقول : ( عَلْقمُ إني مقتولْ ** وإن لحمي مأكولْ )

( أضْربُهُمْ بالهذْلولْ ** ضربَ غلامٍ شُملولْ ) رحبِ الذَّراع بُهلولْ فقال علقمة : ( يا شِقَّها مالي ولك ** اغمِدَ عنِّي مُنْصُلك ) فقال شِقّ : ( عَبيت لك عَبيتُ لك ** كيما أُتِيحَ مَقْتلك ) فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ قال : فضرب كلُّ واحدٍ منهما صاحبه فخرَّا ميِّتين فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا وحَرْب بن أميّة .
قالوا : وقالت الجنّ : ( وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر ** وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ )


قالوا : ومن الدَّليل على ذلك وعلى أنَّ هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة لا يَتتَعْتع فيها وهو يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ . ( ذكر من قتلته الجنّ أو استهوته ) قال : وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر أبا عبّاس بن مرداسٍ وقتلت الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا نهَوه عنه وقتلت الجنُّ سعد بن عُبادة بن دُلَيم وسمعوا الهاتف يقول :

( سقط : بيت الشعر ) ( قد قتلنا سيد الخز ** ج سعد بن عباده ) ( رَمَيْناه بِسَهمين ** فَلَمْ نُخْطِ فُؤادَهُ ) واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا هذا .
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك الذي يقال فيه : شَبّ عَمْرٌ و عن الطّوق ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش بعد سنين وسنين .


واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش .
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين وأنّه تحدَّث يوماً بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه : هذا من حديث خُرافة قال : لا وخُرافةُ حقٌّ .

طعام الجن

ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن : ما كان طعامهم قال : الفول قال : فما كان شرابهم قال : الجدف .


ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه .
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح أنه قال : خَمِّروا آنيتكم وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفُفُوا صِبيانكم فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة

رؤوس الشياطين

وقد قال الناس في قوله تعالى : إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن لها منظر كرِيه .
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير وقالوا : ما عنى إلاّ رؤُوس

الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فَسَقة الجن ومَرَدتهم فقال أهل الطَّعن والخلاف : كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق أو خبر صادق ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة والتفزيع منها وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه فكيف يكون الشَّأن كذلك والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ قد عاينوه أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان بليغٌ في الوصف ونحن لم نعاينها ولا صوَّرها لنا صادق وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك ولا يقفون عليه ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً .
قلنا : وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا

صادقٌ بيده ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين : أحدهما أن يقولوا : لهو أقبح من الشيطان والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً على جهة التطيُّر له كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء والمرأة الجميلة صَمّاء وقرناء وخَنْساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطيُّر له ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح .
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت .
وكما يقولون : لهو أقبحُ من السحر فكذلك يقولون كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من )
أحسنَ الكلام في طلب حاجته هذا واللّه السِّحر الحلال .
وكذلك أيضاً ربّما قالوا : ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك .


صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ .
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد أنّ أعرابيّاً أنشده : ( وحافر العَير في ساقٍ خَدَلَّجةٍ ** وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ ) وذكروا أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن الأعراب .
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق فما القول في ذلك إلاّ كالقول في الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار وكذلك في صور مُنكر ونكير تكون للمؤمن على مثال وللكافر على مثال .


ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم فالحجّة على جميع هؤلاء في جميع هذه الأبواب من جهةٍ واحدة وهذا الجوابُ قريبٌ والحمد للّه .
وشقُّ فم العنكبوت بالطول وله ثماني أرجل .

سكنى الجن أرض وبار

ِ ) وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ كما أهلك طسْماً وجَدِيساً وأميماً وجاسماً وعملاقاً وثموداً وعاداً أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها وأنّها أخصبُ بلاد اللّه وأكثرها شجراً وأطيبُها ثمراً وأكثرها حبّاً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد متعمِّداً أو غالطاً حَثوا في وجهه التراب فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه وربّما قَتلوه .


والموضع نفسه باطل فإذا قيل لهم : دُلُّونا على جهته ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه وقال الشاعر : ( وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ سُدوله ** رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ ) ( دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقيله ** من اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَارِ ) فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر على معنى هذا الشاعر .
قالوا : فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ والإبلُ الحُوشيَّة .
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ فيها فحولُ إبل الجن فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن

جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ وقال ابن هريم : ( كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعامةٍ ** لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ ) وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى . ( التحصُّن من الجنّ ) وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض وتوسَّطوا بلاد الحُوش خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته : إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ وتصير لهم بذلك خفارة .

أثر عشق الجن في الصرع

وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى وشهوة النِّكاح

وأن الشيطان يعشق المرأة منّا وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من حُمّى أيام وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان .
قال : وسمع عمرو بن عُبيد رضي اللّه عنه ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان واستهواء الجنّ للإنس فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا وما يصيبهم يوم القيامة حيث قال : الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا فقيل له : ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب قال : ولعله قد كثر فازداد أضعافاً قال : وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى : كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ .
زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال : والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من الشيطان ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني :

( لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ** رِماحَ بني مُقيِّدة الحمارِ ) ( ولكني خَشيت على أُبيٍّ ** رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ ) يقول : لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته أن يقتله الأنذال ومن يرتبط العير دونَ الفَرس ولكني إنما كنت أخافك عليه فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام .
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس : وقال زيد بن جُندب الإياديّ : ( ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ** رِماح الأعادي من فصيح وأعجم )


ذهب إلى قول أبي دؤاد : ( سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم ** فلهم في صَدى المقابر هامُ ) يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً .
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال : هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون عَمَواس فقال : إنّ هذا الطاعون قد ظهر وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب .
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ فأنكر ذلك القول عليه . ( تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس ) وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا إلاّ الغول فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها إلاّ رجليها فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار .


وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم ولوطاً وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي وقاسوه على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر الأعمال الصالحة والطالحة .
قالوا : وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال ومنهم من هو في صورة الثِّيران ومنهم من هو في صورة النسور ويدلُّ

على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت حين أُنشِد : ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينه ** والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ ) قالوا : فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة .
قالو : وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً حتى سماه المسلمون الطّيّار ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة وله مثلُ عقل أخيه علي رضي اللّه عنهما ومثل عقل عمه حمزة )

أحاديث في إثبات الشيطان

قالوا : وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل لأنّها خلقت من أعنان الشياطين .
وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها فإنّها بين قرني شيطان .
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان .
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن : والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ .
ولشهرة ذلك في العرب في بقايا ما ثبتوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام قال النابغة الذبياني : ( إلا سُلَيمانَ إذْ قال الإلهُ لَهُ ** قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد ) ( وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ لَهُمْ ** يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعمدِ ) ( فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُعاقبةً ** تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ ) وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب وفي ذي النُّكْتتين

وفي الحية ذات الطُّفْيتين وفي الجانّ .
وجاء : لا تشربوا من ثُلمة الإناء فإنَّه كِفْل الشَّيطان وفي العاقد شَعره في الصلاة : إنَّه كِفْل الشيطان وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تراصُّوا بينكم في الصلاة لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات حذف وأنَّه نهى عن ذبائح الجن .
ورووا : أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ ابني هذا به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال : فمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدْرَه فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى .
قالوا : وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ في دم كان بينهم بحكمٍ أقنعهم .


رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهّراني : أما قوله : ( وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً ** بغزال وصَدْقتي زِقُّ خمرِ ) فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر فالخمر لطيب الرائحة والغزالُ لتجعله مَرْكباً فإنّ الظَّباء من مراكب الجن . )
وأما قوله : ( ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ لم أجِدْ غير بِكرِ )

شياطين الشعراء

وأما قوله : ( بنت عَمْرٍ و وخالها مِسحل الخي ** ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو ) فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب

المخبَّل وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى وذكر أن خاله هُمَيم وهو همّام وهمّام هو الفرزدق وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال : يا هميم .
وأما قوله : صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو وقد ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال : ( دَعَوْتُ خليلي مِسْحلاً ودعَوا له ** جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّمِ ) وذكره الأعشى فقال : ( حباني أخي الجنِّيُّ نفسي فداؤُه ** بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجمِ ) وقال أعشى سُليم :

( سقط : بيت الشعر ) ( وما كان جني الفرزدق قدوة ** وما كان فيهم مثل فحلي المخبل ) ( وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ ** ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحلِ ) وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد اللّه : ( ليُبلغَنّ أبا الأشبال مِدْحتنا ** مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا ) ( كأنّها الذَّهب العقْيانُ حبّرها ** لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شيطانا ) وقال : ( فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني ** بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخابلُه ) فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول الآخر : ( إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى ** خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ ) زعموا أنّ الخابل النّاس .


ولما قال بشّار الأعمى : ) ( دعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْفِ بكرةٍ ** فقلتُ : اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ ) يقول : أحمدُ في الشعر أن لا يكون لي عليه معين فقال أعشى سُليم يردُّ عليه : ( إذا ألِفَ الجنّيُّ قِرداً مُشَنّفاً ** فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري ) فجزِع بشّارٌ من ذلك جزعاً شديداً لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ وكان أوّل ما ( ويا أقبحَ مِن قِرْدٍ ** إذا ما عَمِيَ القِرْدُ ) وأما قوله : ( ولها خِطَّةٌ بأرض وبار ** مسَحُوها فكان لي نصْفُ شطرِ ) فإنما ادّعى الرُّبع من ميراثها لأنه قال :

( تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتامى ** وأخوه مزاحم كان بكر ) ( وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً ** من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ ) وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه قول أبي النجم : ( إني وكلّ شاعر من البَشرْ ** شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر ) وقال آخر : ( إني وإن كنتُ صغير السِّنّ ** وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي ) فإنّ شيطاني كبير الجنِّ

كلاب الجن

وأما قول عمرو بن كلثوم : فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء .

أرض الجن

وأما قوله : ( أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ ** وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْر )

فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ وقد فسَّرنا تأويل الحوش والعَكَنَان : الكثير الذي لايكون فوقه عدد قوله : عروج جمع عَرْج والعَرْج : ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً والمؤبّل من الإبل يقال إبل مؤبَّلة ودراهم مُدَرهمة وبدَر مبدَّرة مثل قوله تعالى : وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة وأما قوله : دثر فإنهم يقولون : مال دَثر ومالٌ دَبْر ومال حَوْم : إذا كان كثيراً .

استراق السمع

وأما قوله : ( ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر ** يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ ) فالعِفْر هو العفريت وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر من شدَّة معاندته وفرط قوته .
وأما قوله : ( في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ ** ونِساء من الزَّوابعِ زُهْرِ )

الزوابع : بنو زَوْبعة الجنِّيّ وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير وَقال راجزهم : ( إنّ الشياطين أَتوْني أربعهْ ** في غَبَش الليل وفيهم زَوبعه ) فأما شِنِقناق وشَيْصَبان فقد ذكرهما أبو النجم : لابن شنقْناق وشَيْصَبَانِ فهذان رئيسان ومن آباء القبائل وقد قال شاعرهم : ( إذا ما ترَعْرَعَ فينا الغلامُ ** فليس يقال له من هُوَهْ ) ( إذا لم يَسُدْ قبل شدِّ الإزار ** فذلك فينا الذي لا هُوَهْ ) ( ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبا ** ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ )
وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في الدَّليل على أنهم يقولون : إن مع كلِّ شاعر شيطاناً ومن ذلك قولُ بشَّار الأعمى : ( دَعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ ** فقلت : اترُكَنِّي فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ ) قال : وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم والسِّحر والشَّعبذة

يزعمون أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة الشام والهند وأنَّ عظيم شياطين الهند يقال له : تنكوير وعظيم شياطين الشام يقال له : دركاذاب .
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير حين ادّعى هذه الصناعة فقال : ( قد لعمْرى جمعت مِلْ آصفيّا ** تِ ومن سفْر آدم والجرابِ ) ( وتفردتَ بالطوالق والهي ** كل والرهنباتِ من كلِّ بابِ )

( وعلمتَ الأسماء كيما تُلاقى ** زُحلاً والمريخَ فوق السحابِ ) ( واستثرتَ الأرواح بالبحْر يأت ** ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ ) ( جامعاً من لطائف الدنهشيَّا ** تِ كبوسا نمقتها في كتابِ ) ( ثمَّ أحكمت متقن الكرويا ** ت وفعل الناريس والنجابِ ) ( ثمَّ لم تعْيك الشعابيذ والخد ** مةُ والاحتفاء بالطلابِ ) ( بالخواتيم والمناديل والسع ** يِ بتنكوير ودركاذابِ ) قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله : فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ وقال شاعرهم :

( فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ ** فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ ) وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ : ( لهَانَ علَى جهينةً ما أُلاقي ** من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ ) ( لقيتُ الغول تسرِى في ظلامٍ ** بسهبٍ كالعباية صحصحانِ ) ( فقلتُ لها كلانا نقض أرضٍ ** أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى ) ( فصدتْ وانتحيتُ لها بعضبٍ ** حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمانى ) ( فقدّ سَراتها والبرك منها ** فخرتْ لليدين وللجران ) ( فقالت زدْ فقلتُ رويدَ إنِّى ** على أمثالها ثبتُ الجنانِ ) ( شددتُ عقالها وحططت عنها ** لأنظرَ غدوةً ماذا دهانى ) ( إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ** كوجْه الهرِّ مشقوق اللسانِ ) ( ورجلا مخدجٍ ولسانُ كلبٍ ** وجلدٌ من فراءِ أو سنانِ )

وأبو البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذِب وهو يَعلَم ويُطيل ( فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي ** على أمثالها ثَبْتُ الجَنانِ ) لأنّهم هكذا يقولون يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ وتعيشُ من ألْف ضرْبة . ( مناكحة الجنِّ ومحالفتهم ) وأمّا قوله : ( غلبتني على النَّجابة عرسي ** بعد أنْ طالَ في النجابة ذكري ) ( وأرى فِيهِمُ شمائِل إنسٍ ** غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ عِفرِ ) فإنَّه يقول : لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر .
وقال عبيد بن أيُّوب : ( أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ وانتفى ** مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ )

( له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَجْلُه ** وللجِنِّ منه خَلْقه وشمائلُه ) وقال : ( وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ ** صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ البسابسُ ) ( يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهارَه ** ولكنّه ينْباعُ واللّيْلُ دامِس ) قال : وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة في ابنه عوف بن القعقاع : واللّه لما أرى من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل الإنس .
وقال مَسلمة بن محارب : حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال : خرجنا في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ فانتهينا إلى واد فدعَوْنا بالغَدَاء فمدّ رجلٌ يدَه إلى الطعام فلم يقدر عليه وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل فاشتدّ اغتمامنا لذلك فخرجنا نسأل عن حاله فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال : ما لكم )
فأخبرناه خبَر الرَّجُل فقال : ما اسم صاحبكم قلنا : أسد

قال : هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل .

مراكب الجن

وأمَّا قوله : ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** مُلجِماً قُنفُذاً ومُسْرجَ وَبْر ) ( وأجوبُ البلادَ تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سنُّه كثيرُ التمرِّي ) ( مُولجٌ دُبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ** وهو باللّيل في العفاريت يَسري ) وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب : ( كلَّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ** ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعالبِ ) ( وَمِنْ عنظوان صعبةٍ شمّرية ** تَخُبُّ برجْليها أمام الرَّكائبِ )

( ومنْ جُرَذٍ سُرْح اليدين مفرَّج ** يعوم برَحْلي بين أيدِي المراكب ) ( ومنْ فارةٍ تزداد عِتْقاً وحدّةً ** تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّجَائبِ ) ( ومنْ كلِّ فتْلاء الذِّراعَينِ حُرَّة ** مدَرَّبة من عافيات الأرانبِ ) ( ومنْ وَرَل يغتالُ فضْلَ زِمامِهِ ** أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ ) قال ابنُ الأعرابي : فقلت له : أترى الجن كانت تركبُها فقال : أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها والسِّمة في الآذان وأنشد :

( كلّ المطايا قد ركبنا فلم نجدْ ** ألذَّ وأشْهَى من رُكوب الجَنادِبِ ) ( ومنْ عَضْرفوط حطَّ بي فأقمتهُ ** يبادِرُ وِرداً من عظاءٍ قواربِ ) ( وشرُّ مطايا الجنِّ أرْنبُ خُلّةٍ ** وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ ) ( ولم أر فيها مِثْلَ قُنفُذ بُرْقةٍ ** يَقُودَ قطاراً منْ عظام العناكبِ ) وقد فسَّرنا قولهم في الأرانب لم لا تركب وفي أرنب الخَلّة وقنفذ البُرْقة .
وحدثني أبو نُواس قال : بكرتُ إلى المِربَد ومعي ألواحي أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً فإذا في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه وجهاً ولا بإنسان أحسنَ منه عقلاً وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً فقلتُ له : هلاَّ قعدت في الشمس فقال : الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له

مازحاً : أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم الجنّيّ يحمل القنفذ قال : )
هذا من أكاذيب الأعراب وقد قلت في ذلك شعراً قلت فأنشِدْنيه فأنشَدَني بعد أن كان قال لي : قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً ويربوعاً يلتمسان بعض الرِّزق : ( فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهم ** وفي الأُسْد أفراسٌ لهم ونجائبُ ) ( أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُنفذاً ** لقَدْ أعوزَتهُمْ ما علمْتَ المراكِبُ ) ( فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى ** ولا ذَنْبَ للأقدار واللّه غالبُ ) ( وما الناس إلا خادعٌ ومخدَّعٌ ** وصاحبُ إسْهَابٍ وآخر كاذب ) قال : فقلت له : قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع بيت آخر قال : كانت واللّه أربعين بيتاً ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها قال : فقلت : فَهلْ قلت في هذا الباب غير هذا قال :

نعم شيءٌ ُ قلتُهُ لزوجتي وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها : ( أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنفذٍ ** لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ )

شعر فيه ذكر الغول

ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي : ( فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَها ** على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا ) ( لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعامةٍ ** ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا ) ( وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّعتْ ** جوانبُه أعكانَه وتَكَسَّرا )

( وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما ** إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا ) قال : كان أبو شيطان واسمه إسحاق بن رَزِين أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم : أي يكون عليهم نقيباً . فجعل يقول : ( يا ذا الذي نَكَبَنَا ونَقَبَا ** زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبا ) ( جمّع فيها ماله ولبْلَبا ** لبالب التّيس إذا تَهَبْهبَا ) ( حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا ** عاينَ أشنا خَلقِ ربّيزرْنبَا ) ذات نواتين وسَلعٍ أُسْقِبَا

يعني فرجها ونواتها . يقول . لم تختن .

جنون الجن وصرعهم

وأما قوله : فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى فإنهم قد يقولون في مثل هذا وقد قال دَعْلجُ بن الحكم : ( وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ ** وشيطانه عِندَ الأهلَّة يُصْرَعُ ) شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ : ( جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ ** طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ ) وأنشدني يومئذ : ( أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُعابُهُ ** وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ ) وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة :

( فلما أتاني ما تقُولُ محاربٌ ** تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنونُها ) ( وحاكتْ لها ممّا أقول قصائداً ** ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها ) ( إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس ** ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونا ) وقال الآخر : ( قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها ** إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ) وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول : ( فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت ** فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ )

وما أحسن ما قال الآخر : ( حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّها ** جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ ) ( جادَتْ بها عند الغداةِ يمين ** كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ ) ( ما إن يجودُ بمثلها في مثلها ** إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنونُ ) وقال الجميح : ( لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُعاقبةً ** إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعونُ ) ( أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ به ** بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ )


وأنشد : ( هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ ** يؤلّفُ بَيْنَ أشتاتِ المنُون ) وأنشدني جعفر بن سعيد : ( إنَّ الجنونَ سِهامٌ بين أربعةٍ ** الرِّيحُ والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ ) وأنشدني أيضاً : ( احْذَر مغايظَ أقوامٍ ذوي حَسَبٍ ** إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ ) وأنشدني أبو تمام الطائي : ( منْ كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه ** كأَنّه من حِذار الضَّيمِ مجنونُ ) وقال القطاميّ : ( يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين تَحْسَبُها ** مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى الإبلُ )

وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ : ( أنا العُوافيُّ فمنْ عاداني ** أذقتُه بوادِرَ الهوان ) حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ وقال مروانُ بن محمد :

( وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ ** أسعطْتُه بمرارة الشيطانِ ) وقال ابن مُقبِل : وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير ولكن هذا مثل قولهم : دبَّت إليهم دويهيَة الدهر .
أحاديث الفلاة وَقال أبو إسحاق : وأما قول ذي الرُّمَّة : ( إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في مُدْلهِمَّة ** أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر ) قال أبو إسحاق : يكون في النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ عظيماً ويُوجَد الصَّوت الخافضُ رفيعاً ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع انبساط الشّمس غدوة من المكان البعيد ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال والحرار في أنصاف النّهار مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان عند ما يعرض له ولذلك قال ذو الرُّمَّة : ( إذا قال حادينا لتَشْبيهِ نَبأةٍ ** صَهٍ لم يكنْ إلا دويُّ المسامع )
قالوا : وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية وبه سمِّي الدوّ دَوّاً .

تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان

وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان

وتغوُّل الغيلان : أصلُ هذا الأمر وابتداؤه أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملتْ فيهم الوَحْشة ومن انفردَ وطال مُقامُه في والوَحدةُ لاتقطع أيامهم إلا بالمُنى أو بالتفكير والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة وقد ابتلى بذلك غيرُ حاسب كأبي يس ومُثَنًّّى ولد القُنافر .
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة فأنكر أهله عقله حتّى حَمَوه وداووه .


وقد عرض ذلك لكثير من الهند .
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير وارتاب وتفرَّق ذهُنه وانتقضت أخلاطُه فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيمٌ جليل .
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ ورُبّي به الطِّفل فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى وقد رأى كلَّ باطل وتوهَّم كلَّ زُور وربما كان في أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل فيقولُ في ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة فعند ذلك يقول : رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة

ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول : رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول : تزوَّجتها . ( فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحبِ قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ ) وقال : ( أهذا خَليلُ الغولِ والذئبِ والذي ** يهيمُ بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِلِ ) وقال : ( أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ وانتَفَى ** من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت وسائله ) ( له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ نجله ** وللجنِّ منهُ خَلْقُه وشمائله ) وممّا زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومدَّ لهم فيه أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه )
الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم وإلا عَامِّيّاً لم يأخُذْ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق أو الشّكّ ولم يسلُك سبيلَ التوقف والتثبّت في هذه الأجناس قطّ وإمَّا أن يَلقَوْا رَاوِيَة شعر

أو صاحب خبَر فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده وصارت روايتُه أغلبَ ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي فإنّه الذي يقول : ( أيرسِلُ مَرْوانُ الأميرُ رسالة ** لآتيه إني إذاً لَمَصلَّلُ ) ( سقط : بيت الشعر ) ( وما بي عصيان ولا بعد منزل ** ولكنني من خوف مروان أوجل )

( وفي باحة العَنْقاء أو في عَمايةٍ ** أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ ) ( ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً ** هو الجَون إلاّ أنه لا يعلّل ) ( إذا ما التقَينا كان جُلّ حديثنا ** صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَلُ ) ( تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطعامِنا ** كِلانا له منها نَصيبُ ومأكلُ ) ( فأغلِبُه في صَنْعة الزّادِ إنّني ** أُميطُ الأذى عنه ولا يتأمَّلُ )

( وكانتْ لنا قَلتٌ بأرض مَضَلَّةٍ ** شريعتُنا لأيّنا جاءَ أوَّلُ ) ( كلانا عدُوٌّ لو يرى في عدُوِّه ** مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْمِلُ ) وأنشد الأصمعيّ : ( ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى ** يُسائرُني من نُطفةٍ وأسائرُهْ ) ذكر سبعاً ورجُلاً قد ترافقا فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ فضْلاً من سُؤره ليشرَبَ صاحبه الثَّأى : الفساد وخبّر أنّ كلّ واحد منهما يحترس من صاحبه .
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية وفي القتيلِ صاحب القَبْر وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً وقد أثبتناهُ في باب الحيات فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع فأما جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق وإنما المثل في هذا مثل

( قد كان شيطانك منْ خطّابها ** وكان شيطاني منْ طُلاَّبِها ) حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها الاشتباه في الأصوات والإنسان يجوع فيسمع في أذنه مثل الدويّ وقال الشاعر : ) ( دويُّ الفَيَافي رَابه فكأنّه ** أَميمٌ وسارِي اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ ) مُعْوِر : أي مُصْحِر .
وربما قال الغلام لمولاه : أدعوتني فيقول له : لا وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ لا أنَّه سمعَ صوتاً .
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً أو قول قائل فيه في كلمة له :

( يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسي بقَفرَةٍ ** جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ ) ( ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي ** بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدارِكِ ) ( إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ ** له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتكِ ) ( ويجعلُ عينيه رَبيئةَ قلبهِ ** إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر باتكِ ) ( إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّلتْ ** نواجذُ أفواهِ المنايا الضّواحكِ ) نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق من نزولهم في بلاد الوحْش

وبينَ الحشَراتِ والسِّباع ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع أو دابّة من دوابّ الأرض فقال : ( تعاوَرَني دَينٌ وذُلٌّ وغُربةٌ ** ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلبُ ) ( وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ ** ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتقلبُ ) ( رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْثَان ظُلْمةٍ ** وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ ) ( ونمل كأشخاصِ الخنافس قُطَّبٌ ** وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَرَّبُ ) ( وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَبٌّ وعِربِدٌ ** وذرٌ ّ ودَحّاس وفَارٌ وعقربُ ) ( وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِمْعٌ ودَوْبَلٌ ** وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثعلبُ )

( ونمر وفَهْدٌ ثم ضبعٌ وجَيألٌ ** وليثٌ يجُوس الألف لا يتهيّبُ ) ( ولم أرَ آوى حيث أسمعُ ذِكرَه ** ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتنسَّبُ ) فأما الرُّتَيلا والطَّبُّوع والشَّبَث والحُرقوص والضّمجُ والعنكبوت والخنفُساء والجُعَل والعُثّ والحُفَّاث والدّحّاس والظّرِبان والذِّئب والثَّعلب والنمر والفَهْد والضّبع والأسد فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر هذه الأبواب وقبل ذلك عند ذِكر الحشرات فأما الضّبُّ والورَل )
والعقرب والجُعل والخنفساء والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في أوّل الكتاب وأما قوله : وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات كما قال جَرير :

مَزَاحف هزْلَى بينها متباعدُ وكما قال الآخر : ( كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلى عليها ** خدودُ رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا ) وأما قوله : ولم أر آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه فإنّ ابنَ آوى لا ينزِلُ القفار وإنّما يكونُ حيث يكونُ الريف .
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض نجد .
وأمَّا قوله : ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ فإنّ الدبَّ عندهم عجميٌّ والعجميُّ لا يقيم نسبَه .
وروَوْا في المُلَح أنّ فتًى قال لجارية له أو لصديقةٍ له : ليس في الأرض أحسنُ منِّي : ولا أملحُ منِّي فصار عندها كذلك فبينا هو عِندها على

هذه الصّفة إذ قرع عليها الباب إنسانٌ يريدهُ فاطَّلعت عليه من خرق الباب فرأت فتًى أحسنَ النّاس وأملحَهم وأنَبلهم وأتمّهم فلمَّا عاد صاحبُها إلى المنزل قالت له : أَوَ ما أخبرَتني أنَّك أملحُ الخلْقِ وأحسنُهم قال : بلى وكذلك أنا فقالت : فقد أرادك اليومَ فلانٌ ورأَيتُه من خَرق البابِ فرأيتُه أحسنَ منك وأملَح قال : لَعْمري إنَّه لَحَسنٌ مَليح ولكنَّ له جنِّى ّة تصرعه في كلِّ شهرٍ مرَّتين وهو يريدُ بذلك أن يسقطه من عينها قالت : أوَ ما تصرعه في الشّهر إلاّ مرتين أمَا واللّه لو أنِّي جنّيَّة لصرعْته في اليوم ألفين .
وهذا يدلُ على أنّ صرْع الشّيطان للإنسان ليس هو عند العوامِّ إلاّ على جهة ما يعرفون من الجِماع .
ومن هذا الضَّرب من الحديث ما حدَّثنا به المازنيُّ قال : ابتاع فتًى صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة فلمّا وقع عليها قال لها مراراً ويلَكِ ما أوسَعَ حِرَك فلمّا أكثَرَ عليها قالت : أنت الفداءُ لمن كان يملَؤُه .
فقد سمع هذا كما ترى من المكروه مثلَ ما سِمع الأوّل . )
وزعموا أنّ رجلاً نظر إلى امرأَةٍ حسْناء ظريفةٍ فالحّ عليها فقالت : ما تنظر قُرَّة عينك

وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم فراوغَتْه فلم ينقطع عنها فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت : يا هؤلاء لي طريقٌ ولهذا طريق ومولاي ينيكني فسَلوا هذا ما يريدُ مني وزَعَمَ أيضاً أن سياراً البرقيّ قال : مرّت بنا جاريةٌ فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر فقال بعضنا : ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيكها قالت : كما يكون .
فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت ولا أقصَر من كلمتها هذه .
وقد قال جحشويهِ في شعر شبيهاً بهذا القول حيث يقول : ( تواعدُني لتنكِحني ثلاثاً ** ولكن يا مَشُوم بأيِّ أيْرِ ) فلو خُطِبَتْ في صفة أيرٍ خُطبةٌ أطولُ من خطبة قيس بن خارجة بن سنان في شأن الحمالة لما بلغ مبلغَ قول جحشويه : ولكن يا مَشُوم بأيِّ أير وقول الخادم : كما يكون .


وزعموا أن فتًى جلس إلى أعرابيّة وعلمت أنّه إنما جلس لينظر إلى محاسن ابنتها فضربت بيدها على جنبها ثم قالت : ( عَلَنْداة يئطُّ الأيرُ فيها ** أطِيطَ الغَرْزِ في الرَّحْلِ الجديدِ ) ثم أقبلت على الفتى فقالت : ودخل قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس فرأى عنده جارية كأنها جانّ وكأنها خُوط بانٍ وكأنّها جَدْل عِنان وكأنه الياسمين نعْمةً وبياضاً فقال لها : أشتريك يا جارية فقالت : افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك ودخلت الجارية منزل النخّاس فاشتراها وهي لا تعلم ومضى إلى المنزل ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه فلم تشعر الجارية إلا وهي معه في جَوف بيت فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ فيه قالت له : ويلكَ إنك واللّه لن تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت فإن كنت تجسُرُ على نَيك من قد أدرجوه في الأكفان فدونَك واللّهِِ إن زلتُ منذ رأيتك ودخلتُ إلى الجواري أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ امرأتك بك فأقبل عليها يكلِّمها بكلام المتكلمين فلم تقبل منه فقال : فلم

قلتِ لي : افتَحْ كيسَك تسرَّ نفسك وقد فتحت كيسي فدَعيني أَسُرُّ نفْسي وهو يكلِّمها وعينُ الجارية إلى الباب ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس فلم يشعر قاسمٌ حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال ولم يشعر الخوارزمي إلاّ والجارية بين يدَيه مغشيٌّ عليها فكرَّ قاسمٌ إليه )
راجعاً وقال : ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها فطلبوا إليه فصفَح عنها واشتراها في ذلك المجلس غلامٌ أملحُ منها فقامت إليه فقبَّلت فاه وقاسمٌ ينظرُ والقومُ يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها .
وأما عيسى بن مروان كاتب أبي مروان عبد الملك بن أبي حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل حتَّى شرب لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع ثيابه وتغنَّى أصواتاً وحفظ أحاديثَ من أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها النساء وتفهمُ معانِيها وكان أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفاً حتَّى كان أقبحَ من الأخنَس ومن الأفطس والأَجدع فإمّا أن يكون صادقَ ظريفةً وإما أنْ يكونَ تزوَّجها فلما خَلاَ معها

في بيتٍ وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة امتنعت فوهب لها ومنَّاها وأظهر تعشقها وأرَاغَها بكلِّ حيلة فلما لم تُجِب قال لها : خبِّريني ما الذي يمنعُك قالت : قبح أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ قال لها : جعِلْت فِداك الذي بأنفي ليسَ هو خِلقةً وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في سبيل اللّه تعالى فقالت واستغربَتْ ضحِكاً : أنا ما أبالي في سبيل اللّه كانَتْ أو في سبيل الشَّيطان إنَّما بيَ قبحُه فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه أمَّا أنَا فلا . ( باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ ) ليس هذا حفظك اللّه تعالى من الباب الذي كُنَّا فيه ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً وسنقول في باب من ذكر الجنّ لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع وهو جِدٌّ كلُّه .
والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة لأن هذا الباب هكذا يقع .
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن فإذْ

قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان ولكنا نقول بجملةٍ كافية واللّه تعالى المعين على ذلك .
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن قال قوم : قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً وأقلُّ آفَةً وأحدُّ أذهاناً وأقلُّ فضُولاً وأخفُّ أبداناً وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ دقيقةٌ ولا جليلة ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة خفيّةً كانت أو ظاهرة إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها والمزيِّنُ لها والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات .
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه أويكونُ متى رام

ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ .
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار وليس له خواطئ فإمَّا أن يكون يصيبه وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني ولا الثّاني ينهي الثّالث ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم وهو ظاهر مكشوف .
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ

كما يُنجِز ما وعد وقد قال اللّه عزّ وجل : وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ وقال تعالى : وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ وقال تعالى : إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ وقال تعالى : هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون مع قولِ الجنّ : أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً وقولهم : أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد )
للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً .
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب والإحراقَ بالنار وقوله تعالى : إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ وقوله تعالى : وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ

دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ في آيٍ غيرِ هذا كثير فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر وفي إخبار بعضِهم لبعض ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى قيل لهم : فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول وفي هذه الأبواب كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار والحمّارين والمُكارينَ من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه وقد كان طريقاً مسلوكاً وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم .


ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب وجبالٌ لا تُرام ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة .
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا حين ذكرنا الصَّرفة وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق مع غير ذلك ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب .
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة ما دام لا يقول بالتّوحيد )
وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل وأن الأمر والنَّهي والثوابَ

والعقاب على غير ما نقول وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى : واللّه يَعصِمُك من النّاسِ لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب .
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير ونحن نقول : لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى : وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان لم يطمع فيه ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق .


فنقول في إبليس : إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول . وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ واللّه تعالى المعين والموفِّق .
وأما قولهم : منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه ولا يأخذه إلا قمحاً فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه أو فقئت إحدى عينَيه .


ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان وماردٍ وعفريتٍ وأشباه ذلك ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه .
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا قالوا في قوله تعالى : وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ ) فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً فقالوا : قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك .
قلنا : ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ وتكبيرٌ وتلاوة فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم .
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ : سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم .
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة قالوا : زعمتم أن

اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم فكيف يكون ذلك رَجْماً وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً وذلك موجودٌ في الأشعار وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك : ( فجأجأها من أول الرِّيِّ غُدوة ** وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَرْتعُ ) ( بأكْلبةٍ زُرْقٍ ضوارٍ كأنّها ** خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ ) ( فجال على نَفْر تعرُّضَ كوكبٍ ** وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ ) فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته وحُسْنه وبريق جلده ولذلك قال الطّرِمّاح : ( يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كأنّهُ ** سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ ) وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم : ( والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُها ** ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ )

قالوا : وقال الضّبّي : ( يَنَالها مهتك أشْجارها ** بذي غُروب فيه تحريبُ ) ( كأنّه حيِنَ نَحَا كوكبٌ ** أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ ) وقال أوس بن حَجَر : ( فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ ** نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَا ) ( يَخفى وأحياناً يلوح كما ** رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا ) ورووا قوله : ( فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر ** لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ ) وقال عَوْف بن الخرِع :

( يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه ** أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ ) وقال الأفوه الأودي : ( كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ به ** فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ ) وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت : ( يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة ** وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ ) قلنا لهؤلاء القوم : إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار

والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار وقال : شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام .
والأعلام ضروب فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر والتأسيس له وكالتعبيد والترشيح فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده أو قُبيلَ مولِده أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها وعند ذلك يقول الناس : إنّ هذا لأَمرٍ وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع أو سيكون لهذا نبأ كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة وحين خروج

الماء من تحت رُكْبة جملة وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره والمتوقَّع أبداً معظّم .
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك فإنّ عددهم كثير وشعرهم معروف . )
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم .
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً ولا حجراً مطروحاً ولا خنفساء ولا جُعلاً ولا دودة ولا حيةً إلا قال فيها فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم .
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال : هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم وبي نُصروا .


ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون من صِفَتها كذا ومن شأنها كذا وتُنصرون على العجَم وبي تنصرون .
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا .
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها فأما قوله : ( فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ ** لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ ) فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام هو الذي كان ولَّدها فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ وهات القصيدة فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ من قصيدةٍ صحيحة لشاعر معروف وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت .


وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ : ( اسقِني يا أُسامَهْ ** مِنْ رحيق مُدامَهْ ) ( اسْقنيها فإنِّي ** كافرٌ بالقيامَهْ ) وهذا الشعر هو الذي قتله وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر : ( فانقضَّ كالدريء يتبعه ** نَقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا ) وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر وشُريح ابن أوس وقد ) ( والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشها ** ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ ) فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب وقالوا : في شعر بشر مصنوعٌ كثير مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها :

( فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي ** إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبا ) وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي فإنَّ الضّبيَّ مخضرم .
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس حين ذكر القول في الشُّهب مع القول في الكواكب ذوات الذوائب ومع القول في القَوس والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ وإليه تفزعون فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم ومن فساد الكِتاب من جهة تأويل الكلام ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة ومن جهة فَسادِ النَّسخ ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد وهذا الكلام معروفٌ صحيح .
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم وهو جاهليٌّ

ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ : وأما قوله : ( جائباً للبحار أُهدي لِعِرْسي ** فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْر ) ( وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ صدف البَحْ ** ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ ) فإن الناس يقولون : إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب وهُريرة : اسم امرأته الجنِّيّة .
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند فقال : ( وأجوبُ البلاد تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ التَّمرِّي ) ( مُولج دَبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ** وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري ) يقول : هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره من بين جميع الوَحْش لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه

هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً وأما قوله : ( يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ** ذاكرٌ عُشَّهُ بضَفّةِ نَهْرِ ) فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء . ( قولهم : أروى من ضبّ ) وأما قولهم في المثل : أروى من ضبّ فإني لا أعرفه لأنَّ كلَّ شيء بالدوّ والدَّهْناء والصَّمَّان وأوساط هذه المهامه والصحاصح فإن جميع ما يسكنُها من الحشرات والسِّباع لا يرِدُ الماء ولا يريدُه لأنه ليس في أوساط هذه الفيافي في الصَّيف كله وفي القَيظ جميعاً مَنْقَع ماء ولا غدير ولا شريعة ولا وَشَلَ فإذا استقام أن يمرّ بظبائها وأرانبها وثعالبها وغير ذلك منها الصَّيفة كلَّها والقيظ كله ولم تذق فيها قطرة

ماء فهي له في الشتاء أتْرك لأنَّ من اقتاتَ اليبَس إذا لم يشرب الماء فهو إذا اقتات الرَّطب أترك .
وليس العجب في هذا ولكنّ العجب في إبلٍ لا ترِد الماء .
وزعم الأصمعيُّ أنَّ لبني عقيل ماعِزاً لم يرد الماءَ قطّ فينبغي على ذاكَ أنْ يكون واديهم لا يزالُ يكونُ فيه من البقْل والورق ما يُعيشُها بتلك الرُّطوبة التي فيها .
ولو كانت ثعالبُ الدّهْناء وظباؤُها وأرانبُها ووحْشُها تحتاج إلى الماء لطَلبتْه أشدّ الطلب فإن الحيوان كلَّه يهتدي إلى ما يُعيشه وذلك في طبْعه وإنما سُلِب هذه المعارفَ الذين أُعطوا العقل والاستطاعة فوكِلوا إليهما .
فأمّا من سُلِبَ الآلة التي بها تكون الرَّويّة والأداة التي يكون بها التصرُّف وتخرج أفعاله من حد الإيجاب إلى حد الإمكان وعُوِّض التمكينَ فإن سبيله غيرُ سبيل من مُنِح ذلك فقسم اللّه تعالى لتلك الكفاية وقسم لهؤلاء الابتلاء والاختيار .

قصيدتا بشر بن المعتمر

أوّل ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش

بشِعْرَي بشرِ بن المعتمر فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما كثيراً من هذه الغرائب والفرائد ونبَّه بهذا على وجوهٍ كثيرةٍ من الحكمة العجيبة والموعظةِ البليغة وقد كان يمكننا أن نذكر من شأن هذه السِّباع والحشرات بقَدْر ما تتسع له الرواية من غير أن نكتبهما في هذا الكتاب ولكنهما يجمعان أموراً كثيرة .
أمّا أوّل ذلك فإنَّ حفظَ الشّعر أهونُ على النَّفس وإذا حُفظ كان أعلَقَ وأثبت وكان شاهداً وإن احتيج إلى ضرْب المثل كان مثلاً .
وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف على بيوت هذين الشِّعرين وقع ذكرهما مصنّفاً فيصير حينئذٍ آنقَ في الأسماع وأشدَّ في الحفْظ .

القصيدة الأولى

قال بشرُ بن المعتمر : ( الناس دأباً في طلاب الغنى ** وكلهم من شأنهِ الخترُ ) ( كأذؤبٍ تنهشها أذؤبٌ ** لها عواءٌ ولها زفرُ ) ( تبارك الله وسبحانَه ** بينَ يديهِ النفعُ والضرُّ )

( منْ خلقه في روقه كلهمْ ** الذيخُ والثيتلُ والغفرُ ) ( وساكنُ الجوِّ إذا ما علا ** فيه ومنْ مسكنهُ القفر ) ( والصدع الأعصمُ في شاهقٍ ** وجأبةٌ مسكنها الوعرُ ) ( والحيةُ الصماءُ في جحرها ** والتتفلُ الرائغُ والذرُّ ) ( وإلقةٌ ترغث رباحها ** والسهلُ والنوفلُ والنضرُ ) ( وهقلةٌ ترتاعُ من ظلها ** لها عرارٌ ولها زمرُ ) ( تلتهم المروَ على شهوةٍ ** أحبُّ شيءٍ عندها الجمر ) ( وضبة تأكلُ أولادها ** وعترفانٌ بطنهُ صفر ) ( يؤثر بالطعم وتأذينهُ ** منجمُ ليس له فكرُ )

( وكيف لا أعجبُ من عالمٍ ** حشوتهُ التأبيس والدغر ) ( وحكمةٌ يبصرها عاقلٌ ** ليس لها من دونها سترُ ) ( جرادةٌ تخرقُ متنَ الصفا ** وأبغثٌ يصطادهُ صقر ) ( سلاحه رمحٌ فما عذره ** وقد عراه دونه الذعر ) ( يحجم عن فرطِ أعاجيبها ** وعنْ مدى غاياتها السحر ) ( وظيبة تخضمُ في حنظلٍ ** وعقربٌ يعجبها التمرُ ) ( وخنفسُ يسعى بجعلانهِ ** يقوتها الأرواثُ والبعرُ ) ( يقتلها الورد وتحيا إذا ** ضمَّ إليها الروث والجعرُ ) ( وفارة البيشِ إمامٌ لها ** والخلد فيه عجبٌ هترُ )

( وقتفذٌ يسرى إلى حيةٍ ** وحيةٌ يخلى لهُ الجحرُ ) ( وعضر فوطُ ماله قبلةٌ ** وهدهدٌ يكفره بكرُ ) ( وفرةُ العقرب من لسعها ** تخبرُ أن ليسَ لها عذرُ ) ( والببر فيه عجبٌ عاجبٌ ** إذا تلاقى الليث والببرُ ) ( وطائرُ أشرفُ ذو جردة ** وطائرٌ ليسَ لها وكرُ ) ( وثرملٌ تأوى إلى دوبل ** وعسكرٌ يتبعه النسر ) ( يسالمُ الضبعَ بذى مرة ** أبرمها في الرحم العمرُ ) ( وتمسحٌ خللهُ طائرٌ ** وسابحٌ ليسَ لها سحرُ )

( والعثُّ والحفاثُ ذو فحفحٍ ** وخرنقٌ يسفدهُ وبر ) ( حرباؤها في قيظها شامسٌ ** حتى يوافى وقتهُ العصر ) ( يميل بالشقِّ إليها كما ** يميلُ في روضتهِ الزهر ) ( والظربانُ الوردُ قد شفه ** حبُّ الكشى والوحر الحمر ) ( يلوذُ منه الضبُّ مذلولياً ** ولو نجا أهلكهُ الذعرُ ) ( وليس ينجيه إذا ما فسا ** شيءٌ ولو أحرزه قصرُ )

( وهيشنة تأكلها سرفةٌ ** وسمعُ ذئبٍ همهُ الحضرُ ) ( لا تردُ الماءَ أفاعي النقا ** لكنما يعجبها الخمرُ ) ( وفي ذرى الحرملِ ظلُّ لها ** إذا غلا واحتدم الهجرُ ) ( فبعضها طعمُ لبعض كما ** أعطى سهامَ الميسرِ القمرُ ) ( وتمسحُ النيل عقابُ الهوا ** والليثُ رأسٌ وله الأسرُ ) ( ثلاثةٌ ليس لها غالبٌ ** إلاّ بما ينتقضُ الدهرُ ) ( إنِّى وإنْ كنتُ ضعيفَ القوى ** فالله يقضى ولهُ الأمرُ ) ( لست إباضيَّا عبيَّا ولا ** كرافضى ٍ غرهُ الجفرُ )

( كما يغرُّ الآل في سبسبٍ ** سفراً فأودَى عنده السفرُ ) ( لسنا من الحشو الجفاةِ الأولى ** عابوا الذي عابوا ولم يدروا ) ( أن غبتَ لم يسلمكَ من تهمة ** وإنْ رنَا فلحظهُ شزرُ ) ( يعرضُ إن سالمته مدبراً ** كأنما يلسبه الدبرُ ) ( أبلهُ خبٌّ ضغنٌ قلبه ** له احتيالٌ وله مكرُ ) ( وانتحلوا جماعةً باسمها ** وفارقوها فهمُ اليعر ) ( وأهوجُ أعوجُ ذو لوثةٍ ** ليس له رأى ٌ ولا قدر ) ( قد غره في نفسه مثله ** وغرهم أيضاً كما غروا ) ( لا تنجع الحكمةُ فيهم كما ** ينبو عن الجرولة القطرُ ) ( قلوبهم شتًى فما منهم ** ثلاثةٌ يجمعهم أمرُ )

( إلا الأذى أو بهتَ أهلِ التقى ** وأنهم أعينهمْ خزرُ ) ( أولئك الداءُ العضالُ الذي ** أعيا لديه الصابُ والمقر ) ( حيلة من ليست له حيلةٌ ** حسنُ عزاء النفسِ والصبر )

القصيدة الثانية

( ما ترى العالم ذا حشوةٍ ** يقصر عنها عدد القطر ) ( أوابد الوحشِ وأحناشها ** وكلُّ سبع وافر الظفرِ ) ( وبعضه ذو همجٍ هامجٍ ** فيه اعتبارٌ لذوي الفكر ) ( والوزغُ الرقط على ذلهَّا ** تطاعمُ الحياتِ في الجحر ) ( والخنفسُ الأسودُ في طبعه ** مودة العقرب في السر ) ( والحشراتُ الغبرُ منبثةٌ ** بين الورى والبلدِ القفرِ ) ( وكلها شرٌّ وفي شرها ** خيرٌ كثيرٌ عند من يدرى ) ( لو فكرَ العاقلُ في نفسه ** مدةَ هذا الخلقِ في العمر ) ( لم ير إلا عجباً شاملا ** أو حجةً تنقشُ في الصخرِ ) ( فكم ترى في الخلق من آيةٍ ** خفيةِ الجسمان في قعرِ )

( أبرزها الفكر على فكرةٍ ** يحارُ فيها وضحُ الفجرِ ) ( لله درُّ العقلِ من رائدٍ ** وصاحبِ في العسرِ واليسرِ ) ( وحاكمٍ يقضى على غائبٍ ** قضيةَ الشاهدِ للأمرِ ) ( وإن شيئاً بعضُ أفعاله ** أن يفصلَ الخيرَ من الشرِّ ) ( بل أنت كالعين وإنسانها ** ومخرج الخيشوم والنحرِ ) ( فشرهم أكثرهم حيلةً ** كالذئب والثعلب والذر ) ( والليث قد جلده علمه ** بما حوى من شدة الأسر ) ( فتارة يحطمهُ خابطاً ** وتارة يثنيه بالهصر ) ( والضعفُ قد عرف أربابه ** مواضعَ الفرِّ من الكر ) ( تعرف بالإحساس أقدارها ** في الأسر والإلحاح والصبر ) ( والبختُ مقرونٌ فلأتجهلن ** بصاحبِ الحاجة والفقرِ ) ( وذو الكفايات إلى سكرةٍ ** أهونُ منها سكرةُ الخمر ) ( والضبعُ الغثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللبوة والنمر )

( لو خلى الليثُ ببطن الورى ** والنمرُ أو قد جىء بالببر ) ( كان لها أرجى ولو قضقضت ** ما بين قرنيه إلى الصدر ) ( والذئب إن أفلت من شره ** فبعد أن أبلغ في العذر ) ( وكلُّ جنس فله قالبٌ ** وعنصرٌ أعراقه تسرى ) ( وتصنع السرفة فيهم على ** مثلٍ صنيع الأرض والبذر ) ( متى يرى عدوه قاهراً ** أحوجهُ ذاك إلى المكرِ ) ( كما ترى الذئب إذا لم يطقْ ** صاحً فجاءت رسلاً تجرى ) ( وكلُّ شيءٍ فعلى قدره ** يحجم أو يقدم أو يجرى ) ( والكيس في المكسب شملٌ لهمْ ** والعندليب الفرخُ كالنسرِ )

( والخلدْ كالذئب على خبثه ** والفيلُ والأعلم كالوبر ) ( والعبدُ كالحرِّ وإن ساءه ** والأبغثُ الأغثر كالصقر ) ( لكنهم في الدين أيدى سبا ** تفاوتوا في الرأي والقدر ) ( قد غمر التقليدُ أحلامهم ** فناصبوا القياسَ ذا السبر ) ( فاقهم كلامى واصطبر ساعةً ** فإنما النجح مع الصبر ) ( وانظر إلى الدنيا بعين امرىء ** يكره أن يجري ولا يدري ) ( أما ترى الهقلَ وأمعاءه ** يجمعُ بين الصخرِ والجمرِ ) ( وفارةُ البيش على بيشها ** طيبةٌ فائقة العطر ) ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهرٍ يسبح في غمرِ ) ( ولطعة الذئب على حسوهِ ** وصنعة السرفة والدبر )

( وظبية تدخلُ في تولجٍ ** مؤخرها من شدة الذعر ) ( تأخذ بالحزم على قانصٍ ** يريغها من قبلِ الدبر ) ( والمقرمُ المعلم ما إنْ له ** مرارةٌ تسمعُ في الذكر ) ( وخصيةٌ تنصلُ من جوفه ** عندَ حدوثِ الموتِ والنحر ) ( ولا يرى من بعدها جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدر ) ( وليس للطرفِ طحالٌ وقد ** أشاعه العالمُ بالأمر ) ( وفي فؤاد الثور عظمٌ وقد ** يعرفه الجازر ذو الخبرِ ) ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها عاشَ في البحر ) ( إذْ لا لسانٌ سقى ملحه ** ولا دماغُ السمك النهرى ) ( يدخل في العذب إلى جمه ** كفعل ذى النقلةِ إلى البرِّ )

( تدير أوقاتاً بأعيانها ** على مثالِ الفلك المجرى ) ( وكلُّ جنسٍ فلهُ مدةٌ ** تعاقبَ الأنواء في الشهر ) ( وأكبدٌ تظهرُ في ليلها ** ثمَّ توارى آخرَ الدهر ) ( ولا يسبغ الطعم ما لم يكن ** مزاجه ماءً على قدر ) ( والتتفل الرائغ إما نضا ** فشطر أنبوب على شطر ) ( متى رأى الليث أخا حافر ** تجده ذا فشٍ وذا جزر ) ( وإن رأى النمر طعاماً له ** أطعمه ذلك في النمر )

( وإن رأى مخلبه وافياً ** ونابه يجرح في الصخر ) ( منهرتَ الشدقِ إلى غلصمٍ ** فالنمر مأكولٌ إلى الحشر ) ( وما يعادي النمرُ في ضيغمٍ ** زئيره أصبر من نمر ) ( لولا الذي في أصلِ تركيبه ** من شدةِ الأضلاع والظهر ) ( يبلغ بالجسر على طبعه ** ما يسحر المختالَ ذا الكبر ) ( سبحانَ ربِّ الخلقِ والأمر ** ومنشر الميتِ من القبر ) ( فاصبرْ على التفكير فيما ترى ** ما أقربَ الأجرَ من الوزرِ )

تفسير القصيدة الأولى

نقول بعون اللّه تعالى وقُوته في تفسير قصيدة أبي سهل بشر بن المعتمر ونبدأ بالأولى المرفوعة التي ذكر في آخرها الإباضية والرافضة والنابتة فإذا قلنا في ذلك بما حضرَنا قلنا في قصيدته ما قيل في الذئب أمَّا قوله : كأذْؤُبٍ تنهشُها أذْؤبٌ لها عُواءٌ ولها زَفرُ

فإنَّها قد تتهارشُ على الفريسة ولا تبلغ القتْل فإذا أدْمى بعضها بعضاً وثَبتْ عليه فمزّقته وأكلته وقال الرّاجز : ( فلا تكوني يا ابْنَة الأشَمِّ ** ورقاء دَمّى ذئبها المدمِّي ) وقال الفرزدق : ( وكنْتَ كذئبِ السَّوْء لمّا رأى دماً ** بصاحبه يوماً أحالَ على الدَّمِ ) نعم حتّى رُبما أقبلا على الإنسان إقبالاً واحداً وهما سواءٌ على عداوته والجزْم على أكله فإذا أُدْمي أحدُهما وثب على صاحبه المدْمى فمزّقه وأكله وترك الإنسان وإن كان أحدهما قد أدماه .


ولا أعلمُ في الأرض خلقاً ألأمَ من هذا الخلق ولا شرّاً منه ويحدث عند رؤيته الدَّم له في صاحبه الطمع ويحدث له في ذلك الطمع فضلُ قوة ويحدث للمدمَّى جبنٌ وخوف ويحدث عنهما ضعف واستخذاء فإذا تهيأ ذلك منهما لم يكن دونَ أكله شيء واللّه أعلم حيثُ لم يُعط الذئب قُوة الأسد ولم يعط الأسد جُبن الذئب الهارب بما يرى في أثر الدم من الضعف مثل ما يعتري الهر والهرة بعد الفراغ من السِّفاد فإن الهر قبل أن يفرُغ من سفاد الهرة أقوى منها كثيراً فإذا سَفِدها ولّى عنها هارباً واتبعته طالبةً له فإنها في تلك الحال إن لحقَتْه كانت أقوى منه كثيراً فلذلك يقطع الأرض في الهرب وربَّما رمى بنفسه من حالق وهذا شيءٌ لا يعدمانِه في تلك الحال .
ولم أرهم يقِفون على حدِّ العلة في ذلك وهذا بابٌ سيقعُ في موضعه من القول في الذئب تامّاً بما فيه من الرِّواية وغير ذلك .


الذيخ والثيتل والغفر وأمَّا قوله : منْ خلقه في رزقِه كلَّهُمْ الذِّيخُ والثّيْتلُ والغُفرُ الذِّيخ : ذكر الضّبع والثّيتل شبيهٌ بالوعل وهو ممَّا يسكن في رؤوس الجبال ولا يكون في القُرى وكذلك الأوعال وليس لها حُضرٌ ولا عملٌ محمود على البسيط وكذلك ليس للظباء حُضْر ولا عملٌ محمود في رؤوس الجبال .
وقال الشاعر : وقال أيضاً : ( والظّبيُ في رأس اليفَاع تخالُه ** عِنْد الهضاب مُقيَّداً مشْكولا ) والغُفْر : ولد الأُروية : واحد الأرْوى والأرْوى : جماعةٌ من إناث الأوعال .


الصَّدع والجأب وأما قوله : ( والصَّدَعُ الأعصمُ في شاهق ** وجأبةٌ مسكنُها الوعْرُ ) فالصّدع : الشّاب من الأوعال والأعصم : الذي في عصمته بياضٌ وفي المِعْصم منه سوادٌ ولونٌ يخالفُ لونَ جسده والأُنثى عصماء والجأب : الحمار الغليظ الشَّديد والجأبة : الأتان الغليظة والجأب أيضاً مهموز : المَغرة وقال عنترة : ( فنجا أمامَ رِماحِهنَّ كأنَّهُ ** فوْتَ الأسِنة حافر الجأبِ ) شبَّهه بما عليه من لُطوخ الدِّماء برجُل يحفر في معدن المغْرة والمغرة أيضاً المكْر ولذلك قال أبو زُبيد في صفة الأسد المخمر بالدماء : ( يعاجيهم للشّرِّ ثانِيَ عِطْفِهِ ** عنايته كأنّما باتَ يُمْكُر )


الحية والثعلب والذر وأما قوله : ( والحية الصماء في جُحرها ** والتَّتفل الرائغ والذّرُّ ) فالتتفل هو الثّعلب وهو موصوفٌ بالرَّوغان والخبث ويضرب به المثل في النَّذالة والدناءة كما يضرب به المثلُ في الخبْث والرَّوغان .
وقال طرفة : ( وصاحبٍ قد كنتُ صاحبْتُه ** لا ترك اللهُ لهُ واضحَه ) ( كلهمُ أرْوغُ من ثعلبٍ ** ما أشبهَ اللّيلة بالبارحَهْ ) وقال دُريد بن الصمَّة :

( ومُرّة قد أدركتُهم فتركتُهمْ ** يروغُون بالغَرّاءَ روْغ الثَّعالبِ ) وقال أيضاً : ( ولستُ بثعلبٍ إن كان كونٌ ** يدُسُّ برأسهِ في كُلِّ جُحْر ) ولمَّا قال أبو محجنٍ الثَّقفي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حائط الطائف ما قال : قال له عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : إنما أنت ثعلبٌ في جُحْر فابرزْ من الحصْن إن كنت رجلاً .
ومما قيل في ذلة الثعلب قال بعض السّلف حين وجد الثُّعلبان بال على رأس صنمه :

( إله يبول الثُّعلّبانُ برأسِه ** لقد ذَلّ منْ بالتْ عليه الثّعالبُ ) ( تمنَّيْتني قيْسَ بن سعدٍ سفاهةً ** وأنت امرؤٌ لا تحتويك المقانبُ ) ( وأنت امرؤٌ جَعْدُ القفا مُتَعَكِّسٌ ** من الأقِطِ الحوليِّ شبعان كانِبُ ) إذا انتسبوا لم يعرِفوا غير ثعْلبٍ إليهم ومن شرِّ السِّباع الثعالبُ وأنشدوا في مثل ذلك : ( ما أعجبَ الدَّهْرَ في تصرُّفِهِ ** والدَّهْرُ لا تنقضي عجائبُهُ ) ( يبسطُ آمالنا فنبسطها ودون ** آمالِنا نوائبُهُ ) ( وكم رأينا في الدَّهر من أسدٍ ** بالتْ على رأسهِ ثعالبهُ )

ففي الثَّعلب جلدهُ وهو كريم الوبر وليس في الوَبر أغلى من الثعلب الأسود وهو ضروبٌ ومنه الأبيضُ الذي لا يُفْصل بينه وبين الفَنَك ومنه الخلنْجيّ وهو الأعمّ .
ومن أعاجيبه أن نَضِيَّهُ وهو قضيبه في خلقة الأنبوبة أحد شِطْريه عظْمٌ في صورة المثقب )
والآخر عصبٌ ولحم ولذلك قال بشرُ بنُ المعتمر : ( والتّتفل الرائغُ إمّا نضا ** فشطْرُ أُنبوبٍ على شطْرِ ) وهو سَبُعٌ جبانٌ جدّاً ولكنَّه لفرط الخبث والحيلة يجرِي مع كبار السّباع .
وزعم أعرابيٌّ ممن يُسمعُ منه أنّه طاردهُ مرّة بكلابٍ له فراوغه حتّى صار في خَمر ومرّ بمكانه فرأى ثعلباً ميّتاً وإذا هو قد زَكر بطنه ونفخه فوهّمه أنّه قد مات من يوم أو يومين قال : فتعدّيته

وشمَّ رائحة الكلاب فوثب وثْبةً فصار في صحراء .
وفي حديث العامَّة أنَّه لما كثُرت البراغيثُ في فرْوته تناول بفيه إمَّا صُوفةً وإمَّا ليقة ثم أدخل رجليه في الماء فترفّعتْ عن ذلك الموضع فما زال يغمسُ بدنه أوّلاً فأوّلاً حتَّى اجتمعن في خَطْمه فلمّا غمس خطمه أوّلاً فأوّلاً اجتمعنَ في الصُّوفة فإذا علم أنّ الصُّوفة قد اشتملت عليهنَّ تركها في الماء ووثَبَ فإذا هو خارجٌ عن جميعها .
فإن كان هذا الحديثُ حَقّاً فما أعجبه وإن كان باطلاً فإنّهم لم يجعلوه له إلاّ للفضيلة التي فيه من الخبْثِ والكَيْس .
وإذا مشى الفرسُ مشْياً شبيهاً بمشْي الثعلب قالوا : مشى الثّعلبيّة قال الراعي : ( وغَمْلى نَصِيٍّ بالمِتانِ كأنّها ** ثعالبُ مَوْتى جلدها قد تسَلَّعا )

وقال الأصمعيُّ : سرق هذا المعنى من طفيلٍ الغنويّ ولم يُجِد السَّرق .
وفي تشبيه بعض مشيته قال المرَّار بن مُنقذ : ( صِفَةُ الثَّعلبِ أدنى جَرْيِهِ ** وإذا يُرْكضُ يَعْفُورٌ أشِرْ ) وقال امرؤ القيس : والبيت الذي ذكره الأصمعيُّ لطفيل الغنوي أنّ الرَّاعي سرق معناه هو قوله : ( وغمْلى نصيٍّ بالمتان كأنّها ** ثعالبُ موتى جِلْدُها لم ينزعِ ) وأنشدوا في جُبْنِه قولَ زُهير بن أبي سُلمى :

( وبَلدةٍ لا تُرام خائفةٍ ** زَوْراءَ مُغْبَرَّةٍ جوانبُها ) ( تسمَعُ للجِنِّ عازِفينَ بها ** تصِيحُ مِنْ رَهْبَةٍ ثعالبُها ) ( كلّفْتُها عِرْمِساً عُذافِرَةً ** ذاتَ هِبابٍ فُعماً مناكبُها ) ( تُراقبُ المُحْصَدَ الممَرَّ إذا ** هاجرةٌ لم تَقِلْ جَنادبُها )
والذي عندي أنَّ زُهيراً قد وصف الثّعلب بشدَّة القلْب لأنهم إذا هَوَّلُوا بذكر الظُّلْمة الوحشيَّة والغيلان لم يذكروا إلاَّ فزع من لا يكاد يفزع لأنَّ الشاعر قد وصف نفسه بالجراءة على قطع هذه الأرض في هذه الحال .
وفي استنذاله وجبنه قالت أمُّ سالم لابنها مَعْمر : ( أرى مَعْمراً لا زيّنَ اللّهُ مَعْمراً ** ولا زانَهُ منْ زائر يتقرّبُ )

( أعاديْتَنا عاداك عزٌّ وذلَّةٌ ** كأنك في السِّربالِ إذْ جئت ثعلبُ ) ( فلم تَرَ عيني زائراً مثل مَعْمر ** أحقَّ بأن يُجنى عليه ويُضْرَبُ ) ( تأمَّل لما قد نال أمَّك هِجْرِسٌ ** فإنَّك عَبْدٌ يا زُمَيل ذَليلُ ) ( وإني متى أضْرِبْك بالسَّيفِ ضَرْبة ** أُصبِّحْ بني عَمْرٍ و وأنتَ قتيلُ ) الهِجْرس : ولد الثَّعلب قال : وكيف يصْطادُ وهو على هذه الصِّفة فأنشد شعر ابن ميّادة : ( ألم تَرَ أنَّ الوَحْشَ يَخْدَعُ مَرَّةً ** ويُخْدَعُ أحياناً فيُصطاد نُورها ) ( بلى وضَوارِي الصَّيدِ تُخْفِقُ مَرَّة ** وإنْ فُرهتْ عقبانُها ونُسورها ) قال : وسألت عنه بعض الفقهاء فقال : قيل لابن عبّاس : كيف تزعمون أنّ سليمان بن داود عليهما السلام كان إذا صار في البراري حيث

لا ماء ولا شجر فاحتاج إلى الماء دلّه على مكانه الهدهُد ونحن نغطّي له الفخَّ بالتراب الرَّقيق ونُبرز له الطُّعم فيقع فيه جَهْلاً بما تحت ذلك التراب وهو يدلُّ على الماء في قعر الأرض الذي لا يوصل إليه إلاّ بأن يحفر عليه القيِّم الكيِّس .
قال : فقال ابنُ عبّاس رضي اللّه عنهما : إذا جاء القدَرُ لم ينفع الحذر .
وأنشدوا : ( خير الصديق هو الصَّدوق مقالةً ** وكذاك شَرُّهم الميُون الأكذبُ ) وقال حسّان بن ثابت رضي اللّه عنه : ( بني عابدٍ شاهَتْ وجُوهُ الأعابِد ** بِطاءٌ عن المعروف يوم التّزايُدِ )

( فما كان صَيفيٌّ يفي بأمانة ** قَفا ثعلب أعْيا ببعض المراصِدِ ) وأنشد : ) ( ويشْرَبُه مَذْقاً ويسقِي عِياله ** سَجاجاً كأقرابِ الثَّعالبِ أوْرقا ) وقال مالك بن مِرْداس : ( يا أيُّها ذا الموعِدِي بالضرِّ ** لا تلعبنَّ لِعبةَ المغترِّ ) ( أخافُ أنْ تكونَ مثل هرِّ ** أو ثَعْلبٍ أُضيعَ بعد حُرِّ )

( هاجَتْ به مخيلة الأظفر ** عسراء في يوم شمال قَرِّ ) ( يجول منها لثق الذعر ** بصردٍ ليس بذي محجر ) ( تنفض أعلى فرْوِهِ المغبرِّ ** تنفضُّ منها نابها بشزر ) نفضاً كلون الشره المخمر المخيلة : العقاب الذّكر الأشبث صرد : مكان مطمئن .
وقال اليقطري : كان اسمُ أبي الضّريس ديناراً فقال له مولاه : يا دنينير فقال : أتصغِّرني وأنت من سلاح الثعلب ومن أشدِّ سِلاح الثَّعلب عندكم الرَّوغان والتّماوُت وسلاحه أنتنُ وألزجُ وأكثرُ من سُلاح الحبارى .


وقالت العرب : أدهى من ثعلب وأنتن من سُلاح الثَّعلب .
وله عجيبةٌ في طلب مقتل القنقذ وذلك إذا لقيه فأمكنهُ من ظهرهِ بالَ عليه فإذا فعل ذلك به ينبسط فعند ذلك يقبض على مَراقِّ بطْنه .
أرزاق الحيوان ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذّئب يصيد الثّعلب فيأكله ويصيد الثّعلب القنقذَ فيأكله ويُريغ القنفذ الأفعى فيأكلها وكذلك صنيعُه في الحيَّات ما لم تعظُم الحيَّة والحيَّة تصيدُ العصفور فتأكلهُ والعصفور يصيد الجراد فيأكله والجراد يلتمس فِراخَ الزّنابير وكلّ شيء يكون أفحوصُهُ على المستوي والزُّنبور يصيد النّحلة فيأكلها والنَّحلة تصيد الذبابة فتأكلها والذبابة تصيدُ البعوضة فتأكلها .
الإلقة والسهل والنوفل والنضر وأمَّا قوله : فالإلقة هاهنا القردة تُرْغِث : ترضع والرُّبَّاح : ولد القِردة

والسَّهْل : الغراب والنَّوفل : البحر والنَّضْر : الذهب وكلُّ جَرِيَّةٍ من النِّساء وغيرِ ذلك فهي إلْقةٌ وأنشدني بشرُ بن المعتمر لرؤبة : جَدّ وجدّت إلقةٌ من الإلقْ وقد ذكرنا الهِقْلَ وشأنه في الجمر والصّخْر وأكلَ الضّبِّ أولاده في موضعه من هذا الكتاب وكذلك قوله في العُتْرُفان وهو الديك الذي يؤثر الدَّجاج بالحبّ وكأنّه منجِّم أو صاحبِ أسْطُرلاب وذكرنا أيضاً ما في الجراد في موضعه ولسنا نُعيدُ ذكر ذلك وإن كان مذكوراً في شعر بشر .


الأبغث وأمّا قوله : وأبغث يصطاده صقر ثم قال : ( سلاحُه رُمْحٌ فما عُذْرُه ** وقد عَراه دُونه الذعرُ ) يقول : بدنُ الأبغث أعظمُ من بدن الصقر وهو أشدُّ منه شِدَّة ومنقارُه كسنان الرُّمْح في الطول والذّرب وربَّما تجلّى له الصَّقرُ والشّاهينُ فَعَلقَ الشّجر والعَرار وهتك كلَّ شيء يقول : فقد اجتمعت فيه خصالٌ في الظّاهر معينةٌ له عليه ولولا أنّه على حال يعلم أنَّ الصَّقر إنما يأتيه قبُلاً ودبُراً واعتراضاً ومن عَلُ وأنه قد أعطى في سلاحه وكفِّه فضل قوَّة لما استخذى له ولما أطمعه بهرَبِه حتّى صارت جُرأته عليه بأضعاف ما كانت .
قال بعضُ بني مروان في قتل عبد الملك عَمْرو بن سعيد : ( كأنَّ بني مَرْوان إذ يقتلونه ** بغاثٌ من الطّيرِ اجتمعن على صقْر ) ما يقبل التعليم من الحيوان وأمَّا قوله :

( والدُّبُّ والقِرد إذا عُلِّما ** والفيل والكَلْبة واليَعْرُ ) فإن الحيوان الذي يَلْقَن ويَحْكِي ويَكيِسُ ويُعلَّم فيزداد بالتّعليم في هذه التي ذكرنا وهي الدّبّ والقِرد والفيل والكلب .
وقوله : اليعر يعني صغار الغنم ولعمري أنَّ في المكّيّة والحبشيَّة لعباً .
حب الظبي للحنظل والعقرب للتمر وأمَّا قوله : ( وظبيةٌ تخضِمُ في حَنْظل ** وعَقْرَبٌ يُعْجِبها التَّمرُ ) ففي الظَّبي أعاجيبُ من هذا الضرب وذلك أنّه ربّما رَعى الحنظل فتراه يقبِضُ ويعضُّ على نِصف حنظلةٍ فيقدّها قد الخسْفة فيمضغُ ذلك النصفَ وماؤُه يسيلُ من شدقيه وأنت ترى فيه الاستلذاذ له والاستحلاء لطعمه .
وخبرني أبو محجن العنزيّ خالُ أبي العميثل الرّاجز قال : كنت

أرى بأنطاكية الظّبي يُرِدُ البحر و يشربُ المالحَ الأجاج .
والعقْرب ترمي بنفسها في التَّمر وإنّما تطلب النَّوى المُنْقع في قعر الإناء .
فأيُّ شيء أعجبُ من حيوانٍ يستعذب مُلوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل .
وسنذكر خصال الظّبي في الباب الذي يقع فيه ذكره إن شاء الله تعالى ولسنا نذكر شأن الضبِّ والنَّمل والجعل والرَّوث والورد لأنّا قد ذكرناه مرّة .
فأرة البيش وأمّا قوله : ( وفأرة البِيش إمامٌ لها ** والخلْدُ فيه عجبٌ هترُ ) فإن فأرة البيش دُويْبة تشبة الفأرة وليست بفأرة ولكن هكذا تسمّى وهي تكون في العياض والرِّياض ومنابت الأهضام وفيها سمومٌ كثيرة كقرون السُّنْبل وما في القُسْط فهي تتخلَّل تلك

وقد ذكرنا شأن القنقذ والحيَّة في باب القول في الحيّات .
العضرفوط والهدهد وأمَّا قوله : وعضرفوطٌ ما له قِبْلة فهو أيضاً عندهم من مطايا الجنّ وقد ذكره أيمنُ بن خُريم فقال : ( وخيلُ غزالة تَنْتابُهُمْ ** تجوب العِراقَ وتَجْبي النَّبِيطا ) ( تَكُرُّ وتُجْحِر فُرسانَهُمْ ** كما أجْحَرَ الحيَّةُ العَضْرفوطا )

لأن العضرفوط دويْبّة صفيرةٌ ضعيفة والحيّات تأكلها وتغصِبها أنفسها .
وأنشدوا على ألسنة الجنّ : ( ومن عَضْرَفوطٍ حَطَّ بي فأقمته ** يبادِرُ وِرْداً مِنْ عظاءٍ قوارِبِ ) وأمّا قولُه : وهدهدٌ يُكْفِرُهُ بكرُ فإنَّما ذلك لأنَّه كان حاجَّ بكر ابن أختِ عبد الواحد صاحب البكريَّةِ فقال له : أتخبرُ عن حال الهدهُدِ بخبر إنه كان يعرفُ طاعة اللّه عزَّ وجل من معصيته وقد ترك موضِعَه وسار إلى بلاد سبأ وهو وإن أطرف سليمان بذلك الخبر وقبِله منه فإنَّ ذَنْبَه في ترْك موضعه الذي وُكِّل به وجولانِه في البُلدان على حاله ولا يكون ذلك مما يجعل ذنبه السابق إحساناً والمعصيةُ لا تنقلبُ

طاعة فلم لا تشهد عليه بالنِّفاق قال : فإني أفعل قال : فحكى ذلك عنه فقال : أمّا هو فقد كان سلم على سُليمان وقد كان قال : لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شديداً أوْ لأذْبحنّهُ أوْ ليَأْتينِّي بِسُلْطانٍ مُبينٍ فلمَّا أتاه بذلك الخبر رأى أنّه قد أدلى بحجّة فلمْ يعذِّبْه ولم يذبَحْه فإن كان ذنبُه على حاله فكيف يكون ما هجم عليه ممَّا لم يُرسل فيه ولم يقْصِد له حُجَّة وكيف يُبْقي هذا عليه .
وبكر يزعم أن الأطفال والبهائم لا تأثم ولا يجوز أن يُؤْثم الله تعالى إلاّ المسيئين فقال بشرٌ لبَكْر : بأيِّ شيءٍ تستدلُّ على أنّ المسيء يعلمُ أنه مسيء قال : بخجله واعتذاره بتوبته قال : فإنّ العقرب متى لسعت فرّتْ من خوف القتْل وهذا يدلُّ على أنَّها جانية وأنت تزعمُ أنّ كلَّ شيءٍ عاصٍ كافرٌ فينبغي للعقرب أن تكون كافرة إذا لم يكن لها عذرٌ في الإساءة .
الببر والنمر وأمّا قوله : ( والبَبْرُ فيه عجبٌ عاجبٌ ** إذا تلاقى الليث والنَّمْرُ ) لأنّ الببر مسالِمٌْ للأسد والنَّمر يطالبه فإذا التقيا أعان الببر الأسد .

الخفاتش والطائر الذي له وكر
وأمّا قوله : ( وطائِرٌ أشْرَفُ ذو جُرْدة ** وطائِرٌ ليس له وكرُ ) فإنّ الأشرفَ من الطَّير الخُفّاش لأنَّ لآذانها حجماً ظاهراً وهو متجرِّدٌ من الزَّغب والرِّيش وهو يلد .
والطّائِر الذي ليس له وكرٌ هو طائرٌ يخبر عنه البحريُّون أنّه لا يسقُط إلاّ ريثما يجعلُ لبيضه أُدحيّاً من تراب ويغطّي عليه ويطير في الهواء أبداً حتّى يموت وإن لقى ذكرٌ أنثى تسافدا في الهواء وبيضه يتفقص من نفسه عند انتهاء مُدَّته فإذا أطاق فرخُه الطّيران كان كأبويه في عاداتهما .
الثعالب والنسور والضباع وأمّا قوله : ( وثُرْمُلٌ تأوي إلى دَوْبَلٍ ** وعسْكرٌ يتبعه النسرُ ) ( يُسالم الضّبْعَ بذي مرةٍ ** أبرمها في الرحم العُمْرُ )

فالثرْملة : أنثى الثّعالب وهي مسالمِة للدَّوبل وأمَّا قوله : وعسكر يتبعه النّسر فإن النسور تتبع العساكر وتتبع الرِّفاق ذواتِ الإبل وقد تفعل ذلك العِقبان وتفعله الرَّخم وقد قال النَّابغة : ( وثقتً بالنصرِ إذ قيل لهً قد غدتْ ** كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائب ) ( بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهمْ غيرُ كاذب ) ( إذا ما غزوا بالجيشِ حلقَ فوقهمْ ** عصائبُ طيرٍ تهتدى بعصائب ) ( جوانحُ قد أيقنَّ أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعانِ أوّل غالبِ ) ( تراهنَّ خلفَ القومِ خزراً عيونها ** جلوسَ الشيوخِ في مسوك الأرانب )


والأصمعي يروي : جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانِب .
وسباع الطير كذلك في اتباع العساكر وأنا أرى ذلك من الطمع في القتلى وفي الرَّذايا والحسْرَى أو في الجهيض وما يُجْرح .
وقد قال النّابغة : ( سَمَاماً تُباري الرِّيحَ خُصوماً عُيونُها ** لَهُنَّ رذَايا بالطَّريقِ وَدائِعُ ) وقال الشاعر : ( يشُقّ سماحِيقَ السّلا عن جَنينِها ** أخو قَفْرَةٍ بادِي السَّغابَةِ أطْحَلُ )

وقال حميد بن ثور في صفة ذئب : ( إذا ما بدا يوماً رأيتَ غيايةً ** من الطير ينظرْن الذي هو صانعُ ) لأنّه لا محالة حين يسعى وهو جائع سوف يقع على سبع أضعف منه أو على بهيمةٍ ليس دونها مانع .
وقد أكثر الشُّعراءُ في هذا الباب حتّى أطنب بعضُ المحدثين وهو مسلم بن الوليد بن يزيد فقال : ( يكسو السيوف نفوس الناكثين به ** وَيجعلُ الهامَ تِيجان القنا الذُّبُلِ )

( قد عَوَّدَ الطَّيرَ عاداتٍ وثِقْنَ بها ** فهُنَّ يتْبعْنَه في كلِّ مُرْتَحلِ ) ولا نعلم أحداً منهم أسرَفَ في هذا القول وقال قولاً يُرغبُ عنه إلا النابغة فإنَّه قال : ( جوانحُ قد أيقنَّ أنّ قبيلهُ ** إذا ما التقى الجمعانِ أوّلُ غالبِ ) وهذا لا نُثْبته . وليس عند الطَّير والسِّباع في اتّباع الجموع إلاَّ ما يسقط من ركابهم ودوابِّهم وتوقّع القتل إذْ كانوا قد رأوا من تلك الجُموع مرَّةً أو مراراً فأمّا أن تقصد بالأمل واليقين إلى أحد الجمعين فهذا ما لم يقلْه أحدٌ .
نسر لقمان وقد أكثر الشُّعراءُ في ذكر النسور وأكثر ذلك قالوا في لُبَد .
قال النَّابغة :

فضربه مثلاً في طُول السَّلامة وقال لبيد : ( لما رأى صبحٌ سوادَ خليله ** من بين قائمِ سيفهِ والمحمل ) ( صبحنَ صبحاً يوم حقَّ حذاره ** فأصاب صبحاً قائماً لم يعقل ) ( فالتفَّ منقصفاً وأضحي نجمهٌ ** بين التراب وبين حنو الكلكل ) ( ولقد جرى لبدٌ فأدركَ جريه ** ريبُ الزمانِ وكان غير مثقلِ ) ( لما رأى لبد النسور تطايرتْ ** رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل )

( من تحته لقمانُ يرجو نفعه ** ولقد رأى لقمانُ أن لم يأتل ) وإن أحسنت الأوائل في ذلك فقد أحسن بعض المحْدَثين وهو الخزرجي في ذكر النَّسر وضرب المثل به وبلبد وصِحَّة بدنِ الغراب حيث ذكرَ طولَ عمر مُعاذِ بن مُسلم بن رجاء مولى القعقاع بن شَور وكان من المعَمرين طعن في السن مائَةً وعشرينَ سنةً وهو قوله : ( إن معاذَ بنَ مسلمٍ رجلٌ ** قد ضجَّ من طولِ عمره الأبدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزمانِ واختضب ال ** دهرً وأثوابُ عمرِ جدد ) ( يا نسرَ لقمانَ كمْ تعيشُ وكمْ ** تلبسُ ثوبَ الحياةِ يا لبد )

( قد أصبحتْ دارُ آدمٍ خربتْ ** وأنتَ فيه كأنك الوند ) 4

شعر وخبر فيما يشبه بالنسور

وما تعلق بالسَّحاب من الغيم يشبَّه بالنَّعام وما تراكبَ عليه يُشبَّه بالنسور قال الشاعر : ( خليلى َّ لا تستسلما وادعوا الذي ** له كلُّ أمر أنْ يصوبَ ربيعُ ) ( حياً لبلادٍ أنفذ المحلُ عودها ** وجبرٌ لعظمٍ في شظاه صدوعُ ) ( بمنتصر غرِّ النشاصِ كأنها ** جبالٌ عليهنّ النسورُ وقوعُ ) ( عسى أن يحلّ جزعاً وإنها ** وعلَّ النوى بالظاعنينَ تريعُ )

وشبّه العُجير السّلوليّ شُيوخاً على باب بعضِ الملوك بالنسور فقال : ( فمنهن إسآدي على ضوء كوكبٍ ** له من عمانيّ النُّجوم نظيرُ ) ( ومنهن قرْعي كلَّ بابٍ كأنّما ** به القومُ يرْجونَ الأذين نُسورُ ) ( إلى فَطِنٍ يستخرج القلبَ طرْفُه ** له فوق أعواد السَّريرِ زئيرُ ) وذكرت امرأةٌ من هُذيلٍ قتيلاً فقالت : ( تمشى النسورُ إليه وهي لاهِيَةٌ ** مشيَ العذارى عَلَيهِنَّ الجلابيبُ ) تقول : هي آمنةٌ أنْ تُذعر . ( وعند الكلابيِّ الذي حلَّ بيْتُه ** بجوٍّ شِخَابٌ ماضرٌ وصَبُوحُ )

( ومكسورةٌ حمْرٌ كأنَّ مُتونها ** نُسورٌ إلى جَنْبِ الخوان جُنوحُ ) مكسورة : يعني وسائد مثنيَّة وقال ابن ميّادة : ( ورَجَعْتُ مِنْ بَعْدِ الشَّبابِ وعصرِه ** شيخاً أزبَّ كأنَّه نَسْرُ ) وقال طرفة : ( فلأ منعنَّ مَنَابتَ الضّ ** مران إذ منع النسور ) وفي كتاب كليلة ودمنة : وكُنْ كالنَّسْرِ حَوْلَهُ الجيفُ ولا تكنْ كالجِيفِ حولها النسور فاعترض على ترجمة ابن المقفَّع بعضُ المتكلِّفين من فتيان الكتّاب فقال : إنما كان ينبغي أن يقول : كُنْ كالضِّرس حُفَّ بالتُّحَف ولا تكنْ كالهبْرة تطيف بها الأَكَلة أطنّه أراد الضُّروس فقال الضّرس وهذا من الاعتراض عجبٌ .
ويوصف النسر بشدّة الارتفاع حتّى ألحقوه بالأنوق وهي الرَّخمة .
وقال عديُّ بن زيد :

( فوق عَلْياءَ لا يُنال ذُراها ** يَلْغَبُ النّسرُ دُونها والأَنوقُ ) وأنشدوا في ذلك : ( يَدْنون ما سألوا وإن سُئلوا ** فهُمُ معَ العَيُّوق والنَّسْرِ ) وقال زيد بن بِشْر التّغلبي في قتل عمير بن الحباب : ( لا يجُوزنَّ أرْضنا مُضَرِيُّ ** بخفير ولا بغيرِ خَفيرِ ) ( طحنَتْ تغلبٌ هوازِنَ طحْناً ** وألحَّت على بني مَنْصورِ ) ( يومَ تَرْدي الكماةُ حول عمير ** حَجَلانَ النسور حَوْلَ جَزُورِ ) وقال جميل : ) ( وما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ به ** يدٌ وممرُّ العقدتينِ وثيقُ )

( له من خوافى النسرِ حمٌّ نظائرٌ ** ونصلٌ كنصل الزاعبى ِّ رقيقُ ) ( على نبعةٍ زوراءً أما خطامها ** فمتنٌ وأما عودها فعتيق ) ( بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتنى ** نوافذَ لم تظهرْ لهن خروق ) ( فلمْ أرَ حرباً يا بثينَ كحربنا ** تكشفُ غماها وأنتِ صديقُ ) مسالمة النسر للضبع وأما قوله : ( يُسالم الضّبْع بذي مِرّةٍ ** رَمها في الرَّحِمِ العُمْرُ )

لأنَّ النَّسر طيرٌ ثقيلٌ عظيمٌ شرِهٌ رغيبٌ نهم فإذا سقط على الجيفة وتملأ لم يستطعِ الطّيران حتى يثب وثباتٍ ثمّ يدور حولَ مسقطهِ مِراراً ويسقُط في ذلك فلا يزالُ يرفع نفسه طبقةً طبقةً في الهواء حتى يُدخِلَ تحته الرِّيح فكلُّ من صادفه وقد بَطِن وتملأ ضربه إن شاء بعصاً وإن شاء بحجر حتّى ربما اصطاده الضَّعيف من الناس .
وهو مع ذلك يشارك الضَّبع في فريسة الضبع ولا يثبُ عليه مع معرفته بعجْزِه عن الطّيران وزعَمَ أنّ ثقته بطول العمر هو الذي جرَّأه على ذلك . 4

ستطراد لغوي

ويقال : هوت العُقاب تهوي هُوِيّاً : إذا انقضّت على صيدٍ أو غيره ما لم ترِغه فإذا أراغتْه قيل أهوت له إهواءً والإهواء أيضاً التَّناول باليد والإراغة أن يذهب بالصيد هكذا وهكذا .
ويقال دوَّم الطائر في جوّ السّماء وهو يدوِّم تدويماً : إذا دار في السماء ولا يحرك جناحيه .


ويقال نسره بالمِنْسَر وقال العجَّاج : ( شاكي الكلاليب إذا أهْوى ظَفَرْ ** كعَابِرَ الرؤوس منها أو نسَرْ ) والنسر ذو منسر وليس بذي مخلب وإنما له أظفارٌ كأظفار الدّجاج .
وليس له سلاحٌ إنّما يقوى بقوّة بدنه وعِظمه وهو سبعٌ لئيمٌ عديم السِّلاح وليس من أحرار ولوع عتاق الطير بالحمرة ويقال إنّ عتاق الطير تنقضُّ على عُمود الرّحل وعلى الطِّنفسة والنمرق فتحسبه لحمرته لحماً وهم مع ذلك يصفونها بحدَّة البصر ولا أدري كيف ذلك . )


وقال غيلان بن سلمة : ( في الآل يخفِضُها ويرفَعُها ** رَيعٌ كأنّ مَتونَه السَّحلُ ) ( عَقْلاً ورَقْماً ثمَّ أردفه ** كِللٌ على ألوانها الخَمْلُ ) ( كدم الرُّعافِ على مآزرها ** وكأنَّهنَّ ضوامراً إجلُ ) وهذا الشِّعر عندنا للمسيَّب بن عَلس وقال علْقمة بن عَبدة : ( ردّ الإماءُ جمالَ الحيِّ فاحتملوا ** وكلّهَا بالتَّزيدِياتِ مَعْكُومُ )

( عَقْلاً ورَقْماً يظلُّ الطّيرُ يتبعُه ** كأنّه من دَمِ الأجوافِ مَدْمُومُ ) شعر في العقاب وقال الهذليّ : ( ولقد غَدَوْتُ وصاحبي وحشيَّةٌ ** تحتَ الرِّداء بصيرةٌ بالمشرفِ ) يعني عقاباً وقوله : بصيرة بالمشرف يريد الرّيح من أشرفَ لها أصابتْه .
وقال الآخرُ في شبيهٍ بهذا : ( فإذا أتتْكُمْ هذه فتلبّسُوا ** إنّ الرِّماح بصيرةٌ بالحاسِرِ ) وقال آخر :

( كأنِّي إذْ عَدَوْا ضَمَّنْتُ بزِّي ** مِن العِقْبانِ خائِتَةً طَلُوبا ) ( جريمةَ ناهضٍ في رأس نيقٍ ** تَرى لعِظامِ ما جَمعَتْ صليبا ) وقال طُفيل الغنويّ : ( تبيتُ كعِقْبان الشُّرَيف رجاله ** إذا ما نَوَوْا إحداثَ أمْرٍ مُعَطّبِ ) أي أمهلوا وقال دُريد : ( تعللتُ بالشطاء إذْ بانَ صاحبى ** وكلُّ امرىءٍ قد بانَ إذْ بان صاحبه ) ( كأنى وبزى فوقَ فتخاءَ لقوةٍ ** لها ناهضٌ في وكرها لا تجانبه )

( فباتتْ عليه ينفضُ الطلًّ ريشها ** تراقبُ ليلاً ما تغورُ كواكبه ) ( فلما تجلى الليلُ عنها وأسفرت ** تنفض حسرى عن أحصٍ مناكبه ) ( رأت ثعلباً من حرةٍ فهوتْ لهُ ** إلى حرةٍ والموتُ عجلانُ كاربه )
جفاء العقاب زعم صاحبُ المنطق أنّه ليس شيءٌ في الطّير أجفى لفِراخه من العُقاب وأنّه لا بدّ من أن يُخْرجَ واحداً وربما طردَهُنَّ جميعاً حتّى يجيء طائرٌ يسمّى كاسر العظام فيتكفّل به .
ودريدُ بن الصِّمَّة يقول : ( كأني وبزِّي فوق فتخاءَ لقْوةٍ ** لها ناهضٌ في وكْرها لا تجانِبُه ) ما يعتري العقاب عند الشبع وقد يعتري العُقاب عند شِبعها من لحم الصّيد شبيهٌ بالذي ذكرنا في النسر وأنشد أبو صالحٍ مسعود بن قنْد لبعض القيسيِّين :

( قرى الطّير بعد اليأس زيدٌ فأصبحتْ ** بوحْفاء قَفْرٍ ما يدِبُّ عُقابُها ) ( وما يتخطّى الفحلَ زيدٌ بسيفهِ ** ولا العِرْمسَ الوَجناء قد شقَّ نابُها ) ( وإن قيل مَهْلاً إنّه شدنِيّةٌ ** يقطِّع أقران الجِبالِ جذابُها ) خبّر أنّه يعتري العُقاب من الثِّقل عند الطيران من البِطْنة ما يعتري النسر .
شعر في العقاب وقال امرؤُ القيس إن كان قاله

: فأبصرت شخصهُ من فوقِ مرقبةٍ ودونَ موقعها منهُ شناخيب ( فأقبلتْ نحوه في الجوِّ كاسرةً ** يحثُّها من هوى ِّ اللوح تصويب ) ( صبتْ عليه ولم تنصبّ من أممٍ ** إنَّ الشقاء على الأشقين مصبوبُ ) ( كالدلو بتتُ عراها وهي مثقلةٌ ** إذْ خانها وذمٌ منها وتكريب ) ( لا كالتي في هواء الجوِّ طالبةً ** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب ) ( كالبرق والريح مرآتاهما عجبٌ ** ما في اجتهادٍ على الإصرار تغبيب ) ( فأدركته فنالته مخالبها ** فانسل من تحتها والدفُّ مثقوب ) ( يلوذُ بالصخر منها بعدَ ما فترت ** منها ومنه على الصخر الشآبيب )

( سقط : بيت الشعر ) ( يلوذالصخر منها بعد ما فترت ** منها ومنه على الصخر الشآبيب ) ( ثم استغاثت بمتنِ الأرض تعفرهُ ** وباللسان وبالشدقين تتريب ) ( ما أخطأته المنايا قيسَ أنملةِ ** ولا تحرزَ إلاّ وهو مكتوب ) ( يظلُّ منجحراً منها يراقبها ** ويرقب الليلَ إنَّ الليلَ محبوب )
وقال زهير : ( تنبذُ أفلاذهَا في كلِّ منْزلةٍ ** تَنتِخُ أعيُنَها العِقبانُ والرَّخَمُ ) تنتِخ : أي تنزع وتستخرج والعرب تسمِّي المنقاش المِنتاخ . ( حديثاً من سماعِ الدَّلِّ وعر ** كأنَّ نَقيقَهُنَّ نقيِقُ رُخمِ ) والنقيق مشترك يقال : نقّ الضفدع ينقُّ نقيقاً .


ويقال : أعزُّ من الأبْلق العَقُوق و : أبعدُ من بيض الأنوق .
فأمَّا بيض الأنوق فربما رئي وذلك أنَّ الرَّخم تختارُ أعاليَ الجبال وصدُوعَ الصَّخر والمواضِعَ الوحشيّة وأمّا الأبلق فلا يكون عقوقاً وأما العقوق البلْقاء فهو مَثلٌ وقال : ( ذكرناكِ أن مَرَّتْ أمامَ ركابنا ** من الأُدْمِ مخماص العشيِّ سلوبُ ) ( تدلّتْ عليها تَنفُضُ الرّيش تحتها ** براثِنُها وراحُهنَّ خَضيبُ ) ( خداريَّة صقْعاء دُون فراخِها ** من الطَّودِ فأْوٌ بينها ولهوبُ ) ( إذا القانِص المحروم آبَ ولم يُصِبْ ** فمطعَمُهُ جُنْحَ الظّلامِ نَصيبُ ) ( فأصبحت بعد الطير ما دون فارة ** كما قام فوق المنْصِتِين خطيبُ ) وقال بشرُ بن أبي خازم :

( فما صَدْعٌ بِخيَّة أو بَشَرْقٍ ** على زَلق زُمَالقَ ذي كهافِ ) ( تَزلُّ اللِّقْوة الشَّغْواء عنها ** مخالبُها كأطْرافِ الأشافي ) وقال بشر أيضاً : فإن تجعلِ النَّعماء منك تمامَةًونُعماك نعمى لا تزال تفيضُ ( تكنْ لك في قومي يدٌ يشكرونها ** وأيدي النّدى في الصالحين قروض ) وعلى شبيهٍ بهذا البيت الآخر قال الحطيئة : ( مَنْ يفعل الخيرَ لا يَعدَمْ جوازيَهُ ** لا يذْهبُ العُرْفُ بين اللّهِ والنَّاسِ ) ==

مجلد 10. من كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

وقال عقيل بن العرندس : ( حبيبٌ لقرطاسٍ يؤدِّي رسالة ** فيالكِ نفساً كيف حان ذُهولها ) ( وكنت كفرخِ النسْر مُهِّد وكْرُه ** بملتفَّةِ الأفنانِ حيلٌ مقيلُها )
التمساح والسمك وأما قوله : ( وتِمْسحٌ خَلَّلَهُ طائرٌ ** وسابحٌ ليس له سَحْرُ ) فالتمساح مختلف الأسنان فينشب فيه اللحم فيغمُّه فيُنتن عليه وقد جُعل في طبعه أن يخرُج عند ذلك إلى الشط ويشحا فاه لطائر يعرفه بعينه يقال إنه طائرٌ صغير أرقط مليح فيجيء من بين الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقرُه بمنقاره حتّى يستخرج جميع ذلك اللحم فيكون غذاءً له ومعاشاً ويكونُ تخفيفاً عن التِّمساح وترفيهاً فالطائر الصغير يأتي ما هنالك يلتمس وأما قوله : وسابح ليس له سَحْر فإن السمك كلَّه لا رئة

له قالوا : وإنما تكون الرِّئة لمن يتنفس هذا وهم يرون منخري السَّمك والخرق النَّافذ في مكان الأنف منه ويجعلون ما يرون من نفسه إذا أخرجوه من الماء أن ذلك ليس بنفس يخرج من المنخرين ولكنه تنفس جميع البدن .
العث والحفاث وأما قوله : ( والعُث والحُفّاث ذو نفخةٍ ** وخرنقٌ يسفِده وَبْرُ ) فإنَّ الحُفَّاث دابّة تشبه الحيّة وليست بحيّة وله وعيدٌ شديدٌ ونفْخ وتوثُّب ومن لم يعرفْه كان له أشدَّ هيبةً منه للأفاعي والثّعابين وهو لا يضرُّ بقليل ولا كثير والحيّات تقتله وأنشد : ( أيفايشون وقد رأوْا حُفّاثهم ** قَدْ عضَّه فقضى عليه الأسودُ ) والعثُّ : دويْبة تقرض كلَّ شيء وليس له خطرٌ ولا قوّة ولا بدن .
قال الرَّاجز :

( يحثُّني ورْدانُ أيَّ حثّ ** وما يحثُّ من كبيرٍ عَثِّ ) إهابُه مثلُ إهاب العُثّ ( وعَثٍّ قدْ وكلْتُ إليه أهْلي ** فطاحَ الأهلُ واجتِيحَ الحريمُ ) ( وما لاهى به طرفٌ فيوحي ** ولا صَكٌّ إذا ذكر القضِيمُ ) وأنشد آخر : ( فإن تشتمونا على لُؤْمِكُمْ ** فقد يقرض العثُّ مُلْسَ الأديمِ )
وقالوا في الحُفَّاث هجا الكروبي أخاه فقال : ( حُبارى في اللِّقاء إذا التقينا ** وحُفَّاثٌ إذا اجتمع الفريقُ ) وقال أعرابي : ( ولستُ بحفَّاثٍ يُطاوِلُ شَخْصَهُ ** وينفخُ نَفْخَ الكيرِ وهو لَئيمُ ) وقع بين رجلٍ من العرب ورجل من الموالي كلامٌ فأربى عليه المولى وكان المولى فيه مَشابهُ من العرب والأعراب فلم يشكَّ ذلك العربيُّ

أن ذلك المولى عربيُّ وأنَّه وسط عشيرتِه فانخزل عنه فلم يكلمْه فلما فارقه وصار إلى منزله علم أنه مولى فبكر عليه غُدوةً فلما رأى خِذْلان جلسائه له ذلَّ واعتذر فعند ذلك قال العربيُّ في كلمةٍ له : ( ولم أدْرِ ما الحفاثُ حتّى بلوتُه ** ولا نفض للأشخاصِ حتّى تكشّفَا ) وقد أدركتُ هذه القضية وكانت في البحرَين عند مسحر بن السكن عندنا بالبصرة فهو قوله : والعثّ والحفّاث ذو نفخةٍ لأن الحفاث له نفْخ وتوثُّب وهو ضخمٌ شنيعُ المنظر فهو يهول من لا يعرفه .
وكان أبو ديجونة مولى سليمان يدَّعي غاية الإقدام والشَّجاعة والصَّرامة فرأى حُفّاثاً وهو في طريق مكة فوجده وقد قتله أعرابيٌّ ورآه أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد فلم يشك إلا أنه أخبتُ من الأفعى ومن الثعبان وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببْر والنمر في نِقاب فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه وقال : ما أنا اليوم إلا ذيخ وما ينبغي لمن أحسَّ بنفسه مثل الذي أُحِس أن يُرمى في المهالك والمعاطب وينبغي أن يستبقيها لجهادٍ

أو دفعٍ عن حُرْمة وحريمٍ يذبُّ عنه وذلك أني هجمْت على هذه الحيّة وقد منعت الرِّفاق من السُّلوك وهربت منها الإبل وأمعَنَ في الهرب عنه كلُّ جمّالٍ ضخم الجزارة فهزتني إليه طبيعة الأبطال فراوغتها حتى وهب اللّه الظَّفر وكان من البلاء أنها كانت بأرضٍ ملساء ما فيها حصاة وبصُرْتُ بفهر على قاب غلوة فسعيت إليه وأنا أسوارٌ كما تعلمون فو اللّه ما أخطاتُ حاقَّ لهِزْمته حتى رزق اللّه عليه الظَّفر وأبوه والقومُ ينظرون في وجْهه وهم أعلم النَّاس بضعْف الحُفّاث وأنَّه لم يؤذ أحداً قط فقال له أبوه : ارم بهذا من يدك لعنك اللّه ولعنهُ معك ولعنَ تصديقي لك ما كنْت تدَّعيه من الشَّجاعة والجراءة فكبّروا عليه وسمَّوة قاتل ومما هجوا به حين يشبِّهون الرَّجل بالعث في لؤْمه وصِغر قَدرِه قول مُخارق الطائي حيث )

( سقط : صفحة من الكتاب ) ( عن الأضياف والجيران عزب ** فأودت والفتى دنس لئيم ) ( وإني قد علمت مكان ظرف ** أغر كأنه قرس كريم ) ( له نعم يعام المحل فيها ** ويروى الضيف والزق العظيم ) الوبر والخرنق وأما قوله : وخِرنقٌ يسفدُه وبْرُ فإنَّ الأعراب يزعمون أنّ الوبْر يشتهِي سِفاد العِكرشَة وهي أنثى الأرانب ولكنّه يعجز عنها فإذا قدَر على ولدِها وثَبَ عليه والأنثى تسمى العِكرِشة والذَّكر هو الخُزَر والخِرنِق ولدهما قال الشاعر : ( قبَحَ الإلَه عِصابةً نادمتُهمْ ** في جَحْجَحان إلى أسافِلِ نقنقِ ) ( أخَذُوا العِتَاق وعرَّضُوا أحسابَهُمْ ** لمحَرَّبٍ ذَكَرِ الحديدِ مُعرِّقِ )

( ولقد قرعتُ صَفاتَكمْ فوجدْتُكم ** مُتشبِّثين بزاحفٍ متعلِّقِ ) ( ولقد غَمَزْتُ قناتَكم فوجدتها ** خرْعاءَ مَكْسِرُها كعودٍ محرَقِ ) ( ولقد قبَضْتُ بقلبِ سَلْمةَ قبضةً ** قبْضَ العُقابِ على فؤاد الخِرنقِ ) قالوا : إنه قالها أبو حبيب بعد أن قال جُشَمُ ما قال وقد قدَّم إليه طعامه .
مايشبه الخزز ووصف أعرابيٌّ خلْقَ أعرابيٍّ فقال : كأن في عََضَلته خُزَزاً وكأنّ في عضده جُرذاً .
وأنشدوا لماتحٍ ووصفَ ماتحاً ورآه يستقي على بئرهِ فقال : ( أعدَدْت للوِرد إذ الوِردُ حَفزْ ** دَلواً جَرُوراً وجَلالاً خُزَخِزْ ) ( وماتِحاً لا ينْثَني إذا احتجَزْ ** كأنَّ تحتَ جِلْدِه إذا احتفزْ ) في كلِّ عضوٍ جُرَذين أو خُزَزْ وسنقول في الأرنب بما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى .

وسنقول في الأرانب بما يحضرنا إن شاء الله تعالى .
القول في الأرانب قال الشاعر : ( زَعَمَتْ غُدانة أن فيها سيِّداً ** ضخماً يوازِنه جنَاحُ الجنْدبِ ) ( يُروِيه ما يُروِي الذُّبابَ فينتَشي ** سُكراً ويُشْبِعه كراعُ الأرنب ) وإنما ذكرَ كراعَ الأرنب من بين جميع الكراعات لأنَّ الأرنب هي الموصوفة بقصر الذِّراع وقصر اليد ولم يُرد الكُراع فقط وإنما أراد اليدَ بأسْرها وإنما جعل ذلك لها بسببٍ نحن ذاكروه إن والفرس يُوصف بقِصر الذِّراع فقط . 4

التوبير

والتَّوبير لكلِّ محتالٍ من صغار السِّباع إذا طَمِع في الصيد

أو خاف أنْ يُصاد كالثّعلب وعَناقُ الأرض هي التي يقال لها التُّفَة وهي دابّة نحو الكلْب الصَّغير تصيد صَيداً حسناً وربَّما واثبَ الإنسان فعقَرَه وهوأحسن صيداً من الكلْب .
وفي أمثالهم : لأَنتَ أغنى من التفَةِ عن الرُّفة وهو التِّبن الذي تأكله الدوابُّ والماشية من جميع البهائم والتُّفة سبعٌ خالصٌ لا يأكل إلا اللحم .
والتَّوبير : أن تَضمَّ بَرَاثنِها فلا تطأ على الأرض إلا ببطن الكفِّ حتى لا يُرَى لها أثر براثِنَ وأصابع وبعضها يطأ على زمَعاته وبعضها لا يفعل ذلك وذلك كله في السهل فإذا أخذت في الحُزونة والصَّلابة وارتفعت عن السَّهل حيث لا تُرَى لها آثارٌ قالوا : ظلفت الأثر تظلفه ظلْفاً وقال النُّميري : أظلفَت الأثر إظلافاً .
بعض ما قيل في الأرنب وعن عبد الملك بن عمير عن قَبيصة بن جابر : ما الدُّنيا

في الآخرةِ إلاّ كنفْجة أرنب .
وقال أبو الوَجيه العُكْلي : لو كانت واللّه الضبّة دجَاجةً لكانت الأرنب دُرَّاجة ذهب إلى أنّ الأرانب والدُّرَّاج لا تستحيل لحومها ولا تنقلِبُ شحوماً وإنّما سِمَنها بكثرة اللّحم وذهب إلى ما يقول المعجبون منهم بلحْم الضّبّ فإنّهم يزعُمون أنّ الطعمين متشابهان وأنشد : ( وأنتَ لو ذُقْتَ الكشى بالأكبادْ ** لما تَرَكْتَ الضَّبَّ يَسعَى بالوادْ ) قال : والضبّ يعرض لبيض الظّليم ولذلك قال الحجَّاج لأهل الشّام : إنّما أنا لكم كالظّليم الرَّامح عن فراخه ينفي عنها المَدَر ويباعدُ عنها الحجَر ويُكِنُّها من المطَر ويحميها من الضِّباب ويحرُسُها من

الذئاب يا أهلَ الشّام أنتم الجُنّة والرِّداء وأنتم العُدّة والحذاء . 4

ما يشبه بالأرنب

ثم رجع بنا القول إلى الأرانب فممَّا في الخيل مما يُشبِه الأرنب قول الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذعٌ سَمَا فوقَ النَّخيل مشذَّبُ ) ( وإذا تصفَّحه الفَوارِسُ مُعْرِضاً ** فتقولُ سِرْحَانُ الغَضَا المتنصِّبُ ) ( أمَّا إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يُقمِّصُها وظيف أحْدَبُ ) ( مِنْه وجاعرةٌ كأنّ حَماتَها ** كشَطتْ مَكان الجَلِّ عَنْهَا أَرْنَبُ ) ( كأنّ حَماتَيْهمَا أرْنَبا ** ن غيضتا خيفةَ الأَجْدَلِ )

4

طول عمر الأغضف والأرنب

وأنشد الأثرم : ( بأغْضَفَ الأُذْنِ الطَّوِيل العمر ** وأرنب الخُلّةِ تِلْوُ الدَّهرِ ) قد سمعتُ من يذكر أنّ كِبَرَ أذنِ الإنسان دليلٌ على طُول عمره حتَّى زعُموا أنّ شيخاً من الزَّنادقة لعنهم اللّه تعالى قدّموه لتُضرب عنقُه فعَدَا إليه غلامٌ سعديٌّ كان له فقال : أليسَ قد زعمتَ يا مولايَ أنّ من طالت أذُنه طال عمره قال : بلى قال : فهاهم يقتلونك قال : إنما قلت : إن تركوه .
وأنا لا أعرف ما قال الأثرم ولا سمعتُ شِعراً حديثاً ولا قديماً يُخبرُ عن طول عُمر الأرنب قال الشّاعر : ( مِعْبلة في قِدْح نَبْعٍ حادِرْ ** تسقى دَم الجوفِ لظفرِ قاصرْ ) ( إذ لا تزال أرنبٌ أو فادِرْ ** أو كروانٌ أو حُبارى حاسِرْ ) إلى حمار أو أتان عاقرْ

لبن الأرانب قال : ويزعمون أنه ليس شيءٌ من الوحْش في مثل جسم الأرنب أقلَّ لبناً ودُرُوراً على ولَدٍ منها ولذلك يُضرَبُ بدَرِّها المثل فممَّن قال في ذلك عَمرو بن قَميئة حيث يقول : ( ليس بالمطعم الأرانِب إذْ قلّ ** ص دَرُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ ) ( ورأيتَ الإماء كالجِعثن البا ** لي عُكوفاً على قُرارة قِدْرِ ) ( ورأيتَ الدُّخانَ كالودع الأه ** جَنِ يَنباع من وراء السِّترِ ) ( حاضرٌ شرُّكُمْ وخَيْرُكمُ دَ ** رُّ خرُيسٍ من الأرانب بِكرِ ) 4

قصر يدي الأرنب

والأرنب قصير اليدين فلذلك يخفُّ عليه الصَّعْداء والتوقُّل في الجبال وعَرف أنّ ذلك سهلٌ عليه فصرَفُ بعضَ حِيله إلى ذلك عند إرهاق الكلاب إيَّاه ولذلك يعجَبون بكلِّ كلبٍ قصير اليدين لأنه إذا كان كذلك كان أجدر أن يلحقها . 4

من أعاجيب الأرنب

وفي الأرانب من العجب أنها تحيض وأنها لا تسمن وأن قضيب الخُزَزِ ربَّما كان من عظمٍ على صورة قضيب الثّعلب .


ومن أعاجيبها أنّها تنام مفتوحةََ العَين فربَّما جاء الأعرابيُّ حتّى يأخذها من تلقاء وجهها ثقةً منه بأنَّها لا تبصر .
وتقول العرب : هذه أرنبٌ كما يقولون : هذه عُقاب ولايذكّرون وفيها التَّوبير الذي ليس لشيءٍ من الدوابِّ التي تحتال بذلك صائدةً كانت أو مصيدةً وهو الوطْء على مؤخر القوائم كي لا تعرف الكلابُ آثارها وليس يعرفُ ذلك من الكلابِ إلاّ المَاهر وإنَّما تفَعل ذلك في الأرض اللَّيِّنة وإذا فعلَتْ ذلك لم تسرع في الهرَب وإن خافت أن تدرَك انحرفت إلى الحُزونة والصَّلابة وإنما تستعمل التَّوبير قبل دنو الكلاب .
وليسَ لشيء من الوَحْش ممّا يُوصَف بِقصَر اليدَينِ ما للأرنَب من السرعة والفرس يوصف بقصر الكُراع فقط . 4

تعليق في كعب الأرنب

وكانت العربُ في الجاهليَّة تقول : مَن عُلّق عليه كعبُ أرنب لم تصبهُ عينٌ ولا نفسٌ ولا سِحر وكانت عليه واقيةٌ لأَنَّ الجنَّ تهرب منها وليست من مطاياها لمكان الحيض .
وقد قال في ذلك امرؤ القيس :

( مُرَسِّعَةٌ بين أرساغه ** به عَسَمٌ يبتغي أرْنبا ) ( ليجْعَل في يَدِهِ كَعْبَهَا ** حِذَار المنيَّة أنْ يَعْطَبا ) وفي الحديث : بكى حتَّى رسعت عينه مشَدَّدة وغير مشدَّدة أي قد تغيَّرت ورجلٌ مرسِّع وامرأة مرسِّعة . 4

تعشير الخائف

وكانوا إذا دخل أحدهم قريةً من جِنِّ أهلها ومن وباء الحاضرة أشدّ الخوف إلاّ أن يقِف على باب القَرية فيعشِّرَ كما يعشِّرُ الحمارُ في نهيقه ويعلِّق عليه كعبَ أرْنب ولذلك قال قائلهم : ( ينفع التَّعشيرُ في جَنْبِ جِرْمة ** ولا دَعدعٌ يغني ولا كعبُ أرْنبِ ) الجِرمة : القطعة من النّخل وقوله : دعدع كلمةٌ كانوا يقولونها عند العِثار وقد قال الحادرة : ( ومَطِيَّةٍ كلّفْتُ رَحْلَ مَطِيَّةٍ ** حَرَجٍ تُنمُّ من العِثَارِ بدَعْدَعِ )

وقالت امرأةٌ من اليهود : ( وليس لوالدةٍ نَفْثُها ** ولا قَوْلُها لابنها دَعْدَعِ ) ( تداري غراء أحواله ** وربُّك أعْلَمُ بالمصْرَعِ ) لَعمْري لئنْ عشَّرْتُ من خيفةِ نُهاقَ الحَمير إنّني لجَزوعُ 4

نفع الأرنب

وللأرنب جلدٌ وَوَبَرٌ يُنتَفع به ولحمه طيِّب ولا سيَّما إنْ جُعل مَحْشياً لأنّه يجمع حُسنَ المنظر واستفادة العلم مما يرون من تدبيرها وتدبير الكلاب والانتفاع بالجلد وبأكل اللّحم وما أقلَّ ما تجتمع هذه الأمورُ في شيءٍ من الطَّير .


وأما قوله : ( إذا ابتدَرَ النّاسُ المعالي رأيتَهم ** قياماً بأيديهم مسوكُ الأرانبِ ) فإنّه هجاهم بأنّهم لا كسب لهم إلاّ صيدُ الأرانبِ وبيع جلودها .
الحُلكاء وأمّا قوله : ( وغائصٌ في الرمل ذو حدَّةٍ ** ليس له نابٌ ولا ظُفْرُ ) فهذا الغائص هو الحلكاء والحلكاء : دويْبّة تغوصُ في الرمل كما يصنع الطَّائر الذي يسمّى الغَمّاس في الماء وقال ابن سُحيم في قصيدته التي قصَد فيها للغرائب : شحمة الرمل وممَّا يغوص في الرَّمل ويسبح فيه سباحة السَّمكة في الماء شحْمةُ الرَّمل وهي شحمة الأرض بيضاء حَسَنَةٌ يشبّه بها كفُّ المرأة وقال ذو الرُّمَّة في تشبيه البَنان بها :

( خراعيب أمْثالٌ كأنّ بنانَها ** بَناتُ النقا تخْفَى مراراً وتظهرُ ) وقال أبو سليمان الغَنَوي : هي أعرض من العظاءة بيضاء حسنةٌ منقطة بحمرة وصُفرة وهي أحسنُ دوابِّ الأرض .
وتشبّه أيضاً أطرافُ البنانِ بالأساريع وبالعنم إذا كانت مُطَرَّفة وقال مرقّش : ( النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دنا ** نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ ) وصاحب البلاغة من العامَّة يقول : كأنّ بَنانها البَيَّاح والدُّواج ولها ذراعٌ كأنها شَبُّوطة .
ويشبه أيضاً بالدِّمقس .
شعر فيه خرافة ومن خرافات أشعار الأعراب يقول شاعره : ( أشكو إلى اللّه العليِّ الأمجد ** عشائراً مثلَ فراخ السرهدِ )

( عشائراً قد نبَّفوا بفَدفَدِ ** قد ساقَهمْ خبث الزمان الأَنكَدِ ) ( وكلّ نفّاض القفا ملهّد ** ينصِبُ رِجْليَه حِذار المعتدي ) ( وشحْمة الأرض وفَرْخ الهُدهُد ** والفَار واليَرْبوع ما لم يسفَدِ ) ( فنارهم ثاقبةٌ لم تخْمُد ** شواء أحناشٍ ولم تفرّدِ ) ( من الحُبينِ والعظاء الأجردِ ** يبيتُ يَسْري ما دنا بفدفدِ ) ( وكلِّ مقطوعِ العرا معلكدِ ** حَتَّى ينالوه بعود أوْ يَدِ ) ( منها وأبصار سَعَالٍ جُهَّدِ ** يغدون بالجهد وبالتشرُّدِ ) زَحْفاً وحَبْواً مثل حَبْوِ المُقْعَدِ الحرباء

الحرباء وأمّا قوله : ( حِرباؤها في قيْظها شَامِسٌ ** حتَّى يوافي وَقته العَصْرُ ) ( يَميل بالشِّقِّ إليها كما ** يميل في رَوْضَتِهِ الزّهْرُ ) قال : والحِرباء دويْبَّة أعظَم من العظاءة أغبَرُ ما كان فرخاً ثم يصفرّ وإنّما حياتُه الحر فتراه أبداً إذا بدت جَونة يعني الشَّمس قد لجأ بظهْره إلى جُذيل فإن رمضت الأرضُ ارتفع ثم هو يقلّب بوجهه أبداً مع الشَّمس حيث دارت حتَّى تغرب إلا أنْ يخاف شيئاً ثم تراه شَابحاً بيدَيه كما رأيت من المصلوب وكلما حميت عليه الشَّمس رأيتَ جلدَه قد يخضرّ وقد ذكره ذو الرُّمَّة بذلك فقال : ( يظلُّ بها الحِرباءُ للشَّمس ماثلاً ** على الجِذلِ إلاّ أَنّه لا يكبِّرُ )

( إذا حَوَّل الظّلَّ العِشيِّ رأيتَه ** حَنِيفاً وفي قرْن الضُّحَى يَتَنَصَّرُ ) ( غَدَا أصفَرَ الأعْلى ورَاحَ كأنَّ ** من الضِّحِّ واستقبالهِ الشَّمْسَ أخضَرُ ) خضوع بعض الأحياء للشمس وكذا الجمل أيضاً يستقْبل بهامته الشَّمس إلاّ أنه لا يدور معَها كيف دارَت كما يفعل الحرباء وشقائقُ النُّعمان والخِيريّ يصنع ذلك ويتفتَّحُ بالنهار وينضمُّ بالليل والنِّيلُوفر الذي ينبت في الماء يغيب الليل كلّه ويظهر بالنهار والسَّمك الذي يقال له الكَوسج في جوفه شحمة طيّبة وهم يسمُّونها

الكَبِد فإن اصطادُوا هذه السَّمكة ليلاً وجدوا هذه الشَّحمة فيها وافرةً وإن )
اصطادُوها نهاراً لم تُوجَد وقد ذكر الحطيئة دوران النّبات مع الشمس حيث يقول : ( بمُستأسدِ القُرْيانِ حُوٍّ تِلاعُه ** فنُوَّارُه مِيلٌ إلى الشَّمس زَاهِرُه ) وقال ذو الرُّمَّة : ( إذا جعَلَ الحِرباءُ يغبرُ لونُه ** ويخضرُّ من لَفْحِ الهَجير غَباغِبُه ) وقال ذو الرُّمَّة أيضاً : ( وهاجرةٍ من دُونِ مَيَّةَ لم يَقِل ** قلوصي بها والجُندبُ الجَوْنُ يَرْمحُ ) ( إذا جعَل الحِرباءُ ممَّا أصابَه ** من الحَرِّ يلوِي رأسَه ويرنِّحُ ) وقال آخر : ( كأنّ يدَيْ حِربائها متشَمِّساً ** يَدَا مُجرمٍ يَستغفِرُ اللّه تائب ) وقال آخر :

( لظًى يلفَحُ الحِرباءَ حتَّى كأنّه ** أخو حَرَباتٍ بُزَّ ثَوْبيه شابحُ ) وأنشدوا : ( قد لاحها يوَمٌ شموسٌ مِلهابْ ** أبْلجُ ما لشمسه منْ جلبابْ ) ( يرمي الإكام من حصاة طبطاب ** شال الحَرابيُّ له بالأذْنابْ ) وقال العباس بن مرداس : ( على قُلصٍ يعلو بها كلَّ سَبْسَبٍ ** تخالُ به الحِرباءَ أنشط جالِسا ) وقال الشّاعر : ( تجاوَزتُ والعُصفورُ في الحجرِ لاجئ ** الصَّبِّ والشِّقذانُ تسمو صُدورُها ) ( واستَكَنّ العُصفورُ كَرْهاً مع الضَّ ** بِّ وأوَفى في عُودِهِ الحرْباءُ ) والشِّقْذان : الحرابي وقوله : تسمو أي ترتفع في الشجرة

وعلى رأس العود والواحدِ من الشِّقذَان بإسكان القاف وكسر الشِّين شَقَذ بتحريك القاف .
وأنشد : ( ففيها إذا الحِرباءُ مَدَّ بكفّه ** قام مَثيلَ الرَّاهبِ المتعبِّدِ ) وذلك أنّ الحِرباء إذا انتصف النّهار فعلا في رأس شجرةٍ صار كأنَّه راهبٌ في صومعتِه .
وقال آخر : ) ( أنَّى أُتيحَ لَكُم حِرباءُ تنضبةٍ ** لا يترُكُ السَّاق إلاّ مُمْسكاً سَاقَا ) التشبُّه بالعرب قال : وكان مولى لأبي بكر الشّيباني فادَّعى إلى العرب مِنْ ليلته فأصبح إلى الجُلوس في الشمس قال : قال لي محمد بن منصور : مررْتُ به

فإذا هو في ضاحيةٍ وإذا هويحكُّ جلده بأظفاره خمْشاً وهو يقول : إنما نحن إبل .
وقد كان قيل له مرَّة : إنَّك تتشبّه بالعرب فقال : ألي يقال هذا أنا واللّه حِرباء تنضُبة يشهدُ لي سوادُ لَوني وشَعاثَتي وغَوْر عينيّ وحُبي للشَّمس .
قال : والحِرباء ربَّما رأى الإنسان فتوعَّدَه ونفَخ وتطاول له حتَّى ربَّما فزِع منه مَن لم يعرفْه وليس عندَه شرٌ ولا خير .
وأمَّا الذي سمعناه من أصحابنا فإنَّ الورَل السّامد هو الذي يفعل ذلك ولم أسمعْ بهذا في الحِرباء إلا من هذا الرجل .
قال : والحِرباء أيضاً : المسمار الذي يكون في حَلقة الدِّرع وجمعه حرابي .
استدراك لما فات من ذكر الوبر وقد كنا غفلنا أنْ نذكر الوَبْر في البيت الأول قال رجلٌ من بني تغلب :

( إذا رَجوْنَا ولداً من ظَهْرِ ** جاءَتْ بهِ أسْوَد مثلَ الوَبر ) من بارد الأدنَى بعيدِ القَعْر وقال مُخارقُ بنِ شهاب : ( فيا راكباً إمَّا عرَضْتَ فبلِّغن ** بني فالج حيثُ استقرَّ قرارُها ) ( هلُمُّوا إلينا لا تكونوا كأنَّكم ** بلاقعُ أرضٍ طار عنه وِبارُها ) ( وأرض التي أنتم لقيتم بجوِّها ** كثيرٌ بها أوعالُها ومدارها ) فهجا هؤلاء بكثرة الوِبار في أرضهم ومدح هؤلاء بكثرة الوعول في جَبَلهم وقال آخر : ( جُعَلٌ تمَطّى في غَيابتهِ ** زَمِرُ المروءةِ ناقص الشَّبْرِ ) ( لِزَبابةٍ سَوداءَ حَنْظلةٍ ** والعاجز التّدبيرِ كالوَبْرِ ) ويَضرب المثل بنتْن الوبْر ولذلك يقول الشاعر :

( تطلّى وهْيَ سيِّئة المُعَرَّى ** بوضْر الوَبر تحسَِبُه مَلابَا )
ونتن الوبر هو بَول مما يتمازح به الأعراب ومما تتمازح به الأعراب فمن ذلك قول الشاعر : ( قد هدَمَ الضِّفدعُ بيتَ الفاره ** فجاء الرُّبْيةِ والوِبارَهْ ) وحلَمٌ يَشدُّ بالحِجاره وهذا مثلُ قولهم : ( اختلط النَّقد على الجِعْلانْ ** وقد بقي دريهمٌ وثلْثانْ )

الظرِبان وأمَّا قوله : ( والظَّربانُ الوَرْدُ قد شفّه ** حُبُّ الكشي والوحَرُ الحُمْرُ ) ( وليس يُنْجيه إذا ما فسَا ** شيءٌ ولَوْ أحرَزَهُ قَصْرُ ) قال أبو سليمان الغنويُّ : الظّربان أخبثُ دابَّةٍ في الأرض وأهلَكه لفراخ الضَّبّة .
قال : فسألت زيدَ بن كثْوَة عن ذلك فقال : إي واللّه وللضَّبّ الكبير .
والظَّرِبان دابّة فسّاءَه لا يقوم لشَرِّ فسْوها شيءٌ قلت : فكيف يأخذها قال : يأتي جُحر الضَّبّ وهو ببابه يستَروِح فإذا وجد الضّبُ ريحَ فسْوه دخل هارباً في جُحره ومَرَّ هو معه من فوق الجُحر مستمعاً حَرْشَه وقد أصغى بإحدى أذُنيه من فوق الأرض نحوَ صوته وهو أسمع دابَّةٍ في الأرض فإذا بلغ الضبُّ منتهاه وصار إلى أقصى جُحره

وكفَّ حَرشَه استدَبَر جُحره ثم يَفْسُو عليه من ذلك الموضع وهو متى شمّه غُشيَ عليه فيأخذه .
قال : والظّرِبان واحدٌ والظِّرْبان : الجميع مثل الكَرَوان للواحد والكِرْوان للجميع وأنشد قولَ ذي الرُّمَة : ( من آلِ أبي موسى تَرَى القَوْمَ حَوْلَهُ ** كأنَّهمُ الكِرْوان أبصَرْن بازِيا ) والعامّة لا تشكُّ في أنَّ الكَرَوَان ابنُ الحُبارَى لقول الشاعر : ( ألم تَر أنّ الزُّبد بالتَّمْرِ طَيِّبٌ ** وأنّ الحُبارَي خالَةُ الكَرَوَانِ ) وقال غيره : الظَّربان يكونُ على خلقة هذا الكلب الصِّينيِّ وهو منتنٌ جدّاً يدخل في جُحر والضّباب الدلالي أيضاً التي يدخُل عليها السَّيلُ فيخرجها وأنشد : ) ( يا ظَرباناً يتعشّى ضَبّاً ** رَأى العُقاب فَوْقهُ فخبّا ) ( كأنَّ خُصْييَه إذا أكبّا ** فَرُّوجتان تطلبان حَبَّا ) أوْ ثَعلبَان يَحْفِزان ضبَّا

وأنشد الفرزدق : ( أبوك سليمٌ قَدْ عَرَفْنا مكانه ** وأنت بجيريّ قصيرٌ قوائمُهُ ) ( ومن يجعل الظِّرْبى القصار ظُهورُها ** كمنْ رفَعَتْهُ في السماء دعائمهُ ) سلاح بعض الحيوان قال : والظَّرِبان يعلم أنَّ سلاحه في فسائه ليس شيءٌ عندَه سواه والحبارى تعلم أنَّ سِلاحها في سَلْحها ليس لها شيءٌ سواه قال : ولها في جوفها خِزانةٌ لها فيها أبداً رَجْعٌ مُعدٌّ فإذا احتاجتْ إليه وأمكنَها الاستعمال استعملَتْه وهي تعلم أنَّ ذلك وقايةٌ لها وتعرف مع ذلك شدَّة لَزَجه وخبث نَتْنِه وتعلم أنها تساور بذلك الزُّرَّق وأنها تُثقله فلا يصيد .
ويعلم الدِّيك أنَّ سلاحه في صيصيته ويعلم أنَّ له سلاحاً ويعلم أنّه تلك الشوكة ويدري لأيّ مكانٍ يعتلج وأيَّ موضعٍ يطعن به .


والقنافذ تعلم أنّ فروتها جنّة وأنّ شوك جلدها وقايةٌ فما كان منها مثل الدُّلدل ذوات المداري فإنها ترمي فلا تُخْطِئ حتى يمرَّ مُرُورَ السهم المُسدَّد وإن كانت من صغارها قبضتْ على الأفعى وهي واثقةٌ بأنّه ليس في طاقة الأفعى لها من المكروه شيء ومتى قبضتْ على رأس الأفعى فالخطب فيها يسير وإن قبضتْ على الذنَبِ أدخلَتْ رأسها فقرضتها وأكلتها أكلاً وأمكنَتها من جسمها تصنع ما شاءت ثقةً منها بأنّه لايصل إليها بوجهٍ من الوجوه .
والأجناس التي تأكل الحيَّاتِ : القنافذُ والخنازير والعِقْبانُ والسّنانيرُ والشاهُمرْك على أن النّسور والشاهمرك لا يتعرَّضان للكبار .
ويعلم الزُّنبور أن سلاحه في شَعْرته فقط كما تعلم العقربُ أن سلاحها في إبرتها فقط وتعلم الذِّبان والبعوضُ والقَملة أن سلاحها في خراطيمها وتعلم جوارحُ الطّير أن سِلاحها في مخالبها ويعلم الذِّئبُ والكلبُ أنّ سلاحهما في أشداقهما فقط ويعلم الخنزير والأفعى أنّ سلاحهما في أنيابهما فقط .
ويعلم الثّور أنّ سلاحه قرنُه لا سلاحَ له غيره فإن لم يجد الثّورُ

والكبشُ والتّيس قروناً )
وكانت جُمّاً استعملتْ باضطرارٍ مواضع القُرون .
والبِرذون يستعمل فمه وحافر رجله .
ويعلم التِّمْساح أنّ أحدّ أسلحته وأعْونَها ذَنبُه ولذلك لايعرِض إلاّ لمن وجَدَه على الشريعة فإنّه يضربه ويجمعُه إليه حتى يُلقيَه في الماء .
وذنَب الضبّ أنفع من براثنه . لُجوء بعض الحيوان إلى الخبث وإنما تفزع هذه الأجناس إلى الخُبث وإلى ما في طبعها من شدَّة الحُضْر إذا عَدِمت السِّلاح فعند ذلك تستعمل الحيلَة : مثلَ القُنفذِ في إمكان عَدوِّهِ من فرْوته ومثلَ الظّبي واستعمال الحضْر في المستوي ومثل الأرنب واستعماله الحضْر في الصَّعْداء .
وإذا كان ممن لا يرجع إلى سلاحه ولا إلى خبثه كان إمَّا أن يكون أشدَّ حُضْراً ساعة الهربِ من غيره وإمَّا أن يكون ممَّن لا يمكنه الحضْر ويقطَعه الجبْن فلا يبرح حتَّى يؤخذ .
ما يقطعه الجبن من الحيوان وإنما تتقرَّب الشّاة بالمتابعة والانقياد للسّبع تظنُّ أن ذلك ممّا ينفعها فإن الأسد إذا أخذ الشّاة ولم تتابعه ولم تعِنْه على نفسها

فربما اضطُرّ الأسد إلى أن يجرَّها إلى عرينه وإذا أخذها الذئب عدَتْ معه حتّى لا يكونُ عليه فيها مَؤُونة وهو إنما يريد أن ينحِّيَها عن الراعي والكلب وإن لم يكن في ذلك الوقت هناك كلبٌ ولا راع فيرى أن يجري على عادته .
وكذلك الدَّجاج إذا كُنَّ وُقَّعاً على أغصان الشَّجر أو على الرُّفوف فلو مرَّ تحتها كلُّ كلبٍ وكلُّ سنّور وكلُّ ثَعلب وكلُّ شيءٍ يطالبها فإِذا مرَّ ابن آوى بقُربها لم يبق منها واحدةٌ إلاّ رمت بنفْسها إليه لأنّ الذِّئب هو المقصود به إلى طباع الشاة وكذلك شأنُ ابن آوى والدَّجاج يخيَّلُ إليها أن ذلك مما ينفع عنده وللجُبن تفعل كلّ هذا .
ولمثل هذه العلَّة نزل المنهزم عن فرسه الجوادِ ليُحْضر ببدنه يظنُّ اجتهاده أنجى له وأنّه إذا كان على ظهر الفرَس أقلُّ كَدّاً وأنَّ ذلك أقرب له إلى الهلاك .
ولمثل هذه العلَّة يتشبَّثُ الغريق بمن أراد إنقاذه حتَّى يُغرِقَه نفسَه وهما قبل ذلك قد سمعا بحال الغريق والمنهزم وأنّهما إنّما هما

في ذلك كالرجل المعافَى الذي يتعجَّب ممن يشرب الدَّواء من يد أعلم النَّاس به فإن أصابتْه شقيقة أو لسعة عقرب أو اشتكى خاصِرته أو أصابه حُصْر أو ) أُسْر شرب الدَّواءَ من يد أجهل الخليقة أو جَمع بين دواءين متضادَّين .
فالأشياء التي تعلم أنَّ سِلاحها في أذنابها ومآخرها الزُّنبور والثَّعلب والعقرب والحُبارى والظَّرِبان وسيقع هذا البابُ في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وليس شيءٌ من صنف الحيوان أردأَ حيلةً عند معاينة العدوِّ من الغنم لأنها في الأصل موصولةٌ بكفايات النَّاس فأسندت إليهم في كل أمْرٍ يصيبها ولولا ذلك لخرَّجت لها الحاجة ضروباً من الأبواب التي تعينها فإذا لم يكن لها سلاحٌ ولا حيلة ولم تَكن ممن يستطيع الانسياب إلى جُحرهِ أو صدع صخرة أو في ذرْوة جبل كانت مثل الدَّجاجة فإنَّ أكثر ما عندها من الحيلة إذا كانت على الأرض أن ترتفع إلى رَفٍّ وربّما كانت في الأرض فإذا دنا المغرب فزعت إلى ذلك .


ما له ضروب من السلاح وربّما كان عند الجنس من الآلات ضروبٌ كنحو زبرة الأسد ولبدته فإنَّه حَمولٌ للسِّلاح إلاَّ في مراقِّ بطنه فإنّه من هناك ضعيفٌ جدّاً وقال التغلبي : ( تَرى النَّاسُ مِنَّا جلدَ أسْودَ سالخٍ ** وزُبْرَة ضِرْغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ ) وله مع ذلك بَعدُ الوثبة واللُّزوقُ بالأرض وله الحبس باليد وله الطَّعن بالمخلب حتى ربَّما حبَسَ العَيرَ بيمينه وطعن بِمِخْلب يساره لبَّته وقد ألقاه على مؤخره فيتلقَّى دمَه شاحياً فاه وكأنه ينصبُّ من فَوَّارَة حتى إذا شربه واستفرغه صار إلى شقِّ بطنه وله العضُّ بأنيابٍ صلابِ حداد وفكُّ شديد ومنخر واسع وله مع البُرثُن والشكِّ بأظفاره دقُّ الأعناق وحطم الأصلاب وله أنه أسرعَ حُضْراً من كلِّ شيءٍ أعمَلَ الحُضْرَ في الهرب منه وله من الصَّبر

على الجوع ومن قلَّة الحاجة إلى الماء مع غيره وربّما سار في طلب الملح ثمانين فرسخاً في يوم وليلة ولو لم يكن له سلاحٌ إلاَّ زئيره وتوقُّد عينيه وما في صدور النَّاس له لَكفاه .
والإنسان يستعملُ في القتال كفّيه في ضروبٍ ومرفقيه ورِجليه ومنكبيه وفمه ورأسَه وصدرَه كلُّ ذلك له سلاحٌ ويعلم مكانه يستوي في ذلك العاقلُ والمجنونُ كما يستويان في الهداية في الطَّعام والشراب إلى الفم .
سلاح المرأة والمرأة إذا ضعُفت عن كلِّ شيءٍ فزعت إلى الصُّراخِ والولولة التماساً للرَّحمة واستجلاباً للغياث من حُماتِها وكُفاتها أو من أهل الحسبة في أمرها . )
باب أسماء أولاد الحيوان قال : ويقال لولد السَّبع الهِجرِس والجمع هجارس ولولد الضبع

الفرعُل والجمعُ فراعل قال ابن حبناء : ( سلاحين منها بالرّكوب وغيرها ** إذا ما رآها فُرعُلُ الضَّبع كَفَّرا ) قال : والدَّيسم ولد الذّئب من الكلبة .
وسألت عن ذلك أبا الفتح صاحبَ قطرب فأنكر ذلك وزعم أنَّ الدَّيسمة الذَّرة واسم أبي الفتح هذا ديْسم .
ويقال إنَّه دويْبَّة غير ما قالوا .
ويقال لولد اليربوع والفأرِ درص والجمع أَدْرَاصٌ ويقال لولد الأرنب خِرنِق والجمع خرانق قال طرفة : ( إذا جَلسوا خيّلْتَ تحت ثيابهم ** خرانقَ تُوفي بالضَّغيبِ لها نَذْرا ) أشعارٌ فيها أخلاط من السباع والوحش والحشرات .
قال مسعود بن كبير الجرمي من طيئ يقولها في حمارٍ اشتراه فوجدَهُ على خلاف ما وصفهُ به النخّاس :

( إنّ أبا الخرشن شيءٌ هِنْبُ ** معجِّبٌ ما يحتويه العُجْبُ ) ( قد قلتُ لما أنْ أجدّ الرَّكبُ ** واعتر القوم صحار رحبُ ) ( يا أجْنحُ الأُذنِ ألا تخبُّ ** أهانك اللّه فبئسَ النَّجْبُ ) ( ما كان لي إذ أشتريك قلبُ ** بَلى ولكنْ ضاع ثَمَّ اللُّبُّ ) ( إن الذي باعك خبٌّ ضبُّ ** أخبرني أنّك عَيْرٌ نَدْبُ ) ( وشرُّ ما قال الرِّجال الْكذِبُ ** صَبَّ عليه ضبُعٌ وذئبُ ) ( سرْحانَةٌ وجَيْأَلٌ قِرْشَبّ ** ذيخٌ عَدتْهُ رَمْلةٌ وهضبُ )

كأنه تحت الظَّلام سَقْبُ يأخذ منه من رآه الرُّعْبُ ( وأنت نَفَّاقٌ هناك ضبُّ ** وصبَحَ الراعي مُجَرّاً وغبُ ) ( ورخمات بَيْنهُنَّ كعبُ ** وأكرُعُ العَيْرِ وفرْثٌ رطْبُ ) يقول : أدنوني إلى شرائه ويقال ثرية لقيك لغة طائيَّة . )
وقال قِرْواش بن حَوْط : ( نبّئْتُ أن عقالاً بنَ خويلدٍ ** بنعافِ ذي عدَمٍ وأنَّ الأعلما )

( ضَبُعاً مجاهَرةٍ وليثَا هُدنةٍ ** وثعَيلبَا خمرٍ إذا ماء أظلَما ) ( لا تسأماني من رَسِيسِ عَداوَةٍ ** أبداً فلستُ بسائمٍ إنْ تسأمَا ) ( غُضَّا الوعيدَ فما أكونُ لموعِدِي ** فيئاً ولا أكُلاً له متخَضَّمَا ) ( فمتى ألاقِكما البراز تُلاَقيا ** عَرِكاً يفلُّ الحدَّ شاكاً مُعْلِمَا ) الوحر قال : وقال العَدَبّس الكنانيّ : والوَحَرةَ دويْبَّة كالعظاءة حمراء إذا اجتمَعَتْ تلصق بالأرض وجمع وحَرَة وحَرٌ مفتوحة الحاء ومنه قيل وَحَرُ الصَّدر كما قيل للحقدِ ضبٌّ ذهبوا إلى لزوقه بالصّدر كالتزاق الوَحَرة بالأرض وأنشدَ :

( بئسَ عَمْرَ اللّه قومٌ طُرِقُوا ** فَقَرَوْا أضيافُهُمْ لَحْماً وحِر ) يقال لحم وَحر : إذا دبّت عليه الوَحرة مقرف : مُوبئ ويقال فِئر : إذا وقعتْ فيه فارةٌ وقال الحكَميّ : ( بأرضٍ باعدَ الرَّحْمَ ** نُ عَنْهَا الطّلْحَ والعُشَرَا ) ( ولم يَجْعلْ مصايِدَها ** يَرَابيعاً ولا وَحَرا )
لهيْشَة وأمّا قوله : ( وَهيْشةٌ تأكلها سُرْفَةٌ ** وَسِمْعُ ذئْبٍ هَمُّهُ الحُضْرُ ) فالهيشة أم حبين وأنشد : ( أشكو إليك زماناً قدْ تعرَّقن ** كما تعرَّق رأسَ الهيْشَة الذِّيبُ ) وأمُّ جُبَيْن وأمُّ حُبَيْنَة سواءٌ وقد ذكرنا شأنها في صدر هذا الكتاب

ويقال إنّها لا تقيم بمكانٍ تكون فيه هذه الدُّودة التي يقال لها السُّرفة وإليها ينتهي المَثل في الصَّنْعة ويقال : أصْنَعُ من سُرفة ويقال إنّها تقوم منْ أمِّ حُبين مَقامَ القراد من البعير إذا كانتْ أمُّ حبَيْنٍ في الأرض التي تكون فيها هذه الدُّودة .
ذكر من يأكل أم حبين والقرنبي والجرذان قال : وقال مَدَنيٌّ لأعرابي : أتأكلون الضَّبََّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال : فالوَحرة قال : نعم حتَّى عدَّ أجناساً كثيرةً من هذه الحشرات قال أفتأكلون أمَّ حُبيْنٍ قال : لا قال : فلْتَهنِ أمَّ حُبينٍ العافيةُ .
قال ابنُ أبي كريمة : سألَ عمرُو بنُ كريمةَ أعرابيّاً وأنا عنده فقال : أتأكلونَ القرنْبى قال : طال واللّه ما سال ماؤُه على شدقي .
وزعم أبو زيدٍ النحويُّ سعيدُ بنُ أوْس الأنصاريُّ قال : دخلتُ على رُؤبة وإذا قُدَّامه كانونٌ وهو يَمُلُّ على جَمْرِهِ جُرذاً من جرذان البيت يخرج الواحدَ بعد الواحد فيأكله ويقول : هذا أطيبُ من اليربوع يأكل التّمرْ والجُبْنُ ويحسو الزَّيْت والسَّمْن .


وأنشد : ( تَرَى التَّيْميَّ يزحَفُ كالقَرَنْبى ** إلى تَيْميَّة كقَفا القَدُّوم ) وقال آخر : ( يدِبُّ عَلَى أحشائها كلَّ لَيْلَةٍ ** دَبيبَ القَرْنبى باتَ يعلو نقا سهلا ) اليربوع قال : واليربوع دابَّة كالجُرذ منْكبٌّ على صدره لقِصرِ يديه طويل الرِّجلين له ذنبٌ كذنب الجرذ يرفعه في الصعداء إذا هَرْولَ وإذا رأيتَه كذلك رأيتَ فيه اضطراباً وعجباً والأعراب تأكله في )
الجَهْد وفي الخِصب .
أخبث الحيوان قال : وكلُّ دابّةٍ حشاها اللّه تعالى خُبْثاً فهو قصيرُ اليدين فإذا خافت شيئاً لاذت بالصّعداء فلا يكاد يلحقُها شيء .


أكل المسيب بن شريك لليربوع قال : وأخبرني ابنُ أبي نُجَيح وكان حجّ مع المسيّب بن شريك عامَ حجَّ المهديُّ مع سلسبيل قال : زاملْت المسيِّب في حَجَّته تِلك فبينا نحنُ نَسير إذ نظرنا إلى يربوع يتخلل فرَاسن الإبل فصاحَ بغلمانه : دونَكم اليَربوع فأحضرُوا في إثره فأخذُوه فلمَّا حططْنا قال : اذَبحوه ثمَّ قال : اسلخوهُ واشوُوه وائتوني به في غَدائي قال : فأتي به في آخر الغداء على رغيف قد رَعَّبوه فهو أشدُّ حمرة من الزَّهوة يريد البُسرة فعطف عليه فثنى الرَّغيف ثم غمزه بين راحتيه ثم فَرَج الرغيف فإذا هو قد أخذَ من دسمه فوضعه بين يديه ثمَّ تناول

اليربوع فنزع فخذاً منه فتناولها ثم قال : كل يا أبا محمد فقلت : ما لي به حاجة فضحك ثم جعلَ يأتي عليه عضواً عضواً .
قال : وأمَّا أمُّ حُبين فهي الهَيشة وهي أم الحبين وهي دويْبَةٌ تأكلُها الأعراب مثل الحرباء إلاّ أنَّها أصغر منها وهي كدْرَاءٌ لِسوادٍ بيضاءُ البطن وهو خلافُ قول الأعرابيِّ للمدني .
وصاة أعرابي لسهل بن هارون وقال أعرابيٌّ لسهل بن هارون في تواري سهل من غُرمائه وطلبهم له طلباً شديداً فأوصاه الأعرابيُّ بالحزْم وتدبير اليَربوع فقال : ( انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ ** تَزيغ إلى سَهْلٍ كثير السَّلائقِ ) ( وخُذْ نَفَقَ اليربوع واسْلُكْ سبيلَه ** ودَعْ عنك إني ناطقٌ وابنُ ناطق ) ( وكنْ كأبي قُطْنِ على كلِّ زائغ ** له منزلٌ في ضيق العَرْض شاهقِ )

وإنّما قال ذلك لاحتيال اليربوع بأبوابه التي يخرج من بعضها إذا ارتاب بالبعض الآخر وكذا كانت دار أبي قطنة الخناق بالكوفة في كندة و يزعمون أنَّه كان مولًى لهم وأنشد أبو عُبيدة قال : أنشدني سفيان بن عيينة : ( إذ ما سَرَّكَ العَيشُ ** فلا تمرُرْ على كِنْدَهْ )
وقد قُتل أبو قُطْنة وصُلِب .
الخناقون وممَّن كان يخنق النّاس بالمدينة عَدِيَّة المدنيّةُ الصَّفراءُ وبالبصرة رادويْه والمرميُّون بالخنق من القبائل وأصحاب النِّحل والتأويلات هم الذين ذكَرَهم أعشى هَمْدان في قوله : ( إذا سِرْتَ في عِجلٍ فسِرْ في صَحابةٍ ** وكِنْدَةَ فاحذَرْهَا حِذَارك للخسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى خِناقٌ وغِيلةٌ ** وقَشْبٌ وإعمال لجندلة القذفِ ) ( وكلُّهُمُ شَرٌّ على أنَّ رأسهم ** حميدة والميلاءُ حاضِنة الكِسْفِ )

( متى كُنْتَ في حَيَّيْ بجيلةَ فاستمعْ ** فإِنَّ لها قصفاً يدلُ على حَتْفِ ) ( إذا اعتزموا يوماً على قَتْل زائر ** تداعَوْا عَلَيه بالنُّباح وبالعَزْفِ ) وذلك أن الخناقين لا يسيرون إلاّ معاً ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت العلامةُ بينهم الضرب على دُفٍّ أوْ طبلٍ على ما يكون في دوُر الناس وعندهم كلابٌ ُ مرتَبطة فإذا تجاوَبُوا بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ وربّما كان منهم معلِّم يؤدّب في الدّرب فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع الهجاء والقِراءة والحساب .
المغيرية والغالية والمنصورية وأما الأعمى فهو المغيرة بن سعيدٍ صاحبُ المغيرية مولى بجيلة والخارج على خالد بن عبد اللّّه ( تقول من النَّواكَة أطعموني ** شراباً ثمَّ بُلتَ على السّريرِ ) ( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشيخ ** كَليلِ الحدّ ذي بصر ضريرِ ) وأمَّا حميدة فكانت من أصحاب لَيلى الناعظية ولها رياسة

في الغالية والمَيْلاء حاضنة أبي منصور صاحب المنْصوريَّةَ وهو الكِسْف قالت الغالية : إيَّاه عَنَى اللّه : وإنْ يَرَوْا كِسْفاً من السَّماء سَاقِطاً يقُولُوا سَحابٌ مَرْكومٌ وإيَّاه عنى مَعْدان الأعمى حيثُ يقول : ( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ آل كُميل ** وكميلٌ رَذْلٌ من الأرْذَالِ ) ( تَرَكا بالعِراق دَاءً دويّاً ** ضَلَّ فيه تلطُّف المحتالِ )
تفسير بيت وأمَّا قوله : انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ تَزيغ إلى سهْل كثيرٍ السّلائق فأراد الهرب لأنه متى كان في ظهرٍ فظٍّ كثير الجوَادّ والطرائق كان أمكرَ وأخفى وما أحسن ما قال النابغةُ في صفة الطّريق إذا كان يتشعَّب حيث يقول : ( وناجيةٍ عدَّيتُ في ظهر لاحبٍ ** كَسَحْل اليماني قاصداً للمناهلِ )

( له خلجٌ تَهْوِي فُرادى وتَرعوي ** إلى كلِّ ذي نِيرَين بادِي الشَّواكلِ ) وهذا موضع اليربوع في تدبيره ومكره . أرجوزة في اليربوع وأكل الحشرات والحيات وقال الآخر في صفة اليربوع وفي حيلته وفي خلْقه وفي أكل الحشَرات والحيات : ( يا رُبَّ يَربوع قَصيرِ الظَّهر ** وشاخصِ العَجْب ذليل الصَّدْرِ ) ( ومُحْكم البيتِ جميع الأمر ** يَرْعى أُصولَ سَلم وسِدْرِ ) ( حتّى تراهُ كمِداد العكرِ ** باكرتُه قبلَ طُلوع الفَجرِ ) ( بكلِّ فيَّاض اليدين غَمر ** وكلِّ قَنَّاصٍ قليلِ الوَفرِ ) ( مُرتفع النّجم كريم النَّجْر ** فعاد منّي ببعيد القَعْرِ ) ( مختلفِ البَطْن عجيبِ الظهر ** وتدْمُريٌّ قاصعٌ في جُحرِ )

( في العُسر إنْ كان وبعدَ العُسْرِ ** أطيب عندي مِنْ جَنيِّ التّمرِ ) ( وشَحْمةُ الأرضِ طعامُ المُثرِي ** وكلِّ جبار بعيد الذِّكرِ ) وهيْشة أرفعها لفطري ليوم حفْل وليوم فَخْرِ ( وكلُّ شيءٍ في الظلام يَسْري ** من عقْرَبٍ أو قُنفذ أو وَبْرِ ) ( أو حيّةٍ أَمُلَّها في الجَمْر ** فتلك هَمِّي وإليها أجري ) ( في كلِّ حالٍ من غنًى وفَقْرِ ** وكلُّ شيءٍ لقَضَاءٍ يجري ) ( والذّيخُ والسِّمْعُ وذئبُ القَفْرِ ** والكلبُ والتَّتْفل بعد الهِرِّ ) ( والضّبُّ والحوتُ وطيرُ البَحْر ** والأعورُ النَّاطقُ يومَ الزّجْرِ ) ( آكُلُهُ غيرَ الحرابي الخُضْرِ ** أو جُعل صلَّى صلاة العصْرِ ) ( يشكر إن نالَ قِرًى من جَعْرِ ** يا ويلَه من شاكرٍ ذي كُفْرِ )
أفسدَ واللّه عليّ شُكري فزعم أنَّه يستطيبُ كلَّ شيءٍ إلاّ الحِرباء الذي قد اخضرَّ من حرِّ الشَّمس

وإلاّ الجُعَل الذي يصلِّي العصر وزعَمَ أنّه إنما جعَل ذلك شكراً على ما أُطعِم من العَذِرة وأنَّ ذلك الشُّكر هو اللُّؤم والكفر .
ولا أعرِفُ معنى صلاة الجعَل وقد روى ابن الأعرابي عن زاهر قال : يا بُنَيّ لا تصلِّ فإنّما يصلِّي الجُعل ولا تَصُمْ فإنما يصوم الحِمار وما فهمتُه بعد .
وأراه قد قدّم الهَيْشة وهي أمُّ حبين وهذا خلافُ ما رووا عن الأعرابي والمدني .
اليرابيع وأمَّا قوله : وَتَدْمُريٌّ قاصعٌ في جحْرِ ( وإنِّي لأصطاد اليَرابيعَ كُلّها ** شُفَاريَّها والتّدمُريَّ المقَصِّعَا )

واليرابيع ضربان : الشُّفاريُّ والتَّدمُري مثل الفَتِّي والمذكِّي .
وقال جريرٌ حينَ شبَّه أشياء من المرأة بأشياء من الحشرات وغيرها وذكر فيها الجُعل فقال : ( ترَى التَّيميَّ يزْحفُ كالقرنبى ** إلى تيميةٍ كعصَا المَليلِ ) ( تشينُ الزَّعفران عَروسُ تيْمٍ ** وتمْشي مِشْية الجُعلِ الدّحُولِ ) ( يَقولُ المجتَلون عروسَ تيمٍ ** شَوى أمِّ الحُبَين ورأسُ فيلِ ) شعر فيه ذكر اليربوع وقال عُبيد بن أيُّوب العنبري في ذكر اليربوع : ( حَمَلْتُ عليها ما لوَ أنَّ حمامةً ** تُحَمَّلُه طارتْ به في الخفاخفِ )

( نطوعاً وأنساعاً وأشلاء مُدْنَفٍ ** بَرى جًسمَه طولُ السُّرى في المخاوفِ ) ( فرُحْنا كما راحَتْ قَطاةٌ تنوَّرَتْ ** لأزغَبَ مُلْقى بين غُبْر صَفاصفِ ) ( ترى الطّير واليربوعَ يبحثن وطأها ** وينقرنَ وطء المنسمِ المتقاذِفِ ) وقال ابنُ الأعرابيّ وهو الذي أنشدَنيه : ترى الطير واليربوع يعني أنّهما يبحثانِ في أثر خُفّها ملجأ يلجآن إليه إمَّا لشدَّة الحر وإما لغير ذلك وأنشد أصحابنا عن بعض الأعراب وشعرائهم أنَّه قال ( فما أمُّ الرُّدينِ وإن أدَلّتْ ** بعالمةٍ بأخْلاقِ الكرامِ )

( إذا الشّيطان قصَّع في قَفَاها ** تَنَفّقْنَاه بالحبْل التؤَامِ ) يقول : إذا دخل الشَّيطان في قاصعاء قفاها تنفقناه أي أخرجْناه من النافقاء بالحبل المثنّى وقد مَثَّل وقد أحسن في نعت الشِّعر وإن لم يكن أحْسَن في العُقوق وأنشد قي قوس : ( لا كَّزة السَّهم ولا قلوعُ ** يدرُج تحت عَجْسها اليربوعُ ) القَلوع من القسي : التي إذا نُزِع فيها انقلبت على كفِّ النازع وأما قوله : وأما قوله : ( تخالُ به السِّمعَ الأزلَّ كأنّه ** إذا ما عدا ) قيام الذئب بشأن جراء الضبع ويقولون : إن الضبع إذا هلكَتْ قام بشأنِ جرائها الذِّئب وقال الكُميت :

( كما خامَرَتْ في حضْنها أمُّ عامر ** لِذي الحَبْل حتَّى عالَ أوسٌ عِيالها ) وأنشد أبو عبيدة في ذلك شعراً فسَّر به المعنى وهو قوله : ( والذّئبُ يغذُو بناتِ الذِّيخ نافلةً ** بلْ يحسبُ الذِّئبُ أنَّ النَّجْل للذِّيبِ ) يقول : لكثرة ما بين الذئاب والضباع من التّسافُد يظن الذّئب أنّ أولاد الضبع أولادُه .
والأمرُ في الأعراب عجب في أكل السِّباع والحشرات فمنهم من يظهر استطابتها ومنهم من يفخَر بأكلها كالذي يقول : ( أيا أمَّ عمرو ومَنْ يَكُنْ عُقرُ داره ** جِوَارَ عَدِيٍّ يأكل الحَشراتِ )
ما تحبه الأفاعي وما تبغضه وأمَّا قوله : ( لا تَرِدُ الماء أفاعي النّقا ** لكنّها يُعْجِبُها الخمْرُ )

( وفي ذَرَى الحَرْمَلِ ظلٌّ ** إذا علا واحْتدَم الهَجْرُ ) فإن من العجبَ أنّ الأفعى لا ترِدُ الماءَ ولا تريدُه وهي مع هذا إذا وجدت الخَمر شربَت حتّى تسكر حتّى ربَّما كان ذلك سبب حتفها .
والأفاعي تكره ريح السَّذاب والشّيح وتستريح إلى نبات الحَرمَل وأمَّا أنا فإنِّي ألقيْتُ على رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها فلم أر على ما قالوا دليلاً .
أكل بعض الحيوان لبعض وأمّا قوله : ( وبعضها طُعْمٌ لبعضٍ كما ** أعْطَى سِهام الميْسِرِ القَمْرُ ) فإن الجرذ يخرُج يلتمسُ الطُّعم فهو يحتالُ لطُعمه وهو يأكل ما دونَه في القُوَّة كنحو صغارِ الدّوابِّ والطّير وبيضِها وفراخِها ومِما لا يسكن في جُحْر أو تكون أفاحيصُه على وجْه الأرض فهو يحتال لذلك ويحتال لمنْع نفسه من الحيّات ومن سِباع الطيَّر .
والحيّة تُريغ الجرذ لتأكله وتحتال أيضاً للامتناع من الوَرل والقنفذ وهما عليه أقْوى منه عليهما والوَرل إنما يحتال للحية ويحتال للثَّعلب والثعلب يحتال لما دُونه .
قال : وتخرج البعوضة لطلب الطُّعمِ والبعوضة تعرف بطبعها أنّ الذي

يعيشها الدم ومتى أبصرتْ الفيلَ والجاموسَ وما دونهما علمت إنّما خلِقت جلودهما لها غذاءً فتسقطُ عليهما وتطعُنُ بخرطومها ثقةً منها بنفوذ سلاحها وبهجومها على الدَّم .
وتخرجُ الذُّبابة ولها ضروبٌ من المطعم والبعوضُ من أكبرها صيدها وأحبُّ غذائها إليها ولولا الذِّبان لكان ضررُ البعوض نهاراً أكثر .
وتخرج الوزَغَةُ والعنكبوت الذي يقال له الليث فيصيدان الذُّباب بألطف حِيلة وأجود تدبير ثم تذهب تلك أيضاً كشأن غيرهما .
كأنه يقول : هذا مذهبٌ في أكل الطيِّبات بعضها لبعض وليس لجميعها بُدٌّ من الطُّعم ولا بدّ للصائد أنْ يصطاد وكلُّ ضعيفٍ فهو يأكُلُ أضعف منه وكلُّ قويٍّ فلا بدَّ أن يأكله من هو أقوى )
منه والنَّاسُ بعضُهم على بعض شبيه بذلك وإن قصروا عن دَرْك المقدار فجعل اللّه عزّ وجلَّ بعضها حياةً لبعض وبعضها موتاً لبعض .
شعر للمنهال في أكل بعض الحيوان لبعض وقال المنهال : ( ووثبة من خُزَزٍ أعفرٍ ** وخِرنقٍ يلعَبُ فَوْقَ التُّرابْ )

( وَعَضرَ فُوطٍ قد تقوَّى على ** مُحْلوْلِكِ البقة مثل الحباب ) ( وظالم يَعْدُو على ظالمٍ ** قد ضَجَّ منه حَشراتُ الشِّعابْ ) وهذان الظَّالمان اللذان عنى : الأسودُ والأفعى فإنَّ الأسود إذا جاع ابتلع الأفعى .
آكل الأَسود للأَفاعي وشكا إليّ حَوّاءٌ مرةً فقال : أفقرني هذا الأَسْوَد ومنعني الكَسْبَ وذلك أنّ امرأتي جهلت فرمَتْ به في جُونةٍ فيها أفاعي ثلاثٌ أو أربعٌ فابتلعهنَّ كلّهن وأراني حيَّةً مُنْكَرةً ولا يبعد ما قال .
والعرب تقول للمسيء : أظْلَمُ من حيَّة وقد ذكرنا ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
ولا يستطيع أنْ يروم ذلك من الأفعى إلاّ بأن يغتالها فيقبض على رأسها وقَفاها فإنّ الأفعى وصف سم الحية وإذا وصفوا سمّ الحيّة بالشدَّة والإجهاز خبَّروا عنها أنّه لم يبقَ في بدنها دمٌ ولا بِلّة ولذلك قال الشاعر :

( لو حُزّ ما أخرجتْ منه يَدٌ بَللاً ** ولو تَكَنّفَهُ الراقون ما سَمِعا ) وقال آخر : ( لُميمةً من حنشٍ أعْمى أصمّ ** قد عاش حتّى هو ما يمشي بِدَمْ ) سلاح الحيوان والشأن في السِّلاح أنّه كلما كان أقلَّ كان أبلغ وكلما كان أكثر عدَداً وأشدَّ ضرراً كان أشجع وآخذَ لكلِّ من عَرفَ أنه دونه وأنشد أبو عبيدة : ( مشْي السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُفْظِعَةٍ ** له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ ) كالأسد له فم الذِّئب وحسبك بفم الذِّئب وله فضلُ قوة المخالب وللنَّسر منْسرٌ وقُوَّة )
بدن يكون بهما فوقَ العقاب ولذلك قال ابن مُناذر :

( أتجعلُ ليثاً ذا عرين تَرى له ** نُيوباً وأظْفاراً وعِرساً وأشبُلاَ ) ( كآخرَ ذا نابٍ حديدٍ ومِخْلبٍ ** ولم يتَّخذ عِرْساً ولم يَحْم مَعْقِلاَ ) وذلك أن فتيين تواجئا بالخناجر أحدهما صُبيريّ والآخر كلْبيّ فَحُملا إلى الأمير فضرب الصُّبيريَّ مائة سوط فلم يحمدوا صبره وشغل عن الكلبي فضربه يوم العَرْض خمسمائة سوط فصبر صبراً حمِدوهُ ففخر الْكلبيُّ بذلك على الصُّبيري .
وابن مناذر مولى سُليمان بن عبيد بن علاّن بن شَمّاس الصُّبيري فقال هذا الشعر ومعناه أنّ شُجاعاً لو لقي الأسد وهو مسلَّح بأرضٍ هو بها غريبٌ وليس هو بقرب غيضتِهِ وأشباله لما كان معه مما يتخذه مثل الذي يكون معه في الحال الأخرى يقولُ : وإنما صبرَ صاحبُكم لأنّه إنما ضُرِبَ بحضرة الأكفاء والأصدقاء والأعداء فكان هذا مما أعانه على الصّبر وضُربَ صاحبُنا في الخلاء وقد وُكل إلى مقدار جودة نَفْسه وقطعت المادةُ بحضور البطالة .


حمدان وغلامه وسمعتُ حمدانَ أبا العقب وهو يقولُ لِغلامٍ له وكيف لا تستطيل عليَّ وقد ضربُوك بين النّاس خمسِين سوطاً فلم تنطِق فقلت : إذا ضربه السَّجَّانُ مائة قناةٍ في مكانٍ ليس فيه أحدٌ فصبرَ فهو أصبرُ النّاسِ .
تفسير بيت الخنساء وأمّا قوله : مشْي السّبَنْتَى فإن السبَّنتى هو النمر ثمَّ صار اسماً لكلِّ سبع جريء ثم صاروا مَشْي السَّبتى وجد السَّبَنْتى
رؤساء الحيوان وأمّا قولُهُ : وَتمْسح النِّيلِ عُقاب الهوا والليثُ رأسٌ وله الأسْرُ ( ثلاثةٌ ليْسَ لَهُمْ غالبٌ ** إلاَّ بما يَنْتَقِضُ الدَّهْرُ )

فإنّهم يزعمون أنَّ الهواء للعقُاب والأرض للأسد والماء للتِّمساحِ وليس للنّارِ حظٌّ في شيءٍ من أجناس الحيوان : فكأنّه سلّم الرياسةَ على جميع الدُّنيا للعُقاب والأسد والتمساح ولم يَمُد الهواءَ وقصْرُ الممدود أحْسَنُ من مدِّ المقصورِ .
رواية المعتزلة للشعر وروت المعتزلةُ المذكورون كلُّهمْ رواية عامَّةِ الأشعارِ وكان بِشرٌ أرواهم للشِّعر خاصَّةً .
الهوائي والمائي والأرضي من الحيوان وقولهم : الطائر هوائيٌّ والسمك مائيٌّ مجازُ كلام وكلُّ حيوان في الأرض فهو أرضيٌّ قبل أن يكون مائيّاً أو هوائياً لأنَّ الطَّائر وإنْ طار في الهواء فإنّ طيرانَهُ فيه كسباحةِ الإنسان في الماء وإنّما ذلك على التكلفِ والحيلة ومتى صار في الأرض ودلّى نفسه لم يجدْ بُدّاً من الأرض .
وأمّا بَقِيَّةُ القصيدةِ التي فيها ذكر الرَّافضة والإباضيَّةِ والنَّابتة فليس هذا موضع تفسيره .


وسنقولُ في قصيدته الأخرى بما أمكننا من القول إن شاء اللّه تعالى .
انقضت قصيدةُ بشر بن المعتمر الأولى .

تفسير القصيدة الثانية

وأما قوله : أوابد الوحش وأحناشها فإن الأوابد المقيمة والأحناشُ الحيّات ثم صار بعدُ الضبُّ والوَرَلُ والحِرباء والوحَرة وأشباه ذلك من الأحناش .
وأما قوله : ( وكلُّها شرٌّ وفي شَرِّها ** خيرٌ كثيرٌ عند مَنْ يدري ) يقولُ : هي وإن كانَتْ مؤذيَةً وفيها قواتل فإن فيها دواءً وفيها عبرةً لمن فكّر وأذاها محنة واختبارٌ فبالاختبار يطيع النّاسُ وبالطاعة يدخلون الجنّة . وَسئلَ علي بن أبي طالب كرم اللّه وجههُ غير مرَّةٍ في عِللٍ نالته فقيل لهُ : كيف أصبحت فقال : بشرٍّ ذَهبَ إلى قوله عزّ وجلّ : قُلْ أعوذُ بِربِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ .
وأمّا قوله : ( فَشَرُّهُمْ أكثرُهُمْ حِيلةً ** كالذِّئْبِ والثّعْلَبِ والذَّرِّ )

فقد فسره لك في قوله : ( والليث قد بلّده عِلْمُهُ ** بما حوى من شدّةِ الأسْرِ ) وهكذا كلُّ من وثِقَ بنفسه وقلَّت حاجته .
ويزعم أصحابُ القنصِ أنّ العُقاب لا تكادُ تراوغ الصَّيد ولا تعاني ذلك وأنَّها لا تزال تكونُ على المرقَبِ العالي فإذا اصطاد بعضُ سباع الطير شيئاً انقَضّتْ عليه فإذا أبصرها ذلك الطائرُ لم يكن همه إلا الهرب وترْك صيدِه في يدها ولكنها إذا جاعت فلم تجدْ كافياً لم يمتنعْ عليها الذّئْبُ فما دونَه وقد قال الشّاعرُ : ( مُهَبّلٌ ذئبها يوماً إذا قَلَبَتْ ** إليه من مُسْتَكَفِّ الجوِّ حملاقا ) وقال آخر : ( كأنّها حين فاض الماءُ واحتمِلَتْ ** صَقْعاءُ لاحَ لها بالقَفرَةِ الذِّيبُ ) ( صُبَّتْ عليه ولم تنصبَّ من أمم ** إنَّ الشَّقاء على الأشقيْنَ مصبوبُ ) وأمَّا قوله : ( تَعْرِفُ بالإحساسِ أقدارها ** في الأسرِ والإلحاح والصَّبرِ )


يقول : لا يخفى على كلِّ سبع ضعفُه وتجلدُه وقوته وكذلك البهيمةُ الوحشيَّةُ لا يخفى عليها مقدارُ قوةِ بدنِها وسلاحها ولا مقدارُ عَدْوِها في الكرِّ والفر وعلى أقدار هذه الطّبقات تظهر وأمّا قوله : ( والضَّبُع الغَثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللّبْوَة والنَّمرِ ) ( كما تَرى الذِّئب إذا لم يُطِق ** صاح فجَاءَت رَسلاً تجرِي ) ( وكُلُّ شيءٍ فعلى قَدْرِهِ ** يُحْجِمُ أو يُقْدِمُ أو يَجْري ) فإنَّ هذه السِّباع القَويَّة الشَّريفَةَ ذواتِ الرِّياسةِ : الأُسْد والنُّمور والبُبُورَ لا تعرِض للنَّاس إلاّ بعد أن تهرم فتعجِزَ عن صيد الوَحش وإن لم يكنْ بها جوعٌ شديدٌ فمرَّ بها إنسانٌ لم تعْرِضْ له وليس الذِّئبُ كذلك لأن الذِّئْبَ أشدُّ مطالبةً فإن خاف العجز عوى عُواء استغاثة فتسامعت الذِّئاب وأقبلتْ فليس دون أكل ذلك الإنسانِ شيءٌ .
وقسّم الأشياء فقال : إنّما هو نكوصٌ وتأخُّر وفِرارٌ وإحجام وليس بفرار ولا إقدام وكذلك هو

المنديل والنسر وأمَّا قوله : ( والكَيْسُ في المكسبِ شَمْلُ لهم ** والعندليل الفرخ كالنَّسْرِ ) فالعندليل طائرٌ أصغر من ابن تمرة وابنُ تمرة هو الذي يُضرب به المثلُ في صغر الجسم والنَّسر أعظمُ سباع الطَّير وأقواها بدناً .
وقال يونسُ النحويُّ وذكر خلفاً الأحمر فقال : يضربُ ما بين العندليل إلى الكُركيّ وقد قال فيه الشّاعر : ( ويضربُ الكركي إلى القُنبرِ ** لا عانساً يبقى ولا مُحْتلِمْ ) وقال : ( وبما أقولُ لصاحبي خلفٍ ** إيهاً إليك تَحَذّرَنْ خَلَفُ ) ( فلو أنّ بيتك في ذُرى عَلمٍ ** من دُونِ قُلَّةِ رأسِهِ شَعَفُ ) ( لخشيتُ قدرك أن يبيتها ** إن لم يكن لي عنه مُنصرفُ ) وفي المثل : كلُّ طائرٍ يصيدُ على قَدْرِه .


كسب الذئب وخبثه وأمَّا قوله : ( والخُلد كالذِّئب على كَسْبِهِ ** والفيلُ والأعلمُ كالوَبْرِ ) فإنّه يقالُ : أغدرُ من ذئب وأخبث من ذئب وأكسبُ من ذئب على قول الآخر : أكسبُ لِلْخَيْرِ من الذِّئْبِ الأزَلّ والخير عنده في هذا الموضع ما يُعيش ويقُوت والخير في مكانٍ آخر : المالُ بِعينه على قوله عزّ وجلّ : إنْ ترَكَ خيْراً الْوصِيَّةُ وعلى قوله : وإنَّهُ لِحُبِّ الخيْرِ لَشَديدُ أي إنّه من أجل حبِّ المال لبخيلٌ عليه ضنين به متشدِّد فيه .
والخير في موضعٍ آخر : الخصب وكثرة المأكول والمشروب تقول : ما أكثر خير بيتِ فلان والخير المحض : الطّاعة وسلامة الصدر .
وأمَّا قولهم : أخْبث من ذِئْبِ خَمَر فعلى قول الرَّاجز : ( أما أتاك عَنِّي الحديثُ ** إذْ أنا بالغائط أستغيثُ ) ( والذِّئْبُ وسط أعنُزي يَعِيثُ ** وصحتُ بالغائط يا خبيث ) وقالوا في المثل : مُستودع الذئب أظلم .


الخلد والخُلد دويبةٌ عمياءُ صماءُ لا تعرف ما يدنُو منها إلا بالشّمِّ تخرُج من جُحرها وهي تعلم أن لا سمع ولا بصَر لها وإنما تَشْحا فاها وتقفُ على باب جُحرها فيجيء الذُّباب فيسقط على شِدقها ويمرُّ بين لَحييها فتسُّد فمها عليها وتستدخلها بجذْبة النّفس وتعلمُ أن ذلك هو رِزقها وقسمها فهي تعرِض لها نهاراً دون اللّيل وفي السّاعات من النهار التي يكون فيها الذباب أكثر لا تفرِّط في الطَّلب ولا تقصِّر في الطّلب ولا تخطئ الوقْت ولا تغلط في المقدارِ .
وللخلد أيضاً ترابٌ حواليْ جُحره هو الذي أخرجه من الجحر يزعمون أنّه يصلُحُ لصاحب النِّقرس إذا بُلّ بالماء وطُلي به ذلك المكان .
الأعلم وأمّا قوله : والفيل والأعلم كالوبْرِ فالفيل معروف والأعلم : البعير وبذلك يسمّى لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ

العليا ويسمّى الإنسان إذا كان كذلك به .
ويدلُّ على أن الأعلم والبعير سواء قولُ الراجز : ( إني لمن أنكر أو توسَّما ** أخو خناثيرَ أقود الأعلما ) وقال عنترة : ( وحليل غانيةٍ تركتُ مجدَّلاً ** تمْكُو فريصتُه كشِدْق الأعْلمِ ) يريد شِدْق البعير في السعة وقال الآخر : ( كم ضربةٍ لك تحْكي فاقراسِيَةٍ ** من المصاعِب في أشداقِهِ عَلَمُ ) بعض ما قيل من الشعر في صفة الضرب والطعن مَشافِرَ قَرْحى أكلْن البَريرا وقال آخر : ( بضربٍ يُلقِحُ الضِّبْعانُ مِنْهُ ** طرُوقَته ويأتنِفُ السِّفادا ) وقال الشاعر الباهليّ : ( بضَرْبٍ كآذان الفِراء فُضولُه ** وطعَنٍ كإيزاغِ المخاضِ تَبُورُها )


كأنّه ضربَه بالسَّيف فعلِق عليه من اللحم كأمثال آذان الحمير .
وقال بعضُ المحدثين وهو ذو اليمينين : ( ومقْعصٍ تشْخَبُ أوداجُه ** قد بانَ عن مَنْكِبه الكاهلُ ) ( فصارَ ما بينهما هُوَّةً ** يمشي بها الرَّامحُ والنّابِلُ ) وفي صفات الطَّعنة والضَّربة أنشدني ابنُ الأعرابيّ : ( تمنَّى أبو اليقظانِ عندي هَجْمَةً ** فسهَّل مأوى ليلها بالكلاكِلِ ) ( ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعنِ نوافذٍ ** وضربٍ كأشداق الفِصال الهوازلِ ) ( وسَبٍّ يود المرءُ لو ماتَ دُونه ** كوقْعِ الهضابِ صُدِّعَتْ بالمعاوِلِ ) وقل الآخر : وقال البعيث : ( أئن أمرعَت مِعْزى عطِيَّة وارتعتْ ** تِلاعاً من المرُّوت أحْوى جميمها )

( تعرَّضْت لي حتّى ضربتُك ضربةً ** على الرّأس يكبو لليدينِ أميمها ) إذا قاسها الآسِي النِّطاسيُّ أُرعِشَتْ أناملُ آسيها وجاشَتْ هُزُومها وقال الآخر : ( ونائحة رافعٍ صوْتُها ** تَنُوحُ وقد وقعَ المِهْذَمُ ) ( تَنُوحُ وتُسْبَرُ قَلاّسَةً ** وقد غابت الكفُّ والمعْصَمُ ) وقال آخر : ( ومُستَنَّةٍ كاستنانِ الخرُو ** فِ قدْ قطعَ الحبلَ بالمِرْودِ ) ( دفوعِ الأصابع ضَرْحَ الشَّمُو ** سِ نجلاءَ مُؤْيسةِ العُوَّدِ ) وقال محمد بن يسير :

( وطعن خليسٍ كفرْغ النّضيح ** أُْفْرِغَ منْ ثَعبِ الحاجِرِ ) ( تُهالُ العوائدُ من فَتْقِها ** تردُّ السِّبارَ على السّابرِ ) وأنشدوا لرجلٍ من أزْد شنوءة : ( إذا باشرُوها بالسِّبار تقطّعتْ ** تقطع أم السكر شيب عقوقُها ) وروي للفِندْ الزِّمَّاني ولا أظنُّه له : ) ( كففنا عن بنى هندٍ ** وقلنا القومُ إخوانُ )

( عسى الأيامُ ترجعهم ** جميعاً كالذي كانوا ) ( فلمَّا صرحَ الشرُّ ** وأضحى وهو عريانُ ) ( شددنا شدةَ الليثِ ** عدا والليثُ غضبانُ ) ( بضربٍ فيه تفجيعٌ ** وتوهينٌ وإرنانُ ) ( وطعن كفم الزقِّ ** وهي والزقُّ ملآنُ ) وأنشد السُّدّيّ لرجل من بلحارث : ( أتيت المحرم في رحله ** فشمرَ رحلى ِ بعنسٍ خبوبْ )

( تذكر منِّى خطوباً مضت ** ويومَ الأباء ويومَ الكثيب ) ( ويومَ خزازَ وقدْ ألجموا ** وأشرطت نفسى بأن لا أثوب ) ( ففرجتُ عنهم بنفاحةٍ ** لها عائدٌ مثلُ ماء الشعيب ) ( إذا سبروها عوى كلبها ** وجاشتْ إليهم بآنٍ صبيبْ ) ( طعنةً ما طعنتُ في جمحِ الذَّ ** مَّ هلالٍ وأين منِّى هلالُ ) ( طعنة الثائر المصمم حتى ** نجم الرمحُ خلفه كالخلال ) وقال الحارث بن حِلِّزَة : ( لا يقيم العزيز بالبلدِ السه ** ل ولا ينفعُ الذليلَ النجاءُ ) ( حولَ قيسٍ مستلئمين بكبشٍ ** قرظىً كأنهُ عبلاءُ )

( فرددناهم بضربٍ كما يخ ** رجُ من خربة المزادِ الماءُ ) ( وفعلنا بهمْ كما علم الله ** وما إنْ للحائنين دماءُ ) وقال ابن هَرْمة : ( بالمشرفيّة والمظاهر نَسْجُها ** يَوْمَ اللَّقاء وكلِّ وَرْدٍ صاهِل ) ( وبكلِّ أرْوَعَ كالحريق مُطاعنٍ ** فمسايفٍ فمعانقٍ فمُنازِل ) ويروى : فمعاذل .
الإفراط في صفة الضرب والطعن وإذْ قد ذكرنا شيئاً من الشِّعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكلُ )
هذا الباب من إسرافِ من أسْرَفَ واقتصادِ من اقتصد فأما من أفْرط فقول مُهلهل :

وقال الهذلي : ( والطعن شَغْشَغَةٌ والضّرْبُ هَيْقَعة ** ضَرْبَ المعوِّل تحتَ الدِّيمة العضدا ) ( وللقسيِّ أزاميلٌ وغَمْغَمَةٌ ** حِسَّ الجنوبِ سوق الماء والقردا ) ومن ذلك قول عنترة : ( بِرَحيبة الفَرْغين يهدي جرْسُها ** باللّيْل مُعْتسَّ السِّباع الضُّرَّمِ ) وقال أبو قيس بن الأسلت : ( قد حصَّت البيضةُ رأسي فما ** أطْعَمُ نوماً غيرَ تَهجاعِ ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( أعاذِلُ إنَّما أفْنى شبابي ** رُكوبي في الصَّريخ إلى المنادي )

( مع الفتيان حتّى خلّ جِسْمي ** وأقْرَحَ عاتِقي حَمْل النِّجادِ ) ومّما يدخُل في هذا الباب قولُ عنترة : ( رُعْناهم والخيلُ تَرْدي بالقنا ** وبكُلِّ أبْيضَ صارمٍ قَصَّالِ ) ( وأنا المنيّة في المواطِنِ كلِّها ** والطَّعْنُ مِنِّي سابِقُ الآجالِ ) وأمَّا قوله : وقال نهشل بن حَرِّيّ : ( وما زال رُكْني يرتقي من ورائه ** وفارسُ هيجا ينفض الصدر واقفُ ) فوصف نفسه بأنّه مجتمع القلب مرير لا يبرح .


وقد كان حميد بن عبد الحميد يوصف بذلك لأنّه كان لا يرمي بسَهْم ولا يطعنُ برُمحٍ ولا يضربُ بسيفٍ ولكن التصبير والتَّحريض والثّبات إذا انهزمَ كلُّ شُجاع منْ نذر في حميّة المقتول نذْرا فبلغ في طلب ثأره الشفاء . قال العبسيّ : ( دَعَوْتُ اللّه إذْ قدْنا إليهمْ ** لَنَلْقى مِنْقراً أو عَبْدَ عَمْرِو ) ( وكانَتْ حَلْفَةً حُلِفَتْ لِوِتْرٍ ** وشاء اللّهُ أنْ أدْرَكْتُ وتِري ) ( وإنّي قد سَقِمْتُ فكان بُرئي ** بقِرْواش بن حارثة بن صَخْرِ )
والأعرابُ تعدُّ القَتْلَ سُقماً وداءً لا يبرئه أخذ ثأره دون أخٍ أو ابن عمٍّ فذلك الثّأرُ المنيم .
وممَّن قال في ذلك صَبار بن التوءم اليشكري في طلب الطّائلة وأنّ ذلك داءٌ ليس له بُرء وكانوا قتلوا أخاه إساف بن عباد فلما أدرك ثأره قال :

( ألمْ يأتِها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني ** شفاني من الدَّاء المُخامِرِ شافِ ) ( وكنتُ مغطّى في قناعِي حِقْبةً ** كَشَفْتُ قناعي واعتطَفْتُ عطافي ) وفي شبيه بهذا المذهب منْ ذكر الدّاء والبُرء قال الآخر : ( قالتْ عهدِتك مجنوناً فقلتُ لها ** إن الشّبابَ جُنونٌ بُرؤهُ الكبرُ ) وفي شبيهٍ بالأوّل قول الشّيخ الباهليِّ حين خرج إلى المبارزَةِ على فرسٍ أعجف فقالوا : بالٍ على بالٍ فقال الشّيخ : ( رآني الأشْعَرِيُّ فقالَ بالٍ ** على بالٍ ولم يعرِفْ بلائي ) ( ومثلُك قد كَسَرْتُ الرُّمْحَ فيه ** فآبَ بدائه وشفَيْتُ دائي ) وقالت بنتُ المنذر بن ماء السَّماءِ : ( بعين أُباغ قاسَمْنا المنايا ** فكان قَسِيمُها خيْرَ القَسيمِ ) وقالوا فارس الهيْجاء قلنا كذاك الرُّمح يَكْلَفُ بالكريمِ

وقال الأسدي : ( رفعْنا طريفاً بأرْماحنا ** وبالرَّاح مِنَّا فلم يدفعونا ) ( فطاح الوَشيظُ ومالَ الجْمُوحُ ** ولا تأكلُ الحَرْبُ إلا السَّمينا ) وقال الخريمي : وقال السموءلُ بنُ عاديا : ( يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا ** وتَكْرَهُه آجالهمْ فتطولُ ) ( لأنّا أُناسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً ** إذا ما رأتْه ُعامرٌ وسلولُ ) وقال أبو العيزار :

( يَدْنُو وتَرْفَعُهُ الرِّماحُ كأنّهُ ** شِلْوٌ تَنَشَّبَ في مخالِبِ ضارِي ) ( فتوى صرِيعاً والرِّماحُ تَنُوشُه ** إنّ الشُّراة قصيرةُ الأعمارِ ) وقال آخر وهو يُوصي بلُبْس السِّلاح : ) ( فإذا أتَتْكُمْ هذه فتلبَّسُوا ** إنَّ الرِّماحَ بصيرةٌ بالحاسرِ ) وقال الآخر : ( يا فارسَ الناس في الهيجا إذا شُغلتْ ** كِلتا اليدينِ كرُوراً غَيْرَ وقّافِ ) قوله شُعِلَتْ يريد بالسّيف والتُّرس وأنشد أبو اليقظان : وكان ضروباً باليدينِ وباليَدِ أمَّا قوله : ضروباً باليدين فإنّه يريد القِداح وأمّا قوله : باليد فإنّه يريد السَّيف .
وأمّا قول حسّان لقائده حين قرَّبوا الطّعام لبعض الملوك : أطعام يدين أم يد فإنه قال هذا وإن كان الطعام حَيْساً أو ثريداً أو حريرة فهو طعام يدٍ وإن كان شواءً فهو طعام يدَين .


من أشعار المقتصدين في الشعر ومن أشعار المقتصدين في الشِّعر أنشدني قطرب : ( تركْت الرِّكابَ لأربابها فأجْهَ ** دْتُ نفسي على ابن الصَّعِقْ ) ( جَعَلْتُ يديَّ وِشاحاً له ** وبعضُ الفوارِس لا يعتنق ) وممن صدق على نفسه عمرو بن الإطنابة حيثُ يقول : ( وإقْدامي على المكْروهِ نَفْسي ** وضرْبي هامَة البطلِ المشِيحِ ) ( وقولي كُلَّما جَشأتْ وجَاشَتْ ** مَكانَكِ تُجْمَدي أوْ تَسْتريحي ) وقل آخر : ( وقلتُ لِنفسي إنّما هو عامرٌ ** فَلا ترهَبيه وانظُري كيف يركبُ ) وقال عَمرو بن مَعْدِ يكرب : ( ولّما رأيتُ الخيلَ زُوراً كأنَّها ** جَدَاوِلُ زَرْعٍ أُرْسِلَتْ فاسْبَطَرَّتِ ) ( فجاشَتْ إليّ النَّفْسُ أوَّل مَرَّةٍ ** فَرُدَّتْ على مَكْرُوهِها فاسْتقَرَّتِ )

وقال الطّائيُّ : ( ركضتْ فِينا وفِيهمْ ساعةً ** لَهذْميَّاتٌ وبيضٌ كالشُّهُبْ ) ( تروا القاعَ لنا إذْ كَرِهُوا ** غمراتِ الموتِ واختارُوا الهَربْ ) وقال النّمر بنُ تولب : ( سَمَوْنا ليشْكُر يَوْمَ النِّهابِ ** نهزُّ قناً سَمْهريّاً طِوالاَ ) ( فلمّا التقينا وكان الْجلادُ ** أحَبّوا الحياة فولَّوْا شِلالا ) وكما قال الآخر : ( هُم المقْدِمُون الْخيلَ تَدْمى نُحورُها ** إذا ابيضَّ من هَوْل الطِّعان المسالحُ ) وقال عنترة : ( إذْ يتَّقون بي الأسنِّةَ لم أخِمْ ** عنْها ولكني تضايقَ مُقْدمي ) وقال قَطريُّ بن الفُجاءة : ( وقولي كلّما جشأتْ لنفسي ** من الأبطالِ ويْحكِ لا تُراعي )

( فإنّكِ لوْ سألتِ حياةَ يومٍ ** سوى الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي ) وقالت الخنْساء : ( يُهِينُ النُّفوس وهَوْن النفوس ** غداة الكريهةِ أبقى لها ) ( أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها ** أقِلِّي المراح إنَّني غيرُ مُقْصِر ) وقال جرير : إن طارَدُوا الخيل لم يُشْوُوا فوارِسها أو نازلوا عانَقُوا الأبطال فاهتصروا وقال ابن مقروم الضّبيّ : ( وإذا تُعلَّل بالسِّياطِ جيادُها ** أعطاك ثائبةً ولم يَتَعَلَّل ) ( فدعوا نَزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ ** وعلامَ أرْكبهُ إذا لم أنزلِ )

وقال كعب الأشقري : ( إليهم وفيه منتهى الحزم والندى ** وللكربِ فيهم والخصاصةِ فاسحُ ) ( ترى علقاً تغشى النقوش رشاشه ** إذا انفرجت من بعدهنّ الجوانح ) ( كأن القنا الخطى َّ فينا وفيهم ** أشاطينُ بئرٍ هيجتها المواتحُ ) ( هناك قذفنا بالرماح فمائلٌ ** هنالك في جمع الفريقين رانحُ ) ( ودرنا كما دارتْ على قطبها الرحى ** ودارت على هامِ الرجال الصفائح )

وقال مهلهل : ( ودلَفْنا بجمعنا لبني شَيْ ** بان إن الخليل يبغي الخليلاَ ) وقال عبدة وهو رجلٌ من عبد شمس : ) ( ولما زجرْنا الخيلَ خاضْتْ بنا القنا ** كما خاضت البُزْلُ النِّهاءَ الطَّواميا ) ( رمَوْنا برشْقٍ ثمَّ إنَّ سيوفنا ** ورَدْن فأنكرْن القبيل المراميا ) ( ولم يكُ يثْني النَّبل وقعُ سُيوفنا ** إذا ما عقدنا للجلادِ النّواصيا ) في ذكر الجبن ووهل الجبان قال اللّه عزَّ وجلّ : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ قاتلَهُمُ اللّه أنّى يُؤْفكُون ويقال إن جريراً من هذا أخذ قوله : ( ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ ** خيلاً تكرُّ عليكم ورِجالا )

وإلى هذا ذهب الأوَّل : ( ولو أنّها عصفورةٌ لحسبتها ** مُسَوَّمةً تدعُو عُبيداً وأزْنما ) وقال جران العود : ( يومَ ارْتحلت برَحْلي قَبْل برذعتي ** والقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ للبَيْنِ مشغولُ ) ( ثمَّ اغترزتُ على نِضْوى ليحملني ** إثر الحُمول الغوادي وهو معقولُ ) وهذا صفة وهل الجبان وليس هذا من قوله : وقال الذَّكواني أو زمرة الأهوازيُّ ففسر ذلك حيث يقول : ( يجعلُ الخيل كالسّفينِ ويَرْقى ** عادياً فوق طِرْفِهِ المَشْكولِ ) لأنهم ربّما تنادوا في العَسكر : قد جاؤوا ولا بأس فيُسرج الفارس

فرسه وهو مشكولٌ ثم يركبه ويحثُّه بالسَّوط ويضربُه بالرِّجل فإذا رآه لا يُعطيه ما يريدُ نزل فأحْضر على رجليه ومنْ وهل الجبان أن يُذْهل عن موضع الشِّكال في قوائم فرسه وربما مضى باللِّجام إلى عَجْب ذنبه وهو قوله : يجعل الخيْل كالسّفين لأنّ لجام السفينة الذي يغمزها به والشِّكال هو في الذَّنب .
وقال سهل بن هارون الكاتب في المنهزِمة من أصحاب ابن نهيك بالنَّهروان من خيل هَرْثمة بن أعْين : ( يُخيِّلُ للمهزومِ إفراطُ رَوْعِه ** بأنّ ظهورَ الخيل أدنى من العَطبْ ) لأنّ الجُبْنَ يُريه أنّ عَدْوَه على رجليه أنجى له كأنّه يرى أنّ النَّجاة إنّما تكونُ على قدر الحمل للبدن .


وقال آخر حينَ اعْتلَّ عليه قومُه في القتال بالورع : ) ( كأنّ ربَّك لم يَخْلقْ لِخَشيته ** سِواهُمُ مِنْ جميعِ النّاس إنسانَا ) وقال آخر : وقال الشّاعر : يروِّعه السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ مخافة أن يكون به السِّرارُ وأنشدني ابن رُحيم القراطيسي الشاعر ورمى شاطراً بالجبن فقال : ( رأى في النَّوم إنساناً ** فوارَى نفْسَهُ أشهرْ ) ويقولون في صفة الحديد إذا أرادوا أنّه خالص فمن ذلك قول هِميان : يمشون في ماء الحديدِ تنكُّبا

وقال ابنُ لجأ : أخضر من ماءِ الحديدِ جِمْجِم وقال الأعشى في غير هذا : ( وإذا ما الأكسُّ شبه بالأرْ ** وَق عند الهيجا وقَلَّ البُصاقُ ) وقال الأعشى : ( إذ لا نقاتل بالعِصيِّ ** ولا نُرامي بالحجارَه ) وقال الأخطل : ( وما تركتْ أسيافُنا حينَ جُرِّدَتْ ** لأعدائنا قيس بن عيلان من عُذر ) ( وبنو فزارة إنّها ** لا تُلْبث الحلبَ الحلائبْ ) يقول : لا تُلْبِثُ الحلائِبَ حَلَباً حتى تَهْزِمَهُم .

يقول : لا تلبث الحلائب حلبا حتى تهزمهم .
السّندل وأمَّا قوله : ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهِرٍ يسبحُ في غَمرِ ) فهذا طائرٌ يسمَّى سَنْدل وهو هِنْديّ يدخل في أتون النّار ويخرج ولا يحترق له ريشة .
ذكر ما لا يحترق وزعم ثُمامة أن المأمون قال : لو أخذ إنسانٌ هذا الطُّحلب الذي يكون على وجّه الماء في مناقع المياه فجفَّفه في الظلّ وألقاه في النّار لما كان يحترق .


وزعموا أنّ الفلفل لا يضرُّه الحرق ولا الغرق والطَّلق لا يصير جمراً أبداً قال : وكذلك المَغْرة .
فكأنّ هذا الطَّائرَ في طباعه وفي طباع ريشه مزاجٌ من طلاء النّفاطين وأظنُّ هذا من طلق وخَطْمِيٍّ ومَغْرة .
وقد رأيْت عُوداً يُؤْتى به من ناحية كِرْمان لا يحترق وكان عندنا نصرانيٌّ في عنقه صليبٌ منه وكان يقول لضعفاء الناس : هذا العود من الخشبة التي صُلب عليها المسيح والنّار لا تعمل فيها الماهر وأمّا قوله : كماهِرٍ يسبحُ في غَمْرِ

فالماهر هو السَّابح الماهر وقال الأعشى : ( مِثلَ الفراتيّ إذا ما طما ** يقذِفُ بالبُوصيِّ والماهرِ ) وقال الربيع بن قَعْنب : ( وترى الماهِرَ في غَمْرتِه ** ثْل كَلْبِ الماء في يومٍ مَطِرْ )
لطعة الذئب صونعة السرفة والدبر وأمَّا قوله : ( ولطعة الذِّئب على حَسْوِهِ ** وصَنْعَة السّرْفَة والدَّبرِ ) قال : فإنّ الذِّئب يأتي الجمل الميِّت فيفضي بغمغمته فيعتمدُ على حجاج عينه فيلْحسُ عينه بلسانه حسْياً فكأنّما قُوِّرت عينُه تقويراً لِما أعُطيَ من قوَّة الرَّدَّة وردُّه لسانه أشدُّ مرّاً

في اللَّحم والعصب من لسان البقر في الخلى .
فأمّا عضّتُه ومصّتُه فليس يقعُ على شيء عظماً كان أو غيره إلاّ كان له بالغاً بلا معاناةٍ من ويقال : إنّه ليس في الأرض سبعٌ يعضُّ على عظمٍ إلاّ ولَِكَسرْته صَوتٌ بين لحييه إلاّ الذئب فإنّ أسنانه توصف بأنّها تبري العظم برْي السَّيف المنعوت بأنّ ضربته من شدّة مُرورها في العظم ومن قلّة ثبات العظْم له لا يكون له صوت قال الزُّبير بن عبد المطّلب : ( ويُنْبِي نخوَةَ المحتال عَنّي ** غموضُ الصوت ضَرْبته صَمُوتُ ) ولذلك قالوا في المثل : ضربه ضربةً فكأنما أخطأه لسرعة المرِّ لأنّه لم يكن له صوت .
وقال الرَّاجز في صفة الذِّئب :

( أطلس يخفي شخصه غُبارُه ** في شدْقِه شَفْرته ونارُهُ ) وسنأتي على صفة الذئب في غير هذا البابِ من أمره في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وأمَّا ذِكر صَنْعة السُّرْفة والدَّبْر فإنّه يعني حكمتها في صنعة بيوتها فإنّ فيها صنْعَةً عجيبةً .
سمع القُراد والحِجر وأمّا قوله : ( ومَسْمع القِرْدان في مَنْهَلٍ ** أعجبُ ممّا قيل في الحِجْرِ ) فإنهم يقولون : أسمعُ مِنْ فَرَسٍ ويجعلون الحجْر فرساً بلا هاء وإنَّما يعنون بذلك الحِجْر لأنها أسمع .
قال : والحِجْر وإن ضُرِبَ بها المثل فالقُرادُ أعْجب منها

لأنها تكون في المنهل فتموج ليلة الوِرْد في وقت يكون بينها وبين الإبل التي تريد الورود أميالٌ فتزعمُ الأعراب أنها تسمعُ رغاءها وأصوات أخفافها قبل أنْ يسمعها شيء .
والعرب تقول : أسمعُ منْ قُراد وقال الرَّاجز : أسمعُ منْ فَرْخِ العُقابِ الأسحمِ ما في الجمل من الأعاجيب وأمَّا قوله : ( والمقْرم المعْلم ما إن له ** مَرارة تُسْمَعُ في الذِّكرِ ) ( وحصيةٌ تنصُلُ من جَوفِه ** عِنْدَ حُدوث الموتِ والنَّحْرِ ) ( ولا يرى بعدهما جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدْرِ ) فهذا بابٌ قد غلط فيه من هو أعْنى بتعرُّف أعاجيب ما في العالم من بِشْر .
ولقد تنازع بالبصرة ناسٌ وفيهم رجلٌ ليس عندنا بالبصرة أطيبُ منه فأطبقوا جميعاً على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات فالتُمست خُصْيته وشقشقتُه أنهما لا توجدان فقال ذلك الطيِّب : فلعلَّ مرارة الجمل أيضاً

كذلك ولعلّه أن تكون له مرارةٌ ما دام حيّاً ثمَّ تبطل عند الموت والنَّحر وإنّما صرنا نقول : لا مرارَة له لأنّا لا نصلُ إلى رؤية المرارة إلاّ بعد أن تفارقه الحياة فلم أجد ذلك عمل في قلبي مع إجماعهم على ذلك فبعثت إلى شيخٍ من جزَّاري باب المغيرة فسألته عن ذلك فقال : بلى لعمري إنهما لتوجدان إن أرادهما مريد وإنّما سمعت العامّة كلمةً وربّما مزَحْنا بها فيقول أحدنا : خُصية الجمل لا توجد عند مَنْحره أجلْ واللّه ما توجدُ عند منحره وإنما توجد في موضعها وربّما كان الجمل خياراً جيّداً فتلحق خصيتاه بكليتيه فلا توجدان لهذه العلّة فبعثت إليه رسولاً : إنّه ليس يشفيني إلاّ المعاينة فبعث إليَّ بعد ذلك بيومٍ أو يومين مع )
خادمي نَفيس بشقشقةٍ وخُصية .
ومثل هذا كثيرٌ قد يغلط فيه من يشتدُّ حرصُه على حكاية الغرائب .
ما في الفرس والثور من الأعاجيب وأمّا قوله : ( وليس للطّرْفِ طِحالٌ وقد ** أشاعَهُ العالمُ بالأمرِ ) ( وفي فُؤاد الثّورِ عَظْمٌ وقدْ ** يعرِفُه الجازِرُ ذُو الخبرِ )

وليس عندي في الفرَس أنّه لا طحال له إلاّ ما أرى في كتاب الخيل لأبي عبيدة والنّوادر لأبي الحسن وفي الشِّعر لبشْر فإن كان جوف الفرس كَجوف البرذون فأهلُ خراسان من أهل هذا وأمّا العظم الذي يوجد في قلب الثّور فقد سمعنا بعضهم يقول ذلك ورأيتهُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق .
أعجوبة السمك وأمّا قوله : ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها عاشَ في البَحْرِ ) ( إذ لا لسانٌ سُقي ملحه ** ولا دماغ السمك النهري ) فهو كما قال : لأنَّ سمك البحر كلّه ليس له لسانٌ ولا دِماغ . 4

القواطع في السمك

وأصنافٌ من حِيتان البحْر تجيء في كلِّ عام في أوقاتٍ معلومةٍ حتّى تدخل دجلة ثم تجوز إلى البطاح فمنها الأسبور ومنها البرسْتوك

ووقته ومنها الجُواف ووقته وإنما عرِفَتْ هذه الأصناف بأعيانها وأزمانها لأنها أطيبُ ذلك السَّمك وما أشكّ أنّ معها أصنافاً أُخر يعلم منها أهلُ الأبلّة مثل الذي أعلم أنا من هذه الأصناف الثّلاثة .
كبد الكوسج ( وأكبدٌ تَظْهر في ليلِها ** ثمَّ توارى آخرَ الدَّهرِ ) ( ولا يُسيغ الطُّعمَ ما لم يكنْ ** مِزاجُه ماءً على قدْرِ ) ( ليس له شيءٌ لإزلاقه ** سوى جِرابٍ واسعِ الشَّجْرِ ) فإنّ سمكاً يقال له الكوسج غليظ الجلد أجرد يشبه الجِرّيَّ وليس بالجِرِّي في جوفها شحمةٌ طيِّبة فإن اصطادُوها ليلاً وجدوها وإن اصطادوها نهاراً لم يجدوها .
وهذا الخبر شائعُ في الأبُلة وعند جميع البحريِّين وهم يسمُّون تلك الشَّّحمة الكبد .
وأما قولهم : السَّمكة لا تسيغ طعمها إلاّ مع الماء فما عند بِشْرٍ ولا عندي إلاّ ما ذكر صاحبُ المنطق وقد عجِب بشرٌ من امتناعها من بلْع الطّعم وهي مستنقعة في الماء مع سعة جِرابِ فيها .


والعرب تسمِّي جوف البئر من أعلاه إلى قعرِه جراب البئر .
وأمّا ما سوى هذه القصيدة فليس فيها إلاّ ما يعرف وقد ذكرناه في موضعٍ غير هذا من هذا الجزء خاصَّة .

الضبع

وسنقول في باب الضّبع والقنفذ والحرقوص والورل وأشباه ذلك ما أمكن إن شاء اللّه تعالى .
قال أبو زياد الكلابيّ : أكلت الضّبع شاة رجلٍ من الأعراب فجعل يخاطبُها ويقول : ( ما أنا يا جعارِ من خُطّابِكْ ** عليَّ دَقُّ العُصْلِ من أنيابكْ ) على حذا جُحْرِك لا أهابُكْ جَعَارِ : اسمُ الضبع ولذلك قال الراجز : ( يا أيُّها الجفْر السَّمين وقَومُه ** هزْلى تجرُّهُمُ ضِباعُ جَعارِ ) ثم قال الأعرابيّ : ( ما صَنَعتْ شاتي التي أكلْتْ ** ملأْت مِنْها البَطْنَ ثُمَّ جُلْتْ ) وخُنْتَني وبئْسَ ما فَعلْتْ

( قالت له : لا زلتَ تلقى الهمّا ** وأرسل اللّه عليكَ الحمّى ) لقد رأيْت رجلاً معتمّا ( قال لها : كذبتِ يا خباثِ ** قد طال ما أمسيتُ في اكتراثِ ) ( قالت له والقولُ ذو شُجونِ : ** أَسهبْتَ في قولك كالمجنوِن ) ( أما وربِّ المْرسَلِ الأمين ** لأفْجَعَنْ بِعيركَ السَّمينِ ) ( وأمِّه وجَحشِه القرين ** حتَّى تكونَ عُقْلةَ العُيُونِ ) ( قال لها وْيحَكِ حذِّريني ** واجتهدي الجهد وواعديني ) ( وبالأمانيِّ فعلِّليني ** لأقطعَنَّ مُلتقى الوتينِ ) ( مِنْكِ وأشفى الهمَّ مِنْ دَفيني ** فصدِّقيني أو فكذِّبيني ) ( أو اتركي حَقِّي وما يليني ** إذاً فشلّتْ عندها يميني ) تعرّفي ذلك باليقينِ قالت : أبالقتلِ لنا تهدِّد وأنت شيخٌ مُهْترٌ مفَنّدُ

( سقط : بيت الشعر ) ( قالت : أبا القتل لنا تهدد ** وأنت شيخ مهتر مفند ) ( قولُكَ بالجُبْنِ عليك يشهدُ ** منك وأنت كالذي قد أعهدُ ) ( قال لها : فأبشِري وأبشري ** إذا تجردتُ لشأني فاصبري ) ( أنتِ زعمتِ قد أمنتِ منكري ** أحلفُ باللّه العليِّ الأكبر ) ( يمين ذي ثرية لم يكفرِ ** لأخْضِبنَّ منك جَنْبَ المنحَر ) ( برمْيةٍ من نازع مذَكّرٍ ** أو تتركين أحْمري وبَقَرِي ) ( مكبوبةً لوَجْهِها والمنخر ** والشَّيخُ قد مالَ بغربِ مجزرِ ) ( ثمّ اشتوى من أحمرٍ وأصفر ** منها ومقدورٍ وما لم يُقْدر )

جلد الضبع

وقال الآخر : ( يا ليت لي نَعلينُ من جلد الضّبُعْ ** وشَرَكاً من استها لا يَنْقطِعْ ) كُلَّ الحذاء يحتذي الحافي الوَقعْ وهذا يدلُّ على أنّ جلدها جلدُ سوء .
وإذا كانت السَّنةُ جدبةً تأكلُ المال سمّتُها العربُ الضّبع قال الشّاعر : ( أبا خُراشة أمّا كُنْتَ ذا نفرٍ ** فإنّ قَوْمي لم تأكلُهم الضّبعُ )

تسمية السنة الجدبة بالضبع

وقال عُمير بن الحباب :

( فبشِّري القيْنَ بطَعْنِ شَرْجِ ** يشبعُ أولادَ الضباعِ العُرْجِ ) ( ما زال إسدائي لهمْ ونَسْجي ** حتّى اتّقَوني بظهُورٍ ثُبْجِ )

مما قيل من الشعر في الضباع

وقال رجلٌ من بني ضبَّة : ( يا ضبعاً أكلت آيارَ أحمرةٍ ** ففي البطون وقد راحتْ قراقير ) ( ما منكم غير جعلانٍ ممددة ** دسمُ المرافق أنذالٌ عواويرُ ) ( وغيرُ همزٍ ولمز للصديق ولا ** تنكى عدوكم منكم أظافير ) ( وإتكم ما بطنتم لم يزلْ أبداً ** منكك على الأقربِ الأدنى زنابير )

وأنشد : ( القوْم أمثال السِّباع فانشَمِر ** فمنهُم الذِّئب ومنهم النَّمِرْ ) والضّبْع العَرجاءُ واللّيثُ الهصِرْ وقال العلاجم : ( معاورِ حلباته الشخص أعم ** كالدِّيخ أفنى سِنّه طول الهرم ) وأنشد : ( فجاوز الحرض ولا تشمِّمه ** لسابغ المِشفر رحبٍ بلعمه )

يقول : وبَرُ لحييها كثيرٌ كأنّه شعر ذيخ قد بلّه المطر وأنشد : ( لما رأين ماتِحاً بالغَرْبِ ** تخلَّجَتْ أشداقُها للشُّربِ ) تخْليجِ أشداقِ الضَّباع الغُلْبِ يعني من الحرص والشّرهِ وتمثّل ابنُ الزُّبير : ( خُذيني فَجُرِّيني جَعارِ وأبشري ** بلحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصرهُ )

وإنّما خصَّ الضّباع لأنّها تنبش القبور وذلك من فرط طلبها للحوم النّاس إذا لم تجدْها ظاهرة وقال تأبّط شرّاً : ( فلا تَقْبُرُوني إنَّ قَبْري مُحَرَّمٌ ** عليكمْ ولكن خامري أمَّ عامر ) ( إذا ضربوا رأسي وفي الرّأس أكثري ** غُودر عِند الملتقى ثمَّ سائري ) ( هنالك لا أبْغي حياةً تسرُّني ** سميرَ الليالي مُبْسلاً بالجرائر ) ( إعجابُ الضِّباع بالقتلى ) قال اليقطري : وإذا بقي القتيلُ بالعراء انتفخ أيره لأنّه إذا ضربت عنقه يكون منبطحاً على وجهه فإذا انتفخ انقلب فعند ذلك تجيء الضّبع فتركبُه فتقضي حاجتها ثمَّ تأكله .


وكانت مع عبد الملك جاريةٌ شهِدت معه حربَ مُصعَب فنظرت إلى مصعبٍ وقد انقلبَ وانتفخ أيره وورم وغلظ فقالت : يا أمير المؤمنين ما أغلظ أُيور المنافقين . فلطمها عبد الملك 4

حديث امرأة وزوجها

ابنُ الأعرابي : قالت امرأةٌ لزوجها وكانت صغيرة الرّكب وكان زوجُها صغير الأير : ما للرّجل في عِظَم الرّكَب منفعة وإنّما الشّأن في ضِيق المدخل وفي المصِّ والحرارة ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ليس من هذا في شيء وكذلك الأير إنّما ينبغي أن تنظر المرأة إلى حَرِّ جلدته وطيب عُسيلته ولا تلتفت إلى كِبَره وصِغره وأنعظ الرجل على حديثها إنعاظاً شديداً فطمع أن ترى أيره في تلك الحال عظيماً فأراها إيّاه وفي البيت سِراجٌ فجعل الرَّجلُ يشير إلى أيره وعينُها طامحةٌ إلى ظلِّ أيره في أصْل الحائط فقال : يا كذابة لشدّة شهوتك في عظم ظلِّ الأير لم تفهمي عنِّي شيئاً قالت : أما إنَّك لو كنت جاهلاً كان أنعم لبالك يا مائق لو كان منفعةُ عِظم الأير كمنفعة عِظم الرَّكب لما طمَحَتْ عيني إليه قال الرجل : فإنَّ للرَّكب العظيم حَظّاً في العين وعلى ذلك تتحرّك له الشَّهوة قالت : وما تصنع بالحركة وشكٍّ يؤدِّي

إلى شكّ الأير إنْ عَظم فقد ناك جميع الحِر ودخل في تلك الزَّوايا التي لم تزل تنتظمُ من بعيد وغيرها المنتظم دونَها وإذا صغُر قال اليقطري : أمكنها واللّه من القول ما لم يمكنه . 4

حديث معاوية وجاريته الخراسانية

وقال : وخلا معاوية بجاريةٍ له خراسانيّة فما همَّ بها نظر إلى وصيفةٍ في الدّار فترك الخراسانيّة وخلا بالوصيفة ثمَّ خرج فقال للخراسانيّة : ما اسم الأسد بالفارسيّة قال : كَفْتار فخرج وهو يقول : ما الكفتار فقيل له : الكفتار الضّبع فقال : ما لها قاتلها اللّه أدركتْ بثأرها والفُرْسُ إذا استقبحت وجه الإنسان قالت : رُوي كَفْتار أي وجه الضبع . 4

كتاب عمر بن يزيد إلى قتيبة بن مسلم

قال : وكتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين عزل وكيع بن سُودٍ عن رياسة بني تميم وولاَّها ضِرار بن حسين الضّبي : عزلْت السِّباعَ وولَّيت الضِّباع . )

4

شعر فيه ذكر الضبع

وأنشد لعبّاس بن مِرداسٍ السُّلميِّ : ( فلو مات مِنهمْ مَنْ جَرَحْنا لأصْبحتْ ** ضباعٌ بأكناف الأراك عرائسا ) وقال جريبة بن أشْيم : ( فلا تدفننَّى في ضراً وادفنّننى ِ ** بديمومةٍ تنزو على َّ الجنادبُ ) ( وإنْ أنتَ لم تعقرْ على ّ مطيتى ِ ** فلا قام في مالٍ لكَ الدهرَ حالبُ ) ( فلا يأكلني الذئبُ فيما دفنتني ** ولا فرعلٌ مثل الصريمة حاربُ )

( أزلُّ هليبٌ لا يزال مآبطا ** إذا ذربت أنيابه والمخالب ) وأنشد : ( تركوا جارهم تأكله ** ضبعُ الوادي وترميه الشجر ) يقول : خذلوه حتّى أكله ألأم السِّباع وأضعفها وقوله : وترميه الشَّجر يقول : حتّى صار يرميه من لا يرمي أحداً .

بقية الكلام في الضبع

وقد بقي من القول في الضّبُع ما سنكتبه في باب القول في الذئب .

الحرقوص

وأمَّا الحرقوص فزعموا أنّه دويْبَّة أكبر من البُرغوث وأكثرُ ما ينبت له جناحان بعد حينٍ وذلك له خير .
وهذا المعنى يعتري النّمل وعند ذلك يكون هلاكه ويعتري الدَّعاميص إذا صارت فَراشاً ويعتري الجِعلان .
والحرقوص دويْبَّة عضُّها أشدُّ من عضِّ البراغيث وما أكثر

ما يَعضُّ أحراحَ النساء والخُصى وقد سميِّ بحرقوص من مازِنٍ أبو كابية بن حُرقوص قال الشّاعر : ( أنتم بني كابية بن حُرقُوصْ ** كلّهُمُ هامته كالأفْحُوصْ ) وقال بشرُ بن المعتمر في شعره المزاوج حين ذكر فضل عليٍّ على الخوارج وهو قوله : نق صفحة من الكتاب قال : والحرقوص يسمى بالنُّهيك وعضَّ النُّهيك ذلك الموضع من امرأة أعرابيّ فقال :

( وما أنا للحرقوص إنْ عضَّ عَضةً ** لها بَيْنَ رجليها بِجِدِّ عَقُورِ ) ( تطيب بنفْسي بعد ما تستفزُّني ** مقالتُها إنَّ النُّهيك صغيرُ ) ( ولو أنّ حُرقوصاً على ظَهْرِ قَمْلة ** يَكرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لوَلّتِ ) قالوا : ولو كان له جناحانِ لما أركبه ظَهْر القملة وليس في قول الطِّرمَّاح دليلٌ على ما قال وقال بعضُ الأعراب وعض الحرقوص خُصيتَه : ( لقدْ مَنَعَ الحراقيصُ القَرَارَا ** فلا ليلاً نَقَرُّ ولا نَهارَا ) ( يُغالِبْنَ الرِّجالَ على خُصاهم ** وفي الأحراحِ دَسّاً وانجِحارا ) وقالت امرأةٌ تَعْني زوجَها : ( يغارُ من الحرقوصِ أنْ عَضَّ عَضةً ** بفخذِيَ منها ما يَجُذُّ غيورُ )

( لقد وقَعَ الحُرقوصُ مِنِّي موقِعاً ** أرى لَذّةَ الدُّنيا إليه تصيرُ ) وأنشدوا لآخر : ( بَرَّحَ بي ذُو النُّقطتين الأملسُ ** يَقْرُضُ أحياناً وحيناً ينهَسُ ) فقد وصفَه هذا كما ترى وهذا يصدِّق قول الآخر ويردُّ على من جعل الحراقيص من البراغيث قال الآخر : ) ( يَبيت باللّيل جوّاباً على دَمِثٍ ** ماذا هُنالك من عَضِّ الحراقيصِ )

الورل

وسنقول في الورَل بما أمكنَ من القول إن شاء اللّه تعالى وعلى أنَّا قد فرَّقنا القولَ فيه على أبواب قد كتبناها قبل هذا .
قالوا : الورَل يقتل الضَّبَّ وهو أشدُّ منه وأجودُ سلاحاً وألطفُ بدناً قالوا : والسَّافِد منها يكون مهزولاً وهو الذي يَزيِف إلى الإنسان وينفخ ويتوعَّد .
قال : واصطدت منها واحداً فكسرت حجراً وأخذتُ مَرْوةً

فذبحته بها حتَّى قلت قد نخعته فاسبطَرَّ لحِينِه فأردت أن أصغي إليه وأشرْتُ بإبهامي في فيه فعضَّ عليها عضةً اختلعَت أنيابَه فلم يخلِّها حتى عضضْت على رأسِه .
قال : فأتيتُ أهلي فشققْتُ بطنَه فإذا فيها حيّتان عظيمتان إلاَّ الرَّأس .
قال : وهو يشدخ رأسَ الحيَّة ثمّ يبتلعُها فلا يضرُّه سمُّها وهذا عنده أعجب ما فيه فكيف لو رأى الحوَّائين عندنا وأحدُهم يُعطَى الشيءَ اليسير فإن شاء أكل الأفْعى نِيّاً وإن شاء شِواءً وإن شاء قَديداً فلا يضرُّه ذلك بقليلٍ ولا كثير .
وفي الوَرل أنه ليس شيءٌ من الحيوان أقوَى على أكل الحَيَّات وقتلها منه ولا أكثر سفاداً حتى لقد طمّ في ذلك على التَّيس وعلى الجمل وعلى العُصفور وعلى الخِنزير وعلى الذِّبَّانِ في العدد وفي طُول المكث

وفيه أنَّه لا يحتفر لنفسه بيتاً ويغتصب كلَّ شيء بيتَه لأنها أيَّ جُحر دخَلتْه هربَ منه صاحبُه فالورَل يغتصب الحيَّة بيتَها كما تغتصب الحيَّةُ بيوت سائر الأحناش والطّير والضَّب .
وهو أيضاً من المراكِب وهو أيضاً مما يُستطاب وله شَحمة وَيَستطيبون لحمَ ذنبه والورل دابَّة خفيفُ الحَركة ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً وليس شيء بعد العَظَاءة أكثر تلفُّتاً منه وتوقفاً .

زعم المجوس في العظاءة

وتزعم المجوس أنّ أَهْرِمَن وهو إبليس لمَّا جلس في مجلسه في أوَّل الدهر ليقسِّم الشَّرَّ والسُّموم فيكون ذلك عدّةً على مناهضة صاحب الخير إذا انقضى الأَجل بينهما ولأنَّ من طباعه أيضاً فعلَ الشر على كلِّ حال كانت العظاءَة آخِرَ من حَضَر فحضَرَتْ وقد قسم السمَّ كلَّه فتداخلها الحسرةُ والأَسف فتراها إذا اشتدّت وقفَتْ وِقْفةَ

تذكُّرٍ لما فاتَها من نصيبها من السُّم )
ولتفريطها في الإبطاء حتى صارتْ لا تسكن إلاَّ في الخرابات والحُشُوش لأنها حين لم يكن فيها من السمّ شيءٌ لم تطلبْ مواضعَ الناس كالوزَغِة التي تسكنُ معهم البيوت وتكرَع في آنيتهم الماءَ وتمجُّه وتُزاقُّ الحيَّات وتهيِّجها عليهم ولذلك نفرت طباعُ النَّاس من الوزَغة فقتلوها تحت كلِّ حجر وسلمت منهم العظاءَة تسليماً منهم .
ولم أر قولاً أشدَّ تناقضاً ولا أمْوق من قولهم هذا لأنّ العظاءَة لم يكن ليعتريَها من الأسف على فوت السمّ على ما ذكروا أوَّلاً إلاَّ وفي طبعها من الشّرَارة الغريزيَّة أكثرُ ممَّا في طبع الأفعى .

شعر فيه ذكر للورل

قال الرَّاجز في معنى الأوَّل : ( يا وَرَلاً رقرق في سَرَابِ ** أكانَ هذا أول الثّوَاب ) قال : ورقرقتُه : سُرعتُه ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً .
قال أبو دُؤاد الإيادي في صفة لسان فرسه : ( عَنْ لسان كَجُثَّة الورَل الأحْ ** مَر مَجَّ الثَّرَى عليه العَرارُ ) وقال خالد بن عُجْرة :

( كأنّ لسانه ورلٌ عليه ** بِدارِ مَضِنّةٍ مَجُّ العرارِ ) ووصف الأصمعيُّ حمرته في بعض أراجيزه فقال :

فروة القنفذ

قد قلنا في القُنفذ وصنيِعه في الحيَّات وفي الأفاعي خاصَّة وفي أنه من المراكب وفي غير ذلك من أمره فيما تقدم هذا المكانَ من هذا الكتاب .
ويقول من نزَع فروته بأنها مملوءة شحيمة والأعراب تستطيبُ أكله وهو طيِّب للأرواح .


شعر فيه ذكر للقنفذ والقنفذ لا يظهر إلا بالليل كالمستخفي فلذلك شبه به قال أيمن بن خُريم : ( كقنفذ الرَّمل لا تخفى مدارِجُه ** خِبٌّ إذا نام عنْهُ النّاسُ لم يَنَم ) وقال عَبْدَة بن الطبيب : ( قومٌ إذا دَمَسَ الظّلامُ عليهمُ ** حَدَجوا قَنافِذَ بالنّمِيمةِ تمْزَعُ ) وقال : ) ( شَرَيْتُ الأُمور وغالَيْتُها ** فأوْلَى لَكُمْ يابَني الأعرجِ ) ( تدبُّون حول رَكِيَّاتكُمْ ** دَبِيبَ القنافِذِ في العَرْفَجِ ) وقال الآخر في غير هذا الباب :

وقال عبَّاس بن مِرداس السُّلَمِيُّ يَضرب المَثَلَ به وبأذنيه في القلّة والصَّغَر : ( فإنَّك لم تك كابن الشَّرِيد ** ولكنْ أبوك أبو سَالِم ) ( حَمَلْتَ المئين وأثقالها ** على أذنَي قنفُذٍ رازم ) ( وأشبْهتَ جَدَّكَ شرّ الجدودِ ** وَالعِرْقُ يَسْرِي إلى النّائمِ ) وأنشدنيِ الدَّلهمُ بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عُكل قال : أنشدنيه نفيع بن طارق في تشبيه رَكَب المرأة إذا جَمَّمَ بجلد القنفذ : ( علقَ من عنائه وشقوته ** وقد رأيتَ هدجاً في مشيته ) ( وقد جلاَ الشيبُ عذارَ لحيته ** بنتَ ثماني عشرةٍ من حجته ) ( يظنها ظنًّا بغير رؤيته ** تمشى بجهمٍ ضيقهُ من همته )

( لم يخزه الله برحب سعته ** جممَ بعدَ حلقهِ ونورته ) ( كقنفذ القفِّ اختفى في فروته ** لا يبلغ الأيرُ بنزعِ رهوته ) ( ولا يكرُّ راجعاً بكرته ** كأنَّ فيه وهجاً من ملته ) من تسمى بقنفذ ويتسمَّون بالقَنافذ وذو البرة الذي ذكره عَمرو بن كلثوم هو الذي يقال له : بُرة القُنفذ وهو كعب ( وذو البُرة الذي حُدِّثتَ عَنه ** بهِ نَحْمَى وَنَشْفِيس المُلْجَئِينَا ) كبار القنافذ ومن القنافذ جنس وهو أعظم من هذه القنافذ وذلك أنّ لها شوكاً كصَياصي الحاكة وإنَّما هي مدارَى قد سُخِّرَتْ لها وذلِّلت

تلك المغارز والمنابت ويكون متى شاء أن ينصل منها رمى به الشخصَ الذي يخافُه فَعلاَحتّى كَأنّه السهم الذي يخرجه الوتر .
ولم أر أشبه به في الحذف من شَجر الخِرْوع فإنَّ الحبَّ إذا جفَّ في أكمامه وتصدَّع عنه بعضَ الصَّدع حذف به بعضُ الغصون فربَّما وقَع على قاب الرّمح الطويل وأكثر من ذلك

تحريك بعض أعضاء الحيوان دون بعض

)
والبرذون يسقُط على جلدِهِ ذبابةٌ فيحرِّك ذلك الموضعَ فهذا عامٌّ في الخيل فأمَّا النَّاس فإن المخنَّث ربما حرَّك شيئاً من جسدَه وأيَّ موضعٍ شاء من بدنه .
والكاعاني وهو اسم الذي يتجنّن أو يتفالج فالج الرِّعدة والارتعاش فإنّه يحكي من صَرْع الشَّيطان ومن الإزباد ومن النَّفضة ما ليس يصدرُ عنهما وربّما جمعهما في نِقابٍ واحد فأراك اللّه تعالى منه مجنوناً مفلوجاً يجمع الحركتين جميعاً بما لا يجيء من طباع المجنون .
والإنسان العاقلُ وإن كان لا يحسُن يبني كهيئة وَكْر الزُّنبور ونسج العنكبوت فإنه إذا صار إلى حكاية أصوات البهائم وجميع الدوابّ

وحكاية العُمْيان والعُرْجان والفأفأء وإلى أنْ يصوِّر أصنافَ الحيوان بيده بَلَغ من حكايته الصُّورةَ والصوت والحركة ما لا يبلغه المحكيّ .
الحركات العجيبة وفي النَّاس من يحرِّك أذنَيه من بين سائر جسده وربَّما حرَّك إحداهما قبل الأخرى ومنهم من يحرِّك شعر رأسه كما أنَّ منهم من يبكي إذا شاء ويضحَك إذا شاء .
وخبَّرني بعضهم أنّه رأى من يبكي بإحدى عينيه وبالتي يقترحُها عليه الغير .
وحكى المكّي عن جَوارٍ باليمن لهنّ قرونٌ مضفورةٌ من شعر رؤوسهن وأنَّ إحداهنَّ تلعب وترقُص على إيقاعٍ موزون ثمَّ تُشخِص قرناً من تلك القرون ثمَّ تلعب وترقص ثمَّ تُشِخص من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى حتَّى تنتصب كأنها قرونٌ أوَابدُ في رأسها فقلت له : فلعلَّ التَّضفير والترصيع أن يكون شديد الفتْل ببعض

الغِسْل والتّلبيد فإذا أخرجَتْه بالحركة التي تُثْبِتُها في أصل تلك الضفيرة شخَصت فلم أره ذهبَ إلى ذلك ورأيته يحقّقه ويستشهد بأخيه .
نوم الذئب وتزعمُ الأعراب أنّ الذّئب ينامُ بإحدى عينيه ويزعمون أنّ ذلك من حاقِّ الحذر وينشد شعر ( يَنامُ بِإحدى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي ال ** مَنَايا بأُخْرَى فهو يَقظانُ هاجعُ ) وأنا أظنُّ هذا الحديث في معنَى ما مُدح به تأبَّط شرّاً : ( إذا خاط عينيه كرَى النّوم لم يَزلْ ** له كالئٌ من قلب شَيْحَانَ فاتكِ ) ( ويجعَلُ عيَنَيه رَبِيئَة قلْبهِ ** إلى سَلّةٍ منْ حَدّ أخْضَرَ باتكِ )

قولهم : أسمع من قنفذ ومن دلدل ويقال : أسمَعُ من قُنْفُذ وقد ينبغي أن يكون قولهم : أسمعُ من الدُّلدُل من الأمثال المولّدة . )
المتقاربات من الحيوان وفرق ما بين القنفذِ والدُّلدُل كفرق ما بين الفَأْر والجُرْذان والبقر والجواميس والبَخَاتيِّ والعِراب والضّأن والمعز والذّر والنّمل والجوَاف والأسبور وأجناس من الحيّات وغير ذلك فإنّ هذه الأجناس منها ما يتسافد ويتلاقح ومنها ما لا يكون ذلك فيها .
قولهم : افحش من فاسية ويقال : إنّه لأفْحشُ من فاسية وهي الخنفساء لأنّها تفسو في يد من مَسَّها وقال بعضهم : إنّه عنى الظَّربان لأنّ الظّربان يفْسُو في وسط الهجْمة فتتفرَّق الإبل فلا تجتمع إلا بالجهد الشّديد

قولهم : ألج من الخنفساء ويقال : ألجُّ من الخنفساء وقال خلفٌ الأحمرُ وهو يهجو رجلاً : رجز في الضبع وأنشد أبو الرُّديني عن عبد اللّه بن كُراع أخي سُويد بن كُراع في الضّبع : ( مَنْ يجن أولاد طريفٍ رَهْطا ** مُرْداً أوله شُمطا ) ( رَأى عَضاريط طِوالاً ثُطَّا ** كأضْبعٍ مُرْطٍ هَبطْنَ هَبْطَا ) ( ثم يفسِّينَ هَزِيلاً مَرْطَا ** إنَّ لكم عندي هناءً لَعْطَا ) خطماً على آنِفُكُمْ وعلطا

قصة أبي مجيب وحكى أبو مجيب ما أصابه من أهله ثمَّ قال : وقد رأيت رؤيا عبَّرتها : رأيتُ كأني طردت أرنباً فانَجحرتْ فحفرتُ عنها حتَّى استخرجتها فرجوت أن يكون ذلك ولداً أُرزقه وإنه كانت لي ابنة عمٍّ هاهنا فأردتُ أن أتزوَّجها فما ترى قلت : تزوَّجْها على بركة اللّه تعالى ففَعل ثمَّ استأذنني أنْ يقيم عندنا أيَّاماً فأقام ثم أتاني فقلتُ : لاتخبرْني بشيءٍ حتى أنشدَك ثمَّ أنشدْتُه هذه الأبيات : ( يا لَيت شِعْرِي عَن أبي مجيبِ ** إذْ باتَ في مَجَاسِدٍ وطيبِ )

( مُعانقاً للرَّشأ الرَّبيبِ ** أأقْحَمَ الحِفارَ في القَليبِ ) قال : بلى كان واللّه رخْواً يابسَ القضيب واللّه لكأنّكَ كنتَ معنا ومُشاهِدَنا .

خصال الفهد

فأمَّا الفهد فالذي يحضُرنا من خصاله أنّّه يقال إن عظام السِّباع تشتهي ريَحه وتستدلُّ برائحته على مكانهِ وتُعجَب بلحمه أشدّ العجب .
وقد يصادُ بضروبٍ منها الصَّوت الحسَن فإنّه يُصغِي إليه إصغاءً حسناً وإذا اصطادوا المسنَّ كان أنفعَ لأهله في الصَّيد من الجرو الذي يربُّونه لأنَّ الجرو يخرج خَبّاً ويخرج المسنُّ عَلَى التأديب صَيُوداً غيرَ خِبٍّ ولا مُوَاكِلٍ في صيده وهو أنفع من صيد كلِّ صائد وأحسن في العين وله فيه تدبيرٌ عجيب .


وليس شيءٌ في مثل جِسْم الفَهد إلاّ والفَهد أثقلُ منه وأحطمُ لظهر الدابَّة التي يَرقَى على مؤخَّرها .
والفهد أنْوَم الخلق وليس نومه كنوم الكلب لأن الكلب نومه نعاس واختلاس والفهد نومه مُصْمَت : قال أبو حيَّة النّميري : ( بعذاريها أناساً نام حلمهمُ ** عَنّا وعنك وعنها نومةَ الفَهَدِ ) وقال حُميد بن ثَورٍ الهِلاليّ :

أرجوزة في صفة الفهد

وقال الرقاشيُّ في صفة الفهد : ( قد أغتدى والليلُ أحوى السدِّ ** والصبحُ في الظلماء ذو تهدى ) ( مثل اهتزازِ العضب ذى الفرندِ ** بأهرتِ الشدقين ملتئد ) ( أربدَ مضبورِ القرا علكدِ ** طاوى الحشا في طى ِّ جشمٍ معدِ )

( كزَّ البراجيمِ هصور الجدِّ ** برامز ذى نكتٍ مسودِّ ) ( وسحر اللجين سحر وردِ ** شرنبثٍ أغلبَ مصعدِّ ) ( كالليث إلاَّ عاين بعدَ الجهدِ ** على قطاة الردف ردف العبد ) ( سر سرعتنا بحس صلد ** وانقضَّ يأدو غيرَ مجرهدَّ ) ( في ملهبٍ مه وختلٍ إدِّ ** مثل انسياب الحية العربد ) وقوله : مثل انسياب الحيَّة العربدِّ هذه الحيَّة عين الدابّة التي

يقال لها العربِد وقد ذكرها مالك بن حريم في قوله لعمْرو بن معد يكرب : ( يا عمرو لو أبصرتني ** لرفوتنى ف يالخيل رفوا ) ( فلقيت مني عربداً ** يقطو أمامَ الخيلِ قطوا ) ( لما رأيتُ نساءهم ** يدخلنَ تحت البيت حبوا ) ( وسمعتُ زجرَ الخيل في ** جوفِ الظلام هبى وهبوا ) ( في فيلقٍ ملمومةٍ ** تسطو على الخبراتِ سطوا )

وقال الرَّقاشي أيضاً في الفهد : ( لما غدا للصَّيدِ آلُ جَعْفَرِ ** رَهْطُ رسولِ اللّه أهلُ المفْخَر ) ( بفَهْدَةٍ ذات قَراً مُضَبَّر ** وكاهلٍ بادٍ وعنْق أزْهر ) ( ومُقْلةٍ سال سَوادُ المحجرِ ** منها إلى شِدقٍ رُحابِ المفْغَر ) ( وذنبٍ طالَ وجلْدٍ أنْمَر ** وأيْطلٍ مستأسدٍ غضنفر ) ( وأذنٍ مكسورةٍ لم تجْبرِ ** فَطْساءَ فيها رَحَبٌ في المنخر ) ( مثل وجار التتفل المقوَّر ** أرثها إسحاق في التعذر ) منها على الخدَّين والمُعذّر )

نعت ابن أبي كريمة للفهد

( كأنَّ بناتِ القَفْر حين تشعّبَتْ ** غدوت عليها بالمنايَا الشواعبِ )

( بذلك نبَغي الصيد طوراً وتارةً ** بمُخْطفة الأحشاء رحْبِ التّرائبِ ) ( مُوَقَّفة الأذناب نُمرٍ ظهورها ** مخطّطة الآماق غلبِ الغَوَارب ) ( مُوَلَّعةٍ فُطْح الجِبَاهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشْداقها خطّ كاتبِ ) ( فوارسُ ما لم تلقَ حرْباً ورجلةٌ ** إذا آنَسَتْ بالبيد شُهبَ الكتائبِ ) ( تضَاءَلُ حَتَّى ما تكاد تُبينُها ** عيونٌ لدى الصّرّاتِ غير كواذب ) ( توسّد أجيَادَ الفرائس أذرُعاً ** مُرَمَّلة تحْكي عِناقَ الحَبائب )

ما يضاف إلى اليهود من الحيوان

قال : والصبيان يصيحون بالفهد إذا رأوه : يا يهوديّ وقد عرفنا مَقالهم في الجِرِّيّ .


والعامَّة تزعم أن الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة والأرضة يهودية أيضاً عندهم ولذلك يلطِّخون الأجذاع بشحم الجزُور .
والضبّ يهوديّ ولذلك قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً : اعلمْ أنّك أكلت شيخاً من بني ولا أراهم يضيفون إلى النّصرانية شيئاً من السِّباع والحشرات .
ولذلك قال أبو علقمة : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون فقيل له : فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب وإنما كذبوا على الذِّئب ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ : وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ قال : فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف .
فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله .

زعم المجوس في لبس أعوان سومين

وتزعمُ المجوس أنّ بَشُوتَن الذي ينتظرون خروجه ويزعُمون أنّ الملك يصيرُ إليه يخرج على بقرةٍ ذاتِ قرون ومعه سبعون رجلاً عليهم جلود الفهود لا يعرفُ هرّا ولا بِرّاً حتى يأخذ جميع الدنيا .


الهرّ والبرّ وكذلك إلغازهم في الهرّ والبرّ وابن الكلبي يزعم عن الشّرقي بن القطاميّ أن الهرّ السنّور والبرّ الفارة .

جوارح الملوك

وليس ترى شريفاً يستحسِنُ حملَ البازي لأنّ ذلك من عمل البازيار ويستهجن حمل الصُّقور والشواهين وغيرها من الجوارح وما أدري علّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ والصَّقر عربيّ .
ومن الحيوان الذي يدرّب فيستجيب ويَكيس وينصَح العَقْعَقُ فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور ويُزْجِر فيعرف ما يُرَاد منه ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه فيه ولكن لا يلزم البحث عنه .
وهو مع ذلك كثيراً ما يُضيع بيضه وفِراخه .


مخبئات الدراهم والحلى وثلاثة أشياءَ تُخبِّي الدَّراهم والحليَ وتَفْرَحُ بذلك من غير انتفاع به منها : العَقعقُ ومنها ابن مِقْرض : دويْبّةٌ آلَقُ من ابن عِرْس وهو صعبٌ وحْشيٌّ يحبُّ الدَّراهم ويفْرَحُ بأخذها ويخبيها وهو مع ذلك يصيد العصافير صيداً كثيراً وذلك أنّهُ يُؤْخَذ فيُربَطُ بخيطٍ شديد الفتْل ويُقابلُ به بيت الْعُصفور فيدخُلُ عليه فيأخذه وفراخَه ولايقتلها حتى يقتلها الرّجل فلا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جُحْر فإذا حلّ خيطه ذهَبَ ولم يقُم .
وضرب من الفار يسرق الدَّراهِمَ والدنانير والحَلْي ويفرح به ويُظْهِرهُ ويغيِّبه في الجُحر وينظُر إليه ذَنَبُ الوزغة قال : وخطب الأشعث فقال : أيُّها الناسُ إنه مابقي من عدوِّكم إلا كما بقي من ذَنَب الوزَغة تضرِب به يميناً وشمالاً ثم لاتلبث أن تموت

فمر به رجلٌ من قشير فسمع كلامه فقال : قَبَّح اللّه )
تعالى هذا ورأيَه يأمر أصحابَه بقلَّة الاحتراس وتركِ الاستعداد .
وقد يُقطَع ذنبُ الوزَغةِ من ثلثها الأسفل فتعيش إن أفلتَتْ من الذَّرِّ .
أشد الحيوان احتمالاً للطعن والبتر وقد تحتمل الخنافسُ والكلابُ من الطَّعْن الجائف والسّهم النَّافذ ما لا يحتملُ مثلَه شيء والخُنفَسَاءُ أعْجبُ من ذلك وكفاك بالضّبِّ .
والجمل يكون سَنامُه كالهدف فيُكشَف عنه جلدُه في المجهدَة ثمَّ يُجتث من أصله بالشِّفار ثمَّ تعاد عليه الجلدةُ ويُدَاوَى فيبرأ ويحتمل ذلك وهو أعْجَب في ذلك من الكبش في قطع أليته من أصل عَجْب ذنَبه وهي كالتُّرس وربما فعل ذلك به وهو لا يستطيع أن يقُلَّ أليته إلاّ بأداةٍ تتَّخذ ولكنَّ الألية على كلِّ حال طرفٌ زائد والسَّنام قد طبَّقَ على جميع ما في الجوف .


ذكاء إياس ونظر إياسُ بن معاوية في الرَّحْبة بواسط إلى آجُرَّة فقال : تحت هذه الآجُرَّة دابّة : فنزعوا الآجُرَّة فإذا تحتها حيَّة متطوِّقة فسُئِل عن ذلك فقال لأنِّي رأيتُ ما بينَ الآجُرَّتين نَدِيّاً من جميع تلك الرَّحَبة فعلمتُ أن تحتها شيئاً يتنفّس .
هداية الكلاب في الثلوج وإذا سقط الثّلج في الصحارى صار كلَّه طبقاً واحداً إلاّ ما كان مقابلاً لأفواه جِحَرة الوحْش والحشرات فإنّ الثّلج في ذلك المكان يَنْحسر ويرقّ لأنفاسها من أفواهها ومنَاخِرها ووهَج أبدانها فالكلابُ في تلك الحال يعتادها الاسترواح حتى تقفَ بالكلاّبين على رؤوس المواضع التي تنبت الإجْرِدّ والقَصيص وهي التربة التي تُنبتُ الكَمْأة وتربِّيها .
تعرّف مواضع الكمأة وربما كانت الواحدةُ كالرُّمانة الفخْمة ثم تتخلَّق من غير بزر وليس لها عرقٌ تمصُّ به من قُوى تلك الأرض ولكنها قوى اجتمعَت

من طريق الاستحالات كما يَنطبخُ في أعماق الأرض من جميع الجواهر وليس لها بدّ من تربةِ ذلك من جوهرها ولا بدَّ لها من وسْميّ فإذا صار جانِيها إلى تلك المواضع ولا سيما إن كان اليومُ يوماً لِشمسهِ وَقْعٌ فإنه إذا أبصر الإجرِدَّ والقَصِيص استدلَّ على مواضعها بانتفاخ الأرض وانصداعها .
وإذا نظر الأعرابيّ إلى موضع الانتفاخ يتصدّعُ في مكانه فكان تفتُّحه في الحالات مستوياً علم أنَّه ) ( نوادرَ وأشعار وأحاديث ) قال الشّاعر : ( وعصَيتِ أمْرَ ذوي النُّهى ** وأطعْتِ رأيَ ذَوي الْجَهالَهْ ) ( فاحتلتُ حِينَ صَرَمْتِنِي ** والمرءُ يَعْجَزُ لا المَحَاله ) ( والعبدُ يقرعُ بالعصا ** والحرُّ تكفيه المقالهْ )

وقال بشّار : ( وصاحبٍ كالدُّمّل المُمِدِّ ** حَمَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلِدي ) ( الحُرُّ يُلْحَى والعصا للعَبْدِ ** وليس للملحِفِ مثلُ الرَّدِّ ) وقال خليفة الأقطع : ( العبد يُقْرَعُ بالعصا ** والحُرُّ تكفيه المَلامَهْ ) ( القول في العُرْجان ) قال رجلٌ من بني عِجْل : ( وشَى بيَ واشٍ عندَ لَيْلَى سَفاهةً ** فقالت له ليلَى مقالةَ ذي عقْلِ ) ( وخبَّرَها أنِّي عَرِجْتَ فم تكُنْ ** كَوَرْهَاءَ تجترّ الملامة للبَعلِ ) ( وما بيَ مِنْ عَيبِ الفتى غَيْرَ أنّني ** جَعَلْتُ العَصَا رِجلاً أقيمُ بها رِجلي ) وقال أبو حَيَّة في مثل ذلك : ( وقد جَعَلْتُ إذ ما قُمتُ يُوجِعُني ** ظهْري فَقُمت قِيَامَ الشّاربِ السَّكرِ )

( وكنتُ أمشي على رِجلْينِ مُعْتَدِلاً ** فصرتُ أمشي على أخرى من الشجر ) وقال أعرابيٌّ من بني تميم : ( وما بيَ منْ عيب الفتى غَيْرَ أنّني ** ألِفْتُ قناتي حِينَ أوجَعني ظَهْري ) وكان بنو الحَدَّاءِ عُرْجاناً كلّهم فهجاهُم بعض الشُّعراء فقال : ( للّه درُّ بَني الحَدّاءِ منْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيِرانِهِ كَلِبُ ) ( إذا غَدَوْا وعصيُّ الطّلْح أرجُلُهُم ** كما تُنَصَّبُ وَسْطَ البيعَةِ الصُّلُبُ ) والذي طفَّفَ الجدار من الذُّع ر وقد بات قاسِمَ الأنفالِ

فغدا خامعاً بأيدِي هَشِيمٍ وبسَاقٍ كعُودِ طَلحٍ بالِ )
وله حديثٌ .

عصا الحكم بن عبدل

وكان الحكمُ بن عبدل أعرجَ وكان بعد هجائه لمحمد بن حسَّان بنِ سعد لا يبعث إلى أحدٍ بعصاه التي يتوكأ عليها وكتبَ عليها حاجَته إلاّ قضاها كيفَ كانت فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أميرُ الكوفة وكان أعرجَ وكان صاحبُ شُرطته أعرَج فقال ابن عَبْدَل : ( ألقِ العَصَا ودَعِ التَّعَارجَ والتمِسْ ** عملاً فهذي دَولَةُ العُرجانِ )

( فأميرنُا وأميرُ شُرطِتنَا مَعاً ** يا قومنا لكليهما رِجلان ) ( فإذا يكونُ أميرنُا ووزيرُه ** وأنا فإنّ الرَّابعَ الشيطانُ ) وقال آخر ووصف ضَعفه وكِبَر سنِّه : ( آتِي النديَّ فلا يُقرَّب مجلسي ** وأقودُ للشرَف الرفيع حمارِيا ) وكان من العُرجان والشعراء أبو ثعلب وهو كليب بن أبي الغول ومنهم أبو مالك الأعرج وفي أحدهما يقول اليزيدي : ( أبو ثعلبٍ للناطفيِّ مؤازِرٌ ** على خبثه والناطفيُّ غيورُ ) ( وبالبغلة الشهباء رِقَّةُ حافرٍ ** وصاحبُنا ماضي الجَنان جَسورُ ) ( ولا غَرْوَ أنْ كان الأعيرجُ آرَهَا ** وما الناسُ إلآ آيِرٌ ُ ومَئيرُ )

( البدء والثُّنيان ) وقال الشاعر : ( تَلَقى ثِنَانا إذا ما جاءٍ بَدَأَهم ** وبَدْؤُهم إنْ أتانا كان ثُنْيانَا ) فالبدء أضخم السَّادات يقال ثِنًى وثنيان وهو اسم واحد وهو تأويلُ قولِ الشَّاعرِ : ( يَصُدُّ الشَّاعر الثُّنْيَانُ عَنِّي ** صُدُودَ الْبَكْرِ عن قَرْمٍ هِجَانِ ) لم يمدح نفسه بأن لا يغلب الفحل وإنَّما يغلب الثّنيانَ وإنما

أراد أنْ يصغِّر بالذي هَجَاه بأنه ثنيان وإن كان عندَ نفسِه فحلاً وأمَّا قول الشَّاعر : وَمَنْ يَفْخَرْ بمثل أبي وجَدّي يجئْ قبل السّوابقِ وهو ثانِ

أحاديث من أعاجيب المماليك

أتيتُ باب السَّعدانيَ فإذا غلامٌ له مليحٌ بالباب كان يتْبع دابَّته فقلت له : قلْ لمولاك إن شئتَ بكَرتَ إليَّ وإن شئت بكَرتُ إليك قال : أنا ليس أكلّم مولاي ومعي أبو القنافذ فقال أبو القنافذ : ما نحتاج مع هذا الْخُبْرِ إلى معايَنَة .
وقال أبو البصير المنجِّم وهو عند قثم بن جعفر لغلام له مليحٍ صَغيرِ السّنّ : ما حَبَسك يا حلَقيّ والحلقيُّ : المخنث ثمّ قال : أمَا واللّه

لئن قمتُ إليك يا حلَقيُّ لَتَعلمنَّفلمَّا أكثر عليه من هذا الكلام بكى و قال : أدعو اللّه على مَنْ جعلَني حَلَقياً .
حدَّثني الحسن بنُ المرْزبانِ قال : كنتُ مع أصحابٍ لنا إذ أُتينا بغلامٍ سنديٍّ يُباع فقلتُ له : أشتريك يا غلام فقال : حتَّى أسألَ عنك قال المكِّي : وأُتِيَ المثنّى بن بِشرٍ بِسِنْديٍّ ليشتريه على أنّه طبّاخ فقال له المثنى : كَمْ تحسنُ يا غلامُ من لونٍ فلم يُجبْه فأعاد عليه وقال : يا غلامُ كَمْ تحسنُ من لون فكلّم غيرَه وتركه فقال المثنّى في الثالثة : ما له لايتكلم يا غلام كم تحسنُ من لون فقال السندي : كم تحسن من لون كم تحسن من لون وأنت لا تحسن ما يكفيك أنت قال : حسبُك الآن : ثم قال المثنّى للدَّلاّل : وحدَّثني ثمامة قال : جاءنا رجلٌ بغلامٍ سِنديّ يزعمُ أنّه طباخٌ حاذق فاشتريتُه منه فلمَّا أمرتُ له بالمال قال الرَّجل : إنه قد غاب عنا غيبةً فإن اشتريتَه عَلى هذا الشّرط وإلاّ فاتركْهُ فقلتُ للسندي : أكنتَ أبقْتَ قطّ قال : واللّه ما أبقْتُ قطّ فقلت : أنت الآن قد جمعتَ مع الإباق الكذب قال : كيف ذلك قلتُ : لأنّ هذا الموضعَ لا يجوز أنْ يكذِب فيه البائع قال : جعلني اللّه )
تعالى فِدَاءَك أنا واللّه أخبرك عن قصّتي : كنت أذنَبتُ ذنْباً كما يُذْنِبُ هذا وهذا جميعُ غلمان النّاس

فحلف بكلّ يمين لَيضربنِّي أربَعمائة سوط فكنتَ ترى لي أن أقيم قلت : لا واللّه قال : فهذا الآن إباق قلتُ لا قال : فاشتريته فإذا هو أحسنُ النّاس خَبْزاً وأطيبُهم طبخاً .
وخبَّرني رجلٌ قال : قال رجلٌ لغلام له ذاتَ يوم : يا فاجر قال : جعلني اللّه فِداك مَولى القوم منهم .
وزعم روح بن الطائفية وكان روْحٌ عَبداً لأخْت أنَس بن أبي شيخ وكانت قد فوَّضت إليه كلَّ شيءٍ من أمْرها قال : دخلت السُّوق أريدُ شراءَ غلامٍ طبَّاخ فبينا أنا واقفٌ إذ جيءَ بغلامٍ يُعرَض بعشرة دنانير ويساوي على حُسْن وجهه وجودة قدِّه وحداثة سنِّه دونَ صناعته مائَة دينار فلمَّا رأيته لم أتمالك أنْ دنوتُ منه فقلت : ويحك أقلُّ ثمنِك على وجْهِك مائةُ دينار واللّه ما يبيعُك مولاك بعشْرَة دنانيرَ إلاّ وأنت شرُّ الناس فقال : أمَّا لهم فأنا شرُّ الناس وأمَّا لغيرهم فأنا أساوي مائةً ومائةً قال : فقلت : التزيُّن بجمالِ هذا وطيبِ طبْخِه يوماً واحداً عند أصحابي خيرٌ من عشرة دنانير فابتَعته ومضيتُ به إلى المنزل فرأيت من حِذقه وخِدمته وَقلَّة تزيُّده ما إنْ بعثْتُه إلى الصيّرفي لِيأتيني من قِبَله بعشرين ديناراً فأخذَها ومضى على وجْهه

فو اللّه ما شعَرت إلاّ والنَّاشد قد جاءني وهو يطلب جُعْله فقلت : لهذا وشبْهه باعك القَومُ بعشرة دنانير قال : لولا أنِّي أعلم أنَّك لا تصدِّق يميني و كيف طرَّت الدّنانير من ثَوبي ولكنِّي أقولُ لك واحدة : احتبسني واحترسْ مِنِّي واستمتعْ بخدمتي واحتسِبْ أنَّك كنت اشتريتني بثلاثين ديناراً قال : فاحتبسته لهوايَ فيه وقلت لعلَّه أنْ يكونَ صادقاً ثمَّ رأيتُ واللّه من صلاحه وإنابته وحُسْن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصَّته حتى دفعتُ إليه يَوماً ثلاثين ديناراً ليوصلها إلى أهلي فلمَّا صارت إلى يده ذهبَ على وجهه فلم ألبثْ إلاّ أيّاماً حتى ردّه النّاشد فقلت له : زَعمتَ أنّ الدَّنانير الأولى طُرَّتْ منك فما قولك في هذه الثانية قال : أنا واللّهِ أعلم أنَّك لا تقبل لي عُذْراً فدَعْني خارجَ الدار ولا تجاوِزْ بي خدمةَ المطبخ ولو كان الضَّرْبُ يردُّ عليك شيئاً من مالِك لأشرتُ عليك به ولكنْ قد ذهبَ مالُك والضَّرب ينقُص من أجْرك ولعلِّي أيضاً أموتُ تحتَ الضّرب فتندمَ وتأثمَ وتفتضحَ

ويطلبَك السلطان ولكنْ اقتصِرْ بي على المطْبخ فإنِّي سأسُرُّك فيه وأوفره عليك وأستجيد ما أشتريه وأستصلحه لك وعدَّ أنْك اشتريتني بستّين ديناراً فقلت له : أنت لا تفلح بعد هذا اذهبْ فأنتَ حرٌّ لوجه اللّه تعالى فقال لي : أنت )
عبدٌ فكيف يجوز عتقُك قلت فأبيعُك بما عَزَّ أوْ هانََ فقال : لا تَبعْني حَتَّى تُعِدَّ طبَّاخاً فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غِذاءً إلاّ بخبزٍ وباقِلاء قال : فتركته ومَرَّتْ بعد ذلك أيامٌ فبينا أنا جالسٌ يوماً إذْ مرَّت عليّ شاةٌ لبونٌ كريمة غزيرة الدّرّ كنا فرَّقنا بينها وبين عَناقها فأكثرتْ في الثُّغاء فقلت كما يقول النّاس وكما يقول الضّجر : اللهمَّ العنْ هذه الشاة ليت أنَّ اللّه بعثَ إنساناً ذبحها أو سرَقها حتى نستريحَ من صياحها قال : فلم ألبَثْ إلاّ بقدْر ما غاب عن عيني ثمَّ عاد فإذا في يده سِكِّين وسَاطور وعليه قَميصُ العَمَل ثمّ أقبل عليّ فقال : هذا اللّحم ما نصنع به وأيُّ شيءٍ تأمرني به فقلت : وأيُّ لحم قال : لحم هذه الشاة قلت :

وأيُّما شاةٍ قال : التي أمرتَ بذبحها قلت : وأي شاةٍ أمرْت بذَبحها قال : سبحان اللّه أليس قد قلت السّاعة : ليت أن اللّه تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها فلما أعطاك اللّه تعالى سؤلك صرتَ تتجاهل قال روح : فبقِيت واللّه لا أقدرُ على حبَسه ولا على بيعه ولا على عِتقه . ( أشعارٌ حِسَان ) وقال مسكينٌ الدّارميّ : ( كأنّ على خُرطومه متهافِتاً ** من القُطن هاجته الأكفُّ النوادفُ ) ( وللَصَّدَأ المُسْوَدُّ أطيبُ عندَنا ** من المِسك دافته الأكْفُّ الدوائفُ )

( ويصبْح عِرفان الدُّرُوعِ جلودَنا ** إذا جاءَ يومٌ مُظلمُ اللّونِ كاسفُ ) ( تعلق في مثل السّواري سُيوفنا ** وما بينها والكعب مِنَّا تنائفُ ) ( وكلُّ رُدَيْنيٍّ كأنَّ كُعوبَه ** قطاً سابقٌ مستوردُ الماء صائفُ ) ( كأنّ هِلالاً لاحَ فوقَ قَنَاتِهِ ** جلا الغَيْمَ عنه والقتامَ الحَراجِفُ ) ( له مثلُ حُلقومِ النَّعامة حلة ** ومثل القدامى ساقها متناصفُ ) وقال أيضاً مِسكينٌ الدَّارِميّ : ( وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ** فهناكُمْ وافَقَ الشَّنُّ الطبَقْ ) ( إنَّما الفُحشُ ومنْ يعتادُه ** كغُرابِ البَيْن ما شَاءَ نعَقْ ) ( أو حمارِ السَّوءِ إنْ أشبعْتَهُ ** رَمَحَ النَّاسَ وإنْ جَاعَ نَهَقْ )

( أو غُلامِ السَّوءِ إنْ جوَّعته ** سَرَق الجارَ وإن يشْبَع فسَق ) وقال ابن قيس الرقيات : ) مَعقل القوم من قُريشٍ إذا ما فازَ بالجهلِ مَعْشَرٌ آخرُونا وقال ابن قيس أيضاً واسُمه عبد اللّه : ( لو كانَ حَولي بنو أمَيّة لم ** ينطِق رجالٌ إذا همُ نَطقُوا ) ( إنْ جَلسُوا لم تَضقْ مجالسهُم ** أو ركِبوا ضاق عنهمُ الأُفقُ ) ( كَمْ فيهم من فَتًى أخي ثقَةٍ ** عن مَنْكِبَيه القميصُ منخرقُ ) ( تحبُّهم عُوَّذ النِّساء إذا ** ما احمَرَّ تحت القوانِسِ الْحَدَقُ ) ( وأنكَرَ الكَلْبُ أهلَه ورأى الشَّرَّ ** وطاحَ المروَّع الفَرِقُ ) وقال النابغة : ( سَهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جنّةُ البقَّارِ )

وقال بشار بن برد : ( يطيَّبُ ريحُ الخيزُرَانَةِ بينَهمْ ** على أنّها ريحُ الدِّماء تضُوع ) سنقول في الشهب وفي استراق السمع وإنّما تركْنا جمعَه في مكان واحد لأنّ ذلك كان يطولُ على القارئ ولو قد قرأ فضْل الإنسان على الجانّ والحجَّة على مَن أنكرَ الجانّ لم يستثقِلْه لأنّه حينئذٍ يقصد إليه على أنّه مقصورٌ على هذا الباب فإذا أدخلناه في باب القول في صغار الوحش والسِّباع والهَمج والحشراتِ قالوا : زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال : وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين وقال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا منْ كُلِّ شيْطان رَجيم وقال تعالى : وجَعَلْناهَا رُجُوماً للِشَّياطين ونحنُ لم نجدْ قطُّ كوكباً خلا مكانهُ فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع

هذا الخلق من سكّان الصحارى والبحار ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء أو يفَكِّر في خلق السموات أن يكون يرى كوكباً واحداً زائلاً مع قوله : وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشَّياطينِ .
قيل لهم : قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه فتضاف تلك الحركةُ إلى كلِّه فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة ومتى فصَل شهابٌ من كوكب فأحرق وأضاء في جميع البلاد فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك الإحراق إلى الكوكب وهذا جواب قريبٌ سهل والحمد للّه .
ولم يقلْ أحد : إنّه يجبُ في قوله : وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للِشَّياطينِ أنّه يَعْني الجميع فإذا كان قد صحّ أنّه إنَّما عَنى البعض فقد عَنى نُجُوم المجرّة والنجومَ التي تظهر في ليالي الحنادس لأنّه محال )
أن تقعَ عينٌ على ذلك الكوكبِ بعينه في وقت زوَاله حتّى يكون اللّه عزّ وجلَّ لو أفنى ذلك الكوكَب من بين جميع الكواكب الملتفَّة لعرف هذا المتأمِّلُ

مكانه ولوَجَدَ مَسَّ فقدِه ومن ظَنَّ بجهله أنَّه يستطيع الإحاطة بعدد النُّجوم فإنه متى تأَمَّلها في الحَنادس وتأمَّل المجرَّة وما حولها لم يضرِب المثل في كثرة العدد إلاّ بها دونَ الرّمل والتّراب وقطْر السَّحاب .
وقال بعضُهم : يدنو الشِّهاب قريباً ونراه يجيء عَرْضاً لا مُنْقضاً ولو كان الكوكب هو الذي ينقضُّ لم يُر كالخيط الدّقيق ولأضاء جميع الدُّنيا ولأحرق كلَّ شيء مما على وجْه الأرض قيل له : قد تكون الكواكب أفقيّة ولا تكونْ علوية فإذا كانت كذلك فصَل الشِّهابُ منها عَرْضَاً وكذلك قال اللّه تعالى : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وقال اللّه عزَّ وجلّ : أوْ آتيكُمْ بشِهابٍ قبس فليس لكم أن تقضوا بأنّ المباشر لبدَن الشيطان هو الكوْكب حتى لا يكون غير ذلك وأنتم تسمعونَ اللّه تعالى يقول :

فأتبعَهُ شِهَابٌ ثَاقبٌ والشِّهاب معروفٌ في اللغة وإذا لم يُوجِبْ عليها ظاهرَ لفظ القُرآن لم ينكر أنْ يكون الشِّهَابُ كالخطّ أو كالسهم لا يضيءُ إلاّ بمقدار ولا يقوى على إحراق هذا العالم وهذا قريبٌ والحمد لله .
وطعن بعضهم من جهة أخرى فقال : زعمتم أنّ اللّه تبارك وتعالى قال : وَحفظًاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ لا يَسَّمعُون إلى الملإ الأعْلى وَيُقْذَفُونَ من كلِّ جانبٍ دُحوراً ولَهُمْ عَذابٌ واصبٌ وقال على سَنَنِ الكلام : إلاّ مَنْ خَطفَ الخْطفَةَ فأتْبَعَهُ شهَابٌ ثاقبٌ قال : فكيف تكون الخطفة من المكان الممنوع قيل له : ليس بممنوعٍ من الخطفة إذ كان لا محالة مرمِيّاً بالشِّهاب ومقْتُولاً على أنّه لو كان سلِمَ بالخطْفة لما كان استفاد شيئاً للتكاذيب والرِّياسة وليس كلُّ من كذب على اللّه وادَّعى النبوَّة كان على اللّه تعالى أنْ يُظهر تكذيبه بِأن يخسِفَ به الأرْض أو ينطِقَ بتكذيبه في تلك السَّاعة وإذا وجبت في العُقول السّليمة ألاّ يصدق في الأخبار لم يكن معه بُرهان فكفى بذلك .
ولو كان ذلك لكانَ جائزاً ولكنَّه ليس بالواجب وعلى أنَّ

ناساً من النحويِّين لم يُدخلوا قوله تعالى : إلاّ منْ خطِف الخْطفَةَ في الاستثناء وقال : إنّما هو كقوله : ( إلاّ كخارجة المكلّفِ نفسَه ** وابنَي قبيصة أن أغيبَ ويشْهدَا ) وقوله أيضاً : ( إلا كناشرة الذي كَلّفتمُ ** كالغُصْنِ في غلوائه المتَنبّتِ )


وقال الشاعر في باب آخر ممّا يكونُ موعظةً له من الفكر والاعتبار فمن ذلك قوله : ( مهما يَكن ريبُ المنُون فإنني ** أرى قمَر اللّيلِ المعَذّر كالفَتى ) ( يَكُونُ صغيراً ثمَّ يعظُم دائباً ** ويرجعُ حتّى قيلَ قد مات وانقضى ) ( كذلك زَيدُ المرءِ ثمَّ انتقاصُه ** وتكراره في إثره بعد ما مضَى ) وقال آخر : ومستنْبَتٍ لا باللّيالي نَباتُه وما إن تلاقي ما به الشّفَتانِ

( وآخر في خمسٍ وتسعٍ تمامُه ** ويُجْهد في سَبْعٍ معاً وثمانِ )

ما قيل من الشعر في إنقاص الصحة والحيا

وقال أبو العتاهية : أسرَعَ في نقْضِ امرئٍ تمامه وقال عبدُ هند : ( فإنّ السِّنان يركبُ المرءُ حَدّه ** من العارِ أو يعدُو على الأسد الوَرْدِ ) ( وإنّ الذي ينهاكُمُ عن طِلابِها ** يُناغي نساءَ الحيِّ في طرّة البُرْد ) ( يُعلّلُ والأيّامُ تنقص عمرَهُ ** كما تنقُصُ النِّيرانُ من طَرَف الزَّندِ ) وفي أمثال العرب : كلُّ ما أقامَ شَخَص وكلُّ ما ازداد نقص ولو كان يُميتُ النّاس الدَّاءَ لأعاشهم الدّواء .


وقال حميد بن ثور : ( أرى بَصَري قد رَابَني بعْدَ صحّةٍ ** وحَسْبُكَ داءً أن تصحَّ وتسلما ) وقال النَّمر بنُ تَولب : ( يُحبُّ الفَتى طُولَ السَّلامةِ والبقا ** فكَيفَ تَرَى طُول السَّلامةِ يفعَلُ ) وقيل للمُوبَذ : متى أبنك يعني أبنك قال : يوم ولِد .
وقال الشّاعر : ( تصرّفتُ أطواراً أرى كُلَّ عِبْرَةٍ ** وكان الصَّبَا منِّي جديداً فأخلقا ) ( وما زادَ شيءٌ قطُّ إلا لنقصهِ ** وما اجتمع الإلفان إلاّ تفرَّقا ) وقيل لأعرابي في مرضه الذي مات فيه : أيَّ شيءٍ تشتكي قال : تمام العِدّة وانقضاء المدّة . )
وقيل لأعرابي في شَكَاته التي ماتَ فيها : كيف تجِدُك قال : أجدُني أجدُ ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجِد .


وقيلَ لَعمرو بن العاص في مَرْضَته التي ماتَ فيها : كيف تجدك قال : أجِدُني أذوب ولا أثُوب وقال مَعْمَرٌ : قلتُ لرجلٍ كان معي في الحبْس وكان مات بالبطْن : كيفَ تجدُك قال : أجدُ روحي قد خرَجَتْ من نصفي الأسفل وأجد السَّماءَ مُطْبقةً عليَّ ولو شئتْ أنْ ألمسَها بيدي لفعلت ومهما شككتُ فيه فلا أشكُّ أنّ الموت بَرد ويُبس وأنّ الحياةَ حرارة ورطوبة .

شعر في الرثاء

وقال يعقوبُ بن الرَّبيع في مرثية جاريةٍ كانتْ له : ( رَجَعَ اليقين مطامعي يأساً كما ** رَجَعَ اليقينُ مطامِعَ المتلمِّسِ )

وقال يعقوبُ بن الربيعُ : ( لئن كان قُرْبكِ لي نافعاً ** لَبُعدُك قد كان لي أنفعا ) ( لأني أمنْتُ رَزَايا الدُّهور ** وإنْ جلَّ خطبٌ فلن أجْزعَا ) وقال أبو العتاهية : ( وكانتْ في حياتِك لي عِظَاتٌ ** فأنتَ اليوم أوْعظُ منك حيّا ) وقال التيميُّ : ( لقد عزَّى رَبيعَة أنَّ يوماً ** عليها مِثل يومكَ لا يعودُ ) ( ومن عَجبٍ قصَدنَ له المنايا ** على عَمْدٍ وهُنَّ له جُنُودُ ) وقال صالحُ بنُ عبد القدُّوس : ( إن يكنْ ما أصِبت فيه جليلاً ** فذهاب العزاء فيه أجَلُّ ) ونظر بعض الحكماء إلى جنازة الإسكندر فقال : إنّ الإسكندرَ كان أمسِ أنطقَ منه اليوم وهو اليومَ أوعْظُ منه أمس .
وقال غسان : ( واستُنفِد القَرْن الذي أنا مِنْهُمُ ** وكفى بذلك علامةً لحصادي ) وقال أعرابي :

( إذا الرِّجالُ ولدَتْ أولادُها ** واضطربتْ من كِبَر أعضادُها ) ( وَجعلتْ أسقامُها تعتادُها ** فهي زُروعٌ قد دَنا حصادُها ) وقال ضِرارُ بنُ عمرو : منْ سرَّه بَنُوهُ ساءتْه نفسُه .
وقال عبدُ الرحمن بن أبي بكرة مَنْ أحَبَّ طُولَ العُمُر فليُوطِّن نفسَه على المصائب .
وقال أخو ذي الرُّمَّة : ( ولم يُنسني أوْفى المُلِمَّاتُ بعدَه ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوْجَعُ )

بعض المجون

وقال بعض المُجّان : ( نُرقِّع دُنْيانا بتمزيقِ ديننا ** فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نرقِّعُ ) وسُئل بعضُ المُجَّان : كيف أنتَ في دينك قال : أخرِّقه بالمعاصي وأرقّعه بالاستغفار .


شعر في معنى الموت ( نُراع إذا الجنائزُ قابلتْنَا ** ويحزُننا بُكاءُ الباكياتِ ) ( كَرَوْعةِ ثَلَّةٍ لمغازِ سَبْعٍ ** فلما غابَ عادَتْ راتِعَاتِ ) وقال أبو العتاهية : ( إذا ما رأيتم مَيِّتينَ جزعتمُ ** وإن لم تَرَوا ملتم إلى صَبواتِها ) وقالت الخنساء : ( تَرتَعُ ما غَفَلتْ حتَّى إذا ادَّكرت ** فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ ) وكان الحسن لا يتمثَّل إلا بهذين البيتين وهما : ( يسرُّ الفتى ما كان قدَّمَ من تُقًى ** إذا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هو قاتلُه ) والبيتُ الآخر : ( ليس مَنْ ماتَ فاستراح بَميْتٍ ** إنّما الميْتُ ميّتُ الأحياءِ )

وكان صالحٌ المُرّيّ يتمثَّل في قصصه بقوله : ( فباتَ يُروِّي أُصولَ الفسيلِ ** فَعاشَ الفَسيلُ ومات الرجلْ ) وكان أبو عبد الحميد المكفوف يتمثَّل في قصصه بقوله : ( يا راقدَ اللّيل مسروراً بأوَّله ** إنّ الحوادث قد يطْرُقن أسحاراً ) ( عندَ الصّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ** وتنجلي عنهمْ غيابات الكَرَى )
وقال أبو النجم :

( كلنا يأمُل مدّاً في الأجلْ ** والمنايا هي آفاتُ الأملْ ) فأمَّا أبو النجم فإنَّه ذَهب في الموت مذهبَ زهيرحيث يقول : ( إنَّ الفتى يُصْبِحُ للأسقام ** كالغَرَضِ المنْصُوبِ للسِّهام ) أخطاهُ رامٍ وأصاب رامِ وقال زهير : ( رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ منْ تُصبْ ** تُمتْهُومَنْ تخطئ يُعَمّرْ فَيَهْرَمِ ) مقطعات شتى وقال الآخر : ( وإذا صنَعْتَ صنيعةً أتممتها ** بيدَين ليس نَداهُما بمكدّرِ ) ( وإذا تباعُ كريمةٌ أو تُشْتَرى ** فسواك بائعُها وأنت المُشْتري )

وقال الشاعر : ( قصيرُ يدِ السِّربال يَمْشي معرِّداً ** وشرُّ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا ) ( بعثتَ إلى العراقِ ورافِدَيه ** فزَاريّاً أحَذَّ يدِ القَميصِ ) ( تفيهق بالعراق أبو المثنَّى ** وعلّمَ قومه أكلَ الخبيصِ ) وقال الآخر : ( حَبَّذا رَجْعُها إليَّ يَدَيها ** بيدَيْ دِرعِها تحلُّ الإزَارا ) وأنشد : ( طَوَتْهُ المنايا وهو عنهنَّ غافلٌ ** بمنخَرِق السِّربال عارِي المناكبِ ) ( جريءٍ على الأهوال يَعْدِل دَرْءَهَا ** بأبيضَ سَقَّاطٍ وراءَ الضَّرائب )

وقال جرير : ( تركتُ لكم بالشّام حَبْلَ جماعةٍ ** مَتينَ القُوى مُسْتَحْصدِ الْفَتْل باقيَا ) ( وجدْت رُقى الشَّيطان لا تستفزُّه ** وقد كان شَيطاني من الجِنِّ راقيا ) وقال الأسديّ : ( كثير المناقب ِوالمكرمات ** يجود مجداً وأصلاً أثيلا ) ( ترى بيديه وَراء الكميّ ** تباله بعد نصال نصولا )

( تمنى السفاه ورأى الخنا ** وضَلَّ وقد كان قِدْماً ضَلولا ) ( سقط : بيت الشعر ) ( فإن أنت تنزع من ودنا ** فما أن وجدت لقلبي محيلا )

الجزء السابع

( بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ )

في إحساس أجناس الحيوان

اللهم إنَّا نَعوذ بك من الشَّيطان الرجيم ونسألك الهداية إلى صراطك المستقيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامَّة ونعوذ باللّه أن تدعوَنا المحبَّةُ لإتمام هذا الكتاب إلى أنْ نَصِل الصِّدْقَ بالكذب ونُدْخِل الباطلَ في تضاعيف الحقِ وأن نتكثَّر بقول الزور ونلتمس تقوية ضعفِهِ باللفظ الحسن وستر قبحه بالتأليف المونِق أو نستعينَ على إيضاح الحقِّ إلا بالحق وعلى الإفصاح بالحجَّة إلاّ بالحجة ونستميلَ إلى دراسته واجتبائه ونستدعي إلى تفضيله والإشادة بذكره بالأشعار المولّدة والأحاديث المصنوعة والأسانيد المدخولة بما لا شاهد عليه إلاّ دعوى قائله ولا مصدِّق له إلاّ مَن لا يُوثَق بمعرفته ونعوذُ باللّه من فِتنة القول وخَطَله ومن الإسهاب وتقحُّم أهله والاعتمادُ فيما بيننا

وبين كثيرٍ من أهل هذا الزمان على حسن الظنّ والاتّكالُ فيهم على العُذر فإنّ كثيراً ممّن يتكلّف قراءة الكُتب ومدارسةَ العلم يقِفون من جميع الكتب على الكلمة الضعيفة واللَّفظة السَّخيفة وعلى موضع من التأليف قد عرض له شيءٌ من استكراهٍ أو ناله بعضُ اضطراب أو كما يعرض في الكتب من سَقَطات الوهْم وفَلَتات الضَّجَر ومن خَطأ النّاسخ وسوء تحفُّظ المعارِض على معنًى لعله لو تدبَّره بعقلٍ غير مفْسَدٍ ونظرٍ غير مدخول وتصفّحَه وهو محترِسٌ من عوارض الحسد ومن عادة التسرُّع ومن أخلاقِ مَن عسى أن يتَّسِع في القول بمقدار ضِيق صَدره ويُرسل لسانَه إرسالَ الجاهل بِكُنْه ما يكون منه ولو جعلَ بدلَ شُغله بقليلِ ما يرى من المذموم شُغْلََهُ بكثيرِ ما يرى من المحمود كانَ ذلك أشبهَ بالأدبِ المرضيِّ والخِيم الصَّالح وأشدّ مشاكلَةً للحكمة وأبعدَ من سلطان الطَّيش وأقربَ إلى عادة السَّلف وسيرة الأوَّلين وأجدَرَ أن يَهَبَ اللّه له السَّلامة في كتبه والدِّفاعَ عن حُجَّته يومَ مناضلةِ خصومه ومقارعةِ أعدائه .


وليس هذا الكتابُ يرحمك اللّه في إيجاب الوَعد والوعيد فيعترض عليه المرجئ ولا في تفضيل عليٍّ فَينصِب له العثمانيّ ولا هو في تصويب الحكمَين فيتسخّطَه الخارجيّ ولا هو في )
تقديم الاستطاعة فيعارضَه من يُخالف التقديم ولا هو في تثبيت الأعراض فيخالفَه صاحبُ الأجسام ولا هو في تفضيل البَصرة على الكوفة ومكة على المدينة والشَّام على الجزيرة ولا في تفضيل العجَم على العرب وعدنانَ على قَحْطان وعمرٍ و على واصل فيردّ بذلك الهذيلي عَلَى النّظّامي ولا هو في تفضيل مالكٍ على أبي حنيفة ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النّابغة وعامر ابن الطفيل على عمرو بن معد يكرب وعباد بن الحصين على عبيد اللّه بن الحُرّ ولا في تفضيل ابن سُريج على الغَريض ولا في تفضيل سيبويهِ على الكسائيّ ولا في تفضيل الجعفريِّ على العقيليّ ولا في تفضيل حلم الأحنف على حِلم معاوية وتفضيل قَتادة على الزّهري فإنَّ لكلِّ

صِنفٍ من هذه الأصناف شيعةً ولكلِّ رجل من هؤلاء الرجال جُند وعدداً يخاصمون عنهم وسفهاؤهم المتسرعون منهم كثير وعلماؤهم قليل وأنصاف علمائهم أقلَّ .
ولا تنكر هذا حفظكَ اللَّه أنا رأيت رجُلين بالبصرة على باب مُويس بن عِمران تنازعا في العنب النَّيروزيِّ والرازقيِّ فجرى بينهما اللعين حتى تواثبا فقطع الكوفيُّ إصبع البصريِّ وفقأ البصريُّ عينَ الكوفيّ ثم لم ألبَث إلاّ يسيراً حتى رأيتهما متصافيَين متنادمين لم يقعا قطّ على مقدار ما يُغضب مِن مقدار ما يُرضي فكيف يقَعَانِ على مقادير طبقات الغضب والرضا واللّه المستعان .
وقد ترك هذا الجمهورُ الأكبر والسَّوَادُ الأعظمُ التوقفَ عندَ الشبهة والتثبُّتَ عند الحكومة جانباً وأضربوا عنه صَفْحاً فليس إلاّ لا أو نعم إلاَّ أَنَّ قولهم لاَ موصول منهم بالغضب وقولهم نعم موصولٌ منهم بالرِّضا وقد عُزلت الحرِّيَّة جانباً ومات ذِكرُ الحلال والحرام ورُفض ذكر القَبيحِ والحسن .


قد كتبْنا من كتاب الحيوان ستّة أجزاء وهذا الكتابُ السابع هو الذي ذكرنا فيه الفِيل بما حضَرنا من جُمْلة القولِ في شأنه وفي جملة أسبابه واللّه الموفق .
وإنما اعتمدنا في هذه الكتب على الإخبار عمّا في أجناس الحيوان من الحجج المتظاهِرة وعلى الأدلة المترادفة وعلى التنبيه على ما جلَّلها اللّه تعالى من البرهانات التي لا تعرف حقائقُها إلا بالفكرة وغشَّاها من العلامات التي لا تنال منافعها إلا بالعبرة وكيف فرَّق فيها من الحكم العجيبة والأحاسيس الدقيقة والصنعة اللطيفة وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجُبن والجرأة وبصَّرها بما يُقيتُها ويُعيشها وأشعرها من الفِطنة لما يحاول منها عدوُّها ليكونَ ذلك )
سبباً للحذر ويكون حذرُها سبباً للحِراسة وحراستُها سبباً للسلامة حتى تجاوزت في ذلك مقدارَ حراسة المجرِّب من الناس والخائفِ المطلوب من أهل الاستطاعة والروِيَّة كالذي يروى من تحارُس الغرانيق والكراكي وأشكالٍ من ذلك كثيرة حتى صار الناسُ لا يضرِبون المثلَ إلا بها ولا يذمُّون

ولا يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوَحْش من الطَّير وغير ذلك فقالوا : أحذر من عقْعَق وأحذَر من غراب وأحذَر من عصفور وأسمع من فَرْخ العُقاب وأسمع من قُراد وأسمعُ من فَرَس وأجْبَنُ من صِفْرِد وأسخَى من لافِظَة وأصنع من تُنَوِّطٍ وأصْنَع من سُرْفة وأصنع من دَبْر وأهدى من قَطاة وأهدى من حمامٍ وأَهدَى من جمل وأزهى من غراب وأَزْهى من ذباب وأجرأ من اللَّيث وأَكسب من الذِّئب وأَخدع من ضَبّ وأَرْوَغ من ثعلب وأَعقّ من ضَبّ وأَبرّ من هِرَّة وأَسْرع من سِمْع وأَظلم من حيَّة وأَظلم من وَرَلٍ وأكذبُ من فاخِتة وأصدق من قطاة وأمْوَق من رَخمة وأحزَم من فَرْخ العُقاب .
ونبَّهنَا تعالى وعزّ على هذه المناسبة وعلى هذه المشاركة وامتَحَن ما عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور وتقديمنا عليها في أكثر الأمور وأراد بذلك ألاّ يُخْلِينَا من حُجة ومن النَّظر إلى عبرةٍ وإلى ما يعود عند الفكرة موعظة وكما كره لنا من السهو والإغفال ومن

البطالة والإهمال في كلِّ أحوالنا لا تُفْتَح أبصارُنا إلا وهي واقعةٌ على ضربٍ من الدلالة وعلى شكل من أشكال البرهانات وجعل ظاهرَ ما فيها من الآيات داعياً إلى التفكير فيها وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يُعرف بالتكشِيف عنها فمنها ظاهرٌ يدعوك إلى نفسه ويشير إلى ما فيه ومنها باطنٌْ يَزيدك بالأمور ثقةً إذا أفضيتَ إلى حقيقته لتعلم أَنَّك مع فضيلة عقلِك وتصرُّف استطاعتِك إذا ظهر عجزُك عن عمل ما هو أعجز منك أنّ الذي فضَّلك عليه بالاستطاعة والمنطق هو الذي فضَّله عليك بضروبٍ أُخَر وأنكما ميسَّران لما خُلقتُما له ومُصَرَّفان لما سُخِّرتما له وأن الذي يعجِز عن صَنعة السُّرْفة وعن تدبير العنكبوت في قلتهما ومَهانتهما وضُعفهما وصِغَر جرمهما لا ينبغي أن يتكبّر في الأرض ولا يمشِيَ الخُيَلاء ولا يتهكَّمَ في القول ولا يتألَّى ولا يستأمر وليعلم أنَّ عقله منيحة من ربه وأن استطاعتَه عاريَّةٌ عنده وأنه إنما يستبقي النِّعمة بإدامة الشُّكْر والتعرُّض لسلبها بإضاعة الشكر .
ثم حبَّب إليها طلب الذَّرء والسِّفاد الذي يكون مَجْلَبَةً للذرء وحبَّب إليها أولادَها ونجلَها وذَرءها ونسلها حتى قالوا : أكرم الإبل أَشدُّها حنيناً وأكرم الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادها )
وزَاوَجَ بين أكثرها

وجعل تألّفَها معَ بعضها من الطَّروقة إذا لم يكن الزِّواج لها خُلقاً وجعل إلف العِرْس لها عادة وقوَّاها على المسافَدة لتتمَّ النعمة وتعظم المنة وألهمها المبالغةَ في التربية وحُسْنَ التعبُّد وشدَّة التفقُّد وسوَّى في ذلك بين الجِنس الذي يُلَقِّم أولاده تلقيماً وبين الذي يُرْضِعُها إرضاعاً وبين الذي يزقُّها زَقّاً وبين ما يحضن وما لا يحضن ومنها ما أخرجها من أرحام البَيض وأرحام البطون كاسيةً ومها ما أخرجها كاسيةً كاسِبة وأمتَعَها وألذَّها وجعلها نِعمةً على عباده وامتحاناً لشكرهم وزيادةً في معرفتهم وجِلاءً لما يتراكم من الجهل على قلوبهم فليس لهذا الكتاب ضدٌّ من جميع مَن يشهد الشهادة ويصلِّي إلى القبلة ويأكل الذَّبيحة ولا ضدٌّ من جميع الملحدين ممَّن لا يقرُّ بالبعث وينتحل الشرائع وإن ألْحَدَ في ذلك وزاد ونقص إلا الدَّهريَّ فإن الذي ينفي الربوبيَّة ويُحيل الأمرَ والنَّهيَ ويُنكر جواز الرِّسالة ويجعل الطِّينة قديمة ويَجحد الثوابَ والعِقاب ولا يعرف الحلالَ والحرام ولا يقرُّ بأن في جميع العالَم برهاناً يدلّ عَلى صانعٍ ومصنوع وخالق ومخلوق ويجعلُ الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره ولا يفصل بين الحديث والقديم وبين المحسن والمسيء ولا يستطيع الزيادةَ في حركته ولا النُّقصانَ مِن دورانه

ولا مُعاقبةً للسُّكون بالحرَكة ولا الوقوفَ طرْفَةَ عين ولا الانحرافَ عن الجهة هو الذي يكون به جميع الإبرام والنَّقض ودقيقُ الأمور وجليلها وهذه الحِكم العجيبة والتدابير المتْقنة والتأليف البديع والتَّركيب الحكيم على حسابٍ معلوم ونسَق معروف على غايةٍ من دقائق الحكمة وإحكام الصَّنعة .
ولا ينبغي لهذا الدهريِّ أيضاً أن يعرِض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلافِ مذهبه ودعا إلى خِلافِ اعتقاده لأن الدَّهريّ ليس يرى أنَّ في الأرض ديناً أو نِحلةً أو شريعة أو مِلة ولا يرى للحلال حُرْمَةً ولا يعرفه ولا للحرام نهايةً ولا يعرفه ولا يتوقَّع العقابَ على الإساءة ولا يترجّى الثواب على الإحسان وإنما الصواب عنده والحقُّ في حُكْمه أنه والبهيمةَ سِيّانِ وأنه والسَّبُعَ سِيّان ليس القبيحُ عنده إلاّ ما خالف هواه وليس الحسَن عنده إلاّ ما وافق هواه وأن مدار الأمر على الإخفاق والدّرَك وعلى اللذّة والألم وإنما الصواب فيما نال من المنفعة وإن قتلَ ألفَ إنسانٍ صالحٍ لِمَنالةِ درهم رديء فهذا الدهريّ لا يخاف إن ترك

الطّعْن على جميع الكتب عقاباً ولا لائِمة ولا عذاباً دائِماً ولا منقطعاً ولا يرجو إنْ ذمّها ونَصَب لها ثواباً في عاجل ولا آجل .
فالواجبُ أن يسلم هذا الكتابُ على جميع البريَّة إذا كان موضِعُه على هذه الصِّفة ومُجراه إلى )
هذه الغاية واللّه تعالى الكافي الموفِّق بلطفه وتأييده إنه سميع قريب فعال لما يريد .
ثم رجع بنا القولُ إلى الإخبار عن الحيوان بأيِّ شيء تفاضلتْ وبأيِّ شيء خُصَّت وبماذا أبينتْ وقد عَرَفنا ما أُعطيت في الشَّمِّ والاستِرْواح قال الرَّاجز وذكر الذئب : ( يستخبِرُ الرِّيحَ إذا لم يسمَع ** بمِثل مِقْرَاعِ الصَّفا الموقَّعِ ) وقد عرفنا كيف شمُّ السّنانيرِ والسِّباع والذئاب وأعجبُ من ذلك وِجدانُ الذَّرّة لرائِحة شيءٍ لو وضعْتَه على أنفك لَمَا وجدْتَ له رائِحةً كرجل جرادةٍ يابسة منبوذةٍ كيف تجدُ رائحتها من جوف جُحرها حتى تخرج إليها فإذا تكلّفَتْ حملَها فأعجَزْتَها كيف تستدعي إليها سائر الذَّرّ وتستعينُ بكلِّ ما كان منها في الجُحر .
ونحوِ شمِّ الفَرَس رائحةَ الحِجْر

من مَسيرة ميل والفرس يسير قُدُماً والحِجر خلفه بذلك المقدار من غير تلفُّتٍ ولا معايَنةٍ من جهة من الجهات وهذا كثيرٌ وقد ذكرناه في غير هذا الموضع فأمّا السَّمع فدعنا من قوْلهم : أسمعُ من فَرس : أسمع من فرْخ العقاب وأسمع من كذا وأسمع من كذا ولكنّا نقصد إلى الصّغير الحقير في اسمه وخطَره والقليلِ في جسمه وفي قَدْره .
وتقول العرب : أسمع من قُراد ويستدلون بالقِردان التي تكون حَوْل الماء والبئر فإذا كان ليلة ورود القَرَب وقد بعث القومُ من يصلح لإبلهم الأرشِيةَ وأداةَ السقي وباتت الرجال عند الماء تنتظر مجيء الإبل فإنها تعرف قربَها منهم في جوف الليل بانتفاش القِرْدان وسرعة حركتها وخشخشتها ومرورها نحو الرعاء وزجر الرعاء ووقْع الأخفاف على الأرض من غير أن يُحسّ أولئك الرجالُ حسّاً أو يشعروا بشيء من أمرها فإذا استدلوا بذلك من القردان نهضوا فتلبَّبوا واتزرُوا وتهيؤوا للعمل .


فأمّا إدراك البصر فقد قالوا : أبصر من غراب وأبصر من فرس وأبصر من هدهد وأبصر من عقاب .
والسَّنانير والفأرُ والجِرذان والسِّباع تُبصر بالليل كما تبصر بالنهار فأمّا الطُّعم فيظنّ أنها بفرط الشَّرَه والشّهوة وبفرط الاستمراء وبفرط الحِرص والنَّهم أن لذتها تكون عَلى قَدْر شَرهها وشهوتها تكون على قدر ما ترَى من حركتها وظاهر حرصها . ونحن قد نرى الحمار إذا عاين الأتان والفرس إذا عاينَ الحِجْر والرمكة والبغلَ والبغلةَ والتيسَ والعنز فنظن أن اللذة على قدر الشهوة والشهوة على قدر الحركة وأن الصِّياحَ على قدر غلبة الإرادة . ونجد الرجال إذا )
اعتراهم ذلك لا يكونون كذلك إلاّ في الوقت الذي هم فيه أشدَّ غُلْمة وأفْرَط شهوة .
فإن قال قائل : إن الإنسان يغشى النِّساء في كلِّ حالٍ من الفصلين والصَّميمين وإنما هَيْجُ السِّباع

( سقط : بيت الشعر ) ( ثم يسكن هيج التيس والجمل ** فالإنسان المدلوم أحسن مالا ) قلنا : إنّا لم نَكن في ذكر المخايَرة بين نصيب الإنسان في ذلك مجموعاً ومفرَّقاً وبين نصيب كلِّ جنسٍ من هذه الأجناس مجموعاً ومفرَّقاً وإنما ذكرنا نفس المخالطة فقط وما يدريكم أيضاً لعلها أَنْ تَسْتَوْفيَ في هذه الأيَّام اليسيرة أضعافَ ما يأتِي الإنسان في تلك الأيَّام الكثيرة .
وعلى أنَّا قد نرى ممّا يعتري الحمارَ والفرسَ والبغلَ وضروباً كثيرة إذا عاينوا الإناث في غير أيام الهيج وهاهنا أصنافٌ تُديم ذلك كما يُدِيمه الإنسان مثل الحمام والدِّيَكَةِ وغير ذلك .
وقد علمنا أنّ السَّنانيرَ وأشباهَ السنانير لها وقتُ هيجٍ ولكنَّ ذلك يكون مراراً في السّنة على أشدَّ مِن هَيج الإنسان فليس الأمر على ما يظنّون .
فإن كان الإنسانُ موضعُ ذهنهِ من قلبه أو دماغه يكونُ أدقّ وأرقَّ وأنفَذَ وأبصر فإنّ حواسَّ هذه الأشكال أدقّ وأرقّ وأبْصر وأنفذ وإن كان الإنسانُ يبلغُ بالروِيّة والتصفُّح والتحصيل والتمثيل ما لا يبلغه شيءٌ من السِّباع والبهائم فإنّ لها أموراً تدركها وصنعةً تحذِقها تبلغُ منها بالطبائع سهواً وهويّاً ما لا يبلغ الإنسان في ما هو بسبيله إلا أن يُكرِه نفسَه على التفكير وعلى إدامة التنقير والتكشيف والمقاييس فهو يستثقله .


ولكلِّ شيءٍ ضربٌ من الفضيلة وشكلٌ من الأمور المحمودة لينفيَ تعالى وعز عن الإنسانِ العُجْب ويقبِّح عنده البَطر ويعرِّفه أقدار القَسْم .
وسنذكر من فطن البهائم وأحساس الوَحْش وضروب الطير أموراً تعرفون بها كثْرَةَ ما أودعها اللّه تعالى من المعارف وسخَّر لها من الصنعة ثم لا نذكر من ذلك في هذا الموضع إلاّ كلَّ طائر منسوبٍ إلى الموق وإلاّ كلَّ بهيمةٍ معروفةٍ بالغثاثة بعِدّةِ ما فيه أشْكالُها من المعرفة والفطنة ولو أردنا الأجناسَ المعروفةَ بالمعارف الكثيرةِ والأحساسِ اللَّطيفة لذكرنا الفيلَ والبعير والذَّرة والنملة والذئب والثعلب والغرنوق والنحلة والعنكبوت والحمامَ والكلب وسنذكر عَلى اسم اللّه تعالى بعضَ ما في البهائم والسِّباع والطير من المعرفة ثم نخصُّ في هذا الكتابِ المنسوباتِ إلى المُوق والمعروفاتِ بالغباوةِ وقِلة المعرفة كالرَّخمة والزنبور والرُّبَعِ من أولاد الإبل والنَّسر من عظام الطير .
وقال المفضَّل الضبيّ : قلت لمحمد بن سهل راوية الكميت : ما معنى قول الكميت في الرَّخمة : ) ( وذاتِ اسْمَيْنِ والألوانُ شَتَّى ** تُحَمَّقُ وهْيَ كيِّسة الحَويل ) ( لها خِبٌّ تلوذُ به وليست ** بضائعة الجَنين ولا مَذُولِ )

قال : كأَنّ معناه عندي حفظُ فراخها أو موضع بيضها وطلب طعمها واختيارها من المساكن ما لا يَطُوره سبع طائر ولا ذو أربع قال : فقلتُ : فأيُّ كيس عند الرّخمة إلاّ ما ذكرت ونحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذَر طُعْمةً وَلا أظهر مُوقاً منها حتى صارت في ذلك مثلاً فقال محمد بن سهل : وما حمقُها وهي تحضن بيضها وتحمي فِراخها وتحبُّ ولدها ولا تمكِّنُ إلاَّ زوجها وتقطع في أوَّل القواطع وترجِع في أوَّل الرواجع ولا تَطير في التحسير ولا تغترُّ بالشكير ولا تُرِبُّ بالوكور ولا تسقط على الجَفير .
أمّا قوله : تقطع في أول القواطعِ وترجع في أوّل الرواجع فإنَّ الرُّماة وأصحابَ الحبائلِ والقُنَّاصَ إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنَّ القواطع قد قَطَعَتْ فبِقطع الرّخمة يستدلُّون فلا بدَّ للرَّخَمَةِ مِنْ أن تنجوَ سالمةً إذا كانت أوَّلَ طالعٍ عليهم .
وأمَّا قوله : ولا تُرِبُّ بالوُكور فإنّه يقول : الوكر لا يكون إلا في عُرْض الجبل وهي لا تَرضى إلا بأعالي الهضاب ثم مواضعِ الصّدوع وخِلالِ الصخور وحيث يمتنعُ على جميع الخلقِ المصيرُ إلى فراخها ولذلك قال الكميت :

( ولا تجعلوني في رَجائيَ وُدَّكم ** كراجٍ على بيضِ الأنوق احتبالَها ) والأنوقُ هي الرّخمة وقال ابن نوفل : ( وأنتَ كساقطٍ بينَ الحشايا ** يَصِيرُ إلى الخبيثِ مِن المَصِيرِ ) ( ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَى بعيراً ** تعاظُمِها إذا ما قيل طِيرِي ) ( وإن قيل احملي قالت فإنِّي ** من الطّير المُرِبَّة في الوكورِ ) وأما قوله : ولا تطير في التَّحسير ولا تغترُّ بالشّكير فإنها تدعُ الطيرانَ أيام التحسير فإذا نبت الشّكير وهو أول ما ينبت من الريش فإنها لا تَنهض حتى يصير الشكير قَصَباً وأمَّا قوله : ولا تسقط عَلَى الجَفِير فإنما يعني جعبة السِّهام يقول : إذا رأته علمت أنّ هناك سهماً فهي لا تسقط في موضع تخاف فيه وقع السِّهام .

اتباع الرخم والنسور والعقبان للجيوش

والرَّخم والنّسور والعِقبان تتبع الجيوشَ لتوقع القتال وما يكون لها من الجيف وتتبع أيضا الجيوشَ والحُجَّاج لما يسقط من كَسير الدَّواب وتتبعها أيضاً في الأزمنة التي تكون فيها الأنعام والحُجور حواملَ لِمَا تؤمِّل من الإجهاض والإخداج قال النابغة : ( وَثِقْتٌ له بالنَّصْرِ إذْ قِيلَ قد غَدَتْ ** كتائبُ من غَسّان غير أَشائِبِ ) ( بنو عمِّه دُنْيا وعمرُو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهُم غير كاذبِ ) ( إذا ما غَزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقهمْ ** عصائب طيرٍ تَهتدي بعصائب ) ( جوانح قد أيقنَّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ ) ( تراهُنّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْراً عيونُها ** جُلوس شيوخٍ في مُسوك الأرانبِ ) ( إذا ما غزا يوماً رأيتَ عِصابةً ** من الطّير ينظُرْنَ الذي هو صانِعُ )

وقال آخر : ( يكسُو السيوفَ نفوس النَّاكثين به ** ويجعل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنا الذبُلِ ) ( قد عَوَّدَ الطَّيْرَ عاداتٍ وَثِقن بها ** فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَل ) فقال الكميت كما ترى : تحمّق وهي كيِّسةُ الحَوِيلِ فزعم أن النَّاس يحمقونها وهي كيِّسة .
قول بعض الأعراب وقال بعضُ أصحابنا : قيل لأعرابيٍّ : أتحسن أنْ تأكلُ الرَّأْسَ قال : نعم قيل : وكيف تصنع به قال : أبخصُ عينيه وأَسْحَى خدَّيه وأعفص أذنيه وأَفكُّ لَحيَيْه وأرْمي بالمخِّ إلى مَنْ هُو أحوجُ منِّي إليه قيل له : إنك لأحمق من رُبَع قال : وما حمق الرُّبَع واللّه إنه لَيَجْتَنبُ العُدَاوَء ويتبع أمّه في المرعى ويُرَاوِحُ بين الأطْباء ويعلم أن حَنينها رُغاء فأين حمقُهُ .

قتل المكاء للثعبان

وحدث ابنُ الأعرابيِّ عن هشام بن سالم وكان هشام من رهْط ذي الرُّمّة قال : أكلتْ حَيّة بيضَ مُكَّاء فجعل المُكَّاءُ يشرشِر على رأسها ويدنُو منها حتى إذا فتحت فاها تريده وهمَّتْ به ألقى فيه حَسَكة فلم يزل يُلقي فيه حسكةً بعد حسكة فأخذَتْ بحلقها حتى ماتت .
وأنشد ابن الأعرابيِّ عند هذا الحديث قولَ الشاعر : ( كأنَّ لكلّ عند كُلّ سخيمةً ** يُرِيد بتخْرِيق الأدِيم استلالَهَا ) وأنشد أبو عمرو الشيباني بيت شعر وهو هذا المعنى بعينه وهو قول الأسدِيِّ الدُّبيريّ : ( إنْ كنتَ أبصَرْتني فذّاً ومُصْطَلَماً ** فرُبَّما قَتَلَ المُكَّاءُ ثُعبانا ) يقول : قد يظفر القليل بالكثير والقليلُ الأعوانِ بالكثير الأعوان والمُكَّاء من أصغر الطير وأضعَفِه وقد احتال للثُّعبان حتّى قتله .

قول جالينوس في معرفة أنثى الطير

وقال جالينوس في الإخبار عن معارف البهائم والطير وفي التعجُّب من ذلك وتعجب الناس منه : قولوا لي : مَن عَلَّمَ النسرَ الأنثى إذَا خافت على بيضها وفراخها الخفافيش أن تفرِش ذلك الوَكْر بورق الدُّلْب حَتى لا تقربه الخفافيش وهذا أعجب والأطباء والعلماء لا يتدافعونه

حزم فرخ العقاب

وقال ابن الأعرابيّ وأبو الحسن المدائني : قال رجلٌ من الأعراب : كان سنان بن أبي حارثة أحزَم من فرخ العقاب وذلك أنَّ جوارح الطير تتخذ أوكارها في عُرْض الجبال فربّما كان الجبلُ عموداً فلو تحرَّك الفرخ إذا طلب الطعم وقد أقبل إليه أبواه أو أحدهما وزادَ في حركته شيئاً من موضع مَجثِمه لَهوَى من رأس الجبل إلى الحضيض وهو يعرف مع صِغره وضُعفه وقلّة تجربته أنّ الصواب في ترك الحركة .

اختلاف عادات صغار الحيوان

ولو وُضِع في أوكار الوحشيَّاتِ فرخٌ من فراخ الأهليَّات لتهافتن تهافُتاً كفراخ القطا والحجَل والقَبج والدُّرَّاج والدَّجاج لأنَّ هذه تَدْرُجُ على البَسيط وذلك لها عادة وفراخ الوحشيّة لا تجاوز الأوكار لأنها تعرِف وتعلم أنّ الهلكةَ في المجاوزة وأولادُ الملاّحين الذين وُلدوا في السفن الكبار والمنشآت العظام لا يخاف الآباءُ والأمَّهات عليهم إذا درجوا ومَشوا أنْ يقعوا في الماء ولو أن أولاد سُكان القصور والدّور صاروا مكان أولادِ أرباب السفن لتَهافتوا ولكلِّ شيء قَدْر وله موضعٌ وزمانٌ وجهةٌ وعادةٌ .
وأبَوَا فَرخ الخطّاف يعلِّمانه الطيران تعليماً .

الختان عند اليهود والمسلمين والنصارى

وزعم ناسٌ من أطبَّاء النصارى وهم أعداءُ اليهود أن اليهود يختِنون أولادَهم في اليوم الثّامن وأن ذلك يَقَع ويوافِق أَنْ يكون

في الصَّميمين كما يوافق الفصلين وأنّهم لم يرَوْا قَطّ يهوديّاً أصابه مكروه من قِبَل الخِتان وأنهم قد رأَوْا من أولاد المسلمين والنصارى ما لا يُحصى مِمَّنْ لقي المكروهَ في ختانه إذا كان ذلك في الصَّميمين من ريح الحمرة ومن قطع طَرَف الكمرة ومن أن تكون المُوسَى حديثةَ العَهْد بالإحداد وسَقْي الماء فتشيط عند ذلك الكَمرة ويعتريها بَرَص والصبيّ ابن ثمانية أيام أعسرُ ختاناً من الغُلام الذي قد شَبَّ وشدن وقَويَ إلاّ أَنَّ ذلك البرصَ لا يتَفشى ولا يعدو مكانَه وهو في ذلك كنحو البرص الذي يكون من الكيِّ وإحراق النار فإنهما يفحشان ولا يتسعان .

ختان أولاد السفلة وأولاد الملوك وأشباههم

ويختن من أولاد السِّفْلة والفقراء الجماعة الكثيرة فيؤمَن عليهم خطأُ الخاتن وذلك غير مأمونٍ )
على أولاد الملوك وأشباهِ الملوك لفِرط الاجتهاد وشدّة الاحتياط ومع ذلك يَزْمَعُ ومع الزَّمَع

والرعدة يقع الخطأ ، وعلى قدر رعدة اليد ينال القلب من الاضطراب على حسب ذلك . حسن التدبير في الختان وليس من التدبير أن يحضُر الصبيّ والخاتنَ إلاّ سفلة الخدم ولا يحضره من يهاب .

قدم ختان العرب

وهذا الختان في العرب في النِّساء والرجال من لدُنْ إبراهيم وهاجر إلى يومنا هذا ثم لم يُولَد صبيٌّ مختونٌ قط أو في صورةِ مختون .

ختان الأنبياء

وناسٌ يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وُلِدَا مختونين والسَّبيلُ في مثل هذا الرُّجوعُ إلى الرواية الصحيحة والأثر القائم .

أثر الختان في اللذة

قال : والبظراء تجد من اللذة ما لا تجدُه المختونة فإنْ كانت مُستأصَلةً مستوعَبةً كان على قدر ذلك وأصل ختان النساء لم يُحاوَلْ به الحسنُ دونَ التماس نُقصان الشهوة فيكون العفاف عليهنَّ مقصوراً .
قال :

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للخاتنة : يا أم عطيَّة أشمِّيه ولا تَنْهَكِيه فإنه أسْرَى للوَجْه وأحظَى عند البعل كأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينقُص من شهوتها بقدر ما يردّها إلى الاعتدال فإِن شهوتها إذا قلَّتْ ذهبَ التمتُّع ونقَصَ حُبُّ الأزواج وحبُّ الزَّوج قَيْدٌ دون الفجور والمرأة لا تكونُ في حالٍ من حالات الجماع أشدَّ شهوةً منها للكَوْم الذي لقحت منه .
وقد كان رجلٌ من كبار الأشراف عندنا يقول للخاتنة : لا تقرضي إلاّ ما يظهر فقط .

أثر الختان في العفاف والفجور

وزعم جَناب بن الخَشخاش القاضي أنه أحصى في قرية واحدة النساءَ المختونات والمُعْبرَات فوجد أكثر العفائفِ مستوعَبات وأكثر الفواجر مُعْبَرَات .
وأن نساء الهند والروم وفارس إنما صار الزنا وطلب

الرِّجال فيهنَّ أعم لأنَّ شهوتهنَّ للرجال أكثر ولذلك اتخذ الهند دوراً للزَّواني قالوا : وليس لذلك علّة إلاّ وفارةَ البظْر والقُلْفة .
والهند توافِق العربَ في كلِّ شيء إلاّ في ختانِ النِّساء والرجال ودعاهم إلى ذلك تعمُّقهم في توفير حظ الباه قالوا : ولذلك اتخذوا الأدوية وكتبوا في صناعة الباه كتباً ودَرَسُوها الأولاد )
السحق قالوا : ومن أكبر ما يدعو النساء إلى السحق أنهنَّ إذا ألصقن موضع مَحَزِّ الخِتان وجَدْنَ هناك لذَّةً عجيبة وكلما كان ذلك منها أوفَرَ كان السَّحقُ ألذّ قال : ولذلك صار حُذّاق الرِّجالِ يضعون أطراف الكمر ويعتمدون بها على محزِّ الختان لأنَّ هناك مجتمع الشهوة . ( ظمأ الأيِّل إذا أكل الحيات ) ومن هذا الباب الذي ذكرنا فيه صِدقَ إحساس الحيوان ثم اللاتي يضاف منها إلى المُوق وينسب إلى الغثارة قال داود النبي عليه السلام في الزبور : شوقي إلى المسيح مثل الأيِّل إذا أكل الحيَّات

والأيِّل إذا أكل الحيَّات فاعتراه العطش الشديد تراه كيف يدور حَول الماء ويحجزه من الشرب منه علمُه بأنَّ ذلك عطبُه لأن السموم حينئذٍ تجري مع هذا الماء وتدخل مداخل لم يكن ليبلغها الطَّعامُ بِنفسه وليس علم الأيِّل بهذا كان عن تجربةٍ متقدمة بل هذا يوجد في أوّل ما يأكل الحيّاتِ وفي آخِره .
تعلُّق رؤوس الحيات في بدن الأيِّل وربما اصطيد الأيِّل فيجد القُنَّاصُ رؤوس الأفاعي وسائرِ الحياتِ ناشبةَ الأسنان في عنقه وجلد وجهه لأنه يريدُ أكلها فرّبما بدرته الأفعى والأسود وغيرهما من الحيات فتعضُّه وهو يأكلها ويأكل ما ينال منها ويفوته ما تعلق به منها بالعضِّ فتبقى الرُّؤوس مع الأعناق معلَّقةً عليه إلى أن

نصول قرن الوعل

قالوا : وليس شيءٌ من ذوات القرون ينصل قرنه في كلِّ عام إلا الوعل فإذا علم أنَّه غير ذي قرن وأنه عديم السلاح لم يظهر من مخافة السباع فإذا طال مُكثُه في موضعه سمن فإذا سمن علم أن حركته تفقد

وتبطئ فزاد ذلك في استخفائه وقلَّة تعرُّضه واحتالَ بألاَّ يكون أبداً على علاوة الريح فإذا نجم قرنه لم يجد بُدّاً من أن يمظِّعه ويعرِّضه للشمس والريح حتى إذا أيقن أنه قد اشتد أكثر المجيء والذهاب التماساً أن يذهب شحمه ويشتد لحمه وعند ذلك يحتال في البعد من السِّباع حتى إذا أمكنه استعمال قرنيه في النزال والاعتماد عليهما والوثوب من جهتهما رجَع إلى حاله من مراعيه وعاداته ولذلك قال عصام بن زفر : ( تَرجو الثَّوَاب من صبيح يا حَمَلْ ** قد مصَّه الدهر فما فيه بَلَلْ ) ( إن صبيحاً ظاعِنٌ فمحتَمِلْ ** فلائذٌ منك بشِعبٍ من جَبَلْ ) كما يلوذ من أعاديه الوَعِلْ فضرب به المثل كما ترى في الاحتيال والهربِ من أعدائه : وقال الراجز : ( لما رأيتُ البرقَ قد تبسَّما ** وأخرج القَطْرُ القَرُوعَ الأعصَما )

بيوت الزنابير

وقال ابن الكلبي : قال الشرقي بن القطامي ذات يوم : أرأيتم لو فكَّر رجل منكم عُمرَه الأطولَ في أن يتعرَّف الشيء الذي تتَّخذ الزنابيرَ بيوتها المخرَّقة بمثل المجاوب المستوية في الأقدار المتحاجزة بالحيطان السخيفة

في المنظر الخفيفة في المحمل المستديرة المضمر بعضها ببعض المتقاربة الأجزاء وهي البيوت التي تعلم أنها بُنيت من جوهرٍ واحد وكأنها من ورق أطباق صِغار الكاغد المزرّرة قولوا لي : كيف جمعتْه ومن أي شيءٍ أخذته وهو لا يشبه البناء ولا النَّسجَ ولا الخياطة .
ولم يفسر ابن الكلبيّ والشرقيُّ في ذلك شيئاً فلم يصِرْ في أيدينا منهما إلا التعجُّب والتعجيب فسألت بعد ذلك مشايخ الأكرَة فزعموا أنها تلتقطه من زَبَد المُدود فلا يدرى أمِن نَفْس الزَّبَدِ تأخذ أم مِن شيءٍ يكون في الزَّبَد .
والذي عرَّف الزنابير مواضع تلك الأجزاء ودلها على ذلك الجوهر هو الذي علَّم العنكبوتَ ذلك النسج وقد قال الشاعر : ( كأنَّ قفا هارون إذ يَعْتَلونَهُ ** قفا عَنْكبُوتٍ سُلَّ من دُبْرِها غَزْلُ ) وأما دودة القزّ فلا نشك أنها تخرجه من جوفها .

معرفة الحقنة من الطير

وتزعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحُقنة من قِبل الطائر الذي إذا أصابه الحُصْر أتى البحرَ فأَخَذَ بمنقاره من الماء المالح ثم استدخَلَه فمجَّه في جوفه وأمكنَه ذلك بطول العنق والمِنقار فإذا فعل ذلك ذَرَق فاستراحَ .

ما يتعالج به الحيوان

والقنفذ وابن عِرسٍ إذا ناهشا الأفاعيَ والحيَّاتِ الكبارَ تعالَجَا بأكل الصَّعتر البرّيّ .
والعقاب إذا اشتكت كبدَها مِن رَفْعها الأرنَبَ والثعلبَ في الهواء وحَطِّها لهما مِرَاراً فإنها لا تأكل إلاّ من الأكباد حتى تبرأَ من وجَع كبدها .

رغبة الثعلب في القنفذ

قال : وسألتُ القُنّاصَ : ما رغبة الثعلب في أكل القنفذ وإن كان حشو إهابه شحماً سميناً وفي ظاهر جلده شوك صلابٌ حدادٌ متقاربٌ كتقارُب الشعر في الجسد فزعموا أنَّ الثعلبَ إذا أصابه قلبَه لظهره ثم بال على بطْنه فيما بين مغرِز عَجْبه إلى فكَّيه فإذا أصابه ذلك البولُ اعتراه الأسَنُ فأسبَطَ وتمدَّد فينقر عن بطنه فمن تلك الجهة يأكل جميعَ بدنه ومسلوخِه الذي يشتمل عليه جلدهُ .

صيد الظربان للضب

وقالوا : وبشبيهٍ بهذه العلّة يصيد الظّرِبانُ الضبّ في جوف جُحْره حتى يغتصبه نفسَه وذلك أنّه يعلم أنّه أنتن خلق اللّه قَسوة فإذا دخل

عليه جُحره سَدَّ خَصاصَه وفروجَه ببدنه وهو في ذلك مستدبِرٌ له فلا يفسو عليه ثلاثَ فَسَوَاتِ حتى يُعْطِيَ بيده فيأكله كيفَ شاءَ .
قالوا : وربّما فسا وهو بقرْب الهَجْمة وهي باركةٌ فتتفرَّق في الصحراء فلا يجمعُها راعِيها إلاّ بجهد شديد ولذلك قال الشاعر : ( لا تمنحوا صقراً فما لمنيحةٍ ** أتت آلَ صقرٍ من ثوابٍ ولا شُكْرِ ) ( فما ظَرِبانٌ يُؤْبِسُ الضبَّ فَسْوُهُ ** بِألأَمَ لؤماً قد علمناه مِن صقْرِ ) ولذلك قال الراجز وهو يذكر تكسُّب الظربان بفسوه لِطُعْمِهِ وقوته كما يتكسَّب الناس بالصِّناعات والتِّجارات فقال : ( باتا يُحكَّان عراصِيفَ القَتَبْ ** مستمسِكَيْنِ بالبِطانِ وَالحقَب ) ( لا ينفع الصاحبَ إلاّ أن يَسُبّ ** كالظَّرِبان بالفُسَاءِ يكتسِبْ )

ما قيل في بلاهة الحمام

قال ابن الأعرابيّ : قلت لشيخ من قريش : مَن علّمك هذا وإنما يُحسِن من هذا أصحابُ التجارات والتكسُّب وأنتَ رجلٌ مكفيٌّ مودّع قال : علّمني الذي علم الحمامةَ على بَلَهها تقليبَ بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبَهما من الحَضْن ولخوف طباع الأرض إذا دام على الشِّقِّ الواحد .
والحمام أبله ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ألا ترى أنّ الحمام في الوجه الذي ألهمه اللّه مصالح ما يُعيشه ويُصْلِح به شأنَ ذَرْئه ونسله ليس بدونِ الإنسان في ذرئه ونسله مع ما خُوِّل من المنطق وأُلهم من العقل وأُعطي من التّصريف في الوجوه

حيلة الفأرة للعقرب

وإذا جَمَعَ بعضُ أهل العَبث وبعضُ أهل التَّجرِبة بين العقرب وبين الفأرة في إناءِ زجاج فليس عندَ الفأرة حيلةٌ أبلغُ من قرض إبرة العقرب فإمّا أنْ تموتَ من ساعتها وإمَّا أنْ تتعجل السَّلامةَ

علم الذرة

قال : ومَن علَّم الذّرَّة أن تفلق الحبَّةَ فتأكل موضع القِطمير لئلاّ

تنبتَ فتفسُد فإذا كانت الحبَّة من حبّ الكزْبُرة ففلقتها أنصافاً لم ترض حتى تفلِقها أرباعاً لأن الكُزبُرة من بين جَميع الحبّ تنبُت وإنْ كانت أنصافاً وهذا عِلْمٌ غامضٌ .
إذَا عرَفه الشّيخُ الفلاّح المجرِّب والفاشكار الرئيس والأكَّار الحاذِق فقد بلغوا النهاية في الرِّياسة .

معرفة الدب

ّ ) وقال جالينوس : ومن علّم الدبّ الأنثى إذا وضعت ولدَها أنْ ترفعَه في الهواء أياماً تهرُب به من الذَّرِّ والنمل لأنها تضعه كفِدْرة من لحمٍ غيرَ متميِّز الجوارح فهي تخاف عليه الذَّرَّ وذلك له حتفٌ فلا تزالُ رافعةً له وراصدة ومُتفَقِّدَةً وَمُحَوِّلةً له من موضع إلى موضع حتى يشتد وتنْفرج أعضاؤُه .
شعر لبشار وقال بشَّار الأعمى : ( وكلُّ قسمٍ فللعقبان أكثَرُهُ ** والحظُّ شيءٌ عليه الدهر مقصورُ )

أمنِيَّة بشر أخي بشار وقال بشر أخو بشّار وكانوا ثلاثةً واحد حنفيّ وواحد سدوسيّ وبشَّار عُقيليّ وإنما نزل في بني سدوس لسبب أخيه وقد كان قيل لأخيه : لو خيَّرك اللّه أنْ تكون شيئاً من الحيوان أيَّ شيءٍ كنتَ تتمنى أن تكون قال : عُقاب قيل : ولِمَ تمنّيت ذلك قال : لأنَّها تَبيتُ حيثُ لا ينالها سَبُعٌ ذو أربعِ وتَحِيدُ عنها سباعُ الطَّير .
وهي لا تعاني الصَّيد إلاّ في الفَرْط ولكنّها تسلُب كلّ صَيُودٍ صَيْدَه وإذا جامع صاحبُ الصقر وصاحبُ الشّاهين وصاحبُ البازي صاحبَ العقاب لم يرسلوا أطيارهم خوفاً من العُقاب وهي طويلة العمر عاقَّة بولدها وهي لا تحمِل على نفسها في الكَسْبِ وهي إنْ )
شاءتْ كانت فوقَ كلِّ شيءٍ وإن شاءتْ كانت بقُرْبِ كلِّ شيء وتتغدّى بالعِراق وتتعشَّى باليمن وريشُها الذي عليها هو فَروُها في الشتاء وخَيْشُها في الصَّيف وهي أبصرُ خلق اللّه .
هذا قولُ صاحب المنطق في عُقوق العقاب وجفائها بأولادها فأمَّا أشعار العرب فهي تدلُّ على خلاف ذلك قال دريد بن الصِّمَّة :

( وكلُّ لَجُوجٍ في العِنانِ كأَنَّها ** إذا اغتمست في الماءِ فَتْخَاءُ كاسِرُ )

المحمق من الحيوان

والحيوان المحمّق الرّخَمة والحُبارَى قال عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتّى الحبارى .
وأنثى الذئاب وهي التي تسمَّى جَهِيزة والضبع والنَّعجة والعنز هذه من الموصوفات بالمُوق جدّاً .
قال : ومن الحيوان ما ليس عنده إلا الجمالُ والحسن كالطاوس وهو من الطير المحمَّق وكذلك التُّدْرُجُ مع جماله وحُسنه وعجيب وَشْيه والزرافةُ وهي أيضاً موصوفة بالمُوق وليس عندها إلا طَرَافة الصُّورة

وغرابة النِّتاج وهي من الخَلْق العجيب مَواضِعِ الأعضاء ويتنازعها أشباهٌ كثيرة .
والفيل عجيب ظريف ولكنه قَبيحٌ مَسيخ وهو في ذلك بهيٌّ نبيلٌ والعين لا تكرهه والخنزير قبيح مَسيخ والعين تكرهه والقرد قَبيحٌ مليح .
وعند البَبْغاء والمُكَّاء والعندليب وابن تَمْرة مع صغر أجْرامها ولَطافة شُخوصها وضَعْف أسْرِها من المعرفة والكَيس والفِطنة والخُبث ما ليسَ عند الزَّرافة والطاووس والببغاء عجيب

ما قيل في حمق الأجناس المائية وفطنتها

فأما الأجناس المائية من أصناف السَّمك والأجناس التي تُعايش السَّمك فإنَّ جماعتَها موصوفَةٌ بالجَهل والمُوق وقِلَّة المعرفة وليس فيها خُلُقٌ مذكور ولا خَصْلة من خِصال الفِطَن إلا كنحو ما يروى من صَيد الجرِّيِّ

للجِرْذَان وحَمْل تلك الدابة للغَرْقى حتى تؤدِّيَهم إلى الساحل .
شدة بدن السمكة والحية والسمكة شديدة البدن وكذلك الحيّة وكلُّ شيء لا يستعينُ بيدٍ ولا رجلٍ ولا جَناحٍ وإنما يستعمل أجزاءَ بدنه معاً فإنه يكونُ شديد البدن .

حيلة الشبوط في التخلص من الشبكة

وخبَّرني بعضُ الصيّادين أنَّ الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشَّبكة فلا تستطيع النفوذ منها فتعلم أنها لا يُنجيها إلا الوثوب فتتأخّر قدرَ قابِ رُمح ثم تتأخَّر جامعةً لجراميزها حتَّى تثِب فربّما كان ارتفاعُ وثْبتِها في الهواء أكثرَ من عَشْرِ أذرُع وإنما اعتمدَتْ على ما وصفنا وهذا العملُ أكثرُ ما روَوْه من معرفتها وليس لها في المعرفة نصيبٌ مذكور .

ما يغوص من السمك في الطين

وأنواعٌ من السمك يغوص في الطِّين وذلك أنها تَنْخَر وتتنفَّس في جوفه وتلزم أصول النبات إذا لم يرتفع وتلتمس الطُّعم والسِّفاد .
ونحن لم نر قَطُّ في بطن دِجلةَ والفراتِ وجميع الأودية والأنهار عند نضوب الماء وانكشاف الأرض وظهور وجه الطين وعند الجزْر والنُّقصان في الماء في مَوَاخِر الصَّيْف وأيَّامِ مجاورة الأهلّة والأنْصاف جُحْراً قَطُّ فضلاً على ما يقولُون أنّ لها في بُطونِ الأنهار بيوتاً . ( جِحَرة الوحش ) ورأيْتُ عجَباً آخرَ وهو أنّي في طولِ ما دخلت البَراريَّ ودخلت البُلدان في صحارى جزيرة العرب والرُّوم والشّام والجزيرة وغير ذلك ما أعلمُ أني رأيتُ على لَقَمِ طريقٍ أو جادةٍ أو شَرَكٍ مُصَاقِبٍ ذلك

أو إذا جانبتُ الطُّرُق وأمعنْتُ في البَراري وضربت إلى الموْضِع الوحشي جُحراً واحداً يجوز أن يدخله ضبع أو تيس ظباء أو بعض هذه الأجناس الوحشيّة وما أكثر ما أرَى الجِحَرةَ ولكني لم أرَ شَى ئاً يتسعُ للثّعلب وابنِ آوى فضلاً على هذه الوحوش الكِبار مما هو مذكور بالتَّوْلَج والوِجار وبالكِناس والعَرين .
وجُحْر الضبّ يسمَّى عريناً وهو غير العَرين الذي يضاف إلى الشَّجَر .
وأمَّا حفظ الحياةِ والبصَر بالكَسْبِ والاحتراسُ مِن العدوّ والاستعداء بالِحِيَل فكما أعَدَّ الضبُّ واليَربوع .

أوقات اختفاء الفهد والأيل

والفهد إذا سِمنَ عَرَف أنه مطلوب وأنّ حركته قد ثقلت فهو يُخفي نفسَه بجهده حتى ينقضِيَ ذلك الزمان الذي تسمن فيه الفهود ويعلم أنّ رائحة بدنه شهيَّةٌ إلى الأسد والنَّمِر وهو ألطفُ شمّاً لأراييح السباع

القويَّة من شمّ السباع للرائحة الشهيّة فهي لا تكاد تكون إلاّ على عُلاوةِ الريح .
والأيِّلُ ينصُل قَرْنَه في كلّ عام فيصير كالأَجمِّ فإذا كان ذلك الزمانُ استخفَى وهربَ وَكَمن فإذا نبت قرنُه عرَّضَهُ للرِّيح والشَّمْسِ في الموضع الممتنعِ ولا يظهرُ حتى يَصْلُب قرنه ويَصيرَ سلاحاً يمتنع به وقرنُه مُصمَتٌ وليس في جوفه تجويفٌ ولا هو مصمتُ الأعْلَى أجوف الأسفل .

معرفة الإبل بما يضرها وما ينفعها

والبعير يدخل الرَّوضة و الغيَضة وفي النبات ما هو غذاءٌ ومنه ما هو سمٌّ عليه خاصة ومنه ما يخرج من الحاليْن جميعاً ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى كالحَمْضِ وَ الخَلَّة ومنه ما يغتذيه غيرُ جِنسِه فهو لا يقرَبُه وإن كان ليس بقاتل ولا مُعْطِب فمن تلك الأجناس ما يَعرفه برؤية العين دون الشمّ ومنها ما لا يَعرفه حتّى يَشمَّه وقد تغلِطُ في البِيش فتأكلُه كصُنْع الحافرِ في الدِّفْلَى .


معرفة الإبل بالزجر والناقة تعرفُ قولَهم : حَل والجمل يعرف قولهم : جاه قال الراجز وهو يحمِّق رجلاً هَجاه : ( يقولُ للناقة قَوْلاً للجمَلْ ** يقُولُ جَاهِ يَثْنِيهِ بِحَلْ )

قدرة الحيوان على رفع اللبن وإرساله

وممَّا فضلت به السِّباعُ على بني آدمَ أنّ اللّه جعَلَ في طِباع إناث السباع والبهائم من الوحشيّة والأهلية رَفْعَ اللَّبن وإرسالَه عند حضور الولد والمرأة لا تقدر أن تدرّ على ولدها وترفَعَ لبنها في صدرها إذا كان ذلك المُقَرَّبُ منها غيرُ ولدِها .
والذي أعطى اللّه البهائم من ذلك مثل ما تعرف به المعنى وتتوهَّمه .
اعلم أَنّ اللّه تعالى قد أقدر الإنسانَ على أن يحبس بولَه وغائطه إلى مقدارٍ وأن يخرجهما ما لم تكن هناك عِلَّةٌ من حُصْرٍ وأُسْر وإنما يخرج منه بولُه ورَجِيعه بالإرادة والتوجيه والتهيؤ لذلك وقد جعل اللّه حبْسَه

وإخراجَه وتأخيرَه وتقديمَه على ما فسَّرْنا فعلى هذا الطريق طوْقُ إناثِ السِّباع والبهائم في رفْع اللّبَن .
حشر الحيوان في اليوم الآخر وقد قال اللّه جل ثناؤه : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فالكلمة في الحشر مطلقة عامّة ومرسلةٌ غيرُ مستثنًى منها فأوجب في عموم الخبَرِ على الطَّير الحَشْرَ والطير أكثر الخلق والحديث : إنَّ أكثرَ الخلْقِ الجراد .

ما يطرأ عليه الطيران

ومن العقارب طيَّارة قاتلة وزعم صاحب المنطق أنَّ بالحبشَة حياتٍ لها أجنحةٌ .
وأشياءُ كثيرةٌ تطيرُ بعد أن لم تكن طيَّارة مثل الدعاميص والنَّمْلِ والأرَضةِ والجعلانِ .
والجرادُ تنتقل في حالاتٍ قبلَ نبات الأجنحة .
جعفر الطيار قالوا : وحين عظَّم اللّه شأن جعفر بن أبي طالب خلق له جناحين

يطير بهما في الجنّة كأنه تعالى ألحَقَه بشبه الملائكة في بعض الوُجوه .
ما يطير ولا يسمى طيراً وذكر اللّه الملائكةَ فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . ولا يقال للملائكة طير ولا يقال إنها من الطّير رفعاً لأقدارها .
ولا يقال للنمل والدعاميص والجِعلان والأرَضةِ إذا طارت : من الطَّير كذلك لا يقال للجِرجِس والبَعُوضِ وأجناس الهمَج إنها من الطير وضعاً لأقدارها عن أقدار ما يسمَّى طَيْراً فالملائكةُ تطير ولا يسمُّونها طيْراً لرفْع أقدارِها عن الطير والهمج يطير ولا يسمّى طيْراً لوضع أقدارها عن الطَّير .
ملائكة العرش وفي الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنْشِدَ قولَ أميّةَ بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثورٌ تَحتَ رِجْلِ يَمينِه ** والنَّسرُ للأُخرَى وليثٌ مُرْصِدُ ) فقال : صدَق وقوله نسر يعني في صورة نسر لأنَّ الملَك لا يقال له نَسْرٌ ولا صقْرٌ ولا عُقابٌ ولا بازٍ .

ما جاء فيه الأثر من الطير
وذكروا غرابَ نوح وحمامة نوح وهدهد سليمان والنحل والدرّاج وما جاء من الأثر في ذلك الديكِ الذي يكون في السماء .
وقال الناس : غراب نوح وهدهد سليمان وحمامة نوح ورووا في الخطاف والصُّرَد .
أشرف الخيل والطير ولا نعرف شيئاً من الحيوان أشْرَفَ اسماً من الخَيل والطَّير لأنّهم يقولون : فرس جواد وفرس كريم وفرسٌ وسيم وفرس عَتيق وفرس رائع .
وقالوا في الطير لذوات المخالب المعقَّفة والمناسر المحدَّبة : أحرار ومَضْرحِيَّات وعِتاق وكواسب وجوارح وقال لبيدُ بنُ ربيعة : ( فانتضَلْنَا وابنُ سَلْمَى قاعدٌ ** كَعتيقِ الطَّير يُغْضِي ويُجَلّ )

وقال الشّاعر : ( حُرٌّ صَنَعْنَاهُ لتُحْسِنَ كفُّهُ ** عَمَلَ الرفِيقة واستلابَ الأخْرقِ ) ولولا أنا قد ذكرنا شأن الهدهُد والغراب والنمل وما ذكرها به القرآن والخصالَ التي فيها من المعارف ومِنَ القَوْلِ والعمَل لذكرناه في هذا الموضع .
ما جاء في ذكر الطير قال اللّه جلّ ثناؤه : وَرَسُولاً إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإذْنِ اللّهِ وقال اللّه : وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَائراً بِإذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بِإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي وقال : وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ وقال اللّه : أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصَْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ

وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارةٍ مِن سِجِّيل وقال اللّه : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد وَقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ .
ولم يذكر منطق البهائم والسباع والهمج والحشرات .
وقال اللّه : فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانوا يَنْطِقُونَ لأنك حيثما تجد المنطقَ تجد الرُّوح والعَقل والاستطاعة .
وقالوا : الإنسان هو الحيُّ الناطقُ وقال اللّه : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إلهُكمْ وَإله مُوسى وقال : أفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً ثم قال : وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَالطَّيْرِ ولم يذكر شيئاً من جميع الخلق وقد كان اللّه سخّر له جميعَ ذلك ثم ولم يتفقد شيئاً ممَّا سخّر له ولا دلَّ سليمانَ على مَلِكة سبأ إلاّ طائِرٌ .
وقال اللّه : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ وقال اللّه : وَإنْ منْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقهُون تَسْبِيحَهُمْ فلما ذكر داود قال : وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال اللّه : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهم أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال : وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ .
وقالوا : مَنطِق الطير على التشبيه بمنطق الناس ثم قالوا بعدُ : الصَّامت والناطق ثم قالوا بعد للدار : تنطق .
وقال اللّه : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئةٍ قَبْلَ الحسَنَةِ لَوْلاَ

تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ .
وقال اللّهُ : وَإذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآيَاتِنَا لاَ ) يُوقِنُونَ .
وكان عبدُ اللّه بن عبّاسٍ يقول : ليس يعني بقوله : تُكلِّمُهُمْ من الكلام وإنما هو من الكَلْم والجِراح وجمع الكَلْم كُلوم ولم يكن يجعلُه من المنطق بل يجعله من الخُطوط والوسم كالكتاب والعلامة اللذين يقومان مقام الكلام والمنطق .
وقال الآخرون : لا نَدعُ ظاهرَ اللفظ والعادةَ الدالّة في ظاهر الكلام إلى المجازات قالوا : فقد ذكر اللّه الدابّة بالمنطق كما ذكروا في الحديث كلام الذئب لأهبان بن أوس وقولُ الهدهد مسطورٌ في الكتاب بأطول الأقاصيص وكذلك شأن الغراب .
وقال اللّه : وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وجعل اللّه مقالة النملة قرآناً وقال : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وقال في مكان آخر : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وقال : وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وذكر الملائكة فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .


وأنشدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول أميّة بن أبي الصَّلت : ( رَجُلٌ وَثَوْرٌ تحتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ** والنَّسْرُ لِلأُخْرَى وَلَيْثٌ مَرْصَدُ ) فقال : صدق .
وخلق اللّه لجعفرٍ جناحَين في الجنّة عوضاً من يديه المقطوعتين في سبيل اللّه قالوا : ولو كانت في الأرض يدٌ تفضل الجناحَ لجعلها اللّه بدل الجناح وسمّاه المسلمون الطيّار .
ويقال : ما هو إلا طائر إذا أرادوا مديح الإنسان في السُّرعة وقال الفرزدق : ( جاؤوا مع الرِّيح أو طارُوا بأجنحةٍ ** وخَلَّفوا في جُؤاثَا سيِّدَيْ مُضَرَا ) والأمم كلُّها تضرب المثلَ بعَنقاءِ مُغْرِبٍ وقد جاء في نسر لقمان ما قد جاءَ من الآثار والأخبار وقال الخزرجي : ( إنّ مُعاذ بنَ مُسلمٍ رَجُلٌ ** قد ضجَّ مِن طُول عُمره الأبَدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزَّمانِ وَاخْتَضَبْ ال ** دَّهْرُ وأثوابُ عمْرِه جُدُدُ ) ( يا نَسْرَ لقمانَ كمْ تَعيشُ وكم ** تسحَبُ ذَيلَ الحياةِ يا لُبَدُ ) ( قد أصبحتْ دارٌ آدمٍ خَرِبَتْ ** وأنتَ فيها كأنّكَ الوتِدُ ) ( تسألُ غِرْبانَها إذا حجَلَتْ ** كيفَ يكونُ الصُّدَاعُ و الرّمدُ )
وقال النابغة : ( أضَحَتْ خَلاءً وأضْحَى أهلُها احْتَمَلوا ** أخنَى عليها الذي أخنى علَى لُبَدِ )

وقال اللّه : وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لأن ذلك الصنم كان عَلَى صورة النَّسر .
وقالوا : أحرار فارسَ وأحرار الرَّياحين وأحرار البقول وأحرار الطير وهي الأحرار والعتاق والكواسبُ والجوارح والمضرحِيّات .
وقال اللّه : وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثمَّ ادْعُهُنَّ أسماء ما في النجوم والبروج والفَرَسِ والنّاس وغير ذلك من أسماء الطير مما يُعدّ في الفَرَسِ من أسماء الطير : الفَرَاش : وهو المنخر والذُّباب : وهو ذُباب العَين والصُّلْصُل : وهو الدائرة في الجبهة والعصفور : وهو الجلدة تحت الناصية والحِدَأة : وهو أصل الأذن والهامة : وهو الجلدة التي فيها الدماغ والفرْخ : موضع الفَهقَة والنَّاهضَان : في المنكبين والصُّرَد : عرق تحت اللسان والسَّمامة : الدائرة في عرض العنق والقَطاة : موضع الرِّدف والغرابان :

العظمان الناتئان بين الوركين ويقال الغُراب طرف الوَرِك والساق : ساق الفرس وهو ذكر الحمام والخُطَّاف : موضع الرِّكاب من جنبه والرَّخَمة : البَْضعة الناتئة في ظهر الفخذ والأصقع : الأبيض الناصية .
وقال اللّه : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فََضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ .
وفي السماء النَّسر الطائر والنّسر الواقع .
وفي الأوثان القديمة وَثنٌ كان يسمَّى نَسرا ويزعمون أنه كان على صورة نسر وقال اللّه : وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلاَ يغُوثَ وَيَعُوق وَنَسْراً وَقدْ أَضَلُّوا كِثيراً وقال : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لهُ أَوَّابٌ .
وفي أسماء الناس : غُراب وصُرَد وفي أسماء النساء : فاختة وحمامة وفي أسماء الناس : يَمام ويمامة وسَمَامة وشاهين وفي أسماء النِّساء : عقاب وقطاة وقُطَيَّة ودَجَاجة يكون للرِّجال والنساء ويسمُّون بعصفور ونقّاز وحَجَل ويسمُّون الرجال بِقُطَامِيّ مثل أبي الشرقِيّ بن القُطامي الشاعر وإذا كانت امرأةً قالوا قَطامِ مثل حَذَام وقال امرؤ القيس بن حجر : )

( وأنا الذي عرَفَتْ مَعدٌّ فضْلُه ** ونشدت حُجراً ابنَ أُمِّ قَطَامِ ) ويسمون بمضرحِيٍّ وكبار الطير هي المضرحِيّة وأكثر ما يستعمل ذلك في عِتاق الطير وأحرارها ويسمون بحُرّ وليس الحر من الطير إلاّ العقيق وقال الشاعر : ( حرّ صَنعناه لتُحْسِنَ كَفُّهُ ** عَمَلَ الرَّفِيقَةِ وَاسْتِلاَبَ الأخْرَقِ ) ويسمُّون صَعْوة وسُمَانَى وسَمامَة ويسمُّون بجَناح ويلقّبون بمنقار ويسمون بفرخ وفُرَيخ وصقر وصُقير وأبي الصَّقر وطاوُس وطويس وفي الألقاب يُؤْيُؤ وَزُرَّق وفي الأسماء حَيْقُطان وهو الدُّرَّاج الذَّكر ويسمُّون بِحَذَف وَحُذَيفة وأبي حذيفة وفي الألقاب أبو الكراكيّ وفي الصفات الغرانيق والغُرنوق .


نطق الطير وقال أميَّة أبي الصَّلْت : ( والوحشُ والأنعامُ كيفَ لُغاتُها ** والعلمُ يُقْسَمُ بينهمْ ويُبَدّدُ ) وقال اللّه عزّ وجلّ مخبراً عن سليمان أنّه قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وقال الشاعر : ( يا لَيلةً لي بُحوَّارِينَ ساهرَةً ** حتَّى تَكَلَّمَ في الصُّبح العَصَافيرُ ) وقال الشاعر : ( وَغَنَّتِ الطَّيرُ بعدَ عُجْمَتها ** واستوفَت الخمرُ حَوْلَها كَمَلاَ ) وقال الكميت : ( كالناطقات الصادقا ** ت الواسِقاتِ من الذَّخائِر ) تدبير الحيوان قال : ولكلِّ جنسٍ من أجناس الحيوان احترافٌ وتكسُّب وَرَوَغانٌ من الباغي عليه واحتيالٌ لما أراد صيده فهو يحتالُ لما هو

دونه ويحتال في الامتناع مما فوقه ويختار الأماكنَ الحصينةَ ما احتملته والاستبدالَ بها إذا أنكَرَها .

( سقط : بيت الشعر ) ( بنى بيته منها على رأس كدبة ** وكل امرىء في حرفة العيش ذو عقل )
منطق الطير ولها منطقٌ تتفاهم بها حاجاتِ بعضها إلى بعض ولا حاجة بها إلى أن يكونَ لها في منطقها فضْلٌ لا تحتاج إلى استعماله وكذلك معانيها في مقادير حاجاتها .
وقيل لرجل من الحكماء : متَى عقَلتَ قال : ساعَةَ وُلِدْتُ فلما رأَى إنكارَهم لكلامه قال : أمّا أنا فقد بكيت حِينَ خِفْت وطلبت الأكل حين جُعْتُ وطلبت الثَّدَى حين احتَجْت وسكتُّ حين أُعطيت يقول هذه مقاديرُ حاجاتي ومن عَرَف مقادير حاجاته إذا مُنِعَها وإذا أُعْطِيَها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثرَ من ذلك العقل ولذلك قال الأعرابيّ : ( سَقَى اللّهُ أرضاً يعلم الضّبُّ أنّها ** بَعِيدٌ من الآفات طيبةُ البَقْلِ ) ( بني بيتَه منها عَلَى رأس كُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرْفة العَيش ذُو عَقْلِ ) منطق الطير وعقله فإن قال قائل : ليس هذا بمنطق قيل له : أما القرآن فقد نطَق بأنّه منطِقٌ والأشعارُ قد جعلته مَنطِقاً وكذلك كلامُ العرب فإن كنتَ إنما أخرجتَه من حدِّ البيان وزعمت أنّه ليس بمنطقٍ لأنك لم تَفهم عنه فأنتَ أيضاً لا تفهم كلامَ عامَّةِ الأمم وأنتَ إن سمَّيْتَ كلامَهم رَطانةً وطَمْطمةً فإنّك لا تمتَنِعُ من أن تزعم أنّ ذلك كلامُهم ومنطقُهم وعامّة الأمم أيضاً لا يفهمون كلامَك ومنطِقَك فجائزٌ لهم أن يُخْرِجوا كلامَك من البيان والمنطِق وهل صار ذلك الكلامُ منهم بياناً ومنطقاً إلاّ لتفاهمهم حاجةَ بعضهم إلى بعض ولأنّ ذلك كان صوتاً مؤلّفاً خرج من لسانٍ وفمٍ فهلاَّ كانت أصواتُ أجناس الطير والوحش والبهائم بياناً ومنطقاً إذْ قد علمتَ أنّها مقطعة مصوّرة ومؤلّفة منظمة وبها تفاهموا الحاجات وخرجت من فمٍ ولسان فإن كنتَ لا تفهم من ذلك إلاّ البعض فكذلك تلك الأجناس لا تفهَمُ من كلامك إلاّ البعض .
وتلك الأقدارُ من الأصوات المؤلّفة هي نهايةُ حاجاتِها والبيان عنها وكذلك أصواتك المؤلَّفةُ هي نهايةُ حاجاتك وبيانِك عنها وعلى أنّك قد تعلِّم الطَّيرَ

الأصوات فتتعلّم وكذلك يُعلَّم الإنسانُ الكلامَ فيتكلَّم كتعليم الصبيِّ والأعجميّ والفرقُ بين الإنسان والطير أنّ ذلك المعنى معنًى يسمَّى منطقاً وكلاماً على التشبيه بالنَّاس وعلى السبب الذي يجري والنَّاسُ ذلك لهمْ على كلّ حال .
وكذلك قال الشاعر الذي وصفَها بالعقل وإنما قال ذلك على التَّشْبيه فليس للشاعر إطلاق )
هذا الكلام لها وليس لك أن تمنعها ذلك من كلِّ جهةٍ وفي كلّ حال فافهم فهَّمك اللّه فإنَّ اللّه قد أمرك بالتفكّر والاعتبار وبالتعرُّف والاتِّعاظ .
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ مخبِراً عن سليمان : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فجعل ذلك منطقاً وخصَّ اللّه سليمانَ بأنْ فَهَّمه معانيَ ذلك المنطق وأقامه فيه مقامَ الطّير وكذلك لو قال عُلِّمنا منطقَ البهائم والسِّباع لكان ذلك آيةً وعلامة .
وقد علّم اللّهُ إسماعيلَ منطِق العرَب بعد أن كان ابنَ أربعَ عشرة سنة فلما كان ذلك على غير وقال ابنُ عبّاس وذكر عمرَ بن الخطاب فقال : كان كالطائر الحذِر فشبّه عزْمَ عمرَ وتخوّفَه من الخطأ وحذَره من الخُدع بالطائر .


ما قيل في تجاوب الأصداء والديكة وقال ابن مقبل : ( فلا أقومُ عَلَى المَوْلَى فأشتُمه ** ولا يخرّقه نابي ولا ظفُرِي ) ( ولا تَهيَّبُني المَوْماةُ أركبُها ** إذا تجاوبت الأصداءُ بالسَّحَرِ ) فجعلها تتجاوب وقال الطرِمّاح بنُ حكيم وذكر تجاوب الدِّيَكة كما ذكر ابنُ مقبلٍ تجاوبَ الأصْدَاء فقال : ( فيا صُبْحُ كَمِّشْ غُبَّرَ اللّيْلِ مُصْعِداً ** بِبَمٍّ ونبِّهْ ذا العِفاء الموشَّحِ ) ( إذا صاح لم يُخْذَلْ وجاوَبَ صوتَهُ ** حِماشُ الشَّوَى يصدَحْنَ مِنْ كلِّ مَصْدَحِ ) ما قيل في ضبحة الثعلب وقبعة القنفذ والقرنبى وحدَّثَ أبو عبيدةَ عن أبي عمرو بن العلاء قال : خطب ابن الزبير خطبة فاعترض له رجلٌ فآذاه بكلمة ثم طأطأ الرَّجلُ رأسَه فقال ابنُ الزُّبير : أين المتكلم فلم يجبْه فقال : قاتله اللّه ضبح ضَبْحَةَ الثَّعلب وقبَعَ قِبْعةَ القُنفذ وقال ابن مقبل :

( ما جاء في الشعر من إحساس الطّير . . )

وغير ذلك من الحيوان

قال أبو عبيدة : تسلَح الحُبارَى على الصّقر وذلك من أحدِّ سِلاحها وهي تعلم أنّها تدبّق جناحَيه وتكتِفُه حتى تجتمع عليه الحُبارَيات فينتفن ريشه طاقةً طاقة فيموت الصَّقْر .
والحُبَارَى إذا تحسَّرت فأبطأ نبْت ريشِها وهي لا تنْهض بالشَّكير فربَّما طار صُويحباتها إذا )
تقدَّمَ نبْتُ ريشها قيل نبْت ريش تلك الحُبارى فعند ذلك تكْمَد حزناً حتى تموت كمداً ولذلك قال أبو الأسود الدّؤليّ : ( وزيدٌ ميّت كَمَدَ الحُبَارى ** إذا ظعنَتْ مَليحة أو تُلِمُّ ) وليس في الطَّيْر أسرعُ طيراناً منها لأنها تَصَادُ عِندنا بظهر البصرة فيوجَد في حواصلها حبَّة الخضراء غضّةً طريَّة وبينها وبين مواضع ذلك الحبِّ بلادٌ وبلاد ولذلك قال بشر بن مروان في قتل عبد الملك عَمرو بنَ سعيدٍ : ( كأنّ بني مروانَ إذ يقتلونه ** بُغاثٌ من الطَّيْرِ اجتمَعْنَ عَلى صَقْر ) وبُغَاث الطّيْر ضعاف الطير وسَفِلَتها من العِظام الأبدان والخشاش مثلُ

ذلك إلا أنها من صغار ( سألتُ النّاسَ عن أنسٍ فقالو ** بأندَلُسٍ وأندَلسٌ بعيدُ ) ( كأنّي بعد سكن مَضرِحيٌّ ** أصابَ جَناحَه عنَتٌ شديدُ ) ( فقد طمِعت عِتاقُ الطّيرِ فيه ** وكانت عن عَقِيرَتِه تحيدُ ) وقال الذَّكوانيّ : ( بِفَاثُ الطّير تعرِف قانِصِيهَا ** وكلَّ مكبَّدٍ منها لَهِيدِ ) يقول : لكلِّ جنس من الجوارح ضربٌ من الصيد وضربٌ من الطلب فالمصِيد منها يعرف ذكر فيجعل المهرب من الآخر ثم ذلك أنها تعرف الصائد المعتلّ من الصحيح وهو معنى الخرَيمي حيث يقول : ( ويعلم ما يأتي وإنْ كان طائراً ** ويعلم أقدارَ الجوارحِ والبُغْثِ ) وقوله البُغْث يريد به جمع أبغث وقال الأوَّل : ( بُغاث الطَّيْرِ أكثرها فروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاتٌ نَزُورُ ) وأنشدني ابن يسير :

( بالجَدّ طوراً ثم بالجِدّ تارةٌ ** كذاك جميعُ الناس في الجَدِّ والطَّلَبْ ) والجَدُّ مفتوح الجيم يقول : الطير كالناس فمرَّة تصيد بالحظّ وبما يتفق لها ومرَّةً بالحيلة والطَّلب وبجَدِّهِ يتقلّبُ العصفور قال : وقال زاهر لصبيانه : يرزقكم الذي يرزُق عصافير الدوّ وقال صالح المُرّيّ : تغدو الطّيرُ خِماصاً وتَرُُوحُ شِباعاً واثقة بأنّ لها في كلِّ غدْوةِ رزقاً لا يفوتُها والذي نَفْسي بيده أنْ لو )
غدوتُم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرُحْتم وبطونُكم أبطنُ من بطون الحوامل .
وقال أعشى هَمْدان : ( قالت تعاتبني عِرْسي وتسألُني ** أين الدَّراهم عَنّا والدَّنانيرُ ) ( فقلتُ أنفقْتُها واللّهُ يُخْلِفُهَا ** والدَّهر ذو مرَّةٍ عسرٌ وميسورُ ) ( إنْ يرزقِ اللّهُ أعدائي فقد رُزِقَتْ ** من قبلهم في مَراعيها الخنازيرُ ) ( قالت : فرزقُك رزقٌ غيرُ متَّسعٍ ** وما لَدَيْكَ من الخبرات قِطميرُ ) ( وقد رضيتَ بأن تحيا على رَمَقٍ ** يوماً فيوماً كما تحيا العصافير )

وإنما خصَّ العصافير بقلَّة الرِّزق لأنها لا تتباعد في طلب الطعم وإلا فإنّ السِّباعَ ووحشَ الطَّير كلّها تغدو خِماصاً وتروح بطاناً .
وقال لبيد : ( فإنْ تسألينا فيم نحنُ فإنّنا ** عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسحَّرِ ) ( عصافيرٌ وذِبَّانٌ ودودٌ ** وأجرأُ من مجلِّحة الذئابِ ) ولولا أنّ تفسير هذا قد مرَّ في باب القول في العصافير في كتاب الحيوان لقلنا في ذلك .

اختلاف طبائع الحيوان وما يعتريها من الأخلاق

الذئب لا يطمع فيه صاحبُه فإذا دَمِيَ وثب عليه صاحبُه فأكلَه وإذا عضَّ الذِّئْبُ شاةً فأفلتتْ منه بضربٍ من الضروب فإنَّ عادة الغنم إذا وجدَتْ ريحَ الدَّمِ أن تشمَّ موضع أنياب الذئب وليس عندها عند ذلك إلاّ أن ينضمَّ بعضها إلى بعض ولذلك قال جريرٌ لعُمر بن لجأ التَّيميّ : ( فلا يضغمَنَّ اللَّيْثُ تَيماً بِغِرَّةٍ ** وتَيمٌ يَشمُّونَ الفَرِيسَ المَنَيَّبَا )

فذكر أنّهم كالغنم في العجز والجُبن وإذا دَمِيَ الحمارُ ألقى نفسَه إلى الأرض وامتنع ممن يريده بالعضّ وبكلِّ ما قدر عليه غير أنه لا ينهض ولا يبرحُ مكانَه وإذا أصاب الأسدَ خَدْش أو شَحْطَة بعد أن يَدْمَى مكانَه فإنَّ ذبَّان الأسد تلحُّ عليه ولا تُقْلع عنه أبداً حتى تقتله .
وللأُسود ذِبَّانٌ على حدة وكذلك الكلاب وكذلك الحمير وكذلك الإبل وكذلك الناس .
وإذا دَمِيَ الإنسانُ وشمَّ الذئبُ منه ريحَ الدَّم فما أَقَلَّ من يَنْجُو منه وإن كان أشدّ الناس بدَناً وإذا دَمِيَ الببرُ استكلب فخافه كلُّ شيء كان يسالمهُ مِن كبار السِّباع كالأسود والنُّمور والببر على خلاف جميع ما حكينا .
وإذا أصاب الحية خدْشٌ فإِنَّ الذرَّ يطالبه أشدَّ الطلب فلا يكاد ينجو ولا يعرف ذلك إلا في الفَرْط .
وإذا عضَّ الإنسانَ الكلبُ الكلِبُ فإنَّ الفأر يطالبه ليبولَ عليه وفيه هَلَكَتُهُ فهو يحتال له بكلِّ حيلة .
وربما أغَدَّ البعير فلا يعرف ذلك الجمَّالُ حتى يرى الذّبّانَ يطالبه .
وإذا وضعت الذِّئبةُ جَرْوَها فإنه يكون حينئذ ملتزقَ الأعضاء أمْعَطَ كأَنه قطعة لحم وتعلم الذِّئبة أنّ الذرَّ يطالبه فلا تزال رافعة له بيديها ومحوِّلةً له من مكانٍ إلى مكان حتى تفرج الأعضاء ويشتدّ اللحم .
وإذا وضعت الهرَّة جروَها فإنْ طرَحُوا لها لحماً من ساعتها أو رُوبة

أو بعض ما يشبه ذلك فأكلته لم تكد تأكل أجراءها لأنّ الهرة يعتريها عند ذلك جُوعٌ وجُنون وخفَّة .
والأجناس التي تحدث لها قوَّةٌ على غير سبب يعرف في تقدير الرأي منها الذِّئبُ الضعيف الواثبُ على الذِّئب القويّ إذا رأى عليه دماً والهِرَّةُ إذا سفِدها الهرُّ فإنها عند ذلك تشدُّ عليه )
وهي واثقةٌ باستخذائه لها وفضْل قوَّتها عليه والجُرذ إذا خصِي فإنّه يأكل الجرذان أكلاً ذريعاً ولا يقوم له شيءٌ منها .
فأمَّا الفيل والكركدَّنَ والجمل عند الاغتلام وطلَب الضِّراب فإنها وإن تركت الشُّرْبَ والأكلَ الأيّامَ الكثيرة فإنّه لا يقوم لشيءٍ منها شيء من ذلك الجنس وإن كان قويّاً شاباً آكلاً شارباً .
وأمَّا الغيرانُ والغَضبان والسَّكران والمُعاين للحرب فهم يختلفون في ذلك على عللٍ قد ذكَرْناها في القول في فضيلة المَلَك على الإنسان والإنسان على الجانّ فإنْ أردتَه فالتمسْهُ هناك فإنَّ إعادة الأحاديث الطوال والكلامَ الكثيرَ مما يُهجر في السَّماع ويهجِّن الكتب . ( ما يستدل به في شأن الحيوان على حسن صنع اللّه ) وإحكام تدبيره وأن الأمور موزونة مقدرة قالوا : الأشياء البيَّاضة طائر ومشترك وذو أربع ومُنْساح فمنها ما يبيض في صُدوع الصَّخر وأعالي الهِضاب ومنها ما يعيش في الجِحَرة كسائر الحيات .


وأما الدَّسَّاس منها فإنَّها تلد ولا تبيض وهي لا تُرضِع ولا تُلقِم والخفَّاش تَلد ولا تبيض وترضع وهذا مختلف .
والدَّجاج والحجَل والقَطا وأشباه ذلك من الدّرَاريج وغيرِها أفاحيصُها في الأرض .
والحمام منها طُورانّي جبَلِيّ ومنها أَلوفٌ أهليّ فالجبليُّ تبيض في أوكارٍ لها في عُرْض مقاطع الجبال والأهليُّ منها يبيض في البيوت والعصافير بيوتُها في أصول أجذاع السُّقُف والخطاطيف تتّخذ بيوتَها في باطن السقف في أوثق ذلك وأمْنَعِه والرّخَم لا ترضَى من الجِبال إلا بالوحشيّ منها ومن البعيد في أسحَقِها وأبعدها عن مواضع أعدائها ثم من الجبال إلاّ في رؤوس هضابها ثم من الهضاب إلا في صدوع صخورها ولذلك يُضرب بامتناع بيِضها المثل .
وأما الرِّقّ والضِّفدِع والسُّلَحفاة والتمساح وهذه الدوابّ المائية فإنها تبيض في الأرض وتحضن

ومن الحيوان ما لا يجثم كالضبَّة فإنها لا تجثِمُ على بيضها ولكن تغطّيها بالتراب وتنتظر أيّام انصداعها .

مواضع الفراخ والبيض

فإذا كان مواضع الفِراخ والبيض من القطا وأشباه القطا فهو أفحوصة وإذا كان من الطير الذي يهيئ ذلك المجثَِمَ من العِيدان والرِّيش والحشيش فهو عُشّ وإذا كان من الظّليم فهو أُدْحِيّ ذكر ذلك أبو عبيدة والأصمعي وكلُّها وُكور ووكون ووُكنات ووَكَرات . ( أكثر الحيوان بيضاً وأقله ) فالذي يبيض الكثيرَ من البيض الذي لا يجوزه شيءٌ في الكثرة السَّمَك ثم الجراد ثم العقارب ثم الضَّبة لأن السَّمَكَ لا تزقُّ ولا تلقِم ولا تُلحِم ولا تحضُن ولا تُرضع فحين كانت كذلك كثَّر اللّه تعالى ذَرْءَها وعددَ نسلِها فكان ذلك على خلاف شأن الحمام الذي يُزاوِج أصنافَ الحمام ومثل العصافير والنَّعام فإنها لا تزاوج .
فأما الحمام فلما جعله اللّه يزق ويحضن ويحتاج إلى ما يغتذيه و يغذو به ولده ويحتاج إلى الزَّق وهو ضربٌ من القيء وفيه عليها وهْنٌ

وشدَّة ولذلك لا يُزْجَل إذا كان زاقًّا فلما أن ولما كانت الدَّجاجة تحضن ولا تزُقّ وهي تأكل الحبَّ وكلَّ ما دبّ ودَرَجَ زاد اللّه في بيضها وعدد فراريجها ولم يجعل ذلك في عدد أولاد السَّمك والعقارب والضِّباب التي لا تحضُن البتةَ ولا تزُقّ ولا تُلقِم .
ولما جعَلَ اللّه أولادَ الضبّ لها معاشاً زاد في عدد بيضها وفراخها وصار ما يسلمُ كثيراً غير متجاوزٍ للقدر .
وكذلك الظَّليم لما كان لا يزق ولا يحضن اتسَع عليه مطلبُ الرِّزق من الحبوب وأصول الشَّجر .
وجعلها تبيض ثلاثينَ بيضةً وأكثر وقال ذو الرمة : ( أذاك أم خاضبٌ بالسِّيِّ مَرْتَعُه ** أبو ثلاثين أمسى فهو منقلبُ ) وبيضها كبارٌ وليس في طاقتها أن تَشتمل وتجثم إلاّ على القليل منها وكذلك الحيَّة تضع ثلاثين بيضةً ولها ثلاثون ضِلعاً وبيضها وأضلاعها عدد أيام الشَّهر ولذلك قويَت أصلابها لكثرة عدد الأضلاع وحمل عليها في الحضن بعض الحمل إذْ كانت لا ترضع .

أثر الإلقام والزق في الحيوان

والطائر الذي يُلقِم فرخه يكون أقوى من الطائر الزاقّ وكذلك من البهائم المرضِعة .


ولما كانت العصافير تصيد الجراد والنمل والأرَضَة إذا طارت وتأكل الحبَّ واللَّحم وكانت مع هذا تُلقم لم تكثِّر من البيض كتكثير الدجاج ولم تقلِّل كتقليل الحمام .

ما يزاوج من الحيوان

وللعصافير فيها زِوَاجٌ وكذلك النّعام وليس في شيء من ذوات الأربع زِواج وإنما الزِّواج في اللاتي تمِشي على رِجْلين كالإنسان والطَّير والنَّعام وليس هو في الطير بالعامّ وهو في الحمام وأصناف الحمام من هذه المغنيات والنوائح عامٌّ وسبيل الحجل والقَبَج سبيلُ الدِّيكة والدَّجاج .
والدَّجاجة تمكن كلَّ ديكِ والدِّيك يِثبُ على كلِّ دجاجة وربمَّا غبر الحمام الذَّكَر حياتَه كلَّها لا يقمط غير أنثاه وكذلك الأنثى لا تدعو إلا زوجها وربَّما أمكنت غيره وفي الحمام في هذا الباب من الاختلاف ما في النساء والرجال .
فأما الشِّفْنين فإنّه لا يقمُط غيرَ أنثاه وإن هلكت الأُنثى لم يزاوِجْ أبداً وكذلك الأنثى للذكر .

عجائب البيض

فأمَّا العلة في وضع القطا بيضَها أَفراداً وخروجِ البضة من جهة أوسع الرَّأسين واستدارِة بيض الرّقّ واستطالة بيض الحيات وما يكون

منها أرقَطَ وأخضَر وأصفر وأبيض وأكدر وأسود
معارف في البيض قالوا : وإنما يعظُم البيض على قدر جُثَّة البيَّاضة وبيضُ الأبكار أصغر فأمَّا كثرة العدد فقالوا إنه كلما كان أكثَر سِفاداً كانَ أكثَرَ عدداً وليس الأمرُ كذلك لأنَّ العصفور أكثَرُ سِفاداً من أجناسٍ كثيرةٍ هي أقلُّ بيضاً منه .
والجرادُ والسَّمَك لا حضنَ ولا زَقَّ ولا رَضاعَ ولا تَلقيم عليهن فحين جَعَل الفراخَ كثيرةَ العدد وكانت الأمَّهات والآباءُ عاجزة عنها لم يَجْعلْها محتاجةً إلى الأمَّهاتِ والآباء .
فتفهَّمْ هذا التدبيرَ اللطيفَ والحكمةَ البالغة .
أقل الحيوان نسلاً وأكثره قالوا : والأقلّ في ذلك البازي والأكثر في ذلك الذَّرّ والسَّمك .
قال الشاعر : ( بغاثُ الطَّيْرِ أكثرها فُروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ )

وقال صاحب المنطق : نسل الأُسد أقلُّ لأنه يَجْرح الرحم فيُعْقَم .
قالوا : والفِيَلة تضعُ في سبع سنين وأقلُّ الخْلق عدداً وذَرْءًا الكركَدَّن لأنّ الأنثى تكون نَزُوراً وأيامُ حملها كثيرة جِدًّا وهي من الحيوان الذي لا يلد إلاّ واحداً وكذلك عِظامُ الحيوان وهي مع ذلك تأكل أولادَها ولا يكاد يسلم منها إلاَّ القليل لأنّ الولد يخرجُ سوِيًّا نابتَ الأسنانِ والقرنِ شديد الحافر .

ما جاء في الفيلة

من عجيب التركيب وغريب التأليف والمعارف الصحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قبولها التثقيف والتأديب وسرعتها إلى التلقين والتقويم وما في أبدانها من أعضاء الكريمة والأجزاء الشريفة . ( بسم اللّه الرحمن الرحيم ) والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه وصلى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامّة ونسأله التأييدَ والعصمة ونعوذ به من كلِّ سبب جانَبَ الطَّاعة ودعا إلى المعصية إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد .
قد قلنا في أول هذا الجزء وهو الجزء السابع من القول في الحيوان في إحساس أجناسها المجعولة فيها وفي معارفها المطبوعة عليها وفي أعاجيب ما رُكِّبَتْ عليه من الدَّفع عن أنفُسها والتقدُّم فيما يُحيِيها

وفي تحسُّسها عواقبَ أمورها وكلِّ ما خوِّفت من حوادث المكروه عليها بقدر ما ينوبُها من الآفات ويعتريها من الحادِثات وأنّها تدْرِك ذلك بالطَّبع من غير رَويّة وبحِسِّ النَّفس من غير فِكرة ليعتبرَ مُعْتَبِرٌ ويفكرُ مفكِّر ولينفي عن نفسه العُجب ويعرفَ مقدارَه من العجز ونهاية قوَّته ومبلغَ نفاذِ بصرِهِ وأنه مخلوق مدبَّر ومصرّف وميسَّر وأنَّ الأعجمَ من أجناس الحيوان والأخرسَ من تلك الأشكال يبلغ في تدبير معيشته ومصلحةِ شأنهِ وفي كلِّ ما هو بسبيله ما لا يبلغه ذو الرَّويَّة التامّة والمنطقِ البليغِ وأنَّ منها ما يكون ألْطفَ مَدخلاً وأدقَّ مسلكاً وأصنَعَ كَفّاً وأجودَ حنجرة وأطبَعَ على الأصوات الموزونة وأقْوَم في حفظ ما يُعيشُه طريقةً إلاَّ أنّ ذلك منها مفرَّق غيرُ مجموع ومنقطعٌ غير منظوم .
والإنسان ذو العقل والاستطاعة والتصرُّف والرويّة إذا علم علماً غامضاً وأدركَ معنًى خفياً لم يكَدْ يمتنع عليه ما دونه إذا قاس بعض أَمْرِهِ على بعض .
وأجناس الحيوانِ قد يعلَّم بعضُها علماً ويصنع بكفِّه صنعةً يفوقُ بها الناس ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبعٍ ولا رويّة وعلى أنّ الذي عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قَدَرَ عليه .


وأنا ذاكرٌ إن شاء اللّه ما جاء في الفيلة من عجيب التركيب وغريب التأليف والمعارف الصَّحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قَبولها التّثقيفَ والتّأديب وسرعتها إلى التلقين والتّقويم وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة والأجزاء الشريفة وكم مقدارُ منافِعها ومبلغُ مضارِّها )
وبكم فَضَلَتْ أجناسَ الحيوان وفاقَتْ تلكَ الأجناسَ .
وما جعل اللّه تعالي فيها من الآيات والبرهانات والعلامات النيِّرات التي جَلاها لعُيون خلْقه وعرَّف بينها وبين عُقول عباده وقيَّدَها عليهم وحفِظَها لهم ليكثِّر لهم من الأدلة ويزيدَهم في وضوح الحُجَّة ويسخِّرَهم لتمام النِّعمة والذي ذكرها اللّه به في الكتاب الناطق والخبر الصادق وما في الآثار المعروفة والأمثال المضروبة والتجارب الصحيحة .
وما قالت فيها الشعراء ونطقَتْ به الخطباء وميَّزتْه العلماء وعجّبت منه الحكماء وحالهِا عند الملوك وموضع نفعِها في الحروب ومهابتها في العيون وجَلالتها في الصُّدور وفي طُول أعمارها وقوّة أبداِنها وفي اعتزامها وتصميمها وأحْقادها وشدَّة اكتراثها وطلبها بطوائلها وارتفاعها عن مِلْك السُّقّاط والحشْوة وعن اقتناءِ الأنذال والسِّفِلة وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها على الخَسْف وابتذالها وإذالتها وعن امتناع طبائعها وتمنُّع غرائزها أن تَصْلُحَ أبدانُها وتَنْبُتَ أنيابُها وتعظُمَ جوارحُها وتتسافدَ

وتتلاقَحَ إلاّ في معادنها وبلادها وفي منابتها ومَغارس أعراقها مع التماس الملوك ذلك منها حتى أعجَزت الحِيل وخرجَتْ مِنْ حدِّ الطَّمَع وعن الإخبار عن حملها ووضعِها ومواضع أعضائها والذي خالَفتْ فيه الأشكالَ الأربعةَ التي تُحيط بالجميع مما ينْساح أو يعوم أو يمشي أو يطير وجميعِ ما ينتقل عن أوَّليَّةِ خَلقه وما يبقى على الطّبائع الأُوَل من صُورته وعَمّا يتنازَعُه من شِبه الحيوان أو ما يخالِفُ فيه جميعَ الحيوان وعن القول في شدَّة قلبه وأسْرِه وفي جرأته على ما هو أعظمُ بدَناً وأشدُّ كلَباً وأحدُّ أظفاراً وعن الإخبار عن خصاله المذمومة وأموره المحمودة وعن القول في لَوْنه وجِلده وشعره ولحمه وشحمه وعظمه وبَوْله ونَجْوه وعن لسانه وفمه وعن أذنه وعينه وعن خرطومه وغُرموله وعن مَقاتِلهِ وموضع سلاحه وعن أدوائه ودوائه وعن القول في أنيابه وسائر أسنانه وسائر عظامه وفرْقِ ما بين عِظامه وعظام غيره وعن مَوَاضع عجزه وقوّته والقَوْل في ألبانها وضُروعها وعدد أخْلافها وأماكن ذلك منها وعن سياحتها ومشْيها وحُضْرها وسْرعتها وخِفَّة وطئها ولين ظهورها وإلذاذ راكبها وعن ثباتِ خُفِّها في الوَحل والرَّمل وفي الحدَر والصَّعْداء وعن أمْن راكبها من العِثار .
وكيف حالها عند اهتياجها واغتلامِها وعن سكونها وانقضاء هَيَجانها عند حملها

وعن طرَبها وطاعتها لسُوَّاسها وفهمِها لما يُراد منها وكيف حِدّةُ نَظَرها والفَهمُ الذي يُرَى في طَرْفِها )
مع الوقار والنُّبل والإطراق والسُّكون وَلِمَ اجتمعت الملوكُ عَرَبُها وعجمُها وأحمرُها وأسودُها على اقتنائها والتزيُّنِ بها والفخر بكثرة ما تهيَّأ لهم منها حتى صارت عندهم من أكرم الهدايا وأشْرَف الألطاف وحتى صار اتخاذُها مُرُوءةً وعَتاداً وعُدّة ودليلاً على أنّ مُقْتَنِيَها صاحبُ حرب .
وفي تفضيل خصال الفيل على خصال البعير وفي أيِّ مكانٍ يكون أنفع في الحرب من الفَرس وأصبَرَ عند القتال من النَّمر وأقْتلَ للأسد من الجاموس وأكلَبَ من الببر إذا تعرَّم وأشدَّ من الكرْكَدَّنِ إذا اغتلم حتى لا يبلُغه مقدارُ ما يكون من تماسيح الخُلجان وخيل النِّيل وَعِقبان الهواء وأُسْدِ الغياض .
قصيدة هاورن مولى الأزد في الفيل وقد جمع هاورنُ مولى الأزد الذي كان يرُدُّ على الكميت ويفخر بقحطان وكان شاعرَ أهل المُوْلتان ولا أعرف من شأنه أكثر من

اسمه وصِناعته وقد قال في صفات الفيل أشعاراً كثيرة ذكر فيها كثيراً ممّا قدَّمْنا ذِكرَه فمن ذلك قولُه : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنْس في جِرْم فيلِ ) وأنشدني هذا البيت صفوانُ بن صفوانَ الأنصاريّ وكان من رُواة داود بن مزيد : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنس في جِرْمِ فيلِ ) ( وأظرفُ مِنْ قِشَّةٍ زَولة ** بحِلْمٍ يجلُّ عن الخنشَلِيلِ ) ( وأوقصُ مختلفٌ خَلْقُهُ ** طويلُ النُّيُوب قصير النَّصِيلِ ) ( ويلقى العدُوَّ بنابٍ عظيم ** وجَوفٍ رَحيب وصوتٍ ضَئيلِ ) ( وأشبهُ شيءٍ إذا قِسْتَه ** بخنزير بَرٍّ وجاموسِ غِيلِ ) ( ويخضعُ للَّيثِ ليْثِ العَرينِ ** بأنْ ناسَبَ الهِرَّ من رأس مِيلِ ) ( ويعصِفُ بالبَبْر بعد النُّمورِ ** كما تعصف الرِّيحُ بالعندبيلِ )

( وشخصٌ تُرَى ِ يَدُه أنفَه ** فإن وصَلوه بسيفٍ صَقيلِ ) ( وأقبلَ كالطَّوْدِ هادِي الخميسِ ** بِهوْلٍ شديدٍ أمامَ الرَّعِيلِ ) ( ومرَّ يَسِيلُ كَسَيْل الأتيِّ ** بخطوٍ خفيفٍ وجِرْم ثقيلِ ) ( فإن شِمْتَه زادَ في هوله ** شناعةُ أُذْنَينِ في رأسِ غولِ ) ( وقد كنتُ أعدَدْتُ هِرًّا لهُ ** قليلَ التهيُّبِ للزَّندَبيلِ ) ( فلما أَحسَّ به في العَجاح ** أتانَا الإلهُ بفتحٍ جميلِ ) ( فطارَ وَرَاغَمَ فَيَّالَهُ ** بقلبٍ نجيبٍ وجسمٍ نبيلِ ) ( فسبحانَ خالِقهِ وحْدَه ** إلهُ الأنامِ وربُّ الفُيولِ )

احتيال هارون بالهر لهزيمة الفيل

وذكر صفوانُ بن صفوان أنّ هارون هذا خبَّأ معه هرّاً تحت حِضْنِه ومشى بسيفِه إلى الفيل وفي خرطومه السَّيف والفيالونَ يَذْمُرُونه فلما دنا منه رمى بالهرِّ في وجهه فأدَبَرَ هارباً وسنذكر الهرَّ في هذا الشِّعر كما كتبته لك .


استطراد لغوي وأمَّا قوله : بحِلم يَجِلُّ عن الخنْشليل فقد قال الأنصاريُّ في صفة النَّخل : ( تُليصُ العِشَاءَ بأذنابها ** وفي مَدَر الأرضِ عنها فُضُولُ ) ( ويشبعها المصُّ مصُّ الثَّرَى ** إذا جاعت الشَّاةُ والخنْشلِيلُ ) وهذا غير قوله : ( قد علمتْ جاريةٌ عُطبولُ ** أنِّي بنَصْل السيف خنْشلِيلُ ) العندبيل وأما العَندبيل فهو طائرٌ صغيرٌ جدّاً ولذلك قال الشاعر : ( وما كان يَوْمَ الرِّيح أوَّلَ طائرٍ ** يَرْوحَ كَرَوْحِ العَندبيل إلى الوكْرِ ) لأنَّ الرِّيح تعصف به من صِغره فهو يعرفُ ذلك من نفسِه فإذا قويت الرِّيح دخلَ جُحْره ويقولون عندليب وعَندبيل وكلٌّ صواب ولذلك قال هارون :

( سقط : بيت الشعر ) ( ويعصف بالببر بعد النمور ** كما تعصف الريح بالعندبيل ) وسنخبر عن تقرير ما في هذه القصيدة مفرَّقاً إذ لم نقْدِرْ عليه مجموعاً متَّصلاً ولو أمكن ذلك لكان أحسن للكِتاب وأصَحَّ لمعناه وأفهَمَ لمنْ قرَأه . ايدخل في ذكر الفيل . .

وفيه أخلاط من شعر وحديث وغير ذلك

)
قال رؤبةُ في صفة الفيل : ( أَجْرَدُ كالحِصْنِ طويلُ النَّابَيْنْ ** مُشَرَّفُ اللَّحْيِ صغيرُ الفقْمَيْنْ ) عليه أُذْنَانِ كفضْل الثَّوْبَيْنْ وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( هو البعوضةُ إنْ كلّفتَه كَرَماً ** والفيل في كلِّ أمرٍ أصلُه لُومُ ) وقال أعرابيٌّ وَوَصَف امرأةً له : لو أكلتْ فِيلينِ لم تَخْشَ البَشَمْ وقال أعرابيُّ يصف الأكْرِياء :

( لو تركبُ البُختِيَّ مِيلاً لاَنْحَطم ** أو تركبُ الفِيلَ بها الفيلُ رَزَمْ ) ( أأرْكبُ شيطاناً ومِسْخاً وهَضبْةً ** إلا إنّ رأيي قبل ذاك مُضلَّلُ ) فقالوا له : لو علوتَه ما كانَ عندَك إلاّ كالبغْل فلما علاه صاحَ : الأرضَ الأرضَ فلما خافوا أنْ يرْمِي بنفسه وهو شيخٌ كبير أنزلوهُ فقال بعد ذلك في كلمة له : ( وما كان تحتي يومَ ذلك بَغْلةٌ ** ولكِنَّ جُلْباً مِنْ رَفِيع السَّحائبِ ) وقال بعض المتحدِثين والمملِّحين في بعض النساء : ( أرادت مرّةً بيتاً ** لها فيه تماثيلُ ) ( فلما أبصرْتَ سِتْراً ** لوجهَيْه تهاويلُ ) ( وفيه الفيلُ منقوشاً ** وفي مِشْفَرِهِ طُولُ ) ( قالت : اِنزعُوا الستر ** فلا يأكلْنيَ الفِيلُ )

وقال خلَف بن خليفةَ الأقطع حين ذكر الأشرافَ الذين يدخلون على ابن هُبيرة : ( وقامتْ قريشٌ قريشُ البِطاح ** مع العُصَبِ الأوَل الدَّاخِلهْ ) ( يقودهم الفِيلُ والزَّنْدَبِيلُ ** وَذو الضِّرْسِ والشَّفَةِ المائله ) الفيل والزّنْذَبيل : أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مَرْوان وذو الضِّرس : خالد بن سَلَمة المخزومي الخطيب وهو ذو الشَّفة قتل مع يزيد بن عُمَر ابن هبيرة فيمن قتل .
وقد فَصَل خلف بن خليفة الفيلَ من الزَّنْدَبِيل ولم يفسِّر وقد اختلفوا في ذلك وسنذكرهُ إذا جرّ سببه إن شاء اللّه تعالى . )

طرائف من اللغات والأخبار في الفيل

الفيلُ المعروف بهذا الاسم ويقال رجلٌ فِيلٌ إذا كان في رأيه فِيَالة والفِيَالة : الخطأ والفساد ويسمُّون أيضاً الرَّجل بفيل منهم فيلٌ

مولى زياد وحاجبُه وفي أنهار الفرات بالبصرة نهر يقال له فيل بانان وموضعٌ آخر يقال له فِيلان .
وقد يعرض بقدم الإنسان ورَم جاسٍ حتَّى تعظم له قدمُه وساقُه وصاحبُه لا يبرأ منه ويسمّي ذلك الورمُ داءَ الفيل .
ويسمَّى الرَّجُل بدَغْفَلٍ وهو ولد الفِيل ولا يسمُّونَ بَزنْدبيل وبعض العرب يقول للذَّكر من الفيلة فِيل وللأُنثى فِيلة كما يقولون أسد وأسدة وذئب وذئبة ولا يقولون مثل ذلك في ثعلب وضبع وأمورٍ غير ذلك إلاّ أن يكون اسماً لإنسان .
وبعث رجلٌ من العرب بديلاً مكانَه في بعض البعوث وأنشأ يقول : ( إذا ما اختَبَّتِ الشَّقْرَاءُ مِيلاً ** فهانَ عَلَيَّ ما لقيَ البَديلُ ) وأنشدنا الأصمعيّ : ( يفرُّون والفيل الجبان كأَنّه ** أزَبُّ خَصِيٌّ نفّرتْه القَعاقِعُ ) قال سَلَمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما كنت أحب أن أرى في رأيك فِيالة .


وبالكوفة باب الفيل وبواسط باب الفيل .
ومنهم فِيلُويه وهو أبو حاتم بن فِيلُويه وكان أبو مسلم ربَّى أبا حاتمٍ حتّى اكتهل وهُما سقَيا أبا مسلم السمّ حتى عُولج بالترياق فأفاق فقتلهما أبو مسلم بعد ذلك وكانا على شبيهٍ بدين الخُرَّميّة .
ويقولون عنبسة الفيل وهو النحويّ وهو أحد قدماء النحويِّين الحذّاقَ وهو عنبسةَ بن مَعْدَانَ وكان معدانُ يروض فيلاً لزياد فلما أَنشَد عنبسةُ بنُ معدانَ هجاءَ جريرٍ للفرزدق قال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ ** لغنبسةَ الرَّاوِي عَلَيَّ القصائدا ) فلمَّا تناشَدَ النّاسُ بعد ذلك هذا الشعر قال عنبسةُ : إنَّما قال الفرزدق : لقد كان في مَعْدانَ واللُّؤْمِ زاجرٌ فقالوا : إنَّ شيئاً فررتَ منه إلى اللُّؤْم لَنَاهِيكَ به قُبحاً فعند ذلك سُمِّي عنبسةَ الفيل .
وغيلان الراجز كان يقال له غيلانُ راكب الفيل كان الحجّاج بن يوسف ربَّما حَمَلَه على الفيل )
قال أبو عبيدة : حدَّثني يونس قال : لما بنى فِيلٌ مولى زيادٍ دارَه وحَمَّامَه بالسَّبابجة عمل طعاماً لأصحاب زياد ودعاهم إلى داره وأدْخلهم

حمَّامَه فلمَّا خرجوا منه غدَّاهم ثم ركِب وغَبَّر في وجوههم فقال أبو الأسود الدُّؤلي : ( لَعَمْرُ أبيكَ مَا حمّامُ كِسرى ** على الثُّلُثَينِ من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سَبرة : ( وما إرقاصنا خَلْفَ الموالي ** كَسُنّتِنا عَلَى عهدِ الرسولِ ) وأنشد الأصمعي وغيره : ( خلافاً علينا من فَيالة رأيه ** كما قيل قبلَ اليومِ خالفْ فَتُذْكَرا ) ويقال للرّجُل إذا عُنّف عند الرأي يراه : لِمَ تفيِّلُ رأيَكَ وقد فَال رأي فلان .
وحدَّثنا عبد اللّه بن بكر عن حميد عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لمّا انتهيت إلى السّدْرَة إذا ورَقُها أمثالُ آذانِ الفِيَلة وإذا ثمَرها أمثالُ القِلال فلما غشِيَها من أمر اللّه ما غشِيها تحوَّلت ياقوتاً .
وقال صاحب الكيمياء في جرير بن يزيد : ( مهلاً أبا العبَّاس رِفقاً ولا ** تكنْ خَصيمَ المَعْشَرِ الخُونِ ) ( أنت إذا ما عُدَّ أهلُ الحِجا ** والحِلْمِ كالأحنف في سينِ )

الفرخ والفروج وكلُّ طائرٍ يخرج من البيض وكلُّ ولدٍ يخرج من البيض وإن لم يكن طائراً فإنما يسمَّى فرخاً كفرخ الحمام والوزغة والعظاءَة والرقُ والسُّلحفاءِ والحُكَاء وبنات النَّقا وشحمة الأرض والضب والحِرْذون والورل والحرباء إلا ما يخرج من بيض الدجاج فإنه يقال له فرّوج ولا يقال له فرخ إلا أنَّ الشعراءَ يتوسَّعون في ذلك قال شَّماخ بن أبي شداد : ( ألا مَن مبلغٌ خاقان عَنَّا ** تأمَّلْ حين يضرِبُك الشِّتاءُ ) ( أتجعلُ في عيالك من صغيرٍ ** ومن شيخِ أضَرَّ به الفَنَاءُ ) ( فراخَ دجاجةٍ يتبعن ديكاً ** يلُذْنَ به إذا حَمِسَ الوغاءُ ) وقال الآخر : ( أحبُّ إلينا من فراخ دجاجة ** ومن ديك أنباط تنوسُ غَباغبهْ )
وإذا سمَّي أهل البصرة إنساناً بغيل فأرادوا تصغيره قالوا فِيلويه كما يجعلون عمراً عَمرويه ومحمداً حمدويه .
وكان محمد بن إبراهيم الرّافقي الفارسُ النَّجيد قتيل نصر بن شَبث مولى بني نصر بن معاوية له كنيتان : أبو الفيل وأبو جعفر ولم يكن بالجزيرة أفْرَسُ من داود بن عيسى وأبي الفيل وعيسى بن منصور من ساكني الرافقة .

حمل الفيل وعمره

وذَكرَ بعضُ الفيَّالين أنّ الفِيَلة تضعُ لِسبع سنينَ ولداً مستويَ الأسنان وأنهم يرصدون ذلك الوقتَ من الوحشية منها ويحتالون في أخذ الولد وأن ذلك الولدَ يعيش في أيديهم ما بين الثمانين سنةً إلى المائة وأنّ عُمر الوحشية أطولُ .
وأنّ كلَّ شيءٍ منها اليومَ بالعَسْكر إناث وأَنّ الموتَ بالعراق إلى الذُّكورة أسرعْ وأنَّ نابَه لا يطول عندنا وأنَّهم يَعْملون من جلودها التِّرَسَة أجودَ من جلود الجواميس ومن الخيزُران ومن الدّرق والحَجَف التي تتخذ من جلود الإبل ومن هذه المعقَّبة المطليَّة ومن جميع ما يؤلَّف من أنواع الخشَب والجلودِ التي قد أُطيل إنقاعها في اللَّبن ومن كلِّ تُبَّتيّ وصينيّ .

مروج الفيلة

وذكر أن لها مُروجاً وأن المروج أصلحُ لها من القرى ومواضِعَهَا من الوحش أصلحُ لها من المُروج .

فهم الفيل
وذكر رسولٌ ُ لي إلى سائسها أنه قد اتّبعها إلى دجلة وأنّ بعض الغَوغاء صاح بها : يا حجَّام بابَك وهذا الكلام اليومَ ظاهرٌ على ألسنة الجهَّال وأن فيلاً منها ركلَه برجله رَكلةً صكَّ بها الحائط حَتَّى خيف عليه منها وأنه رأى منها الإنكارَ لذلك القول وأنَّ الفيّالَ كان يحثُّها على الانتقام لَمَّا صاحَ بها .
وإذا عرفَ الكلبُ اسمه وكذلك السنّور وكذلك الشّاة والفرس والطفل والمجنون المصْمَت الجنون وعرفت النّاقةُ فصْل ما بين حَلْ وجاهِ وعرَف الحمارُ الصَّوتَ الذي يُلْتَمَسُ به وقوفُه والذي يلتمس به سيُره وعرف الكلبُ مخاطبةَ الكلاَّب والبَبْغاءِ مناغاةَ المُكَلِّم له فجائزٌ أن يكون الفيلُ بفضل فِطنته أنْ يفهم أضعافَ ذلك فإذا أمروه بضرب إنسانٍ عند ضربٍ من الكلام استعاد ذلك وأدامَه لم ينكر أنْ يعرفَه على طول الترداد .

فائدة نجو الفيل

قالوا : وإذا احتملت المرأة شيئاً من نَجْو الفيل بعد أن يُخْلَطَ به شيءٌ من عسَل فإنها لا تَحبَل أبداً .


قالوا : ومما يؤكِّد ذلك أنّك لو علّقتَ على شجرةٍ من نَجْوه شيئاً إنَّ تلك الشجرةَ لا تحمِلُ في قالوا : وزواني الهند يفعلن ذلك استبقاءً للطّراء وللشّباب ولأنها إذا كانت موقوفةً على جميع الأجناس من الرِّجال كانت أسرَعَ إلى الحبَل لأنها لا تعدَم موافقاً لطبعها وإذا حملت ووضعت مراراً بطلت .
ضروب من الدواء وليس هذا بعجيب لأنهم يزعمون أنَّ صاحب الحصاة إذا أَخذَ روثَ الحمار حين يَرُوثه حارّاً فعصرهَ وشرِب ماءَه أنه كثيراً ما يبول تلك الحصاة وفي ماء روثِ الحمارِ أيضاً دواءٌ للضِّرس المأكول .
وقال الأصمعيّ : سألتُ بعضَ الأكلة ممن كان يقدَّم على مَيْسرة التَّرَّاس : كيف تصنعُ إذا جَهَدتك الكِظَّة والعرب تقول : إذاً كنت بطيناً فعدِّلْ نفسَك زَمناً فقال : آخذ روْثَ حمار حارّاً )
فأعصرْه وأشرب ماءه فأختلف عنه مراراً فلا أثبت أنْ يلْحَقَ بطني بصُلْبي فأشتَهي الطّعامَ .


والمرأة من نسائنا اليومَ إذا استُحِيضَت استفَّتْ مثقالاً من الإثمد لأنها عندهن إذا فعلت ذلك لم تَلِد .
وأنا رأيتُ امرأة قد فعلتْ ذلك ثم ولدت .
وخُرء الكلب إذا كان الجعرُ أبيضَ اللَّوْن وكان غذاءُ الكلب العظامَ دون اللحم فهو عجيبٌ وخرء الفار يكون شِيافاً للصِّبيان يحملونه إذا استوكى بطنُ أحدهم وإن كان من خرء الجرذان وكان عظيماً كان الواحد منه هو الشِّياف .
ويصلح أيضاً خُرْء الفار لداء الثَّعلب وهو القَرَع الذي يعرض لشَعر الرَّأس .
وخرء الحمام الأحمر يصلحُ من المَبْوَلات للرَّمْل والحصَى يُقمَحُ منه وزن درهم مع مثله من الدَّارصيني .

شعر في الفيل

وقال بعض المُحْدَثين : ( يا لحيةً طالت على نَوكها ** كأنها لحيةُ جِبريلِ )

( لوْ كانَ ما ينصَبُّ من مائها ** نَهْراً إذا طمَّ على النِّيلِ ) ( أو كان ما يقطر من دهنها ** كَيْلاً لَوَفَّى ألفَ قِنديلِ ) ( فلو ترَاها وهي قد سُرّحَتْ ** حسبْتَها بَنداً على فيلِ ) وأنشد أبو عمرو الشيبانيّ لبعض المولّدين : ( إذا تلاقَى الفُيولُ وازدحَمتْ ** فكيفَ حالُ البَعوضِ في الوَسَطِ ) ( وما الفِيلُ أحمِلُه مُوقَرا ** رَصاصاً بأثْقَلَ من معْبَد ) ( ولا قِرْمليٌّ عليه الغَبيطُ ** ينوء بِعِدْلَين من إثمِدِ ) ( وجاموسةٍ أُوقِرَتْ زِئبقاً ** بأثْقَلَ منه ولا أنْكَدِ ) وقال آخر : ( بابٌ يرى ليس له داخلٌ ** إلاّ خِراً جُمِّع في الزَّاويهْ ) ( إن جئت فالفيلُ على هامتي ** ومثله نِيطَ بأوصالِيهْ ) ووصف مرَّة بن مَحْكَان قِدراً فقال : )

( تَرمي الصُّلاةَ بنبْلٍ غير طائشةٍ ** وَفْقاً إذا آنست من تَحِتها لهبا ) ( زيَّافة مثل جوفُ الفِيل مُجفَرة ** لو يُقذَف الرَّأْلُ في حيزومها ذَهَبا ) وقال بعض الأكرِياء في امرأة كان حَملَها : ( بيضاء من رُفقةِ عِمْرَانَ الأصمّ ** لا ثَعلٌ في سِنَّها ولا قَصَمْ ) ( بَهْكنَة لو تركب الفيلَ رَزَمْ ** كأنَّها يوم تُوافي بالحرمْ ) غمَامَةٌ غرَّاءُ عَنْ غِبِّ رِهَمْ وقال رؤبةُ بن العجَّاج :

( سقط : بيت الشعر ) ( إن الردافى والكرى الأرقبا ** يكفيك درء الفيل حتى تركبا ) ثم قال : ( يشقى بي الغيرانُ حَتّى أُحْسَبا ** سِيداً مُغِيراً أو لياحاً مُغْرَبا )

ما ورد في شأن الفيل من الأمثال في كليلة ودمنة

ومما قرأه الناسُ من الأمثال في شأن الفيل التي وجدوها في كتاب كليلة ودمنة فمن ذلك قوله : أفَلاَ تَرَى أنَّ الكلب يُبصبصُ بذنبَه مِراراً حتى تُلقَى له الكِسرة وإنّ الفيلَ المغتِلم لَيعرِف قوّتَه وفضله فإذا قُدِّمَ إليه عَلَفه مُكَرّماً لم يأكلْ حتى يُمَسح ويُتملّق .


قال : وقيل في أعماله ثلاثة لا يستطيعها أحدٌ إلا بمعونةٍ من ارتفاع هِمة وعظيم خطر منها عملُ السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدوّ وقالت العلماء في الرَّجُل الفاضل الرشيد : إنّه لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانَين ولا يليق به غيرهما إمَّا مع الملوك مُكرَّماً وإمَّا مع النُّسَّاك متبتِّلاً كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانَين : إمَّا في برّية وحشيّاً وإما مَرْكَباً للمُلوك .
قال : وقد قيل في أشياء ثلاثةٍ فضْلُ ما بينها متفاوِت : فضل المقاتل على المُقاتل وفضل الفيلِ على الفيلِ وفضل العالم على العالم .
وقال في كلام آخر : فإن لم تنجَع الحيلة فهو إذاً القَدَرُ الذي لا يُدفع فإنَّ القدرَ هو الذي يسلب الأسَدَ قوَّتَه حَتى يُدْخِله التَّابُوت وهو الذي يَحمِل الرَّجُل الضَّعيف على ظهر الفيل المغتلِم وهو الذي يسلِّط الحوّاء على الحَيَّة ذات الحُمَة فينزِعُ حمتَها ويلعبُ بها .


قال : ومَن لم يرضَ من الدُّنيا بالكفَاف الذي يُغْنيه وطمحت عيناه إلى ما فوق ذلك ولم ينظر إلى ما يتخوّف أمامه كان مثله مثل الذباب الذي ليس يرضى بالشجر والرياحين حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم فيضربه بأُذنهِ فيهلك . )
وقال : فأقام الجملُ مع الأسد حَتى إذا كان ذاتَ يوم توجّه الأسد نحو الصيد فلقيَه فيلٌ فقاتلَه قتالاً شديداً وأفلَتَ الأسد مُثْقَلاً يسيل دماً قد جرحه الفيل بأنيابه فكان لايستطيع أن يطلُبَ صيداً فلبث الذئبُ والغرابُ وابن آوى أياماً لا يجدون ما يعيشون به من فضول الأسد .
وقال : وكيف يرجو إخوانُك عندك وفاءً وكرَماً وأنتَ قد صَنَعت بملكك الذي كَرَّمك وشَرَّفك ما صَنعتَ بل مَثلُك في ذلك كما قال التاجر : إنَّ أرضاً يأكلُ جُِرذانها مائة مَنٍّ من حديد غيرُ مستنكَر أن تخطِف بُزاتها الفِيَلة .


قال : وقال الجرذُ للغراب : أشد العداوةِ عداوة الجوهر وعداوةُ الجوهر عداوتان منها عداوة متجازَية كعداوة الفيل والأسد فإنّه ربَّما قتل الفيلُ الأسد وربَّما قتل الأسدُ الفيل ومنها عداوة إنما ضرَرُها من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنّور فإنّ العداوة بيننا وقال : إن الكريم إذا عَثَر لم يستعنْ إلا بالكريم كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجْه إلا الفيلة .
ضروب العداوات وسنذكرُ عداوة الشيطان للإنسانِ والإنسان للشَّيطان وهما عداوتان مختلفتان وعداوة اللّه للكافر وعداوة الكافر للّه وهاتان العداوتان غير تينك وهما في أنفسهما مختلفتان وهما والتي قبلها مخالفة لعداوة العقرب للإنسان وعداوةُ العقرب مخالفةٌ لعداوة الحيَّة وعداوة الإنسان لهما مخالفة لعداوة كلٍّ منهما للإنسان وعداوة الذئب والأسد

والأسد والإنسان خلاف عداوة العقرب والحية وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفةٌ لجميع ما وصفنا ومسالمة البَبر للأسد غير مسالمة الخنفساء والعقرب وشأن الحيات والوزغِ خلافُ شأنِ الخنافس والعقارب وعداوة الإنسان خلافُ عداوة ذلك كلِّه وابن عِرْس أشدُّ عداوة للجُرذان من السنَّور وعداوةُ البعير للبعير والبرذون للبرذون والحمار للحمار شكل واحد وعداوة الذِّئب خلاف ذلك والشَّاةُ أشدُّ فَرَقاً منه منها من الأسد والنمر والببر وهي أقوى عليها من الذِّئب وفَرَق الدَّجاج من ابن آوى أشدُّ من فَرَقها من الثَّعلب والحمام أشدُّ فرَقاً من الشاهين منه من الصَّقر والبازي .
عداوات الناس وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ : منها المشاكلة في الصناعة ومنها التقارُب في الجِوار ومنها التقارب في النَّسب والكثرة مِن أسباب التّقاطع في العشيرة والقبيلة والسَّاكن عدو للمُسْكِن والفقير عدوٌّ للغني وكذلك الماشي والراكب وكذلك الفحل والخصيّ و بَغْضاء السُّوَق موصولةٌ )
بالملوك وكذلك المعتق عن دُبُر والموصَى له بالمال الرغيب وكذلك الوارث والموروث ولجميع هذا تفسيرٌ ولكنه يطول .


عداوات الحيوان وذكر صاحب المنطق عداوةَ الغرابِ للحمار والنَّحويون ينشدون في ذلك قولَ الشَّاعر : ( عاديتنَا لا زِلْتَ في تَبابِ ** عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرَابِ ) ولا أدري من أينَ وقعَ هذا إليهم .
وذكر أيضاً عداوة البُوم للغراب وكذلك عصفور الشَّوك للحمار وفي هذا كلامٌ كثيرٌ قد ذكرنا بعضه في أوَّل كتابنا هذا من الحيوان .
رجع إلى الأمثال في كليلة ودمنة ثم رجعنا إلى الإخبار عن الأمثال .
قال : وأكيس الأقوام مَن لا يلتمس الأمرِ بالقتال ما وجد عن القِتال مذْهباً فإن القتال إنما النفقة فيه من الأنفس

وسائر الأشياء إنما النَّفقة فيها من الأموال فلا يكوننَّ قتال البوم من رأيك فإنّ قال : فأجابه الجرذ فقال : إنّه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة وهي أشدُّ ضَرَراً من العداوة الظاهرة ومن لم يَحترسْ منها وقعَ موقِعَ الرَّجُلِ الذي يَركب نابَ الفيل المغْتَلِم ثمَّ يغلبُه النُّعاس .
قال : واعلم أَنَّ كثيراً من العَدوّ لا يستطاع بالشدَّة والمكابرة حتى يُصادَ بالرِّفق والملاينة كما يصاد الفيل الوحشيُّ بالفيل الأهليّ .
وقال : إنّ العُشب كما رأيتَ في اللِّينِ والضَّعف وقد يُجْمَعُ منه الكثيرُ فيصنع منه الحبلُ القويُّ الذي يوثق به الفيل المغتلم .
قال : وقالوا : نريد أحبَّ بَنيك إليك وأكرمهم عليك

ونريد كالَ الكاتبَ صاحبَ سرِّك والسيف الذي لا يوجد مثله والفيلَ الأبيضَ الذي لا تلحقه الخيلُ الذي هو مَركبكَ في القتال ونريد الفيلين العظيمين اللذين يكونان مع الفيل الذَّكَر .

الفيلة في الحروب

وقد سمعنا في هذا الحديثِ والإخبار عن أيام القادسيَّة ويوم جسر مِهْرَان وقُسِّ النَّاطف وجَلولاء ويوم نَهاونَد بالفيل الأبقع والفيل الأسود والفيل الأبيض والناس لم يَرَوْا بالعراق فِيلاً أوبَرَ ولا فيلاً أشْعَرَ .

الفيلة المستأنسة
والفيلة التي كانت مع الفرس حُكمُها حكمُ الفِيَلة التي كانت عند أمير المؤمنين المنصور وعند سائر الخلفاءِ من بَعدِه وكلها جُردٌ مُغَضّبة ولم نلْقَ أحداً رآها وحشيَّةً قبل أن تصير في القُرَى والمواضع التي يذكرها .
تبدل حال الحيوان إذا أخرج من موطنه وقد علمنا أنّ الطائر الصَّيود من الجوارح لو أقام في بلاده مائة عام لم يحدُثْ لمنسره زوائد وعَيْرَ العانة إذا أقام في غيرِ بلاده احتاجَ إلى الأخذ من حافره و إلى أن يُخْتَلَف به إلى البَيطار والطائر الوحشيّ من هذه المغنِّيات والنوائح لو أقام عندنا دهراً طويلاً لم يُصوِّتْ إذا أخذناه وقد كُرِّز وكذلك المزاوجة والتعشيش والتَّفريخ .

التكاثر بالفيلة

قال : وكلُّ مَلكٍ كان يصلُ إلى أن تكون عنده فِى َلة فإنّه كان لا يَدَعُ الاستكثار منها والتجمل بها والتَّهويل بمكانها عنده ولا يَدَعُ ركوبَها في الحروب وفي الأعياد وفي يوم الزِّينة .

الفيل في الشعر

وقد كانت عند حِمير والتبابعة والمقَاول والعباهلة من ملوكهم وأبي اليكسوم من ملوك الحبشة وعند ملوك سبأ مقرَّبة مكرَّمة يدلّ على ذلك الأشعارُ المعروفة والأخبار الصحيحة ألا ترى أن الأعشى ذكر مأرِب وملوك سَبأ وسَيلَ العرِم فقال :

( ففي ذاك للمؤتسي أُسْوَةٌ ** ومأرِبُ عَفَّى عليها العَرِمْ ) ( رخَامٌ بنَتْه له حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ ) ( فأروى الحروثَ وأعنابَها ** على ساعة ماؤهم قد قُسِمْ ) ( وطار الفُيُولُ وفَيَّالُها ** بتَيْهَاءَ فيها سَرابٌ يَطمّ ) وكان الأقيبِل القينيّ مع الحجاج يقاتل ابنَ الزُّبير فلما رأى البيتَ يُرْمَى بالمنجنيق أنشأ يقول : ( ولم أَرَ جَيْشاً غُرَّ بالحجِّ قبلنا ** ولم أرَ جيْشاً مِثْلَنَا كلُّهم خرسُ ) ( دَلَفْنَا لِبَيْتِ اللّهِ نَرْمِي سُتُورَه ** بأحجارِنَا نَهْبَ الولائد للعُرْسِ ) ( دَلَفْنَا لهمْ يَوْمَ الثلاثاءِ مِنْ مِنًى ** بجيش كصَدْرِ الفيلِ ليس له رأسُ ) فلما فزِعَ وعاذ بقبر مروان وكتبَ له عبدُ الملك كتابا إلى الحجَّاج يخبره فيه وفوَّض الأمرَ إليه قال :

( وقد علمتُ لو انَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُني ** أَنَّ انْطِلاَقِي إلى الحجَّاج تغريرُ ) ( مُستَحْقِباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابعُها ** وفي الصَّحائِفِ حَيَّاتٌ مَناكيرُ )

لسان الفيل

وكلُّ حيوانٍ في الأرض ذو لسانٍ فأصْلُ لسانِه إلى داخل وطرفه إلى خارج إلاّ الفيل فإنّ طَرَف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارج .
بعض خصائص الحيوان وتقول الهند : إنّ لسان الفيل مقلوب ولولا أنّه مقلوب ثمَّ لقن الكلامَ لتكلم .
وكلُّ سمكٍ يكون في الماء العذْب فإنّ له لساناً ودِماغاً إلاّ ما كان منها في الماء الملح فإنّه ليس لسمك البحر لسانٌ ولا دِماغ .
وكلُّ شيءٍ يأكل بالمضغ دون الابتلاع فإنّه إنما يحرِّك فكه الأسفلَ إلاّ التمساح فإنَّه إنّما يحرِّك فكّه الأعلى .
وكلُّ ذي عينٍ من ذوات الأربع من السِّباع والبهائم الوحشية والأهلية فإنما الأشفار لجفونها الأعالي إلاّ الإنسان فإنّ الأشفار للأعالي والأسافل .
وكلُّ حيوانٍ ذي صَدْرٍ فإنَّه ضيِّق الصَّدْر إلاّ الإنسانَ فإنّه واسعُ الصَّدْر

وليس لشيء من ذكورةِ جميع الحيوان وإناثها ثديٌ في صدره إلا الإنسان والفيل وقال ابن مُقبل :

ضخم الفيل وظرفه

والفيل أضخم الحيوان وهو مع ضِخَمه أملَحُ وأظْرَف وأحْكَى وهو يفوق في ذلك كلَّ خفيفِ الجسم رشيق الطبيعة .
وإنّما الحكاية من جميع الحيوان في الكلب والقِرد والدُّبّ والشّاة المكّيّة وليس عند البَبْغاء إلاّ حكايةُ صورِ الأصوات فصار مع غِلظه وضِخَمه وفخامته أرشقَ مَذهباً وأدقَّ ظرفاً وأظهَرَ طرَباً وهذا من أعجب العَجَب وما ظنُّكم بِعِظَم خَلْقٍ ربّما كان في نَابَيْهِ أكثر من ثلاثمائة مَنّ

أعظم الحيوان في قول المتعصبين على الفيل

فقال من يعارضهُم : قد أجمعوا على أنّ أعظمَ الحيوان خَلْقاً السمكةُ والسرَطان وحكَوْا عن عِظَم بعض الحيَّات حتى ألحقوه بهما وأكثروا في تعظيم شأن التّنّين فليس لكم أنْ تَدَّعُوا للفِيل ما ادّعيتم .

رد صاحب الفيل على خصمه

قال صاحبُ الهند والمعبِّرُ عن خصال الفيل : أمَّا الفيل وعلوّ سَمْكه وعِظم جُفْرته واتِّساع صَهْوَته وطولُ خُرطومه وسعَةُ أذنه وكِبر غُرموله مع خِفّة وطئه وطول عُمره وثقل حمله وقلة اكتراثهِ لِما وُضع على ظهره فقد عايَنَ ذلك من الجماعات مَن لا يستطيعُ الردَّ عليها إلاّ جاهلٌ أو مُعاند وأمَّا ما ادّعيتم من عِظَم الحيَّة وأنّا متى مسَحْنا طولَها وثخنها وأخذْنا وَزْنَها كانت أكثرَ من الفيل فإنّا لم نَسْمَعْ هذا إلا في أحاديث الرقّائين وأكاذيب الحوّائين وتزيُّد البحريِّين .
وأما التنِّين فإنّما سبيلُ الإيمان به سبيلُ الإيمان بِعَنْقَاءِ مُغْرِب وما رأيتُ مجلِساً قطُّ جَرَى فيه ذكر التنِّين إلاَّ وهم ينكرونه

ويكذِّبون المُخبِر عنه إلاّ أنا في الفَرْط ربَّما رأينا بعضَ الشاميِّين يزعمُ أنَّ التِّنِّين إعصارٌ فيه نار يخرج من قِبَل البحر في بعض الزَّمان فلا يمرُّ بشيءٍ إلاَّ أحرَقه فسمَّى ذلك ناسٌ التِّنّين ثمَّ جعَلوه في صورة حيّة .
وأما السَّرَطان فلم نرَ أحداً قط ذكرَ أنَّه عايَنَه فإنْ كنَّا إلى قول بعض البحريِّين نرجع فقد زَعَم هؤلاء أنَّهم ربما قَرُبوا إلى بعض جزائر البحر وفيها الغِياض والأَودية واللَّخَاقيق وأنَّهمْ في بعض ذلك أوقدُوا ناراً عظيمة فلما وصلَتْ إلى ظهر السرطان هَاجَ بهم وبكلِّ ما عليه من النَّبات حتَّى لم ينْجُ منهم إلا الشريد . )
وهذا الحديثُ قد طمَّ على الخرافات والتُّرَّهات وحديث الخَلْوَة .
وأمّا السَّمك فلعمري إنَّ السمكة التي يقال لها البالُ لفاحشةَ العظم وقد عاينوا ذلك عياناً وقتلوه يقيناً ولكن أحَسِبوا أَنَّ

الشَّأن في البال على ما ذكرتم فهل علمتم أن فيه من الحسِّ والمعرفة واللّقَن والحكاية والطَّرَبِ وحسن المَواتاة وشدَّة القتال والتمهُّد تحتَ الملوك وغير ذلك من الخصال كما وجدنا ذلك وأكثر منه في الفيل .
وهل رغبتْ في صيده الملوكُ واحتالت له التجار أو تمنَّى الظّفَرَ بأجزائه بعض الأطبَّاء وهل يَصلح لدواءٍ أو غذاءٍ أو لبْس إنّما غاية البحريِّين أنْ يسلَمُوا من عبثه إن هجموا عليه نائماً أو غافلاً حتّى ينفر ويفزع وينبّه بقَرْع العصا واصطكاك الخشب .
وإنما قَدَّمْنا خصالَ الفيل على خِصال الحيوان الذي في كفِّه ومنقاره الصنعةُ العجيبة أو يَكون فيه من طريف المعرفة وغريب الحس وثقوب البصر أَو بعض ما فيه من الجمال والحُسْن ومن التفاريج ومن التَّحاسين والوشي والتلاوين بالتأليف العجيب والتَّنضيد

الغريب أو بعض ما في حنجرته من الأصوات الملحَّنة والمخارج الموزونة والأغاني الدَّاخلة في الإيقاع الخارجة من سبيل الخطأ ممَّا يجمع الطَّرَب والشّجا ومما يفوق النوائح ويروق كلَّ مغنّ حتى يُضرب بحسن تخريجه وصفاء صوتِه وشجَا مخرَجه المثلُ حتى يشبَّه به صوتُ المزمار والوَتر .
وأما بعض ما يُعرف بالمكر والحِيَل والكَيْس والرَّوغان وبالفِطنة وبِالخديعة والرِّفق والتكسُّب والعلم بما يُعِيشُه والحذَرِ ممّا يُعْطِبُه وتأتِّيه لذلك وحِذقه به وأمّا بعضُ ما يكون في طريق الثِّقافة يوم الثِّقافة والبصر بالمشاولة والصَّبر على المطاولة والعزم والرَّوغان والكرِّ والجَوَلان ووضْع تلك التدابير في مواضعها حتى لا تردُّ له طعنة ولا تخطئ له وثْبة وأما بعضُ ما يُعرَف بالنَّظر في العاقبة وبإِحكام شأن المعيشة والأخذ لنفسه بالثقة وبالتقدُّم في حال المُهْلة والادِّخار ليوم الحاجة والأجناسُ التي تدَّخر لأنفسها ليوم العجْز عن

الطلب والتكسُّب فَمِثْلُ الذَّرَّة والنملة والجُرَذ والفأرة وكنحو العنكبوت والنَّحل .
فإذا كان ليس للفيل إلا عِظَمه وإن كان العِظَم قد يدخل في باب من أبواب المفاخرة فلا ينبغي لأحد أن يُنَاهِد به الأبدانَ التي لها الخصال الشّريفة ويناضلَ به ذواتِ المفاخر العظيمة فما ظنُّكَ ببدنٍ قد جمع مع العِظَم من الخصال الشريفة ما يُفنِي الطَّواميرَ الكثيرة ويستغرق الأَجلاد الواسعة وقد علمت أنَّ مِنْ جَهْلِ هذه السمكة بما يُعِيشُها ويُصْلِحُها أنَّها شديدةُ الطّلب والشَّهوة )
لأكل العَنبر والعنبرُ أقتَلُ للبال من الدِّفلَى للدوابّ فإذا أصابوه ميِّتاً استخرجوا من جَوفه عنبراً كثيراً فاسداً .
وما فيه من النفْع إلاّ أنّ دهنَه يصْلُح لتمرينِ سُفن البحريين .

تعصب غانم الهندي على الفيل

فسمِعنِي غانمٌ العبد يوماً وأنا أحكِي هذا الكلامَ وكان منْ أَمْوَق الناس وأرْقَعهم رَقاعةً مع تِيهِ شَدِيدٍ وعُجْب ورِضاً عن نفسه وسُخط على النَّاس فمِن حُمْقه أنه هنديٌّ وهو يتعصَّب على الفيل فقال لي : ما تقول الهند في الحوت الذي يحمل الأرض أليس أعمَّ نفعاً وأعْلَى أمراً قلت

له : يا هالكُ إنَّ مدارَ هذا الكلام إنما يقع على الأقسام الأربعة من بين جميع الحيوان المذكورة في الماء وفي الأرض وفي الهواء كالذي ينساح من أجناس الحيَّات والدِّيدان وكالذي يمشي من الدوابّ والنَّاس وكالذي يَطير مِن أحرار الطير وبغاثها وخَشاشها وهَمَجها وكالذي يعوم كالسَّمك وكلِّ ما يعايش السمك .
فأمَّا الحوت الذي تكون الأرض على ظهره فقد علمْنا أَنَّ في الملائكة مَن هو أعظمُ من هذا الحوت مراراً ولولا مكانُ مَن قد حَضَرَنا لكان ممن لا يستأهِلُ الجواب وهذا مقدارُ معرفته .

قوة الفيل

قالوا : والفيل أقوى مِن جميع الحيوان إنْ حُمِّل الأثْقال ومن قوة عظْمه وعصَبِه أنّه يمرُّ خلفَ القاعد مع عِظَم بَدَنه فلا يشعر بوطئه ولايُحسُّ بممَرِّه لاحتمال بعض بدَنه لبعض وهذه أعجوبةٌ أخرى .
وليس في حوامل إناث الحيوان أطولُ مدَّة حبَل من الفيل

والكركَدَّن فإنه مذكورٌ في هذا الباب والفيلُ يزيد عليه في قول بعضهم .
فأمَّا الهِنْدُ ففتنتُهم بالكركدَّن أشدُّ مِن فِتنتهم بالفيل .
فأما ما كان دون ذلك من أجناس الحيوان فأطولُها حملاً الحافر والخفّ ولا يزيدان على السّنَة إلا أن تُسحَب الأنثى وتُجرَّ أيَّاماً فأمَّا الظِّلف فعلى ضربين فما كان منها من البقر فإنّ مدَّة حَمْلها وحمل النساء تسعة أشهر وما كان من الغنم فإنّ حملها خمسةُ أشهر .
وقد ذكرنا حال أجناس الحيوان في ذلك فيما سلف من كتابنا هذا .

صولة الفيل

قالوا : والفيلة هَوْلُها في العين فاحْذَر أنْ تتخذ ظهورها كالمناظر والمسالح والأرصاد .
وللفيل قتالٌ وضرب بخرطومه وخَبْطٌ بقوائمه وكانت الأكاسرة ربما قتلت الرَّجلَ بوَطْءِ الفيلة وكانت قد درّبت على ذلك وعُلِّمَتْه فإذا أَلقوا إليها الرّجل تركت العلَف وقصدَتْ نحوه فداسَتْه ولذلك أنشد

العباس بن يعقوب العامريّ لناهِض بن ثومة العامري قوله : ( أنا الشَّاعرُ الخطَّارُ مِن دون عامرٍ ** وذو الضَّغْم إذْ بعضُ المحامِين ناهشُ ) وأنشد الأصمعي وأبو عمرو لتميم بن مقبل : ( بني عامرٍ ما تأمُرُون بشاعر ** تَخَيَّرَ آياتِ الكتاب هِجائيا ) ( أأعفُو كما يعفُو الكريمُ فإنّني ** أرَى الشَّعب فيما بينَنا متدانِيا ) ( أمَ اخْبِطُ خبْطَ الفيل هامةَ رَأسِه ** بِجَرْدٍ فلا أُبقي مِن الرأس باقيا ) بعض من رمي تحت أرجل الفيلة وكانت الأكاسرة وهي الكُسُور تؤدِّبها وتعوِّدها وطْءَ الناس وخَبْطهم إذا أُلقِيَ تحت قوائمها بعض أهلِ الجنايات فكان ممنْ رُمِيَ

به تحتَ أرجل الفِيَلة النُّعمان بن المنذر وقال في ذلك الشاعر : ) ( إنّ ذا التّاجِ لا أبا لَكَ أضْحَى ** وَذرَى بَيْتِهِ بِجَوْزِ الفُيُولِ ) ( إِنّ كِسْرَى عَدَا على الملك النُّعْ ** مَانِ حَتَّى سقاه أمَّ البَليلِ ) كتاب ملك الصين وذكر الهيثم بن عديٍّ عن أبي يعقوب الثَّقفيّ عن عبد الملك بن عمير قال : رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً مِنْ ملك الصين فيه : من ملك الصِّين الذي على مَرْبِطه ألفُ فيل وبُنيت دارُه بلبِن الذهب والفضة والذي تخدمه بناتُ ألفِ ملكٍ والذي له نهرانِ يسقيان الألُوّة إلى قالوا : ولمَّا أراد كِسرى قتلَ زيوشت المغنِّي لقتله فهلبذ المغني وأمر أن يرمى به تحت الفيلة وقال : قتلتَ أحسنَ النّاس غِنَاءً وأجودَهم إمتاعاً للملِك حسداً له فلمّا سحبوه نحوالفيلة التفت إلى كسرى وقال : إذا قتلتُ زيوشت المُغني وقد قتل زيوشت فهلبذ فمن يُطربك فقال كسرى : المدة التي بقيت لك هي التي أنطقَتْكَ خلُّوا سبيله .

تأديب الهند الفيلة

وقال صفوان بن صفوان الأنصاريّ وكان عند داود بن يزيد بالمولتان : الهند تؤدّب الفيلة بأنواع من التّأديب وبضروب من التقويم فمنها آدابُ الحروب حتى ربَّما رَبَطُوا السَّيف الهُذَام الرَّغيب الشَّديد المتن الحديد الغَرْب التّام الطول الطَّويل السِّيلان في طرَف خُرطوم الفيل وعلموه كيف يضرب به قُدُماً يميناً وشمالاً وكيف يرفعُه بخرطومه حتى يكونَ فوقَ رؤوس الفَيَّالين القعودِ على ظهره .

شعر هارون في الفيل

قال : وأنشدني هارون بن فلان المولى مولى الأزد قصيدته التي ذكر فيها خروجَه في الحرب إلى فيلٍ في هذه الصفة فمشَى إليه فلما كان حيثُ ينالُه السَّيفُ وثَبَ وَثْبَةً أعجَلَه بها عن الضَّربة ولصق بصدْر الفيل وتعلّق بأُصول نابَيه وهما عندهم قرناه فجال به الفيلُ

جوْلة كاد يحطِمُه مِن شدَّة ما جال به وكان رجلاً شدِيد الخَلْق رابط الجأش قال : فاعتمدتُ وأنا في تلك الحال وأصولُ الأنياب جُوف فانقلعا من أصلِهما وأدبَرَ الفيلُ وصار القرنان في يَدَيَّ وكانت الهزيمة وغَنِم المسلمون غنائمَ كثيرة وقلت في ذلك : ( مشيتُ إليه وادعاً متمهِّلا ** وقد وصَلُوا خُرطومَه بحُسَامِ ) ( فقلتُ لِنفسي : إنّه الفيلُ ضاربٌ ** بأبيضَ مِن ماءِ الحديد هُذَامِ ) ( فإنْ تَنْكلي عنْه فعذْرُكِ واضحٌ ** لَدَى كلِّ منخُوب الفُؤَادِ عَبامِ ) ( وعندَ شُجاع القومِ أكلفُ فاحمٌ ** كظُلمة لَيْلٍ جُلِّلت بقَتامِ ) ( ولما رأيتُ السيفَ في رأسِ هضبةٍ ** كما لاحَ برقٌ من خلالِ غمامِ ) ( فناهَشْتُه حَتى لَصِقتُ بصدْره ** فلما هوى لازَمْتُ أيَّ لِزامِ ) ( وَعذْتُ بِقَرْنَيْهِ أُرِيدُ لَبَانَهُ ** وذلك مِن عاداتِ كلِّ محامِي ) ( فجَال وهِجِّيراهُ صوتُ مُخَضْرَمٍ ** وَأُبْتُ بقرْنَيْ يَذبُلٍ وشَمامِ ) وقال هارون : ( ولمَّا أتاني أنّهُم يَعقِدُونه ** بقائمِ سَيفٍ فاضِل الطُّول والعَرضِ )

( وحين رأيتُ السَّيفَ يَهْتَزُّ قائِماً ** ويَلمَعُ لَمْعَ الصُّبْح بالبَلَدِ المفْضِي ) ( وصارَ كمِخراقٍ بِكَفِّ حَزَوَّرٍ ** يُصَرِّفه في الرَّفْع طوراً وفي الخَفْضِِ ) ( فأقبلَ يَفْري كلَّ شيءٍ سَما لَهُ ** وصرتُ كأَنِّي فَوقَ مَزْلقَةٍ دَحْضِ ) ( وأهوي لجارِي فاغتنمْتُ ذُهولهُ ** فلاذَ بقرنيه أخو ثقةٍ محضِ ) ( فجال وجَالَ القَرْن في كفِّ ماجدٍ ** كثيرِ مِراسِ الحرب مجتنبِ الخفْضِ ) ( فطاحَ وَوَلّى هارباً لا يَهيده ** رطانةُ هِنديٍّ برفعٍ ولا خفضِ )

نابا الفيل

والهندُ تزعمُ أنّ نابَي الفِيل يخرجان مستبطِنين حتى يخرِقا الحنك ويخرجا أعقَفين وإنما يجعَلهما نابين مَن لا يفهمُ الأمور قالوا : والدَّليل على ذلك أنّ لهما أصلين في موضع مخارج القرون يُوجَد ذلك عند سَلْخ جلده ولأنّ القرن لا يكون إلاّ مصْمت الأعلى مجوَّف الأسفل وكذلك صفةُ هذا الذي يسمِّيه مَن لا علم له ناباً ومع ذلك إنّا لا نجد الفيل يعضّ كعضِّ الأسد للأكل ولا كعضِّ الجمل الصَّؤُول

للقتل ولا كعضِّ الأفعى لإخراج السمّ ولا تراه يصنع به ويستعمله إلاّ على شبيهٍ بما تستعمله ذوات القرن عند القِتال والغضب .
فقال لهم بعضُ من يردُّ عليهم : أمَّا قولكم إنّ القرنَ لا يكون إلاّ مجوَّفَ الأصل فهذا قرنُ الأيِّل مُصمَت من أوَّله إلى آخره وهو ينصل في كلِّ سنة فإذا نبتَ حديثاً لم يظهَرْ حتى يستحكِم في يُبسه وصَلابته وإذا علم أنه قد بلغ ذلك ظهَرَ وأكثرُ القُرُونِ الجُوفِ يكون في أجوافها قرونٌ وليس ذلك لقرن الفِيل .
قالوا : ولم نجد هذا القرنَ في لون القُرون ووجدناه بسائر أسنانه وأضراسه أشبهَ للبياض واليبس وليس كذلك صفةُ القرون .
وتقول الهند : فم الأيِّل صغير وهو أفقَم ولا يجوز أن يكون مثلُ ذلك اللَّحي والفكِّ ينبُتُ فيه ومنه نابان يكون فيهما ثلاثمائة مَنّ وقد رأيتُ قروناً كثيرة الأجناس بِيضاً وبُرْشاً وصُهْباً وهذه أيضاً من أعاجيب الفيل .
وقرن الكركَدَّن أغلظُ من مقدار ذراع وليس طولُه على قدر غِلَظه وهو أصلب وأكرم مِن قرني الفيل .


أعضاء التناسل لدى الحيوان ويقال : إنّ أكبر أُيور الحيوان أيْر الفيل وأصغَرَها قضيبُ الظبي وقضيب البطّ لا يذكر مع هذه الأشكال وليس شيءٌ على قَدْره ومقدار جسمه أعظمُ أيراً من البغل .
وقد علمنا أنّ للضب أيرَين وكذلك الحِرذَون والسَّقَنْقُور وعرفنا مقدارَ ذلك ولكنَّه لا يدخل في هذا الباب لضَعفٍ لا يخفَى .

خرطوم الفيل

ولو لم يكن من أعاجيب الفيل إلاّ خرطومُه الذي هو أنفه وهو يدُه وبه يوصِل الطعامَ والشَّرَابَ إلى جوفه وهو شيءٌ بَيْنَ الغُضروف واللحم والعصبِ وبه يقاتِل ويضرِب ومنه يصيح وليس صياحُه في مقدارِ جرْم بدنه ويضرِبُ به الأرضَ ويرفعِه في السَّماء ويصرِّفه كيف شاء وهو مَقتلٌ من مقاتله والهند تربِط في طرَفه سيفاً شديدَ المتْن فيقاتِلُ به مع ما في ذلك من التهويل على من عايَنه .

سباحة الفيل والجاموس والبعير

وهو مع عِظم بدَنه جيِّد السِّباحة إلاّ أنه يخرج خرطومه ويرفعُه في الهواء صُعُداً لأنّه أنفه ألا ترى أنّ الجاموسَ يغيب جميعُ بدنِه في الماء إلاّ منخريه .
والبعير قبيح السِّباحة : لأنه لا يسبح إلاَّ على جنبه فهو في ذلك بطيءٌ ثقيل والبعير مما يُخايَر بينه وبين الفيل فلذلك ذكرناه .
وقد علمنا أنَّ الإنسان يغرق في الماءِ ما لم يتعلَّم السِّباحة فأمّا الفَرس الأعسرُ والقِرد فإنَّهما يغرقان البتَّة والعقرب تقُومُ وسطَ الماءِ لا طافيةً ولا لازقة بالأرض .
أشراف السباع وساداتها وأشراف السِّباع وساداتها وكبارها ورؤساؤها ثلاثة : الكَرْكدَّن والفِيل والجاموس قال : ولعلَّ بعضَ مَن اعتاد الاعتراض على الكتب

يقول : وأينَ الخيل والإبل وفيها من خصال الشَّرَف والمنافع والغَناء في السَّفر والحَضَر وفي الحرْب والسّلم وفي الزِّينة والبهاء وفي العُدَّة والعتاد ما ليس عند الكركدَّنِ ولا عندَ الفيل ولا عند الجاموس .
قال القوم : ليس إلى هذا الباب ذَهبْنا ولا إليه قصدنَا ولا ذلك البابُ ممَّا يجوز أَن نُدخله في هذا الباب ولكنَّا ذَهبْنا إلى المحاماة والدَّفع عن الأنفس والقتال دون الأولاد وإلى الامتناع من الأضداد بالحيلة اللطيفة وبالبطش الشديد وليس عند الخيل والإبل إذا صافت الأُسد والنُّمور والبُبُور ما عند الجاموس والفِيل فأمّا الكركَدَّن فإن كلَّ شيء من الحيوان يقصِّر عن غايته التقصيرَ الفاحش .
إنكار الكركدن والعنقاء وما أكثر مَن ينكر أن يكون في الدنيا حيوانٌ يسمّى الكَرْكدَّن ويزعمون أنَّ هذا وعَنْقاءَ مُغْرِِبٍ )
سواء وإنْ كانوا يرون صُورة العَنقاء مصوَّرَةً في بُسُط الملوك واسمها عندهم بالفارسيَّة سِيمَرْكْ كأنه قال : هو وحدَه ثلاثون طائراً لأنَّ قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون

بالعربية ومرغ بالفارسيَّة هو الطائر بالعربية والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت : حلّقت به في الجوِّ عنقاءُ مغرب وفي بعض الحديث : أنّ بعضَ الأمم سألوا نبيَّهم وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا أو تلقي في فم العنقاء اللِّجام وتردَّ اليومَ أمسِ .
شعر في العنقاء قال أبو السّريّ الشُّميطي وهو مَعْدان المكفوف المديبريّ : ( يا سَمِيّ النبيِّ والصادقَ الوَع ** دِ وَجَدَّ الصبيِّ ذي الخَلخالِ ) ( صاحب التُّومة التي لم يشِنْها ** بعد حَرْسٍ مَثاقبُ اللآلِ ) ( مَهَدتْه العنقاءُ وهي عقيمٌ ** رُبَّ مهدٍ يكون فوقَ الهلالِ )

( يومَ تُصِغي له النَّعامة والأحْنا ** شُ طُرّاً لِشدّة الزَّلزالِ ) فأهل هذه النِّحلةُ يثبتون العنقاءَ ويزعمون أنها عقيم .
وقال زُرارة بن أعْيَن مولى بني أسعد بن همام وهو رئيس الشميطيَّة وذكر هذا الصبي الذي تكفُله العنقاء فقال : ( ولكنّه ساعَى بأمٍّ وجَدّةٍ ** وقال سَيكفِيني الشقيقُ المقرّبُ ) ( وآخِرُ برهاناتِه قلبُ يومكم ** وإلجامُه العنقاءَ في العين أعجبُ ) ( يَصِيفُ بسَاباطٍ ويشتُو بآمِد ** وذلك سرٌّ لو علمناه معجب ) ( أماعَ له الكِبريتَ والبحرُ جامدٌ ** ومَلَّكَه الأبراجَ والشَّمْسُ تُجْنَبُ ) ( فيومئذٍ قامت شماط بقدرها ** وقام عسِيب القفر يُثْني وَيخْطُبُ ) ( وقام صبيٌّ دَرْدَقٌ في قِماطِهِ ** عليهم بأصناف اللِّسَانَيْنِ مُعْربُ ) ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...